ﰡ
مدنية، وهي اثنتان وستون آية. وقيل: أربع وستون [نزلت بعد الحشر] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النور (٢٤) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١)سُورَةٌ خبر مبتدإ محذوف. وأَنْزَلْناها صفة. أو هي مبتدأ موصوف والخبر محذوف، أى: فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها. وقرئ بالنصب على: زيدا ضربته، ولا محل لأنزلناها، لأنها مفسرة للمضمر فكانت في حكمه. أو على: دونك سورة أو اتل سورة. وأنزلناها:
صفة. ومعنى فَرَضْناها فرضنا أحكامها التي فيها. وأصل الفرض: القطع، أى: جعلناها واجبة مقطوعا بها، والتشديد للمبالغة في الإيجاب وتوكيده. أو لأنّ فيها فرائض شتى، وأنك تقول: فرضت الفريضة، وفرّضت الفرائض. أو لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم تَذَكَّرُونَ بتشديد الذال وتخفيفها، رفعهما على الابتداء، والخبر محذوف عند الخليل وسيبويه، على معنى: فيما فرض عليكم.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي أى جلدهما. ويجوز أن يكون الخبر: فَاجْلِدُوا، وإنما دخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وتضمينه معنى الشرط «١»، تقديره: التي زنت، والذي زنى
والتقدير: وفيما فرض عليكم الزانية والزاني، أى: جلدهما. الثاني: أن يكون الخبر فاجلدوا، ودخلت الفاء لكون الألف واللام بمعنى الذي وقد ضمن معنى الشرط» قال أحمد: وإنما عدل سيبويه إلى هذا الذي نقله عنه لوجهين:
لفظي ومعنوي. أما اللفظي فلأن الكلام أمر وهو يخيل اختيار النصب، ومع ذلك قراءة العامة، فلو جعل فعل الأمر خبرا وبنى المبتدأ عليه لكان خلاف المختار عند الفصحاء، فالتجأ إلى تقدير الخبر حتى لا يكون المبتدأ مبنيا على الأمر، فخلص من مخالفة الاختيار، وقد مثلهما سيبويه في كتابه بقوله تعالى مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ... الآية ووجه التمثيل أنه صدر الكلام بقوله مَثَلُ الْجَنَّةِ ولا يستقيم جزما أن يكون قوله فِيها أَنْهارٌ خبره، فتعين تقدير خبره محذوفا. وأصله: فيما نقص عليكم مثل الجنة، ثم لما كان هذا إجمالا لذكر المثل فصل بقوله فِيها أَنْهارٌ إلى آخرها، فكذلك هاهنا، كأنه قال: وفيما فرض عليكم شأن الزانية والزاني، ثم فصل هذا المجمل بما ذكر من أحكام الجلد، ويناسب هذا ترجمة الفقهاء في كتبهم حيث يقولون مثلا: الصلاة، الزكاة، السرقة.
ثم يذكرون في كل باب أحكامه، يريدون مما يصنف فيه ويبوب عليه: الصلاة، وكذلك غيرها، فهذا بيان المقتضى عند سيبويه، لاختيار حذف الخبر من حيث الصناعة اللفظية. وأما من حيث المعنى فهو أن المعنى أتم وأكمل على حذف الخبر، لأن يكون قد ذكر حكم الزانية والزاني مجملا حيث قال: الزانية والزاني وأراد: وفيما فرض عليكم حكم الزانية والزاني، فلما تشوف السامع إلى تفصيل هذا المجمل ذكر حكمهما مفصلا، فهو أوقع في النفس من ذكره أول وهلة، والله أعلم.
قلت: بل هو حكم من ليس بمحصن منهم، فإنّ المحصن حكمه الرجم. وشرائط الإحصان عند أبى حنيفة ست: الإسلام، والحرية، والعقل، والبلوغ، والتزوج بنكاح صحيح، والدخول.
إذا فقدت واحدة منها فلا إحصان. وعند الشافعي: الإسلام ليس بشرط، لما روى أنّ النبي ﷺ رجم يهوديين زنيا «١». وحجة أبى حنيفة قوله ﷺ «من أشرك بالله فليس بمحصن «٢» » فإن قلت: اللفظ يقتضى تعليق الحكم بجميع الزناة والزواني، لأن قوله الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي عام في الجميع، يتناول المحصن وغير المحصن. قلت: الزانية والزاني يدلان على الجنسين المنافيين لجنسى العفيف والعفيفة دلالة مطلقة والجنسية قائمة في الكل والبعض جميعا، فأيهما قصد المتكلم فلا عليه، كما يفعل بالاسم المشترك. وقرئ: ولا يأخذكم، بالياء. ورأفة، بفتح الهمزة. ورآفة على فعالة. والمعنى: أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ويستعملوا الجدّ والمتانة فيه، ولا يأخذهم اللين والهوادة في استيفاء حدوده. وكفى برسول الله ﷺ أسوة في ذلك حيث قال «لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها «٣» » وقوله إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ من باب التهييج وإلهاب الغضب لله ولدينه وقيل لا تترحموا عليهما حتى لا تعطلوا الحدود أو حتى لا توجعوهما ضربا. وفي الحديث «يؤتى بوال
(٢). أخرجه إسحاق والدارقطني تفرد برفعه إسحاق. قلت: قال إسحاق في مسنده أن شيخه حدثه به مرة أخرى موقوفا.
(٣). متفق عليه من حديث عائشة رضى الله عنها.
منسوخ عنده وعند أصحابه بالآية. أو محمول على وجه التعزير والتأديب من غير وجوب. وقول الشافعي في تغريب الحرّ واحد، وله في العبد ثلاثة أقاويل: يغرب سنة كالحرّ، ويغرب نصف سنة كما يجلد خمسين جلدة، ولا يغرب كما قال أبو حنيفة. وبهذه الآية نسخ الحبس الأذى في قوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، وقوله تعالى فَآذُوهُما. قيل: تسميته عذابا دليل على أنه عقوبة. ويجوز أن يسمى عذابا، لأنه يمنع من المعاودة كما سمى نكالا.
الطائفة: الفرقة التي يمكن أن تكون حلقة، وأقلها ثلاثة أو أربعة، وهي صفة غالبة كأنها الجماعة الحافة حول الشيء. وعن ابن عباس في تفسيرها: أربعة إلى أربعين رجلا من المصدقين بالله. وعن الحسن: عشرة. وعن قتادة: ثلاثة فصاعدا. وعن عكرمة: رجلان فصاعدا. وعن مجاهد: الواحد فما فوقه. وفضل قول ابن عباس، لأن الأربعة هي الجماعة التي يثبت بها هذا الحد والصحيح أن هذه الكبيرة من أمّهات الكبائر، ولهذا قرنها الله بالشرك وقتل النفس في قوله
(٢). أخرجه النسائي من طريق أبى زرعة عنه موقوفا وأخرجه النسائي أيضا وابن حبان وأحمد وابن ماجة والطبرانى من هذا الوجه مرفوعا. وقال «أربعين صباحا» ولأحمد «ثلاثين أو أربعين صباحا» وفي الباب عن ابن عمر، أخرجه ابن ماجة بلفظ «إقامة حد من حدود الله تعالى خير من مطر أربعين ليلة»
(٣). قوله «على مجرده» في الصحاح: فلان حسن المجرد، أى: المعرى اه، أى: المكشوف عن الثياب. (ع)
(٤). أخرجه مسلم وأصحاب السنن من حديث عبادة بن الصامت في أثناء حديث
(٥). أخرجه الترمذي والحاكم من حديث ابن عمر رضى الله عنهما أن النبي ﷺ ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب، وأن عمر ضرب وغرب.
إلى أربعين رجلا من المصدقين بالله.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣]
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)
الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنى والتقحب، لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء واللاتي على خلاف صفته، وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله، أو في مشركة. والفاسقة الخبيثة المسافحة. كذلك لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من شكلها من الفسقة أو المشركين. ونكاح المؤمن الممدوح عند الله الزانية ورغبته فيها وانخراطه بذلك في سلك الفسقة المتسمين بالزنى: محرّم عليه محظور لما فيه من التشبه بالفساق، وحضور موقع التهمة، والتسبب لسوء القالة فيه والغيبة وأنواع المفاسد. ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرّض لاقتراف الآثام، فكيف بمزاوجة الزواني والقحاب، وقد نبه على ذلك بقوله وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ وقيل: كان بالمدينة موسرات من بغايا المشركين، فرغب فقراء المهاجرين في نكاحهنّ، فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت. وعن عائشة رضى الله عنها أن الرجل إذا زنى بامرأة، ليس له أن يتزوجها
سيقت تلك الآية لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت الجناية لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن، فلما كانت أصلا وأولا في ذلك بدأ بذكرها. وأمّا الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه، لأنه هو الراغب والخاطب،
العفيفة لا ينكحها زان. والسر في ذلك أن الكلام في أحكامهم، فذكر الأعفاء بسلب نقائصهم، حتى لا يخرج بالكلام عما هو المقصود منه، ثم بينه في إسناد النكاح في هذين القسمين المذكور دون الإناث، بخلاف قوله الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فانه جعل لكل واحد منهما ثم استقلالا، وقدم الزانية على الزاني. والسبب فيه أن الكلام الأول في حكم الزنا، والأصل فيه المرأة لما يبدو منها من الايماض والاطماع، والكلام الثاني في نكاح الزناة إذا وقع ذلك على الصحة، والأصل في النكاح الذكور وهم المبتدءون بالخطبة، فلم يسند إلا لهم لهذا- وإن كان الغرض من الآية تنفير الأعفاء من الذكور والإناث من مناكحة الزناة ذكورا وإناثا، زجرا لهم عن الفاحشة- ولذلك قرن الزنا والشرك. ومن ثم كره مالك رحمه الله مناكحة المشهورين بالفاحشة، وقد نقل بعض أصحابه الإجماع في المذهب على أن للمرأة أو لمن قام من أوليائها فسخ نكاح الفاسق. ومالك أبعد الناس من اعتبار الكفاءة إلا في الدين. وأما في النسب، فقد بلغه أنهم فرقوا بين عربية ومولى فاستعظمه وتلا يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ. [.....]
