تفسير سورة الجن

التحرير والتنوير
تفسير سورة سورة الجن من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد المعروف بـالتحرير والتنوير .
لمؤلفه ابن عاشور . المتوفي سنة 1393 هـ
سميت في كتب التفسير وفي المصاحف التي رأيناها ومنها لكوفي المكتوب بالقيروان في القرن الخامس ﴿ سورة الجن ﴾. وكذلك ترجمها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه، وترجمها البخاري في كتاب التفسير ﴿ سورة قل أوحي ألي ﴾.
واشتهر على ألسنة المكتبين والمتعلمين في الكتاتيب القرآنية باسم ﴿ قل أوحي ﴾.
ولم يذكرها في الإتقان في عداد السور التي لها أكثر من اسم ووجه التسميتين ظاهر.
وهي مكية بالاتفاق.
ويظهر أنها نزلت في حدود سنة عشر من البعثة. ففي الصحيحين وجامع الترمذي من حديث ابن عباس أنه قال : انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ بنخلة وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وأنه استمع فريق من الجن إلى قراءته فرجعوا إلى طائفتهم فقالوا ﴿ إنا سمعنا قرآنا عجبا ﴾ وأنزل اله على نبيه ﴿ قل أوحي ألي أنه أستمع نفر من الجن ﴾.
وذكر ابن إسحاق أن نزول هذه السورة بعد سفر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يطلب النصرة من ثقيف، أي وذلك يكون في سنة عشر بعد البعثة وسنة ثلاث قبل الهجرة.
وقد عدت السورة الأربعين في نزول السور نزلت بعد الأعراف وقبل يس~.
واتفق أهل العدد على عد آيها ثمانا وعشرين.
أغراضها
إثبات كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن دعوته بلغت إلى جنس الجن وإفهامهم فهم معان من القرآن الذي استمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم وفهم ما يدعوا إليه من التوحيد والهدى، وعلمهم بعظمة الله وتنزيهه عن الشريك والصاحبة والولد.
وإبطال عبادة ما يبعد من الجن.
وإبطال الكهانة وبلوغ علم الغيب إلى غير الرسل الذين يطلعهم الله على ما يشاء.
وإثبات أن لله خلقا يدعون الجن وأنهم أصناف منهم الصالحون ومنهم دون ذلك بمراتب، وتضليل الذين يقولون على الله ما لم يقله، والذين يعبدون الجن، والذين ينكرون البعث، وأن الجن لا يفلتون من سلطان الله تعالى.
وتعجبهم من الإصابة برجوم الشهب المانعة من استراق السمع، وفي المراد من هذا المنع والتخلص من ذلك إلى ما أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من في شأن القحط الذي أصاب المشركين لشركهم ولمنعهم مساجد الله، وإنذارهم بأنهم سيندمون على تألبهم على النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولتهم منهم العدول عن الطعن في دينهم.

أَصْحَابِهِ عَامِدِينَ إِلَى سُوقِ عُكَاظٍ بِنَخْلَةَ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَأَنَّهُ اسْتَمَعَ فَرِيقٌ مِنَ الْجِنِّ إِلَى قِرَاءَتِهِ فَرَجَعُوا إِلَى طَائِفَتِهِمْ فَقَالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [الْجِنّ: ١] وَأَنْزَلَ الله على نبيئه قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ
[الْجِنِّ: ١].
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ كَانَ بَعْدَ سَفَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ يَطْلُبُ النُّصْرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ، أَيْ وَذَلِكَ يَكُونُ فِي سَنَةِ عَشْرٍ بَعْدَ الْبَعْثَةِ وَسَنَةِ ثَلَاثٍ قَبْلَ الْهِجْرَةِ.
وَقَدْ عُدَّتِ السُّورَةُ الْأَرْبَعِينَ فِي نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ الْأَعْرَافِ وَقَبْلَ يس.
وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعَدَدِ عَلَى عد آيها ثمانا وَعِشْرِينَ.
أَغْرَاضُهَا
إِثْبَاتُ كَرَامَةٍ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ دَعْوَتَهُ بَلَغَتْ إِلَى جِنْسِ الْجِنِّ وَإِفْهَامِهِمْ فَهْمَ مَعَانٍ مِنَ الْقُرْآنِ الَّذِي اسْتَمَعُوا لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَهْمَ مَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْهُدَى، وَعِلْمِهِمْ بِعَظَمَةِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الشَّرِيكِ وَالصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ.
وَإِبْطَالُ عِبَادَةِ مَا يُعْبَدُ مِنَ الْجِنِّ.
وَإِبْطَالُ الْكِهَانَةِ وَبُلُوغِ عِلْمِ الْغَيْبِ إِلَى غَيْرِ الرُّسُلِ الَّذِينَ يُطْلِعُهُمُ اللَّهُ عَلَى مَا يَشَاءُ.
وَإِثْبَاتُ أَنَّ لِلَّهِ خَلْقًا يُدْعَوْنَ الْجِنَّ وَأَنَّهُمْ أَصْنَافٌ مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ بِمَرَاتِبَ، وتضليل الَّذين يتقولون عَلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَالَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ، وَالَّذِينَ يُنْكِرُونَ الْبَعْثَ، وَأَنَّ الْجِنَّ لَا يُفْلِتُونَ مِنْ سُلْطَانِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَتَعَجُّبُهُمْ مِنَ الْإِصَابَةِ بِرُجُومِ الشُّهُبِ الْمَانِعَةِ مِنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ، وَفِي الْمُرَادِ مِنْ هَذَا الْمَنْعِ وَالتَّخَلُّصِ مِنْ ذَلِكَ إِلَى مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فِي شَأْنِ الْقَحْطِ الَّذِي أَصَابَ الْمُشْرِكِينَ لِشِرْكِهِمْ وَلِمَنْعِهِمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَإِنْذَارِهِمْ بِأَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ عَلَى تَأَلُّبِهِمْ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُحَاوَلَتِهِمْ مِنْهُ الْعُدُولَ عَنِ الطَّعْنِ فِي دينهم.
[١- ٢]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : الْآيَات ١ إِلَى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً
217
(٢)
افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِالْأَمْرِ بِالْقَوْلِ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ مَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهُ حَدَثٌ غَرِيبٌ وَخَاصَّةً بِالنِّسْبَةِ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ مَظِنَّةُ التَّكْذِيبِ بِهِ كَمَا يَقْتَضِيِهِ قَوْلُهُ: كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً [الْجِنّ: ٧] حَسْبَمَا يَأْتِي.
أَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُعْلِمَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرَهُمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ وُقُوعَ حَدَثٍ عَظِيمٍ فِي دَعْوَتِهِ أَقَامَهُ الله تكريما لنبيئه وَتَنْوِيهًا بِالْقُرْآنِ وَهُوَ أَنْ سَخَّرَ بَعْضًا مِنَ النَّوْعِ الْمُسَمَّى جِنًّا لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَأَلْهَمَهُمْ أَوْ عَلَّمَهُمْ فَهْمَ مَا سَمِعُوهُ وَاهْتِدَاءَهُمْ إِلَى مِقْدَارِ إِرْشَادِهِ إِلَى الْحَقِّ وَالتَّوْحِيدِ وَتَنْزِيِهِ اللَّهِ وَالْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ فَكَانَتْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ فِي أُصُولِهَا بَالِغَةً إِلَى عَالَمٍ مِنَ الْعَوَالِمِ الْمُغَيَّبَةِ لَا عَلَاقَةَ لِمَوْجُودَاتِهِ بِالتَّكَالِيفِ وَلَا بِالْعَقَائِدِ بَلْ هُوَ عَالَمٌ مَجْبُولٌ أَهْلُهُ عَلَى مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ لَا يَعْدُو أَحَدُهُمْ فِي مُدَّةِ الدُّنْيَا جِبِلَّتَهُ فَيَكُونُ عَلَى مِعْيَارِهَا مَصِيرُهُ الْأَبَدِيُّ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَبْعَثْ إِلَيْهِمْ بِشَرَائِعَ.
وَقَدْ كَشَفَ اللَّهُ لِهَذَا الْفَرِيقِ مِنْهُمْ حَقَائِقَ مِنْ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ وَهَدْيِهِ فَفَهِمُوهُ.
هَذَا الْعَالَمُ هُوَ عَالَمُ الْجِنِّ وَهُوَ بِحَسَبِ مَا يُسْتَخْلَصُ مِنْ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَمِنْ صِحَاحِ الْأَخْبَارِ النَّبَوِيَّةِ وَحَسَنِهَا نَوْعٌ مِنَ الْمُجَرَّدَاتِ أَعْنِي الْمَوْجُودَاتِ اللَّطِيفَةَ غَيْرَ الْكَثِيفَةِ، الْخَفِيَّةَ عَنْ حَاسَّةِ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ، مُنْتَشِرَةٌ فِي أَمْكِنَةٍ مَجْهُولَةٍ لَيْسَتْ عَلَى سَطْحِ الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاوَاتِ بَلْ هِيَ فِي أَجْوَاءٍ غَيْرِ مَحْصُورَةٍ وَهِيَ مِنْ مَقُولَةِ الْجَوْهَرِ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُجَرَّدَاتِ أَيْ لَيْسَتْ أَجْسَامًا وَلَا جُسْمَانِيَّاتٍ بَلْ هِيَ مَوْجُودَاتٌ رُوحَانِيَّةٌ مَخْلُوقَةٌ مِنْ عُنْصُرٍ نَارِيٍّ وَلَهَا حَيَاةٌ وَإِرَادَةٌ وَإِدْرَاكٌ خَاصٌّ بِهَا لَا يُدْرَى مَدَاهُ. وَهَذِه المجردات الناوية جِنْسٌ مِنْ أَجْنَاسِ الْجَوَاهِرِ تَحْتَوِي عَلَى الْجِنِّ وَعَلَى الشَّيَاطِينِ فهما نَوْعَانِ لنجس الْمُجَرَّدَاتِ النَّارِيَّةِ لَهَا إِدْرَاكَاتٌ خَاصَّةٌ وَتَصَرُّفَاتٌ مَحْدُودَةٌ وَهِيَ مُغَيَّبَةٌ عَنِ الْأَنْظَارِ مُلْحَقَةٌ بِعَالَمِ الْغَيْبِ لَا تَرَاهَا الْأَبْصَارُ وَلَا تُدْرِكُهَا أَسْمَاعُ النَّاسِ إِلَّا إِذَا أَوْصَلَ اللَّهُ الشُّعُورَ بِحَرَكَاتِهَا وَإِرَادَاتِهَا إِلَى الْبَشَرِ عَلَى وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ خَرْقًا لِلْعَادَةِ لِأَمْرٍ قَضَاهُ اللَّهُ وَأَرَادَهُ.
وَبِتَعَاضُدِ هَذِهِ الدَّلَائِلِ وَتَنَاصُرِهَا وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَا يَعْدُو أَنَّهُ ظَنِّيُّ الدَّلَالَةِ وَهِيَ ظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ، أَوْ ظَنِّيُّ الْمَتْنِ وَالدَّلَالَةِ وَهِيَ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، حَصَلَ مَا يَقْتَضِي الِاعْتِقَادَ بِوُجُودِ مَوْجُودَاتٍ خَفِيَّةٍ تُسَمَّى الْجِنَّ فَتُفَسَّرُ بِذَلِكَ مَعَانِي آيَاتٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَخْبَارٍ مِنَ السُّنَّةِ.
218
وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي أُصُولِ عَقِيدَةِ الْإِسْلَامِ وَلِذَلِكَ لَمْ نُكَفِّرْ مُنْكِرِي وُجُودِ مَوْجُودَاتٍ مُعَيَّنَةٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ إِذْ لَمْ تَثْبُتْ حَقِيقَتُهَا بِأَدِلَّةٍ قَطْعِيَّةٍ، بِخِلَافِ حَالِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ ذِكْرَ الْجِنِّ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِآيَاتِ ذِكْرِهِ.
وَأَمَّا مَا يُرْوَى فِي الْكُتُبِ مِنْ أَخْبَارٍ جُزْئِيَّةٍ فِي ظُهُورِهِمْ لِلنَّاسِ وَإِتْيَانِهِمْ بِأَعْمَالٍ عَجِيبَةٍ فَذَلِكَ مِنَ الرِّوَايَاتِ الْخَيَالِيَّةِ.
وَإِنَّا لَمْ نَلْقَ أَحَدًا مِنْ أَثْبَاتِ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ لَقِينَاهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ رَأَى أَشْكَالَهُمْ أَوْ آثَارَهُمْ وَمَا نَجِدُ تِلْكَ الْقِصَصَ إِلَّا عَلَى أَلْسِنَةِ الَّذِينَ يُسْرِعُونَ إِلَى التَّصْدِيقِ بِالْأَخْبَارِ أَوْ تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ التَّخَيُّلَاتُ.
وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ وَلَكِنَّهُ مِمَّا يُضْرَبُ لَهُ مَثْلُ قَوْلِ الْمَعَرِّيِّ:
وَمِثْلُكِ مَنْ تَخَيَّلَ ثُمَّ خَالَا فَظُهُورُ الْجِنِّ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَاتٍ كَمَا فِي حَدِيثِ الْجِنِّيِّ الَّذِي تَفَلَّتَ لِيُفْسِدَ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ
هُوَ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ مِثْلَ رُؤْيَتِهِ الْمَلَائِكَةَ وَرُؤْيَتِهِ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ فِي حَائِطِ الْقِبْلَةِ وَظُهُورِ الشَّيْطَانِ لِأَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِ زَكَاةِ الْفِطْرِ.
وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ الْجِنِّ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠٠]، وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٧٩].
وَالَّذِينَ أَمَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِخَبَرِ الْجِنِّ: هُمْ جَمِيعُ النَّاسِ الَّذِينَ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَلِّغُهُمُ الْقُرْآنَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ أَرَادَ اللَّهُ إِبْلَاغَهُمْ هَذَا الْخَبَرَ لِمَا لَهُ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى شَرَفِ هَذَا الدِّينِ وَشَرَفِ كِتَابِهِ وَشَرَفِ مَنْ جَاءَ بِهِ، وَفِيهِ إِدْخَالُ مَسَرَّةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَتَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانَ الْجِنُّ قَدْ أَدْرَكُوا شَرَفَ الْقُرْآنِ وَفَهِمُوا مَقَاصِدَهُ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ لُغَتَهُ وَلَا يُدْرِكُونَ بَلَاغَتَهُ فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ، وَالَّذين جَاءَهُم بِلِسَانِهِمْ وَأَدْرَكُوا خَصَائِصَ بَلَاغَتِهِ أَنْكَرُوهُ وَأَعْرَضُوا عَنْهُ.
وَفِي الْإِخْبَارِ عَنْ اسْتِمَاعِ الْجِنِّ لِلْقُرْآنِ بِأَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ مَا عَلِمَ بِذَلِكَ إِلَّا بِإِخْبَارِ اللَّهِ إِيَّاهُ بِوُقُوعِ هَذَا الِاسْتِمَاعِ، فَالْآيَةُ تَقْتَضِي أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمْ بِحُضُورِ الْجِنِّ لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَأَمَّا آيَةُ الْأَحْقَافِ [٢٩] وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ
219
الْآيَاتِ فَتَذْكِيرٌ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَوْ هِيَ إِشَارَةٌ إِلَى قِصَّةٍ أُخْرَى رَوَاهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَهِيَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» فِي أَحَادِيثِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَوَاتِ وَلَا عَلَاقَةَ لَهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فِي مَوْضِعِ نَائِبِ فَاعِلِ أُوحِيَ أَيْ أُوحِيَ إِلَيَّ اسْتِمَاعُ نَفَرٍ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ الْمُوحَى بِحَرْفِ (أَنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ لِغَرَابَتِهِ.
وَضَمِيرُ أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وَفِي ذَلِكَ زِيَادَةُ اهْتِمَامٍ بِالْخَبَرِ الْمُوحَى بِهِ.
وَمَفْعُولُ اسْتَمَعَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً، أَيْ اسْتَمَعَ الْقُرْآنَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ.
وَالنَّفَرُ: الْجَمَاعَةُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى عَشَرَةٍ وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْبَشَرِ فَأُطْلِقَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنَ الْجِنِّ عَلَى وَجْهِ التَّشْبِيهِ إِذْ لَيْسَ فِي اللُّغَةِ لَفْظٌ آخَرُ كَمَا أُطْلِقَ رِجَالٌ فِي قَوْلِهِ:
يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الْجِنِّ: ٦] عَلَى شُخُوصِ الْجِنِّ. وَقَوْلُهُمْ: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً قَالُوهُ لِبَعْضٍ مِنْهُمْ لَمْ يَحْضُرْ لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُنْذِرُوهُمْ وَيُرْشِدُوهُمْ إِلَى
الصَّلَاحِ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ [٢٩، ٣٠] وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قالُوا يَا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً الْآيَاتِ.
