تفسير سورة المجادلة

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مدنية، في قول الجميع الرواية عن عطاء إلا العشر الأول منها مدني وباقيها مكي، وقال الكلبي : نزل جميعها بالمدينة غير قوله تعالى :﴿ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ﴾ نزلت بمكة وهي اثنتان وعشرون آية وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة وألف وسبعمائة واثنان وسبعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي تمت قدرته وكملت جميع صفاته ﴿ الرحمن ﴾ الذي شمل الخلائق جوداً بالإيجاد وإرسال الهداة ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أصفياءه فتمت عليهم نعمة مرضاته.
ونزل في خولة بنت ثعلبة وكانت تحت أوس بن الصامت وكان قد ظاهر منها.

﴿ قد سمع الله ﴾ أي : أجاب بعظيم فضله الذي أحاط بجميع صفات الكمال فوسع سمعه الأصوات ﴿ قول التي تجادلك ﴾ أي : تراجعك أيها النبيّ ﴿ في زوجها ﴾ المظاهر منها روي «أنّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مرّ بها في خلافته وهو على حمار والناس معه، فاستوقفته طويلاً ووعظته وقالت : يا عمر قد كنت تدعى عميراً ثم قيل لك : عمر ثم قيل لك : أمير المؤمنين فاتق الله يا عمر فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت ومن أيقن بالحساب خاف العذاب وهو واقف يسمع كلامها فقيل له : يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الموقف فقال : والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة أتدرون من هذه العجوز هي : خولة بنت ثعلبة سمع الله تعالى قولها من فوق سبع سموات أيسمع ربّ العالمين قولها ولا يسمعه عمر » وعن عائشة :«تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول : يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهمّ إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل بهذه الآية ﴿ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ﴾ الآية. وروي «أنها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها، قال عروة : وكان امرأ به لمم فأصابه بعض لممه فقال لها : أنت عليّ كظهر أمي وكان الإيلاء والظهار من الطلاق في الجاهلية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّ أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب فيّ فلما علا سني ونثرت بطني أي : كثر ولدي جعلني عليه كأمّه فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم حرمت عليه فقالت : والله ما ذكر طلاقاً وإنه أبو ولدي وأحب الناس إليّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت عليه فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي فقد طالت صحبتي ونفضت له بطني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما آراك إلا حرمت عليه أو أومر في شأنك بشيء فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت عليه، هتفت وقالت : أشكو إلى الله فاقتي وشدّة حالي وأنّ لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليّ جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهمّ أني أشكو إليك، فأنزل على لسان نبيك وكان هذا أوّل ظهار في الإسلام، فأنزل الله تعالى :﴿ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ﴾ الآية فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زوجها وقال : ما حملك على ما صنعت قال : الشيطان فهل من رخصة ؟ فقال : نعم وقرأ عليه الأربع آيات فقال له هل تستطيع العتق فقال لا والله فقال هل تستطيع الصوم ؟ فقال لا والله إني إن أخطأني أن آكل في اليوم مرّة أو مرتين لكل بصري ولظننت أني أموت قال : فأطعم ستين مسكيناً، قال : ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعاً، وأخرج أوس من عنده مثله فتصدق به على ستين مسكيناً ».
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لها : مريه أن يعتق رقبة فقالت : أيّ رقبة والله لا يجد رقبة وما له خادم غيري، فقال : مريه أن يصوم شهرين، فقالت : والله ما يقدر على ذلك إنه يشرب في اليوم كذا كذا مرّة، فقال : مريه فليطعم ستين مسكيناً، فقالت : أنّى له ذلك » ﴿ وتشتكي ﴾ أي : تتعمد بتلك المجادلة الشكوى منتهية ﴿ إلى الله ﴾ أي : سؤال الملك الأعظم الرحمة الذي أحاط بكل شيء علماً.
فإن قيل : ما معنى قد في قوله تعالى :﴿ قد سمع ﴾ أجيب : بأنّ معناها التوقع لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله تعالى مجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرّج عنها لصدقها في شكواها وقطع رجائها في كشف ما بها من غير الله إنّ الله تعالى يكشف كربتها ﴿ والله ﴾ أي : والحال أنّ الذي وسعت رحمته كلّ شيء، لأنّ له الأمر كله ﴿ يسمع تحاوركما ﴾ أي : تراجعكما الكلام وهو على تغليب الخطاب ﴿ إن الله ﴾ أي : الذي أحاط بجميع صفات الكمال ﴿ سميع ﴾ أي : بالغ السمع لكل مسموع ﴿ بصير ﴾ أي : بالغ البصر لكل ما يبصر فهما صفتان كالعلم والقدرة والحياة والإرادة وهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه متصفاً بهما.
ولما أتم تعالى الخبر عن إحاطة العلم استأنف الإخبار عن حكم الأمر المجادل بسببه فقال تعالى :﴿ الذين يظهرون ﴾ أي : يوجدون الظهار في أي زمان كان وقوله تعالى :﴿ منكم ﴾ أي : أيها العرب المسلمون توبيخ لهم وتهجين لعادتهم لأنّ الظهار كان خاصاً بالعرب دون سائر الأمم فنبه تعالى على أنّ اللائق بهم أن يكونوا أبعد الناس عن هذا الكلام لأنّ الكذب لم يزل مستهجناً عندهم في الجاهلية ثم زاده الإسلام استهجاناً ﴿ من نسائهم ﴾ أي : يحرمون نساءهم على أنفسهم تحريم الله تعالى عليهم ظهور أمّهاتهم.
والظهار لغة : مأخوذ من الظهر لأنّ صورته الأصلية أن يقول لزوجته : أنت عليّ كظهر أمي، وخصوا الظهر دون البطن والفخذ وغيرهما لأنه موضع الركوب والمرأة مركوب الزوج.
وقيل : من العلو قال تعالى :﴿ فما اسطاعوا أن يظهروه ﴾ [ الكهف : ٩٧ ] أي : أن يعلوه وكان طلاقاً في الجاهلية، وقيل : في أوّل الإسلام ويقال : كان في الجاهلية إذا كره أحدهم امرأته أنه ولم يرد أن تتزوج بغيره آلى منها أو ظاهر فتبقى لا ذات زوج ولا خلية تنكح غيره ؛ فغير الشارع حكمه إلى تحريمها بعد العود ولزوم الكفارة كما سيأتي.
وحقيقته الشرعية : تشبيه الزوجة غير البائن بأنثى لم تكن حلاله وسمى هذا المعنى ظهاراً لتشبيه الزوجة بظهر الأم، وله أركان أربعة : مظاهر ومظاهره منها وصيغة ومشبه به وشرط في المظاهر كونه زوجاً يصح طلاقه، وشرط في المشبه به كونه كلّ أنثى محرم أو جزء أنثى محرم لم تكن حلاله كابنته وأخته، وشرط في الصيغة لفظ يشعر بالظهار صريح كأنتِ أو رأسك أو بدنك كظهر أمي أو كجسمها أو بدنها أو كناية كانت أمي أو كعينها أو غيرها مما يذكر للكرامة كرأسها أو روحها ويصح تأقيته وتعليقه، وأصل يظهرون يتظهرون أدغمت التاء في الظاء وقرأ ﴿ الذين يظاهرون ﴾ و﴿ الذي يظاهرون ﴾ عاصم بضم الياء وتخفيف الظاء وبعدها ألف وتخفيف الهاء مكسورة، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح الياء وتشديد الظاء وتخفيف الهاء مع فتحها وبين الظاء والهاء ألف، والباقون بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء ولا ألف بينهما ﴿ ما هنّ ﴾ أي : نساؤهم ﴿ أمهاتهم ﴾ أي : على الحقيقة ﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ أمهاتهم ﴾ أي : حقيقة ﴿ إلا اللائي ولدنهم ﴾ ونساؤهم لم يلدنهم فلا يحرمن عليهم حرمة مؤبدة للإكرام والاحترام، ولا هنّ ممن ألحق بالأمهات بوجه يصح كأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم فإنهنّ أمّهات لما لهنّ من حق الإكرام والاحترام والإعظام ؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أعظم في أبوة الدين من أبي النسب، وكذا المرضعات، لما لهنّ من حق الرضاع الذي هو وظيفة الأمّ بالأصالة. وأمّا الزوجة فمباينة لجميع ذلك.
وقرأ قالون وقنبل : بالهمزة المكسورة ولا ياء بعدها، وقرأ ورش والبزي وأبو عمرو بتسهيل الهمزة مع المدّ والقصر وللبزي وأبو عمر وأيضاً موضع الهمزة ياء ساكنة مع المدّ والباقون بهمزة مكسورة وبعدها ياء وهم على مراتبهم في المدّ ﴿ وإنهم ﴾ أي : المظاهرون ﴿ ليقولون ﴾ أي : في هذا التظهر على كلّ حالة ﴿ منكراً من القول ﴾ إذ الشرع أنكره وهو حرام اتفاقاً كما نقل عن الرافعي في باب الشهادات ﴿ وزوراً ﴾ أي : قولاً مائلاً عن السداد منحرفاً عن القصد، لأنّ الزوجة معدّة للاستمتاع الذي هو في الغاية من الامتهان والأمّ في غاية البعد عن ذلك.
