مدنية. ووجه المناسبة لما قبلها : أن إقامة الحدود من أثر الرحمة التي ختم بها ما قبلها ؛ لأن بإقامة الحدود يقع الزجر عن المعاصي، فتنزل الرحمة والعافية. قال أبو هريرة رضي الله عنه :( إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة ) ١.
وقيل : لما ذكر تعالى في مشركي قريش :﴿ ولهم أعمال من دون ذلك ﴾، أي : أعمال سيئة ﴿ هم لها عاملون ﴾ [ المؤمنون : ٦٣ ]، ثم استطرد بعد ذلك في أحوالهم، كان من أعمالهم السيئة : الزنا، وكان لهم جوار بغايا عليهن، ويأكلون من كسبهن من الزنا، فأنزل الله هذه السورة، تغليظا في أمر الزنا. ه. وعن عائشة – رضي الله عنها – قال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا تنزلوا النساء الغرف، ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن سورة النور والغزل " ٢ أي : أحكام السورة ؛ لينزجرن عن الزنا.
وسميت سورة النور ؛ لقوله :﴿ الله نور السماوات والأرض ﴾ [ النور : ٣٥ ] وحقيقة النور : ما تنكشف به حقيقة الأشياء على ما هي عليه، فالنور الظاهر الحسي تنكشف به الأشياء الحسية، والنور الباطن تنكشف به الأشياء الباطنية، كمعرفة الذات الأقدس، وما يقرب إليها من آداب العبودية. ومرجعه إلى ثلاثة : نور معرفة أحكام المعاملة، ونور اليقين، ونور المكاشفة. فالأول : نور الإسلام، وهو كنور النجوم، والثاني : نور الإيمان، وهو كنور القمر، والثالث : نور الإحسان، وهو كنور الشمس. ويسمى الأولان : نور التوجه، والثالث : نور المواجهة. وتتفاوت هذه الأنوار على قدر التوجه والتفرغ من شواغل الحس، فإذا أشرقت شمس العرفان لم يبق لنور النجوم ولا للقمر أثر ؛ لمحو وجود الأكوان في محل العيان، فصار الغيب شهادة، والتصديق معاينة، فانطوى الإيمان في وجود العيان.
٢ أخرجه الحاكم في المستدرك ٢/٣٩٦، والهيثمي في مجمع الزوائد ٤/٩٣.
ﰡ
بسم الله الرحمان الرحيم :
﴿ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ * ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
قلت :" سورة " : خبر، أي : هذه سورة، وأشير لها، مع عدم تقدم ذكره ؛ لأنها في حكم الحاضر المشاهدَ. وقرئ بالنصب على الاشتغال، وجملة :( أنزلناها )، وما عطف عليه : صفة لسورة، مؤكد لما أفاده التنكير من الفخامة. و( الزانية ) : مبتدأ، والخبر ( فاجلدوا )، ودخلت الفاء ؛ لتضمن المبتدأ معنى الشرط ؛ إذ اللام موصولة، أي : والتي زنت والذي زنى فاجلدوا، هذا مذهب المبرد وغيره، والاختيار عند سيبويه : الرفع على الابتداء، والخبر : محذوف، أي : فيما فرض عليكم، أو : مما يُتلى عليكم : حكم الزانية والزاني، وقدَّم الزانية ؛ لأنها الأصل في الفعل، والداعية فيها أوفر، ولولا تمكينها منه لم يقع. وقيل : لمّا كان وجود الزنى في النساء أكثر، بخلاف السرقة، ففي الرجال أكثر، قَدَّم الحق تعالى الأكثر فيهما.
يقول الحق جل جلاله : هذه ﴿ سورةٌ ﴾، وهي الجامعة لآيات، بفاتحة لها وخاتمة، مشتقة من سور البلد. من نعت تلك السورة :﴿ أنزلناها ﴾ عليك، ﴿ وفرضْنَاها ﴾ أي : فرضنا الأحكام التي فيها. وأصل الفرض : القطع، أي : جعلناها مقطوعاً بها قطعَ إيجاب.
وقرأ المكي وأبو عمرو : بالتشديد ؛ للمبالغة في الإيجاب وتوكيده، أو : لأن فيها فرائض شتى، أو : لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم.
﴿ وأنزلنا فيها ﴾ أي : في تضاعيفها ﴿ آيات بينات ﴾ أي : دلائل واضحات ؛ لوضوح دلالتها على أحكامها لا على معانيها ؛ فإنها كسائر السور. وتكرير ( أنزلنا )، مع أن جميع الآيات عين السورة ؛ لاستقلالها بعنوان رائق دَاع إلى تخصيص إنزالها بالذكر ؛ إبانة لخطرها، ورفعاً لقدرها، كقوله تعالى :﴿ وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾ [ هود : ٥٨ ]، بعد قوله :﴿ نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ ﴾. ﴿ لعلكم تذكَّرون ﴾ أي : لكي تتعظوا فتعملوا بموجبها عند وقوع الحوادث الداعية إلى إجراء أحكامها. وفيه إيذان بأن حقها أن تكون على بالٍ منهم، بحيث متى مست الحاجة إليها استحضروها.
وفي بعض الأخبار القدسية :" يقول الله عز وجل : أنا الله لا إله إلا أنا، خلقت مكة بيدي، أُغني الحاج ولو بعد حين، وأُفقر الزاني ولو بعد حين، هذا وباله في الدنيا والآخرة، وأما في عالم البرزخ ؛ فتُجعل أرواحهم في تنوير من نار، فإذا اشتعلت عَلَوْا مع النار، وإذا خمدت سقطوا إلى أسفلها، هكذا حتى تقوم الساعة، كما في حديث البخاري٧. وقال ابن رشد : ليس بعد الشرك أقبح من الزنا ؛ لِما فيه من هتك الأعراض واختلاط الأنساب، ومن تاب فإن الله يتوب على من تاب. وبالله التوفيق.
وقوله تعالى :﴿ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ﴾ : قال في الإحياء : في الحديث :" خيار أمتي أَحِدَّاؤُهَا٨ " يعني : في الدين ؛ قال تعالى :﴿ ولا تأخذكم بهما رأفة ﴾، فالغيرة على الحُرَمِ، والغضب لله وعلى النفس، بكفها عن شهوتها وهواها، محمود، وفَقْدُ ذلك مذمومٌ. هـ. وبالله التوفيق.
وشرط الإحصان : العقل، والحرية، والإسلام، والبلوغ، والتزوج بنكاح صحيح، ودخول معتبر. وفي التعبير بالجلد، دون الضرب ؛ إشارة إلى أنه لا يبالغ إلى أن يصلَ أثرُ الضرب إلى اللحم، ولكن يخفف حتى يكون حد ألمه الجِلد الظاهر. والخطاب للأئمة ؛ لأن إقامة الحدود من الدِّين، وهو على الكل، إلا أنه لا يمكن الاجتماع، فيقوم الإمام مقامهم، وزاد مالك والشافعي مع الجلد : تغريب عام، أخذاً بالحديث الصحيح١. وقال أبو حنيفة : إنه منسوخ بالآية.
﴿ ولا تأخذكم بهما رأفةٌ ﴾ أي : رحمة ورقة. وفيها لغات : السكونُ، والفتح مع القصر والمد، كالنشأة والنشاءة، وقيل : الرأفة في دفع المكروه، والرحمة في إيصال المحبوب. ﴿ في دين الله ﴾ أي : طاعته وإقامة حدوده، والمعنى : أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله، ولا يأخذهم اللين حتى يتركوا حدود الله. ﴿ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾، هو من باب التهييج، وإلهاب الغضب لله، ولدينه، فإن الإيمان يقتضي الجد في طاعته، والاجتهاد في إجراء أحكامه. وذكر اليوم الآخر ؛ لتذكير ما فيه العقاب في مقابلة المسامحة. وجواب الشرط : مضمر، أي : إن كنتم تؤمنون بالله فاجلدوا ولا تعطلوا الحد.
قيل لأبي مجلز في هذه الآية : والله إنا لنرحمهم أن يُجلَدَ الرجل أو تُقطع يده، فقال : إنما ذلك في السلطان، ليس له أن يدعهم رحمة لهم. وجَلَدَ ابن عمر جارية، فقال للجلاد : ظهرَها ورجليها وأسفلها، وخفّف، فقيل له : أين قوله :﴿ ولا تأخذكم بهما رأفة ﴾. . . ؟ فقال : أأقتلها ؟، إنَّ الله أمرني أن أضربها وأأدبها، ولم يأمرني أن أقتلها٢. ه. ويجرد للجلد إلا ما يستر العورة.
﴿ وليشهدْ عذابَهما ﴾ أي : وليحضر موضع حدِّهما ﴿ طائفةٌ من المؤمنين ﴾ ؛ زيادة في التنكيل، فإن التفضيح قد ينكل أكثر من التعذيب. قال بعض العلماء : ينبغي أن يقام بين يدي الحكام، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم ؛ لأنه قيام بقاعدة شرعية، وقُربة تعبدية، يجب المحافظة على فعلها، وقدرها، ومحلها، وحالها، بحيث لا يتعذر شيء من شروطها وحرمتها، فإن دم المسلم وحرمته عظيمة، فيجب مراعاته بكل ما أمكن، فلا يقصر عن الحد، ولا يزاد عليه. ويطلب الاعتدال في السوط، فلا يكون ليناً جداً، ولا يابساً جداً، وكذلك في الضرب، فلا يرفع يده حتى يرى إبطه، ولا يخفف فيه جداً، بل يتوسط بحيث يؤلمه ولا يضره.
وتسمية الحدّ عذاباً دليل على أنه عقوبة وكفارة. و " الطائفة " : فرقة، يمكن أن تكون حافة حول الشيء، من الطوْف، وهو الإدارة، وأقلها : ثلاثة، وقيل : أربعة إلى أربعين. وعن الحسن : عشرة، والمراد : جمع يحصل به التشهير. والله تعالى أعلم.
وفي بعض الأخبار القدسية :" يقول الله عز وجل : أنا الله لا إله إلا أنا، خلقت مكة بيدي، أُغني الحاج ولو بعد حين، وأُفقر الزاني ولو بعد حين، هذا وباله في الدنيا والآخرة، وأما في عالم البرزخ ؛ فتُجعل أرواحهم في تنوير من نار، فإذا اشتعلت عَلَوْا مع النار، وإذا خمدت سقطوا إلى أسفلها، هكذا حتى تقوم الساعة، كما في حديث البخاري٧. وقال ابن رشد : ليس بعد الشرك أقبح من الزنا ؛ لِما فيه من هتك الأعراض واختلاط الأنساب، ومن تاب فإن الله يتوب على من تاب. وبالله التوفيق.
وقوله تعالى :﴿ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ﴾ : قال في الإحياء : في الحديث :" خيار أمتي أَحِدَّاؤُهَا٨ " يعني : في الدين ؛ قال تعالى :﴿ ولا تأخذكم بهما رأفة ﴾، فالغيرة على الحُرَمِ، والغضب لله وعلى النفس، بكفها عن شهوتها وهواها، محمود، وفَقْدُ ذلك مذمومٌ. هـ. وبالله التوفيق.
٢ أخرجه الطبري في تفسيره ١٨/٦٧..
﴿ الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله : من شأن ﴿ الزاني ﴾ الخبيث : أنه لا يرغب إلا في زانية خبيثة من شكله، أو في مشركة، والخبيثة المسافحة لا يرغب فيها إلا من هو من شكلها، من الفسقة أو المشركين، وهذا حُكْمٌ جار على الغالب المعتاد، جيء به ؛ لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني، بعد زجرهم عن الزنا بهن ؛ إذ الزنا عديل الشرك في القبح، كما أن الإيمان قرين العفاف والتحصن، وهو نظير قوله :﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ﴾ [ النور : ٢٦ ].
روي أن المهاجرين لَمَّا قدموا المدينة، وكان فيهم من ليس له مال ولا أهل، وبالمدينة نساء بغايا مُسافِحَات، يُكرين أنفسهن وهُنَّ أخْصَبُ أهل المدينة، رغب بعضُ الفقراء في نكاحهن ؛ لحسنهن، ولينفقوا عليهم من كَسْبِهِنّ، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت١، فنفرهم الله تعالى عنه، وبيَّن أنه من أفعال الزناة وخصائص المشركين، فلا تحوموا حوله ؛ لئلا تنتظموا في سلكهم وتَتَّسِمُوا بسمتهم.
قيل : كان نكاح الزانية محرماً في أول الإسلام، ثم نسخ بقوله :﴿ وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾ [ النور : ٣٢ ]. وقيل : المراد بالنكاح : الوطء، أي : الزاني لا يزني إلا بزانية مثله، وهو بعيد، أو باطل.
وسُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمن زنا بامرأة ثم تزوجها. فقال :" أَوَّلُهُ سِفَاحٌ، وآخره نكاح٢ " و " الحرام لا يُحرم الحلال٣ ".
ومعنى الجملة الأولى : وصفُ الزاني بكونه غير راغب في العفائف، ولكن في الفواجر. ومعنى الثانية : وصف الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء، ولكن الزناة، وهما معنيان مختلفان. وقدّم الزاني هنا، بخلاف ما تقدم في الجلد ؛ لأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت تلك الجناية، كما تقدم، وأما هنا فمسوقة لذكر النكاح، والرجل أصل فيه.
ثم ذكر الحُكْم فقال :﴿ وحُرِّم ذلك على المؤمنين ﴾ أي : نكاح الزواني بقصد التكسب، أو : للجمال ؛ لما في ذلك من التشبه بالفساق وحضور مواضع التهمة، والتعرض لسوء المقالة والغيبة والطعن في النسب، وغير ذلك من المفاسد التي لا تكاد تليق بأحد من الأداني والأراذل، فكيف بالمؤمنين والأفاضل ؟، ولذلك عبّر عن التنزيه بالتحريم، مبالغة في الزجر، وقيل : النفي بمعنى النهي، وقرئ به. والتحريم : إما على حقيقته، ثم نسخ بقوله :﴿ وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ ﴾ [ النور : ٣٢ ] إلخ، أو : مخصوص بسبب النزول. والله تعالى أعلم.
الإشارة : الصحبة لها تأثير في الأصل والفرع، فيحصل الشرف أو السقوط بصحبة أهل الشرف أو الأراذل، وفي ذلك يقول القائل :
عَلَيْكَ بأَرْبَابِ الصُّدُورِ، فَمَنْ غَدَا | مُضَافاً لأَرْبَابِ الصُّدُورِ تَصَدَّرَا |
وَإِيَّاكَ أَنْ تَرْضَى بِصُحْبَةِ سَاقِطٍ | فَتَنحط قَدْراً مِنْ عُلاَكَ وَتَحْقُرَا |
وفي الحديث :" إياكم وخَضْرَاءَ الدِّمَنِ، قيل : وما خضراء الدمن يا رسول الله ؟ قال : المرأة الحسناء في المنبت السوء٤ ". قال ابن السكيت : شبهها بالبقلة الخضراء في دِمْنَةِ أرض خبيثة ؛ لأن الأصل الخبيث يحن إلى أصله، فتجيء أولادها لأصلها في الغالب. فيجيب على اللبيب - إن ساعفته الأقدار - أن يختار لزراعته الأرض الطيبة، وهي الأصل الطيب، لتكون الفروع طيبة. وفي الحديث :" تخيَّرُوا لنطفكم ولا تضعوها إلاّ في الأَكْفَاءِ٥ " ه. وبالله التوفيق.
٢ أخرجه عبد الرزاق في المصنف ٧/٢٠٢، والبيهقي في السنن الكبرى ٧/١٦٨..
٣ أخرجه ابن ماجه في النكاح حديث ٢٠١٥..
٤ أخرجه الديلمي في الفردوس حديث ١٥٣٧. والعجلوني في كشف الخفاء ١/٢٧٢..
٥ أخرجه ابن ماجه في النكاح حديث ١٩٦٨، والبيهقي في السنن الكبرى ٧/١٣٣، وابن عدي في الكامل في الضعفاء ٢/٦١٤..
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ * ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
قلت :" ثمانين " : مفعول مطلق، و " جلَدة " : تمييز. " إلا الذين تابوا " : إما استثناء من ضمير " لهم "، فمحله : الجر، أو : من قوله :" الفاسقون "، فمحله : النصب ؛ لأنه بعد مُوجَبٍ تام.
يقول الحق جل جلاله، في بيان شأن العفائف، بعد بيان شأن الزواني :﴿ والذين يرمُون ﴾ أي : يقذفون بالزنا ﴿ المحصناتِ ﴾ ؛ الحرائر العفائف المسلمات المكلفات، بأن يقول : يا زانية، أو : يا مُحبة، ولا فرق بين التصريح والتعريض، ولا بين النساء والرجال، قاذفاً أو مقذوفاً. والتعبير بالرمي، المنبئ عن صلابة الآلة، وإيلام المرمى، وبعده عن الرامي ؛ إيذان بشدة تأثيره فيهن، وكونه رجماً بالغيب. والتعبير بالإحصان يدل على أن رميهن إنما كان بالزنا، لا غير.
﴿ ثم لم يأتوا بأربعةِ شهداء ﴾ يشهدون عليهن بما رموهن به، وفي كلمة " ثم " ؛ إشارة إلى جواز تأخير الإتيان بالشهود، كما أن في كلمة " لم " : تحقق الإتيان بهم. وشروط إحصان القذف : الحرية، والعقل، والبلوغ، والإسلام، والعفة عن الزنا، فإن توفرت الشروط ﴿ فاجلدوهم ﴾ أي : القاذفين ﴿ ثمانينَ جلدة ﴾ ؛ لظهور كذبهم وافترائهم ؛ لقوله تعالى :﴿ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [ النور : ١٣ ]، وتخصيص رميهن بهذا الحكم، مع أن رمي المحصنين أيضاً كذلك ؛ لخصوص الواقعة، وشيوع الرمي فيهن. والحدود كلها تشطر بالرق، فعلى العبد في الزنا خمسون، وفي القذف أربعون.
﴿ ولا تقبلوا لهم ﴾ بعد ذلك ﴿ شهادةً أبداً ﴾ ؛ زجراً لهم ؛ لأن رد شهادتهم مؤلم لقلبهم، كما أن الجلد مؤلم لبدنهم. وقد آذى المقذوف بلسانه، فعوقب بإهدار شهادته، جزاء وفاقاً. والمعنى : ولا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات، حال كونها حاصلة لهم عند الرمي، أبداً، مدة حياتهم، فالرد من تتمه الحدّ، كأنه قيل : فاجلدوهم وردوا شهادتهم، أي : فاجمعوا لهم بين الجلد والبرد. ﴿ وأولئك هم الفاسقون ﴾، كلام مستأنف غير داخل في جزاء الشرط ؛ لأنه حكاية حال الرامي عند الله تعالى بعد انقضاء الجزاء، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد ؛ للإيذان ببُعد منزلتهم في الشر والفساد، أي : أولئك هم المحكوم عليهم بالفسق، والخروج عن الطاعة، والتجاوز عن الحد، فإنهم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق عليهم، دون غيرهم.
إذَا شئْتَ أَن تَحْيَا ودينك سالم | وحظك موفُورٌ وعِرْضُكَ صَيّنُ |
لِسَانَكَ، لا تذكُرْ به عَوْرَةَ امِرئٍ | فعندك عَوْرَاتٌ ولِلنَّاس أَلسُنُ |
وعَاشِرْ بمَعْرُوفٍ وجَانِبْ مَنِ اعتَدى | وفارقْ ولكنْ بالتي هي أحْسَنُ |
إذَا شئْتَ أَن تَحْيَا ودينك سالم | وحظك موفُورٌ وعِرْضُكَ صَيّنُ |
لِسَانَكَ، لا تذكُرْ به عَوْرَةَ امِرئٍ | فعندك عَوْرَاتٌ ولِلنَّاس أَلسُنُ |
وعَاشِرْ بمَعْرُوفٍ وجَانِبْ مَنِ اعتَدى | وفارقْ ولكنْ بالتي هي أحْسَنُ |
﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ * ﴿ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ * ﴿ وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ * ﴿ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾ * ﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ﴾
قلت :( إلا أنفسهم ) : بدل من ( شهداء )، أو صفة له، على أن ( إلا ) بمعنى غير. و( فشهادة ) : مبتدأ، والخبر محذوف، أي : واجبة، أو : تدرأ عنه العذاب، أو : خبر عن محذوف، أي : فالواجب شهادة أحدهم.
يقول الحق جل جلاله :﴿ والذين يرمون أزواجهم ﴾ أي : يقذفون زوجاتهم بالزنا، ﴿ ولم يكن لهم شهداءُ ﴾ أي : لم يكن لهم على تصديق قولهم من يشهد لهم به ﴿ إلا أنفسهُمُ ﴾، جُعِلوا من جملة الشهداء ؛ إيذاناً بعدم قبول قولهم بالمرة، ﴿ فشهادةُ أحدهم ﴾ أي : فالواجب شهادة أحدهم ﴿ أربعُ شهادات بالله ﴾ يقول أشهد بالله ﴿ إنه لمن الصادقين ﴾ فيما رماها به من الزنا.