وَمَعْنَى الْقَوْلِ هُنَا: إِبْلَاغُ مُرَادِهِمْ إِلَى مَنْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَلِّغُوهُ إِلَيْهِمْ مِنْ نَوْعِهِمْ بِالْكَيْفِيَّةِ الَّتِي يَتَفَاهَمُونَ بِهَا، إِذْ لَيْسَ لِلْجِنِّ أَلْفَاظٌ تَجْرِي عَلَى الْأَلْسُنِ فِيمَا يَظْهَرُ، فَالْقَوْلُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلتَّعْبِيرِ عَمَّا فِي النَّفْسِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ [النَّمْل:
١٨] فَيَكُونُ ذَلِكَ تَكْرِيمًا لِهَذَا الدِّينِ أَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ دُعَاةً مِنَ الثَّقَلَيْنِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلًا نَفْسِيًّا، أَيْ خَوَاطِرَ جَالَتْ فِي مُدْرَكَاتِهِمْ جَوَلَانَ الْقَوْلِ الَّذِي يَنْبَعِثُ عَنْ إِرَادَةِ صَاحِبِ الْإِدْرَاكِ بِهِ إِبْلَاغَ مُدْرَكَاتِهِ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ مِثْلَ ذَلِكَ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْقَوْلِ كَمَا فِي بَيْتِ النَّابِغَةِ يَتَحَدَّثُ عَنْ كَلْبِ صَيْدٍ:
220
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ [المجادلة: ٨].
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (أَنَّ) لِأَنَّهُمْ أَخْبَرُوا بِهِ فَرِيقًا مِنْهُمْ يَشُكُّونَ فِي وُقُوعِهِ فَأَتَوْا فِي كَلَامِهِمْ بِمَا يُفِيدُ تَحْقِيقَ مَا قَالُوهُ وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْ مِثْلِهِ فِي الْعَرَبِيَّةِ بِحَرْفِ (إِنَّ).
وَوَصْفُ الْقُرْآنِ بِالْعَجَبِ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي قُوَّةِ الْمَعْنَى، أَيْ يَعْجَبُ مِنْهُ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ بَدِيعٌ فَائِقٌ فِي مُفَادِهِ.
وَقَدْ حَصَلَ لَهُمُ الْعِلْمُ بِمَزَايَا الْقُرْآنِ بِانْكِشَافٍ وَهَبَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ. قَالَ الْمَازِرِيُّ فِي «شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ» «لَا بُدَّ لِمَنْ آمَنَ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ أَنْ يَعْلَمَ حَقِيقَةَ الْإِعْجَازِ وَشُرُوطَ الْمُعْجِزَةِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَقَعُ الْعِلْمُ بِصِدْقِ الرَّسُولِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْجِنُّ قَدْ عَلِمُوا ذَلِكَ أَوْ عَلِمُوا مِنْ كُتُبِ الرُّسُلِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا دَلَّهُمْ عَلَى أَنَّهُ هُوَ النَّبِيءُ الْأُمِّيُّ الصَّادِقُ الْمُبَشَّرُ بِهِ» اهـ.
وَأَنَا أَقُولُ: حَصَلَ لِلْجِنِّ عِلْمٌ جَدِيدٌ بِذَلِكَ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ لِأَدِلَّةٍ كَانُوا لَا يَشْعُرُونَ بِهَا إِذْ لَمْ يَكُونُوا مُطَالَبِينَ بِمَعْرِفَتِهَا، وَأَنَّ فَهْمَهُمْ لِلْقُرْآنِ مِنْ قَبِيلِ الْإِلْهَامِ خَلَقَهُ اللَّهُ فِيهِمْ عَلَى وَجْهِ خَرْقِ الْعَادَةِ كَرَامَةً لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْقُرْآنِ.
وَالْإِيمَانُ بِالْقُرْآنِ يَقْتَضِي الْإِيمَانَ بِمَنْ جَاءَ بِهِ وَبِمَنْ أَنْزَلَهُ وَلِذَلِكَ قَالُوا وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً.
وَقَدْ حَصَلَ لِهَؤُلَاءِ النَّفَرِ مِنَ الْجِنِّ شَرَفُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَصِدْقِ الْقُرْآنِ وَمَا احْتَوَى عَلَيْهِ مَا سَمِعُوهُ مِنْهُ فَصَارُوا مِنْ خِيرَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأُكْرِمُوا بِالْفَوْزِ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ فَلَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ ذَرَأَ اللَّهُ لِجَهَنَّمَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
وَمُتَعَلِّقُ اسْتَمَعَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً.
والرُّشْدِ: بِضَمِّ الرَّاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ (أَوْ يُقَالُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَفَتْحِ الشِّينِ) هُوَ الْخَيْرُ وَالصَّوَابُ وَالْهُدَى. وَاتَّفَقَتِ الْقِرَاءَاتُ الْعَشْرُ عَلَى قِرَاءَتِهِ بِضَمٍّ فَسُكُونٍ.
وَقَوْلُهُمْ: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً، أَيْ يَنْتَفِي ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ وَلِذَلِكَ أَكَّدُوا نَفْيَ الْإِشْرَاكِ بِحَرْفِ التَّأْبِيدِ فَكَمَا أُكِّدَ خَبَرُهُمْ عَنِ الْقُرْآنِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ بِ (إِنَّ) أُكِّدَ خَبَرُهُمْ عَنْ إِقْلَاعِهِمْ عَنِ الْإِشْرَاكِ ب لَنْ.
221

[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : آيَة ٣]

وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣)
هَذَا مَحْكِيٌّ عَنْ كَلَامِ الْجِنِّ، قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِكَسْرِ هَمْزَةِ أَنَّهُ عَلَى اعْتِبَارِهِ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [الْجِنّ: ١] إِذْ يَجِبُ كَسْرُ هَمْزَةِ (إِنَّ) إِذَا حُكِيَتْ بِالْقَوْلِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَآمَنَّا بِهِ [الْجِنّ: ٢] أَيْ وَآمَنَّا بِأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا. وَعَدَمُ إِعَادَةِ الْجَارِّ مَعَ الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْحَرْفِ مُسْتَعْمَلٌ، وَجَوَّزَهُ الْكُوفِيُّونَ، عَلَى أَنَّ حَرْفَ الْجَرِّ كَثِيرٌ حَذْفُهُ مَعَ (أَنَّ) فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي حَذْفِهِ هُنَا على هَذَا التَّأْوِيلِ.
قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : أَنَّهُ اسْتَمَعَ [الْجِنّ: ١] بِالْفَتْحِ لِأَنَّهُ فَاعِلُ أُوحِيَ (أَيْ نَائِبُ الْفَاعِلِ) وإِنَّا سَمِعْنا بِالْكَسْرِ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ مَحْكِيٌّ بَعْدَ الْقَوْلِ ثُمَّ تُحْمَلُ عَلَيْهِمَا الْبَوَاقِي فَمَا كَانَ مِنَ الْوَحْيِ فُتِحَ وَمَا كَانَ مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ كُسِرَ، وَكُلُّهُنَّ مِنْ قَوْلِهِمْ، إِلَّا الثِّنْتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ:
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الْجِنّ: ١٨]، وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ [الْجِنّ: ١٩] وَمَنْ فَتَحَ كُلَّهُنَّ فَعَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُور فِي فَآمَنَّا بِهِ [الْجِنّ: ٢] كَأَنَّهُ قِيلَ: صَدَّقْنَاهُ وَصَدَّقْنَا أَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا، وَكَذَلِكَ الْبَوَاقِي اهـ.
وَالتَّعَالِي: شِدَّةُ الْعُلُوِّ، جُعِلَ شَدِيدَ الْعُلُوِّ كَالْمُتَكَلِّفِ الْعُلُوِّ لِخُرُوجِ عُلُوِّهُ عَنْ غَالِبِ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ فَأَشْبَهَ التَّكَلُّفَ.
وَالْجَدُّ: بِفَتْحِ الْجِيمِ الْعَظَمَةُ وَالْجَلَالُ، وَهَذَا تَمْهِيدٌ وَتَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً، لِأَنَّ اتِّخَاذَ الصَّاحِبَةِ لِلِافْتِقَارِ إِلَيْهَا لِأُنْسِهَا وَعَوْنِهَا وَالِالْتِذَاذِ بِصُحْبَتِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ آثَارِ الِاحْتِيَاجِ، وَاللَّهُ تَعَالَى الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ، وَتَعَالَى جَدُّهُ بِغِنَاهُ الْمُطْلَقِ، وَالْوَلَدُ يُرْغَبُ فِيهِ لِلِاسْتِعَانَةِ وَالْأُنْسِ بِهِ، مَعَ مَا يَقْتَضِيهِ مِنِ انْفِصَالِهِ مِنْ أَجْزَاءِ وَالِدَيْهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الِافْتِقَارِ وَالِانْتِقَاصِ.
وَضَمِيرُ أَنَّهُ ضَمِيرُ شَأْنٍ وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا.
وَجُمْلَةُ مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً إِلَى آخِرِهَا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ تَعالى جَدُّ رَبِّنا.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) سَوَاءٌ كَانَتْ مَكْسُورَةً أَوْ مَفْتُوحَةً لِأَنَّهُ مَسُوقٌ إِلَى فَرِيقٍ يَعْتَقِدُونَ خِلَافَ ذَلِكَ مِنَ الْجِنِّ.
وَالِاقْتِصَارُ فِي بَيَانِ تَعَالِي جَدِّ اللَّهِ عَلَى انْتِفَاءِ الصَّاحِبَةِ عَنهُ وَالْولد ينبىء بِأَنَّهُ كَانَ شَائِعًا فِي عِلْمِ الْجِنِّ مَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ مِنْ سَرَوَاتِ الْجِنِّ وَمَا اعْتِقَادُ الْمُشْركين إلّا ناشىء عَنْ تَلْقِينِ الشَّيْطَانِ وَهُوَ مِنَ الْجِنِّ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا سَمِعُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحَانَهُ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٠١].
وَإِعَادَةُ لَا النَّافِيَةِ مَعَ الْمَعْطُوفِ لِلتَّأْكِيدِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْمَعْطُوفَ مَنْفِيٌّ بِاسْتِقْلَالِهِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ نَفْيِ الْمَجْمُوعِ.
وَضَمِيرُ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: رَبِّنا عَائِدٌ إِلَى كُلِّ مُتَكَلِّمٍ مَعَ تَشْرِيكِ غَيْرِهِ، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الْجِنِّ فَهُوَ قَوْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَقِيَّة النَّفر.
[٤]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : آيَة ٤]
وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (٤)
قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِكَسْرَةِ هَمْزَةِ وَأَنَّهُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا [الْجِنّ: ٣] فَقَدْ يَكُونُ إِيمَانُهُمْ بِتَعَالِي اللَّهِ عَنْ أَنْ يَتَّخِذَ صَاحِبَةً وَوَلَدًا نَاشِئًا عَلَى مَا سَمِعُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَقَدْ يَكُونُ نَاشِئًا عَلَى إِدْرَاكِهِمْ ذَلِكَ بِأَدِلَّةٍ نَظَرِيَّةٍ.
وَالسَّفِيهُ: هُنَا جِنْسٌ، وَقِيلَ: أَرَادُوا بِهِ إِبْلِيسَ، أَيْ كَانَ يُلَقِّنُهُمْ صِفَاتِ اللَّهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ، أَيْ كَانُوا يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ شَطَطًا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِتَسْفِيهِهِمْ فِي ذَلِكَ.
وَالشَّطَطُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ وَمَا يَخْرُجُ عَنِ الْعَدْلِ وَالصَّوَابِ، وَتَقَدَّمُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلا تُشْطِطْ فِي سُورَةِ ص [٢٢]. وَالْمُرَادُ بِالشَّطَطِ إِثْبَاتُ مَا نَفَاهُ قَوْلُهُ: وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [الْجِنّ: ٢] وَقَوْلُهُ: مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً [الْجِنّ: ٣] وَضَمِيرُ وَأَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ.
وَالْقَوْلُ فِيهِ وَفِي التَّأْكِيدِ بِ (إِنَّ) مَكْسُورَةً أَوْ مَفْتُوحَةً كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا [الْجِنّ: ٣] إِلَخ.

[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : آيَة ٥]

وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (٥)
قَرَأَ هَمْزَةَ إِنَّ بِالْكَسْرِ الْجُمْهُورُ وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَقَرَأَهَا بِالْفَتْحِ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ.
فَعَلَى قِرَاءَةِ كَسْرِ (إِنَّ) هُوَ مِنَ الْمَحْكِيِّ بِالْقَوْلِ، وَمَعْنَاهُ الِاعْتِذَارُ عَمَّا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُمْ:
فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً [الْجِنّ: ٢] مِنْ كَوْنِهِمْ كَانُوا مُشْرِكِينَ لِجَهْلِهِمْ وَأَخْذِهِمْ قَوْلَ سُفَهَائِهِمْ يَحْسَبُونَهُمْ لَا يَكْذِبُونَ عَلَى اللَّهِ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ إِنَّ لِقَصْدِ تَحْقِيقِ عُذْرِهِمْ فِيمَا سَلَفَ مِنَ الْإِشْرَاكِ، وَتَأْكِيدِ الْمَظْنُونِ بِ لَنْ المفيدة لتأييد النَّفْيِ يُفِيدُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَوَغِّلِينَ فِي حُسْنِ ظَنِّهِمْ بِمَنْ ضَلَّلُوهُمْ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظَّنَّ هُنَا بِمَعْنَى الْيَقِينِ وَهُوَ يَقِينٌ مُخْطِئٌ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ هُوَ عَطْفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَآمَنَّا بِهِ [الْجِنّ: ٢] فَالْمَعْنَى: وَآمَنَّا فَإِنَّمَا ظَنَنَّا ذَلِكَ فَأَخْطَأْنَا فِي ظَنِّنَا.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةَ إِشَارَةٌ إِلَى خَطَرِ التَّقْلِيدِ فِي الْعَقِيدَةِ، وَأَنَّهَا لَا يَجُوزُ فِيهَا الْأَخْذُ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُقَلَّدِ بِفَتْحِ اللَّامِ بَلْ يَتَعَيَّنُ النَّظَرُ وَاتِّهَامُ رَأْيِ الْمُقَلَّدِ حَتَّى يَنْهَضَ دَلِيلُهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَقُولَ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ الْوَاوِ. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالْوَاوُ مُشَدَّدَةٌ، مِنَ التَّقَوُّلِ وَهُوَ نِسْبَةُ كَلَامٍ إِلَى مَنْ لَمْ يَقُلْهُ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْكَذِبِ وَأَصْلُهُ تَتَقَوَّلُ بِتَاءَيْنِ فَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ يَكُونُ كَذِباً مَصْدَرًا مُؤَكِّدًا لِفِعْلِ تَقُولَ لِأَنَّهُ مرادفه.
[٦]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : آيَة ٦]
وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦)
قَرَأَ الْجُمْهُورُ هَمْزَةَ وَأَنَّهُ بِالْكَسْرِ. وَقَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَأَبُو
وجعفر وَخَلَفٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفًا عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ هُوَ قَوْلُهُ: فَزادُوهُمْ رَهَقاً وَأَمَّا قَوْلُهُ: كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ إِلَخْ، فَهُوَ تَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهُ.
وَإِطْلَاقُ الرِّجَالِ عَلَى الْجِنِّ عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ وَالْمُشَاكَلَةِ لِوُقُوعِهِ مَعَ رِجَالٍ مِنَ الْإِنْسِ فَإِنَّ الرَّجُلَ اسْمٌ لِلذَّكَرِ الْبَالِغِ مِنْ بَنِي آدَمَ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) مَكْسُورَةً أَوْ مَفْتُوحَةً رَاجِعٌ إِلَى مَا تَفَرَّعَ عَلَى خَبَرِهَا مِنْ قَوْلِهِمْ فَزادُوهُمْ رَهَقاً.