فإن قيل : المظاهر إنما قال : أنت عليّ كظهر أمي فشبه بأمه ولم يقل أنها أمّه فما معنى أنه منكر من القول وزور والزور الكذب وهذا ليس بكذب.
أجيب : بأنّ قوله هذا إن كان خبراً فهو كذب وإن كان إنشاء فهو كذلك لأنه جعله سبباً للتحريم والشرع لم يجعله سبباً لذلك، وأيضاً فإنما وصف بذلك لأنّ الأم مؤبدة التحريم والزوجة لا يتأبد تحريمها بالظهار فهو زور محض.
فإن قيل : قوله تعالى :﴿ إلا اللائي ولدنهم ﴾ يقتضي أن لا أمّ إلا الوالدة وهذا مشكل بقوله تعالى :﴿ وأمّهاتكم اللاتي أرضعنكم ﴾ [ النساء : ٢٣ ] وقوله تعالى :﴿ وأزواجه أمّهاتهم ﴾ [ الأحزاب : ٦ ].
أجيب : بأنّ الشارع ألحقهنّ بالوالدات لما مر ﴿ وإن الله ﴾ أي : الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه في شرع ولا غيره ﴿ لعفوّ ﴾ أي : من صفاته أن يترك عقاب من شاء ﴿ غفور ﴾ أي : من صفاته أن يمحو عين الذنب وأثره.
ثم بين أحكام الظهار بقوله تعالى :﴿ والذين يظهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا ﴾ والعود في ظهار غير مؤقت من غير رجعية أن يمسكها بعد ظهاره مع علمه بوجود الصفة في المعلق زمن إمكان فرقة ولم يفارق، لأن العود للقول مخالفته، يقال : قال فلان قولاً ثم عاد له وعاد فيه أي : خالفه ونقضه، وهو قريب من قولهم عاد في هبته، ومقصود الظهار وصف المرأة بالتحريم وإمساكها يخالفه، فلو اتصل بظهاره جنونه أو إغماؤه أو فرقة بموت أو فسخ من أحدهما بمقتضية كعيب بأحدهما أو بطلاق بائن أو رجعي ولم يراجع فلا عود، والعود في ظهار غير مؤقت من رجعية سواء أطلقها عقب الظهار أم قبله أن يراجع.
ولو ارتد متصلاً بالظهار بعد الدخول ثم أسلم في العدّة فلا عود بالإسلام بل بعده، والفرق أنّ الرجعة إمساك في ذلك النكاح والإسلام بعد الردّة تبديل للدّين الباطل بالحق والحّل تابع له فلا يحصل به إمساك وإنما يحصل بعده فالعود في ظهار مؤقت يحصل بتغييب حشفة أو قدرها من فاقدها في المدّة ويجب في العود به وإن حلّ نزع لما غيبه، كما لو قال : إن وطأتك فأنت طالق لحرمة الوطء قبل التكفير كما سيأتي وانقضاء المدة واستمرار الوطء وطء، ولما كان المبتدأ الموصول يتضمن معنى الشرط أدخل الفاء في خبره ليفيد السببية فيتكرّر الوجوب بتكرير سببه فقال عز من قائل :﴿ فتحرير ﴾ أي : فعليهم بسبب هذا الظهار والعود تحرير ﴿ رقبة ﴾ مؤمنة فلا تجزئ كافرة قال تعالى في كفارة القتل :﴿ فتحرير رقبة مؤمنة ﴾ [ النساء : ٩٢ ] وألحق بها غيرها قياساً عليها بجامع حرمة سببيهما من القتل والظهار أو حملاً للمطلق على المقيد كما في حمل المطلق في قوله تعالى :﴿ واستشهدوا شهيدين من رجالكم ﴾ [ البقرة : ٢٨٢ ] على المقيد في قوله تعالى :﴿ وأشهدوا ذوي عدل منكم ﴾ [ الطلاق : ٢ ] بلا عوض ولا بعيب يخل بعمل فيجزئ صغير ولو ابن يوم وأقرع وأعرج يمكنه تباع مشي بأن يكون عرجه غير شديد وأعور لم يضعف عوره بصر عينه السليمة ضعفاً يخل بالعمل وأصم وأخرس يفهم الإشارة وتفهم عنه وأخشم وفاقد أنفه وأذنيه وأصابع رجليه لا فاقد رجل أو خنصر وبنصر من يد أو أنملتين من كلّ منهما أو فاقد أنملتين من أصبع غيرهما أو فاقد أنملة إبهام لا خلال كل من الصفات المذكورة بالعمل.
ولا يجزئ مريض لا يرجى برؤه ولم يبرأ كيد شلاء وهرم بخلاف من يرجى برؤه ومن لا يرجى برؤه إذا برئ، ولا مجنون إفاقته أقلّ من جنونه تغليباً للأكثر، ويجزئ معلق عتقه بصفة بأن ينجز عتقه بنية الكفارة أو معلقه كذلك بصفة أخرى وتوجد قبل الأولى، ويجزئ نصفا رقبتين أعتقهما عن كفارة باقيهما أو في أحدهما كما استظهره بعضهم، ويجزئ إعتاق رقبتيه عن كفارتيه لأجعل العتق المعلق كفارة عند وجود الصفة ولا مستحق عتق كأم ولد وصحيح كتابة ﴿ من قبل أنّ يتماسا ﴾ أي : يتجدّد بينهما مس روى أبو داود وغيره «أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل ظاهر من امرأته وواقعها : لا تقربها حتى تكفّر ». وكالتكفير مضى مدة المؤقت لانتهائه بها وحمل التماس هنا لشبه الظهار بالحيض على التمتع بما بين السرّة والركبة ومن حمله على الوطء ألحق به التمتع بغيره فيما بينهما، ولو ظاهر من أربع بكلمة كأنتن كظهر أمي فإن أمسكهنّ فأربع كفارات لوجود سببها أو ظاهر منهنّ بأربع كلمات ولو متوالية فعائد من غير أخيرة، ولو كرر في امرأة متصلاً تعدد الظهار إن قصد استئنافاً، ويصير المظاهر بالاستئناف عائداً ﴿ ذلكم ﴾ أي : ذلك الحكم بالكفارة ﴿ توعظون به ﴾ أي : أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار ولا تعاودوه ﴿ والله ﴾ أي : الذي له الإحاطة بالكمال ﴿ بما تعملون ﴾ أي : تجدّدون فعله ﴿ خبير ﴾ أي : عالم بظاهره وباطنه فهو عالم بما يكفره فافعلوا بما أمر به وقفوا عند حدوده، وإنما يلزم الإعتاق عن الكفارة من ملك رقيقاً أو ثمنه فاضلاً عن كفاية ممونة من نفسه وغيره.
قال الرافعي : وسكتوا عن تقدير مدة ذلك ويجوز أن تقدر بالعمر الغالب وأن تقدّر بسنة ا. ه. والذي عليه الجمهور هو : الأوّل ولا يلزمه بيع عقار ورأس تجارة وماشية لا يفضل دخلها عن غلة العقار وربح مال التجارة وفوائد الماشية من نتاج وغيره عن كفاية ممونة ولا بيع مسكن ورقيق نفيسين ألفهما ولا يلزمه شراء بغبن.
﴿ فمن لم يجد ﴾ أي : الرقبة بأن عجز المكفر عن الإعتاق حساً أو شرعاً وقت أداء الكفارة ﴿ فصيام ﴾ أي : فعليه صيام ﴿ شهرين متتابعين ﴾ عن كفارته فالرقيق لا يكفر إلا بالصوم لأنه معسر لا يملك شيئاً وليس لسيده منعه من الصوم إن ضره، وإنما اعتبر العجز وقت الأداء لا وقت الوجوب قياساً على سائر العبادات.
ولو ابتدأ الصوم ثم وجد الرقبة لم يلزمه الانتقال عنه، لأنه أمر به حيث دخل فيه، وقال أبو حنيفة : يعتق قياساً على الصغيرة المعتدة بالشهور إذا رأت الدم قبل انقضاء عدّتها فإنها تستأنف الحيض إجماعاً ويكفيه نية صوم الكفارة، وإن لم ينو الولاء، فإن انكسر الشهر الأول أتمه من الثالث ثلاثين لتعذر الرجوع فيه إلى الهلال.
وينقطع التتابع بفوات يوم ولو بعذر كمرض أو سفر فيجب الاستئناف ولو كان الفائت اليوم الأخير أو اليوم الذي نسيت النية له بخلاف ما إذا فات بجنون أو إغماء مستغرق لمنافاة ذلك الصوم ﴿ من قبل أن يتماسا ﴾ كما مرّ في العتق، فإن جامع ليلاً عصى ولم ينقطع التتابع لأنه ليس محلاً للصوم بخلافه نهاراً وقال أبو حنيفة ومالك : يبطل بكلّ حال ويجب عليه ابتداء الكفارة لقوله تعالى :﴿ من قبل أن يتماسا ﴾.