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤ الى ٥]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
القذف يكون بالزنى وبغيره، والذي دل على أن المراد قذفهن بالزنى شيئان، أحدهما: ذكر المحصنات عقيب الزواني. والثاني: اشتراط أربعة شهداء، لأنّ القذف بغير الزنى يكفى فيه شاهدان، والقذف بالزنى أن يقول الحرّ العاقل البالغ لمحصنة: يا زانية، أو لمحصن: يا زانى، يا ابن الزاني، يا ابن الزانية، يا ولد الزنا، لست لأبيك، لست لرشدة. والقذف بغير الزنا أن يقول: يا آكل الربا، يا شارب الخمر، يا يهودى، يا مجوسي، يا فاسق، يا خبيث، يا ماص بظر أمّه: فعليه التعزير، ولا يبلغ به أدنى حد العبيد وهو أربعون، بل ينقص منه. وقال أبو يوسف: يجوز أن يبلغ به تسعة وسبعون. وقال: للإمام أن يعزر إلى المائة. وشروط إحصان القذف خمسة: الحرية، والبلوغ، والعقل، والإسلام، والعفة. وقرئ: بأربعة شهداء، بالتنوين. وشهداء: صفة. فإن قلت: كيف يشهدون مجتمعين أو متفرّقين؟ قلت:
الواجب عند أبى حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم أن يحضروا في مجلس واحد، وإن جاءوا متفرقين كانوا قذفة. وعند الشافعي رضى الله عنه: يجوز أن يحضروا متفرّقين. فإن قلت: هل يجوز أن يكون زوج المقذوفة واحدا منهم؟ قلت: يجوز عند أبى حنيفة خلافا للشافعي. فإن قلت:
كيف يجلد القاذف؟ قلت: كما جلد الزاني، إلا أنه لا ينزع عنه من ثيابه إلا ما ينزع عن المرأة من الحشو والفرو. والقاذفة أيضا كالزانية، وأشدّ الضرب ضرب التعزير، ثم ضرب الزنا، ثم ضرب شرب الخمر، ثم ضرب القاذف. قالوا: لأنّ سبب عقوبته محتمل للصدق والكذب، إلا أنه عوقب صيانة للأعراض وردعا عن هتكها. فإن قلت: فإذا لم يكن المقذوف محصنا؟ قلت:
يعزر القاذف ولا يحدّ، إلا أن يكون المقذوف معروفا بما قذف به فلا حدّ ولا تعزير. ردّ شهادة القاذف معلق عند أبى حنيفة رضى الله عنه باستيفاء الحد، فإذا شهد قبل الحد أو قبل
وعند الشافعي رضى الله عنه: يتعلق ردّ شهادته بنفس القذف، فإذا تاب عن القذف بأن رجع عنه، عاد مقبول الشهادة. وكلاهما متمسك بالآية، فأبو حنيفة رضى الله عنه جعل جزاء الشرط الذي هو الرمي: الجلد، وردّ الشهادة عقيب الجلد على التأييد، فكانوا مردودى الشهادة عنده في أبدهم وهو مدة حياتهم، وجعل قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ كلاما مستأنفا غير داخل في حيز جزاء الشرط، كأنه حكاية حال الرامين عند الله بعد انقضاء الجملة الشرطية.
وإِلَّا الَّذِينَ تابُوا استثناء من الفاسقين. ويدل عليه قوله فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ والشافعي رضى الله عنه جعل جزاء الشرط الجملتين أيضا. غير أنه صرف الأبد إلى مدة كونه قاذفا، وهي تنتهي بالتوبة والرجوع عن القذف وجعل الاستثناء متعلقا بالجملة الثانية. وحق المستثنى عنده أن يكون مجرورا بدلا من «هم» في «لهم» وحقه عند أبى حنيفة رضى الله عنه أن يكون منصوبا لأنه عن موجب، والذي يقتضيه ظاهر الآية ونظمها أن تكون الجمل الثلاث بمجموعهن جزاء الشرط، كأنه قيل: ومن قذف المحصنات فاجلدوهم وردّوا شهادتهم وفسقوهم أى: فاجمعوا لهم الجلد والردّ والتفسيق، إلا الذين تابوا عن القذف وأصلحوا فإنّ الله يغفر لهم فينفلبون غير مجلودين ولا مردودين ولا مفسقين. فإن قلت. الكافر يقذف فيتوب عن الكفر فتقبل شهادته بالإجماع، والقاذف من المسلمين يتوب عن القذف فلا تقبل شهادته عند أبى حنيفة رضى الله عنه، كأن القذف مع الكفر أهون من القذف مع الإسلام؟ قلت: المسلمون لا يعبئون بسب الكفار، لأنهم شهروا بعداوتهم والطعن فيهم بالباطل، فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر من الشين والشنار ما يلحقه بقذف مسلم مثله، فشدّد على القاذف من المسلمين ردعا وكفا عن إلحاق الشنار «١». فإن قلت: هل للمقذوف أو للإمام أن يعفو عن حدّ القاذف؟ قلت: لهما ذلك قبل أن يشهد الشهود ويثبت الحدّ، والمقذوف مندوب إلى أن لا يرافع القاذف ولا يطالبه بالحدّ. ويحسن من الإمام أن يحمل المقذوف على كظم الغيظ ويقول له: أعرض عن هذا ودعه لوجه الله قبل ثبات الحدّ: فإذا ثبت لم يكن لواحد منهما أن يعفو لأنه خالص حق الله، ولهذا لم يصح أن يصالح عنه بمال. فإن قلت: هل يورث الحدّ؟ قلت: عند أبى حنيفة رضى الله عنه لا يورث، لقوله ﷺ «الحدّ لا يورث» وعند الشافعي رضى الله عنه يورث، وإذا تاب القاذف قبل أن يثبت الحدّ سقط. وقيل: نزلت هذه الآية في حسان بن ثابت رضى الله عنه حين تاب مما قال في عائشة رضى الله عنها.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦ الى ٩]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩)قاذف امرأته إذا كان مسلما حرا بالغا عاقلا، غير محدود في القذف، والمرأة بهذه الصفة مع العفة: صح اللعان بينهما، إذا قذفها بصريح الزنى. وهو أن يقول لها: يا زانية، أو: زنيت، أو رأيتك تزنين. وإذا كان الزوج عبدا، أو محدودا في قذف، والمرأة محصنة: حدّ كما في قذف الأجنبيات، وما لم ترافعه إلى الإمام لم يجب اللعان. واللعان: أن يبدأ الرجل فيشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما رماها به من الزنى، ويقول في الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنى. وتقول المرأة أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رمانى به من الزنى، ثم تقول في الخامسة: أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رمانى به من الزنى. وعند الشافعي رضى الله عنه: يقام الرجل قائما حتى يشهد والمرأة قاعدة، وتقام المرأة والرجل قاعد حتى تشهد، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه ويقول له: إنى أخاف إن لم تكن صادقا أن تبوء بلعنة الله، وقال: اللعان بمكة بين المقام والبيت، وبالمدينة على المنبر، وبيت المقدس في مسجده، ولعان المشرك في الكنيسة وحيث يعظم، وإذا لم يكن له دين ففي مساجدنا إلا في المسجد الحرام، لقوله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ثم يفرق القاضي بينهما، ولا تقع الفرقة بينهما إلا بتفريقه عند أبى حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم، إلا عند زفر، فإن الفرقة تقع باللعان. وعن عثمان البتى: لا فرقة أصلا. وعند الشافعي رضى الله عنه تقع بلمان الزوج، وتكون هذه الفرقة في حكم التطليقة البائنة عند أبى حنيفة ومحمد رضى الله عنهما ولا يتأبد حكمها، فإذا أكذب الرجل نفسه بعد ذلك فحدّ جاز أن يتزوجها. وعند أبى يوسف وزفر والحسن بن زياد والشافعي رضى الله عنهم: هي فرقة بغير طلاق توجب تحريما مؤبدا، ليس لهما أن يجتمعا بعد ذلك بوجه.