وَالْعَوْذُ: الِالْتِجَاءُ إِلَى مَا يُنْجِي مِنْ شَيْءٍ يَضُرُّ، قَالَ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٩٧]، فَإِذَا حُمِلَ الْعَوْذَ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ يَلْتَجِئُونَ إِلَى الْجِنِّ لِيَدْفَعَ الْجِنُّ عَنْهُمْ بَعْضَ الْأَضْرَارِ فَوَقَعَ تَفْسِيرُ ذَلِكَ بِمَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا سَارَ أَحَدُهُمْ فِي مَكَانٍ قَفْرٍ وَوَحْشٍ أَوْ تَعَزَّبَ فِي الرَّعْيِ كَانُوا يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ الْجِنَّ تَسْكُنُ الْقَفْرَ وَيَخَافُونَ تَعَرُّضَ الْجِنِّ وَالْغِيلَانِ لَهُمْ وَعَبَثَهَا بِهِمْ فِي اللَّيْلِ فَكَانَ الْخَائِفُ يَصِيحُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا عَزِيزَ هَذَا الْوَادِي إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ السُّفَهَاءِ الَّذِينَ فِي طَاعَتِكَ، فَيَخَالُ أَنَّ الْجِنِّيَّ الَّذِي بِالْوَادِي يَمْنَعُهُ، قَالُوا: وَأَوَّلُ مَنْ سَنَّ ذَلِكَ لَهُمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ثُمَّ بَنُو حَنِيفَةَ ثُمَّ فَشَا ذَلِكَ فِي الْعَرَبِ وَهِيَ أَوْهَامٌ وَتَخَيُّلَاتٌ.
وَزَعَمَ أَهْلُ هَذَا التَّفْسِيرِ أَنَّ مَعْنَى فَزادُوهُمْ رَهَقاً أَنَّ الْجِنَّ كَانُوا يَحْتَقِرُونَ الْإِنْسَ بِهَذَا الْخَوْفِ فَكَانُوا يُكْثِرُونَ مِنَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ وَالتَّخَيُّلِ إِلَيْهِمْ فَيَزْدَادُونَ بِذَلِكَ مَخَافَةً.
وَالرَّهَقُ: الذُّلُّ.
وَالَّذِي أَخْتَارُهُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْعَوْذَ هُنَا هُوَ الِالْتِجَاءُ إِلَى الشَّيْء والالتفات حَوْلَهُ.
وَأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَانَ قَوْمٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ اتِّقَاءَ شَرِّهَا. وَمَعْنَى فَزادُوهُمْ رَهَقاً فَزَادَتْهُمْ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ ضَلَالًا. وَالرَّهَقُ: يُطْلَقُ على الْإِثْم.
[٧]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : آيَة ٧]
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (٧)
قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَوَافَقَهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ هَمْزَةِ وَأَنَّهُمْ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَلَى اعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا [الْجِنّ: ٣].
وَالْمَعْنَى: أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْإِنْسِ ظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَبْعَثُ أَحَدًا، أَوْ وَأَنَّا آمَنَّا بِأَنَّهُمْ ظَنُّوا
كَمَا ظَنَنْتُمْ إِلَخْ، أَيْ آمَنَّا بِأَنَّهُمْ أَخْطَأُوا فِي ظَنِّهِمْ.
وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) الْمَكْسُورَةِ أَوِ الْمَفْتُوحَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ لِغَايَتِهِ. وَالْبَعْثُ يَحْتَمِلُ بَعْثَ الرُّسُلِ وَيَحْتَمِلُ بَعْثَ الْأَمْوَاتِ لِلْحَشْرِ، أَيْ حَصَلَ لَهُمْ مِثْلَمَا حَصَلَ لَكُمْ من إِنْكَار الْحَشْر وَمن إِنْكَارِ إِرْسَالِ الرُّسُلِ.
وَالْإِخْبَارُ عَنْ هَذَا فِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ فَسَادَ اعْتِقَادِهِمْ تَجَاوَزَ عَالَمَ الْإِنْسِ إِلَى عَالَمِ الْجِنِّ.
وَجُمْلَةُ كَما ظَنَنْتُمْ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ ظَنُّوا وَمَعْمُولِهِ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ يَقُولُ الْجِنُّ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ يُشَبِّهُونَ كُفَّارَهُمْ بِكُفَّارِ الْإِنْسِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُخَاطَبِ بِهِ الْمُشْرِكُونَ الَّذِي أَمَرَ رَسُولَهُ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ، وَهَذَا الْوَجْهُ يَتَعَيَّنُ إِذَا جَعَلْنَا الْقَوْلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا [الْجِنّ:
١] عِبَارَةً عَمَّا جَالَ فِي نُفُوسِهِمْ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ هُنَالِكَ.
وأَنْ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ لَنْ يَبْعَثَ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ.
وَجُمْلَةُ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً خَبَرُهُ. وَالتَّعْبِيرُ بِحَرْفِ تَأْبِيدِ النَّفْيِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا غَيْرَ مُتَرَدِّدِينَ فِي إِحَالَةِ وُقُوع الْبَعْث.
[٨- ٩]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩)
قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَوَافَقَهُمْ أَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفًا عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِهِ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ هُوَ قَوْلُهُ: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وَالتَّأْكِيدُ بِ (إِنَّ) فِي قَوْلِهِمْ: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ لِغَرَابَةِ الْخَبَرِ بِاعْتِبَارِ مَا يَلِيهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ إِلَخْ.
226
وَاللَّمْسُ: حَقِيقَتُهُ الْجَسُّ بِالْيَدِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى اخْتِبَارِ أَمْرٍ لِأَنَّ إِحْسَاسَ الْيَدِ أَقْوَى إِحْسَاسٍ، فَشبه بِهِ الِاخْتِيَار عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ كَمَا أُطْلِقَ مُرَادِفُهُ وَهُوَ الْمَسُّ عَلَى الِاخْتِبَارِ فِي قَوْلِ يَزِيدَ بْنِ الْحَكَمِ الْكِلَابِيِّ:
قَالَتْ لَهُ النَّفْسُ إِنِّي لَا أَرَى طَمَعًا وَإِنَّ مَوْلَاكَ لَمْ يَسْلَمْ وَلَمْ يَصِدِ
مَسَسْنَا مِنَ الْآبَاءِ شَيْئًا فَكُلُّنَا إِلَى نَسَبٍ فِي قَوْمِهِ غَيْرِ وَاضِعِ
أَيْ اخْتَبَرْنَا نَسَبَ آبَائِنَا وَآبَائِكُمْ فَكُنَّا جَمِيعًا كِرَامَ الْآبَاءِ.
ومُلِئَتْ: مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى كَثُرَ فِيهَا. وَحَقِيقَة الملء عمر فَرَاغِ الْمَكَانِ أَوِ الْإِنَاءِ بِمَا يَحُلُّ فِيهِ، فَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى كَثْرَةِ الشُّهُبِ وَالْحُرَّاسِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ.
وَالْحَرَسُ: اسْمُ جَمْعٍ لِلْحُرَّاسِ وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ مِثْلَ خَدَمٍ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْوَاحِدُ مِنْهُ بِالْحَرَسِيِّ. وَوُصِفَ بِشَدِيدٍ وَهُوَ مُفْرَدٌ نَظَرًا إِلَى لَفْظِ حَرَسٍ كَمَا يُقَالُ: السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَلَوْ نُظِرَ إِلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْآحَادِ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: شِدَادٌ. وَالطَّوَائِفُ مِنَ الْحَرَسِ أَحْرَاسٌ.
وَالشُّهُبُ: جَمْعُ شِهَابٍ وَهُوَ الْقِطْعَةُ الَّتِي تَنْفَصِلُ عَنْ بَعْضِ النُّجُومِ فَتَسْقُطُ فِي الْجَوِّ أَوْ فِي الْأَرْضِ أَوِ الْبَحْرِ وَتَكُونُ مُضَاءَةً عِنْدَ انْفِصَالِهَا ثمَّ يَزُول ضوؤها بِبُعْدِهَا عَنْ مُقَابَلَةِ شُعَاعِ الشَّمْسِ وَتُسَمَّى الْوَاحِدُ مِنْهَا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ نَيْزَكًا بِاسْمِ الرُّمْحِ الْقَصِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّنَا اخْتَبَرْنَا حَالَ السَّمَاءِ لِاسْتِرَاقِ السَّمْعِ فَوَجَدْنَاهَا كَثِيرَةَ الْحُرَّاسِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَكَثِيرَةَ الشُّهُبِ لِلرَّجْمِ، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الشُّهُبَ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ بَعْثِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ظَنَّهُ الْجَاحِظُ فَإِنَّ الْعَرَبَ ذَكَرُوا تَسَاقُطَ الشُّهُبِ فِي بَعْضِ شِعْرِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. كَمَا قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» وَذَكَرَ شَوَاهِدَهُ مِنَ الشِّعْرِ الْجَاهِلِيِّ.
نَعَمْ يُؤْخَذُ مِنْهَا أَنَّ الشُّهُبَ تَكَاثَرَتْ فِي مُدَّةِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ حِفْظًا لِلْقُرْآنِ مِنْ دَسَائِسِ الشَّيَاطِينِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْكَلَامُ تَوْطِئَةٌ وَتَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِمْ بَعْدَهُ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ إِلَى آخِرِهِ، إِذِ الْمَقْصُودُ أَنْ يُخْبِرُوا مَنْ لَا خَبَرَ عِنْدَهُ مِنْ نَوْعِهِمْ بِأَنَّهُمْ قَدْ تَبَيَّنُوا سَبَبَ شِدَّةِ حِرَاسَةِ السَّمَاءِ وَكَثْرَة الشهب، وَأما نفس الحراسة وَكَثْرَةِ الشُّهُبِ فَإِنَّ الْمُخْبَرِينَ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) يُشَاهِدُونَهُ.
227
وَقَوْلُهُ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ إِلَخْ قَرَأَهُ بِكَسْرِ الْهمزَة الَّذين قرأوا بِالْكَسْرِ قَوْلَهُ: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ وَبِفَتْحِ الْهمزَة الَّذين قرأوا بِالْفَتْحِ وَهَذَا مِنْ تَمَامِ قَوْلِهِمْ:
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَإِنَّمَا أُعِيدَ مَعَهُ كَلِمَةُ وَأَنَّا لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْخَبَرَ الَّذِي تَضَمَّنُهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَأَنَّ مَا قَبْلَهُ كَالتَّوْطِئَةِ لَهُ فَإِعَادَةُ وَأَنَّا
تَوْكِيدٌ لَفْظِيٌّ.
وَحَقِيقَةُ الْقُعُودِ الْجُلُوسُ وَهُوَ ضِدُّ الْقِيَامِ، أَيْ هُوَ جَعْلُ النِّصْفِ الْأَسْفَلِ مُبَاشِرًا لِلْأَرْضِ مُسْتَقِرًّا عَلَيْهَا وَانْتِصَابُ النِّصْفِ الْأَعْلَى. وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي مُلَازَمَةِ الْمَكَانِ زَمَنًا طَوِيلًا لِأَنَّ مُلَازَمَةَ الْمَكَانِ مِنْ لَوَازِمِ الْقُعُودِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التَّوْبَة: ٥].
وَالْمَقَاعِدُ: جَمْعُ مَقْعَدٍ وَهُوَ مَفْعَلٌ لِلْمَكَانِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ الْقُعُودُ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى مَكَانِ الْمُلَازَمَةِ فَإِنَّ الْقُعُودَ يُطْلَقُ عَلَى مُلَازَمَةِ الْحُصُولِ كَمَا فِي قَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلسَّمْعِ لَامُ الْعِلَّةِ أَيْ لِأَجْلِ السَّمْعِ، أَيْ لِأَنْ نَسْمَعَ مَا يَجْرِي فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ مِنْ تَصَارِيفِ الْمَلَائِكَةِ بِالتَّكْوِينِ وَالتَّصْرِيفِ، وَلَعَلَّ الْجِنَّ مُنْسَاقُونَ إِلَى ذَلِكَ بِالْجِبِلَّةِ كَمَا تَنْسَاقُ الشَّيَاطِينُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ، وَضَمِيرُ مِنْها لِلسَّمَاءِ.
وَ (مِنْ) تَبْعِيضِيَّةٌ، أَيْ مِنْ سَاحَاتِهَا وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ نَقْعُدُ، وَلَيْسَ الْمَجْرُورُ حَالًا مِنْ مَقاعِدَ مُقَدَّمًا عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ السِّيَاقَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حَالِهِمْ فِي السَّمَاءِ فَالْعِنَايَةُ بِمُتَعَلِّقِ فِعْلِ الْقُعُودِ أَوْلَى، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ كَعْبٍ:
يَمْشِي الْقُرَادُ عَلَيْهَا ثُمَّ يُزْلِقُهُ مِنْهَا لَبَانٌ وَأَقْرَبُ زَهَالِيلُ
فَقَوْلُهُ (مِنْهَا) مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ (يُزْلِقُهُ) وَلَيْسَ حَالًا مِنْ (لَبَانٍ).
وَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ جَرَى عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ مَبْحَثٌ فِي مَبَاحِثِ فَصَاحَةِ الْكَلِمَاتِ نَسَبَهُ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي «الْمَثَلِ السَّائِرِ» إِلَى ابْنِ سِنَانٍ الْخَفَاجِيِّ فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ يَجِيءُ مِنَ الْكَلَامِ مَا مَعَهُ قَرِينُهُ فَأَوْجَبَ قُبْحَهُ كَقَوْلِ الرَّضِيِّ فِي رِثَاءِ الصَّابِي:
أَعْزِزْ عَلَيَّ بِأَنْ أَرَاكَ وَقَدْ خَلَا عَنْ جَانِبَيْكَ مَقَاعِدُ الْعُوَّادِ
فَإِنَّ إِيرَادَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ (أَيْ مَقَاعِدَ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ صَحِيحٌ إِلَّا أَنَّهُ يُوَافِقُ مَا
228
يُكْرَهُ ذِكْرُهُ لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَضَافَهُ إِلَى مَنْ يُحْتَمَلُ إِضَافَتُهُ (أَيْ مَا يُكْرَهُ) إِلَيْهِ وَهُمُ الْعُوَّادُ. وَلَوِ انْفَرَدَ لَكَانَ الْأَمْرُ فِيهِ سَهْلًا. قَالَ ابْنُ الْأَثِيرِ: هَذِهِ اللَّفْظَةُ الْمَعِيبَةُ فِي شِعْرِ الرَّضِيِّ قَدْ جَاءَتْ فِي الْقُرْآنِ فَجَاءَتْ حَسَنَةً مَرْضِيَّةً فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آل عمرَان:
١٢١] وَقَوْلِهِ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ غَيْرُ مُضَافَةٍ إِلَى مَنْ تَقْبُحُ إِضَافَتُهَا إِلَيْهِ وَلَوْ قَالَ الشَّاعِرُ بَدَلًا مِنْ مَقَاعِدِ الْعُوَّادِ مَقَاعِدَ الزِّيَارَةِ
لَزَالَتْ تِلْكَ الْهُجْنَةُ اهـ. وَأَقُولُ: إِنَّ لِمُصْطَلَحَاتِ النَّاسِ فِي اسْتِعْمَالِ الْكَلِمَاتِ أَثَرًا فِي وَقْعِ الْكَلِمَاتِ عِنْدَ الْأَفْهَامِ.
وَالْفَاءُ الَّتِي فُرِّعَتْ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً تَفْرِيعٌ عَلَى مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ فِعْلُ كُنَّا وترتب الشَّرْط وجزائه عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ: كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا (أَيْ مِنَ السَّمَاءِ) مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَنَسْتَمِعُ أَشْيَاءَ فَمَنْ يَسْتَمِعُ الْآنَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنَ السَّمَاعِ.
وَكَلِمَةُ الْآنَ مُقَابِلُ كَلِمَةِ كُنَّا، أَيْ كَانَ ذَلِكَ ثُمَّ انْقَضَى.
وَجِيءَ بِصِيغَةِ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ فِي التَّفْرِيعِ لِأَنَّ الْغَرَضَ تَحْذِيرُ إِخْوَانِهِمْ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلِاسْتِمَاعِ لِأَنَّ الْمُسْتَمِعَ يَتَعَرَّضُ لِأَذَى الشُّهُبِ.