﴿ والخامسةُ أنَّ لعنت الله عليه ﴾ أي : إنه لعنة الله عليه، أي : يقول فيها : لعنة الله عليه ﴿ إن كان من الكاذبين ﴾ فيما رماها به. فإذا حلف دُرِئ عنه العذاب، أي : دفع عنه الحد، وَإِنْ نَكَلَ : حُدَّ ؛ لقذفها.
﴿ والخامسةُ أنَّ لعنت الله عليه ﴾ أي : إنه لعنة الله عليه، أي : يقول فيها : لعنة الله عليه ﴿ إن كان من الكاذبين ﴾ فيما رماها به. فإذا حلف دُرِئ عنه العذاب، أي : دفع عنه الحد، وَإِنْ نَكَلَ : حُدَّ ؛ لقذفها.
﴿ والخامسة أنَّ غضب الله عليها إن كان ﴾ الزوج ﴿ من الصادقين ﴾ فيما رماها به من الزنا. وذكر الغضب في حق النساء ؛ تغليظاً ؛ لأن النساء ؛ يستعملن اللعن كثيراً، كما ورد به الحديث :" يُكْثِرْنَ اللعْنَ١ "، فربما يجترئن على الإقدام، لكثرة جري اللعن على ألسنتهن، وسقوط وقعه عن قلوبهن، فذكر الغضب في جانبهن ؛ ليكون ردعاً لهن.
فإذا حلفا معاً فُرق بينهما بمجرد التلاعن، عند مالك والشافعي، على سبيل التأبيد، وقال أبو حنيفة : حتى يحكم القاضي بطلقة بائنة ؛ فتحل له بنكاح جديد إذا أكذب نفسه وتاب.
رُوي أن آية القذف المتقدمة لَمَّا نزلت ؛ قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقام عاصم بن عدي الأنصاري، فقال : جعلني الله فداءك، إن وجد رجل مع امرأته رجلاً، فأخبر بما رأى، جُلِدَ ثمانين، وسماه المسلمون فاسقاً، ولا تقبل شهادته أيضاً، فكيف لنا بالشهداء، ونحن إذا التمسنا الشهداء فرغ الرجلُ من حاجته، وإن ضربه بالسيف قُتل ؟ اللهم افتح، وخرج فاستقبله هلالُ بن أمية - وقيل : عُوَيْمِر - فقال : ما وراءك ؟ فقال : الشر، وجدت على امرأتي خولة - وهي بنت عاصم - شريكَ بن سحماء - فقال عاصم : والله هذا سؤال ما أسرع ما ابتليت به، فرجعا، فأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم خولة : فأنكرت، فنزلت هذه الآية، فتلاعنا في المسجد، وفرَّق بينهما، فقال صلى الله عليه وسلم :" ارقبوا الولد، إن جاءت به على نعت كذا وكذا، فما أراه إلا كذب عليها، وإن جاءت به على نعت كذا، فما أراه إلا صدق "
فجاءت به على النعت المكروه٢.
٢ أخرجه البخاري في تفسير سورة ٢٤ حديث ٤٧٤٥، ٤٧٤٧، ومسلم في اللعان حديث ١، ١١..
﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾
قلت :( عُصْبة ) : خبر " إن "، و( لا تحسبوه ) : استئناف.
يقول الحق جل جلاله :﴿ إن الذين جاؤوا بالإِفْكِ ﴾ ؛ وهو أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وقيل : هو البهتان لا تشعر به حتى يفاجئك. والمراد : مَا أُفِك على الصديقة عائشة - رضي الله عنها -، وفي لفظ المجيء إشارة إلى أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل.
وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً أقْرَعَ بين نسائِه، فأيَّتهُنَّ خرجت قُرعتها استصحبها، قالت عائشة - رضي الله عنها - : فأقرعَ بيننا في غزوةٍ غزاها - قيل : هي غزوة بني المصطلق، وتُسمى أيضاً : غزوة المريسيع، وفيها أيضاً نزل التيمم - فَخَرّج سهمي، فخرجتُ معه صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية الحجاب، فحُملت في هودج، فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة ؛ نزلنا منزلاً، ثم نُودي بالرحيل، فقمتُ ومشيتُ حتى جاوزتُ الجيش، فلما قضيتُ شأني أقبلتُ إلى رَحْلي، فلمسْتُ صدري فإذا عِقْدٌ لي مِنْ جَزْعِ١ أظفارٍ قد انقطعَ، فرجعتُ فالتمسته، فحبسني التماسه. وأقبل الرَّهطُ الذين كانوا يرحلوني، فاحتملوا هَوْدَجِي فرحلوه على بعيري، وهم يحسبون أنِّي فيه ؛ لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج، وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيه داعٍ ولا مجيب، فتيممت منزلي، وظننت أن سيفقدونني ويعودُون في طَلَبي، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني، فنمت، وكان صَفْوَانُ بن المعطِّل قد عرّس٢ من وراء الجيش، فأدْلَجَ فأصبح عند منزلي، فلما رآني عرفني، وكان يراني قبل الحجاب، فاسترجع، فاستيقظت باسترجاعه، فخَمَّرْتُ وجهي بجلبابي، والله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعتُ منه كلمة، غير استرجاعه، فأناخ راحلته، فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها، وانطلق يقود بي الراحلة، حتى أتينا الجيش مُوغرين في نَحْرِ الظهيرة، وهم نزول، وافْتَقَدني الناسُ حين نَزَلُوا، وماج الناس في ذِكْرِي، فبينما الناس كذلك إذ هَجَمْتُ عليهم، فخَاضَ الناس في حديثي، فهلك مَنْ هلك٣. والحديث بطوله مذكور في الصحيحين والسّيَر.
وقوله تعالى :﴿ عُصْبَةٌ منكم ﴾ أي : جماعة من جلدتكم، والعصبة : من العشرة إلى الأربعين، وكذا العصابة، يقال : اعصوصبَوا : اجتمعوا. وهم عبد الله بن أُبّي رأس المنافقين، وزيد بن رفاعة، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، ومن ساعدهم. واختلف في حساب بن ثابت، فمن قال : كان منهم، أنشد البيت المروي في شأنهم ممن جلدوا الحد :
لَقَدْ ذَاقَ حَسَّانُ الذي هُو أَهْلُهُ | وَحِمْنَةُ ؛ إذ قالا هجَيْراً، وِمسْطَحُ |
حَصَانُ رَزَانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبَةٍ | وتُصْبحُ غَرْثَى من لُحُوم الْغَوافِلِ |
فَإنْ كان ما بُلِّغْتَ عَنِّي قُلْتُه | فَلاَ رَفَعَتْ سَوْطِي إليَّ أَنامِلي |
ثم قال تعالى :﴿ لا تحسَبُوه شَرَّا لكم ﴾، والخطاب للرسول - عليه الصلاة والسلام -، وأبي بكر، وعائشة، وصفوان ؛ تسلية لهم من أول الأمر، ﴿ بل هو خيرٌ لكم ﴾ ؛ لاكتسابكم به الثواب العظيم، وظهور كرامتكم على الله عز وجل ؛ بإنزال القرآن الذي يُتلى إلى يوم الدين في نزاهة ساحتكم وتعظيم شأنكم، وتشديد الوعيد فيمن تكلم فيكم، والثناء على من ظن خيراً بكم، مع ما فيه من صدق الرُّجْعَى إلى الله، والافتقار إليه، والإياس مما سواه.
ثم ذكر وبال من وقع فيها بقوله :﴿ لكل امرئ منهم ﴾ أي : من أولئك العصبة ﴿ ما اكتسبَ من الإثم ﴾ أي : له من الجزاء بقدر ما خاض فيه، وكان بعضهم ضحك، وبعضهم تكلم، وبعضهم سكت. ﴿ والذي تولى كِبْرَهُ ﴾ أي : معظمه وجُله ﴿ منهم ﴾ أي : من العصبة، وهو عبد الله بن أُبَيّ ﴿ له عذابٌ عظيم ﴾ في الآخرة، إن كان كافراً، كابن أُبّي، وفي الدنيا إن كان مؤمناً، وهو الحد وإبطال شهادتهم وتكذيبهم. وقد رُوي أن مسطح كُف بصره، وكذلك حسان، إن ثبت عنه الخوض فيه، والله تعالى أعلم.
الإشارة : كلام الناس في أهل الخصوصية مَقَاذِفُ لسير سفينتهم، ورياح لها، فكلما قوي كلام الناس في الولي قَوِيَ سَيْرُهُ إلى حضرة ربه، حتى تمنى بعضهم أن يكون غابة والناس فيه حَطاَّبَة. وفي الحِكَم :" إنما أجرى الأذى عليهم كي لا تكون ساكناً إليهم، أراد أن يُزْعِجَكَ عن كل شيء حتى لا يَشْغَلَكَ عنه شيء ".
والحق تعالى غيور على قلوب أصفيائه، لا يحب أن تركن إلى غيره، فمهما ركنت إلى شيء شوش ذلك عليه، كقضية سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام مع ابنه حين أمر بذبحه، وكقضية سيدنا يعقوب عليه السلام مع ابنه حين غيّبه عنه. وكانت عائشة رضي الله عنها - قد استولى عليها حبه - عليه الصلاة والسلام -، فكادت تحجب بالواسطة عن الموسوط، فردها إليه تعالى بما أنزل بها، تمحيصاً وتخليصاً وتخصيصاً، حتى أفردت الحق تعالى بالشهود، فقالت : بحمد الله، لا بحمد أحد. وكذا شأنه تعالى مع أحبائه ؛ يردهم إليه بما يوقع بهم من المحن والبلايا حتى لا يكونوا لغيره. وبالله التوفيق.
٢ عرس: نزل من السفر للنوم أو للاستراحة..
٣ أخرجه البخاري في المغازي حديث ٤١٤١، وتفسير سورة ٢٤ حديث ٤٧٥٠، ومسلم في التوبة حديث ٥٦، وأحمد في المسند ٦/١٩٤، ١٩٥، ١٩٧..
٤ البيت في ديوان حسان بن ثابت ص ٢٢٨، والإنصاف ٢/٧٥٩، ولسان العرب (حصن)..
٥ البيت في ديوان حسان ٢٢٩..
﴿ لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ﴾ * ﴿ لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾
قلت : قال ابن هشام : وقد يلي حرف التخصيص اسم معلق بفعل، إما بمضمر، نحو :" فهَلاَّ بكْراً تُلاعِبُها وتُلاعِبُك١ : أي : فهلا تزوجت، أو مؤخراً نحو :( لولا إذ سمعتموه قلتم.. ) أي : فهلا قلتم إذ سمعتموه. هـ. وإليه أشار في الخلاصة بقوله :
وَقَدْ يَلِيهَا اسْمٌ بِفِعْلِ مُضْمَرِ | عُلِّقَ أَوْ بِظاَهِرٍ مُؤَخَّرِ |
وكذا قال عليّ رضي الله عنه :( إن جبريل أخبرك أنَّ على نَعْلِك قذراً، وأمرك بإخراج النعل عن رجلك، بسبب ما التصق به من القذر، فكيف لا يأمرك بإخراجها، على تقدير أن تكون متلطخة بشيء من الفواحش ) ؟ قال النسفي.
وروي أن أبا أيوب الأنصاري قال لامرأته : ألا ترين ما يقال في عائشة ؟ فقالت : لو كُنْتَ بدل صفوان أَكُنْتَ تخُون رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : لا، قالت : ولو كنتُ أنا بدل عائشة مَا خُنْتُ رسول الله، فعائشة خير مني، وصفوان خير منك. وفي رواية ابن إسحاق : قالت زوجة أبي أيوب لأبي أيوب : ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة ؟ قال : بلى، وذلك الكذب. أَكُنْتِ فاعلة ذلك يا أم أيوب ؟ قالت : لا والله، فقال : عائشة خير منك، سبحان الله، هذا بهتان عظيم، فنزل :﴿ لَّوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ﴾. . . الآية.
وإنما عدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير الظاهر، ولم يقل : ظننتم بأنفسكم خيراً، وقلتم ؛ ليبالغ في التوبيخ بطريق الالتفات، وليدل التصريح بلفظ الإيمان على أن المؤمن لا يسيء الظن بأحد من المؤمنين.
﴿ وقالوا ﴾ عند سماع هذه الفرية :﴿ هذا إفكٌ مبين ﴾ ؛ كذب ظاهر لا يليق بمنصب الصدّيقة بنت الصدّيق.
وَقَدْ يَلِيهَا اسْمٌ بِفِعْلِ مُضْمَرِ | عُلِّقَ أَوْ بِظاَهِرٍ مُؤَخَّرِ |
﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ * ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ * ﴿ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ * ﴿ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
قلت :( لولا ) هنا : امتناعية بخلاف المتقدمة ؛ فإنها تحضيضية، و( إذ سمعتموه ) : معمول لقُلتم، و( إذْ تلقونه ) : ظرف لمسَّكم.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولولا فضلُ الله عليكم ﴾ أيها السامعون ﴿ ورحمتُهُ في الدنيا ﴾ ؛ من فنون النِعَم، التي من جملتها : الإمهال والتوبة، ﴿ و ﴾ في ﴿ الآخرةِ ﴾ ؛ من ضروب الآلاء، التي من جملتها : العفو والمغفرة، ﴿ لمسَّكم ﴾ عاجلاً ﴿ فيما أفَضْتُم ﴾ أي : بسبب ما خضتم ﴿ فيه ﴾ من حديث الإفك ﴿ عذابٌ عظيمٌ ﴾ يُستحقر دونه التوبيخ والجَلْدُ، يقال أفاض في الحديث، وفاض، واندفع : إذا خاض فيه.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ إن الذين يُحبون ﴾ ؛ يريدون ﴿ أن تشيعَ الفاحشةُ ﴾ أي : تنتشر الخصلة المفرطة في القبح، وهو الرمي بالزنا، أو نفس الزنا، والمراد بشيوعها : شيوع خبرها، أي : يحبون شيوعها ويتصدون مع ذلك لإشاعتها. وإنما لم يصرح به ؛ اكتفاء بذكر المحبة ؛ فإنها مستلزمة له لا محالة، وهم : عبد الله بن أبيّ وأصحابه ومن تبعهم. ﴿ لهم عذابٌ أليم في الدنيا ﴾ ؛ بالحدّ والفضيحة والتكذيب. ولقد ضرب صلى الله عليه وسلم الحدّ كل من رمى عائشة. وتقدم الخلاف في ابن أُبي، فقيل : حدَّه، وقيل : تركه ؛ استئلافاً له.
﴿ و ﴾ لهم العذاب في ﴿ الآخرة ﴾ بالنار وغيرها، إن لم يتوبوا. ﴿ والله يعلم ﴾ جميع الأمور، التي من جملتها : المحبة المذكورة، ﴿ وأنتم لا تعلمون ﴾ ما يعلمه تعالى، بل إنما يعلمون ما ظهر من الأقوال والأفعال المحسوسة، فابنوا أمركم على ما تعلمونه، وعاقبوا في الدنيا على ما تشاهدونه من الأحوال الظاهرة، والله يتولى السرائر، فيعاقب في الآخرة على ما تُكنه الصدور.
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ * ﴿ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خُطواتِ الشيطان ﴾ أي : لا تسلكوا مسالكه في كل ما تأتون وتذرون من الأفاعيل، والتي من جملتها : منع الإحسان إلى من أساء إليكم ؛ غضباً وحَمِيَّةً، ﴿ ومن يتبع خُطُوات الشيطان ﴾، وضع الظاهر موضع المضمر، حيث لم يقل : ومن يتبعها، أو : ومن يتبع خطواته ؛ لزيادة التقرير والمبالغة في التنفير، ﴿ فإنه ﴾ أي : الشيطان ﴿ يأمرُ بالفحشاء ﴾ ؛ كالبخل والشح، وكل ما عَظُمَ قُبْحُهُ، ﴿ والمنكر ﴾ ؛ كالغضب، والحمية، وكل ما ينكره الشرع ؛ لأن شأن الشيطان أن يأمر بهما. فمن اتبع خطواته فقد امتثل أمره.
﴿ ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه ﴾ بالهداية والتوفيق لأسباب التطهير والعصمة والحفظ، ﴿ ما زَكَى منكم ﴾ أي : ما طَهُرَ من أَدْناسِ العيوب ولوث الفواحش ﴿ من أحدٍ أبداً ﴾ ؛ إلى ما لا نهاية له، وإذا كان التطهير والعصمة بيد الله فلا تروا لأنفسكم فضلاً عمن لم يعصمه الله ؛ فإنه مقهور تحت مجاري الأقدار، ﴿ ولَكِنَّ الله يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ﴾ ؛ يطهر من يشاء من عباده ؛ بإفاضة آثار فضله ورحمته عليه ؛ بالحفظ والرعاية، أو بالتوبة بعد الجناية، ﴿ والله سميعٌ عليم ﴾ ؛ سميع لأقوالكم وإن خفيت، ومن جملتها : الحلف على ترك فعل الخير، عليم بنياتكم وإخلاصكم.
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً، فإذا تعلق بالله، واضطر إليه اضطرار الظمآن إلى الماء طهَّره الله وزكاه، إما بلا سبب، أو بأن يلقيه إلى شيخ كامل، يُربيه ويهذبه بإذن الله، وهذا هو الكثير، والكل منه وإليه.
قال الورتجبي قوله تعالى :﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته... ﴾ إلخ : بيّن أن تطهير العباد من الذنوب لا يكون إلا بفضله السابق وعنايته الأزلية، كيف يزكي العِلَلَ ما يكون عللاً، فالمعلول لا يُطَهِّرُ، والمعلول أفعال الحدثان على كل صنف، ولطف القديم له استحقاق ذهاب العلل بوصوله. قال السياري : قال الله :﴿ ولولا فضل الله عليكم ﴾، ولم يقل : لولا عبادتكم وصلاتكم وجهادكم وحسن قيامكم بأمر الله ما نجا منكم أحد ؛ ليعلم أن العبادات، وإن كثرت، فإنها من نتائج الفضل. هـ.
قال في الحاشية : وظهر لي أن الآية مقدمة لما ندب إليه الصدِّيق بقوله :﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم ﴾، ففيه إشارة إلى أن فضله وزكاته فضل من الله عليه، وعنايةٌ سابقةٌ، وهي سبب حِفْظِهِ وتحليه بِخِلَعِ كوامل الأوصاف، فليشهدْ ذلك، ولا يأتل على من لم يجد ذلك، حتى وقع فيما وقع من القذف، بل يعذره، ويرى مِنَّةَ الله عليه في كونه نَزَّهَهُ بعنايته من الوقوع في مثل ذلك، مع كون المحل قابلاً، ولكن الله خَصَّصَهُ. هـ.
قال الورتجبي على قوله :﴿ ولا يأتل... ﴾ إلخ : في الآية بيانُ وتأديبُ الله للشيوخ والأكابر ألاَّ يهجروا صاحب العثرات والزلات، من المريدين، ويتخلقوا بخلق الله، حيث يغفر الذنوب العظامَ ولا يبالي، وأَعْلَمَهُمْ ألاّ يَكُفُّوا أعطافهم عنهم. ثم قال : فَإنَّ مَنْ لَهُ اسْتِعْدَادٌ لا يَحْتَجِبُ بِعَوَارِضِ البَشَرِيَّةِ عَنْ أَحْكَامِ الطَّرِيقَةِ أبَداً. هـ.
﴿ ألا تُحبُّون أن يغفر الله لكم ﴾ ؟ فلتفعلوا ما تحبون أن يُفْعَلَ بكم وبهم، مع كثرة خطاياهم، ﴿ والله غفور رحيم ﴾ ؛ مبالغ في المغفرة والرحمة، مع كثرة ذنوب العباد، فتأدبوا بآداب الله، واعفوا، وارحموا. ولما قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه قال : بل أُحب أن يغفر الله لي. ورد إلى مسطح نفقته، وقال : والله لا أنزعها منه أبداً١. وبالله التوفيق.
ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً، فإذا تعلق بالله، واضطر إليه اضطرار الظمآن إلى الماء طهَّره الله وزكاه، إما بلا سبب، أو بأن يلقيه إلى شيخ كامل، يُربيه ويهذبه بإذن الله، وهذا هو الكثير، والكل منه وإليه.
قال الورتجبي قوله تعالى :﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته... ﴾ إلخ : بيّن أن تطهير العباد من الذنوب لا يكون إلا بفضله السابق وعنايته الأزلية، كيف يزكي العِلَلَ ما يكون عللاً، فالمعلول لا يُطَهِّرُ، والمعلول أفعال الحدثان على كل صنف، ولطف القديم له استحقاق ذهاب العلل بوصوله. قال السياري : قال الله :﴿ ولولا فضل الله عليكم ﴾، ولم يقل : لولا عبادتكم وصلاتكم وجهادكم وحسن قيامكم بأمر الله ما نجا منكم أحد ؛ ليعلم أن العبادات، وإن كثرت، فإنها من نتائج الفضل. هـ.