وروى أن آية القذف لما نزلت «١» قرأها رسول الله ﷺ على المنبر، فقام
أم بخلا على الطعام- وكان شريك نزيلهم- وقال هلال: لقد رأيته على بطنها. فنزلت، ولا عن بينهما. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند قوله وقولها: أنّ لعنة الله عليه، إن غضب الله عليها: آمين، وقال القوم: آمين، وقال لها: إن كنت ألممت بذنب فاعترفى به، فالرجم أهون عليك من غضب الله، إن غضبه هو النار. وقال: تحينوا بها الولادة فإن جاءت به أصيهب أثيبج «١» يضرب إلى السواد فهو لشريك، وإن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به» قال ابن عباس رضى الله عنهما: فجاءت بأشبه خلق الله لشريك. فقال صلى الله عليه وسلم: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن». وقرئ: ولم تكن، بالتاء، لأنّ الشهداء جماعة. أو لأنهم في معنى الأنفس التي هي بدل. ووجه من قرأ أربع أن ينتصب، لأنه في حكم المصدر والعامل فيه المصدر الذي هو فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ وهي مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: فواجب شهادة أحدهم أربع شهادات بالله. وقرئ أن لعنة الله، وأن غضب الله:
على تخفيف أن ورفع ما بعدها. وقرئ: أن غضب الله، على فعل الغضب. وقرئ: بنصب الخامستين «٢»، على معنى: وتشهد الخامسة. فإن قلت: لم خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله؟ قلت: تغليظا عليها، لأنها هي أصل الفجور ومنبعه بخلابتها «٣» وإطماعها،
(٢). قوله «وقرئ بنصب الخامستين» في النسفي: أنه لا خلاف في رفع الخامسة الأولى على المشهور. (ع)
(٣). قوله «بخلابتها» في الصحاح «الخلابة» الخديعة باللسان. (ع)
[سورة النور (٢٤) : آية ١٠]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
الفضل: التفضل، وجواب «لولا» متروك، وتركه دال على أمر عظيم لا يكتنه، ورب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به.
[سورة النور (٢٤) : آية ١١]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١)
الإفك: أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء. وقيل: هو البهتان لا تشعر به حتى يفجأك.
وأصله: الأفك، وهو القلب، لأنه قول مأفوك عن وجهه. والمراد: ما أفك به على عائشة رضى الله عنها. والعصبة: الجماعة من العشرة إلى الأربعين، وكذلك العصابة. واعصوصبوا:
اجتمعوا، وهم عبد الله بن أبىّ رأس النفاق، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح ابن أثاثة، وحمنة بنت جحش، ومن ساعدهم. وقرئ: كبره بالضم والكسر، وهو عظمه «١». والذي تولاه عبد الله، لإمعانه في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتهازه الفرص، وطلبه سبيلا إلى الغميزة.
أى يصيب كل خائض في حديث الإفك من تلك العصبة نصيبه من الإثم على مقدار خوضه. والعذاب العظيم لعبد الله، لأنّ معظم الشرّ كان منه. يحكى أن صفوان رضى الله عنه مرّ بهودجها عليه وهو في ملأ من قومه فقال: من هذه؟ فقالوا: عائشة رضى الله عنها، فقال:
والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها.
والخطاب في قوله هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لمن ساءه ذلك من المؤمنين، وخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأبى بكر، وعائشة، وصفوان بن المعطل رضى الله عنهم. ومعنى كونه خيرا لهم:
أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم، لأنه كان بلاء مبينا ومحنة ظاهرة، وأنه نزلت فيه ثماني عشرة آية كل واحدة منها مستقلة بما هو تعظيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له، وتنزيه لأم المؤمنين رضوان الله عليها، وتطهير لأهل البيت، وتهويل لمن تكلم في ذلك أو
[سورة النور (٢٤) : آية ١٢]
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢)
بِأَنْفُسِهِمْ أى بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات، كقوله وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ «١» وذلك نحو ما يروى أن أبا أيوب الأنصارى قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟ فقالت:
لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله ﷺ سوءا؟ قال: لا. قالت:
ولو كنت أنا بدل عائشة رضى الله عنها ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعائشة خير منى، وصفوان خير منك «٢». فإن قلت: هلا قيل: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم؟
ولم عدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر؟ قلت: ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، وليصرح بلفظ الإيمان، دلالة على أن الاشتراك فيه مقتض أن لا يصدّق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول غائب ولا طاعن. وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه، أن يبنى الأمر فيها على الظنّ لا على الشك. وأن يقول بملء فيه بناء على ظنه بالمؤمن الخير: هذا إِفْكٌ مُبِينٌ هكذا بلفظ المصرح ببراءة ساحته. كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال. وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه بأخوات.
[سورة النور (٢٤) : آية ١٣]
لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣)
والسر في هذا التعبير: تعطيف المؤمن على أخيه وتوبيخه على أن يذكره بسوء، وتصوير ذلك بصورة من أخذ يقذف نفسه ويرميها بما ليس فيها من الفاحشة، ولا شيء أشنع من ذلك، والله أعلم.
(٢). عاد كلامه. قال: ونقل أن أبا أيوب الأنصارى قال لامرأته: ألا ترين مقالة الناس؟ قالت له: لو كنت بدل صفوان أكنت تخون في حرمة رسول الله ﷺ سوءا؟ قال: لا. قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنته، وصفوان خير منك وعائشة خير منى» قال أحمد: ولقد ألهمت بنور الايمان إلى هذا السر الذي انطوى عليه التعبير عن الغير من المؤمنين بالنفس، فإنها نزلت زوجها منزلة صفوان، ونفسها منزلة عائشة، ثم أثبتت لنفسها ولزوجها البراءة والأمانة، حتى أثبتتها لصفوان وعائشة بطريق الأولى رضى الله عنها. ويحتمل والله أعلم خلاف ما قاله الزمخشري: وهو أن يكون التعبير بالأنفس حقيقة، والمقصود إلزام سيئ الظن بنفسه، لأنه لم يعتد بوازع الايمان في حق غيره، وألغاه واعتبره في حق نفسه، وادعى لها البراءة قبل معرفته بحكم الهوى لا بحكم الهدى، والله أعلم.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)
لولا الأولى للتحضيض، وهذه لامتناع الشيء لوجود غيره. والمعنى: ولولا أنى قضيت أن أتفضل عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، وأن أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. يقال: أفاض في الحديث، واندفع، وهضب، وخاض إِذْ ظرف لمسكم، أو لأفضتم تَلَقَّوْنَهُ يأخذه بعضكم من بعض. يقال: تلقى القول وتلقنه وتلقفه. ومنه قوله تعالى فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ وقرئ على الأصل: تتلقونه. وإذ تلقونه، بإدغام الذال في التاء «١». وتلقونه، من لقيه بمعنى لقفه. وتلقونه، من إلقائه بعضهم على بعض. وتلقونه وتألقونه، من الولق والألق: وهو الكذب. وتلقونه: محكية عن عائشة رضى الله عنها، وعن سفيان: سمعت أمى تقرأ: إذ تثقفونه «٢»، وكان أبوها يقرأ بحرف عبد الله بن مسعود رضى الله عنه. فإن قلت: ما معنى قوله بِأَفْواهِكُمْ والقول لا يكون إلا بالفم؟ قلت: معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب، فيترجم عنه اللسان «٣». وهذا الإفك ليس إلا قولا يجرى على ألسنتكم ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب، كقوله تعالى يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ،
(٢). قوله «سمعت أمى تقرأ إذا تثقفونه» وفي نسخة تنقفونه، بمعنى تتبعونه، وكلا النسختين قراءة. (ع)
(٣). قال محمود: «إن قلت القول لا يكون إلا بالأفواه، فما فائدة ذكرها؟ قلت: المراد أن هذا القول لم يكن عبارة عن علم قام بالقلب، وإنما هو مجرد قول اللسان» قال أحمد: ويحتمل أن يكون المراد المبالغة، أو تعريضا بأنه ربما يتمشدق ويقضى تمشدق جازم عالم، وهذا أشد وأقطع، وهو السر الذي أنبا عنه قوله تعالى قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ والله أعلم.
[سورة النور (٢٤) : آية ١٦]
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦)
فإن قلت: كيف جاز الفصل بين لولا وقلتم؟ قلت: للظروف شأن وهو تنزلها من الأشياء منزلة أنفسها لوقوعها فيها وأنها لا تنفك عنها، فلذلك يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها.
فإن قلت: فأىّ فائدة في تقديم الظرف حتى أوقع فاصلا؟ قلت: الفائدة فيه بيان أنه كان الواجب عليهم أن يتفادوا أوّل ما سمعوا بالإفك عن التكلم به، فلما كان ذكر الوقت أهمّ وجب التقديم. فإن قلت: فما معنى يكون، والكلام بدونه متلئب «٢» لو قيل ما لنا أن نتكلم بهذا؟
قلت: معناه معنى: ينبغي، ويصح أى: ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا. وما يصح لنا. ونحوه:
ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق. وسُبْحانَكَ للتعجب من عظم الأمر «٣». فإن قلت:
ما معنى التعجب في كلمة التسبيح؟ قلت: الأصل في ذلك أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه أو لتنزيه الله تعالى من أن تكون حرمة نبيه عليه السلام فاجرة. فإن قلت: كيف جاز أن تكون امرأة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط، ولم يجز أن تكون فاجرة؟ قلت: لأنّ الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعوهم ويستعطفوهم،
(٢). قوله «والكلام بدونه متلئب» لعله: محرف، وأصله مستتب. وفي الصحاح: استتب الأمر: تهيأ واستقام. (ع) [.....]