وَالْجِنُّ لَا تَنْكُفُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ مُنْسَاقُونَ إِلَيْهِ بِالطَّبْعِ مَعَ مَا يَنَالُهُمْ مِنْ أَذَى الرَّجْمِ وَالِاحْتِرَاقِ، شَأْنَ انْسِيَاقِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَى مَا خُلِقَتْ لَهُ مِثْلَ تَهَافُتِ الْفَرَاشِ عَلَى النَّارِ، لِاحْتِمَالِ ضَعْفِ الْقُوَّةِ الْمُفَكِّرَةِ فِي الْجِنِّ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَيْهَا الشَّهْوَةُ، وَنَحْنُ نَرَى الْبَشَرَ يَقْتَحِمُونَ الْأَخْطَارَ وَالْمَهَالِكَ تَبَعًا لِلْهَوَى مِثْلَ مُغَامَرَاتِ الْهُوَاةِ فِي الْبِحَارِ وَالْجِبَال والثلوج.
وَوَقع شِهاباً فِي سِيَاقِ الشَّرْطِ يُفِيدُ الْعُمُومَ لِأَنَّ سِيَاقَ الشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ سِيَاقِ النَّفْيِ فِي إِفَادَةِ عُمُومِ النَّكِرَةِ.
وَالرَّصَدُ: اسْمُ جَمْعِ رَاصِدٍ وَهُوَ الْحَافِظُ لِلشَّيْءِ وَهُوَ وَصْفٌ لِ شِهاباً، أَيْ شُهُبًا رَاصِدَةً، وَوَصْفُهَا بِالرَّصَدِ اسْتِعَارَةٌ شُبِّهَتْ بِالْحُرَّاسِ الرَّاصِدِينَ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى انْقِرَاضِ الْكِهَانَةِ إِذِ الْكَاهِنُ يَتَلَقَّى مِنَ الْجِنِّيِّ أَنْبَاءً مُجْمَلَةً بِمَا يَتَلَقَّفُهُ الْجِنِّيُّ مِنْ خَبَرِ الْغَيْبِ تَلَقُّفَ اخْتِطَافٍ نَاقِصًا فَيُكْمِلُهُ الْكَاهِنُ بِحَدْسِهِ بِمَا يُنَاسِبُ مَجَارِيَ أَحْوَالِ قَوْمِهِ وَبَلَدِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «فَيَزِيدُ عَلَى تِلْكَ الْكَلِمَةِ مِائَةَ كِذْبَةٍ»
229
وَأَمَّا اتِّصَالُ نُفُوسِ الْكُهَّانِ بِالنُّفُوسِ الشَّيْطَانِيَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَنَاسُبٍ بَيْنَ النُّفُوسِ، وَمُعْظَمُهُ أَوْهَامٌ.
وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ»
. أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «كَانَ الْجِنُّ يَسْتَمِعُونَ الْوَحْيَ» (أَيْ وَحْيَ اللَّهِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ بِتَصَارِيفِ الْأُمُورِ) فَلَمَّا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنِعُوا، فَقَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ فَضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ يَتَحَسَّسُونَ السَّبَبَ فَلَمَّا وَجَدُوا رَسُولَ اللَّهِ قَائِمًا يُصَلِّي بِمَكَّةَ قَالُوا: هَذَا الَّذِي حَدَثَ فِي الْأَرْضِ فَقَالُوا لِقَوْمِهِمْ: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [الْجِنّ: ١] الْآيَةَ وَأنزل على نبيئه قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ
[الْجِنِّ: ١] وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ قَوْلُ الْجِنِّ اهـ.
وَلَعَلَّ كَيْفِيَّةَ حُدُوثِ رَجْمِ الْجِنِّ بِالشُّهُبِ كَانَ بِطَرِيقَةِ تَصْرِيفِ الْوَحْيِ إِلَى الْمَلَائِكَةِ فِي مَجَارٍ تَمُرُّ عَلَى مَوَاقِعِ انْقِضَاضِ الشُّهُبِ حَتَّى إِذَا اتَّصَلَتْ قُوَى الْوَحْيِ بِمَوْقِعِ أَحَدِ الشُّهُبِ انْفَصَلَ الشِّهَابُ بِقُوَّةِ مَا يَغُطُّهُ مِنَ الْوَحْيِ فَسَقَطَ مَعَ مَجْرَى الْوَحْيِ لِيَحْرُسَهُ مِنِ اقْتِرَابِ الْمُسْتَرِقِ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَى الْمَلَكِ الْمُوحَى إِلَيْهِ فَلَا يَجِدُ فِي طَرِيقِهِ قُوَّةً شَيْطَانِيَّةً أَوْ جِنِّيَّةً إِلَّا أَحْرَقَهَا وَبَخَّرَهَا فَهَلَكَتْ أَوِ اسْتُطِيرَتْ وَبِذَلِكَ بَطَلَتِ الْكِهَانَةُ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ الرسَالَة المحمدية.
[١٠]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : آيَة ١٠]
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠)
قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَعْنَى، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِفَتْحِهَا عَطْفًا عَلَى الْمَجْرُورِ وبالباء كَمَا تَقَدَّمَ فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَآمَنَّا بِأَنَّا انْتَفَى عِلْمُنَا بِمَا يُرَادُ بِالَّذِينَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ النَّاسِ، أَيْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَرِقُونَ عِلْمَ ذَلِكَ فَلَمَّا حُرِسَتِ السَّمَاءُ انْقَطَعَ عِلْمُهُمْ بِذَلِكَ. هَذَا تَوْجِيهُ الْقِرَاءَةِ بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّا وَمُحَاوَلَةُ غَيْرِ هَذَا تَكَلُّفٌ.
وَهَذِهِ نَتِيجَةٌ نَاتِجَةٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ [الْجِنّ: ٩] إِلَخْ لِأَنَّ ذَلِكَ السَّمْعَ كَانَ لِمَعْرِفَةِ مَا يَجْرِي بِهِ الْأَمْرُ مِنَ اللَّهِ لِلْمَلَائِكَةِ وَمِمَّا يُخْبِرُهُمْ بِهِ مِمَّا يُرِيدُ إِعْلَامَهُمْ بِهِ فَكَانُوا عَلَى عِلْمٍ مِنْ بَعْضِ مَا يَتَلَقَّفُونَهُ فَلَمَّا مُنِعُوا السَّمْعَ صَارُوا لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرُوا إِخْوَانَهُمْ بِهَذَا عَسَاهُمْ أَنْ يَعْتَبِرُوا بِأَسْبَابِ هَذَا التَّغَيُّرِ
فَيُؤْمِنُوا بِالْوَحْيِ الَّذِي حَرَسَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ قَبْلَ الَّذِي يُوحَى بِهِ إِلَيْهِ وَالَّذِي يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ.
فَحَاصِلُ الْمَعْنَى: إِنَّا الْآنَ لَا نَدْرِي مَاذَا أُرِيدَ بِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ شَرٍّ أَوْ خَيْرٍ بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَتَجَسَّسُ الْخَبَرَ فِي السَّمَاءِ.
وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِمَا سيقولونه من قَوْله: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ [الْجِنّ: ١١] ثُمَّ قَوْلِهِمْ:
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ [الْجِنّ: ١٢] ثُمَّ قَوْلِهِمْ: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ إِلَى قَوْله: كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الْجِنّ: ١٣- ١٥].
وَمَفْعُولُ نَدْرِي هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً وَهُوَ الَّذِي عَلَّقَ فِعْلَ نَدْرِي عَنِ الْعَمَلِ، وَالِاسْتِفْهَامُ حَقِيقِيٌّ وَعَادَةُ الْمُعْرِبِينَ لِمِثْلِهِ أَنْ يُقَدِّرُوا مَفْعُولًا يُسْتَخْلَصُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ تَقْدِيرُهُ: لَا نَدْرِي جَوَابَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ، وَذَلِكَ تَقْدِيرُ مَعْنًى لَا تَقْدِيرُ إِعْرَابٍ. هَذَا هُوَ تَفْسِيرُ الْآيَةَ عَلَى
الْمَعْنَى الْأَكْمَلِ وَهِيَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الْأَحْقَاف: ٩].
وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهَا فِيمَا نَرَى أَنَّهُمْ يَنْفُونَ أَنْ يَعْلَمُوا مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذِهِ الشُّهُبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِالْقُرْآنِ إِذْ قَالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الْجِنّ: ١، ٢] وَقَوْلُهُمْ: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الْجِنّ:
٩] فَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ يَدْرُونَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ خَيْرًا بِهَذَا الدِّينِ وَبِصَرْفِ الْجِنِّ عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ.
وَتَكْرِيرُ (إِنَّ) وَاسْمِهَا لِلتَّأْكِيدِ لِكَوْنِ هَذَا الْخَبَرِ مُعَرَّضًا لِشَكِّ السَّامِعِينَ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ لَمْ يَخْتَبِرُوا حِرَاسَةَ السَّمَاءِ.
وَالرَّشَدُ: إِصَابَةُ الْمَقْصُودِ النَّافِعِ وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِلْخَيْرِ، فَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ جُعِلَ مُقَابِلًا لِلشَّرِّ وَأُسْنِدَ فِعْلُ إِرَادَةِ الشَّرِّ إِلَى الْمَجْهُولِ وَلَمْ يُسْنَدْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ مُقَابِلَهُ أُسْنِدَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:
أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً، جَرْيًا عَلَى وَاجِبِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَحَاشِي إِسْنَادِ الشَّرّ إِلَيْهِ.
[١١]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : آيَة ١١]
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً
231
(١١)
قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِفَتْحِهَا وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ.
وَقِرَاءَةُ فَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ، أَيْ آمَنَّا بِأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ، أَيْ أَيْقَنَّا بِذَلِكَ وَكُنَّا فِي جَهَالَةٍ عَنْ ذَلِكَ.
ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ آثَارُ التَّوْفِيقِ فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ أَصْبَحُوا فَرِيقَيْنِ فَرِيقٌ صَالِحُونَ وَفَرِيقٌ لَيْسُوا بِصَالِحِينَ، وَهُمْ يَعْنُونَ بِالصَّالِحِينَ أَنْفُسَهُمْ وَبِمَنْ دُونَ الصَّلَاحِ بَقِيَّةُ نَوْعِهِمْ، فَلَمَّا قَامُوا مَقَامَ دَعْوَةِ إِخْوَانِهِمْ إِلَى اتِّبَاعِ طَرِيقِ الْخَيْرِ لَمْ يُصَارِحُوهُمْ بِنِسْبَتِهِمْ إِلَى الْإِفْسَادِ بَلْ أُلْهِمُوا وَقَالُوا مِنَّا الصَّالِحُونَ، ثُمَّ تَلَطَّفُوا فَقَالُوا: وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ، الصَّادِقُ بِمَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٍ فِي الشَّرِّ وَالْفَسَادِ لِيَتَطَلَّبَ الْمُخَاطَبُونَ دَلَائِلَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، عَلَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا لَهُمُ احْتِمَالَ أَنْ يُعْنَى بِالصَّالِحِينَ الْكَامِلُونَ فِي الصَّلَاحِ فَيَكُونُ الْمَعْنِيُّ بِمَنْ دُونَ ذَلِكَ مَنْ هُمْ دُونَ مَرْتَبَةِ الْكَمَالِ فِي الصَّلَاحِ، وَهَذَا مِنْ بَلِيغِ الْعِبَارَاتِ فِي الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الْخَيْرِ.
ودُونَ: اسْمٌ بِمَعْنَى (تَحْتَ)، وَهُوَ ضِدُّ فَوْقَ وَلِذَلِكَ كَثُرَ نَصْبُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ
الْمَكَانِيَّةِ، أَيْ فِي مَكَانٍ مُنْحَطٍّ عَنِ الصَّالِحِينَ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَمِنَّا فَرِيقٌ فِي مَرْتَبَةٍ دُونَهُمْ.
وَظَرْفِيَّةُ دُونَ مَجَازِيَّةٌ. وَوَقَعَ الظَّرْفُ هُنَا ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَحَلِّ الصِّفَةِ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَرِيقٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: ١٦٤] وَيَطَّرِدُ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ إِذَا كَانَ بَعْضَ اسْمٍ مَجْرُورٍ بِحَرْفِ (مِنْ) مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ وَكَانَتِ الصِّفَةُ ظَرْفًا كَمَا هُنَا، أَوْ جُمْلَةً كَقَوْلِ الْعَرَبِ: مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ.
وَقَوْلُهُ: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، شَبَّهَ تَخَالُفَ الْأَحْوَالِ وَالْعَقَائِدِ بِالطَّرَائِقِ تُفْضِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى مَكَانٍ لَا تُفْضِي إِلَيْهِ الْأُخْرَى.
وطَرائِقَ: جَمْعُ طَرِيقَةٍ، وَالطَّرِيقَةُ هِيَ الطَّرِيقُ، وَلَعَلَّهَا تَخْتَصُّ بِالطَّرِيقِ الْوَاسِعِ الْوَاضِحِ لِأَنَّ التَّاءَ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ دَارٍ وَدَارَةٍ، وَمِثْلَ مَقَامٍ وَمَقَامَةٍ، وَلِذَلِكَ شُبِّهَ بِهَا أَفْلَاكُ الْكَوَاكِبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١٧] وَوُصِفَتْ بِالْمُثْلَى فِي قَوْلِهِ: وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى [طه: ٦٣].
وَوَصْفُ طَرائِقَ بِ قِدَداً، وَهُوَ اسْمُ جَمْعِ قِدَّةٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ
232
الدَّالِ وَالْقِدَّةُ: الْقِطْعَةُ مِنْ جِلْدٍ وَنَحْوِهِ الْمَقْطُوعَةُ طُولًا كَالسَّيْرِ، شُبِّهَتِ الطَّرَائِقُ فِي كَثْرَتِهَا بِالْقِدَدِ الْمُقْتَطَعَةِ مِنَ الْجِلْدِ يَقْطَعُهَا صَانِعُ حِبَالِ الْقِدِّ كَانُوا يُقَيِّدُونَ بِهَا الْأَسْرَى.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِخْوَتَهُمْ إِلَى وَحْدَةِ الِاعْتِقَادِ بِاقْتِفَاءِ هُدَى الْإِسْلَامِ، فَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْرِيضِ بِذَمِّ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ الْقَوْمِ وَأَنَّ عَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَتَّحِدُّوا وَيَتَطَلَّبُوا الْحَقَّ لِيَكُونَ اتِّحَادُهُمْ عَلَى الْحَقِّ.
وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ فَائِدَةَ الْخَبَرِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَالتَّوْكِيدُ بِ (إِنَّ) مُتَوَجِّهٌ إِلَى الْمَعْنى التعريضي.
[١٢]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : آيَة ١٢]
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢)
قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ هَمْزَةِ وَأَنَّا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِفَتْحِهَا عَطْفًا عَلَى الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: فَآمَنَّا بِهِ [الْجِنّ: ٢]. وَالتَّقْدِير:
وءامنا بِأَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ. وَذِكْرُ فِعْلِ ظَنَنَّا تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِفِعْلِ «آمَنَّا» الْمُقَدَّرِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَقِينٌ وَأُطْلِقَ الظَّنُّ هُنَا عَلَى الْيَقِينِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ كَثِيرٌ.
لَمَّا كَانَ شَأْنُ الصَّلَاحِ أَنْ يَكُونَ مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَشَأْنُ ضِدِّهِ بِعَكْسِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسادَ [الْبَقَرَة: ٢٠٥] أَعْقَبُوا لِتَعْرِيضِ الْإِقْلَاعِ عَنْ ضِدِّ الصَّلَاحِ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَدَّ لِغَيْرِ الصَّالِحِينَ عِقَابًا فَأَيْقَنُوا أَنَّ عِقَابَ اللَّهِ لَا يفلت مِنْهُ أَحَدٍ اسْتَحَقَّهُ. وَقَدَّمُوهُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى [الْجِنّ: ١٣] الْآيَةَ، لِأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَالتَّخْلِيَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ، وَقَدِ اسْتَفَادُوا عِلْمَ ذَلِكَ مِمَّا سَمِعُوا مِنَ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ مِنْ قَبْلُ إِذْ لَمْ يَكُونُوا مُخَاطَبِينَ بِتَعْلِيمٍ فِي أُصُولِ الْعَقَائِدِ، فَلَمَّا أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ لِاسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا أُصُولَ الْعَقَائِدِ حَذَّرُوا إِخْوَانَهُمُ اعْتِقَادَ الشِّرْكِ وَوَصْفَ اللَّهِ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ الْبَاطِلَ لَا يُقِرُّهُ الْإِدْرَاكُ الْمُسْتَقِيمُ بَعْدَ تَنْبِيهِهِ لِبُطْلَانِهِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ هَذَا النَّفَرَ مِنَ الْجِنِّ نَذِيرًا لِإِخْوَانِهِمْ وَمُرْشِدًا إِلَى الْحَقِّ الَّذِي أَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ الْجِنَّ مُكَلَّفُونَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِها [الْأَعْرَاف: ١٧٩] الْآيَةَ فَقَدْ أَشَارَ إِلَى أَنَّ عِقَابَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَالْإِشْرَاكِ، أَوْ أُرِيدَ بِالْجِنِّ الشَّيَاطِينُ فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ مِنْ جِنْسِ الْجِنِّ.