قال في الحاشية : وظهر لي أن الآية مقدمة لما ندب إليه الصدِّيق بقوله :﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم ﴾، ففيه إشارة إلى أن فضله وزكاته فضل من الله عليه، وعنايةٌ سابقةٌ، وهي سبب حِفْظِهِ وتحليه بِخِلَعِ كوامل الأوصاف، فليشهدْ ذلك، ولا يأتل على من لم يجد ذلك، حتى وقع فيما وقع من القذف، بل يعذره، ويرى مِنَّةَ الله عليه في كونه نَزَّهَهُ بعنايته من الوقوع في مثل ذلك، مع كون المحل قابلاً، ولكن الله خَصَّصَهُ. هـ.
قال الورتجبي على قوله :﴿ ولا يأتل... ﴾ إلخ : في الآية بيانُ وتأديبُ الله للشيوخ والأكابر ألاَّ يهجروا صاحب العثرات والزلات، من المريدين، ويتخلقوا بخلق الله، حيث يغفر الذنوب العظامَ ولا يبالي، وأَعْلَمَهُمْ ألاّ يَكُفُّوا أعطافهم عنهم. ثم قال : فَإنَّ مَنْ لَهُ اسْتِعْدَادٌ لا يَحْتَجِبُ بِعَوَارِضِ البَشَرِيَّةِ عَنْ أَحْكَامِ الطَّرِيقَةِ أبَداً. هـ.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ * ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ * ﴿ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ إن الذين يرمون ﴾ ؛ يقذفون ﴿ المحصَنَاتِ ﴾ ؛ العفائف مِمَا رُمين به من الفاحشة، ﴿ الغافلاتِ ﴾ عنها على الإطلاق، بحيث لم يخطر ببالهن شيء منها ولا من مقدماتها، أو السليمات الصدور، النقيات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر ؛ لأنهن لم يُجربن الأمور، ﴿ المؤمنات ﴾ ؛ المتصفات بالإيمان بكل ما يجب الإيمان به، إيماناً حقيقياً لا يُخالجه شيء مما يكدره. عن ابن عباس : هنّ أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل : جميع المؤمنات ؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقيل : أريدت عائشة وحدها، وإنما جمع ؛ لأن من قذف واحدة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قذفهنّ.
ثم ذكر الوعيد، فقال :﴿ لُعِنُوا في الدنيا والآخرة ﴾، حيث يلعنهم اللاعنون من المؤمنين والملائكة أبداً، ﴿ ولهم ﴾ مع ذلك ﴿ عذابٌ عظيم ﴾، هائل لا يُقادَرُ قَدْرُهُ ؛ لعظم ما اقترفوه من الجناية، إن لم يتوبوا، فيعذبون.
قال القشيري : قوله تعالى :﴿ ويعلمون أن الله هو الحق المبين ﴾ : تصير المعارف ضروريةً، فيجدون المعافاة في النظر والتذكر، ويستريح القلبُ من وَصْفَيْ تَرَدُّدِه وتَغيُّرِه، باستغنائه ببَصرِه عن تبصره. ويقال : لا يشهدون هذا إلا بالحق، فهم قائمون بالحق للحق مع الحق، يُبدي لهم أسرارَ التوحيد وحقائقه، فيكون القائمَ فيهم والآخذَ لهم عنهم، من غير أن يردهم عليهم. هـ. وبالله التوفيق.
﴿ يوم تشهدُ عليهم ألسنتُهم وأيديهم وأرجلُهم بما كانوا يعملون ﴾ أي : بما أَفكوا وبَهَتُوا.
قال القشيري : قوله تعالى :﴿ ويعلمون أن الله هو الحق المبين ﴾ : تصير المعارف ضروريةً، فيجدون المعافاة في النظر والتذكر، ويستريح القلبُ من وَصْفَيْ تَرَدُّدِه وتَغيُّرِه، باستغنائه ببَصرِه عن تبصره. ويقال : لا يشهدون هذا إلا بالحق، فهم قائمون بالحق للحق مع الحق، يُبدي لهم أسرارَ التوحيد وحقائقه، فيكون القائمَ فيهم والآخذَ لهم عنهم، من غير أن يردهم عليهم. هـ. وبالله التوفيق.
ولم يُغَلِظِ الله تعالى في القرآن في شيء من المعاصي تَغْلِيظَهُ في إفك عائشة - رضي الله عنها - فأوجز في ذلك وأَشْبَعَ، وفَصَّل، وأَجَمَلَ، وأَكَّدَ، وكَرَّرَ، وما ذلك إلا لأمر عظيم.
وعن ابن عباس رضي الله عنه :( من أذنب ذنباً وتاب قُبلت توبته، إلا مَن خاض في أمر عائشة - رضي الله عنها )، وهذا منه مبالغةً وتعظيم لأمر الإفك، وقد برّأ الله تعالى أربعة ؛ برّأ يوسف بشاهدٍ من أهلها، وموسى عليه السلام من قول اليهود فيه : أنه آدر، بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم بنطق ولدها، وعائشة بهذه الآي العظام في كتابه المعجز، المتلوّ على وجود الدهر، بهذه المبالغات. فانظر : كم بينها وبين تبرئة أولئك ؟ ! وما ذلك إلا لإظهار علوّ منزلة رسوله، والتنبيه على إنَافَةِ محله صلى الله عليه وسلم.
وقد رام بعضُ النصارى الطَّعْنَ على المسلمين بقضية الإفك، فقال : كيف تبقى زوجة نبيكم، مع رجل أجنبي ؟ فقال له، من كان يناظره من العلماء : قد برأها من برأ أُمَّ نبيكم، فبُهت الذي كفر. والله تعالى أعلم.
قال القشيري : قوله تعالى :﴿ ويعلمون أن الله هو الحق المبين ﴾ : تصير المعارف ضروريةً، فيجدون المعافاة في النظر والتذكر، ويستريح القلبُ من وَصْفَيْ تَرَدُّدِه وتَغيُّرِه، باستغنائه ببَصرِه عن تبصره. ويقال : لا يشهدون هذا إلا بالحق، فهم قائمون بالحق للحق مع الحق، يُبدي لهم أسرارَ التوحيد وحقائقه، فيكون القائمَ فيهم والآخذَ لهم عنهم، من غير أن يردهم عليهم. هـ. وبالله التوفيق.
﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ الخبيثاتُ ﴾ من النساء ﴿ للخبيثين ﴾ من الرجال، ﴿ والخبيثون ﴾ من الرجال ﴿ للخبيثات ﴾ من النساء. وهذه قاعدة السنة الإلهية، أن الله تعالى يسوق الأهل للأهل، فمن كان خبيثاً فاسقاً يُزوجه الله للخبيثة الفاسقة مثله، ومن كان طيباً عفيفاً رزقه الله طيبة مثله. وهو معنى قوله تعالى :﴿ والطيباتُ ﴾ من النساء ﴿ للطيبين ﴾ من الرجال ﴿ والطيبون ﴾ من الرجال، ﴿ للطيباتِ ﴾ من النساء، فهذا هو الغالب.
وحيث كان - عليه الصلاة والسلام - أطيب الأطيبين، وخيرة الأولين والآخرين، تبين كون الصديقة - رضي الله عنها - من أطيب الطيبات، واتضح بطلان ما قيل فيها من الخرافات، حسبما نطق به قوله تعالى :﴿ أولئك مبرؤون مما يقولون ﴾، على أن الإشارة إلى أهل البيت، المنتظمين في سلك الصِّدِّيقِيَّةِ انتظاماً أولياً، وقيل : إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والصدِّيقة وصفوان، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد، للإيذان بعلو رتبة المشار إليهم، وبُعْدِ منزلتهم في الفضل، أي : أولئك الموصوفون بعلو الشأن : مبرؤون مما يقوله أهله الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة.
وقيل :( الخبيثات ) من القول تقال ( للخبيثين ) من الرجال والنساء، أي : لائقة بهم، لا ينبغي أن تقال إلا لهم. ( والخبيثون ) من الفريقين أَحِقَّاءُ بأن يُقَالَ في حقهم خبائث القول. ( والطيبات ) من الكلم ( للطيبين ) من الفريقين، مختصة بهم، وهم أحقاء بأن يقال في شأنهم طيبات الكلم. ﴿ أولئك ﴾ الطيبون ﴿ مبرؤون ﴾ مما يقول الخبيثون في حقهم.
فمآله تنزيه الصديقة أيضاً. وقيل : الخبيثات من القول لا تصدر إلا من الخبيثين، والطيبات من الكلمات لا تصدر إلا من الطيبين، وهم مبرؤون مما يقوله أهل الخبث، لا يقع ذلك منهم أَلْبَتَّةَ، ﴿ لهم مغفرة ﴾ لما لا يخلو عنه البشر من الذنب، ﴿ ورزق كريم ﴾ ؛ هو نعيم الجنان.
دخل ابن عباس رضي الله عنه على عائشة - رضي الله عنها - في مرضها، وهي خائفة من القدوم على الله عز وجل، فقال : لا تخافي، فإنك لا تقدمين إلا على مغفرة ورزق كريم، وتلى الآية، فغشي عليها : فرحاً بما تلا. وقالت رضي الله عنها - :( قد أُعْطِيت تسعاً ما أُعْطِيَتْهُنَّ امرأة : نزل جبريل بصورتي في راحته، حين أمر- عليه الصلاة والسلام - أن يتزوجني، وتزوجني بكراً، وما تزوج بكراً غيري، وتوفي - عليه الصلاة والسلام - ورأسه في حِجْري، وقبره في بيتي، وينزل عليه الوحي وأنا في لحافه، وأنا ابنة خليفته وصديقه، ونزل عذري من السماء، وخُلقت طيبة عند طيب، ووُعدت مغفرةً ورزقاً كريماً ).
الإشارة : الأخلاق الخبيثة ؛ مثل الكبر، والعجب، والرياء، والسمعة، والحقد، والحسد، وحب الجاه والمال، للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، فهم متصفون بها، وهي لازمة لهم، إلا أن يَصْحُبوا أهل الصفاء والتطهير، فيتطهرون بإذن الله، والأخلاق الطيبات ؛ كالتواضع، والإخلاص، وسلامة الصدور، والزهد، والورع، والسخاء، والكرم، وغير ذلك من الأخلاق الطيبة، للطيبين، والرجال الطيبون للأخلاق الطيبات. أولئك مبرؤون مما يقول أهل الإنكار فيهم، لهم مغفرة ؛ ستر لعيوبهم، ورزق كريم لأرواحهم ؛ من قوت اليقين، وشهود رب العالمين. وبالله التوفيق.
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ * ﴿ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ * ﴿ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم ﴾ أي : بيوتاً لستم تملكونها ولا تسكنونها، ﴿ حتى تستَأْنسوا ﴾ ؛ تستأذنوا، وقُرئ به، والاستئناس : الاستعلام، والاستكشاف، استفعال، من أنَس الشيء : أبصره، فإن المستأذن مستعلم للحال، مستكشف له، هل يؤذن له أم لا، ويحصل بذكر الله جهراً، كتسبيحة أو تكبيرة.
أو تَنَحْنُحٍ، ﴿ وتُسلِّموا على أهلها ﴾، بأن يقول : السلام عليكم، أَأَدْخُلُ ؟ ثلاث مرات، فإذا أُذن له، وإلا رجع، فإن تلاقيا، قدّم التسليم، وإلا، فالاستئذان. ﴿ ذلكم ﴾ أي : التسليم ﴿ خيرٌ لكم ﴾ من أن تدخلوا بغتة، أو من تحية الجاهلية.
كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتاً غير بيته يقول : حُييتم صباحاً، حييتم مساءاً، فربما أصاب الرجلَ مع امرأته في لحاف. رُوي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أَأَسْتأذنُ على أمي ؟ قال : نَعَم، قال : ليس لها خادم غيري، أأستأذن عليها كلما دَخَلْتُ ؟ قال صلى الله عليه وسلم :" أتحُبُّ أن تراها عريانة. . . ؟ ١ " ﴿ لعلكم تذكَّرون ﴾ أي : أمرتكم به، أو : قيل لكم هذا ؛ لكي تتعظوا وتعملوا بموجبه.
فيتأدبون بالسُنَّة في حركاتهم وسكناتهم، ودخولهم وخروجهم، فهم أَولى بالأدب، فيستأذنون كما أمر الله عند دخول منزلهم ؛ برفع صوتهم بذكر الله، أو بالتسبيح، أو بالسلام قبل الدخول. وكذا عند دخول منزل غيرهم، أو منزل بعضهم بعضاً. وأما مع الشيخ : فالأدب هو الصبر حتى يخرج، تأدباً بقوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ [ الحجرات : ٥ ]، فلا يقرعون بابه، ولا يطلبون خروجه إلا لضرورة فادحة.
﴿ وإن قيل لكم ارجِعُوا ﴾ أي : إذا كان فيها قوم، وقالوا : ارجعوا ﴿ فارجعوا ﴾ ولا تُلحُّوا في طلب الإذن، ولا تقِفُوا بالأبواب، ولا تخرقوا الحجاب ؛ لأن هذا مما يُوجب الكراهية والعداوة، وإذا نهى عن ذلك ؛ لأدائه إلى الكراهية ؛ وجب الانتهاء عن كل ما أدى إليها ؛ من قرع الباب بعنف، والتصييح بصاحب الدار، وغير ذلك. وعن أبي عبيد :" ما قرعت باباً على عالم قط ". فالرجوع ﴿ وهو أزْكَى لكمْ ﴾ أي : أطيب لكم وأطهر ؛ لِمَا فيه من سلامة الصدور والبُعد عن الريبة، والوقوفُ على الأبواب من دنس الدناءة والرذالة. ﴿ والله بما تعملون عليم ﴾ ؛ فيعلم ما تأتون وما تذرون مما كلفتموه، فيجازيكم عليه. وهو وعيد للمخاطبين.
فيتأدبون بالسُنَّة في حركاتهم وسكناتهم، ودخولهم وخروجهم، فهم أَولى بالأدب، فيستأذنون كما أمر الله عند دخول منزلهم ؛ برفع صوتهم بذكر الله، أو بالتسبيح، أو بالسلام قبل الدخول. وكذا عند دخول منزل غيرهم، أو منزل بعضهم بعضاً. وأما مع الشيخ : فالأدب هو الصبر حتى يخرج، تأدباً بقوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ [ الحجرات : ٥ ]، فلا يقرعون بابه، ولا يطلبون خروجه إلا لضرورة فادحة.
فيها متاعٌ لكم } أي : منفعة ؛ كاستكنانٍ من الحر والبرد، وإيواء الرجال والسلع، والشراء والبيع، والاغتسال، وغير ذلك، فلا بأس بدخولها بغير استئذان. روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال : يا رسول الله، إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان، وإنا لنختلِفُ في تجارتنا إلى هذه الخانات، فلا ندخلها إلا بإذن ؟ فنزلت. وقيل : هي الخرابات، يُتَبَرَّزُ فيها، ويقضون فيها حاجتهم من البول وغيره، والظاهر : أنها من جملة ما ينتظم في البيوت، لا أنها المرادة فقط. ﴿ والله يعلم ما تُبدون وما تكتمون ﴾، وعيد لمن يدخل مدخلاً من هذه المداخل ؛ لفسادٍ أو اطلاعٍ على عورات. والله تعالى أعلم.
فيتأدبون بالسُنَّة في حركاتهم وسكناتهم، ودخولهم وخروجهم، فهم أَولى بالأدب، فيستأذنون كما أمر الله عند دخول منزلهم ؛ برفع صوتهم بذكر الله، أو بالتسبيح، أو بالسلام قبل الدخول. وكذا عند دخول منزل غيرهم، أو منزل بعضهم بعضاً. وأما مع الشيخ : فالأدب هو الصبر حتى يخرج، تأدباً بقوله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ﴾ [ الحجرات : ٥ ]، فلا يقرعون بابه، ولا يطلبون خروجه إلا لضرورة فادحة.
﴿ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذالِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ * ﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِيا إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ. . . ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ قل للمؤمنين ﴾، ويندرج فيهم المستأذنون بعد دخولهم البيوت اندراجاً أوَّلِيّاً، أي : قل لهم :﴿ يغضُّوا مِنْ أبصارهم ﴾، و " مِن " : للتبعيض، والمراد : غض البصر عما يحرم، والاقتصار على ما يحل. ووجه المرأة وكفاها ليس بعورة، إلا خوف الفتنة، فيحل للرجل الصالح أن يرى وجه الأجنبية بغير شهوة. وفي الموطأ : هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم، أو مع غلامها ؟ قال مالك : لا بأس بذلك، على وجه ما يُعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال، وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يؤاكله. ه. وقال ابن القطان : فيه إباحة إبداء المرأة وجهها ويديها للأجنبي، إذ لا يتصور الأكل إلا هكذا، وقد أبقاه الباجِي على ظاهره، وقال عياض : ليس بواجب أن تستر المرأة وجهها، وإنما ذلك استحباب أو سنَّة لها، وعلى الرجل غض بصره. ثم قال في الإكمال : ولا خلاف أن فرض ستر الوجه مما اختص به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. ه.
﴿ و ﴾ قل لهم أيضاً :﴿ يحفظوا فُرُوجَهُم ﴾، إلا على أزواجهم، أو ما ملكت إيمانهم، وتقييد الغض بمن التبعيضية، دون حفظ الفروج ؛ لِما في النظر من السَّعَة، فيجوز النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها وقدميها، وإلى رأس المحارم والصدور والساقين والعضدين. قاله النسفي. قلت : ومذهب مالك : حرمة نظر الساقين والعضدين من المحرَم، فإن تعذر التحرر مِنْهُ، كشغل البنات في الدار، باديات الأرجلِ، فليتمسك بقول الحنفي، إن لم يقدر على غض بصره. قاله شيخنا الجنوي.
﴿ ذلك أَزْكَى لهم ﴾ أي : أطهر لهم من دَنَسِ الإثم أو الريبة، ﴿ إن الله خبير بما يصنعون ﴾، وفيه ترغيب وترهيب، يعني : أنه خبير بأحوالهم وأفعالهم، فكيف يجيلون أبصارهم، وهو يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور ؟ ! فعليهم، إذا عرفوا ذلك، أن يكونوا منه على حَذر.
وإِنَّكَ، إِنْ أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِداً | لِقَلْبِكَ، يَوْماً، أَتْعَبَتْكَ المُناظِرُ |
تَرَى، ما لاَ كلهُ أَنْتَ قَادِرٌ | عَلَيْهِ، وَلاَ عَنْ بَعْضِه أَنْتَ صَابِرُ |
وقوله تعالى :﴿ ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ﴾، قال بعضهم : لا يجوز كل ما يستدعي فِتْنَةً للغير ؛ من إظهار حال مع الله، مما هو زينة السريرة، فلا يظهر شيئاً من ذلك إلا لأهله، إلا إذا ظهر عليه شيء من غير إظهار منه، ولا قصدَ غير صالح. هـ. فلا يجوز إظهار العلوم التي يفتتن بها الناس ؛ من حقائق أسرار التوحيد، ولا من الأحوال التي تُنكرها الشريعة، فَيُوقِعُ النَّاسَ في غيبته. وأما قَضِيَّةُ لِصَّ الحَمَّامِ٣ ؛ فحال غالبة لا يقتدى بها. والله تعالى أعلم.
﴿ وَيَحْفَظْنَ فُروجَهُنَّ ﴾ من الزنا والمساحقة. وإنما قدّم غض البصر على حفظ الفروج ؛ لأن النظر بريد الزنا، ورائد الفجور، فَبَذْرُ الهوى طُمُوحُ العَيْنِ. ﴿ ولا يُبدينَ زينتَهُن ﴾ ؛ كالحُلي، والكحل، والخِضاب، والمراد بالزينة : مَوَاضِعُها، فلا يحل للمرأة أن تظهر مواضع الزينة، كانت مُتَحَلِّيَةً بها أم لا، وهي : الرأس، والأُذن، والعنق، والصدر، والعضدان، والذراع، والساق. والزينة هي : الإكليل، والقرط، والقلادة، والوِشاح، والدملج، والسوار والخلخال. ﴿ إلا ما ظهرَ منها ﴾ ؛ إلا ما جرت العادة بإظهارها، وهو الوجه والكفان، إلا لخوف الفتنة، زاد أبو حنيفة : والقدمين، ففي ستر هذه حرج ؛ فإن المرأة لا تجد بُدّاً من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات، وظهور قدميها، ولاسيما الفقيرات منهن. قاله النسفي.
﴿ وليَضْرِبْنَ بخُمُرِهنَّ على جُيُوبهنَّ ﴾ أي : وَلْيَضَعْنَ خُمُرَهنَّ، جمع خمار، وهو ما يستر الرأس، ﴿ على جيوبهن ﴾، وهو شَقُّ القميص من ناحية الصدر، وكانت النساء على عادة الجاهلية يَسْدِلْنَ خُمُرَهُنَّ مِنْ خَلْفِهِنَّ، فتبدو نحورُهن وقلائدهُن من جيوبهن، وكانت واسعةً، يبدو منها صدورهن وما حواليها، فأُمِرْنَ بإسدال خُمُرِهن على جيوبهن ؛ ستراً لما يبدو منها. وقد ضمَّنَ الضَّرْبَ معنى الإلقاء والوضع، فَعُدِّيَ بعلى.