﴿ فمن لم يستطع ﴾ بأن عجز عن صوم أو لا لمرض يدوم شهرين بالظنّ المستفاد من العادة في مثله أو من قول الأطباء أو لمشقة شديدة تلحقه بالصوم أو بولائه ولو كانت المشقة لشدّة شهوة الوطء أو خوف زيادة مرض ﴿ فإطعام ﴾ أي : فعليه إطعام ﴿ ستين مسكيناً ﴾ أي : من قبل أن يتماسا حملاً للمطلق على المقيد بأن يملك كل مسكين من أهل الزكاة مدّاً من جنس الفطرة كبر وشعير وأقط ولبن فلا يجزئ لحم ودقيق وسويق، وخرج بأهل زكاة غيره فلا يجزئ دفعها لكافر ولا لهاشميّ ومطلبيّ ولا لمواليهما ولا لمن تلزمه مؤنته ولا لرقيق، لأنها حق الله تعالى فاعتبر فيها صفات الكمال.
﴿ ذلك ﴾ أي : الترخيص العظيم لكم والرفق بكم والبيان الشافي من أمر الله الذي هو موافق للحنيفية السمحة ملة أبيكم إبراهيم عليه السلام ﴿ لتؤمنوا ﴾ أي : ليتحقق إيمانكم ﴿ بالله ﴾ أي : الملك الذي لا أمر لأحد معه فتطيعوا بالانسلاخ عن أمر الجاهلية ﴿ ورسوله ﴾ أي : الذي تعظيمه من تعظيمه.
ولما رغب في هذا الحكم رهب في التهاون به بقوله تعالى :﴿ وتلك ﴾ أي : هذه الأحكام العظيمة المذكورة ﴿ حدود الله ﴾ أي : أوامر الملك الأعظم ونواهيه التي يجب امتثالها والتعبد بها لترعى حق رعايتها فالتزموها وقفوا عندها ولا تعدوها، فإنه لا يطاق انتقامه إذا تعدّى نقضه وإبرامه ﴿ وللكافرين ﴾ أي : العريقين في الكفر بها أو بشيء من شرائعه ﴿ عذاب أليم ﴾ أي : بما آلموا المؤمنين به من الاعتداء فإن عجز عن جميع خصال الكفارة لم تسقط الكفارة عنه بل هي باقية في ذمته إلى أن يقدر على شيء منها، فإذا قدر عل خصلة من خصالها فعلها، ولا يتبعض العتق ولا الصوم بخلاف الإطعام حتى لو وجد بعض مدّ أخرجه، لأنه لا بدل له وبقي الباقي في ذمته.
قال الزمخشري : فإن قلت فإذا امتنع المظاهر من الكفارة هل للمرأة أن تدافعه قلت لها ذلك وعلى القاضي أن يجبره على أن يكفر وأن يحبسه، ولا شيء من الكفارات يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظهار وحدها لأنه يضرّ بها في ترك التكفير والانتفاع بحق الاستمتاع فيلزم أبداً حقها فإن قلت : فإن مس قبل أن يكفر قلت عليه أن يستغفر ولا يعود حتى يكفر لما روي أن سلمة بن صخر البياضي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ظاهرت من امرأتي ثم أبصرت خلخالها في ليلة قمراء فواقعتها فقال عليه الصلاة والسلام : استغفر ربك ولا تعد حتى تكفر » ا. ه. والمراد بالاستغفار هنا : التوبة.
ولما ذكر تعالى المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين المخالفين لها بقوله تعالى :﴿ إن الذين يحادّون الله ﴾ أي : يغالبون الملك الأعلى على حدوده ليجعلوا حدوداً غيرها وذلك صورته صورة العداوة ؛ لأنّ المحادة المعاداة والمخالفة في الحدود وهو كقوله تعالى :﴿ ومن يشاق الله ﴾ [ الحشر : ٤ ] ﴿ ورسوله ﴾ أي : الذي عزه من عزه، وقيل : يحادّون الله أي : أولياء الله كما في الخبر «من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة » والضمير في قوله تعالى :﴿ إن الذين يحادّون الله ورسوله ﴾ يحتمل أن يرجع إلى المنافقين، فإنهم كانوا يوادّون الكافرين ويظاهرونهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم فأذلهم الله تعالى ويحتمل أن يرجع لجميع الكفار فأعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم ﴿ كبتوا ﴾ أي : أذلوا وقال أبو عبيدة والأخفش : أهلكوا، وقال قتادة : أخذوا، وقال أبو زيد : عذبوا، وقال السدي : لعنوا، وقال الفراء : أغيظوا يوم الخندق. وقيل : يوم بدر ﴿ كما كبت الذين من قبلهم ﴾ أي : المحادّين المخالفين رسلهم كقوم نوح ومن بعدهم ممن أصرّ على العصيان.
قال القشيريّ : ومن ضيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو أحدث في دينه بدعة انخرط في هذا السلك ﴿ وقد أنزلنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة عليكم وعلى من قبلكم ﴿ آيات بينات ﴾ أي : دلالات عظيمة هي في غاية البيان لذلك ولكل ما يتوقف عليه الإيمان كترك المحادّة وتحصيل الإذعان ﴿ وللكافرين ﴾ أي : الراسخين في الكفر بالآيات أو بغيرها من أوامر الله تعالى :﴿ عذاب مهين ﴾ بما تكبروا واعتدوا على أولياء الله تعالى وشرائعه يهينهم ذلك العذاب ويذهب عزهم وشماختهم ويتركون به محادتهم.
وقوله تعالى :﴿ يوم ﴾ منصوب بأذكر كما قاله الزمخشري قال : تعظيماً لليوم أو بلهم أي بالاستقرار الذي تضمنه لوقوعه خبراً أو بفعل مقدّر قدّره أبو البقاء يهانون أو يعذبون أو استقرّ ذلك يوم ﴿ يبعثهم الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ جميعاً ﴾ أي : حال كونهم مجتمعين، الكافرين المصرّح بهم والمؤمنين المشار إليهم الرجال والنساء أحياء كما كانوا لا يترك منهم أحد، وقيل : مجتمعين في حال واحد ﴿ فينبئهم ﴾ أي : يخبرهم إخباراً عظيماً مستقصى ﴿ بما عملوا ﴾ تخجيلاً وتوبيخاً وتشهيراً لحالهم ﴿ أحصاه الله ﴾ أي : أحاط به عدداً وكماً وكيفاً وزماناً ومكاناً بماله من صفات الكمال والجلال ﴿ ونسوه ﴾ لأنهم تهاونوا به حيث ارتكبوه ولم يبالوا به لضر أو تهم بالمعاصي وإنما تحفظ معظمات الأمور أو لخروجه عن الحدّ في الكثرة فكيف كل واحد على انفراده ﴿ والله ﴾ أي : بماله من القدرة الشاملة والعلم المحيط ﴿ على كل شيء ﴾ أي : على الإطلاق ﴿ شهيد ﴾ أي : حفيظ حاضر لا يغيب ورقيب لا يغفل.
ثم إنه تعالى أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات فقال جل ذكره :﴿ ألم تر ﴾ أي : تعلم علماً هو في وضوحه كالرؤية بالعين ﴿ أنّ الله ﴾ أي : الذي له صفات الكمال كلها ﴿ يعلم ما في السماوات ﴾ كلها ﴿ وما في الأرض ﴾ كذلك كليات ذلك وجزئياته، لا يغيب عنه شيء منه بدليل أنّ تدبيره محيط بذلك على أتم ما يكون، وهو يخبر من شاء من أنبيائه وأصفيائه بما يشاء من أخبار ذلك القاصية والدانية والماضية والآتية فيكون كما أخبر، وقوله تعالى :﴿ ما يكون من نجوى ﴾ يكون فيه من كان التامة، ومن نجوى فاعلها، ومن مزيدة فيه أي : ما يقع من تناجي ﴿ ثلاثة ﴾، ويجوز أن يقدره مضاف أي : أهل نجوى فيكون ثلاثة صفة لأهل وأن يؤوّل نجوى بمتناجين جعلوا نجوى مبالغة فيكون ثلاثة صفة لنجوى، واشتقاقها من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض فإنّ السر يرتفع إلى الذهن لا يتيسر لكل أحد أن يطلع عليه وقوله تعالى :﴿ إلا هو رابعهم ﴾ استثناء من أعمّ الأحوال.
أي : ما يوجد شيء من هذه الأشياء في حال من الأحوال إلا وهو يعلم نجواهم، كأنه حاضر معهم وشاهدهم، كما تكون نجواهم عند الرابع الذي يكون معهم ﴿ ولا خمسة ﴾ أي : من نجواهم ﴿ إلا هو سادسهم ﴾ أي : يعلم نجواهم كما مرّ.
فإن قيل : ما الداعي إلى تخصيص الثلاثة والخمسة ؟ أجيب : بوجهين أحدهما : أن قوماً من المنافقين تحلقوا للتناجي فيما بينهم دون المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم مغايظة للمؤمنين على هذين العددين ثلاثة وخمسة، فقيل : ما يتناجى منهم ثلاثة ولا خمسة كما ترونهم يتناجون ﴿ ولا أدنى من ذلك ﴾ أي : من عددهم ﴿ ولا أكثر ﴾ أي : من ذلك ﴿ إلا هو معهم ﴾ يسمع ما يقولون ﴿ أينما ﴾ أي : في أي مكان ﴿ كانوا ﴾ فإنه لا مسافة بينه وبين شيء فقد روي عن ابن عباس : أنها نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوماً يتحدّثون فقال أحدهم : أترى أن الله يعلم ما نقول ؟ فقال الآخر : يعلم بعضاً ولا يعلم بعضاً وقال الثالث : إن كان يعلم بعضه فهو يعلم كله وصدق لأنّ من علم بعض الأشياء بغير سبب فقد علمها كلها، لأنّ كونه عالماً بغير سبب ثابت له مع كل معلوم.