وَالْإِعْجَازُ: جَعْلُ الْغَيْرِ عَاجِزًا أَيْ غَيْرَ قَادِرٍ عَنْ أَمْرٍ بِذِكْرٍ مَعَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْعَجْزِ وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِفْلَاتِ وَالنَّجَاةِ كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ الطَّائِيِّ:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْأَرْضَ رَحْبٌ فَسِيحَةٌ فَهَلْ تُعْجِزَنِّي بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِهَا
أَيْ لَا تَفُوتُنِي وَلَا تَخْرُجُ عَنْ مُكْنَتِي.
وَذِكْرُ فِي الْأَرْضِ يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْهَرَبِ فِي قَوْلِهِ: وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً الْهَرَبُ مِنَ الرَّجْمِ بِالشُّهُبِ، أَيْ لَا تَطْمَعُوا أَنْ تَسْتَرِقُوا السَّمْعَ فَإِنَّ رَجْمَ الشُّهُبِ فِي السَّمَاءِ لَا يُخْطِئُكُمْ، فَابْتَدَأُوا الْإِنْذَارَ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا اسْتِنْزَالًا لِقَوْمِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُعْجِزَ الْأَوَّلُ بِمَعْنَى مُغَالِبٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ [النَّحْل: ٤٦] أَيْ لَا يَغْلِبُونَ قُدْرَتَنَا، وَيَكُونُ فِي الْأَرْضِ مَقْصُودًا بِهِ تَعْمِيمُ الْأَمْكِنَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ [الشورى: ٣١]، أَيْ فِي مَكَانٍ كُنْتُمْ. وَالْمُرَادُ: أَنَّا لَا نَغْلِبُ اللَّهَ بِالْقُوَّةِ. وَيَكُونُ نُعْجِزَ الثَّانِي، بِمَعْنَى الْإِفْلَاتِ وَلِذَلِكَ بُيِّنَ بِ هَرَباً، وَالْهَرَبُ مَجَازٌ فِي الِانْفِلَاتِ مِمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِلْحَاقَهُ بِهِمْ مِنَ الرَّجْمِ وَالِاحْتِرَاقِ.
وَالظَّنُّ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْيَقِينِ بِقَرِينَةِ تَأْكِيدِ الْمَظْنُونِ بِحَرْفِ لَنْ الدَّالِّ عَلَى تَأْبِيدِ النَّفْي وتأكيده.
[١٣]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : آيَة ١٣]
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣)
قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِفَتْحِهَا عَطْفًا عَلَى الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: فَآمَنَّا بِهِ [الْجِنّ: ٢].
وَالْمَقْصُودُ بِالْعَطْفِ قَوْلُهُ: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً، وَأَمَّا جُمْلَةُ لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَتَوْطِئَةٌ لِذَلِكَ.
234
بَعْدَ أَنْ ذَكَّرُوا قَوْمَهُمْ بِعَذَابِ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا أَوِ اطْمَأَنُّوا بِتَذَكُّرِ ذَلِكَ فِي نُفُوسِهِمْ، عَادُوا إِلَى تَرْغِيبِهِمْ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ، وَتَحْذِيرِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ بِطَرِيقِ الْمَفْهُومِ. وَأُرِيدَ بِالْهُدَى الْقُرْآنُ إِذْ هُوَ الْمَسْمُوعُ لَهُمْ وَوَصَفُوهُ بِالْهُدَى لِلْمُبَالَغَةِ فِي أَنَّهُ هَادٍ.
وَمَعْنَى يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ، أَيْ بِوُجُودِهِ وَانْفِرَادِهِ بِالْإِلَهِيَّةِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ إِحْضَارُ اسْمِهِ بِعُنْوَانِ الرَّبِّ إِذِ الرَّبُّ هُوَ الْخَالِقُ فَمَا لَا يَخْلُقُ لَا يُعْبَدُ.
وَجُمْلَةُ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْقَوْلِ الْمَحْكِيِّ عَنِ الْجِنِّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا مِنَ اللَّهِ مُوَجَّهًا لِلْمُشْرِكِينَ وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ.
وَالْبَخْسُ: الْغَبْنُ فِي الْأَجْرِ وَنَحْوِهِ.
وَالرَّهَقُ: الْإِهَانَةُ، أَيْ لَا يَخْشَى أَنْ يُبْخَسَ فِي الْجَزَاءِ عَلَى إِيمَانِهِ وَلَا أَنْ يُهَانَ.
وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّ مَنْ لَا يُؤْمِنُ يُهَانُ بِالْعَذَابِ. وَالْخِلَافُ فِي كَسْرِ هَمْزَةِ أَنَّا وَفَتْحِهَا كَالْخِلَافِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا.
وَجُمْلَةُ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً جَوَابٌ لِشَرْطِ (مَنْ) جُعِلَتْ بِصُورَةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فَقُرِنَتْ بِالْفَاءِ مَعَ أَنَّ مَا بَعْدَ الْفَاءِ فِعْلٌ، وَشَأْنُ جَوَابِ الشَّرْطِ أَنْ لَا يَقْتَرِنَ بِالْفَاءِ إِلَّا إِذَا كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ لِأَنْ يَكُونَ فِعْلَ الشَّرْطِ فَكَانَ اقْتِرَانُهُ بِالْفَاءِ وَهُوَ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُشِيرًا إِلَى إِرَادَةِ جَعْلِهِ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ بِحَيْثُ تَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً، وَالِاسْمِيَّةُ تَقْتَرِنُ بِالْفَاءِ إِذَا وَقَعَتْ جَوَابَ شَرْطٍ، فَكَانَ التَّقْدِيرُ هُنَا: فَهُوَ لَا يَخَافُ لِيَكُونَ دَالًّا عَلَى تَحْقِيقِ سَلَامَتِهِ مِنْ
خَوْفِ الْبَخْسِ وَالرَّهَقِ، وَلِيَدُلَّ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ الَّذِي لَا يُؤْمِنُ بِرَبِّهِ، فَتَقْدِيرُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ قَبْلَ الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ تَارَّةً وَالتَّقَوِّيَ أُخْرَى وَقَدْ يَجْتَمِعَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٥]. وَاجْتَمَعَا هُنَا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ: فَكَانَ دَالًّا عَلَى تَحْقِيقِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ نَاجٍ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ. وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» اقْتَصَرَ عَلَى بَيَانِ مَزِيَّةِ الْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ وَهُوَ يَقْتَضِي تَوْجِيهَ الْعُدُولِ عَنْ جَزْمِ الْفِعْلِ لِأَجْلِ ذَلِكَ.
وَقَدْ نَقُولُ: إِنَّ الْعُدُولَ عَنْ تَجْرِيدِ الْفِعْلِ مِنَ الْفَاءِ وَعَنْ جَزْمِهِ لِدَفْعِ إِيهَامِ أَنْ تَكُونَ لَا نَاهِيَةً، فَهَذَا الْعُدُولُ صَرَاحَةٌ فِي إِرَادَةِ الْوَعْدِ دُونَ احْتِمَالِ إِرَادَةِ النَّهْيِ.
وَفِي «شَرْحِ الدَّمَامِينِيِّ عَلَى التَّسْهِيلِ» : أَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ إِذَا كَانَ فِعْلًا مَنْفِيًّا
235
بِ (لَا) يَجُوزُ الِاقْتِرَانُ بِالْفَاءِ وَتَرْكُهُ. وَلَمْ أَرَهُ لِغَيْرِهِ وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» يَقْتَضِي أَنَّ الِاقْتِرَانَ بِالْفَاءِ وَاجِبٌ إِلَّا إِذَا قُصِدَتْ مَزِيَّةٌ أُخْرَى.
[١٤- ١٥]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : الْآيَات ١٤ الى ١٥]
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥)
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِفَتْحِهَا وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ. وَالْمَقْصُودُ بِالْعَطْفِ قَوْلُهُ: فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَمَا قَبْلَهُ تَوْطِئَةٌ لَهُ، أَيْ أَصْبَحْنَا بَعْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ مِنَّا الْمُسْلِمُونَ، أَيْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ مِمَّا يَلِيقُ بِحَالِهِمْ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ، أَيْ الْكَافِرُونَ الْمُعْرِضُونَ وَهَذَا تَفْصِيلٌ لِقَوْلِهِمْ: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ [الْجِنّ: ١١] لِأَنَّ فِيهِ تَصْرِيحًا بِأَنَّ دُونَ ذَلِكَ هُوَ ضِدُّ الصَّلَاحِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ مُنْتَهَى مَا حُكِيَ عَنِ الْجِنِّ مِنَ الْمُدْرَكَاتِ الَّتِي عُبِّرَ عَنْهَا بِالْقَوْلِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ.
فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥).
الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا خَارِجٌ عَنِ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ عَنِ الْجِنِّ، وَأَنَّهُ كَلَامٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى
لِمَوْعِظَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ النَّاسِ فَهُوَ فِي مَعْنَى التَّذْيِيلِ. وَإِنَّمَا قُرِنَ بِالْفَاءِ لِتَفْرِيعِهِ عَلَى الْقِصَّةِ لِاسْتِخْلَاصِ الْعِبْرَةِ مِنْهَا، فَالتَّفْرِيعُ تَفْرِيعُ كَلَامٍ عَلَى كَلَامٍ وَلَيْسَ تَفْرِيعَ مَعْنَى الْكَلَامِ عَلَى مَعْنَى الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَالتَّحَرِّي: طَلَبُ الْحَرَا بِفَتْحَتَيْنِ مَقْصُورًا وَاوِيًّا، وَهُوَ الشَّيْءُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُفْعَلَ، يُقَالُ: بِالْحَرِيِّ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، وَأَحْرَى أَنْ تَفْعَلَ.
وَالرَّشَدُ: الْهُدَى وَالصَّوَابُ، وَتَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ فَقَدْ تَوَخَّى سَبَبَ النَّجَاةِ وَمَا يَحْصُلُ بِهِ الثَّوَابُ لِأَنَّ الرَّشَدَ سَبَبُ ذَلِكَ.
وَالْقَاسِطُ: اسْمُ فَاعِلِ قَسَطَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ قَسْطًا بِفَتْحِ الْقَافِ وَقُسُوطًا بِضَمِّهَا، أَيْ جَارٍ فَهُوَ كَالظُّلْمِ يُرَادُ بِهِ ظُلْمُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ بِالْإِشْرَاكِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» :
أَنَّ الْحَجَّاجَ قَالَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ حِينَ أَرَادَ قَتْلَهُ مَا تَقُولُ فِيَّ؟ قَالَ: قَاسِطٌ عَادِلٌ، فَقَالَ الْقَوْمُ: مَا أَحْسَنَ مَا قَالَ! حَسِبُوا أَنَّهُ وَصَفَهُ بِالْقِسْطِ (بِكَسْرِ الْقَافِ) وَالْعَدْلِ، فَقَالَ الْحَجَّاجُ: يَا جَهَلَةُ إِنَّهُ سَمَّانِي ظَالِمًا مُشْرِكًا وَتَلَا لَهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
وَقَوْلُهُ تَعَالَى:
ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الْأَنْعَام: ١] اهـ.
وَشَبَّهَ حُلُولَ الْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ بِحُلُولِ الْحَطَبِ فِي النَّارِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْلِيحِ وَالتَّحْقِيرِ، أَيْ هُمْ لِجَهْلِهِمْ كَالْحَطَبِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ [الْبَقَرَة: ٢٤].
وَإِقْحَامُ فِعْلِ (كَانُوا) لِتَحْقِيقِ مَصِيرِهِمْ إِلَى النَّارِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ كَانُوا كَذَلِكَ مِنْ زمن مضى.
[١٦- ١٧]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : الْآيَات ١٦ إِلَى ١٧]
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧)
اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ الْعَشَرَةُ عَلَى فَتْحِ هَمْزَةِ: أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا، فَجُمْلَةُ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الْجِنِّ: ١]، وَالْوَاوُ مِنَ الْحِكَايَةِ لَا مِنَ الْمَحْكِيِّ، فَمَضْمُونُهَا شَأْنٌ ثَانٍ مِمَّا أُوحِيَ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُولَهُ لِلنَّاسِ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ لَوِ اسْتَقَامَ الْقَاسِطُونَ فَأَسْلَمُوا لَمَا أَصَابَهُمُ اللَّهُ بِإِمْسَاكِ الْغَيْثِ.
وَأَن مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَة، وَجِيء بِأَن الْمَفْتُوحَةِ الْهَمْزَةِ لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا مَعْمُولٌ لفعل أُوحِيَ [الْجِنّ: ١] فَهُوَ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ، وَاسْمُهَا مَحْذُوفٌ وَهُوَ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَخَبَرُهُ لَوِ اسْتَقامُوا إِلَى آخِرِ الْجُمْلَةِ. وَسَبْكُ الْكَلَامِ: أُوحِيَ إِلَيَّ إِسْقَاءُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مَاءً فِي فَرْضِ اسْتِقَامَتِهِمْ.
وَضَمِيرُ اسْتَقامُوا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْقَاسِطِينَ بِدُونِ اعْتِبَارِ الْقَيْدِ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْجِنِّ وَهُوَ مِنْ عَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى اللَّفْظِ مُجَردا عَن مَا صدقه كَقَوْلِكَ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ نِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ.
237
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ وَلَكِنَّهُ مَعْرُوفٌ مِنَ الْمَقَامِ إِذِ السُّورَةُ مَسُوقَةٌ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عِنَادِ الْمُشْرِكِينَ وَطَعْنِهِمْ فِي الْقُرْآنِ، فَضَمِيرُ اسْتَقامُوا عَائِدٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي ضَمَائِرِ الْغَيْبَةِ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ، وَكَذَلِكَ أَسْمَاءُ الْإِشَارَةِ كَمَا تَنَبَّهْنَا إِلَيْهِ وَنَبَّهْنَا عَلَيْهِ، وَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُعَادَ عَلَى الْقَاسِطِينَ مِنَ الْجِنِّ إِذْ لَا عَلَاقَةَ لِلْجِنِّ بِشُرْبِ الْمَاءِ.
وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّرِيقَةِ: اسْتِقَامَةُ السَّيْرِ فِي الطَّرِيقِ وَهِيَ السَّيْرُ عَلَى بَصِيرٍ بِالطَّرِيقِ دُونَ اعْوِجَاجٍ وَلَا اغترار ببينات الطَّرِيقِ.
والطَّرِيقَةِ: الطَّرِيقُ: وَلَعَلَّهَا خَاصَّةٌ بِالطَّرِيقِ الْوَاسِعِ الْوَاضِحِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً [الْجِنّ: ١١].
وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّرِيقَةِ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ الْمُتَّصِفِ بِالسُّلُوكِ الصَّالِحِ وَالِاعْتِقَادِ الْحَقِّ بِهَيْئَةِ السَّائِرِ سَيْرًا مُسْتَقِيمًا عَلَى طَرِيقَةٍ، وَلِذَلِكَ فَالتَّعْرِيفُ فِي الطَّرِيقَةِ لِلْجِنْسِ لَا لِلْعَهْدِ.
وَقَوْلُهُ: لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً: وَعْدٌ بِجَزَاءٍ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ فِي الدِّينِ جَزَاءً حَسَنًا فِي الدُّنْيَا يَكُونُ عُنْوَانًا عَلَى رِضَى اللَّهِ تَعَالَى وَبِشَارَةً بِثَوَابِ الْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ [النَّحْل: ٩٧].