(٣). قال محمود: «معناه التعجب من عظم الأمر، وأصله أن الإنسان إذا رأى عجيبا من صنائع الله تعالى سبحه، ثم كثر حتى استعمل عند كل متعجب منه، ثم أوردها هنا سؤالا على توبيخهم على ترك التعجب فقال:
إن قلت: لم جاز أن تكون زوجة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط ولم يجز أن تكون فاجرة، ولم يكن كفرها متعجبا منه وفجورها متعجب منه؟ قلت: لأن الأنبياء مبعوثون إلى الكفار ليدعوهم ويتزلفوا إليهم، وكفر الزوجة غير مانع ولا منفر بخلاف الكشخنة» قال أحمد: وما أورد عليه أبرد من هذا السؤال، كأن أحدا يشكل عليه أن ينسب الفاحشة إلى مثل عائشة، مما ينكره كل عاقل ويتعجب منه كل لبيب، والله الموفق،
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٧ الى ١٨]
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨)
أى كراهة أَنْ تَعُودُوا أو في أن تعودوا، من قولك: وعظت فلانا في كذا فتركه.
وأبدهم ما داموا أحياء مكلفين. وإِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فيه تهييج لهم ليتعظوا، وتذكير بما يوجب ترك العود، وهو اتصافهم بالإيمان الصادّ عن كل مقبح، ويبين الله لكم الدلالات على علمه وحكمته بما ينزل عليكم من الشرائع، ويعلمكم من الآداب الجميلة، ويعظكم به من المواعظ الشافية، والله عالم بكل شيء، فاعل لما يفعله بدواعى الحكمة.
[سورة النور (٢٤) : آية ١٩]
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩)
المعنى: يشيعون الفاحشة عن قصد إلى الإشاعة، وإرادة ومحبة لها، وعذاب الدنيا الحدّ، ولقد ضرب رسول الله ﷺ عبد الله بن أبىّ وحسانا ومسطحا، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف، وكفّ بصره. وقيل: هو المراد بقوله وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما في القلوب من الأسرار والضمائر وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ يعنى أنه قد علم محبة من أحب الإشاعة، وهو معاقبة عليها.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٠]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
وكرّر المنة بترك المعاجلة بالعقاب، حاذفا جواب لولا كما حذفه ثمة. وفي هذا التكرير مع حذف الجواب مبالغة عظيمة، وكذلك في التوّاب والرءوف والرحيم.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١)
الفحشاء والفاحشة: ما أفرط قبحه. قال أبو ذؤيب:
أى: أفرطت غيرتها. والمنكر: ما تنكره النفوس فتنفر عنه ولا ترتضيه. وقرئ: خطوات، بفتح الطاء وسكونها. وزكى بالتشديد، والضمير لله تعالى، ولولا أنّ الله تفضل عليكم بالتوبة الممحصة، لما طهر منكم أحد آخر الدهر من دنس إثم الإفك، ولكن الله يطهر التائبين بقبول توبتهم إذا محضوها، وهو سَمِيعٌ لقولهم عَلِيمٌ بضمائرهم وإخلاصهم.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٢]
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)
وهو من ائتلى إذا حلف: افتعال من الألية. وقيل: من قولهم: ما ألوت جهدا، إذا لم تدخر منه شيئا. ويشهد للأول قراءة الحسن: ولا يتأل. والمعنى: لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان. أو لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لجناية اقترفوها، فليعودوا عليهم بالعفو والصفح، وليفعلوا بهم مثل ما يرجون أن يفعل بهم ربهم، مع كثرة خطاياهم وذنوبهم، نزلت في شأن مسطح وكان ابن خالة أبى بكر الصدّيق رضى الله عنهما، وكان فقيرا من فقراء المهاجرين، وكان أبو بكر ينفق عليه، فلما فرط منه ما فرط:
آلى أن لا ينفق عليه، وكفى به داعيا إلى المجاملة وترك الاشتغال بالمكافأة للمسىء. ويروى أنّ رسول الله ﷺ قرأها على أبى بكر، فقال: بلى أحب أن يغفر الله لي، ورجع إلى مسطح نفقته وقال: والله لا أنزعها أبدا. وقرأ أبو حيوة وابن قطيب: أن تؤتوا، بالتاء على الالتفات. ويعضده قوله أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٣]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣)
الْغافِلاتِ السليمات الصدور، النقيات القلوب، اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر،
لهن نشيج بالنشيل كأنها | ضرائر حرمي تفاحش غارها |
ولقد لهوت بطفلة ميّالة | بلهاء تطلعني على أسرارها «١» |
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)
وقرئ: يشهد، بالياء. والحق: بالنصب صفة للدين وهو الجزاء، وبالرفع صفة لله، ولو فليت القرآن كله وفتشت عما أوعد به من العصاة لم تر الله تعالى قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع، المشحونة بالوعيد الشديد والعتاب البليغ والزجر العنيف. واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، ما أنزل فيه على طرق مختلفة وأساليب مفتنة. كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها، حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وبأنّ ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الواجب الذي هم أهله، حتى يعلموا عند ذلك أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ فأوجز في ذلك وأشبع، وفصل وأجمل، وأكد وكرّر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلا ما هو دونه في الفظاعة، وما ذاك إلا لأمر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنه كان بالبصرة يوم عرفة، وكان يسأل عن تفسير القرآن، حتى سئل عن هذه الآيات فقال: من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة، وهذه منه مبالغة وتعظيم لأمر الإفك.
ولقد برّأ الله تعالى أربعة بأربعة: برأ يوسف بلسان الشاهد وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها. وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه. وبرّأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها: إنى عبد الله. وبرّأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلوّ على وجه الدهر، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات. فانظر، كم بينها وبين تبرئة أولئك؟ وما ذاك إلا لإظهار علوّ منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتنبيه على إناقة محل سيد ولد آدم، وخيرة الأوّلين والآخرين، وحجة الله على العالمين. ومن أراد أن يتحقق عظمة شأنه ﷺ وتقدّم قدمه وإحرازه لقصب السبق دون كل سابق، فليتلق ذلك من آيات الإفك، وليتأمّل كيف
رخصتها لينتها، ميالة: مختالة، بلهاء: غافلة لا مكر عندها ولا دهاء، فلذلك تطلعني على ضمائرها.
والثاني: أنها أمّ المؤمنين فجمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمّة الموصوفات بالإحصان والغفلة والإيمان، كما قال:
قدنى من نصر الخبيبين قدى «٢»
أراد عبد الله بن الزبير وأشياعه، وكان أعداؤه يكنونه بخبيب ابنه، وكان مضعوفا «٣»، وكنيته المشهورة أبو بكر، إلا أن هذا في الاسم وذاك في الصفة. فإن قلت: ما معنى قوله هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ؟ قلت: معناه ذو الحق البين، أى: العادل الظاهر العدل، الذي لا ظلم في حكمه، والمحق الذي لا يوصف بباطل. ومن هذه صفته لم تسقط عنده إساءة مسيء ولا إحسان محسن، فحق مثله أن يتقى ويجتنب محارمه.
قدنى من نصر الخبيبين قدى
يعنى عبد الله بن الزبير وأشياعه وكان يكنى أبا خبيب» قال أحمد: والأظهر أن المراد عموم المحصنات والمقصود بذكرهن على العموم وعيد من وقع في عائشة على أبلغ الوجوه، لأنه إذا كان هذا وعيد قاذف آحاد المؤمنات، فما الظن بوعيد من قذف سيدتهن وزوج سيد البشر صلى الله عليه وسلم، على أن تعميم الوعيد أبلغ وأقطع من تخصيصه وهذا معنى قول زليخا ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ فعممت وأرادت يوسف، تهويلا عليه وإرجافا، والمعصوم من عصمه الله تعالى.
(٢).
قدنى من نصر الخبيبين قد | ليس الامام بالشحيح الملحد |
ولا يوتن بالحجاز مفرد | إن ير يوما بالقضاء يصطد |
لحميد الأرقط. وقيل: لأبى بحدلة يخاطب عبد الملك بن مروان. وقدنى: بمعنى حسبي. وكرر للتوكيد. والخبيبين يروى بصيغة التثنية، يعنى عبد الله بن الزبير وابنه خبيب، وكانوا إذا ذموه كنوه بأبى خبيب بالتصغير. ويروى بصيغة الجمع، يعنى: عبد الله وشيعته، كان ادعى الخلافة فقال الشاعر: لا يكون الامام شحيحا أى بخيلا، ولا ملحدا أى محتكرا أو محاربا في الحرم. والإلحاد: الميل. والوتن بالسكون، والواتن بالمثناة، وبالمثلثة: الثابت الدائم، يوصف به الماء ونحوه. ويروى: يوبر، والوبر حيوان صغير ذليل لا ذنب له يحبس ويعلف، ومفرد: يروى بالفاء وبالقاف. وقرد الرجل: سكت من عي. وأفرد: سكن وتماوت. وأقردت الشيء: جمعته وصممته وهو منه. ويصطد: مبنى للمجهول، وهو يناسب رواية وبر. والانجحار: دخول الجحر. والمحكد. الملجأ والمهرب. وحاشا لابن الزبير أن يكون ملحدا.