﴿ ولا يُبدين زينتهنَّ ﴾ أي : مواضع الزينة الباطنة ؛ كالصدر، والرأس، ونحوهما، كرره : ليستثني منه ما رخص فيه، وهو قوله :﴿ إلا لِبُعُولَتِهِنَّ ﴾ ؛ لأزواجهن، فإنهم المقصودون بالزينة. ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج، ﴿ أو آبائِهنَّ ﴾، ويدخل فيهم الأجداد، ﴿ أو آباء بُعُولَتِهنَّ ﴾ ؛ فقد صاروا محارم، ﴿ أو أبنائهن ﴾، ويدخل فيهم الأحفاد، ﴿ أو أبناء بُعولتِهِنَّ ﴾ ؛ لأنهم صاروا محارم أيضاً، ﴿ أو إِخوانهن ﴾ الشقائق، أو لأب، أو لأم، ﴿ أو بني إخوانهن أو بني أخَوَاتِهِنَّ ﴾ وإن سفلوا، ويدخل سائر المحارم، كالأعمام، والأخوال، وغيرهم ؛ لكثرة المخالطة وقلة توقع الفتنة من قِبلَهِم، فإن تحققت ؛ حيل بينهم، وعدم ذكر الأعمام والأخوال، لأن الأحوط أن يُسْتَرْنَ عنهم ؛ حذراً من أن يَصِفُوهُنَّ لأبنائهم، ﴿ أو نسائهنّ ﴾ ؛ يعني جميع المؤمنات ؛ فكأنه قال : أو صنفهن ؛ ويخرج من ذلك نساء الكفار ؛ لئلا يَصفْنَهُنَّ إلى الرجال، ﴿ أو ما ملكت أيمانُهنّ ﴾، يعني : الإماء المؤمنات أو الكتابيات، وأما العبيد ففيهم ثلاثة أقوال : منع رؤيتهم لسيدتهم، وهو قول الشافعي، والجواز، وهو قول ابن عباس وعائشة، والجواز بشرط أن يكون العبد وَغْداً، وهو قول مالك.
قال البيضاوي : رُوي أنه - عليه الصلاة والسلام - أتى فَاطِمَةَ بعبد، وَهَبَهُ لها، وعليها ثوب إذا قَنَّعَتْ به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطّت رجليها لم يبلغ رأسها، فقال - عليه الصلاة والسلام :" إنه ليس عليك بأسٌ، إنما هو أبوكِ وغلامُك١ "، فانظر من أخرجه.
واختلف : هل يجوز أن يراها عبد زوجها، وعبد الأجنبي، أم لا ؟ على قولين.
﴿ أو التابعين غير أُولِي الإرْبة من الرجالِ ﴾ أي : الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم، أو لخدمة، أو لشيء يُعْطَاهُ، كالوكيل والمتصرف. وقال بعضهم : هو الذي يتبعك وَهَمُّهُ بَطْنُهُ، ويشترط ألا تكون له إِربةٌ، أي : حاجة وشهوة إلى النساء ؛ كالخَصِيِّ، والمُخَنَّثِ، والشيخ الهَرِم، والأحمق، فلا تجوز رؤيتهم إلا باجتماع الشرطين : أن يكونوا تابعين، ولا إربة لهم في النساء. ﴿ أو الطفل الذين لم يَظْهَرُوا على عَوْرَاتِ النساء ﴾، أراد بالطفل : الجنس، ولذلك وصفه بالجمع، ويقال فيه :" طفل " ما لم يراهق الحلُمُ. و( يظهروا ) معناه : يطلعون بالوطء على عورات النساء، مِنْ : ظهر على كذا : إذا قوي عليه، فمعناه : الذين لم يطيقوا وطء النساء، أو : لا يدرون ما عورات النساء ؟.
﴿ ولاَ يضْربنَ بأرجُلهنَّ ليُعْلَم ما يُخفين من زِينَتِهِنَّ ﴾، كانت المرأة تضرب برجلها الأرض ليسمع قعقعة خلخالها، فيعلم أنها ذات خُلْخال، فنُهين عن ذلك ؛ إذ سَمَاعُ صَوْتِ الزينة كإظهارها، فيورث ميل الرجال إليهن. ويوهم أن لهن ميلاً إليهم. قال الزجاج : سماع صوت الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها. ه.
وإِنَّكَ، إِنْ أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِداً | لِقَلْبِكَ، يَوْماً، أَتْعَبَتْكَ المُناظِرُ |
تَرَى، ما لاَ كلهُ أَنْتَ قَادِرٌ | عَلَيْهِ، وَلاَ عَنْ بَعْضِه أَنْتَ صَابِرُ |
وقوله تعالى :﴿ ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ﴾، قال بعضهم : لا يجوز كل ما يستدعي فِتْنَةً للغير ؛ من إظهار حال مع الله، مما هو زينة السريرة، فلا يظهر شيئاً من ذلك إلا لأهله، إلا إذا ظهر عليه شيء من غير إظهار منه، ولا قصدَ غير صالح. هـ. فلا يجوز إظهار العلوم التي يفتتن بها الناس ؛ من حقائق أسرار التوحيد، ولا من الأحوال التي تُنكرها الشريعة، فَيُوقِعُ النَّاسَ في غيبته. وأما قَضِيَّةُ لِصَّ الحَمَّامِ٣ ؛ فحال غالبة لا يقتدى بها. والله تعالى أعلم.
ثم أمر بالتوبة ؛ لأن النظر لا يسلم منه أحد في الغالب. فقال :
﴿. . . وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وتوبوا إلى الله جميعاً أَيُّه المؤمنون ﴾ ؛ إذ لا يكاد يخلو أحدكم من تفريط، وَلاَسيما في الكف عن الشهوات، وقيل : توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية، فإنه، وإن جُبّ بالإسلام، لكن يجب الندم عليه، والعزم على الكف عنه، كلما يُتَذَكَّرُ، ويَخْطِرُ بالبال. وفي تكرير الخطاب بقوله :﴿ أيه المؤمنون ﴾ : تأكيد للإيجاب، وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال، حَتْماً. قيل : أحوج الناس إلى التوبة من توهم أنه ليس له حاجة إلى التوبة. وظاهر الآية : أن العصيان لا ينافي الإيمان، فبادروا بالتوبة ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ ؛ تفوزون بسعادة الدارين. وبالله التوفيق.
الإشارة : التوبة أساس الطريق، ومنها السير إلى عين التحقيق، فَمَنْ لاَ تَوْبَةَ لَهُ لا سَيْرَ لَهُ، كمن يبني على غير أساس. والتوبة يَحْتَاجُ إليها المبتدئ والمتوسط والمنتهي، فتوبة المبتدئ من المعاصي والذنوب، وتوبة السائر : من الغفلة ولوث العيوب، وتوبة المنتهي : من النظر إلى سوى علام الغيوب.
قال ابن جزي : التوبة واجبة على كل مكلف، بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
وفرائضها ثلاثة : الندم على الذنب ؛ من حيث عُصِيَ به ذو الجلال، لا من حيث أضر ببدن أو مال. والإقلاع على الذنب في أول أوقات الإمكان، من غير تأخير ولا توان، والعزم ألا يعود إليها أبداً. ومهما قضى الله عليه بالعود، أحْدَثَ عَزْماً مُجَدَّداً. وآدابها ثلاث : الاعتراف بالذنب، مقروناً بالانكسار، والإكثار من التضرع والاستغفار، والإكثار من الحسنات لمحو ما تقدم من الأوزار. ومراتبها سبع : فتوبة الكفار من الكفر، وتوبة المُخَلِّطِينَ من الذنوب الكبائر، وتوبة العدول من الصغائر، وتوبة العابدين من الفترات، وتوبة السالكين من عِلَلِ القلوب والآفات، وتوبة أهل الورع من الشبهات، وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات. والبواعث على التوبة سبعة : خوف العقاب، ورجاء الثواب، والخجل من الحساب، ومحبة الحبيب، ومراقبة الرقيب، وتعظيم المقام، وشكر الإنعام. ه.
﴿ وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ. . . ﴾.
قلت : الأيامى : جَمْعُ أَيِّمٍ، وأصله : أيايم، فقلبت الياء ؛ لآخِر الكلمة، ثم قلبت ألفاً، فصارت أيامى. والأيم : من لاَ زوج له من الرجال والنساء.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وَأَنْكِحُوا ﴾ أي : زَوِّجُوا ﴿ الأيامى منكم ﴾ أي : مَنْ لا زوج له من الرجال والنساء، بِكراً كان أو ثيباً. والمعنى : زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر. والخطاب للأولياء والحكام، أمرهم بتزويج الأيامى، فاقتضى ذلك النهي عن عضلهن. وفي الآية دليل عدم استقلال المرأة بالنكاح، واشتراط الولي فيه، وهو مذهب مالك والشافعي، خلافاً لأبي حنيفة.
﴿ والصالحين ﴾ أي : الخيّرين، أو : مَنْ يصلح للتزوج، ﴿ من عِبَادِكم وإمائِكم ﴾ أي : من غلمانكم وجواريكم، والأمر : للندب ؛ إذ النكاح مندوب إليه، والمخاطبون : ساداتهم. ومذهب الشافعي : أن السيد يُجبَر على تزويج عبيده، لهذه الآية، خلافاً لمالك، ومذهب مالك : أن السيد يَجْبُر عبدَه على النكاح، خلافاً للشافعي. واعتبار الصلاح في الأَرِقَّاءِ : لأن مَنْ لاَ صَلاَحَ له بمعزلٍ من أن يكون خليقاً بأن يَعْتَنِيَ مولاه بشأنه، وأيضاً : فالتزويج يحفظ عليه صَلاَحَهُ الحاصل، وأما عدم اعتبار الصلاح في الأحرار والحرائر ؛ لأن الغالب فيهم الصلاح، على أنهم مستبدون بالتصرف في أنفسهم وأموالهم، فإذا عزموا النكاح فلا بد من مساعدة الأولياء لهم.
وقيل : المراد بالصلاح : صلاحهم للتزوج، والقيام بحقوقهم، فإن ضَعُفُوا ؛ لم يُزَوَّجُوا. ونفقة العبد على سيده ؛ إن زَوَّجَه، أو أَذن له، وإلا خُيِّر فيه.
ثم قال تعالى :﴿ إن يكونوا فقراءَ ﴾ من المال ﴿ يُغْنِهِمُ الله من فضله ﴾ بالكفاية والقناعة، أو باجتماع الرزقين. وفي الحديث :" التمسوا الرزق بالنكاح١ " وقال ابن عجلان : إن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الحاجة، فقال :" عليك بالباءة "، أي : التزوج. وكذلك قال أبو بكر وعمر وعثمان لمن شكى إليهم العَيْلَةَ، متمسكين بقوله تعالى :﴿ إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم ﴾، فبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، حسبما تقتضيه المشيئة والحكمة والمصلحة. فالغِنَى، للمتزوج، مقيد بالمشيئة، فلا يلزم الخلف بوجود من لم يستغن مع التزوج، وقيل : مقيد بحسن القصد، وهو مغيب. والله تعالى أعلم.
الترغيب في النكاح : قال صلى الله عليه وسلم :" تناكحوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم حتى بالسقط٢ ". وقال صلى الله عليه وسلم :" من أحب فطرتي فليستن بسنتي، وهي النكاح، فإن الرجل يُرفعُ بدعاء ولده من بعده٣ "، وقال سمرة رضي الله عنه :( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبتل ). وقال - عليه الصلاة والسلام - :
" من كان له ما يتزوج به، فلم يتزوج، فليس منا٤ ". وقال عليه الصلاة والسلام :" من أدرك له ولد، وعنده ما يزوجه به، فلم يزوجه، فأحدث، فالإثم بينهما ". وقال أبو هريرة : لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد للقيت الله بزوجة، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :" شراركم عُزَّابُكُم، إذا تزوج أحدكم عَجَّ شيطانه : يا ويله عَصَمَ ابنُ آدَمَ ثلثي دِينِهِ ". وقال صلى الله عليه وسلم :" مسكين، مسكين، رجل ليست له امرأة، ومسكينة، مسكينة ؛ امرأة ليست لها زوج، قالوا : يا رسول الله ! وإن كانت غنية من المال ؟ قال : وإن ".
وقال أبو أمامة :( أربعة لعنهم الله من فوق عرشه، وأمَّنت عليهم ملائكته : الذي يحصر نفسه عن النساء، فلا يتزوج ولا يتسرى ؛ لئلا يولد له، والرجل يتشبه بالنساء، والمرأة تتشبه بالرجال، وقد خلقها الله أنثى، ومُضلل المساكين ). وقال سهل بن عبد الله : لا يصح الزهد في النساء ؛ لأنهن قد حُببن إلى سيد الزاهدين. ووافقه ابن عُيَيْنَةَ، فقال : ليس في كثرة النساء دنيا ؛ لأن أزهد الصحابة كان عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان له أربع نسوة وبِضعَ عَشْرَةَ سُرِّيَّةً. ه. من القوت.
وقال عطية بن بُسْر المازني : أتى عكافُ بن وَدَاعَة الهلالي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فقال له :" يا عكاف ؛ ألك زوجة ؟ قال : لا، يا رسول الله، ولا أمة ؟ قال : لا. قال : وأنت صحيح موسر ؟ قال : نعم، والحمد لله. قال : فإنك، إذاً، من إخوان الشياطين، إما أن تكون من رهبان النصارى، وإما تكون مؤمناً، فاصنع ما بدا لك. فإن سنتنا النكاح، شراركم عزابكم، وأرذال موتاكم عزابكم، ما للشيطان، في سلاح، أبلغ من مُحْتَمِلِ العَزَبَةِ، ألا إن المتزوجين هم المطهرون المبرؤون من الخنا٥ ". انظر الثعلبي.
٢ أخرجه عبد الرزاق في المصنف ٦/١٧٣..
٣ أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٧/٧٨، وعبد الرزاق في المصنف ٦/١٦٩..
٤ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان حديث ٥٤٨١..
٥ أخرجه أحمد في المسند ٥/١٦٣ – ١٦٤..
ولما أمر بتزوج العبيد، أمر بمكاتبتهم، فقال :
﴿. . . وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ. . . ﴾.
قلت : الكتاب هنا : مصدر، بمعنى الكتابة. وهي : مقاطعة العبد على مال مُنَجَّمٍ، فإذا أداه ؛ خرج حراً، وإن عجز، ولو عن نصف درهم، بقي رقيقاً.
يقول الحق جل جلاله :﴿ والذين يَبْتَغُون الكتابَ ﴾ أي : والمماليك الذين يطلبون الكتابة ﴿ مما ملكتْ أيمانُكم ﴾ ؛ من عبيدكم ﴿ فكاتِبُوهُم ﴾، والأمر للندب، عند مالك والجمهور، وقال الظاهرية وغيرهم : على الوجوب، وهو ظاهر قول عمر رضي الله عنه لأنس بن مالك، حين سأله مملوكه سيرين الكتابة، فأبى عليه أنس، فقال له عمر : لتكاتبنه، أَوْ لأُوجِعَنَّكَ بالدِّرَّةِ٢. وإنما حمله مالك على الندب ؛ لأن الكتابة كالبيع، فكما لا يجبر على البيع لا يجبر عليها.
واختلف : هل يُجْبِرُ السيدُ عَبْدَهُ عليها، أم لا ؟ قولان في المذهب. ونزلت الآية بسبب حُوَيْطب بن عبد العُزَّى، سأل مولاه أن يكاتبه، فأبى عليه. وحكمها عام، فأمر الله سادات العبيد أن يُكاتبوهم إذا طلبوا الكتابة. والكتابة : أن يقول لمملوكه : كاتبتك على كذا، فإن أدى ذلك عُتِقَ، ومعناه : كتبت لك على نفسي أن تُعْتَقَ مني إذا وَفَّيْتَ المال، وكتبتَ لي على نفسك أن تفي بذلك. وتجوز حَالَّةً، وتسمى : القطاعة، ومُنَجَّمَةً وَغَيْرَ مُنَجَّمَةٍ.
وقوله تعالى :﴿ إنْ علمتمْ فيهم خيراً ﴾، أي : قدرة على الكسب، وأمانة وديانة، والنَّدْبِيَّةُ متعلقة بهذا الشرط، فالخير هنا : القوة على الأداء بأي وجه كان، وقيل : هو المال الذي يؤدي منه كتابته، من غير أن يسأل أموال الناس، وقيل : الصلاح في الدين.
﴿ وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ﴾، هذا أمر بإعانَةِ المكاتب على كتابته، واخْتُلِف : مَنِ المُخَاطَبُ بذلك ؟ فقيل : هو خطاب للناس أجمعين، وقيل : للولاة، والأمر على هذين القولين للندب، وقيل : للسادات المُكَاتِبينَ، وهو على هذا القول، ندب عند مالك، ووجوب عند الشافعي. فإن كان الأمر للناس، فالمعنى : أن يعطوهم صدقة من أموالهم، وإن كان للولاة : فيعطوهم من الزكوات أو من بيت المال، وإن كان للسادات فَيَحُطُّوا عنهم من كتابتهم، وقيل : يعطوهم من أموالهم، من غير الكتابة، وعلى القول بالحط من الكتابة اختلف في مقدار ما يُحَطُّ، فقيل : الربع، وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل الثلث، وقال مالك : لا حد في ذلك، بل أقل ما يطلق عليه شيء، إلا أن الشافعي يجبره على ذلك، ولا يجبره مالك. وزمان الحط عنه في آخر الكتابة عند مالك، وقيل : في أول نَجْمٍ. قاله ابن جزي.
الإشارة : العبيد على أربعة أقسام : عَبْدٌ قِنُّ مقتنى للخدمة، وعبد مأذون له في التجارة، وعبد مُكَاتبٌ، وعبد آبق. فمثال الأول، وهو العبد القن : أهل الخدمة، وهم العباد والزهاد، أقامهم الحق تعالى لخدمته، وقَوَّاهُمُ على دوام معاملته، أهل الصيام والقيام، وأهل السياحة والهيام. ومثال الثاني، وهو المأذون له : العارفون بالله، يتصرفون في ملك سيدهم بالله، خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحكمون بحكم الله، ويأخذون من الله ويدعون إلى الله، يأخذون النصيب من كل شيء، ولا يُؤْخَذُ من نصيبهم شيء، قد سخرّ لهم كل شيء، ولم يُسَخَّرُوا لشيء، سُلَِطُوا على كل شيء، ولم يُسَلَّطْ عليهم شيء، يخالطون الناس بجسمهم، ويباينونهم بسرهم، فالدنيا سوق تجارتهم، والمعرفة رأس بضاعتهم، والعدل في الغضب والرضا مِيزانُهم، والقصد في الفقر والغنى عُنْوانهم، والعلم بالله مفزعهم ومنجاهم، والقرآن كتاب الإذن من مولاهم، والفهم عن الله مرجعهم ومأواهم.
ومثال الثالث، وهو المُكَاتَب : الصالحون من المؤمنين ؛ يعملون على فك رقبتهم من النار، فإذا أدوا ما فرض عليهم ؛ حررهم بعد موتهم، وأسكنهم فسيح جنانه. ومثال الآبق : هم العصاة والفجار، استمروا على عصيانهم، حتى قدموا على الملك الجبار، فهم تحت حكم المشيئة، إن شاء عفا عنهم، وإن شاء عاقبهم. والله تعالى أعلم.
ولما أمر بتزويج الإماء نهى عن إكراههن على الزنا، فقال :
﴿. . . وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ﴾.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولا تُكْرهُوا فتياتكم ﴾ أي : إِمَاءَكُمْ، يقال للعبد : فتى، وللأمة : فتاة. والجمع : فتيات، ﴿ على البغاء ﴾ أي : الزنا، وهو خاص بزنا النساء. كان لابن أُبيِّ ست جوار : مُعَاذَة، ومُسَيْكَة، وأميمة، وعَمْرَة، وأَرْوَى، وقُتَيْلَة، وكان يكرههن، ويضرب عليهن الضرائب لذلك، فشكتِ ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية.
وقوله تعالى :﴿ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾ أي : تعففاً، ليس قيداً في النهي عن الإكراه، بل جرى على سبب النزول، فالإكراه : إنما يُتَصَوَّرُ مع إرادة التَّحَصُّنِ ؛ لأن المطيعة لا تسمى مكرهة، ثم خصوص السبب لا يُوجب تخصيص الحُكم على صورة السبب، فلا يختص النهي عن الإكراه بإرادة التعفف، وكذلك الأمر بالزنا، والإذن فيه لا يُبَاحُ ولا يجوز شيء من ذلك للسيد، وما يقبض من تلك الناحية سُحْتٌ وربا. وفيه توبيخ للموالي ؛ لأن الإماء إذا رغبن في التحصن ؛ فأنتم أولى بذلك، ثم علل الإكراه بقوله :﴿ لتبتغوا عَرَض الحياةِ الدنيا ﴾ أي : لتبتغوا بإكراههن على الزنا أجورهن وأولادهن، جيءَ به ؛ تشنيعاً لهم على ما هم عليه من أحمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير، أي : لا تفعلوا ذلك لطلب المتاع السريع الزوال، الوشيك الاضمحلال.