وَفِي هَذَا إِنْذَارٌ بِأَنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يُمْسِكَ عَنْهُمُ الْمَطَرَ فَيَقَعُوا فِي الْقَحْطِ وَالْجُوعِ وَهُوَ مَا حَدَثَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَدُعَائِهِ عَلَيْهِمْ بِسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ دَعَا بِذَلِكَ فِي الْمَدِينَةِ فِي الْقُنُوتِ كَمَا فِي حَدِيثِ «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ. وَقَدْ كَانُوا يَوْمَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي بُحْبُوحَةٍ مِنَ الْعَيْشِ وَفِي نَخِيلٍ وَجَنَّاتٍ
فَكَانَ جَعْلُ تَرَتُّبِ الْإِسْقَاءِ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الطَّرِيقَةِ كَمَا اقْتَضَاهُ الشَّرْطُ بِحَرْفِ لَوِ مُشِيرًا إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ: لَأَدَمْنَا عَلَيْهِمُ الْإِسْقَاءَ بِالْمَاءِ الْغَدَقِ، وَإِلَى أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِسَالِكِينَ سَبِيلَ الِاسْتِقَامَةِ فَيُوشِكُ أَنْ يُمْسِكَ عَنْهُمُ الرَّيَّ فَفِي هَذَا إِنْذَارٌ بِأَنَّهُمْ إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى اعْوِجَاجِ الطَّرِيقَةِ أُمْسِكَ عَنْهُمُ الْمَاءُ. وَبِذَلِكَ يَتَنَاسَبُ التَّعْلِيلُ بِالْإِفْتَانِ فِي قَوْلِهِ: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ مَعَ الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ إِذْ يَكُونُ تَعْلِيلًا لِمَا تَضَمَّنَهُ مَعْنَى إِدَامَةِ الْإِسْقَاءِ فَإِنَّهُ تَعْلِيلٌ لِلْإِسْقَاءِ الْمَوْجُودِ حِينَ نُزُولِ
238
الْآيَةِ وَلَيْسَ تَعْلِيلًا لِلْإِسْقَاءِ الْمَفْرُوضِ فِي جَوَابِ لَوِ لَأَنَّ جَوَابَ لَوِ مُنْتَفٍ فَلَا يَصْلُحُ لَأَنْ يُعَلَّلَ بِهِ، وَإِنَّمَا هُمْ مَفْتُونُونَ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُوقِظَ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّ اسْتِمْرَارَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ فِتْنَةٌ لَهُمْ فَلَا تَغُرَّنَّهُمْ. فَلَامُ التَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ: لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ مَاءً غَدَقاً وَهُوَ الْمَاءُ الْجَارِي لَهُمْ فِي الْعُيُونِ وَمِنَ السَّمَاءِ تَحْتَ جَنَّاتِهِمْ وَفِي زُرُوعِهِمْ فَهِيَ حَالٌ مُقَارَنَةٌ.
وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ تَزُولُ الْحَيْرَةُ فِي اسْتِخْلَاصِ مَعْنَى الْآيَةِ وَتَعْلِيلِهَا.
وَالْغَدَقُ: بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفَتْحِ الدَّالِ الْمَاءُ الْغَزِيرُ الْكَثِيرُ.
وَجُمْلَةُ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ إِدْمَاجٌ فَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ إِلَخْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ إِلَخْ.
ثُمَّ أُكِّدَتِ الْكِنَايَةُ عَنِ الْإِنْذَارِ الْمَأْخُوذَةُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ الْآيَةَ، بِصَرِيحِ الْإِنْذَارِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً، أَيْ فَإِنْ أَعْرَضُوا انْقَلَبَ حَالُهُمْ إِلَى الْعَذَابِ فَسَلَكْنَا بِهِمْ مَسَالِكَ الْعَذَابِ.
وَالسَّلْكُ: حَقِيقَتُهُ الْإِدْخَالُ، وَفِعْلُهُ قَاصِرٌ وَمُتَعَدٍّ، يُقَالُ: سَلَكَهُ فَسَلَكَ، قَالَ الْأَعْشَى:
كَمَا سَلَكَ السِّكِّيَّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ أَيْ أَدْخَلَ الْمِسْمَارَ فِي الْبَابِ نَجَّارٌ.
وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [١٢].
وَاسْتُعْمِلَ السَّلْكُ هُنَا فِي مَعْنَى شِدَّةِ وُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ عَزِيزَةٌ. وَالْمَعْنَى: نُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا مَصْرِفَ عَنْهُ.
وَانْتَصَبَ عَذاباً عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ وَهُوَ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ، وَهِيَ ظَرْفِيَّةٌ مَجَازِيَّةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ إِذَا حَلَّ بِهِ يُحِيطُ بِهِ إِحَاطَةَ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ.
وَالْعُدُولُ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ فِي قَوْلِهِ: عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ دُونَ أَنْ يَقُولَ:
239
عَنْ ذِكْرِنَا، أَوْ عَنْ ذِكْرِي، لِاقْتِضَاءِ الْحَالِ الْإِيمَاءَ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ فَإِنَّ الْمُعْرِضَ عَنْ رَبِّهِ الَّذِي خَلَقَهُ وَأَنْشَأَهُ وَدَبَّرَهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يُسْلَكَ عَذَابًا صَعَدًا.
وَالصَّعَدُ: الشَّاقُّ الْغَالِبُ، وَكَأَنَّهُ جَاءَ مِنْ مَصْدَرِ صَعِدَ، كَفَرِحَ إِذَا عَلَا وَارْتَفَعَ، أَيْ صَعِدَ عَلَى مَفْعُولِهِ وَغَلَبَهُ، كَمَا يُقَالُ: عَلَاهُ بِمَعْنَى تَمَكَّنَ مِنْهُ، وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ [الدُّخان: ١٩].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ نَسْلُكْهُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ فَفِيهِ الْتِفَاتٌ. وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ وَخَلَفٌ يَسْلُكْهُ بِيَاءِ الْغَائِبِ فَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ يَعُودُ إِلَى ربّه.
[١٨]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : آيَة ١٨]
وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (١٨)
اتَّفَقَ الْقُرَّاءُ الْعَشَرَةُ عَلَى فَتْحِ الْهَمْزَةِ فِي وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَرْفُوعِ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ [الْجِنِّ: ١]، وَمَضْمُونُهَا مِمَّا أُوحِيَ بِهِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمِرَ بِأَنْ يَقُولَهُ. وَالْمَعْنَى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ، فَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مَعَ أَنَّ وَاسْمِهَا وَخَبَرِهَا نَائِبُ فَاعل أُوحِيَ [الْجِنّ: ١].
وَالتَّقْدِيرُ: أُوحِيَ إِلَيَّ اخْتِصَاصُ الْمَسَاجِدِ بِاللَّهِ، أَيْ بِعِبَادَتِهِ لِأَنَّ بِنَاءَهَا إِنَّمَا كَانَ لِيُعْبَدَ اللَّهُ فِيهَا، وَهِيَ مَعَالِمُ التَّوْحِيدِ.
وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَمَلَ سِيبَوَيْهُ الْآيَةَ وَتَبِعَهُ أَبُو عَلِيٍّ فِي «الْحُجَّةِ».
وَذَهَبَ الْخَلِيلُ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ لَامِ جَرٍّ قَبْلَ أَنَّ، فَالْمَجْرُورُ مُقَدَّمٌ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَلِأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ لِلِاسْتِحْقَاقِ، أَيْ اللَّهُ مُسْتَحِقُّهَا دُونَ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ فَمَنْ وَضَعَ الْأَصْنَامَ فِي مَسَاجِدِ اللَّهِ فَقَدِ اعْتَدَى عَلَى اللَّهِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا وَضَعُوا فِيهِ الْأَصْنَام والأنصاب وَجَعَلُوا الصَّنَمَ (هُبَلَ) عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها [الْبَقَرَة: ١١٤] يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ.
وَهَذَا تَوْبِيخٌ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى اعْتِدَائِهِمْ عَلَى حَقِّ اللَّهِ وَتَصَرُّفِهِمْ فِيمَا لَيْسَ لَهُمْ أَنْ
يُغَيِّرُوهُ قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ [الْأَنْفَال: ٣٤]، وَإِنَّمَا عَبَّرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي آيَةِ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ [الْبَقَرَة: ١١٤] بِلَفْظِ مَساجِدَ لِيَدْخُلَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ فِعْلِهِمْ مَعَهُمْ فِي هَذَا الْوَعِيدِ مِمَّنْ شَاكَلَهُمْ مِمَّنْ غَيَّرُوا الْمَسَاجِدَ، أَوْ لِتَعْظِيمِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، كَمَا جَمَعَ رُسُلِي فِي قَوْلِهِ: فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ [سبأ: ٤٥]، عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يكون ضمير فَكَذَّبُوا عَائِدًا إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِ:
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [سبأ: ٤٣] أَيْ كَذَّبُوا رَسُولِي.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ [الْفرْقَان: ٣٧] يُرِيدُ نُوحًا، وَهُوَ أَوَّلُ رَسُولٍ فَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْجَمْعِ.
وَفُرِّعَ عَلَى اخْتِصَاصِ كَوْنِ الْمَسَاجِدِ بِاللَّهِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا، وَهَذَا إِلْزَامٌ لَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ بِطَرِيقِ الْقَوْلِ بِالْمُوجِبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ بَيْتِ اللَّهِ فَعِبَادَتُهُمْ غَيْرَ اللَّهِ مُنَافِيَةٌ لزعمهم ذَلِك.
[١٩- ٢٠]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : الْآيَات ١٩ إِلَى ٢٠]
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠)
قَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَهُ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ فِي رِوَايَاتِهِمُ الْمَشْهُورَةِ بِالْفَتْحِ.
وَمَآلُ الْقِرَاءَتَيْنِ سَوَاءٌ فِي كَوْنِ هَذَا خَارِجًا عَمَّا صَدَرَ عَنِ الْجِنِّ وَفِي كَوْنِهِ مِمَّا أَوْحَى اللَّهُ بِهِ.
فَكَسْرُ الْهَمْزَةِ عَلَى عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى جُمْلَةِ أُوحِيَ إِلَيَّ [الْجِنّ: ١]، وَالتَّقْدِيرُ: وَقُلْ إِنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ لِأَنَّ هَمْزَةَ (إِنَّ) إِذَا وَقَعَتْ فِي مَحْكِيٍّ بِالْقَوْلِ تُكْسَرُ، وَلَا يَلِيقُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ حِكَايَةِ مَقَالَةِ الْجِنِّ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدِ انْقَضَى وَتَبَاعَدَ وَنُقِلَ الْكَلَامُ إِلَى أَغْرَاضٍ أُخْرَى ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ [الْجِنّ: ١٨].
وَأَمَّا الْفَتْحُ فَعَلَى اعْتِبَارِهِ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ [الْجِنّ: ١]، أَيْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ، أَيْ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ اقْتِرَابَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا لِبَدًا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ لَمَّا قَامَ يَدْعُو رَبَّهُ.
241
وَضَمِيرُ أَنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَجُمْلَةُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا خَبَرُهُ.
وَضَمِيرُ كادُوا يَكُونُونَ عَائِدَانِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْمُنْبِئِ عَنْهُمُ الْمَقَامُ غَيْبَةً وَخِطَابًا ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ [الْجِنّ: ١٦] إِلَى قَوْلِهِ: فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً [الْجِنّ: ١٨].
وعَبْدُ اللَّهِ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وُضِعُ الِاسْمُ الظَّاهِرُ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ إِذْ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَأَنَّهُ لَمَّا قُمْتَ تَدْعُو اللَّهَ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْكَ، أَوْ لَمَّا قُمْتُ أَدْعُو اللَّهَ، كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيَّ. وَلَكِنْ عُدِلَ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِقَصْدِ تَكْرِيمِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ عَبْدُ اللَّهِ لِمَا فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ مِنَ التَّشْرِيفِ مَعَ وَصْفِ عَبْدُ كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ:
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاء: ١].
ولِبَداً بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ اسْمُ جَمْعِ: لِبْدَةٍ، وَهِيَ مَا تَلَبَّدَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْهُ لِبْدَةُ الْأَسَدِ لِلشَّعْرِ الْمُتَرَاكِمِ فِي رَقَبَتِهِ.
وَالْكَلَامُ عَلَى التَّشْبِيهِ، أَيْ كَادَ الْمُشْرِكُونَ يَكُونُونَ مِثْلَ اللِّبَدِ مُتَرَاصِّينَ مُقْتَرِبِينَ مِنْهُ يَسْتَمِعُونَ قِرَاءَتَهُ وَدَعْوَتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ. وَهُوَ الْتِفَافُ غَيْظٍ وَغَضَبٍ وَهَمٍّ بِالْأَذَى كَمَا يُقَالُ:
تَأَلَّبُوا عَلَيْهِ.
وَمَعْنَى قامَ: اجْتَهَدَ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [١٤]، وَقَالَ النَّابِغَةُ:
بِأَنَّ حِصْنًا وَحَيًّا مِنْ بَنِي أَسَدٍ قَامُوا فَقَالُوا حِمَانَا غَيْرُ مَقْرُوبِ
وَقد تقدم عِنْد قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣].
وَمَعْنَى قِيَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِعْلَانُهُ بِالدَّعْوَةِ وَظُهُورُ دَعْوَتِهِ قَالَ جَزْءُ بْنُ كُلَيْبٍ الْفَقْعَسِيُّ:
فَلَا تَبْغِيَنَّهَا يَا بن كُوزٍ فَإِنَّهُ غَذَا النَّاسُ مُذْ قَامَ النَّبِيءُ الْجَوَارِيَا
أَيْ قَامَ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ بَيَانُهُ بقوله بعده: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً، فَهُمْ لَمَّا لَمْ يَعْتَادُوا دُعَاءَ غَيْرِ الْأَصْنَامِ تَجَمَّعُوا لِهَذَا الْحَدَثِ الْعَظِيمِ عَلَيْهِمْ وَهُوَ دُعَاء مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لله تَعَالَى.
242
وَجُمْلَةُ قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَدْعُوهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قَالَ بِصِيغَة الْمَاضِي. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ قُلْ بِدُونِ
أَلِفٍ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا. وَالتَّقْدِيرُ: أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي، فَهُوَ مِنْ تَمَامِ مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَيْهِ.
وإِنَّما أَدْعُوا رَبِّي، يُفِيدُ قَصْرًا، أَيْ لَا أَدْعُو غَيْرَهُ، أَيْ لَا أَعْبُدُ غَيْرَهُ دُونَهُ.
وَعُطِفَ عَلَيْهِ وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً تَأْكِيدًا لِمَفْهُومِ الْقَصْرِ، وَأَصْلُهُ أَنْ لَا يُعْطَفَ فَعَطْفُهُ لِمُجَرَّدِ التَّشْرِيكِ لِلْعِنَايَةِ بِاسْتِقْلَالِهِ بِالْإِبْلَاغِ.
[٢١- ٢٣]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : الْآيَات ٢١ الى ٢٣]
قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣)
قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ.
هَذَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنْ ذِكْرِ مَا أُوحِيَ بِهِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَوْجِيهِ خِطَابٍ مُسْتَأْنَفٍ إِلَيْهِ، فَبَعْدَ أَنْ حُكِيَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا خَفِيَ عَلَيْهِ من الشؤون الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ مِنِ اتِّبَاعِ مُتَابِعِينَ وَإِعْرَاضِ مُعْرِضِينَ، انْتَقَلَ إِلَى تَلْقِينِهِ مَا يَرُدُّ عَلَى الَّذِينَ أَظْهَرُوا لَهُ الْعِنَادَ وَالتَّوَرُّكَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَخْ، تَكْرِيرًا لِجُمْلَةِ قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي [الْجِنّ: ٢٠] عَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ وَعَاصِمٍ وَأَبِي جَعْفَرٍ.
وَالضُّرُّ: إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَتَوَرَّكُونَ بِهِ مِنْ طَلَبِ إِنْجَازِ مَا يَتَوَعَّدُهُمْ بِهِ مِنَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ.
وَقَوْلُهُ: وَلا رَشَداً تَتْمِيمٌ.
وَفِي الْكَلَامِ احْتِبَاكٌ لِأَنَّ الضُّرَّ يُقَابِلُهُ النَّفْعُ، وَالرَّشَدُ يُقَابِلُهُ الضَّلَالُ، فَالتَّقْدِيرُ: لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا ضَلَالًا وَلَا رَشَدًا.
وَالرَّشَدُ بِفَتْحَتَيْنِ: مَصْدَرُ رَشَدَ، وَالرُّشْدُ، بِضَمٍّ فَسُكُونٍ: الِاسْمُ، وَهُوَ مَعْرِفَةُ الصَّوَابِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الْجِنّ: ٢].
243
وَتَرْكِيبُ لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مَعْنَاهُ لَا أَقْدِرُ قُدْرَةً لِأَجْلِكُمْ عَلَى ضُرٍّ وَلَا نَفْعٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ [٤] وَتَقَدَّمَ أَيْضًا
فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَجُمْلَتَا قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي إِلَى مُلْتَحَداً مُعْتَرِضَتَانِ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَالْمُسْتَثْنَى، وَهُوَ اعْتِرَاضُ رُدٍّ لِمَا يُحَاوِلُونَهُ مِنْهُ أَنْ يَتْرُكَ مَا يُؤْذِيهِمْ فَلَا يَذْكُرُ الْقُرْآنُ إِبْطَالَ مُعْتَقَدِهِمْ وَتَحْقِيرَ أَصْنَامِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [يُونُس: ١٥].
