ﰡ
وارتباط الجماعة بأمر الإمام
" إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله
وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، إن الذين يستأذنوك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم، فأذن لمن شئت منهم، واستغفر لهم الله، إن الله غفور رحيم.
لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا.
قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ".
( سورة النور الآيتان : ٦٢ – ٦٣ )
الألفاظ :
( الأمر الجامع ) : هو الحادث الذي يتطلب الاجتماع بطبيعته، فيجمع الإمام الناس من أجله، من ذوي الرأي والمعرفة بمثله، والخبرة والتجربة فيه.
من كل ما يعم نفعه أو ضرره، من أمور السلم والحرب، وشؤون الحياة والاجتماع، ليتشاوروا فيما بينهم، ويستضيء بعضهم برأي بعض.
( والاستئذان ) : هو طلب الإذن من الإمام بمفارقة الاجتماع لعذر قاض بالمفارقة.
المعنى :
يأمر الله المؤمنين إذا كانوا مع رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم – على أمر جامع ألا يفارقوا مجلسه كلهم أو بعضهم إلا بإذنه. وأكد هذا الأمر بما وطأ له من ذكر الإيمان بالله ورسوله، تنبيها على أنه من مقتضاهما. وبقرنه بهما، وجعله ثالثا لهما، تعظيما لشأنه، وتنبيها على ملازمته لهما ممن صدق فيهما. حتى كأن غير المستأذنين لا إيمان لهم.
وبإعادته في الجملة الثانية، بيان إن الذين يستأذنون هم دون غيرهم الثابتون في إيمانهم، المستمرون عليه، تعريضا بالذين لا يستأذنون وتقبيحا لحالهم بأنهم لا ثبات لهم في الإيمان، ولا استمرار منهم على العمل به، فليسوا بالمؤمنين، ولا بالذين يؤمنون.
ثم جعل الخيار لرسوله، في الإذن وعدم الإذن لهم إذا استأذنوه لبعض شأنهم، تعظيما لأمر الاجتماع، وتعظيما للصالح العام، وتوكيدا لحق الإمام على الجماعة لحفظ الاجتماع وتتميم الأعمال.
ثم أمره أن يستغفر لهم، فقد يكون العذر دون الاضطرار. وقد يكون ما فاته من بركات الاجتماع، وحسنات المشاركة فيه بالرأي والاهتمام، وتكثير السواد- بسبب ذنب كان منهم في أمر غير الاجتماع، وأكد هذا الأمر بأنه الكثير المغفرة لعباده١ الدائم الرحمة بهم.
الأحكام :
لما كان الاجتماع شرع للمصلحة، والذهاب بدون استئذان حرم للمفسدة ؛ فالمشروعية والتحريم دائمان بدوام المصلحة والمفسدة.
فأحكام الآية مستمرة الأحكام عامة للمسلمين، في كل زمان وفي كل مكان، مع أئمتهم وقادتهم المقدمين منهم فيهم، في كل ما يعرض من اجتماع لصالح عام.
فمن أحكام الآية الكريمة :
الديمقراطية في الإسلام :
١. أن على أئمة المسلمين وذوي القيادة فيهم، إذا نزل بهم أمر هام أن يجمعوا جماعة المسلمين الذين يرجى منهم الرأي والعمل فيما نزل، فلا يجوز لهم أن يهملوا أمرهم ولا أن يستبدوا عليهم٢.
٢. وأن على المسلمين أن يجتمعوا إليهم ويكونوا معهم، يظاهرونهم ويؤيدونهم، وينصحون لهم، لفلا يجوز لهم أن يتخلفوا عنهم، ولا أن يخذلوهم٣.
٣. وأن على المجتمعين ألا يذهب واحد منهم إلا بإذن.
٤. وألا يستأذن إلا لعذر ببعض الشأن.
٥. وأن على الإمام أن ينظر في الإذن وعدمه، فيفعل ما هو أولى.
بيان مراد : ودفع اغترار و اعتراض : تجد في آيات القرآن العظيم أخبارا ووعودا من الله – تعالى – للمؤمنين.
ولربما حسب – من لا يعلم – أنها تشمل ك من كان على أصل الإيمان، من اعتقاده مع بعض أعماله، وإن فرط في كثير من أصول الأعمال ؟
فيبين الله في هذه الآية وأمثالها مراده بالمؤمنين عند إطلاق لفظ المؤمنين في تلك الأخبار والوعود، حتى لا يغتر المفرطون ولا يعترض الجاهلون٤.