والوجه الثاني : أنه قصد أن يذكر ما جرت عليه العادة من أعداد أهل النجوى والمتخالين للشورى والمندوبون لذلك ليسوا بكل أحد وإنما هم طائفة مجتباة من أولي النهى والأحلام ورهط من أهل الرأي والتجارب، وأوّل عددهم اثنان فصاعداً إلى خمسة إلى ستة إلى ما اقتضته الحال، وحكم به الإستصواب.
ألا ترى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه كيف ترك الأمر شورى بين ستة ولم يتجاوز بها إلى سابع فذكر عز وجل الثلاثة والخمسة وقال ﴿ ولا أدنى من ذلك ﴾ فدلّ على الإثنين والأربعة، وقال :﴿ ولا أكثر ﴾ فدلّ على ما يلي هذا العدد ويقاربه، وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال في خطبته الكبرى أخرجها الحارث ابن أبي أسامة رقي المنبر وقال :«يا أيها الناس ادنوا واسمعوا لمن خلفكم ثلاث مرات » فدنا الناس وانضمّ بعضهم إلى بعض والتفتوا فلم يروا أحداً فقال : رجل منهم بعد الثالثة : لمن نسمع يا رسول الله الملائكة فقال :«لا إنهم إذا كانوا معكم لم يكونوا بين أيديكم ولا خلفكم ولكن عن أيمانكم وعن شمائلكم » وعلى ذلك فليسوا في مكان الإيمان هنا والشمائل بل في المكانة من ذلك فالله جلّ جلاله أعلى وأجل وأنزه مكانة وأكرم استواء ﴿ ثم ينبئهم ﴾ أي : يخبر أصحاب النجوى أخباراً عظيماً ﴿ بما عملوا ﴾ دقيقه وجليله ﴿ يوم القيامة ﴾ الذي هو المراد الأعظم من الوجود لإظهار الصفات العلا فيه أتم إظهار، ﴿ إنّ الله ﴾ الذي له الكمال كله ﴿ بكل شيء ﴾ أي : مما ذكر وغيره ﴿ عليم ﴾ أي : بالغ العلم فهو على كل شيء شهيد وهذا تحذير من المعاصي وترغيب في الطاعات.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى :﴿ ألم تر ﴾ أي : تعلم علماً هو كالرؤية ﴿ إلى الذين نهوا عن النجوى ﴾ فقيل : في اليهود وقيل : في المنافقين، وقيل : في فريق من الكفار وقيل في فريق من المسلمين لما روى أبو سعيد الخدري قال :«كنا ذات ليلة نتحدث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم ما هذه النجوى فقلنا تبنا إلى الله تعالى يا رسول الله إنا كنا في ذكر المسيح يعني الدجال فرقاً منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بما هو أخوف عندي منه، قلنا بلى يا رسول الله، قال : الشرك الخفي أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل » ذكره الماوردي.
وقال ابن عباس :«نزلت في اليهود والمنافقين، كانوا يتناجون فيما بينهم وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم يوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيحزنون لذلك ويقولون : ما نراهم إلا وقد بلغهم من إخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو هزيمة، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم، فلما طال ذلك عليهم وأثر شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فأنزل الله تعالى :﴿ ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ﴾ ﴿ ثم يعودون ﴾ أي : على سبيل الاستمرار، لأنه وقع مرّة وبادروا إلى التوبة منها أو فلتة معفواً عنها، ﴿ لما نهوا عنه ﴾ أي : من غير أن يعتدوا لما يتوقع من جهة الناهي من الضرر عنده ﴿ ويتناجون ﴾ أي : يقبل بعضهم على المناجاة إقبالاً واحداً فيفعل كل منهم منها ما يفعله الآخر مرّة بعد أخرى على سبيل الاستمرار.
وقرأ حمزة بعد الياء : بنون ساكنة وبعدها ثاء فوقية مفتوحة ولا ألف قبل الجيم وضم الجيم، والباقون بتاء فوقية مفتوحة وبعدها نون مفتوحة وبعد النون ألف وفتح الجيم ﴿ بالإثم ﴾ أي : بالشيء الذي لا يثبت عليهم به الذنب وبالكذب وبما لا يحل، ﴿ والعدوان ﴾ أي : العدوان الذي هو نهاية في قصد الشرّ بالإفراط في مجاوزة الحدود ﴿ ومعصيت الرسول ﴾ أي : مخالفة النبيّ الذي جاء إليهم من الملك الأعلى وهو كامل في الرسالة لكونه مرسلاً إلى جميع الخلق وفي كل الأزمان فلا نبيّ بعده فهو لذلك مستحق غاية الإكرام.
فائدة : رسمت معصية في الموضعين بالتاء المجرورة، وإذا وقف عليها فأبو عمرو وابن كثير والكسائي بالهاء في الوقف، والكسائي بالإمالة في الوقف على أصله ووقف الباقون بالتاء على الرسم واتفقوا في الوصل على التاء.
﴿ وإذا جاؤوك ﴾ أي : يا أشرف الخلق ﴿ حيوك ﴾ أي : واجهوك بما يعدونه تحية ﴿ بما لم يحيك به الله ﴾ أي : الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه «وذلك أنّ اليهود كانوا يدخلون على النبيّ صلى الله عليه وسلم ويقولون السام عليك، والسام الموت وهم يوهمون أنهم يقولون السلام عليك، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يرد عليهم فيقول : وعليكم فقالت السيدة عائشة : السام عليكم ولعنة الله وغضبه عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف والفحش، فقالت : أو لم تسمع ما قالوا يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو لم تسمعي ما قلت، رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيّ »، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك :«إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا : عليك ما قلت » فأنزل الله تعالى :﴿ وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ﴾، وروى أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال :«إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم » بالواو فقال بعض العلماء : إنّ الواو العاطفة تقتضي التشريك فيلزم منه أن ندخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت أو من سآمة ديننا وهو الملال يقال سئم يسأم سأمة وسأماً، وقال بعضهم : الواو زائدة كما زيدت في قول الشاعر :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ***
أي : لما أجزنا انتحى فزاد الواو وقال : آخرون هي للاستئناف، كأنه قيل : والسام عليكم، وقال آخرون : هي على بابها من العطف ولا يضرّنا ذلك لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا كما تقدّم في قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة.
تنبيه : اختلف العلماء في ردّ السلام على أهل الذمة فقال ابن عباس والشعبي وقتادة : هو واجب لظاهر الأمر بذلك، وقال مالك : ليس بواجب فإن رددت فقل وعليك، وعندنا يجب أن يقول له وعليك لما مرّ في الحديث، وقال بعضهم : يقول في الردّ علاك السلام أي : ارتفع عنك، وقال بعض المالكية : يقال في الردّ السلام عليك بكسر السين يعني الحجارة.
ولما كانوا يخفون ذلك جهدهم ويظنون بإملاء الله تعالى لهم أنه صلى الله عليه وسلم لا يطلع عليه وإن اطلع عليه لم يقدر أن ينتقم منهم، عبر عن ذلك بقوله تعالى :﴿ ويقولون في أنفسهم ﴾ من غير أن يطلع عليه أحد ﴿ لولا ﴾ أي : هلا ولم لا ﴿ يعذبنا الله ﴾ أي : الذي له الإحاطة بكل شيء، ﴿ بما نقول ﴾ أي : لو كان نبيناً لعذبنا الله بما نقول وقيل : قالوا إنه يردّ علينا ويقول : وعليكم السام فلو كان نبياً لاستجيب له فينا ومتنا وهذا موضع تعجب منهم فإنهم كانوا أهل الكتاب وكانوا يعلمون أنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يغضبون فلا يعاجلون من يغضبهم بالعذاب ﴿ حسبهم ﴾ أي : كافيهم في الانتقام ﴿ جهنم ﴾ أي : الطبقة التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والفظاظة فإن حصل لهم في الدنيا عذاب كان زيادة على الكفاية فاستعجالهم بالعذاب محض رعونة ﴿ يصلونها ﴾ أي : يقاسون عذابها دائماً، فإنا قد أعددناها لهم ﴿ فبئس المصير ﴾ أي : مصيرهم.
﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ أي : ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة ﴿ إذا تناجيتم ﴾ أي : اطلع كل منكم الكلام من نفسه فرفعه وكشفه لصاحبه سرّاً ﴿ فلا تتناجوا ﴾ أي : توجدوا هذه الحقيقة ﴿ بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول ﴾ أي : الكامل في الرسالة كفعل المنافقين واليهود، وقال مقاتل : أراد تعالى بقوله :﴿ آمنوا ﴾ المنافقين آمنوا بلسانهم، وقال عطاء : يريد الذين آمنوا بزعمهم، وقيل : يا أيها الذين آمنوا بموسى﴿ وتناجوا بالبرّ والتقوى ﴾ أي : الطاعة والعفاف عما نهى الله تعالى عنه﴿ واتقوا الله ﴾ أي : اقصدوا قصداً يتبعه العمل بأن تجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعظم وقاية، ﴿ الذي إليه ﴾ خاصة ﴿ تحشرون ﴾ أي : تجمعون بأيسر أمر وأسهله بقهر وكره وهو يوم القيامة، فيتجلى فيه سبحانه للحكم بين الخلق والإنصاف بينهم بالعدل ومحاسبتهم على النقير والقطمير، لا تخفى عليه خافية ولا تقي منه واقية.