وَالْمُلْتَحَدُ: اسْمُ مَكَانِ الِالْتِحَادِ، وَالِالْتِحَادُ: الْمُبَالَغَةُ فِي اللَّحْدِ، وَهُوَ الْعُدُولُ إِلَى مَكَانٍ غَيْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُطْلَقَ ذَلِكَ عَلَى اللَّجَأِ، أَيْ الْعِيَاذُ بِمَكَانٍ يَعْصِمُهُ.
وَالْمَعْنَى: لَنْ أَجِدَ مَكَانًا يَعْصِمُنِي.
ومِنْ دُونِهِ حَالٌ مِنْ مُلْتَحَداً، أَيْ مُلْتَحَدًا كَائِنًا مَنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ بَعِيدًا عَنِ اللَّهِ غَيْرَ دَاخِلٍ مِنْ مَلَكُوتِهِ، فَإِنَّ الْمُلْتَحَدَ مَكَانٌ فَلَمَّا وُصِفَ بِأَنَّهُ مَنْ دُونِ اللَّهِ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ مَكَانٌ مِنْ غَيْرِ الْأَمْكِنَةِ الَّتِي فِي مُلْكِ اللَّهِ، وَذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ، وَلِهَذَا جَاءَ لِنَفْيِ وِجْدَانِهِ حَرْفُ لَنْ الدَّال على تأييد النَّفْيِ.
ومِنَ فِي قَوْلِهِ: مِنْ دُونِهِ مَزِيدَةٌ جَارَّةٌ لِلظَّرْفِ وَهُوَ (دُونَ).
وَقَوْلُهُ: إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مِنْ ضَرًّا ورَشَداً، وَلَيْسَ مُتَّصِلًا لِأَنَّ الضَّرَّ وَالرَّشَدَ الْمَنْفِيَّيْنِ فِي قَوْلِهِ: لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً هُمَا الضَّرُّ وَالرَّشَدُ الْوَاقِعَانِ فِي النَّفْسِ بِالْإِلْجَاءِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنْ مُلْتَحَداً، أَيْ بِتَأْوِيلِ مُلْتَحَداً بِمَعْنَى مَخْلَصٍ أَوْ مَأْمَنٍ.
وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ أُسْلُوبِ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ.
وَالْبَلَاغُ: اسْمُ مَصْدَرِ بَلَغَ، أَيْ أَوْصَلَ الْحَدِيثَ أَوِ الْكَلَامَ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ الْمُبَلَّغِ مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ مِثْلَ هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لُقْمَان: ١١].
244
وَ (مِنَ) ابتدائية صفة (بَلَاغ)، أَيْ بَلَاغًا كَائِنًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ، أَيْ إِلَّا كَلَامًا أُبَلِّغُهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُوحَى مِنَ اللَّهِ.
ورِسالاتِهِ: جَمْعُ رِسَالَةٍ، وَهِيَ مَا يُرْسَلُ مِنْ كَلَامٍ أَوْ كِتَابٍ فَالرِّسَالَاتُ بَلَاغٌ
خَاصٌّ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ، فَالْمُرَادُ مِنْهَا هُنَا تَبْلِيغُ الْقُرْآنِ.
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً.
لَمَّا كَانَ قَوْله: قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً [الْجِنّ: ٢٠] إِلَى هُنَا كَلَامًا مُتَضَمِّنًا أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا وَعَانَدُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَاقْتَرَحُوا عَلَيْهِ مَا تَوَهَّمُوهُ تَعْجِيزًا لَهُ مِنْ ضُرُوبِ الِاقْتِرَاحِ، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَهْدِيدِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ بِأَنَّهُمْ إِنْ دَامُوا عَلَى عِصْيَانِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ سَيَلْقَوْنَ نَارَ جَهَنَّمَ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ يَعْصِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ كَانَتْ لَهُ نَارُ جَهَنَّمَ.
ومِنَ شَرْطِيَّةٌ وَجَوَابُ الشَّرْطِ قَوْلُهُ: فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ.
[٢٤]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : آيَة ٢٤]
حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (٢٤)
كَانُوا إِذَا سَمِعُوا آيَاتِ الْوَعْدِ بِنَصْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَآيَاتِ الْوَعِيدِ لِلْمُشْرِكِينَ بِالِانْهِزَامِ وَعَذَابِ الْآخِرَةِ وَعَذَابِ الدُّنْيَا اسْتَسْخَرُوا مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ: ٣٥]، وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [السَّجْدَة: ٢٨]، وَيَقُولُونَ: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: ٤٨]، وَقَالُوا: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص: ١٦]، فَهُمْ مَغْرُورُونَ بِالِاسْتِدْرَاجِ وَالْإِمْهَالِ فَلِذَلِكَ عَقَّبَ وَعِيدَهُمْ بِالْغَايَةِ الْمُفَادَةِ مِنْ حَتَّى، فَالْغَايَةُ هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ سُخْرِيَةِ الْكُفَّارِ مِنَ الْوَعِيدِ وَاسْتِضْعَافِهِمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ غَالِبُونَ فَائِزُونَ حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ تَحَقَّقُوا إِخْفَاقَ آمَالِهِمْ.
وحَتَّى هُنَا ابْتِدَائِيَّةٌ وَكُلَّمَا دَخَلَتْ حَتَّى فِي جُمْلَةٍ مُفْتَتَحَةٍ بِ إِذا فَ حَتَّى
لِلِابْتِدَاءِ وَمَا بَعْدَهَا جُمْلَةٌ ابْتِدَائِيَّةٌ. وَذَهَبَ الْأَخْفَشُ وَابْنُ مَالِكٍ إِلَى أَنَّ حَتَّى فِي مِثْلِهِ جَارَّةٌ وَأَنَّ إِذا فِي مَحَلِّ جَرٍّ وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ حَتَّى لَا يُفَارِقُهَا مَعْنَى الْغَايَةِ كَيْفَمَا كَانَ عَمَلُ حَتَّى.
وإِذا اسْمُ زَمَانٍ لِلْمُسْتَقْبَلِ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ وَهُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِالْفِعْلِ الَّذِي فِي جَوَابِهِ وَهُوَ فَسَيَعْلَمُونَ.
وَعَلَى رَأْيِ الْأَخْفَشِ وَابْنِ مَالِكٍ إِذا مَحَلِّ جَرٍّ بِ حَتَّى. وَاقْتِرَانُ جُمْلَةِ سَيَعْلَمُونَ بِالْفَاءِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِذا ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَاقْتِرَانُ الْجَوَابِ بِسِينِ
الِاسْتِقْبَالِ يَصْرِفُ الْفِعْلَ الْمَاضِيَ بَعْدَ إِذا إِلَى زَمَنِ الِاسْتِقْبَالِ. وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا إِذا فِعْلًا مَاضِيًا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ.
وَفِعْلُ سَيَعْلَمُونَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِوُقُوعِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي التَّعْلِيقِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْإِبْهَامِ يَكُونُ كِنَايَةً عَنِ الْغَرَابَةِ بِحَيْثُ يَسْأَلُ النَّاسُ عَنْ تَعْيِينِ الشَّيْءِ بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْهُ.
وَضَعْفُ النَّاصِرِ وَهَنٌ لَهُمْ مِنْ جِهَةِ وَهَنِ أَنْصَارِهِمْ، وَقِلَّةُ الْعَدَدِ وَهَنٌ لَهُمْ مِنْ جَانِبِ أَنْفُسِهِمْ، وَهَذَا وَعِيدٌ لَهُمْ بِخَيْبَةِ غُرُورِهِمْ بِالْأَمْنِ مِنْ غَلَبِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [الْقَمَر: ٤٤]. وَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً [سبأ: ٣٥].
[٢٥- ٢٨]
[سُورَة الْجِنّ (٧٢) : الْآيَات ٢٥ الى ٢٨]
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (٢٨)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ.
كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُكْثِرُونَ أَنْ يَسْأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [النَّمْل: ٧١]، وعَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [الْأَعْرَاف: ١٨٧]، وَتَكَرَّرَتْ نِسْبَةُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ فِي الْقُرْآنِ، فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً [الْجِنّ: ٢٤] الْآيَةَ عَلِمَ أَنَّهُمْ سَيُعِيدُونَ مَا اعْتَادُوا قَوْلَهُ مِنَ السُّؤَالِ عَنْ وَقْتِ حُلُولِ الْوَعِيدِ فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِمْ مَا سَبَقَ مِنْ جَوَابِهِ.
246
فَجُمْلَةُ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ الْقَوْلَ الْمَأْمُورَ بِأَنْ يَقُولَهُ جَوَابٌ لِسُؤَالِهِمُ الْمُقَدَّرِ.
وَالْأَمَدُ: الْغَايَةُ وَأَصْلُهُ فِي الْأَمْكِنَةِ. وَمِنْهُ
قَوْلُ ابْنِ عُمَرٍ فِي حَدِيثِ «الصَّحِيحَيْنِ» :«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضَمَّرْ وَجَعَلَ أَمَدَهَا ثَنِيَّةَ الْوَدَاعِ»
(أَيْ غَايَةَ الْمُسَابَقَةِ). وَيُسْتَعَارُ الْأَمَدُ لِمُدَّةٍ مِنَ الزَّمَانِ مُعَيَّنَةٍ قَالَ تَعَالَى: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ [الْحَدِيد:
١٦] وَهُوَ كَذَلِكَ هُنَا. وَمُقَابَلَتُهُ بِ «قَرِيبٍ» يُفِيدُ أَنَّ الْمَعْنَى أَمْ يَجْعَلُ لَهُ أَمَدًا بَعِيدًا.
وَجُمْلَةُ عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِجُمْلَةِ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ الْآيَةَ.
وعالِمُ الْغَيْبِ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ عَائِدٌ إِلَى قَوْلِهِ رَبِّي. وَهَذَا الْحَذْفُ مِنْ قَبِيلِ حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَذْفًا اتُّبِعَ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ إِذَا كَانَ الْكَلَامُ قَدِ اشْتَمَلَ عَلَى ذِكْرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَصِفَاتِهِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ».
والْغَيْبِ: مَصْدَرُ غَابَ إِذَا اسْتَتَرَ وَخَفِيَ عَنِ الْأَنْظَارِ وَتَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ.
وَإِضَافَةُ صِفَةِ عالِمُ إِلَى الْغَيْبِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِكُلِّ الْحَقَائِقِ الْمُغَيَّبَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَاهِيَّاتٍ أَوْ أَفْرَادًا فَيَشْمَلُ الْمَعْنَى الْمَصْدَرِيَّ لِلْغَيْبِ مِثْلَ عِلْمِ اللَّهِ بِذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَيَشْمَلُ الْأُمُورَ الْغَائِبَةَ بِذَاتِهَا مِثْلَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجِنِّ. وَيَشْمَلُ الذَّوَاتِ الْمُغَيَّبَةِ عَنْ عِلْمِ النَّاسِ مِثْلَ الْوَقَائِعِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الَّتِي يُخْبَرُ عَنْهَا أَوِ الَّتِي لَا يُخْبَرُ عَنْهَا، فَإِيثَارُ الْمَصْدَرِ هُنَا لِأَنَّهُ أشمل لِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِجَمِيعِ ذَلِكَ.
وَتَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣].
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ مَعَ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الْمُقَدَّرِ يُفِيدُ الْقَصْرَ، أَيْ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ لَا أَنَا.
وَفُرِّعَ عَلَى مَعْنَى تَخْصِيصِ اللَّهِ تَعَالَى بِعِلْمِ الْغَيْبِ جُمْلَةُ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً، فَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ حُكْمٍ عَلَى حُكْمٍ وَالْحُكْمُ الْمُفَرَّعِ إِتْمَامٌ لِلتَّعْلِيلِ وَتَفْصِيلٌ لِأَحْوَالِ عَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَى غيبه.
وَمعنى فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً: لَا يطلع وَلَا ينبىء بِهِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ
247
يَطَّلِعُ لِأَنَّ يُظْهِرُ جَاءَ مِنَ الظُّهُورِ وَهُوَ الْمُشَاهَدَةُ وَلِتَضْمِينِهِ مَعْنَى: يُطْلِعُ، عُدِّيَ بِحَرْفِ عَلى.
وَوُقُوعُ الْفِعْلِ فِي حَيِّزِ النَّفْيِ يُفِيدُ الْعُمُومَ، وَكَذَلِكَ وُقُوعُ مَفْعُولِهِ وَهُوَ نَكِرَةٌ فِي حَيِّزِهِ يُفِيدُ الْعُمُومَ.
وَحَرْفُ عَلى مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّمَكُّنِ مِنَ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ [التَّحْرِيم: ٣] فَهُوَ اسْتِعْلَاءٌ مَجَازِيٌّ.
وَاسْتُثْنِيَ مِنْ هَذَا النَّفْيِ مَنِ ارْتَضَاهُ لِيُطْلِعَهُ عَلَى بَعْضِ الْغَيْبِ، أَيْ عَلَى غَيْبٍ أَرَادَ الله إِظْهَارَهُ مِنَ الْوَحْيِ فَإِنَّهُ مِنْ غَيْبِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ مَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُؤَيِّدَ بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِخْبَارٍ
بِمَا سَيَحْدُثُ أَوْ إِطْلَاعٍ عَلَى ضَمَائِرِ بَعْضِ النَّاسِ.
فَقَوْلُهُ: ارْتَضى مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ أَحَداً. وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا أَحَدًا ارْتَضَاهُ، أَيْ اخْتَارَهُ لِلِاطِّلَاعِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْغَيْبِ لِحِكْمَةٍ أَرَادَهَا اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ وَالصِّلَةِ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ لِقَصْدِ مَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى تَعْلِيلِ الْخَبَرِ، أَيْ يُطْلِعُ اللَّهُ بَعْضَ رُسُلِهِ لِأَجْلِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ مِنَ الرِّسَالَةِ إِلَى النَّاسِ، فَيُعْلَمُ مِنْ هَذَا الْإِيمَانِ أَنَّ الْغَيْبَ الَّذِي يُطْلِعُ اللَّهُ عَلَيْهِ الرُّسُلَ هُوَ مِنْ نَوْعِ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالرِّسَالَةِ، وَهُوَ غَيْبٌ مَا أَرَادَ اللَّهُ إِبْلَاغَهُ إِلَى الْخَلْقِ أَنْ يعتقدوه أَو أَن يَفْعَلُوهُ، وَمَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِذَلِكَ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ، أَوْ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَمَا يُؤَيِّدُ بِهِ الرُّسُلَ عَنِ الْإِخْبَارِ بِأُمُورٍ مُغَيَّبَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الرّوم [٢- ٤].
وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْإِطْلَاعُ الْمُحَقَّقُ الْمُفِيدُ عِلْمًا كَعِلْمِ الْمُشَاهَدَةِ. فَلَا تَشْمَلُ الْآيَةُ مَا قَدْ يَحْصُلُ لِبَعْضِ الصَّالِحِينَ مِنْ شَرْحِ صَدْرٍ بِالرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ،
فَفِي الْحَدِيثِ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوءَةِ، أَوْ بِالْإِلْهَامِ»
. قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ كَانَ يَكُونُ فِي الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مُحَدَّثُونَ فَإِنْ يَكُنْ فِي أُمَّتِي مِنْهُمْ أَحَدٌ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مِنْهُمْ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ
. قَالَ مُسْلِمٌ: قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: تَفْسِيرُ مُحَدَّثُونَ: مُلْهَمُونَ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الرُّؤْيَا الْحَسَنَةِ: إِنَّهَا تَسُرُّ وَلَا تَغُرُّ، يُرِيدُ لِأَنَّهَا قَدْ يَقَعُ الْخَطَأُ فِي تَأْوِيلِهَا.
248
وَ (مِنْ) رَسُولٍ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ مَنِ الْمَوْصُولَةِ، فَدَلَّ على أَن مَا صدق مَنِ جَمَاعَةٌ مِنَ الرُّسُلِ، أَيْ إِلَّا الرُّسُلَ الَّذِينَ ارْتَضَاهُمْ، أَيْ اصْطَفَاهُمْ.