﴿ ومن يُكْرِههُنَّ ﴾ ؛ على ما ذُكِرَ من البغاء، ﴿ فإن الله من بعد إكرَاهِهِنَّ غفورٌ ﴾ لهن ﴿ رحيمٌ ﴾ بهن، وفي مصحف ابن مسعود كذلك. وكان الحسن يقول : لهن والله. وقيل : للسيد إذا تاب. واحتياجهن إلى المغفرة المنبئة عن سابقة الإثم : إما اعتبار أنهن - وإن كن مُكْرَهَاتٍ - لا يخلون في تضاعيف الزنا من شائبة مطاوعة ما، بحكم الجِبِلَّةِ البشرية، وإما لغاية تهويل أمر الزنا، وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه، والتشديد في تحذير المكرِهِينَ ببيان أنهن حَيْثُ كُنَّ عُرْضَةً للعقوبة، لولا أن تداركهن المغفرة، الرحمة، مع قيام العذر في حقهن، فما بالك بحال من يكرههن في استحقاق العقاب ؟
قال القشيري : حامِلُ العاصي على زَلَّته، والداعي له إلى عَثْرَته، والمُعِينُ له على مخالفته، تتضاعف عليه العقوبة، وله من الوِزْرِ أكثرُ من غيره، وعكسه لو كان الأمر في الطاعة والإعانة على العبادة. هـ. ومن هذا القبيل : تعليم العلم لمن تحقق أنه يطلب به رئاسةً أو جاهاً، أو تَوَصُّلاً إلى الدنيا المذمومة، أو عَلِمَ منه قصداً فاسداً، فإن تحقق ذلك وعَلِمَه، فهو مُعين له على المعصية، كمن يعطي سيفاً لمن يقطع به الطريق على المسلمين. والله تعالى أعلم.
٢ أخرجه عبد الرزاق في المصنف ٨/٣٧٢..
﴿ ومثلاً من الذين خَلَوا مِن قبلكم ﴾ أي : وأنزلنا مثلاً من أمثال مَنْ قَبْلَكُم، من القصص العجيبة، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة، والكلمات الجارية على ألسنة الأنبياء والحكماء، فتنتظم قصة عائشة - رضي الله عنها - المحاكية لقصة يوسف عليه السلام وقصة مَرْيَمَ، وسائر الأمثال الواردة في السورة الكريمة، انتظاماً واضحاً. وتخصيص الآيات البينات بالسوابق، وحمل المثل على قصة عائشة المحاكية لقصة يوسف ومريم، يأباه تعقيب الكلام بما سيأتي من التمثيلات.
﴿ و ﴾ أنزلنا ﴿ موعظةً للمتقين ﴾ يتعظون بها، وينزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات وسائر ما يخُل بمحاسن الآداب، والمراد : ما وعظ به من الآيات والمثل، مثل قوله :﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ ﴾ [ النور : ٢ ]، و﴿ لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ. . . ﴾ [ النور : ١٢ ] إلخ، ﴿ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ ﴾ [ النور : ١٧ ].
وتخصيص المتقين ؛ لأنهم المنتفعون بها، المغتنمون لآثارها، المقتبسون لأنوارها، ومدار العطف هو التَّغَايُرُ العنواني المُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التغايُرِ الذاتي. وقد خصَّت الآيات بما بيّن الأحكامَ والحدودَ، والموعظة بما وعظ به من قوله :﴿ ولا تأخذكم. . . ﴾ إلى آخر ما تقدم. وقيل : المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة : جميع ما في القرآن المجيد من الأمثال والمواعظ والله تعالى أعلم.
قال القشيري : حامِلُ العاصي على زَلَّته، والداعي له إلى عَثْرَته، والمُعِينُ له على مخالفته، تتضاعف عليه العقوبة، وله من الوِزْرِ أكثرُ من غيره، وعكسه لو كان الأمر في الطاعة والإعانة على العبادة. هـ. ومن هذا القبيل : تعليم العلم لمن تحقق أنه يطلب به رئاسةً أو جاهاً، أو تَوَصُّلاً إلى الدنيا المذمومة، أو عَلِمَ منه قصداً فاسداً، فإن تحقق ذلك وعَلِمَه، فهو مُعين له على المعصية، كمن يعطي سيفاً لمن يقطع به الطريق على المسلمين. والله تعالى أعلم.
﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِياءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ الله نورُ السموات والأرض ﴾ أي : منور أهلهما [ بنور الإسلام والإيمان ؛ لأهل الإيمان ]، وبنور الإحسان ؛ لأهل الإحسان، فحقيقة النور : هو الذي تنكشف به الأشياء على ما هي عليه، حسية أو معنوية، والمراد هنا : المعنوية ؛ بدليل قوله ﴿ يهدي الله لنُوره من يشاء ﴾، فإن انكشف به أحكام العبودية، باعتبار المعاملة الظاهرة، يُسمّى : نُورُ الإسلام، وإن انكشف به أوصاف الذات العلية وكمالاتها، من طريق البرهان، يُسمى : نُور الإيمان، وإن انكشف به حقيقة الذات وأسرارها، من طريق العيان، يُسمى : نور الإحسان. فالأول : يشبه نور النجوم، والثاني : نور القمر، والثالث نور الشمس، ولذلك تقول الصوفية : نجوم الإسلام، وقمر الإيمان، وشمس العرفان.
ثم ضرب المثل لذلك النور، حين يقذفه في قلب المؤمن، فقال ﴿ مَثَلُ نُورِهِ ﴾ أي : صفة نوره العجيبة في قلب المؤمن - كما هي قراءة ابن مسعود - ﴿ كمشكاةٍ ﴾ أي : كَصِفَةِ مِشْكَاةٍ، وهي الكُوَّةُ في الجدار غير النافذة ؛ لأن المصباح فيها يكون نوره مجموعاً، فيكون أزهر وأنور، ﴿ فيها مصباح ﴾ أي : سراج ضخم ثاقب، ﴿ المصباحُ في زجاجة ﴾ أي : في قنديل من زجاج صافٍ أزهر، ﴿ الزجاجةُ ﴾ من شدة صفائها ﴿ كأنها كوكب دُرِّيِّ ﴾ ؛ بضم الدال وتشديد الراء، منسوب إلى الدر ؛ لفرط ضيائه وصفائه، وبالكسر والهمز :" أبو عمرو " ؛ على أنه يدْرأ الظلام بضوئه. وبالضم والهمز : أبو بكر وحمزة، شبهه بأحد الكواكب الدراري، كالمشتري والزهرة ونحوهما. ﴿ تَوَقَدُ ﴾ بالتخفيف والتأنيث، أي : الزجاجة، أو ﴿ يُوقَدُ ﴾ بالتخفيف والغيب، أو :﴿ تَوَقَّدَ ﴾ بالتشديد، أي : المصباح ﴿ من شجرةٍ ﴾ أي من زيت شجرة الزيتون، أي : رويت فتيلته من زيت ﴿ شجرةٍ مباركةٍ ﴾ ؛ كثيرة المنافع، أو : لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين، وهي الشام، وقيل : بارك فيها سبعون نبياً، منهم إبراهيم عليه السلام.
﴿ زيتونةٍ ﴾ : بدلٌ من ﴿ شجرة ﴾، من نعتها ﴿ لا شرقيةٍ ولا غريبةٍ ﴾ أي : ليست شرقية فقط، لا تُصيبها الشمس إلا في حالة الشروق، ولا غربية، لا تصيبها إلا في حال الغروب، بل هي شرقية غربية، تصيبها الشمس بالغداة والعشي، فهو أَنْضَرُ لها، وأجود لزيتونها. وقيل : ليست من المشرق ولا من المغرب، بل في الوسط منه، وهو الشام، وأجودُ الزيتونِ زيتون الشام.
﴿ يكادُ زيتُها يٌضيءُ ولو لم تمسسه نارٌ ﴾ ؛ هو في الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضيء بنفسه من غير مسَاسٍ نَارٍ أصلاً. ﴿ نورٌ على نورٍ ﴾ أي : نور المصباح متضاعف على نور الزيت الصافي، فهذا مثال النور الذي يقذفه الله في قلب المؤمن ؛ فالمشكاة هو الصدر، والمصباح نور الإيمان أو الإسلام أو الإحسان، على ما تقدم، والزجاجة هو القلب الصافي، ولذلك شبهه بالكوكب الدُرّيّ، والزيت هو العِلْمُ النافع الذي يقوي اليقين. ولذلك وصفه بالصفاء والإنارة. يكاد صاحبه تشرق عليه أنوار الحقائق، ولو لم يمسسه علمها. ﴿ نورٌ على نورٍ ﴾ أي نور الإيمان مُضَافٌ إلى نور الإسلام، أو نور الإحسان مضاف إلى نور الإيمان والإسلام.
﴿ يهدي الله لنوره ﴾ أي : لهذا لنور الباهر ﴿ من يشاء ﴾ من عباده ؛ إما بإلهام أو بواسطة تعليم. وفيه إيذان بأن مناط هذه الهداية إنما هي بمشيئته تعالى، وأن الأسباب لا تأثير لها. ﴿ ويضرب الله الأمثالَ للناس ﴾ ؛ تقريباً للفهم، لأنه إبراز للمعقول في هيئة المحسوس ﴿ والله بكل شيءٍ عليمٌ ﴾، معقولاً كان أو محسوساً، فيبين الأشياء بما يمكن أن تُعْلَم به. والله تعالى أعلم.
الإشارة : اعلم أن الكون كله من عرشه إلى فرشه قطْعةٌ من نور الحق، وسر من أسرار ذاته، مُلْكٌ، وباطنه ملكوت فائض من بحر الجبروت، فالكائنات كلها : الله نُورُها وسرُّها، وهو القائم بها. ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء من العارفين بالله، وحسبُ من لم يبلغ مقامهم التسليم لما رمزوا إليه، وتحققوه ذوقاً وكشفاً.
ثم ضرب الحقُّ تعالى مثلاً لنوره الفائض من بحر جبروته، فقال :﴿ مثل نوره ﴾ الظاهر، الذي تجلى به في عالم الشهادة، ﴿ كمشكاة فيها مصباح ﴾ أي : كطاقة انفتحت من بحر اللّطَافَةِ الكَنْزِيَّةِ، خرج منها نور كثيف كالمصباح، فالكون كله مِصْبَاحُ نورٍ، انفجر من نور النور، ومن ذلك المصباح تفرعت الكائنات، فهي كلها نور فائض من بحر نوره اللطيف، ثم جعل الحق تعالى يصف ذلك المصباح في توقده وتوهجه بقوله :﴿ المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دُري. . . ﴾ إلخ. فالآية كلها من تتمه التمثيل.
وقوله تعالى :﴿ ولو لم تمسسه نار ﴾ قيل : الإشارة فيه إلى استغناء العبد في تلك الحالة عن الاستمداد إلا من رب العزة، فيستغني عن الوسائط. وقوله تعالى :﴿ نورٌ على نور ﴾ أي : نور ملكوته على نور جبروته، ﴿ يهدي الله لنوره ﴾ أي : لشهود نوره، أو لمعرفة نوره، ﴿ من يشاء ﴾ من خواص أحبابه، كأنبيائه وأوليائه، فمن لم يشهد هذا النور، ولم يعرفه، لا خصوصية له ؛ يتميز بها عن العوام، فهو من عامة أهل اليمين، ولو كثر علمه وعمله ؛ إذ لا عبرة بالعلم والعمل مع الحِجَاب. وفي الحكَم :" الكائن في الكون، ولم تفتح له ميادين الغيوب، مسجون بمحيطاته، محصور في هيكل ذاته "، والمحجوب برؤية الأكوان من جملة العوام عند أهل العيان، ينسحب عليه معنى المثال الآتي في ضد هذا بقوله :( أو كظلمات. . . ) إلخ.
وفي الحِكَم :" الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهورُ الحَقِّ فيه، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه، أو عنده، أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسُحب الآثار ". فالكون عند أهل العيان كله نور، وعند أهل الحجاب كله ظلمة، وهو محيط بهم، فالظلمة محيطة بهم، وقد ألف الغزالي في هذه الآية كتابه :( مشكاة الأنوار )، وكلامه فيه يدور على أن معنى اسمه تعالى " النور " : يرجع إلى ما ثبتت به الأشياء وظهرت من العدم، ولذلك قال قائلهم :
فَالنُّورُ يُظْهِرُ مَا تَرَى مِنْ صُورَةٍ | وبه ظهور الكَائِنَاتِ بِلاَ امْتِرَاءِ |
﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ﴾ * ﴿ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ﴾ * ﴿ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾
قلت :( في بيوت ) : يتعلق بمشكاة، أي : كائنة في بيوت، أو توقد، أو بيسبح، أي : يسبح له رجال في بيوت، وفيه تكرير ؛ لزيادة التأكيد، نحو : زيد في الدار جالس فيها، أو بمحذوف، أي : سبّحوا في بيوت. و( أَذِنَ ) : نَعْتٌ له.
يقول الحق جل جلاله : وذلك النور الذي في المشكاة يكون ﴿ في بيوتٍ أَذن الله أن ترفع ﴾، وهي المساجد والزوايا المُعدَّة لذكر الله والصلاة وتلاوة القرآن. ورفعها : تعظيمها. أي : التي أمر الله بتعظيمها ؛ كتطهيرها من الخبث، وتنقيتها من القذى، وتعليق القناديل ونصب الشموع، ويزاد التعظيم في شهر رمضان. ومن تعظيمها : غلقها في غير أوقات الصلاة، وقيل المراد برفعها : بناؤها، كقوله تعالى :﴿. . . بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَاَ. . . ﴾ [ النازعات : ٢٧ - ٢٨ ] ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ﴾ [ البقرة : ١٢٧ ]، والأول أصح.
﴿ و ﴾ أَذِنَ أيضاً أن ﴿ يُذْكَرَ فيها اسمُه ﴾، وهو عام في جميع الذِّكْر، مفرداً أو جماعة، ويدخل فيه تلاوة القرآن. ﴿ يُسَبِّحُ له فيها بالغُدوّ والآصال ﴾ أي : يصلي له فيها بالغداة : صلاة الفجر، والآصال : صلاة الظهر والعصر والعِشَاءين. وإنما وَحَّد الغدو ؛ لأن صلاته صلاة واحدة، وفي الآصال صلوات، وهو جمع أصيل، وفاعل " يُسَبِّحُ " : رجال.
ومن قرأ بفتح الباء، فأسنده إلى أحد الظروف الثلاثة، أعني :( له فيها بالغدو ). و " رجال " : مرفوع بمحذوف، دل عليه ﴿ يُسبح ﴾ أي : يسبحه.
وتخصيصُ التِّجَارَةِ بالذكر ؛ لكونها أقوى الصوارف عندهم وأشهرها، أي : لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة، ولا فرد من أفراد البياعات، وإن كان في غاية الربح.
وإفراده بالذكر، مع اندراجه تحت التجارة ؛ لأنه ألهى ؛ لأن ربحه متيقن ناجز في الغالب، وما عداه متوقع في ثاني الحال.
﴿ و ﴾ لا يشغلهم ذلك أيضاً عن ﴿ إِقامِ الصلاةِ ﴾ أي : إقامتها لمواقيتها من غير تأخير، وأصله : وإقامة، فأسقطت التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإعلال، وعوض عنها الإضافة، فأقيمت الإضافة مقام التاء، ﴿ وإِيتاء الزكاة ﴾ أي : وعن إيتاء الزكاة، وذكرها، وإن لم يكن مما تفعل في البيوت، لكونها قرينتها لا تفارق إقامة الصلاة في عامة المواضع، مع ما فيه من التنبيه على أن مَحَاسِنَ أعمالهم غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فيما يقع في المساجد. والمعنى : لا تجارة لهم حتى تلهيهم، أو يبيعون ويشترون ويذكرون الله مع ذلك، لا يشغلهم عن ذكر الله شيء، وإذا حضرت الصلاة قاموا إليها مسرعين.
﴿ يخافون يوماً ﴾ أي : يوم القيامة ﴿ تتقلَّبُ فيه القلوبُ ﴾ أي : تضطرب وتتغير من الهول والفزع، وتبلغ إلى الحناجر، ﴿ و ﴾ تتقلب ﴿ الأبصارُ ﴾ بالشخوص أو الزرقة. أو تتقلب القلوب إلى الإيمان بعد الكفران، والأبصار إلى العيان بعد النكران، كقوله :﴿ فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ﴾ [ ق : ٢٢ ].
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ * ﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ ﴾
قلت :" كسراب " : خبر الثاني، وهو : ما يُرى في الفلوات من لمعان الشمس وقت الظهيرة، يسرب على وجه الأرض، فَيُظَنُّ أنه ماء يجري. و( بقيعة ) : متعلق بمحذوف، صفة لسراب، أي : كائن بأرض قيعة، أي : منبسطة، و( سحاب ظلمات ) : مَنْ جَرَّها : فبالإضافة، ومن رفعها : فخبر، أي : هي ظلمات.
يقول الحق جل جلاله : في بيان أعمال الكفرة وظلمة قلوبهم، بعد بيان حَالِ المؤمنين وأنوار قلوبهم :﴿ والذين كفروا أعمالُهم ﴾ التي هي من أبواب البر، كصلة الرحم، وفك العُنَاةِ، وسقاية الحاج، وعمارة البيت، وإغاثة الملهوف، وَقِرَى الأضياف، ونحوها، مما لَوْ قارنه الإيمان لاستوجب الثواب، مثاله :﴿ كسراب ﴾ ؛ كفضاء ( بقيعَةٍ ) ؛ بأرض منبسطة، ﴿ يَحْسَبُهُ الظمآنُ ماءً حتى إذا جاءه لم يجِدْه شيئاً ﴾ أي : لم يجده كما ظنه ورجاه، بل خاب مطمعه ومسعاه، ﴿ ووجدَ الله عنده ﴾ أي : وجد جزاء الله، أو حُكمه، عند عمله، أو عند جزائه، ﴿ فوفَّاه حسابَه ﴾ أي : أعطاه جزاءه كله وافياً، وإنما وحّد، بعد تقديم الجمع، حملاً على كل واحد من الكفار.
﴿ والله سريعُ الحساب ﴾ ؛ يحاسب العباد في ساعة ؛ لأنه لا يحتاج إلى عد وعقد، ولا يشغله حساب عن حساب، أو قَرِيبٌ حسابُه ؛ لأنَّ كل آتٍ قريبٌ. شبه ما يعمله الكفرة من البر، الذي يعتقد أنه ينفعه يوم القيامة وينجيه من عذاب الله، ثم يخيب في العاقبة أَملُهُ، ويلقى خلاف ما قدّر، بسراب يراه الكافر بالساهرة، وقد غلبه عطش يوم القيامة، فيحسبه ماء، فيأتيه، فلا يجد ما رجاه، ويجد زبانية الله، فيأخذونه إلى جهنم، فيسقونه الحميم والغساق. قيل : هم الذين قال الله فيهم :﴿ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ﴾ [ الغاشية : ٣ ]،
و﴿ ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾ [ الكهف : ١٠٤ ]. قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، كان ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، والتمس الدين، فلما جاء الإسلام كفر. ه.
قال ابن جُزَيّ : لما ذكر حال المؤمنين عَقَّبَ ذلك بمثالين لأعمال الكفار ؛ الأول : يقتضي حال أعمالهم في الآخرة، وأنها لا تنفعهم، بل يضمحل ثوابها كما يضمحل السراب. والثاني : يقتضي حال أعمالهم في الدنيا، وأنها في غاية الفساد والضلال، كالظلمة التي بعضها فوق بعض. ثم قال : وفي وصف هذه الظلمات مبالغة، كما أن في وصف النور المذكور قبلها مبالغة. ه. وقوله : لما ذكر حال المؤمنين، يعني بقوله :﴿ رجال لا تلهيهم. . ﴾ إلخ، الله بقوله :﴿ يهدي الله لنوره من يشاء ﴾، وقيل : كلا المثالين في الآخرة، يخيبون من نفعها، ويخوضون في بحر ظلمتها.
﴿ ومن لم يجعل الله له نوراً ﴾ في قلبه، من نور توحيده ومعرفته، ﴿ فما له من نورٍ ﴾ أي : من لم يشأ الله أن يهديه لنوره : لم يهتد، وفي الحديث :" خلق الله الخلق في ظلمة، ثم رش عليها من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل "، وينبغي للقارئ عند هذه الآية أن يقول :( اللهمَّ اجعلْ في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، واجعلني نوراً، وأعظم لي نوراً ) ١، كما في الحديث في غير هذا المحل.