توجيه وإرشاد :
أسباب نهضة المسلمين :
إنما ينهض المسلمون بمقتضيات إيمانهم بالله ورسوله، إذا كانت لهم قوة، وإنما تكون لهم قوة إذا كانت لهم جماعة منظمة، تفكر وتدبر وتتشاور وتتآزر، وتنهض لجلب المصلحة ولدفع المضرة، متساندة في العمل عن فكر وعزيمة، ولهذا قرن الله في هذه الآية بين الإيمان بالله ورسوله، والحديث عن الجماعة وما يتعلق بالاجتماع، فيرشدنا إلى خطر أمر الاجتماع ونظامه، ولزوم الحرص والمحافظة عليه، كأصل لازم للقيام بمقتضيات الإيمان وحفظ عمود الإسلام٥.
موعظة :
واجب العلماء :
ما أصيب المسلمون في أعظم ما أصيبوا به إلا بإهمالهم لأمر الاجتماع ونظامه : إما باستبداد أئمتهم وقادتهم، وإما بانتشار جماعتهم بضعف روح الدين فيهم، وجهلهم بما يفرضه عليهم، وما ذاك إلا من سكوت علمائهم وقعودهم عن القيام بواجبهم : في مقاومة المستبدين٦ وتعليم الجاهلين، وبث روح الإسلام الإنساني السامي في المسلمين.
ففي أهل العلم – وهم المسؤولون عن المسلمين بما لهم من إرث النبوة فيهم – أن يقوموا بما أرشدت إليه هذه الآية الكريمة ؛ فينفخوا في المسلمين روح الاجتماع والشورى، في كل ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم، حتى لا يستبد بهم مستبد، و لا يتخلف منهم متوان، وحتى يظهر الخاذل لهم ممن ينتسب إليهم، فينبذ و يطرح ويستغني عنه بالله وبالمؤمنين.
موازنة وترجيح :
تفضيل المصلحة العامة :
هنالك المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، ومحال أن تساوي هذه بتلك : أنظر إلى الذكر الحكيم كيف عبر عن الأولى بالأمر الجامع، وفي هذا ما فيه من تفخيم. وعبر عن الثانية ببعض الشأن، وفي هذا ما فيه من التحقير والتقليل.
وفي قرنها بالاستغفار تنبيه على ترجيح الأولى على الثانية، وأنها ما كانت تعتبر إلا على وجه الرخصة، والاستغراق في الاهتمام والتدبير للمصلحة العامة أحق وأولى.
امتثال ورجاء :
لنجعل المصلحة العامة غايتنا، والمقدمة عندنا، حتى لا يكون – إن شاء الله – في مصالحنا الخاصة ما يصرفنا أو يشغلنا عنها، راجين من الله تعالى أن يعيننا على ما قصدنا، وأن يوفقنا إلى استعمال كل مصلحة خاصة لنا في مصلحة عامة لنا ولإخواننا، إنه نعم الموفق ونعم المعين.
٢ عاش بن باديس يقدس حرية الرأي والشورى ويمقت الاستبداد..
٣ وفي هذا طاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر منهم، مادام الجميع في طاعة الله..
٤ فالمؤمن هو الصادق في إيمانه. والإيمان لا يتجزأ :" أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ؟ فما جزاء الذين يفعلون منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عما تعملون "..
٥ ويحرص الجزائريون حتى الآن على حضور الجماعة وحفظ الاجتماع متى دعى الداعي بصورة طيبة..
٦ وإلا كان موقفهم سلبيا، وكانوا وبالا على الأمة، وعونا عليها إلا لها..
قد يعلم، الله الذين يتسللون منكم لواذا. فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ".
المناسبة والارتباط :
لما بينت الآية السابقة وجوب الاستئذان، عند إرادة الانصراف من مجلسه، عليه الصلاة والسلام، بينت هذه الآية وجوب تلبية دعوته إذا دعا، وفضحت حالة الذين يتسللون غير مستأذنين، وحذرت من فعلهم، و أوعدت الوعيد الشديد للمخالفين أمثالهم.
الألفاظ :
( الدعاء ) : النداء وطلب الإقبال للحضور. ( بينكم ) في اعتقادكم ومعاملتكم.