(٣). قوله «وكان مضعوفا» في الصحاح: أضعفت الشيء فهو مضعوف، على غير قياس. (ع)
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)أى الْخَبِيثاتُ من القول تقال أو تعد لِلْخَبِيثِينَ من الرجال والنساء وَالْخَبِيثُونَ منهم يتعرضون لِلْخَبِيثاتِ من القول، وكذلك الطيبات والطيبون. وأُولئِكَ إشارة إلى الطيبين، وأنهم مبرءون مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلم «١»، وهو كلام جار مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب. ويجوز أن يكون أُولئِكَ إشارة إلى أهل البيت، وأنهم مبرءون مما يقول أهل الإفك، وأن يراد بالخبيثات والطيبات: النساء، أى: الخبائث يتزوّجن الخباث، والخباث الخبائث، وكذلك أهل الطيب. وذكر الرزق الكريم هاهنا مثله في قوله وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً وعن عائشة: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهنّ امرأة: «٢» لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله ﷺ أن يتزوّجنى، ولقد تزوّجنى بكرا وما تزوج بكرا غيرى، ولقد توفى وإنّ رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفته الملائكة في بيتي. وإنّ الوحى لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإنى لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزل عذرى من السماء، ولقد خلقت طيبة عند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧)
تستأنسوا فيه وجهان، أحدهما: أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو خلاف الاستيحاش
(٢). عاد كلامه. قال: ونقل عن عائشة أنها قالت: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة، فذكرت منهن أنها خلقت طيبة عند طيب» قال أحمد: وهذا أيضا يحقق ما ذكرته من أن المراد بالطيبات والطيبين: النساء والرجال، وأن المراد بذلك: إظهار براءة عائشة بأنها زوج أطيب الطيبين، فيلزم أن تكون طيبة، وفاء بقوله وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ والله أعلم.
على مستأنس وحد «٢»
ويجوز أن يكون من الإنس، وهو أن يتعرف هل ثمة إنسان؟ وعن أبى أيوب الأنصارى رضى الله عنه: قلنا يا رسول الله، ما الاستئناس؟ قال: يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة ويتنحنح: يؤذن أهل البيت. والتسليم أن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا رجع. وعن أبى موسى الأشعرى أنه أتى باب عمر رضى الله عنهما فقال: السلام عليكم أأدخل؟ قالها ثلاثا ثم رجع وقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: الاستئذان ثلاثا واستأذن رجل على رسول الله ﷺ فقال: أألج؟ فقال ﷺ لامرأة يقال لها روضة: قومي إلى هذا فعليه، فإنه لا يحسن أن يستأذن. قولي له يقول: السلام عليكم أأدخل
حتى تستكشفوا الحال، هل يراد دخولكم أم لا؟ وذكر أيضا وجها بعيدا، وهو أن المراد حتى تعلموا هل فيها إنسان أم لا؟» قال أحمد: فيكون على هذا الأخير بنى من الانس استفعل، والوجه الأول هو البين، وسر التجوز فيه والعدول إليه عن الحقيقة: ترغيب المخاطبين في الإتيان بالاستئذان بواسطة ذكر فان له فائدة وثمرة تميل النفوس اليها وتنفر من ضدها وهو الاستيحاش الحاصل بتقدير عدم الاستئذان ففيه تنهيض للدواعي على سلوك هذا الأدب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(٢).
كأن رحلي وقد زال النهار بنا | بذي الجليل على مستأنس وحد |
موضعه. والمستأنس: الذي يرفع رأسه، هل يرى شخصا؟ وقيل: الذي يخاف الأنيس. واستأنست بالشيء: سكن إليه قلبي. واستأنست: استعلت واستبصرت وخفت من الأنيس. والوحد. المنفرد: ووحد كظرف، فهو وحيد. ووحد كسبب، ووحد كحذر: انفرد، أى كان الرجل فوق ذلك الحمار لا فوق الجمل، لسرعة سيره كالحمار.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)أى الْخَبِيثاتُ من القول تقال أو تعد لِلْخَبِيثِينَ من الرجال والنساء وَالْخَبِيثُونَ منهم يتعرضون لِلْخَبِيثاتِ من القول، وكذلك الطيبات والطيبون. وأُولئِكَ إشارة إلى الطيبين، وأنهم مبرءون مما يقول الخبيثون من خبيثات الكلم «١»، وهو كلام جار مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب. ويجوز أن يكون أُولئِكَ إشارة إلى أهل البيت، وأنهم مبرءون مما يقول أهل الإفك، وأن يراد بالخبيثات والطيبات: النساء، أى: الخبائث يتزوّجن الخباث، والخباث الخبائث، وكذلك أهل الطيب. وذكر الرزق الكريم هاهنا مثله في قوله وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً وعن عائشة: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهنّ امرأة: «٢» لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله ﷺ أن يتزوّجنى، ولقد تزوّجنى بكرا وما تزوج بكرا غيرى، ولقد توفى وإنّ رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفته الملائكة في بيتي. وإنّ الوحى لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإنى لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزل عذرى من السماء، ولقد خلقت طيبة عند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧)
تستأنسوا فيه وجهان، أحدهما: أنه من الاستئناس الظاهر الذي هو خلاف الاستيحاش
(٢). عاد كلامه. قال: ونقل عن عائشة أنها قالت: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة، فذكرت منهن أنها خلقت طيبة عند طيب» قال أحمد: وهذا أيضا يحقق ما ذكرته من أن المراد بالطيبات والطيبين: النساء والرجال، وأن المراد بذلك: إظهار براءة عائشة بأنها زوج أطيب الطيبين، فيلزم أن تكون طيبة، وفاء بقوله وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ والله أعلم.
على مستأنس وحد «٢»
ويجوز أن يكون من الإنس، وهو أن يتعرف هل ثمة إنسان؟ وعن أبى أيوب الأنصارى رضى الله عنه: قلنا يا رسول الله، ما الاستئناس؟ قال: يتكلم الرجل بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة ويتنحنح: يؤذن أهل البيت. والتسليم أن يقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ثلاث مرات، فإن أذن له وإلا رجع. وعن أبى موسى الأشعرى أنه أتى باب عمر رضى الله عنهما فقال: السلام عليكم أأدخل؟ قالها ثلاثا ثم رجع وقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: الاستئذان ثلاثا واستأذن رجل على رسول الله ﷺ فقال: أألج؟ فقال ﷺ لامرأة يقال لها روضة: قومي إلى هذا فعليه، فإنه لا يحسن أن يستأذن. قولي له يقول: السلام عليكم أأدخل
حتى تستكشفوا الحال، هل يراد دخولكم أم لا؟ وذكر أيضا وجها بعيدا، وهو أن المراد حتى تعلموا هل فيها إنسان أم لا؟» قال أحمد: فيكون على هذا الأخير بنى من الانس استفعل، والوجه الأول هو البين، وسر التجوز فيه والعدول إليه عن الحقيقة: ترغيب المخاطبين في الإتيان بالاستئذان بواسطة ذكر فان له فائدة وثمرة تميل النفوس اليها وتنفر من ضدها وهو الاستيحاش الحاصل بتقدير عدم الاستئذان ففيه تنهيض للدواعي على سلوك هذا الأدب، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(٢).
كأن رحلي وقد زال النهار بنا | بذي الجليل على مستأنس وحد |
موضعه. والمستأنس: الذي يرفع رأسه، هل يرى شخصا؟ وقيل: الذي يخاف الأنيس. واستأنست بالشيء: سكن إليه قلبي. واستأنست: استعلت واستبصرت وخفت من الأنيس. والوحد. المنفرد: ووحد كظرف، فهو وحيد. ووحد كسبب، ووحد كحذر: انفرد، أى كان الرجل فوق ذلك الحمار لا فوق الجمل، لسرعة سيره كالحمار.
نعم، قال: إنها ليس لها خادم غيرى، أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عريانة قال الرجل: لا. قال: فاستأذن «٤» لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أى أنزل عليكم. أو قيل لكم هذا إرادة أن تذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به في باب الاستئذان.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٨]
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨)
يحتمل فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً من الآذنين فَلا تَدْخُلُوها واصبروا حتى تجدوا من
(٢). قوله «إذا رعف عليك الباب» في الصحاح: رعف الرجل، إذا خرج الدم من أنفه. ورعف الفرس، إذا سبق وتقدم، فكان ما هنا مجاز على وجه التشبيه. (ع)
(٣). أخرجه الطبراني من طريق أبى السفر عن يزيد بن شريح عن أبى أمامة بلفظ «من أدخل عينه في بيت من غير إذن أهله فقد دمره ولإبراهيم الحربي في الغريب من حديث ثور بن يزيد عن يزيد بن شريح عن أبى حى المؤذن عن أبى هريرة بلفظ «لا يحل لمسلم أن ينظر في بيت حتى يستأذن فان فمل فقد دمر» قال أبو عبيدة في غريب الحديث: حدثنا هشيم عن منصور بن الحسن بلفظه مرسلا قال قال الكسائي «دمر» بالتخفيف أى دخل بغير إذن. [.....]