مَنْ أبْصَرَ الخَلْقَ كالسَّرابِ *** فَقَدْ تَرَقَّى عَن الحِجَابِ
إِلَى وجُودٍ تَرَاهُ رَتْقَاً *** بِلاَ ابتعَادٍ ولا اقْتِرَابِ
ولم تُشاهد به سواه *** هناك يُهْدَى إلى الصَّوَابِ
فلا خِطَاب بِهِ إِلَيْهِ *** ولا مُشير إلى الخِطَابِ
ومثال من عكف على دنياه، واتخذ إلهه هواه، كذي ظلمات في بحر لجي، وهو بحر الهوى، يغشاه موج الجهل والمخالفات، من فوقه موج الحظوظ والشهوات، من فوقه سحاب أثر الكائنات، أو : يغشاه موج الغفلات، من فوقه موج العادات، من فوقه سحاب الكائنات، ظلمات بعضها فوق بعض ؛ من حب الدنيا، وحب الجاه، وحب الرئاسة، إذا أخرج يد فكرته لم يكد يراها.
وقال بعضهم : الدنيا كلها بحر لُجَي، والناس مغروقون فيه، إلا مَنْ عَصَمَ الله، وساحله الموت، فمن لعبت به أمواج الهوى والحظوظ، فليأوي إلى سفينة الزهد والورع، وليتمسك برئيس عارف بأهوال البحر، وهم العارفون بالله، فإنه ينجو من أهوالها، ومن أخطأ هذا غرق في تيارها، ولعبت به أمواج حظوظها وشهواتها، فكان من الهالكين، نسأل الله الحفظ بمنِّه وكرمه.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ * ﴿ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ألم تَرَ ﴾ يا محمد، وخصَّه بالخطاب ؛ إيذاناً بأنه صلى الله عليه وسلم قد أفاض عليه أعلى مَرَاتِبَ النور وأجلاها، وبيَّن له من أسرار الملكوت أجلهَا وأخفاها، أي : ألم تنظر بعين بصيرتك، فتعلم علم اليقين، ﴿ أن الله يُسبِّح له ﴾ أي : ينزهه على الدَّوَامِ ﴿ من في السماوات والأرض ﴾ ؛ من العقلاء وغيرهم، تنزيهاً معنوياً، فإن كلا من الموجودات يدل على وجود صانع واجب الوجود، متصف بصفات الكمال، مقدس عن كل ما لا يليق بعلو شأنه. أو تنزيهاً حسياً بلسان المقال، ولكن لا تفقهون تسبيحهم. وتخصيص التنزيه بالذكر، مع دلالة ما فيهما على اتصافه تعالى بنعوت الكمال أيضا ؛ لأن مساق الكلام تَقْبيحُ حَالِ الكفرة في إخلالهم بالتنزيه ؛ بجعلهم الجمادات شركاء له ودعوى اتخاذه الولد.
﴿ و ﴾ يسبحه ﴿ الطيرُ ﴾ حال كونها ﴿ صافَّاتٍ ﴾ أي : يصففن أجنحتهن في الهواء، وتخصيصها بالذكر، مع اندراجها في جملة ما في الأرض ؛ لعدم استمرار قرارها فيها، ولاختصاصها بصنع بارع، وهو اصطفاف أجنحتها في الجو، وتمكينها من الحركة كيف تشاء، وإرشادها إلى كيفية استعمالها بالقبض والبسط، ففي ذلك دلالة واضحة على كمال قدرة الصانع المجيد، وغاية حكمة المبدئ المعيد.
﴿ كُلٌّ قد عَلِمَ صلاتَه وتسبيحه ﴾ أي : كل واحد من الأشياء المذكورة قد عَلِمَ الله تعالى صَلاتَهُ، أي : دعاءه وخضوعه وتسبيحه. أو : كلٌّ قد علم في نفسه ما يصدر عنه من صَلاَةٍ وتسبيح، فالضمير : ما إليه أو لكلٌ. ولا يبعد أن يلهم الله الطيرَ دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة، التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها. ﴿ والله عليم بما يفعلون ﴾ ؛ لا يعزب عن علمه شيء.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ ﴾ * ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذالِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ألم ترَ أن الله يُزْجِي ﴾ أي : يسوق، برفق وسهولة، ﴿ سَحَاباً ﴾ : جمع سحابة، ﴿ ثم يُؤلِّف بينه ﴾ أي : يضم بعضه إلى بعض، ﴿ ثم يجعله رُكاماً ﴾ ؛ متراكماً بعضه فوق بعض، ﴿ فَتَرى الوَدْقَ ﴾ : المطر، ﴿ يخرجُ من خِلالِه ﴾ ؛ من فُتُوقِهِ ووسطه، جمع خَلل، كجبال وجبل، وقيل : مفرد، كحجاب وحجاز.
قال القشيري : ترتفع بقدرته بُخَارَاتُ البحر، فيتصعد، بتسييره وتقديره، إلى الهواء، وهو السحاب، ثم يديره إلى سَمْتِ يريد أن ينزل به المطر، ثم ينزل ما في السحاب من ماء البحر، قطرة قطرة، ويكون الماء، حين حصوله في بخارات البحر، غير عذب، فيقلبه عذباً، ويَسُحُّهُ السحابُ سَكْباً، فيوصل إلى كلِّ موضع قَدْراً يكون له مُراداً معلوماً، لا بالجهدِ مِنَ المخلوقين يُمْسَكُ عن المواضع الذي عليه ينزله، ولا بالحيلة يُسْتَنْزلُ على المكانِ الذي لا يُمْطِره. ه. قلت : وهذا أحد الأقوال في حقيقة المطر، والمشهور عند أهل السنة : أن الله تعالى يُنْشِىءُ السحاب بقدرته، ويخلق فيه الماء بحكمته، وينزله حيث شاء.
ثم قال تعالى :﴿ ويُنزِّل من السماء من جبالٍ فيها من بَرَدٍ ﴾، " مِنْ " الأولى : لابتداء الغاية، والثانية : بدل من الأولى، والثالثة : لبيان الجنس، أي : يُنَزِّل البَرَد، وهو الثلج المكور، من السماء، أي : الغمام العلوي، فكل ما علاك سماء، من جبال فيها كائنة من البَرَد، ولا غرابة في أن الله يخلق في السماء جِبَالَ بَرَدٍ كما خلق في الأرض جبال حجر.
قال ابن جزي : قيل : إن الجبال هنا حقيقة، وإن الله جعل في السماء جبالاً من بَرَد، وقيل : إنه مجاز، كقولك : عند فلان جبال من مال أو عِلم، أي : هن في الكثرة مثل الجبال. ه. وأصله لابن عطية. وقال الشيخ أبو زيد الثعالبي : حَمْلُ اللفظ على حقيقته أولى، إن لم يمنع من ذلك مانع. ه. يعني : ولا مانع هنا، فيحمل على ظاهره، وإن الله خلق جبال بَرد في السماء. وقال الهروي عن ابن عرفة - يعنى اللغوي - : سمعت أحمد بن يحيى يقول : فيه قولان : أحدهما : وينزل من السماء بَرَدَاً من جبال في السماء من برد، والآخر : وينزل من السماء أمثال الجبال من البَرَد. ويقال : إنما سمي برَدَاً ؛ لأنه يَبْرُدُ وجه الأرض أي : يُقشره. ه.
قال البيضاوي : إن الأبخرة إذا تصاعدت ولم يتخللها حرارة، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء، وقوي البرد هناك، اجتمع وصار سحاباً، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطراً، وإن اشتد، فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها، نزل ثلجاً، وإلاّ نزل بَرَداً، وقد يبرد الهواء برداً مفرطاً فينقبض، وينعقد سحاباً، وينزل منه المطر أو الثلج. وكل ذلك لا بد وأن يُسْنَدَ إلى إرادة الواجب الحكيم ؛ لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالِّها وأوقاتها، وإليه أشار بقوله :﴿ فيُصيبُ به من يشاء ويصْرِفُهُ عمن يشاء ﴾ والضمير للبرَد. ه. أي : فيصيب بذلك البَرَد من يشاء أن يصيبه به، فيناله ما ناله من ضرره في بدنه وماله ؛ من زرع أو غيره. ﴿ ويَصْرِفُه عمن يشاء ﴾ أن يصرفه عنه، فينجو من غائلته.
﴿ يكاد سَنَا بَرْقِهِ ﴾ أي : ضوء برق السحاب، الموصوف بما مر من الإزجاء والتآلف.
وإضافة البرق إليه، قبل الإخبار بوجوده، فيه إيذان بظهور أمره واستغنائه عن التصريح به. وقيل : الضمير للسماء، وهو أقرب، أي : يكاد ضوء برق السماء، ويحتمل أن يعود على " الله " تعالى ؛ لتقدم ذكره، أي : يكاد ضوء برقه تعالى ﴿ يذهب بالأبصار ﴾، أي : يخطفها من فرط الإضاءة، وسرعة ورودها، ولو عند إغماضها.
وينزل من سماء الأرواح من جبالِ عقولٍ، فيها علم الرسوم الظاهرة، فيصيب به من يشاء، ممن أريد لحمل الشرائع والقيام بها، ويصرفه عمن يشاء، ممن أريد أن يكون من عامة الناس، أو من خاصتهم. إن هبت عليه رياح الحقائق، فأمطرت على قلبه العلوم الغيبية فأغنته عن العلوم الرسمية، يكاد سنا برقه الساطع لقلوب أوليائه، وهو سطوع أنوار الملكوت وأسرار الجبروت، فإنها تكون أولاً كالبرق، تلمع وتخفي، ثم يتصل ورودها وشروقها، فتكون متصلة البروق دائمة الشروق، نهار بلا ليل، واتصال بلا انفصال، ووصال بلا انقطاع. وفي ذلك يقول القائل :
طلعت شمسُ مَنْ أُحِبُّ بِلَيْلٍ | وَاسْتَنَارَتْ، فَمَا تَلاَهَا غُرُوبُ |
إنَّ شَمْسَ النهار تَغْربُ بالليل | وشَمْسَ القُلُوبِ ليْس لَهَا مَغِيبُ |
﴿ إن في ذلك ﴾، الإشارة إلى ما فصل آنفاً، أي : إن في إزجاء السحاب، وإنزال الودق، وتقليب الليل والنهار، ﴿ لعبرةً ﴾ ؛ لَدَلاَلَةً واضحة على وجود الصانع القديم، القائم بالأشياء، والمدبر لها بقدرته وحكمته، ﴿ لأُولي الأبصار ﴾ ؛ لذوي العقول الصافية. وهذا من تعدد الدلائل على ظهور نوره تعالى في الكائنات، حيث ذكر تسبيح مَنْ في السماوات والأرض ما يطير بينهما وخضوعهم له، وتسخير السحاب وإنزال الأمطار، وتقليب الليل والنهار، إلى غير ذلك من لوامح الأنوار. والله تعالى أعلم وأحكم.
وينزل من سماء الأرواح من جبالِ عقولٍ، فيها علم الرسوم الظاهرة، فيصيب به من يشاء، ممن أريد لحمل الشرائع والقيام بها، ويصرفه عمن يشاء، ممن أريد أن يكون من عامة الناس، أو من خاصتهم. إن هبت عليه رياح الحقائق، فأمطرت على قلبه العلوم الغيبية فأغنته عن العلوم الرسمية، يكاد سنا برقه الساطع لقلوب أوليائه، وهو سطوع أنوار الملكوت وأسرار الجبروت، فإنها تكون أولاً كالبرق، تلمع وتخفي، ثم يتصل ورودها وشروقها، فتكون متصلة البروق دائمة الشروق، نهار بلا ليل، واتصال بلا انفصال، ووصال بلا انقطاع. وفي ذلك يقول القائل :
طلعت شمسُ مَنْ أُحِبُّ بِلَيْلٍ | وَاسْتَنَارَتْ، فَمَا تَلاَهَا غُرُوبُ |
إنَّ شَمْسَ النهار تَغْربُ بالليل | وشَمْسَ القُلُوبِ ليْس لَهَا مَغِيبُ |
﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ والله خلقَ كلَّ دابةٍ ﴾ أي : خلق كل حيوان يدب على وجه الأرض ﴿ من ماء ﴾ ؛ من نوع من الماء مختص بتلك الدابة، وهو جزء مادته عند الأطباء، أو : من ماء مخصوص، وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات من تلك النطفة، فمنها أناسي، ومنها بهائم، ومنها هوام وسباع، وهو كقوله :﴿ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ ﴾ [ الرعد : ٤ ] وهذا دليل على أن لها خالقاً مدبراً، وإلاَّ لم تختلف لاتفاق الأصل، وإنما عَرَّفَ الماء في قوله :﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ [ الأنبياء : ٣٠ ] ونكّرره هنا ؛ لأن المقصود ثمَّة أن أجناس الحيوان مخلوقة من جنس الماء، وأنه هو الأصل، وإن تخللت بينه وبينها وسائط، وأما هنا فالمراد نوع منه.
قالوا : إن أول ما خلق الله الماء، فخلق منه النار والريح والطين، فخلق من النار الجن، ومن الريح الملائكة، ومن الطين آدم ودواب الأرض. قاله النسفي. وعلى الثاني : تكون الآية أغلبية ؛ لأن مِن الحيواناتِ من يتولد من غير نطفة، كالدود والبَعُوضِ وغيرهما.
ثم فصّل أحوالهم بقوله :﴿ فمنهم من يمشي على بطنه ﴾ ؛ كالحية والحوت، وتسمية حركتها مشياً، مع كونها زحفاً، استعارة، كما يقال في الشيء المستمر : قد مشى هذا الأمر على هذا النمط، أو على طريق المشاكلة ؛ لذكر الزاحف مع الماشين. ﴿ ومنهم من يمشي على رِجْلين ﴾ كالإنسان والطير، ﴿ ومنهم من يمشي على أربع ﴾ كالبهائم والوحش. وعدم التعرض لما يمشي على أكثر من أربع ؛ كالعناكب ونحوها من الحشرات ؛ لعدم الاعتداد بها، لقلتها. وتذكير الضمير في ( منهم ) ؛ لتغليب العقلاء، وكذلك التعبير بكلمة ( مَن ). وقدَّم ما هو أغرق في القدرة، وهو الماشي بغير آلة، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع.
﴿ يَخْلُقُ الله ما يشاء ﴾ مما ذكر ومما لم يذكر، بَسيطاً أو مركباً، على ما يشاء من الصور والأعضاء والهيئات والطبائع والقوى والأفاعيل، مع اتحاد العنصر ؛ ﴿ إنَّ الله على كل شيء قدير ﴾ فيفعل ما يشاء كما يشاء. وإظهار الاسم الجليل في الموضعين في موضع الإضمار ؛ لتفخيم شأن الخلق المذكور، والإيذان بأنه من أحكام الألوهية. والله تعالى أعلم.
الإشارة : أظهر الحق تعالى الأشياء من الماء، وأظهر الماء من نور القبضة، وأظهر القبضة من بحر سر الذات. أو تقول : أظهر الماء من نور الملكوت، وأبرز نور الملكوت من بحر الجبروت، وبحر الجبروت هو بحر أسرار الذات الأزلية، فالكل منه وإليه، ولا شيء معه، فتنوعت أنوار التجليات، وتعددت أسماؤها بتعدد فروعها، والمتجلي واحد، كما قال صاحب العينية :
تَجلَّى حَبِيبي في مَرَائِي جَمَالِهِ | فَفِي كُلِّ مَرْئِيّ لِلْحَبِيبِ طَلاَئِعُ |
فَلَمَّا تَبَدَّى حُسْنُه مُتَنَوِّعاً | تَسَمَّى بِأَسْمَاءٍ فَهُنَ مَطَالِعُ |
﴿ لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ لقد أنزلنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ ﴾ لكل ما يليق بيانه ؛ من الأحكام الدينية، والأسرار التكوينية. أو : موضحات، أوضحنا بها ما يحتاجون إليه من علم الشرائع والأحكام، ﴿ والله يهدي من يشاء ﴾ توفيقه ﴿ إلى صراط مستقيم ﴾ أي : دين قيِّم يُوصل إلى رضوان الله ومعرفته.
الإشارة : لقد أنزلنا من بحر الجبروت أنواراً ساطعة لعالم الملكوت، والله يهدي من يشاء إلى طريق شهود هذه الأنوار. فالطريق المستقيم هي التي تُوصل إلى حضرة العيان، على نعت الكشف والوجدان، وهي ثلاثة مدارج : المدرج الأول : إتقان الشريعة الظاهرة، وهي تهذيب الظواهر وتأديبها بالسُنَّة والمتابعة. والمدرج الثاني : إتقان الطريقة، وهي تهذيب البواطن وتصفيتها من الرذائل، فإذا تطهر الباطن، وكمل تهذيبه، أشرف على المدرج الثالث، وهو كشف الحقائق العرفانية والأسرار الربانية، فيفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، فيقع العيان على فقد الأعيان، وتشرق شمس العرفان فتغطي وجودَ الأكوان. وبالله التوفيق.
﴿ وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ * ﴿ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ﴾ * ﴿ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله : في شأن من لم يشأ هدايته إلى صراط مستقيم :﴿ ويقولون ﴾ أي : المنافقون ﴿ آمنا بالله وبالرسول ﴾ ؛ بألسنتهم، ﴿ وأطعنا ﴾ الله والرسول في الأمر والنهي، ﴿ ثم يتولى ﴾ عن قبول حُكْمِهِ ﴿ فريقٌ منهم مِن بعدِ ذلك ﴾ أي : من بعد ما صدر عنهم من ادعاء الإيمان بالله وبالرسول والطاعة لهما.
قال الحسن : نزلت في المنافقين، الذين كانوا يُظهرون الإيمان ويسرون الكفر.
وقيل : نزلت في " بِشْر " المنافق، خاصم يهودياً، فدعاه إلى كعب بن الأشْرَف، ودعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بشر : لا، إن محمداً يحيفُ علينا - قبح الله سعيه. وقيل : في المغيرة بن وائل، خاصم عليّاً رضي الله عنه في أرض وماء، فأبى أن يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأيا ما كان فصيغة الجمع تدل على أن للقائل طائفة يساعدونه ويشايعونه في تلك المقالة.
ثم حكم عليهم بالكفر، فقال :﴿ وما أولئك بالمؤمنين ﴾ أي : المخلصين، والإشارة إلى القائلين : آمنا بالله وبالرسول، لا إلى الفريق المتولي منهم فقط، لئلا يلزم نفي الإيمان عنهم فقط، دون مَنْ قبلهم، بخلاف العكس، فإن نفى الإيمان عن القائلين يقتضي نفيه عنهم، على أبلغ وجه وآكده، وما فيه من معنى البعد ؛ للإشعار ببُعد منزلتهم في الكفر والفساد.
﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ * ﴿ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَآئِزُون ﴾
قلت :( قول ) : خَبَرُ " كَانَ " ؛ مُقَدَّمٌ، و( أن يقولوا ) : اسمها ؛ مؤخر، وقرأ الحسن : بالرفع ؛ على الاسمية، والأول : أرجح ؛ صنَاعةً، والثاني : أظهر ؛ دلالة، وأكثر إفادة. انظر أبا السعود.
يقول الحق جل جلاله :﴿ إِنما كان قَوْلَ المؤمنين ﴾ الصادر عنهم ﴿ إذا دُعُوا إلى الله ورسولِه ليحكم ﴾ الرسولُ صلى الله عليه وسلم ﴿ بينهم ﴾ وبين خصومهم، سواء كانوا منهم أو من غيرهم، ﴿ أن يقولوا سمعنا ﴾ قوله، ﴿ وأطعنا ﴾ أمره، ﴿ وأولئك هم المفلحون ﴾ ؛ الفائزون بكل مطلب، الناجون من كل مهرب. والإشارة إلى المؤمنين باعتبار صدور القول المذكور عنهم، وما فيه من البُعد، للإشعار بعلو رتبتهم، وبُعد منزلتهم في الفضل، أي : أولئك المنعوتون بتلك النعوت الجميلة هم الفائزون بكل مطلوب.
ومن يطع الله في أمره ونهيه، ورسوله في سنَّـته، وما رغَّب فيه، ويخش الله أن يعاتبه، أو يؤدبه، ويتقه، أي : يجعل وقاية بينه وبيْن ما يحجبه أو يبعده عنه، فأولئك هم الفائزون الظافرون بمعرفة الله على نعت الشهود والعيان. وبالله التوفيق.
وعن بعض الملوك : أنه سأل عن آية كافية، فتُليت عليه هذه الآية. وهي جامعة لأسباب الفوز. قال القرطبي : ذكر أسلم : أن عمر بينما هو قائم في مسجده صلى الله عليه وسلم فإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه، وهو يقول : أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقال له عمر : ما شأنك ؟ قال : أسلمت، قال : ألهذا سبب ؟ قال : نعم ؛ إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل، وكثيراً من كتب الأنبياء، فسمعت أسيراً يقرأ آية من القرآن، جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت أنه من عند الله، فأسلمت. قال : ما هذه الآية ؟ قال قوله تعالى :﴿ ومن يُطع الله ﴾ في الفرائض، ﴿ ورسولَه ﴾ في السنن، ﴿ ويَخْشَ الله ﴾ فيما مضى من عمره، ﴿ ويتَّقه ﴾ فيما بقي، ﴿ فأولئك هم الفائزون ﴾ ؛ والفائز : من نجا من النار واُدْخِل الجنة، فقال عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" أُعطيتُ جوامع الكلم١ " ه. والله تعالى أعلم.