﴿ إنما النجوى ﴾ أي : المعهود وهي المنهي عنها ﴿ من الشيطان ﴾ أي : مبتدئة وممتدّة من المحترق بطرده عن رحمة الله تعالى، فإنه الحامل عليها بتزيينها ففاعلها تابع لأعدى أعدائه مخالف لأعظم أوليائه، ﴿ ليحزن ﴾ أي : الشيطان ﴿ الذين آمنوا ﴾أي : ليوهمهم أنها لسبب شيء وقع مما يؤذيهم، والحزن همّ غليظ وتوجع يدق، يقال : حزنه وأحزنه بمعنى، قال في القاموس : أو أحزنه جعله حزيناً.
وقرأ نافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزنه، والباقون بفتح الياء وضم الزاي من حزن، والقراءة الأولى أشد في المعنى على ما في القاموس.
﴿ وليس ﴾ أي : الشيطان أو ما حمل عليه من التناجي ﴿ بضارهم ﴾ أي : الذين آمنوا ﴿ شيئا ﴾ من الضرر وإن قلّ﴿ إلا بإذن الله ﴾أي : بمشيئة الملك المحيط علماً وقدرة.
فإن قيل : كيف لا يضرّهم ذلك ولا يحزنهم إلا بإذن الله ؟ أجيب : بأنهم كانوا يوهمون المؤمنين في نجواهم وتفاخرهم أنّ غزاتهم غلبوا وأنّ أقاربهم قتلوا فقال تعالى لا يضرّهم الشيطان والحزن بذلك الموهم إلا بأذن الله تعالى أي : بمشيئته وهو أن يقضي الموت على أقاربهم والغلبة على الغزاة، ﴿ وعلى الله ﴾ أي : الملك الذي لا كفء له لا على أحد غيره ﴿ فليتوكل المؤمنون ﴾أي : الراسخون في الإيمان في جميع أمورهم، فإنه القادر وحده على إصلاحها وإفسادها، فلا يحزنوا من أحد أن يكيدهم بسرّه ولا يجهره فإنهم توكلوا عليه وفوّضوا أمورهم إليه، وخص الراسخين لإمكان ذلك منهم في العادة، وأمّا أصحاب البدايات فلا يكون ذلك منهم إلا خرق عادة، روى ابن عمر أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بأذنه فإنّ ذلك يحزنه » وعن عبد الله بن مسعود أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى يختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه »، فبين في هذا الحديث غاية المنع وهو أن يجد الثالث من يتحدّث معه كما فعل ابن عمر وذلك أنه كان يتحدث مع رجل فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يناجه حتى دعا رابعاً، فقال له وللأول تأخرا وناجى الرجل الطالب للمناجاة، أخرجه في الموطأ ونبه على العلة بقوله : من أجل أن يحزنه أي : يقع في نفسه ما يحزن لأجله وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلاً، لوجود ذلك المعنى في حقه بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع فيكون بالمنع أولى، وإنما خص الثلاثة بالذكر، لأنه أوّل عدد يتأتى ذلك فيه.
قال القرطبي : وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال، وذهب إليه ابن عمر ومالك والجمهور، وسواء أكان التناجي في واجب أو مندوب أو مباح فإنّ الحزن ثابت به، وقد ذهب بعض الناس إلى أنّ ذلك كان في أوّل الإسلام لأنّ ذلك كان حال المنافقين فيتناجى المنافقون دون المؤمنين فلما فشا الإسلام سقط ذلك، وقال بعضهم : ذلك خاص بالسفر وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه فأمّا الحضر وبين العمارة فلا ؛ لأنه يجد من يغيثه بخلاف السفر فإنه مظنة الاغتيال وعدم الغوث.
ولما نهى المؤمنين عما يكون سبباً للتباغض والتنافر أمرهم الآن بما يصير سبباً لزيادة المحبة والمودّة بقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ أي : الذين اتصفوا بهذا الوصف ﴿ إذا قيل لكم ﴾ أي : من أيّ قائل كان فإنّ الخير يرغب فيه لذاته ﴿ تفسحوا ﴾ أي : توسعوا أي : كلفوا أنفسكم في اتساع المواضع ﴿ في المجلس ﴾ أي : الجلوس أو مكانه لأجل من يأتي فلا يجد مجلساً يجلس فيه، قال قتادة ومجاهد :«كانوا يتنافسون في مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض »، وقال ابن عباس : المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب، قال الحسن وزيد بن أبي حبيب «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه على الصف الأوّل فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة فنزلت ». فيكون كقوله تعالى :﴿ مقاعد للقتال ﴾ [ آل عمران : ١٢١ ]، وقال مقاتل «كان النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصفة وكان في المكان ضيق وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين، والأنصار فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجلس، فقاموا قبل النبيّ صلى الله عليه وسلم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لمن حوله من غير أهل بدر : قم يا فلان بعدد القائمين من أهل بدر فشق ذلك على من قام، وعرف النبيّ صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم فقال المنافقون : والله ما عدل على هؤلاء أنّ قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب منه فأقامهم وأجلس من أبطأ » فنزلت الآية يوم الجمعة.
وروي عن ابن عباس قال :«نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه دخل المسجد وقد أخذ القوم مجالسهم وكان يريد القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم للوقر أي : الصمم الذي كان في أذنيه فوسعوا له حتى قرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ضايقه بعضهم وجرى بينه وبينهم كلام فنزلت » وقد تقدّمت قصته في سورة الحجرات. وقرأ عاصم : يفتح الجيم، ألف بعدها جمعاً لأنّ لكل جالس مجلساً أي : فليفسح كل واحد في مجلسه والباقون بسكون الجيم ولا ألف إفرادا، قال البغوي : لأنّ المراد منه مجلس النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال القرطبي : الصحيح في الآية أنها عامة في مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير وللأجر سواء أكان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة، وإنّ كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه قال صلى الله عليه وسلم «من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذ بذلك فيخرجه الضيق من موضعه » فيكون المراد بالمجلس الجنس ويؤيده قراءة الجمع ﴿ فافسحوا ﴾ أي : وسعوا فيه عن سعة صدر ﴿ يفسح الله ﴾ أي : الذي له الأمر كله ﴿ لكم ﴾ في كل ما تكرهون ضيقه من الدارين.
وقال الرازي : هذا يطلق فيما يطلب الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة قال : ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه.
وإذا قيل : أي من أيّ قائل كان كما مضى إذا كان يريد الإصلاح والخير ﴿ انشزوا ﴾ أي : ارتفعوا وانهضوا إلى الموضع الذي تؤمرون به أو يقتضيه الحال للتوسعة أو غيرها من الأوامر كالصلاة والجهاد ﴿ فانشزوا ﴾ أي : فارتفعوا وانهضوا ﴿ يرفع الله ﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال، ﴿ الذين آمنوا ﴾ وإن كانوا غير علماء ﴿ منكم ﴾ أي : أيها المأمورون بالتفسح السامعون للأوامر المبادرون إليها بطاعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيامهم في مجلسهم وتوسعهم لإخوانهم، ﴿ والذين أوتوا العلم درجات ﴾ يجوز أن يكون معطوفاً على الذين آمنوا فهو من عطف الخاص على العام فإنّ الذين أوتوا العلم بعض المؤمنين، ويجوز أن يكون والذين أوتوا العلم من عطف الصفات أي : تكون الصفتان لذات واحدة كأنه قيل : يرفع الله المؤمنين العلماء ودرجات مفعول ثان، وقال ابن عباس : تمّ الكلام عند قوله تعالى :﴿ منكم ﴾ وينتصب الذين أوتوا بفعل مضمر أي : ويخص الذين أوتوا العلم درجات أو ويرفع درجات.
قال المفسرون : في هذه الآية أنّ الله تعالى رفع المؤمن على من ليس بمؤمن والعالم على من ليس بعالم، قال ابن مسعود مدح الله تعالى العلماء في هذه الآية، والمعنى : أنّ الله تعالى يرفع الله الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذا فعلوا بما أمروا به، وقال تعالى :﴿ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ﴾[ الزمر : ٩ ] وقال تعالى :﴿ وقل رب زدني علماً ﴾[ طه : ١١٤ ] وقال تعالى :﴿ إنما يخشى الله من عباده العلماء ﴾[ فاطر : ٢٨ ] والآيات في ذلك كثيرة معلومة.