( يتسللون ) : يذهبون قليلا قليلا من الجماعة متخفين..
( لواذا ) : ملاوذة، بأن يلوذ هذا بهذا ويلوذ هذا بهذا متسترا به حتى لا يرى عند خروجه١.
( فليحذر ) : فليتيقظ وليتحرز. وذلك باجتناب المخالفة.
( يخالفون عن أمره ) : يصدون ويعرضون عن طريقته وسنته ومنهاجه، وما كان عليه من سير في الحياة.
( الفتنة ) : البلاء بأنواع النقم أو بنعم تستدرج إلى النقم٢ هذا معنى الفتنة هنا لأنها ذكرت في مساق الوعيد.
( عذاب أليم ) : في الآخرة.
المعنى :
لا تنزلوا دعاء الرسول لكم إذا دعاكم إلى الحضور عنده، منزلة دعاء بعضكم بعضا للحضور ؛ فتحسبون أنفسكم مخيرين إن شئتم أجبتم، وإن شئتم تخلفتم ! فتارة تجيبون وتارة تتخلفون. فإجابته دعوته، والإسراع إليه واجب محتم عليكم، والتخلف أو التباطؤ – لغير عذر واضح – محرم عليكم، ذلك لأنه إذا دعاكم لا يدعوكم إلا لمصلحة قطعية وخير محقق يعود عليكم في أمر الدين أو أمر الدنيا، ففي تخلفكم أو تباطئكم تفويت، أو تعطيل أو تثبيط.
وإذا حضرتم مجلسه فابقوا كلكم عند ولا تذهبوا من مجلسه واحدا واحدا، أو اثنين اثنين، يتستر بعضكم ببعض عند الخروج حتى لا يراه الناس، ولا يراه الرسول، فإن الله يعلم قطعا، أولئك الذين يخرجون متسللين متسترين بعضهم ببعض، فإذا نجو من ملام الرسول، فإنهم لا ينجون من عذاب الله.
وإذا كان الله عالما بصنعهم ومفارقتهم لمجلس رسوله، وثلمهم لجماعته وصدهم إعراضهم عما هو عليه هو ومن معه – فهو معاقبهم على ما ارتكبوا بالبلايا، يصبها عليهم في الدنيا، أو العذاب الأليم ينزله بهم في الأخرى، أو يجمع لهم ما بينهما.
فليجتنب أولئك المخالفون لأمره هذه الفتنة وهذا العذاب، وليحذروا منهما، وما ذلك إلا بترك المخالفة والإقلاع عنها، والرجوع إلى الموافقة و الإتباع.
تنظير وتعميم :
إخلاص النصيحة :
أمراء المسلمين وقادتهم، ومن يتولون أمرا من أمورهم العامة، تجب دعوتهم إذا دعوا لأمر عام وشأن، مما يرتبط بما في عهدتهم من أمر الناس، ويسرع إليهم، ولا يتسلل من مجالسهم، ذلك لما لهم من حق الخلافة عن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم – فيما كان يقوم به من أمر الناس، وتدبير شؤونهم، وضبط نظامهم، ورعاية مصالحهم٣.
ميزان :
الرسول أسوة :
كل الأقوال والأعمال توزن بأقواله وأعماله، وكل الأحوال والسير توزن بسيرته وحاله : فما وافقها فهو الحق والخير والهدى، وهو الذي يقبل من كائن من كان، وما خالفها فهو الباطل والشر والضلال، وهو الذي يرد على صاحبه كائنا من كان.
وقد ثبت٤ أنه - صلى الله عليه وآله وسلم – قال :" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ".
وجوه الفتنة وسببها :
من ألوان البلاء :
مخالفة السنة النبوية والهدي المحمدي، وما كان عليه رسول الله، - صلى الله عليه وآله وسلم – في تنفيذ شرع الله وتطبق أحكامه، وتمثيل الإسلام تمثيلا عمليا – تلك المخالفة هي سبب كل بلاء لحق المسلمين حتى اليوم، بحكم صريح هذه الآية. وقد ذكر المفسرون في تفسير الفتنة أشياء على وجه التمثيل لا على وجه الحصر والتحديد، فذكروا الكفر، والقتل، والاستدراج بالنعم، وقسوة القلب من معرفة المعروف والمنكر، والطبع على القلب حتى لا يفقه شيئا.