(٤). أخرجه أبو داود في المراسيل من حديث عطاء بن يسار «أن رجلا سأل» فذكره مرسلا، وهو في الموطأ عن صفوان بن سليم عن عطاء. وأورده الطبري من طريق زياد بن سعد عن عطاء مرسلا أيضا وقال ابن أبى شيبة في النكاح: حدثنا ابن عيينة عن زيد بن أسلم فذكره مرسلا
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٩]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)
استثنى من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها: ما ليس بمسكون منها، وذلك نحو الفنادق وهي الخانات والربط وحوانيت البياعين. والمتاع: المنفعة، كالاستكنان من الحرّ والبرد، وإيواء الرحال والسلع والشراء والبيع. ويروى أن أبا بكر رضى الله عنه قال: يا رسول الله، إنّ الله تعالى قد أنزل عليك آية في الاستئذان، وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلا بإذن «١» ؟ فنزلت. وقيل. الخربات يتبرز فيها. والمتاع: التبرز وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ وعيد للذين يدخلون الخربات والدور الخالية من أهل الريبة.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٠]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠)من للتبعيض، والمراد غضّ البصر عما يحرم، والاقتصار به على ما يحلّ. وجوّز الأخفش أن تكون مزيدة، وأباه سيبويه. فإن قلت: كيف دخلت في غضّ البصر دون حفظ الفروج؟
قلت: دلالة على أن أمر النظر أوسع. ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهنّ وصدورهنّ وثديهنّ وأعضادهنّ وأسوقهنّ وأقدامهنّ وكذلك الجواري المستعرضات، والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها وقدميها في إحدى الروايتين. وأما أمر الفرج فمضيق، وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثنى منه، وحظر الجماع إلا ما استثنى منه. ويجوز أن يراد- مع حفظها عن الإفضاء إلى ما لا يحل- حفظها عن الإبداء. وعن ابن زيد: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا، إلا هذا فإنه أراد به الاستتار. ثم أخبر أنه خَبِيرٌ بأفعالهم وأحوالهم، وكيف يجيلون أبصارهم؟ وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم؟ فعليهم- إذ عرفوا ذلك- أن يكونوا منه على تقوى وحذر في كل حركة وسكون.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣١]
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
النساء مأمورات أيضا بغض الأبصار، ولا يحل للمرأة أن تنظر من الأجنبى إلى ما تحت سرته إلى ركبته، وإن اشتهت غضت بصرها رأسا، ولا تنظر من المرأة إلا إلى مثل ذلك.
وغضها بصرها من الأجانب أصلا أولى بها وأحسن. ومنه حديث ابن أم مكتوم عن أم سلمة رضى الله عنها قالت: كنت عند رسول الله ﷺ وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم- وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب- فدخل علينا فقال: احتجبا، فقلنا: يا رسول الله،
ذلك العضو كله، أم المقدار الذي تلابسه الزينة منه؟ قلت: الصحيح أنه العضو كله كما فسرت مواقع الزينة الخفية، وكذلك مواقع الزينة الظاهرة: الوجه موقع الكحل في عينيه، والخضاب
(٢). قوله «والفتخة... الخ» في الصحاح: الفتخة- بالتحريك- حلقة من فضة لا فص فيها، فإذا كان فيها فص فهو الخاتم، وربما جعلتها المرأة في أصابع رجليها. وفيه «الإكليل» شبه عصابة تزين بالجوهر، ويسمي التاج:
إكليلا. (ع)
(٣). قال محمود: «المراد النهي عن إبداء مواضع الزينة، فليس النهى عن إظهار الزينة مقصودا لعينه، ولكن جعل نفسها كناية عن إبداء مواقعها بطريق الأولى» قال أحمد: وقوله تعالى عقيب ذلك وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ محقق أن إبداء الزينة بعينه مقصودا بالنهى، لأنه قد نهى عما هو ذريعة إليه خاصة، إذ الضرب بالأرجل لم يعلل النهى عنه إلا بعلم أن المرأة ذات زينة وإن لم تظهر، فضلا عن مواضعها، والله أعلم.
(٤). قوله «القراميل» في الصحاح: القراميل، ما تشده المرأة في شعرها. (ع)
. وقرئ: جيوبهن، بكسر الجيم لأجل الياء. وكذلك بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ قيل في نسائهن: هنّ المؤمنات، لأنه ليس للمؤمنة أن تتجرد بين يدي مشركة أو كتابية. عن ابن عباس رضى الله عنهما. والظاهر أنه عنى بنسائهن وما ملكت أيمانهن: من في صحبتهن وخدمتهنّ من الحرائر والإماء والنساء، كلهنّ سواء في حلّ نظر بعضهن إلى بعض. وقيل: ما ملكت أيمانهنّ هم الذكور والإناث جميعا. وعن عائشة رضى الله عنها أنها أباحت النظر إليها لعبدها، وقالت لذكوان: إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت
(٢). قوله «قامت كل واحدة منهن إلى مرطها» في الصحاح «المرط» كساء من صوف أو خز كان يؤتزر به.
وفيه أيضا «مرط مرحل» إزار خز فيه علم. (ع)
(٣). أخرجه ابن أبى حاتم من طريق مسلم بن خالد عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن صفية عنها وأتم منه.
وأخرجه ابن مردويه من طريق داود بن عبد الرحمن ومن طريق روح بن القاسم. كلاهما عن ابن خثيم. وأخرجه أبو داود مختصرا من وجه آخر عن قرة عن الزهري عن عروة عن عائشة. ونقله البخاري قال قال أحمد بن شبيب: حدثنا أبى عن يونس عن الزهري به: قلت ووصله ابن مردويه من طريق أحمد بن شبيب.
روى أنه أهدى لرسول الله ﷺ خصىّ فقبله. قلت: لا يقبل فيما تعم به البلوى إلا حديث مكشوف، فإن صح فلعله قبله ليعتقه «٥»، أو لسبب من الأسباب. الْإِرْبَةِ الحاجة، قيل: هم الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم، ولا حاجة لهم إلى النساء، لأنهم بله لا يعرفون شيئا من أمرهن. أو شيوخ صلحاء إذا كانوا معهن غضوا أبصارهم، أو بهم عنانة. وقرئ غَيْرِ بالنصب على الاستثناء أو الحال، والجرّ على الوصفية. وضع الواحد موضع الجمع لأنه يفيد الجنس. ويبين ما بعده أن المراد به الجمع. ونحوه نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا. لَمْ يَظْهَرُوا إما من ظهر على الشيء إذا اطلع عليه، أى: لا يعرفون ما العورة ولا يميزون بينها وبين غيرها. وإما من ظهر على فلان إذا قوى عليه، وظهر على القرآن: أخذه وأطاقه، أى: لم يبلغوا أو ان القدرة على الوطء. وقرئ: عورات، وهي لغة هذيل. فإن قلت: لم لم يذكر الله الأعمام والأخوال؟
قلت: سئل الشعبي عن ذلك؟ فقال: لئلا يصفها العم عند ابنه، والخال كذلك. ومعناه: أن
(٢). لم أره
(٣). أخرجه ابن أبى شيبة من رواية طارق عن سعيد بن المسيب «لا تغرنكم الآية: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إنما عنى الإماء دون العبيد»
(٤). لم أجده قلت: ذكره المسعودي في مروج الذهب بغير إسناد.
تنبيه: وقع في الكشاف الكلابية. والصواب الكلبية بسكون اللام. والقصة ذكرها غيره ببنت قرظة.
(٥). أخرجه ابن سعد أخبرنا محمد بن عمر، حدثنا يعقوب بن أبى صعصعة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبى صعصعة قال «أهدى المقوقس صاحب الاسكندرية إلى النبي ﷺ سنة سبع من الهجرة. مارية وأختها سيرين، وألف مثقال ذهب وعشرين ثوبا وبغلة. وحماره عفيرا وخصيا يقال له ما يود. فعرض حاطب على مارية الإسلام فأسلمت هي وأختها ثم أسلم الخصى بعد» وقع ذكر الخصى هذا في عدة أحاديث منها حديث على رضى الله عنه.
وقوله «هذا ضعيف، ولا يقبل فيما تعم به البلوى، إلا حديث مكشوف إن صح. ولعله قبله ليعتقه» اه. وليس هذا فيما تعم به البلوى في شيء. [.....]