وأمّا الأحاديث فكثيرة مشهورة منها من «يرد الله به خيراً يفقهه في الدين »، وروي أنّ عمر رضى الله عنه «كان يقدّم عبد الله بن عباس على الصحابة رضي الله تعالى عنهم فكلموه في ذلك فدعاهم ودعاه فسألهم عن تفسير ﴿ إذا جاء نصر الله والفتح ﴾ فسكتوا فقال ابن عباس : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله إياه، فقال عمر ما أعلم منها إلا ما تعلم ».
ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال :«لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله ما لا فسلط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها » والمراد بالحسد : الغبطة : وهي أن تتمنى مثله ومنها أنه صلى الله عليه وسلم «قال لعليّ كرّم الله وجهه : لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم » ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال :«من جاءه أجله وهو يطلب العلم لحيي به الإسلام لم يفضله النبيون إلا بدرجة واحدة » ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال :«بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة ».
ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وفي رواية كفضلي على أدناكم ».
ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال :«إنّ الله أوحى إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام أني عليم أحب كل عليم ».
ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال :«يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء » فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومنها :«أنه صلى الله عليه وسلم مرّ بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون الله تعالى ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون لله عز وجل ويرغبون إليه، وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلمونه الجاهل فهؤلاء أفضل، وإنما بعثت معلماً ثم جلس فيهم » والأحاديث في ذلك كثيرة جدّاً.
وأمّا أقوال السلف فلا تحصر، فمنها ما قاله ابن عباس : أن سليمان عليه السلام خير بين العلم والمال والملك فاختار العلم فأعطي المال والملك معه، وما قاله بعض الحكماء : ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم وأي شيء فات من أدرك العلم.
وما قاله الأحنف : كاد العلماء يكونون أرباباً، وكل عز لم يؤكد بعلم فإلى ذل ما يصير.
وما قاله الزبيري : العلم ذكر فلا يحبه إلا ذكورة الرجال.
وما قاله أبو مسلم الخولاني : مثل العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء إذا برزت للناس اهتدوا بها وإذا خفيت عنهم تحيروا.
وما قاله معاذ : تعلم العلم فإنّ تعلمه لك حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة.
وما قاله علي : العلم خير من المال العلم يحرسك وأنت تحرس المال والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو بالإنفاق.
وما قاله ابن عمر : مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة.
وما قاله الشافعي من أن : طلب العلم أفضل من صلاة النافلة وقال : ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم، وقال : من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم فإنه يحتاج إليه في كل منهما.
وقد ذكرت في أوّل شرح المنهاج من الأحاديث ومن أقوال السلف ما يسرّ الناظر الراغب في الخير وفيما ذكرته هنا كفاية لأولي الأبصار.
﴿ والله ﴾ أي : والحال أنّ المحيط بكل شيء علماً وقدرة ﴿ بما تعملون ﴾ أي : حال الأمر وغيره ﴿ خبير ﴾ أي : عالم بظاهره وباطنه فإن كان العلم مزيناً بالعمل بامتثال الأوامر واجتناب النواهي وتصفية الباطن كانت الرفعة على حسبه، وإن كان على غير ذلك فكذلك.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ أي : ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة أغنياء كانوا أو فقراء ﴿ إذا ناجيتم الرسول ﴾ أي : أردتم مناجاة الذي لا أكمل منه في الرسالة الآية، فقال ابن عباس :«إنّ المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه فأنزل الله تعالى هذه الآية فكف كثير من الناس ». وقال الحسن :«أنّ قوماً من المسلمين كانوا يستخلون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم يناجونه، فظنّ بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النجوى فشق عليهم ذلك فأمرهم الله تعالى بالصدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه ».
وقال زيد بن أسلم «إنّ المنافقين واليهود كانوا يناجون النبيّ صلى الله عليه وسلم ويقولون : إنه أذن يسمع كل ما قيل له، وكان لا يمنع أحداً من مناجاته فكان ذلك يشق على المسلمين لأنّ الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم يناجون أنّ جموعاً اجتمعت للقتال فنزلت ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول ﴾ » أي : أردتم مناجاته ﴿ فقدّموا ﴾ أي : بسبب هذه الإرادة، وقوله تعالى :﴿ بين يدي نجواكم ﴾ استعارة ممن له يدان والمعنى : قبل نجواكم التي هي سرّكم الذي تريدون أن ترفعوه ﴿ صدقة ﴾ لقول عمر :" من أفضل ما أوتيت العرب الشعر يقدّمه الرجل أمام حاجته فيستمطر به الكريم ويستنزل به اللئيم " يريد قبل حاجته، والصدقة تكون لكم برهاناً على إخلاصكم كما ورد أنّ الصدقة برهان فهي مصدّقة لكم في دعوى الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وبكل ما جاء به عن الله تعالى.
تنبيه : ظاهر الآية يدل على أنّ تقديم الصدقة كان واجباً لأنّ الأمر للوجوب ويؤكد ذلك قوله تعالى بعده :﴿ فإنّ لم تجدوا فإنّ الله غفور رحيم ﴾، وقيل : كان مندوباً لقوله تعالى :﴿ ذلك ﴾ أي : التصدّق ﴿ خير لكم وأطهر ﴾ أي : لأنفسكم من الريبة وحب المال، هذا إنما يستعمل في التطوّع لا في الواجب ولأنه لو كان واجباً لما أزيل وجوبه والكلام متصل به وهو قوله تعالى :﴿ فإن لم تجدوا ﴾ الآية.
وأجيب عن الأوّل : بأنّ المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر فكذلك أيضاً يوصف بهما الواجب.
وعن الثاني : بأنه لا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة كونهما متصلتين في القول، كما قيل في الآية الدالة على وجوب الاعتداد أربعة أشهر وعشراً أنها ناسخة للاعتداد بحول وإن كان الناسخ متقدّماً في التلاوة.
وعن علي أنه قال :«لما نزلت دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما تقول في دينار ؟ قلت : لا يطيقونه، قال : كم ؟ قلت : حبة أو شعيرة، قال إنك لزهيد فلما رأوا ذلك اشتدّ عليهم فارتدعوا، أما الفقير فلعسرته وأما الغنيّ فلشحته »، واختلف في مقدار تأخر الناسخ عن المنسوخ في هذه الآية، فقال الكلبي : ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من نهار ثم نسخ وقال مقاتل وابن حبان : بقي ذلك التكليف عشرة أيام، ثم نسخ لما روي عن عليّ أنه قال إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، كان لي دينار فصرفته فكنت إذا ناجيته تصدّقت بدرهم. وفي رواية عنه فاشتريت به عشرة دراهم وكلما ناجيت النبيّ صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهماً ثم نسخت فلم يعمل بها أحد.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم نهوا عن المناجاة حتى يتصدّقوا، فلم يناج أحد إلا علي تصدّق بدينار، وعدم عمل غيره لا يقدح فيه لاحتمال أن يكون لم يجد عند المناجاة شيئاً أو أن لا يكون احتاج إلى المناجاة ثم نزلت الرخصة.
وعن ابن عمر رضي الله عنه : كان لعليّ ثلاث لو كان لي واحدة منهنّ كانت أحب إليّ من حمر النعم، تزويجه فاطمة وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى.
واختلف في الناسخ لذلك فقيل : هي منسوخة بالزكاة وأكثر المفسرين أنها منسوخة بالآية التي بعدها وهي ﴿ أأشفقتم ﴾ كما سيأتي وكان عليّ يقول : وخفف عن هذه الأمة ﴿ فإن لم تجدوا ﴾ أي : ما تقدّمونه ﴿ فإن الله ﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿ غفور رحيم ﴾ أي : له صفتا الستر للمساوي والإكرام بإظهار المحاسن على الدوام فهو يعفو ويرحم تارة يقدّم العقاب للعاصي وتارة بالتوسعة للضيق بأن ينسخ ما يشق إلى ما يخف.
وقوله تعالى :﴿ أأشفقتم ﴾ أي : خفتم العيلة لما يعدكم به الشيطان من الفقر خوفاً كاد أن يفطر قلوبكم ﴿ أن تقدّموا ﴾ أي : بإعطاء الفقراء وهم إخوانكم ﴿ بين يدي نجواكم ﴾ أي : النبيّ صلى الله عليه وسلم ﴿ صدقات ﴾ وجمع ؛ لأنه أكثر توبيخاً من حيث إنه يدل على أنّ النجوى تتكرّر استفهام معناه التقرير وهو الناسخ عند الأكثر كما مرّ.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام : بتسهيل الثانية بخلاف عن هشام، وأدخل بينهما الفاء قالون وأبو عمرو وهشام، والباقون بتحقيقهما ولا إدخال والأولى محققة بلا خلاف ﴿ فإذ ﴾ أي : فحين ﴿ لم تفعلوا ﴾ أي : ما أمرتكم به من الصدقة للنجوى بسبب هذا الإشفاق ﴿ وتاب الله ﴾ أي : الملك الأعلى ﴿ عليكم ﴾ أي : رجع بكم عنها بأن نسخها عنكم تخفيفاً عليكم ﴿ فأقيموا ﴾ أي : بسبب العفو عنكم شكراً أي : على هذا الكرم والحلم ﴿ الصلاة ﴾ التي هي طهرة لأرواحكم وصلة لكم بربكم ﴿ وآتوا الزكاة ﴾ التي هي براءة لأبدانكم، وتطهير ونماء لأموالكم، وصلة لكم بإخوانكم، ولا تفرّطوا في شيء من ذلك فتهملوه، فالصلاة نور يهدي إلى المقاصد الدنيوية والأخروية ويعين على نوائب الدارين، والصدقة برهان على صحة القصد في الصلاة.