وكل هذا قد أصاب المسلمين بسبب مخالفتهم.
أعظم الفتنة :
سبب البلاء :
غير أن أعظم الفتنة – فيما نرى – هو ما قاله الإمام جعفر الصادق :
" أن يسلط عليهم سلطان جائر " فإنه إذا جار السلطان – وهو من له السلطة في تدبير أمر الأمانة والتصرف في شؤونها – فسد كل شيء : فسدت القلوب والعقول والأخلاق والأعمال والأحوال، وانحطت الأمة في دينها ودنياها إلى أحط الدرجات، ولحقها من جزائه كل شر وبلاء وهلاك.
ثم يتفاوت ذلك الفساد بحسب ذلك الجور في قد ره وسعته ومدة بقائه.
هذا إذا كان ذلك الجائز من جنسها ويدين – بحسب ظواهره – دينها، فكيف إذا لم يكن من جنسها ولا دينها في شيء ! !٥.
حقا إن أعظم ما لحق الأمم الإسلامية من الشر والهلاك كله جاءها على السلاطين الجائرين منها ومن غيرها.
وهذا ما يشهد به تاريخها في ماضيها وحاضرها.
فما أصدق كلمة جعفر الصادق، وما أعمق نظره فيها ! !
ومن أحق بمثلها من بيت النبوة ومعدن الحكمة ؟ ! عليهم الرضوان والرحمة. تطبيق وتحذير :
الابتداع مذموم :
من أبين المخالفة وأقبحها الزيادة في العبادة التي تعبد لله بها على ما مضى من سنة فيها، وإحداث محدثات على وجه العبادة في مواطن مرت عليه ولم يتعبد بمثل ذلك المحدث فيها.
وكلا هذين زيادة وإحداث وابتداع مذموم، يكون مرتكبه كمن يرى أنه اهتدى إلى طاعة لم يهتد إليها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – وسبق إلى فضيلة قصر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم – عنها. وكفى بهذا وحده فتنة وبلاء، دع ما يجري إليه من بلايا أخرى٦.
وقد طبق الإمام مال – رضي الله عنه – هذه الآية الكريمة على هؤلاء المتزيدين، أحسن تطبيق وأبلغه وأردعه، لمن كان له فهم وإيمان.
روى الإمام ابن العربي – رحمه الله – بسنده المتصل إلى سفيان ابن عيينة رحمه الله، " قال : سمعت مالك بن أنس – وأتاه رجل – فقال : يا أبا عبد الله من أين أحرم ؟ قال : من ذي الحليفة، من حيث أحرم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.
فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد. فقال لا تفعل.
قال : إني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر. قال : لا تفعل، فإني أخشى عليك الفتنة.
قال : وأي فتنة في هذا ؟ إنما هي أميال أزيدها.
قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ؟ !
إني سمعت الله تعالى يقول : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ".
فليتأمل المسلمون – وخصوصا المنتسبين إلى مذهب مالك٧. وما ذك إلا بالرجوع إلى ما كان عليه محمد عليه الصلاة والسلام، وما مضت عليه القرون الثلاثة المشهود لها منه بالخير في الإسلام.
وقد حفظ الله علينا ذلك بما أن تمسكنا به لن نضل أبدا – كما في الحديث الصحيح – " الكتاب والسنة " وذلك هو الإسلام الصحيح الذي أنقذ الله ه العالم أول، ولا نجاة للعالم مما هو فيه اليوم إلا إذا أنقذه الله به ثانيا.
وقد أخذ المسلمون يصيخون أسماعهم ويستجيبون – أفواجا أفواجا – لداعي الإصلاح أينما دعاهم. وفي ذلك – والحمد لله – ما قوي الرجاء والأمل، ويبعث على الجد والعمل :" الله لا إله إلا هو، وعلى الله فليتوكل المؤمنون ".
٢ وكم من نعم في طيها نقم..
٣ " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم"..
٤ في الصحيحين وغيرهما..
٥ تصريح جريء من الإمام في المستعمر والمستبد والطاغي في وقت فيه الجبروت في عنفوانه.
.
٦ يشير إلى ما أحدثه بعض الناس من البدع والخرافات والضلالات..
٧ هم الكثرة الكاثرة من سكان الشمال الافريقي، وغرب إفريقا..