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٢]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢)
الْأَيامى واليتامى: أصلهما أيائم ويتائم، فقلبا. والأيم: للرجل والمرأة. وقد آم وآمت وتأيما: إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين. قال:
فإن تنكحى أنكح وإن تتأيّمى... وإن كنت أفتي منكم أتأيّم «٢»
وعن رسول الله ﷺ «٣». «اللهم إنا نعوذ بك من العيمة والغيمة والأيمة والكزم والقرم «٤»، والمراد: أنكحوا من تأيم منكم من الأحرار والحرائر، ومن كان فيه صلاح من
(٢). آم الرجل- بالمد- والمرأة. وتأيما: إذا لم يتزوجا بكرين أو ثيبين، يقول لمحبوبته، إن تتزوجي أتزوج وإن لم تتزوجي لم أتزوج. وجملة «وإن كنت أفتى منكم» اعتراضية. والأفتى الأكثر فتية وشبابا. وعبر بضمير جمع الذكور للتعظيم، ورفع المضارع في جواب الشرط كما هنا قليل، ولعله ارتكبه لأجل القافية.
(٣). لم أجده
(٤). قوله «من العيمة والغيمة والأيمة والكزم والقرم» في الصحاح «العيمة» شهوة اللبن. وفيه: «الغيم» العطش وحر الجوف اه وهو يفيد أن «الغيمة» المرة من ذلك. وفيه «الأيامى» الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء. وآمت المرأة من زوجها تئيم أيمة. وفيه: كزم الشيء بمقدم فيه، أى: كسره واستخرج ما فيه. وفيه:
قرم الصبى والبهم قرما، وهو أكل ضعيف في أول ما يأكل. والقرم- بالتحريك-: شدة شهوة اللحم اه. ويروى في الحديث «القذم» بالذال بدل الراء. وفي الصحاح: القذم على وزن الهجف: الشديد. وفيه أيضا: الهجف من النعام ومن الناس. الجافي الثقيل. قال الكميت:
هو الأضبط الهواس فينا شجاعة... وفيمن يعاديه الهجف المثقل
ولا يستقيم الوزن إلا بتشديد الفاء. وفيه «الهواس» : الأسد (ع)
يا ويله، عصم ابن آدم منى ثلثي «٥» دينه» وعنه عليه الصلاة والسلام: «يا عياض لا تزوّجن عجوزا ولا عاقرا، فإنى مكاثر «٦» » والأحاديث فيه عن النبي ﷺ والآثار كثيرة، وربما كان واجب الترك إذا أدّى إلى معصية أو مفسدة. وعن النبي ﷺ «إذا
(٢). أخرجه عبد الرزاق من رواية عبيد بن سعيد قال قال رسول الله ﷺ... فذكره مرسلا وأخرجه أبو يعلى من هذا الوجه فكأنه ظن أن عبيد بن سعيد له صحبة. ولابن عدى من رواية أبى حرة واصل ابن عبد الرحمن عن الحسن عن أبى هريرة بلفظ «من أحب فطرتي فليتبعن سنتي وإن من سنتي النكاح»
(٣). أخرجه أبو داود في المراسيل وأحمد وإسحاق والدارمي والطبراني وعبد الرزاق وابن أبى شيبة كلهم من رواية أبى المفلس عن أبى نجيح رفعه «من كان موسرا لأن ينكح فلم ينكح فليس منا» وأخرجه الثعلبي من هذا الوجه، بلفظ المصنف، قال ابن راهويه: رواه بعضهم عن ابن جريج عن أبى المفلس عن أبى نجيح عمرو بن عبسة قال.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو غلظ. وليس أبو نجيح هذا عمرو بن عبسة. وقد رواه الحارث بن أبى أسامه في مسنده عن الحكم بن موسى عن الوليد بن مسلم عن ابن جريج حدثني أبو المفلس سمعت أبا نجيح السلمي يقول:
سمعت رسول الله ﷺ يقول... فذكر نحوه.
(٤). قوله «عج شيطانه» أى: صاح. (ع)
(٥). أخرجه أبو يعلى والطبراني في الأوسط. والثعلبي من رواية صالح مولى التوأمة عن جابر. وعن بعضهم عن أبى هريرة بدل جابر وفي إسناده خالد بن إسماعيل المخزومي وهو متروك
(٦). أخرجه الحاكم والثعلبي من رواية معاوية بن يحيى عن يحيى بن جابر عن جبير بن معمر عن عياض بن غنم الأشعرى ومعاوية ضعيف، وقوله: والأحاديث عن النبي ﷺ والآثار كثيرة اه. فمنها حديث أنس رضى الله عنه في الصحيحين «أن أناسا من أصحاب النبي ﷺ سألوا أزواجه عن عمله في السر فقال بعضهم لا آكل اللحم وقال بعضهم لا أتزوج النساء... الحديث» وفيه «لكنى أصوم وأفطر وأقوم وأنام وآكل اللحم وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس منى» ومنها حديث ابن مسعود رضى الله عنه «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج» متفق عليه وقد تقدم في المائدة. وحديث أنس رضى الله عنه: «كان يأمر بالباءة وينهى عن التبتل» وأخرجه ابن حبان وحديث «تزوجوا توالدوا وتناسلوا فانى مباه بكم الأمم» له طرق في السنن وغيرها. وحديث عطية بن بشر في قصة عكاف بن وداعة الهلالي في الحضّ على التزويج. وفيه «إن شراركم عزابكم» رواه إسحاق في مسنده أخبرنا نضية عن معاوية بن يحيى الصدفي أنه حدثه عن سليمان بن موسى عن مكحول عن غضيف بن الحارث عن عطية بن بشر بطوله. رواه الطبراني في مسند الشاميين من رواية ابن عتبة عن برد بن سنان عن مكحول عن عطية بن بشر لم يذكر غضيف وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق عن محمد بن راشد عن مكحول عن أبى ذر فذكر نحوه ومنها حديث أنس رضى الله عنه «من تزوج فقد استكمل نصف الايمان فليتق الله في النصف الثاني» أخرجه الطبراني في الأوسط وإسناده ضعيف جدا وسيأتى باقيها بعد.
ومن طريقه رواه ابن الجوزي في الموضوعات، لكن له طريق أخرى. أخرجه على بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية عن الحسن بن واقد الحنفي. قال: أظنه من حديث بهز بن حكيم فذكره وهو متصل.
(٢). أخرجه على بن معبد في الطاعة والمعصية حدثنا عبد الله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن قال قال رسول الله ﷺ «يأتى على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق، ومن حجر إلى حجر، فإذا كان ذلك حلت العزوبة. قيل كيف تحل العزوبة- فذكر حديثا طويلا» وصله الخطابي في العزلة من طريق السعرى بن يحيى عن الحسن عن أبى الأحوص عن عبد الله. وفي إسناده محمد بن يونس الكديمي وهو ضعيف.