وَشَمَلَ رَسُولٍ كُلَّ مُرْسَلٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَشْمَلُ الْمَلَائِكَةَ الْمُرْسَلِينَ إِلَى الرُّسُلِ بِإِبْلَاغِ وَحْيٍ إِلَيْهِمْ مِثْلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَشَمَلَ الرُّسُلَ مِنَ الْبَشَرِ الْمُرْسَلِينَ إِلَى النَّاسِ بِإِبْلَاغِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ مِنْ شَرِيعَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا بِهِ صَلَاحُهُمْ.
وَهُنَا أَرْبَعَةُ ضَمَائِرِ غَيْبَةٍ:
الْأَوَّلُ ضَمِيرُ فَإِنَّهُ وَهُوَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّانِي الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي يَسْلُكُ وَهُوَ لَا مَحَالَةَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى كَمَا عَادَ إِلَيْهِ
ضَمِيرُ فَإِنَّهُ.
وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ ضَمِيرَا مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَهُمَا عَائِدَانِ إِلَى رَسُولٍ أَيْ فَإِنَّ اللَّهَ يَسْلُكُ أَيْ يُرْسِلُ لِلرَّسُولِ رَصَدًا مِنْ بَيْنِ يَدَيِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا، أَيْ مَلَائِكَةٌ يَحْفَظُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِلْقَاءِ الشَّيَاطِينِ إِلَيْهِ مَا يَخْلِطُ عَلَيْهِ مَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْبِهِ.
وَالسَّلْكُ حَقِيقَتُهُ: الْإِدْخَالُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [١٢].
وَأُطْلِقَ السَّلْكُ عَلَى الْإِيصَالِ الْمُبَاشِرِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالدُّخُولِ فِي الشَّيْءِ بِحَيْثُ لَا مَصْرِفَ لَهُ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً [الْجِنّ: ١٧] أَيْ يُرْسِلُ إِلَيْهِ مَلَائِكَةً مُتَّجِهِينَ إِلَيْهِ لَا يَبْتَعِدُونَ عَنْهُ حَتَّى يَبْلُغَ إِلَيْهِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنَ الْغَيْبِ، كَأَنَّهُمْ شُبِّهَ اتِّصَالُهُمْ بِهِ وَحِرَاسَتُهُمْ إِيَّاهُ بِشَيْءٍ دَاخِلٍ فِي أَجْزَاءِ جِسْمٍ. وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْحِفْظِ الَّذِي حَفِظَ اللَّهُ بِهِ ذِكْرَهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الْحجر: ٩].
وَالْمُرَادُ بِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ الْكِنَايَةُ عَنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَمِنْ تِلْكَ الْكِنَايَةِ يَنْتَقِلُ إِلَى كِنَايَةٍ أُخْرَى عَنِ السَّلَامَةِ مِنَ التَّغْيِيرِ وَالتَّحْرِيفِ.
249
وَالرَّصَدُ: اسْمُ جَمْعٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الْجِنّ: ٩].
وَانْتَصَبَ رَصَداً عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلِ يَسْلُكُ.
وَيَتَعَلَّقُ لِيَعْلَمَ بِقَوْلِهِ: يَسْلُكُ، أَيْ يَفْعَلُ اللَّهُ ذَلِكَ لِيُبَلِّغَ الْغَيْبَ إِلَى الرَّسُولِ كَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِ لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ مِمَّا يَلْبِسُ عَلَيْهِ الْوَحْيَ فَيَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّ الرُّسُلَ أَبْلَغُوا مَا أُوحِي إِلَيْهِ كَمَا بَعَثَهُ دُونِ تَغْيِيرٍ، فَلَمَّا كَانَ عِلْمُ اللَّهِ بِتَبْلِيغِ الرَّسُولِ الْوَحْيَ مُفَرَّعًا وَمُسَبَّبًا عَنْ تَبْلِيغِ الْوَحْيِ كَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ، جُعِلَ الْمُسَبَّبَ عِلَّةً وَأُقِيمَ مَقَامَ السَّبَبِ إِيجَازًا فِي الْكَلَامِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى وَفْقِ مَا وَقَعَ، وَهَذَا كَقَوْلِ إِيَاسِ بْنِ قَبِيصَةَ:
وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا
أَيْ لِيَظْهَرَ مَنْ هُوَ شُجَاعٌ وَمَنْ هُوَ جَبَانٌ فَأَعْلَمُ ذَلِكَ. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ هِيَ الْمَقْصِدُ الْأَهَمُّ مِنِ اطِّلَاعِ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ عَلَى الْغَيْبِ، وَذِكْرُ هَذِهِ الْعِلَّةِ لَا يَقْتَضِي انْحِصَارَ عِلَلِ الِاطِّلَاعِ فِيهَا.
وَجِيءَ بِضَمِيرِ الْإِفْرَادِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ رَسُولٍ،
ثُمَّ جِيءَ لَهُ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا مُرَاعَاةً لِمَعْنَى رَسُولٍ وَهُوَ الْجِنْسُ، أَيْ الرُّسُلُ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ تَعَالَى السَّابِقِ آنِفًا فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً [الْجِنّ:
٢٣].
وَالْمُرَادُ: لِيَعْلَمَ اللَّهُ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ اللَّهِ وَأَدَّوُا الْأَمَانَةَ عِلْمًا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُمُ الْجَزِيلُ.
وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ أَنَّ الْغَيْبَ الْمُتَحَدَّثَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةَ هُوَ الْغَيْبُ الْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ نَفْيُ عِلْمِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُرْبِ مَا يُوعَدُونَ بِهِ أَوْ بَعْدَهُ وَذَلِكَ مِنْ عَلَائِقِ الْجَزَاءِ وَالْبَعْثِ.
وَيَلْحَقُ بِهِ مَا يُوحَى بِهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا رُسُلًا لِأَنَّ مَا يُوحَى إِلَيْهِمْ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ تَأْيِيدًا لِشَرْعٍ سَابِقٍ كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْحَوَارِيِّينَ أَوْ أَنْ يَكُونَ لِإِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ مِثْلَ آدَمَ وَأَيُّوبَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنَ النَّفْيِ لَيْسَ بِمُقْتَضٍ أَنْ يُثْبَتَ لِلْمُسْتَثْنَى جَمِيعُ نَقَائِضِ
250
أَحْوَالِ الْحُكْمِ الَّذِي لِلْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، بَلْ قُصَارَى مَا يَقْتَضِيهِ أَنَّهُ كَالنَّقْضِ فِي الْمُنَاظَرَةِ يَحْصُلُ بِإِثْبَاتٍ جُزْئِيٍّ مِنْ جُزْئِيَّاتِ مَا نَفَاهُ الْكَلَامُ الْمَنْقُوصُ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ بِمُقْتَضٍ أَنَّ الرَّسُولَ يَطَّلِعُ عَلَى جَمِيعِ غَيْبِ اللَّهِ، وَقَدْ بُيِّنَ النَّوْعُ الْمُطَّلَعُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ:
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ.
وَقَرَأَ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ لِيَعْلَمَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ عَلَى أَنَّ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا نَائِبٌ عَنِ الْفَاعِلِ، وَالْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ حُذِفَ لِلْعِلْمِ بِهِ، أَيْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا.
وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً.
الْوَاوُ وَاوُ الْحَالِ أَوِ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِأَنَّ مَضْمُونَهَا تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ، أَيْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ مَا لَدَى الرُّسُلِ مِنْ تَبْلِيغٍ وَغَيْرِهِ، وَأَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ مِمَّا عَدَا ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ تَعْمِيمٌ بَعْدَ تَخْصِيصِ مَا قَبْلَهُ بِعِلْمِهِ بِتَبْلِيغِهِمْ مَا أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ: وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً تَعْمِيمٌ أَشْمَلُ بَعْدَ تَعْمِيمٍ مَا.
وَعَبَّرَ عَنِ الْعِلْمِ بِالْإِحْصَاءِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهًا لِعِلْمِ الْأَشْيَاءِ بِمَعْرِفَةِ الْأَعْدَادِ
لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْأَعْدَادِ أَقْوَى، وَقَوْلُهُ: عَدَداً تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ.
وَالْعَدَدُ: بِالْفَكِّ اسْمٌ لِمَعْدُودٍ وَبِالْإِدْغَامِ مَصْدَرُ عَدَّ، فَالْمَعْنَى هُنَا: وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ مَعْدُودًا، وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَدَّهُمْ عَدًّا [مَرْيَم: ٩٤]. وَفَرَّقَ الْعَرَبُ بَيْنَ الْمَصْدَرِ وَالْمَفْعُولِ لِأَنَّ الْمَفْعُولَ أَوْغَلُ فِي الِاسْمِيَّةِ مِنَ الْمَصْدَرِ فَهُوَ أَبْعَدُ عَنِ الْإِدْغَامِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِدْغَامِ لِلْأَفْعَالِ.
251

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٧٣- سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ
لَيْسَ لِهَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا اسْمُ «سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ» عُرِفَتْ بِالْإِضَافَةِ لِهَذَا اللَّفْظِ الْوَاقِعِ فِي أَوَّلِهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ حِكَايَةُ اللَّفْظِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْصُوفًا بِالْحَالِ الَّذِي نُودِيَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [الْمُزَّمِّلُ: ١].
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [المزمل: ٢٠] إِلَى نَهَايَةِ السُّورَةِ فَذَلِكَ مَدَنِيٌّ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ مِثْلَ هَذَا عَنِ الثَّعْلَبِيِّ.
وَقَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» : إِنَّ اسْتِثْنَاءَ قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ يَرُدُّهُ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ «نَزَلَ بَعْدَ نُزُولِ صَدْرِ السُّورَةِ بِسَنَةٍ وَذَلِكَ حِينَ فُرِضَ قِيَامُ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ» اهـ.
252
يَعْنِي وَذَلِكَ كُلُّهُ بِمَكَّةَ، أَيْ فَتَكُونُ السُّورَةُ كُلُّهَا مَكِّيَّةً فَتَعَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ: قُمِ اللَّيْلَ [المزمل: ٢] أُمِرَ بِهِ فِي مَكَّةَ.
وَالرِّوَايَاتُ تَظَاهَرَتْ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ نَزَلَ مَفْصُولًا عَنْ نُزُولِ مَا قَبْلَهُ بِمُدَّةٍ مُخْتَلَفٍ فِي قَدْرِهَا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: «نَزَلَ بَعْدَ صَدْرِ السُّورَةِ بِسَنَةٍ»، وَمِثْلُهُ رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: نَزَلَ صَدْرُ السُّورَةِ بِمَكَّةَ وَنَزَلَ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ إِلَى آخِرِهَا بِالْمَدِينَةِ، أَيْ بَعْدَ نُزُولِ أَوَّلِهَا بِسِنِينَ.
فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ نُزُولَ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل: ٢٠] إِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِنْبَاءً بِمُغَيَّبٍ عَلَى وَجْهِ الْمُعْجِزَةِ.
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ «قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ الله على نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل: ١] مكث النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَذَا الْحَالِ عَشْرَ سِنِينَ يَقُومُ اللَّيْلَ كَمَا أَمَرَهُ اللَّهُ وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَقُومُونَ مَعَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إِلَى وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
[المزمل: ٢٠] اهـ، أَيْ نَزَلَتِ الْآيَاتُ الْأَخِيرَةُ فِي الْمَدِينَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مُقَامَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ كَانَ عَشْرَ سِنِينَ وَهُوَ قَوْلٌ جَمٌّ غَفِيرٌ.
وَالرِّوَايَاتُ عَنْ عَائِشَة مضطربة فبعضها يَقْتَضِي أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ وَأَنَّ صَدْرَهَا نَزَلَ قَبْلَ آخِرِهَا بِسَنَةٍ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي نَقْلِ صَاحِبِ «الْإِتْقَانِ»
. وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ نَزَلَ بِمَكَّةَ،
وَبَعْضُ الرِّوَايَاتِ يَقُولُ فِيهَا: إِنَّهَا كَانَتْ تَفْرِشُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصِيرًا فَصَلَّى عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ فَتَسَامَعَ النَّاسُ فَاجْتَمَعُوا فَخَرَجَ مُغْضَبًا وَخَشِيَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهِمْ قِيَامُ اللَّيْلِ وَنَزَلَ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: ١، ٢] فَكُتِبَتْ عَلَيْهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْفَرِيضَةِ وَمَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ وَضَعَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ إِلَى فَتابَ عَلَيْكُمْ [المزمل: ٢٠]، فَرَدَّهُمْ إِلَى الْفَرِيضَةِ وَوَضَعَ عَنْهُمُ النَّافِلَةَ. وَهَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ بِسَنَدَيْنِ إِلَى أَبِي سَلَمَةَ بن عبد الرحمان عَنْ عَائِشَةَ،
وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَدَنِيَّةٌ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَبْنِ بِعَائِشَةَ إِلَّا فِي الْمَدِينَةِ، وَلِأَنَّ قَوْلَهَا: «فَخَرَجَ مُغْضَبًا» يَقْتَضِي أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ الْمُفْضِي إِلَى مَسْجِدِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَخْبَارٌ تُثْبِتُ قِيَامَ اللَّيْلِ فِي مَسْجِدِهِ.
253
وَلَعَلَّ سَبَبَ هَذَا الِاضْطِرَابِ اخْتِلَاط فِي الرِّوَايَات بَيْنَ فَرْضِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَبَيْنَ التَّرْغِيبِ فِيهِ.
وَنَسَبَ الْقُرْطُبِيُّ إِلَى «تَفْسِيرِ الثَّعْلَبِيِّ» قَالَ: قَالَ النَّخَعِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَزَمِّلًا بِقَطِيفَةِ عَائِشَةَ، وَهِيَ مِرْطٌ نِصْفُهُ عَلَيْهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ وَنِصْفُهُ عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي
اهـ، وَإِنَّمَا بَنَى النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَائِشَةَ فِي الْمَدِينَةِ، فَالَّذِي نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ أَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ نَزَلَ بِمَكَّةَ لَا مَحَالَةَ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: ٥]، وَأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ سِنِينَ مِنْ نُزُولِ أَوَّلِ السُّورَةِ لِأَنَّ فِيهِ نَاسِخًا لِوُجُوبِ قِيَامِ اللَّيْلِ وَأَنَّهُ نَاسِخٌ لِوُجُوبِ قيام اللَّيْل على النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ مَا رَوَوْهُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَوَّلَ مَا فُرِضَ قِيَامُ اللَّيْلِ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَاةِ غَرِيبٌ.
وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْمَاوَرْدِيِّ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ قَالَا: إِنَّ آيَتَيْنِ وَهُمَا وَاصْبِرْ
عَلى مَا يَقُولُونَ
إِلَى قَوْلِهِ: وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا [المزمل: ١٠، ١١] نَزَلَتَا بِالْمَدِينَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي عَدِّ هَذِهِ السُّورَةِ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، وَالْأَصَحُّ الَّذِي تَضَافَرَتْ عَلَيْهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ: أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ سُورَةُ الْعَلَقِ وَاخْتُلِفَ فِيمَا نَزَلَ بَعْدَ سُورَةِ الْعَلَقِ، فَقِيلَ سُورَةُ ن وَالْقَلَمِ، وَقِيلَ نَزَلَ بَعْدَ الْعَلَقِ سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ الْأَرْجَحُ ثُمَّ قِيلَ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ بَعْدَ الْقَلَمِ فَتَكُونُ ثَالِثَةً. وَهَذَا قَوْلُ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ فِي تَعْدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُدَّثِّرَ هِيَ الثَّانِيَةُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْقَلَمُ ثَالِثَةً وَالْمُزَّمِّلُ رَابِعَةً، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْمُزَّمِّلُ هِيَ الثَّالِثَةَ وَالْقَلَمُ رَابِعَةً، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُدَّثِّرَ نَزَلَتْ قَبْلَ الْمُزَّمِّلِ، وَهُوَ ظَاهِرُ حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ.
وَالْأَصَحُّ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ مَا فِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْآتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ الْآيَة.
وعدة آيُهَا فِي عَدِّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ثَمَانِ عَشْرَةَ آيَةً، وَفِي عَدِّ أَهْلِ الْبِصْرَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ وَفِي عَدِّ مَنْ عَدَاهُمْ عِشْرُونَ.
أَغْرَاضُهَا
الْإِشْعَارُ بِمُلَاطَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنِدَائِهِ بِوَصْفِهِ بِصِفَةِ تَزَمُّلِهِ.
254
Icon