ثم عمم بعد أن خصص أشرف العبادات البدنية وأعلى المناسك المالية بقوله تعالى :﴿ وأطيعوا الله ﴾ أي : الذي له الكمال له ﴿ ورسوله ﴾ أي : الذي عظمته من عظمته في سائر ما يأمرانكم به، فإنه تعالى ما أمركم لأجل إكرام رسولكم صلى الله عليه وسلم إلا بالحنيفية السمحة ﴿ والله ﴾ أي : الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة، ﴿ خبير بما تعملون ﴾ أي : يعلم بواطنكم كما يعلم ظواهركم لا تخفى عليه خافية.
﴿ ألم تر ﴾ أي : تنظر يا أشرف الخلق ﴿ إلى الذين تولوا ﴾ أي : تكلفوا بغاية جهدهم وهم المنافقون أي جعلوا أولياءهم الذين يتولون لهم أمورهم ﴿ قوماً ﴾، وهم اليهود ابتغوا عندهم العزة اغتراراً بما يظهر لهم منهم من القوة ﴿ غضب الله ﴾ أي : الملك الأعلى الذي لا ندّ له ﴿ عليهم ﴾ أي : المتولى والمتولي لهم، ﴿ ما هم ﴾ أي : المنافقون ﴿ منكم ﴾ أي : المؤمنين ﴿ ولا منهم ﴾ أي : اليهود بل هم مذبذبون وزاد في الشناعة عليهم بأقبح الأشياء بقوله تعالى :﴿ ويحلفون ﴾ أي : المنافقون يجدّدون الحلف على الاستمرار ودل بأداة الاستعلاء على أنهم في غاية الجراءة على استمرارهم على الإيمان الكاذبة بأنّ التقدير مجترئين ﴿ على الكذب ﴾ في دعوى الإسلام وغير ذلك مما يقعون فيه من عظائم الآثام فإذا عوتبوا عليه بادروا إلى الإيمان ﴿ وهم يعلمون ﴾ أنهم كاذبون متعمدون.
روي «أنّ عبد الله بن نبتل كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يرفع حديثه إلى اليهود فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرة من حجره إذ قال لأصحابه : يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعين شيطان، فدخل ابن نبتل وكان أزرق العينين أسمر قصيراً خفيف اللحية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فعلت فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزلت ».
﴿ أعد الله ﴾ أي : الذي له العظمة الباهرة فلا كفء له ﴿ لهم عذاباً ﴾ أي : أمراً قاطعاً لكل عذوبة، ﴿ شديداً ﴾ أي : لا طاقة لهم به ثم علل عذابهم بما دلّ على أنه واقع في أتم مواقعه بقوله تعالى مؤكداً تقبيحاً على من كان يستحسن فعالهم ﴿ إنهم ساء ﴾ أي : بلغ الغاية بما يسوء، ودل على أنّ ذلك لهم كالجبلة بقوله تعالى :﴿ ما كانوا يعملون ﴾ أي : يجدّدون عمله مستمرّين عليه لا ينفكون عنه، قال الزمخشري : أو هي حكاية ما يقال لهم في الآخرة.
﴿ اتخذوا أيمانهم ﴾ أي : الكاذبة التي لا تهون على من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ﴿ جنة ﴾ وقاية وسترة من كل ما يفضحهم من النفاق كائناً ما كان ﴿ فصدّوا ﴾ أي : كان قبول ذلك منهم وتأخير عقابهم سبباً لإيقاعهم الصدّ ﴿ عن سبيل الله ﴾ أي : شرع الملك الأعلى الذي هو طريق إلى رضوانه الذي هو سبب الفوز العظيم، فإنهم كانوا يثبطون من لقوا عن الدخول في الإسلام ويوهنون أمره ويحقرونه، ومن رآهم قد خلصوا من المكاره بأيمانهم الخائنة ودرّت عليهم الأرزاق استدراجاً، وحصلت لهم الرفعة عند الناس بما يرضونه من أقوالهم المؤكدة بالإيمان، غرّه ذلك فاتبع سنتهم في أقوالهم وأفعالهم ونسج على منوالهم غروراً بظاهر أمرهم، معرضاً عما توعدهم الله تعالى عليه من جزاء خداعهم وأمرهم وأجرى الأمر على أسلوب التهكم باللام التي تكون في المحبوب فقال تعالى :﴿ فلهم ﴾ أي : فتسبب عن صدّهم إنه كان لهم﴿ عذاب مهين ﴾ جزاء بما طلبوا بذلك الصدّ إعزاز أنفسهم وإهانة أهل الإسلام.
﴿ لن تغني ﴾ أي : بوجه من الوجوه ﴿ عنهم أموالهم ﴾ أي : في الدنيا ولا في الآخرة بالافتداء ولا بغيره ﴿ ولا أولادهم ﴾ أي : بالنصرة والمدافعة ﴿ من الله ﴾ أي : أغناه مبتدأ من الملك الأعلى ﴿ شيئاً ﴾ ولو قل جدّاً فمهما أراد بهم سبحانه كان ونفذ ومضى لا يدفعه شيء تكذيباً لمن قال منهم : لئن كان يوم القيامة لنكوننّ أسعد فيه منكم كما نحن الآن ولننجونّ بأنفسنا وأموالنا وأولادنا ﴿ أولئك ﴾ أي : البعداء من كل خير ﴿ أصحاب النار هم ﴾ أي : خاصة ﴿ فيها ﴾ أي : خاصة ﴿ خالدون ﴾ أي : دائمون لازمون إلى غير نهاية.
وقوله تعالى :﴿ يوم ﴾ منصوب باذكر أي : واذكر يوم ﴿ يبعثهم الله ﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال ﴿ جميعاً ﴾، فلا يترك أحداً منهم ولا من غيرهم إلا أعاده إلى ما كان قبل موته، ﴿ فيحلفون ﴾ أي : فيتسبب عن ظهور القدرة التامّة لهم ومعاينة ما كانوا يكذبون به أنهم يحلفون ﴿ له ﴾ أي : لله في الآخرة أنهم مسلمون فيقولون :﴿ والله ربنا ما كنا مشركين ﴾ونحو ذلك، ﴿ كما يحلفون لكم ﴾ في الدنيا أنهم مثلكم، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يحلفون لله تعالى يوم القيامة كذباً كما حلفوا لأوليائه في الدنيا وهو قولهم والله ربنا ما كنا مشركين. ﴿ ويحسبون ﴾ أي : في القيامة بأيمانهم الكاذبة ﴿ أنهم على شيء ﴾ أي : يحصل لهم به نفع بإنكارهم وحلفهم، وقيل : يحسبون في الدنيا أنهم على شيء، لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار والأول أظهر، والمعنى : أنهم لشدّة توغلهم في النفاق ظنوا يوم القيامة أنهم يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب.
وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ﴾[ الأنعام : ٢٨ ]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ينادي مناد يوم القيامة أين خصماء الله تعالى فتقوم القدرية مسودّة وجوههم مزرقة أعينهم مائل شقهم يسيل لعابهم فيقولون والله ما عبدنا من دونك شمساً ولا قمراً ولا صنماً ولا اتخذنا من دونك إلهاً » قال ابن عباس رضي الله عنهما : صدقوا والله أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون ثم تلا :﴿ ويحسبون أنهم على شيء ﴾ » وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة : بفتح السين، والباقون بكسرها ﴿ ألا إنهم هم الكاذبون ﴾ المحكوم بكذبهم في حسبانهم هم والله القدرية ثلاثاً.
﴿ استحوذ ﴾ أي : استولى ﴿ عليهم الشيطان ﴾ مع أنه طريد ومحترق، ووصل منهم إلى ما يريده وملكهم ملكاً لم يبق لهم معه اختيار فصاروا رعيته وصار هو محيطاً بهم من كل جهة غالباً عليهم، ظاهراً وباطناً من قولهم حذت الإبل وحذذتها إذا استوليت عليها، والحوذ أيضاً : السوق السريع ومنه الأحوذي الخفيف في الشيء لحذقه، واستحوذ مما جاء على الأصل وهو ثبوت الواو دون قلبها ألفاً، ﴿ فأنساهم ﴾ أي : فتسبب عن استحواذه عليهم أن أنساهم ﴿ ذكر الله ﴾ أي : الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا، ﴿ أولئك ﴾ أي : البعداء البغضاء ﴿ حزب الشيطان ﴾ أي : أتباعه وجنوده وطائفته وأصحابه، ﴿ ألا إنّ حزب الشيطان ﴾ أي : الطريد المحترق﴿ هم الخاسرون ﴾ أي : العريقون في هذا الوصف ؛ لأنهم لم يظفروا بغير الطرد والاحتراق.
﴿ إن الذين يحادون الله ﴾ أي : يفعلون مع الملك الأعظم الذي لا كفؤ له، فعل من ينازع آخر في الأرض فيغلب على طائفة ليجعل لها حداً لا يتعداه خصمه ﴿ ورسوله ﴾ أي : إلي عظمته من عظمته ﴿ أولئك ﴾ أي : البعداء البغضاء ﴿ في الأذلين ﴾ أي : في جملة من هو أذل خلق الله تعالى.