ومن يطع الله في أمره ونهيه، ورسوله في سنَّـته، وما رغَّب فيه، ويخش الله أن يعاتبه، أو يؤدبه، ويتقه، أي : يجعل وقاية بينه وبيْن ما يحجبه أو يبعده عنه، فأولئك هم الفائزون الظافرون بمعرفة الله على نعت الشهود والعيان. وبالله التوفيق.
﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ * ﴿ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ﴾
قلت :( جهد ) : مصدر مؤكد لفعله، الذي هو حيز النصب على الحال، من فاعل " أقسموا "، ومعنى جَهْدِ اليمين : بلوغ غايتها بطريق الاستعارة، من قولهم : جهد نفسه : إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها. وأصل أقسم جهد اليمين : أقسم بجهدِ اليمين جَهداً، فحذف الفعل وقدم المصدر، فوضع موضعه مضافاً إلى المفعول، كقوله :﴿ فَضَرْبَ الرِّقَابِ ﴾ [ محمد : ٥ ] وحكم هذا المنصوب حكم حال، كأنه قال : أقسموا جاهدين أيمانهم. و( طاعة ) : مبتدأ حذف خبره، أي : طاعة معروفة أولى من تسويفكم، أو : خبر عن محذوف، أي : الذي يطلب منكم طاعة معروفة.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وأَقْسَموا ﴾ أي : المنافقون ﴿ بالله جَهْدَ أَيمانهم ﴾ أي : بلغوا فيها غاية وسعهم، بأن حلفوا بالله. وعن ابن عباس رضي الله عنه :( من حلف بالله فقد جهد يمينه )، ﴿ لئن أمرتهم ليخرجُنَّ ﴾ أي : قالوا : لئن أمرنا محمد بالخروج للغزو، أو من ديارنا وأموالنا، لخرجنا. وحيث كانت مقالتهم هذه كاذبة ويمينهم فاجرة أمر عليه الصلاة والسلام - بردها حيث قيل :﴿ قل لا تُقسموا ﴾ أي : قل ؛ رداً عليهم، وزجراً عن التفوه بها : لا تحلفوا وأنتم كاذبون، ﴿ طاعةٌ معروفة ﴾، تعليل للنهي، أي : لا تُقسموا على ما تدعون من الطاعة ؛ لأن طاعتكم طاعة نفاقية، معروفة بالنفاق، واقعة باللسان فقط من غير مواطأة للقلب. وإنما عبّر عنها بمعروفة ؛ للإيذان بأن كونها نفاقية مشهور معروف لكل أحد. وحملها على الطاعة الحقيقية، على حذف المبتدأ أو الخبر، مما لا يساعده المقام. انظر أبا السعود.
قال القشيري : طاعة في الوقت أولى من تسويفٍ في الوعد، ولا تعِدُوا بما هو معلوم أنكم لا تفوا به. ه. وقال النسفي : طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الفاجرة. أو : الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يُشك فيها ولا يُرتاب، كطاعة الخُلص من المؤمنين، لا أيمان تقسمونها بأفواهكم، وقلوبُكُم على خلافها. ه.
﴿ إن الله خبير بما تعملون ﴾ من الأعمال الظاهرة والباطنة، التي من جملتها ما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة، وما تضمرونه في قلوبكم من الكفر والنفاق، والعزيمة على مخادعة المؤمنين، وغيرها من فنون الفساد.
﴿ وإن تُطيعوه ﴾ فيما أمركم به من الهدى ﴿ تهتدوا ﴾ إلى الحق، الذي هو المقصد الأصلي الموصل إلى كل خير، والمنجي من كل شر، ﴿ وما على الرسول إلا البلاغُ المبين ﴾ ؛ الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح، أو : البيِّن الوضوح ؛ لكونه مقروناً بالآيات والمعجزات المتواترة. والجملة مقررة لما قبلها من أن غائلة التولي وفائدة الإطاعة مقصورتان عليهم. واللام : إما للجنس المنتظم فيه - عليه الصلاة والسلام - انتظاماً أولياً، أو للعهد، أي : ما على جنس الرسول كائناً من كان، أو ما عليه - عليه الصلاة والسلام - إلا التبليغ الواضح. وبالله التوفيق.
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ * ﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾
قلت :( ليستخلفنهم ) : جواب لقسم مضمر، أو تنزيل وعْده تعالى منزلة القسم، و( كما ) : الكاف : محلها النصب على المصدر التشبيهي، أي : استخلافاً كائناً كاستخلافه مَنْ قَبْلَهُمْ. و( ما ) : مصدرية. و( ويعبدونني ) : حال من الموصول الأول، مقيدة للوعد بالثبات على التوحيد، أو استئنافٌ ببيان مقتضى الاستخلاف، و( لا يشركون ) : حال من واو ( يعبدونني ).
يقول الحق جل جلاله :﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم ﴾ أي : كل من اتصف بالإيمان بعد الكفر من أي طائفة كان، وفي أي وقت وجد، لا من آمن من المنافقين فقط، ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة، بحسب ظهور الوعد الكريم. و( من ) : للبيان. وقيل : للتبعيض، ويراد المهاجرون فقط. ﴿ وعملوا ﴾ مع الإيمان الأعمال ﴿ الصالحات ﴾، وتوسيط المجرور بين المَعْطُوفَيْنِ ؛ لإظهار أصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام، والإيذان بكونه أول ما يطلب منهم، وأهم ما يجب عليهم.
وأما تأخيره في قوله :﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً ﴾ [ الفتح : ٢٩ ] ؛ فإن الضمير للذين آمنوا معه صلى الله عليه وسلم ؛ فلا ريب أنهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة، مثابون عليها، فلا بد من ورود بيانهم بعد نعوتهم الجليلة بكمالها.
ثم ذكر الموعود به، فقال :﴿ لَيستخلفنَّهم في الأرض ﴾ أي : لَيجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في مماليكهم، والمراد بالأرض : أرض الكفار كلها، لقوله عليه الصلاة والسلام :" ليدخلن هذا الدين ما دخل الليل والنهار١ "، ﴿ كما استخلف الذين مِن قبلهم ﴾ ؛ كبني إسرائيل، استخلفهم الله في مصر والشام، بعد إهلاك فرعون والجبابرة، ومَنْ قَبْلَهم مِن الأمم المؤمنة التي استخلفهم الله في أرض من أهلكه الله بكفره. كما قال تعالى :﴿ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ﴾ [ إبراهيم : ١٣ ].
﴿ وليُمَكِّنَنَّ لهم دينَهم ﴾ : عطف على ﴿ ليستخلفنهم ﴾، داخل معه في سلك الجواب، وتأخيره عنه مع كونه أصل الرغائب الموعودة وأعظمها ؛ لأن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل، فَتصْدير المواعد بها في الاستمالة أدخل، والمعنى : ليجعل دينهم ثابتاً متمكناً مقرراً لا يتبدل ولا يتغير، ولا تنسخ أحكامه إلى يوم القيامة. ثم وصف بقوله :﴿ الذي ارتضى لهم ﴾، وهو دين الإسلام، وصفه بالارتضاء ؛ تأليفاً ومزيدَ ترغيب فيه وفضْلَ تثبيت عليه. ﴿ وليُبدِّلنهُمْ ﴾ بالتشديد والتخفيف من الإبدال، ﴿ من بعد خوفهم ﴾ من الأعداء ﴿ أمناً ﴾.
نزلتْ حيث كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة عشر سنين، أو أكثر، خائفين، ولَمَّا هاجروا كانوا بالمدينة يُصْبِحُون في السلاح ويُمْسُون فيه، حتى قال رجل : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع السلاح، فلما نزلت، قال عليه الصلاة والسلام :" لا تصبرون إلا يسيراً حتى يَجْلِسَ الرجل منكم في الملأِ العظيم، مُحْتبياً، ليس معه حديدة٢ "، فأنجز الله وعده، فأمِنُوا، وأظهرهم على جزيرة العرب، وفتح لهم بلاد المشرق والمغرب، ومزقوا ملك الأكاسرة، وملكوا خزائنهم، واستولوا على الدنيا بحذافيرها. وفيه من الإخبار بالغيب ما لا يخفى. وقيل : الخوف والأمن في الآخرة.
ثم مدحهم بالإخلاص فقال :﴿ يعبدونني ﴾ وحدي، ﴿ لا يُشركون بي شيئاً ﴾ أي : حال كونهم موحدين غير مشركين بي شيئاً من الأشياء، شركاً جلياً ولا خفياً ؛ لرسوخ محبتهم، فلا يُحبون معه غيره، ﴿ ومن كَفَر بعد ذلك ﴾ أي : بعد الوعد الكريم، كفرانَ النعمة، أو الرجوع عن الإيمان، كما فعل أهلُ الردة، ﴿ فأولئك هم الفاسقون ﴾ ؛ الكاملون في الفسق، حيث كفروا تلك النعمة بعد ظهور عزها وأنوارها، قيل : أول من كفر هذه النعمة قتلةُ عثمان رضي الله عنه ؛ فاقتتلوا بعد ما كانوا إخواناً.
والآية أوضح دليل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين ؛ لأن المستخلَفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات على ما ينبغي هم الخلفاء - رضي الله عنهم -.
قال القشيري : وفي الآية إشارة إلى أئمة الدين، الذين هم أركان السُنَّة ودعائم الإسلام، الناصحون لعباد الله، الهادون من يسترشد في الله. ثم قال : فأما حُفاظ الدين ؛ فهم الأئمة والعلماء الناصحون لدين الله، وهم أصناف : قومٌ هم حفَّاظُ أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وحُفّاظُ القرآن، وهم بمنزلة الخزنة، وقوم هم علماء الأصول، الرادُّون على أهلِ العناد، وأصحاب الابتداع، بواضح الأدلة، وهم بطارِقَةُ الإسلام وشجعانُه، وقوم وهم الفقهاء المرجوعُ إليهم في علوم الشريعة وفي العبادات وكيفية المعاملات، وهم من الدين بمنزلة الوكلاء والمتصرفين في المُلْك، وآخرون هم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق، وهم في الدِّين كخواص الملك وأعيان مجلس السلطان وأرباب الأسرار، الذين لا يبرحون في عالي مجلس السلطان، فالدين معمورٌ بهؤلاء على اختلافهم إلى يوم القيامة. هـ. وتقدم مثله في قوله :﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ... ﴾ إلخ [ التوبة : ١٢٢ ]. والله تعالى أعلم.
٢ أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٥/١٠٠، والطبري في تفسيره ١٨/١٥٩ – ١٦٠..
قال القشيري : وفي الآية إشارة إلى أئمة الدين، الذين هم أركان السُنَّة ودعائم الإسلام، الناصحون لعباد الله، الهادون من يسترشد في الله. ثم قال : فأما حُفاظ الدين ؛ فهم الأئمة والعلماء الناصحون لدين الله، وهم أصناف : قومٌ هم حفَّاظُ أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم، وحُفّاظُ القرآن، وهم بمنزلة الخزنة، وقوم هم علماء الأصول، الرادُّون على أهلِ العناد، وأصحاب الابتداع، بواضح الأدلة، وهم بطارِقَةُ الإسلام وشجعانُه، وقوم وهم الفقهاء المرجوعُ إليهم في علوم الشريعة وفي العبادات وكيفية المعاملات، وهم من الدين بمنزلة الوكلاء والمتصرفين في المُلْك، وآخرون هم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق، وهم في الدِّين كخواص الملك وأعيان مجلس السلطان وأرباب الأسرار، الذين لا يبرحون في عالي مجلس السلطان، فالدين معمورٌ بهؤلاء على اختلافهم إلى يوم القيامة. هـ. وتقدم مثله في قوله :﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ... ﴾ إلخ [ التوبة : ١٢٢ ]. والله تعالى أعلم.
﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ لا تحسَبنَّ الذين كفروا مُعْجِزِينَ ﴾ أي : فائتين الله عن إدراكهم وإهلاكهم، في قُطْرٍ من أقطار الأرض، بل لا بد من أخذهم، عاجلاً أو آجلاً، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل سامع. و﴿ الذين ﴾ : مفعول أول، و( معجزين ) : مفعول ثان. وقرأ حمزة والشامي بالغيب، و( الذين ) : فاعل، والأول، محذوف، أي : لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين ﴿ في الأرض ﴾. و﴿ مأواهم النار ﴾ : معطوف على محذوف، أي : بل هم مُدْرَكُونَ، ﴿ ومأواهم النار ﴾ أي : مسكنهم ومرجعهم، ﴿ ولبئس المصيرُ ﴾ أي : والله لبئس المرجع هي. وفي إيراد النار، بعنوان كونها مأوى ومصيراً لهم، إثر نفي قوتهم بالهرب في الأرض كل مهرب، من الجزالة ما لا غاية وراءه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لا تحسبن أهل الانتقاد على أولياء الله أنهم فائتون، بل لا بد من غيرة الله عليهم، عاجلاً أو آجلاً، في الظاهر أو الباطن، ومأواهم نار القطيعة ولبئس المصير. وقال القشيري على هذه الآية : الباطل قد تكون له صَوْلَةٌ لكنه يختل، وما لذلك بقاء، ولعل لبثه من عارض الشتاء في القيظ، أي : الحر. ه. والله تعالى أعلم.
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلَواةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَواةِ الْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ * ﴿ وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾، ويدخل فيه النساء، ﴿ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين ملكت أيمانُكُم ﴾ من العبيد والإماء، ﴿ والذين لم يبلغوا الحُلُمَ منكم ﴾ أي : والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار، ﴿ ثلاثَ مراتٍ ﴾ في اليوم والليلة، وهي ﴿ من قبلِ صلاة الفجر ﴾ ؛ لأنه وقت القيام من المضاجع، وطرح ما ينام فيه من الثياب، ولبس ثياب اليقظة، وربما يجدهم في هذا الوقت نائمين متجردين، ﴿ وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ﴾ ؛ وهي نصف النهار في القيظ ؛ لأنها وقت وضع الثياب للقيلولة، ﴿ ومن بعد صلاةِ العشاء ﴾ ؛ لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة، والالتحاف بثياب النوم. هي ﴿ ثلاثُ عوراتٍ لكم ﴾، ومن نصبه ؛ فَبَدلٌ من ﴿ ثلاث مرات ﴾ أي : أوقاتُ ثلاثِ عوراتٍ، وسمى كل واحد من هذه الأوقات عورة ؛ لأن الإنسان يختل تستره فيها، والعورة : الخلل، ومنه سمي الأعور ؛ لاختلاف عينه.
رُوي أن غلاماً لأسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كَرِهَتْهُ، فنزلت. وقيل : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مُدْلِجَ بنَ عَمرو الأنصاري، وكان غلاماً، وقت الظهيرة، ليدعو عُمر رضي الله عنه، فدخل عليه وهو نائم قد انكشف عنه ثوبه، فقال عمر رضي الله عنه : لوددت أن الله تعالى نهى عن الدخول في هذه الساعات إلا بإذن، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجده وقد نزلت عليه هذه الآية. والأمر، قيل : للوجوب، وقيل : للندب.
ثم عذرهم في ترك الاستئذان في غير هذه الأوقات، فقال :﴿ ليس عليكم ولا عليهم جُناح بعدهنّ ﴾ أي : لا إثم عليكم ولا على المذكورين من المماليك والغلمان في الدخول بغير استئذان بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث، أي : في الأزمنة التي بين هذه العورات الثلاث.
ثم بيّن العلة في ترك الاستئذان في هذه الأوقات بقوله :﴿ طوَّافون ﴾ أي : هم ﴿ طوَّافون عليكم ﴾ لحاجة البيت والخدمة، ﴿ بعضُكم على بعضٍ ﴾ أي : بعضكم طائف على بعض، أو يطوف على بعض، والجملة : إما بدل مما قبلها، أو بيان، يعني : أنكم محتاجون إلى المخالطة والمداخلة، يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأفضى إلى الحرج، وهو مدفوع بالنص، ﴿ كذلك يبين الله لكم الآيات ﴾ أي : كما بيّن الاستئذان، يبين لكم غيره من الآيات التي تحتاجون إلى بيانها، ﴿ والله عليمٌ ﴾ بمصالح عباده، ﴿ حكيم ﴾ فيما دَبَّرَ وحكم به.
والناس عن هذه غافلون. عن ابن عباس رضي الله عنه : ثلاث آيات جحدهن الناس : الإذن كله، وقوله :﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [ الحجرات : ١٣ ]، وقوله :﴿ وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ. . . ﴾ [ النساء : ٨ ]. وعن سعيد بن جبير :( يقولون : إنها منسوخة، والله ما هي بمنسوخة ). وعن ابن عباس أيضاً قال : إنما أُمروا بها حين لم يكن للبيوت الستر، فلما وجدوا ذلك استغنوا عن الاستئذان. وعن أبي محمد مكي : هذا الأمر إنما كان من الله للمؤمنين ؛ إذ كانت البيوت بغير أبواب. قلت : أما باعتبار الأجانب فالأبواب تكفي، وأما باعتبار المماليك والأطفال الذين يلجون الدار من غير حَجْرٍ ؛ فلا تكفي الأبواب في حقهم، فلا بد من الاستئذان كما في الآية.
﴿ كذلك ﴾ أي : مثل ذلك البيان العجيب ﴿ يُبين الله لكم آياته ﴾. قال ابْنُ عرفة : قال قبل هذه وبعدها : الآيات، وفي هذه : آياته ؛ لوجهين، الأول : هذه خاصة بالأطفال، وما قبلَها عامة في العبيد والأطفال، فأطلقت الآية، ولم تقيد بالإضافة، وهذه خاصة، فعبّر عنها بلفظ خاص. الثاني : أن الخطاب بما هنا للبالغين، فأسند فيه الحكم إلى الله تعالى، تخويفاً لهم وتشديداً عليهم. ه. والمتبادر أنه تفنن. قاله المحشي الفاسي. ﴿ والله عليمٌ حكيم ﴾ فيما أمر ودبر.
﴿ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ ﴾
قلت :" القواعد " : جمع قاعد، بغير تاء ؛ لأنهما من الصفات المختصة بالنساء، كالطالق والحائض، فلا تحتاج إلى تمييز، وهو مبتدأ، و( اللاتي. . . ) إلخ : صفة له، ( فليس ) : خبر، وأدخلت الفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط من العموم الذي في الألف واللام. و( يرْجُون ) : مبني لاتصاله بنون النسوة.
يقول الحق جل جلاله :﴿ والقواعدُ ﴾ أي : العجائز ﴿ من النساء اللاتي ﴾ قعدن عن الحيض والولادة ؛ لِكِبَرِهِنَّ. قال ابن قتيبة : سمين بذلك لأنهن بعد الكِبَرِ يُكثرن القعود. ويقرب منه من فسره بالقعود عن التصرف للكبر، والظاهر أن قوله :﴿ لا يرْجُون نِكاحاً ﴾ : نعت مُخَصِّصٌ، إن فُسِّرَ القعود فيها بالقعود عن الحيض والولد ؛ لأنه قد يكون فيها مع ذلك رَغْبَةٌ للرجال. وقد يُجْعَلُ كاشفاً ؛ إذا فسر القعود باستقذار الرجال لهن من عزوف النفس عنهن، فقوله :﴿ لا يرجون نكاحاً ﴾ أي : لا يطمعن في رغبة الرجال فيهن، ﴿ فليس عليهن جناحٌ ﴾ في ﴿ أن يَضَعْنَ ثيابَهنّ ﴾ أي : الثياب الظاهرة، كَالجِلْبَابِ الذي فوق الخمار ونحوه.
قال ابن عطية : قرأ ابن مسعود وأُبَيّ :" أن يَضَعْنَ مِنْ ثيابهن ". والعرب تقول : امرأة واضع، للتي كبرت فوضعت خِمَارها، قال في الحاشية : والآية صادقة بما إذا دخل أجنبي بعد الاستئذان، وبخروجهن أيضاً، ومن التبرج : لبس ما يَصف ؛ لكونه رقيقاً، أو : شفافاً. ه.
ثم قيَّد الرخصة بقوله :﴿ غير مُتَبرِّجَاتٍ بزينة ﴾ أي : مظهرات زينة، يريد الزينة الخفية، كالشعر والنحر والساق ونحوه، أي : لا يقصدن بوضعهن التبرجَ وإظهارَ مَحَاسنها، ولكن التخفيف. وحقيقة التبرج : تَكَلُّفُ إِظْهَارِ ما يجب إخفاؤه، من قولهم : سفينة بارجة : لاَ غِطَاءَ عليها، إلا أنه خص بكشف المرأة زينتها أو محل حسنها للرجال. ﴿ وأن يستعففنَ ﴾ أي : يطلبن العفة عن وضع الثياب، فيتسترن ﴿ خيرٌ لهن ﴾ من الانكشاف، ﴿ والله سميعٌ عليم ﴾ أي : سميع ما يجري بينهن وبين الرجال من المقاولة، عليم، فيعلم مقاصدهن وسرائرهن في قصد التخفيف أو التبرج، وفيه من الترهيب ما لا يخفى.