واختلف في معنى قوله عز وجلّ ﴿ كتب الله ﴾ أي : الملك الذي لا كفؤ له فقال أكثر المفسرين أي : قضى الله عز وجلّ ﴿ لأغلبن ﴾ وقال قتادة : كتب في اللوح المحفوظ، وقال الفراء : كتب بمعنى قال وقوله تعالى :﴿ أنا ﴾ تأكيد ﴿ ورسُلي ﴾ أي : من بعث منهم بالحرب ومن بعث منهم بالحجة فإذا انضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالحرب كان أغلب وأقوى.
وقال مقاتل : قال المؤمنون لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهنّ رجونا أن يظهرنا الله تعالى على فارس والروم، فقال عبد الله بن أبي ابن سلول : الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها والله أنهم لأكثر عدداً وأشدّ بطشاً من أن تظنوا فيهم فنزل﴿ لأغلبن أنا ورسلي ﴾.
ونظيره قوله تعالى :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ١٧١إنهم لهم المنصورون ١٧٢ وإنّ جندنا لهم الغالبون ﴾[ الصافات : ١٧١ ١٧٣ ]، وقرأ نافع وابن عامر : بفتح الياء والباقون بالسكون ﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له الأمر كله ﴿ قويّ ﴾ أي : على نصر أوليائه ﴿ عزيز ﴾ أي : لا يغلب عليه في مراده.
ثم نهى تعالى عن موالاة أعداء الله تعالى بقوله سبحانه ﴿ لا تجد ﴾ أي : بعد هذا البيان ﴿ قوماً ﴾ أي : ناساً لهم قوة على ما يريدون، ﴿ يؤمنون ﴾ أي : يجددون الإيمان ويديمونه ﴿ بالله ﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿ واليوم الآخر ﴾ الذي هو موضع الجزاء لكل عامل بكل ما عمل الذي هو محط الحكمة، ﴿ يوادّون ﴾ أي : يحصل منهم ودّ لا ظاهراً ولا باطناً ﴿ من حادّ الله ﴾ أي : عادى بالمناصبة في حدود الملك الأعلى ﴿ ورسوله ﴾ فإن من حادّه فقد حادّ الذي أرسله بل لا تجدهم إلا يحادّونهم لا أنهم يوادّونهم.
وزاد ذلك تأكيداً بقوله تعالى :﴿ ولو كانوا آباءهم ﴾ أي : الذين أوجب الله تعالى على الأ، بناء طاعتهم في المعروف، وذلك كما فعل أبو عبيدة بن الجراح حيث قتل أباه عبد الله بن الجرّاح يوم أحد، ﴿ أو أبناءهم ﴾ أي : الذين جبلوا على محبتهم ورحمتهم، كما فعل أبو بكر «فإنه دعا ابنه يوم بدر إلى المبارزة وقال : دعني يا رسول الله أكن في الرعلة الأولى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم متعنا بنفسك يا أبا بكر أما تعلم أنك عندي بمنزلة سمعي وبصري »، ﴿ أو إخوانهم ﴾ أي : الذين هم أعضادهم كما فعل مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير يوم أحد وخزف سعد بن أبي وقاص غير مرّة فراغ منه روغان الثعلب، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عنه وقال : أتريد أن تقتل نفسك.
وقتل محمد بن سلمة الأنصاري أخاه من الرضاع كعب بن الأشرف اليهودي رأس بني النضير، ﴿ أو عشيرتهم ﴾ أي : الذين هم أنصارهم وأمدادهم كما قتل عمر خاله العاصي وهشام بن المغيرة يوم بدر، وعلي وحمزة وعبيدة بن الحارث قتلوا يوم بدر بني عمهم عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة.
وعن الثوري : أنّ السلف كانوا يرون أنّ الآية نزلت فيمن يصحب السلطان ا. ه. ومدار ذلك على أنّ الإنسان يقطع رجاء من غير الله تعالى، وإن لم يكن كذلك لم يكن مخلصاً في إيمانه.
تنبيه : قدّم الآباء أوّلاً لأنهم تجب طاعتهم على أبنائهم، ثم ثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب وهم حياتها، ثم ثلث بالأخوان لأنهم هم الناصرون بمنزلة العضد من الذراع. قال الشاعر :
أخاك أخاك إن من لا أخا له كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وإن ابن عمّ المرء فاعلم جناحه وهل ينهض البازي بغير جناح
ثم ربع بالعشيرة لأنّ بها يستغاث وعليها يعتمد، والمعنى : أنّ الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع المحبة ومع هذا فيجب أن يكون هذا الميل مطروحاً بسبب الدين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجرّاح لما قتل أباه، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قتل خاله العاصي ابن هشام يوم بدر روي أنها نزلت في أبي بكر، وذلك أنّ أبا قحافة سب النبي صلى الله عليه وسلم فصكه صكةً سقطت منها أسنانه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فقال : أو فعلت، قال : نعم، قال : لا تعد إليه، فقال : والذي بعثك بالحق نبياً لو كان السيف مني قريباً لقتلته، فهؤلاء لم يوادّوا أقاربهم.
قال القرطبي : استدل مالك بهذه الآية على معاداة القدرية وترك مجالستهم، قال القرطبي : وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم. وعن عبد العزيز بن أبي رواد : أنه لقي المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلا الآية. وقال صلى الله عليه وسلم «اللهمّ لا تجعل لفاجر عندي نعمة، فإني وجدت فيما أوحيت إليّ ﴿ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾ الآية، ﴿ أولئك ﴾ أي : العالو الهمة ﴿ كتب ﴾ أي : أثبت قاله الربيع بن أنس رضي الله عنه، وقيل : خلق، وقيل : جعل كقوله تعالى :﴿ فاكتبنا مع الشاهدين ﴾[ آل عمران : ٥٣ ] أي : اجعلنا، وقوله تعالى :﴿ فسأكتبها للذين يتقون ﴾[ الأعراف : ١٥٦ ] وقيل : كتب ﴿ في قلوبهم الإيمان ﴾[ المجادلة : ٢٢ ] بما وفقهم فيه وشرح لهم صدرهم، أي : على قلوبهم كقوله تعالى :﴿ في جذوع النخل ﴾ [ طه : ٧١ ] وخص القلوب بالذكر لأنها موضع الإيمان. قال البيضاوي : وهو دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان، فإنّ جزاء الثابت في القلب يكون ثابتاً فيه، وأعمال الجوارح لا تثبت فيه، ﴿ وأيدهم ﴾ أي : وقوّاهم وشدّدهم وشرّفهم ﴿ بروح ﴾ أي : نور شريف جدّاً يفهمون به ما أودع في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم من نور العلم والعمل ﴿ منه ﴾ أي : من الله تعالى أحياهم به فلا انفكاك لذلك عنهم في وقت من الأوقات، فأثمر لهم استقامة المناهج ظاهراً وباطناً، فعملوا الأعمال الصالحة فكانوا للدنيا كالسراج، فلا تجد شيئاً أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء الله تعالى، ومعاداة أعدائه لا بل هو عين الإخلاص، ومن جنح إلى منحرف عن دينه، أوداهن مبتدعاً في عقيدته نزع الله تعالى نور التوحيد من قلبه.
قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير للإيمان، أي : بروح من الإيمان على أنه في نفسه روح لحياة القلوب به، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : نصرهم على عدوّهم، وسمى تلك النصرة روحاً، لأنّ بها يحيا أمرهم، وقال الربيع بن أنس رضي الله عنه : بالقرآن وحججه، وقال ابن جريج : بنور وبرهان وهدى، وقيل : برحمة، وقيل : أيدهم بجبريل عليه السلام﴿ ويدخلهم جنات ﴾ أي : بساتين تستر داخلها من كثرة أشجارها.
وأخبر عن ريها بقوله تعالى :﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ أي قصورها ﴿ الأنهار ﴾ فهي بذلك كثيرة الرياض والأشجار، وقال تعالى :﴿ خالدين فيها ﴾ لأنّ ذلك لا يلذ إلا بالدوام، وقال تعالى :﴿ رضي الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ عنهم ﴾ لأنّ ذلك لا يتم إلا برضا مالكها الذي له الملك كله ﴿ ورضوا عنه ﴾ أي : لأنه أعطاهم فوق ما يؤملون، ﴿ أولئك ﴾ أي : الذين هم في الدرجات العلى من العظمة لكونهم قصروا ودّهم على الله تعالى، علماً منهم بأنه ليس الضرّ والنفع إلا بيده، ﴿ حزب الله ﴾ أي : جند الملك الذي أحاط بجميع صفات الكمال، ﴿ ألا إنّ حزب الله ﴾ أي : جند الملك الأعلى، وهم هؤلاء الموصوفون ومن والاهم، ﴿ هم المفلحون ﴾ أي : الذين حازوا الظفر بكل ما يؤملون في الدارين، وقد علم من الرضا من الجانبين والحزبية والإفلاح عدم الانفكاك عن السعادة فأغنى ذلك عن تقييد الخلود بالتأييد.
Icon