الإشارة : إذا كمل تهذيب الإنسان وإخلاصه، وكمل استغناؤه بربه، فلا بأس أن يظهر من أحواله وعلومه ما يقتدى به ويُهتدى، ليعلم الانتفاع به. فإن خيف منه تهمة فالاستعفاف والاكتفاء بعلم الله خير له. والله سميع عليم.
﴿ لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً. . . ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ليس على الأعمى حَرَجٌ ﴾ في الدخول من غير استئذان ؛ لأنه لا يتوقع منه نظر لما يكره. وكذلك لا حرج عليه فيما لا قدرة له عليه من الجهاد وغيره، ثم استطرد من شاركه في مطلق العذر فقال :﴿ ولا على الأعْرج حَرَجٌ ﴾ فيما لا يقدر عليه من الجهاد وغيره، ﴿ ولا على المريض حرج ﴾ في ذلك. وقال سعيد بن المُسَيِّب : كان المسلمون إذا خرجوا إلى الغزو وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم، ويأذنونهم أن يأكلوا من بيوتهم، فكانوا يتحرجون من ذلك، ويقولون : نخشى أن تكون نفوسهم غير طيبة بذلك، فنزلت الآية، رُخْصَةً لهم. وقيل : كانوا يتحرجون من الأكل معهم ؛ لأن الأعمى لا يبصر الطيب من الطعام، والأعرج لا يستطيع المزاحمة عليه، والمريض لا يستطيع استيفاءه. ه.
﴿ ولا على أنفسكم ﴾ أي : لا حرج عليكم ﴿ أن تأكلوا من بيوتكم ﴾ أي : البيت الذي فيه أهل بيتكم ؛ أزواجكم وعيالكم، فإذا كان للزوجة أو للولد هناك شيء منسوب إليهما فلا بأس للرجل بأكله ؛ لأن الزوجين صارا كنفس واحدة، فصار بيت المرأة بيت الزوج. وقيل : المراد ببيوتكم : بيوت أولادكم، فجعل بيوت أولادهم بيوتهم ؛ لأن ولد الرجل من كسبه، وماله كمالِه، لقوله عليه الصلاة والسلام :" أنت ومالك لأبيك١ "، ولذلك لم يذكر الأولاد في الآية ؛ لاندراجهم في بيوتكم.
ولا حرج عليكم أيضاً أن تأكلوا من ﴿ بيوت آبائكم أو بيوتِ أمهاتكم أو بيوتِ إخوانكم ﴾ الذكور ﴿ أو بيوت أَخَواتكم ﴾ النساء، ﴿ أو بيوت أعمامكم أو بيوت عمَّاتكم أو بيوتِ أخوالكم أو بيوت خالاتكم ﴾ ؛ لأن الإذن من هؤلاء ثابت ؛ دلالة. واختلف العلماء في إباحة الأكل من هذه البيوت المذكورة، فقيل : إنه منسوخ وإنه لا يجوز الأكل من بيت أحد إلا بإذنه، والناسخ :﴿ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾ [ البقرة : ١٨٨ ]، وقوله - عليه الصلاة والسلام - :" لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مسلم إلا عن طِيبِ نَفْسٍ٢ " وقيل : محكمة ومعناها : إذا أذنوا في ذلك، وقيل : ولو بغير إذن، والتحقيق : هو التفصيل : فمن عُلم منه طيب نفسه وفرحُه بذلك ؛ بقرينةٍ : حَلَّ أَكْلُ مَالِهِ، ومَنْ لاَ ؛ فلا.
﴿ أو ما ملكتم مَّفَاتحه ﴾ قال ابن عباس : وهو وكيل الرجل وقيّمه في ضَيْعَتِهِ وماشيته، له أن يأكل من ثمرة ضيعته، ويشرب مِنْ لبن ماشيته. والمراد بملك المفاتح : كَوْنُها في يده وتحت حَوْزِهِ. وقيّده ابن العربي بما إذا لم تكن له أجرة، وإن كانت له أجرة على فعله حَرُمَ، يعني : إلا إذا علم طيب نَفْسٍ صاحبه ؛ فيدخل في الصديق. وقيل : أريد به بيت عَبْدهِ ؛ لأن العبد وما في يده لمولاه.
﴿ أو صَدِيقِكُمْ ﴾ أي : أو بيوت أصدقائكم، والصديق يكون واحداً وجمعاً، وهو من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك، يُؤلمه ما يؤلمك ويؤلمك ما يؤلمه، ويسرك ما يسره كذلك. وكان الرجل من السلف يدخل دار صديقه وهو غائب، فيسأل جاريته كيسَهُ فيأخذ ما شاء، فإذا حضر مولاها أعتقها سروراً بذلك، فأما الآن فقد غلب الشحّ فلا يأكل إلا بإذن. قاله النسفي.
﴿ ليس عليكم جناحٌ أن تأكلوا جميعاً ﴾ : مجتمعين ﴿ أو أشتاتاً ﴾ : متفرقين، جمع شَتّ، نزلت في بني ليث بن عمرو، كانوا يتحرّجُون أن يأكل الرجل وحده، فربما قعد منتظراً نهاره إلى الليل، فإذا لم يجد من يؤاكله من الضيفان أكَل أكْل ضرورة. وقيل : في قوم من الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا مع ضيفهم، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاؤوا. وقيل : في قوم تحرجوا من الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل، وزيادة بعضهم على بعض، فخيّرهم. وقيل : كان الغني منهم إذا دخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته، ودعاه إلى طعام، فيقول : إني أتحرج أن آكل معك، وأنا غني وأنت فقير، فأباح لهم ذلك. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ليس على من عَمِيَتْ بصيرتُه، فلم ير إلا الكون حَرج في أن يقف مع رُخَصِ الشريعة، ويتناول كل ما يشتهيه نفسه، مما أباحته الشريعة، من غير تورع ولا توقف ولا تبصر. وكذلك المريضَ القلب بالخواطر والأوهام، ومن عَرجت فكرته عن شهود الملكوت، فلا بأس لهؤلاء الضعفاء أن يقفوا مع العوائد والأسباب، ويتناولوا كل ما أباحته ظواهر الشريعة، وأما الأقوياء فلا يأخذون إلا ما تحققوا حِلِّيَّتَهُ، وفهموا عن الله في أخذه وتركه، لفتح بصيرتهم وشدة تبصُّرهم.
وقال الورتجبي في قوله :﴿ ليس على الأعمى حرج ﴾ : عماه الحقيقي ألا يطيق أن ينظر بطونَ الأزل والغيبَ وغيبَ الغيب. وهذا من قوله - عليه الصلاة والسلام - في وصف جمال الحق سبحانه :" حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سُبُحَاتُ وَجْهِه ما انتهى إليه بَصَرُهُ مِنْ خلْقِهِ ". فجعله معذوراً ألا يدرك حق الحقيقة وحقيقة الحق ؛ إذ يستحيل الحَدَثُ أن يحيط بالقدم إن كان واجباً معرفة الكل من حيث الحقوق لا من حيث التوحيد. ه ومراده ببطون الأزل : تجلياته تعالى، البارزة من وسط بحر جبروته الغيبي، وهي المراد بالغيب وغيب الغيب، فالأكوان كلها برزت من بحر الذات الأزلية والكنز الغيبي، لكنها، لما تجلت، كستها رداء الكبرياء، فمن فتحت بصيرته رأى الحق تعالى فيها، أو قبلها، أو معها، ومن عميت بصيرته لم ير إلا حس الأكوان الظُّلْمَانِيَّةِ. والله تعالى أعلم.
ومذهب الصوفية في تناول متاع بعضهم بعضاً هو ما قال القائل :" نَحْنُ : لاَ مَالٌ مَقْسُومٌ، وَلاَ سِرٌّ مَكْتُومٌ، فَتَرِكَتُهُمْ لاَ تُقْسَمُ أبداً ". دخل الجنيد بَيْتَ بَعْضِ إخوانه، فوجد زوجته، فقال : هل عندك شيء نطعم به الفقراء ؟ فأشارت إلى وعاء فيه تمر، لا يملك غيره، فأفرغه على رأسه، فأكلوا، وأخذوا ما بقي، فلما جاء زوجها ذكرت له ذلك، فقال : الآن علمت أنه يُحبني.
ثم أمر بالسلام بعد الاستئذان، فقال :
﴿. . . فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ فَإِذَا دخلتم بيوتاً ﴾ من البيوت المذكورة أو غيرها بعد الإذن، ﴿ فسَلّمُوا على أنفسكم ﴾ أي : فابدأوا بالسلام على أهلها، الذين هم منكم، الذين هم بمنزلة أنفسكم ؛ لما بينكم وبينهم من القرابة الدينية أو النَّسَبِيَّةِ. أو بيوتاً فارغة، أو مسجداً، بأن تقولوا : السلام عليكم، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، إن كانت خاوية. ﴿ تحيةً ﴾، مَنْ نَصَبَ فعلى المصدر لِسلِّمُوا ؛ لأنها في معنى تسليماً، ﴿ من عند الله ﴾ أي : بأمره مشروعه من لدنه، أو لأنها طلب للسلامة، وهي بيد الله، ﴿ مباركةً ﴾ : مستتبعة لزيادة الخير والثواب ودوامهما، ﴿ طيبةً ﴾ : تطيب بها نفس المستمع.
وعن أنس رضي الله عنه أنه - عليه الصلاة والسلام - قال :" من لقيت أحداً من أمتي فسلم عليه، يَطُلْ عُمْرُكَ. وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكْثُرُ خَيْرُ بَيْتِك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين٣ ".
﴿ كذلك يُبين الله لكم الآيات ﴾، تكرير ؛ لتأكيد الأحكام المختتمة وتفخيمها، ﴿ لعلكم تعقلون ﴾ : لكي تعقلوا ما في تضاعيفها من الشرائع والأحكام، وتعملوا بموجبها، فتفوزوا بسعادة الدارين. والله تعالى أعلم.
الإشارة : السلام على النفس : هو طلب الأمان لها ومنها، فإذا سَلِمَت النفس من موجات الغضب من الله، سَلِمَ صاحبها منها، قال القشيري : السلامُ : الأمانُ، فسبيل المؤمن إذا دخل بيتاً أن يُسلِّمَ مِنَ الله على نَفْسه، يعني : بأن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأن يطلب السلامة والأمان من الله تعالى، لِتسْلَمَ نَفْسُه من الإقدام على ما لا يرضي الله، إذ لا يحل لمُسلم أن يفْتُرَ لحظة عن الاستجارة بالله، بأن لا يرفع عنه ظل عصمته بإدامة حِفظهِ من الاتصاف بمكروه الشرع. ه.
٢ أخرجه أحمد في المسند ٥/٧٢ والبيهقي في السنن الكبرى ٦/١٠٠، والدارقطني في سننه ٣/٢٦..
٣ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان حديث ٨٧٥٨..
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ إِنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ﴾، إنما ذكر الإيمان بالله ورسوله في حيز الصلة للموصول الواقع خبراً للمبتدأ، مع تضمنه له ؛ تقريراً لِمَا قبله، وتمهيداً لما بعده، وإيذاناً بأن ما بعده حقيق بأن يُجْعَلَ قريناً للإيمان بهما ومنتظماً في سلكه.
﴿ وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ ﴾ : عَطْفٌ على ( آمنوا )، دَاخِلٌ في حيز الصلة، أي : إنما الكاملون في الإيمان : الذين آمنوا بالله ورسوله عن صميم قلوبهم، وأطاعوه في جميع الأحكام والأحوال المطردة الوقوع، والأحوال الواقعة بحسب الاتفاق، كما إذا كانوا معه - عليه الصلاة والسلام - على أمر مُهم يجب الاجتماع في شأنه ؛ كالجمعة والأعياد، والجهاد، وتدريب الحروب، وغيرها من الأمور الداعية إلى الاجتماع، ﴿ لم يذهبوا حتى يستأذنوه ﴾، ويأذن لهم، ولو كان الأمر يقوم بدونهم، ليتميز المخلص من المنافق، فإن دَيْدنه التسلل للفرار، ولتعظيم الجرم ؛ لما في الذهاب بغير إذنه صلى الله عليه وسلم من الخيانة.
وَلَمَّا أراد الحقُّ تعالى أَنْ يُرِيَهُمْ عِظَمَ الجنايةِ في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه، إذا كانوا معه على أمر جامع، جعل ترك ذهابهم والصبر معه، حتى يأذن لهم : ثالث الإيمان، وجعل الإيمان برسوله كالسبب له، والبساط لذكره، وذلك مع تصدير الجملة ب " إنما، ثم عقبه بما يزيده توكيداً وتشديداً ؛ حيث أعاده على أسلوب آخر فقال :﴿ إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله ﴾، فقضَى بأن المستأذنين هم المؤمنون خاصة. وفي " أولئك " : من تفخيم المستأذنين، ما لا يخفى، ﴿ فإذا استأذنوك ﴾ في الانصراف ﴿ لبعض شأنهم ﴾ أي : أمرهم المهم وخطْبهم الملم. ﴿ فَأَذَنْ لِمَنِ شئْتَ منهم ﴾ لما علمت في ذلك من مصلحة وحكمة.
وهذا بيان لما هو وظيفته صلى الله عليه وسلم في هذا الباب، إثر بيان ما هو وظيفة المؤمنين، وأن الإذن منه - عليه الصلاة والسلام - ليس بأمر محتوم، بل هو مفوّض إلى رأيه عليه الصلاة والسلام، وفيه مِنْ رَفْع شأنه صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى. والفاء : لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي : بعدما تحقق أن الكاملين في الإيمان هو المستأذِنُون.
﴿ فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فَأْذَنْ لمن شئتَ منهم واستغفر لهم الله ﴾، فإن الاستئذان، وإن كان لعذر، فقد لا يخلو من شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة، ففيه دليل على أن الصبر وترك الاستئذان أفضل. ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ ؛ مبالغ في غفران فَرَطَاتِ العِبَاد، وفيه إفاضة آثار الرحمة عليهم.
وما ذكره الحق تعالى في شأن الصحابة مع الرسول - عليه الصلاة والسلام - في شأن الاستئذان ينبغي أن يكون كذلك مع أئمتهم ومقدّميهم في العلم والدين، لا يتفرقون عنهم إلا بإذن. والآية نزلت في الخندق، كان المنافقون يرجعون إلى منازلهم من غير استئذان، فنزلت١. وبقي حكمها عاماً إلى يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
الإشارة : من آداب الفقراء مع شيخهم ألا يتحركوا لأمر إلا بإذنه، أما أهل البدايات فيستأذنون في الجليل والحقير، كقضية الفقير الذي وجد بَعْضَ البَاقِلاَّءِ - أي : الفول - في الطريق، فأتى بها إلى الشيخ، فقال : يا سيدي ما نفعل به ؟ فقال : اتركه، حتى تفطر عليه، فقال بعض الحاضرين : يستأذنك في الباقلاء ؟ فقال : لو خالفني في أمر ؛ لم يفلح أبداً. وأما أهل النهايات الذين عرفوا الطريق، واستشرفوا على عين التحقيق، وحصلوا على مقام الفهم عن الله، فلا يستأذنون إلا في الأمر المهم ؛ كالتزوج، والحج، ونحوهما. وَصَبْرُهُ حتى يأمره الشيخ بذلك أولى، فالمريد بقدر ما يترك تدبيره مع الشيخ، ويتحقق بالتفويض معه قبل الوصول، كذلك يتركه ويتحقق تفويضه مع الله بعد الوصول.
فالأدب مع الشيخ هو الأدب مع الله، لكن لما كان من شأن العبد الجهل بالله وسوء الأدب معه أمره بالتحكيم لغيره من جنسه، فإذا حكم جنسه على نفسه قبل المعرفة حكم الله على نفسه بعد المعرفة. والتحكيم في غاية الصعوبة على النفس، لا يرضاها إلا من سبقت له الهداية، وجذبته جواذب العناية، أعني الدخول تحت الشيخ وتحكيمَه على نفسه، حتى لا يتحرك إلا بإذنه، فهذا سبب الوصول إلى مقام الشهود والعيان، فإذا فعل المريد شيئاً من غير استئذان فليتب وليطلب من الشيخ الاستغفار له. وينبغي للشيخ أن يقبل العذر ويسامح ويستغفر له، لقوله تعالى :﴿ واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم ﴾، فالخليفة لرسول الله قائم مقامه، ونائب عنه في رتبة التربية. والله تعالى أعلم.
﴿ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ * ﴿ أَلاا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ لا تجعلوا دُعاءَ الرسولِ بينكم كدُعَاءِ بعضِكم بعضاً ﴾ أي : إذا احتاج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اجتماعكم لأمر جامع، فدعَاكم، فلا تتفرقوا عنه إلا بإذنه، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم بعضاً، ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الراعي ؛ لأن أمره - عليه الصلاة والسلام - وشأنه ليس كشأنكم : أو : لا تجعلوا دعاء الرسول على أحد، كدعاء بعضكم بعضاً، فإنَّ غضبه عليه ليس كغضبكم ؛ لأن غضبه غضب الله، ودعاؤه مستجاب. وهذا يناسب ما قبله من جهة التحذير عن ترك الاستئذان، فإنَّ من رجع بغير استئذان معرض لغضبه - عليه الصلاة والسلام - ودعائه عليه. أو : لا تجعلوا نداءه صلى الله عليه وسلم كنداء بعضكم بعضاً ؛ كندائه باسمه، ورفع الصوت عليه، وندائه من وراء الحُجرات، ولكن بلقَبه المعظم ؛ يا رسول الله، يا نبي الله، مع غاية التوقير والتفخيم والتواضع وخفض الصوت.
قال القشيري : أي : عَظِّموه في الخطاب، واحفظوا حرمته وخدمته بالأدب، وعانقوا طاعته على مراعاة الهيبة والتوقير. ه. فالإضافة، على الأوليْن : للفاعل، وعلى الثالث ؛ للمفعول، لكنه بعيد من المناسبة لما قبله ولما بعده في قوله :﴿ قد يعلم الله الذين يتسللون ﴾ أي : يخرجون قليلاً قليلاً على خِفْيَةٍ منكم، ﴿ لِوَاذاً ﴾ أي : ملاوذين، بأن يستتر بعضهم ببعض حتى يخرج، أو يلوذ بمن يخرج بالإذن ؛ إراءة أنه من أتباعه. أو مصدر، أي : يلوذون لواذاً. واللواذ : الملاوذة، وهي التعلق بالغير، وهو أن يلوذ هذا بهذا في أمر، أي : يتسللون عن الجماعة ؛ خفية، على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض.
ثم هددهم على المخالفة بقوله :﴿ فليحذرِ الذين يُخالفون عن أمره ﴾ أي : الذين يصدون عن أمره، يقال : خالفه إلى الأمر : إذا ذهب إلى دونه، ومنه :﴿ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ﴾ [ هود : ٨٨ ]، وخالفه عن الأمر : إذا صد عنه. والضمير : إما لله سبحانه، أو للرسول - عليه الصلاة والسلام -، وهو أنسب ؛ لأنه المقصود بالذكر.
والمعنى : فليحذر الذين يخالفون عن طاعته ودينه وسنَّته، ﴿ أن تُصيبَهم فتنةٌ ﴾ ؛ محنة في الدنيا ؛ كقتل أو زلازل وأهوال، أو تسليط سلطان جائر، أو عدو، أو قسوة قلب، أو كثرة دنيا ؛ استدراجاً وفتنة.
قال القشيري : سعادة الدارين في متابعة السُّنَّة، وشقاوتهما في مخالفتها، ومما يصيب من خالفها : سقوط حشمة الدين عن القلب. ه.
﴿ أو يُصيبهم عذابٌ أليم ﴾ في الآخرة. والآية تدل على أن الأمر للإيجاب، وكلمة " أو " : لمنع الخلو، دون منع الجمع. وإعادة الفعل صريحاً ؛ للاعتناء بالتهديد والتحذير.
والخطاب والغيبة في قوله :﴿ قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه ﴾ يجوز أن يكون للمنافقين، على طريق الالتفات، ويجوز أن يكون ﴿ ما أنتم عليه ﴾ عاماً، و﴿ يُرجعون ﴾ للمنافقين. ﴿ فينبئهم ﴾ حينئذٍ ﴿ بما عملوا ﴾ من الأعمال السيئة، التي من جملتها : مخالفة الأمر، ليرتب على ذلك الإنباء ما يليق به من التوبيخ والجزاء.
﴿ والله بكل شيءٍ عليم ﴾، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه : أنه قرأ سورة النور على المنبر في الموسم، وفسرها على وجه لو سمعته الروم لأسلمت. ه. وأما ما ورد في فضل السور فموضوع، وقد غلط من ذكره من المفسرين. وبالله التوفيق.