(٣). عاد كلامه. قال: «ينبغي أن تكون شريطة الحكمة والمصلحة غير منسية: واستشهد على ذلك بقوله وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ قال أحمد: جنوحه للمعتقد الفاسد يمنع عليه الصواب، فان معتقده وجوب رعاية المصالح على الله تعالى، فمن ثم شرط الحكمة والمصلحة محجرا واسعا من فضل الله تعالى، ثم استشهد على ذلك بما يشهد عليه لا له، فان قوله تعالى في الآية الأخرى إِنْ شاءَ يقتضى أن وقوع الغنى مشروط بالمشيئة خاصة، وهذا معتقد أهل الحق، فطاح اشتراط الحكمة عن محل الاستدلال، تعالى عن الإيجاب رب الأرباب، لكن ينبغي التنبه لنكتة تدعو الحاجة إلى التنبيه عليها، ليعم نفعها ويعظم وقعها إن شاء الله. وذلك أنا إذا بنينا على أن ثم شرطا محذوفا، لا بد من تقديره ضرورة صدق الخبر، إذ لو اعتقدنا أن الله تعالى يغنى كل متزوج على الإطلاق مع أنا نشاهد كثيرا ممن استمر به الفقر بعد النكاح بل زاد، للزم خلف الوعد- تقدس الله وتعالى عن ذلك- فقد ثبت الاضطرار إلى تقدير شرط للجمع بين الوعد والواقع، فالقدرية يقولون: المراد إن اقتضت الحكمة ذلك، فكل من لم يغنه الله بأثر التزوج فهو ممن لم تقتض الحكمة إغناءه. وقد أبطلنا أن يكون هذا الشرط هو المقدر، وحتمنا أن المقدر شرط المشيئة كما ظهر في الآية الأخرى، وحينئذ فكل من يستغن بالنكاح فذلك لأن الله تعالى لم يشأ غناه. فلقائل أن يقول: إذا كانت المشيئة هي المعتبرة في غنى المتزوج، فهي أيضا المعتبرة في غنى الأعزب، فما وجه ربط وعد الغنى بالنكاح، مع أن حال الناكح منقسم في الغنى على حسب المشيئة، فمن مستغن به، ومن فقير كما أن حال غير الناكح كذلك منقسم، وليس هذا كاقرار شرط المشيئة في الغفران للموحد العاصي، فان الوعد ثم له ارتباط بالتوحيد. وإن ارتبط بالمشيئة أيضا، من حيث أن غير الموحد لا يغفر الله له حتما، ولا تستطيع أن تقول: وغير الناكح لا يغنيه الله حتما، لأن الواقع يأباه. فالجواب- وبالله التوفيق-: أن فائدة ربطه الغنى بالنكاح: أنه قد ركز في الطباع السكون إلى الأسباب والاعتماد عليها، والغفلة عن المسبب جل وعلا، حتى غلب الوهم على العقل، فخيل أن كثرة العيال سبب يوجب الفقر حتما، وعدمها سبب يوجب توفير المال جزما، وإن كان واحد من هذين السببين غير مؤثر فيما ربطه الوهم به. فأريد قلع هذا الخيال المتمكن من الطبع بالايذان بأن الله تعالى قد يوفر المال وينميه، مع كثرة العيال التي هي سبب في الأوهام لنفاد المال، وقد يقدر الاملاق مع عدمه الذي هو سبب في الإكثار عند الأوهام والواقع يشهد بذلك فلا مراء، فدل ذلك قطعا على أن الأسباب التي يتوهمها البشر مرتبطات بمسبباتها ارتباطا لا ينفك ليست على ما يزعمونه، وإنما يقدر الغنى والفقر مسبب الأسباب، غير موقوف، تقدير ذاك إلا على مشيئة خاصة، وحينئذ لا ينفر العاقل المتيقظ من النكاح، لأنه استقر عنده أن لا أثر له في الإقتار، وأن الله تعالى لا يمنعه ذلك من إغنائه ولا يؤثر أيضا الخلو عن النكاح لأجل التوفير، لأنه قد استقر أن لا أثر له فيه، وأن الله تعالى لا يمنعه مانع أن يقتر عليه، وأن العبد إن تعاطى سببا فلا يكن ناظرا إليه ولكن إلى مشيئة الله تعالى وتقدس، فمعنى قوله حينئذ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ.... الآية أن النكاح لا يمنعهم الغنى من فضل الله، فعبر عن نفى كونه مانعا من الغنى بوجوده معه، ولا تبطل المانعية، لا وجود ما يتوهم ممنوعا مع ما يتوهم مانعا ولو في صورة من الصور على أثر ذلك، فمن هذا الوادي أمثال قوله تعالى فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ فان ظاهر الأمر طلب الانتشار عند انقضاء الصلاة، وليس ذلك بمراد حقيقة، ولكن الغرض تحقيق زوال المانع وهو الصلاة، وبيان أن الصلاة متى قضيت فلا مانع، فعبر عن نفى المانع بالانتشار بما يفهم تقاضى الانتشار، مبالغة في تحقيق المعنى عند السامع والله أعلم، فتأمل هذا الفصل واتخذه عضدا حيث الحاجة إليه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «التمسوا الرزق بالنكاح «٢» »
(٢). أخرجه الثعلبي من رواية مسلم بن خالد وابن مردويه من رواية أبى السائب سلام بن جنادة عن أبى أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة مرفوعا «تزوجوا النساء فإنهن يأتين بالمال» قال الحاكم تفرد به سلام وهو ثقة: وقال البزاز والدارقطني وغير سلام يرويه مرسلا اه. وهو كما قال. وقد أخرجه أبو بكر بن أبى شيبة عن أبى أسامة- فلم يذكر عائشة. وكذلك أخرجه أبو داود في المراسيل عن ابن التوأمة عن أبى أسامة وأخرجه أبو القاسم حمزة بن يوسف في تاريخ جرجان من رواية الحسين بن علوان عن هشام موصولا. والحسين متهم بالكذب «تنبيه» ظن المخرج أن هذا يرد على كلام البزار والدارقطني. وليس كما ظن لأنه قال قد تابعه عبد المؤمن العطار وقال أيضا تابعه عبد الله بن ناجية فأما الأول فالمتابع إنما هو الحسين شيخ عبد المؤمن وقد قلنا إنه لا يسوى شيئا. وأما الثاني فإنما رواه ابن ناجية عن أبى السائب نفسه فظهر تفرد أبى السائب بوصله من بين الثقات. وأما الحسين بن علوان فلا تفيد متابعته شيئا لوهنه.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٣]
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣)
وَلْيَسْتَعْفِفِ وليجتهد في العفة وظلف النفس «٥»، كأن المستعف طالب من نفسه العفاف وحاملها عليه لا يَجِدُونَ نِكاحاً أى استطاعة تزوج. ويجوز أن يراد بالنكاح:
(٢). قوله «فقال عليك بالباءة» في الصحاح سمى النكاح باء وباءة، لأن الرجل يتبوأ من أهله، أى: يستمكن منها كما يتبوأ من داره، وفيه أيضا «الرازح من الإبل» الهالك هزالا اه، فان كان مختصا بالإبل فقد يتوسع فيه إلى غيرها. (ع)
(٣). رواه هشام بن حسان عن الحسن عن عمر نحوه.
(٤). قوله «لا يرزؤه» أى: لا ينقصه. (ع)
(٥). قوله «وظلف النفس» في الصحاح: ظلف نفسه عن الشيء، أى: منعها. وظلفت نفسي عن كذا بالكسر-: أى كفت. (ع)
وإن كاتبه على وصيف «٢»، جاز، لقلة الجهالة ووجب الوسط، وليس له أن يطأ المكاتبة، وإذا أدى عتق، وكان ولاؤه لمولاه، لأنه جاد عليه بالكسب الذي هو في الأصل له، وهذا الأمر للندب عند عامة العلماء. وعن الحسن رضى الله عنه: ليس ذلك بعزم، إن شاء كاتب وإن شاء لم يكاتب. وعن عمر رضى الله عنه: هي عزمة من عزمات الله. وعن ابن سيرين مثله وهو مذهب داود خَيْراً قدرة على أداء ما يفارقون عليه. وقيل: أمانة وتكسبا. وعن سلمان رضى الله عنه أن مملوكا له ابتغى أن يكاتبه فقال: أعندك مال؟ قال: لا، قال: أفتأمرنى أن آكل غسالة أيدى الناس وَآتُوهُمْ أمر للمسلمين على وجه الوجوب بإعانة المكاتبين وإعطائهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال، كقوله تعالى وَفِي الرِّقابِ عند أبى حنيفة وأصحابه رضى الله عنهم. فإن قلت: هل يحل لمولاه إذا كان غنيا أن يأخذ ما تصدق
(٢). قوله «على وصيف» الوصيف: الخادم، غلاما كان أو جارية، كذا في الصحاح. (ع)
استعن به على مكاتبتك فقال: لو أخرته إلى آخر نجم؟ قال: أخاف أن لا أدرك ذلك «٢». وهذا عند أبى حنيفة رضى الله عنه على وجه الندب وقال: إنه عقد معاوضة فلا يجبر على الحطيطة كالبيع. وقيل: معنى وَآتُوهُمْ: أسلفوهم. وقيل: أنفقوا عليهم بعد أن يؤدوا ويعتقوا.
وهذا كله مستحب. وروى أنه كان لحويطب بن عبد العزى مملوك يقال له الصبيح: سأل مولاه أن يكاتبه فأبى، فنزلت. كانت إماء أهل الجاهلية يساعين على مواليهن، وكان لعبد الله بن أبىّ رأس النفاق ست جوار: معاذة، ومسيكة، وأميمة، وعمرة، وأروى، وقتيلة: يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم»
. فنزلت. ويكنى بالفتى والفتاة: عن العبد والأمة. وفي الحديث: «ليقل أحدكم فتاي وفتأتي، ولا يقل عبدى وأمتى» «٤» والبغاء: مصدر البغي. فإن قلت: لم أقحم قوله إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً قلت: لأن الإكراه لا يتأتى إلا مع إرادة التحصن، وآمر الطيعة الموانية للبغاء لا يسمى مكرها ولا أمره إكراها «٥».
(٢). أخرجه ابن أبى شيبة من طريق عكرمة عن ابن عباس إلا قوله «وهو أول عبد كوتب في الإسلام» ذكره في آخره من قول عكرمة. وزاد ثم قرأ وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ ورواه ابن أبى حاتم من طريق وكيع شيخ ابن أبى شيبة كذلك.
(٣). أخرجه الثعلبي من طريق مقاتل بهذا وسنده إلى مقاتل في أول الكتاب وهو عند مسلم والبزار مختصر من طريق الأعمش عن أبى سفيان عن جابر. قال «كان لعبد الله بن أبىّ جارية يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة وكان يريدهما على الزنى... الحديث»
(٤). تقدم في الكهف.
(٥). قال محمود: «إن قلت: لم أقحم قوله إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً؟ قلت: لأن الإكراه لا يكون إلا إذا أردن تحصنا ولا يتصور إلا كذلك، إذ لولا ذلك لكن مطاوعات» ولم يجب بما بشفى العليل. وعند العبد الفقير إلى الله تعالى أن فائدة ذلك- والله أعلم: أن يبشع عند المخاطب الوقوع فيه، لكي يتيقظ أنه كان ينبغي له أن يأنف من هذه الرذيلة وإن لم يكن زاجر شرعي. ووجه التبشيع عليها: أن مضمون الآية النداء عليه بأن أمته خير منه، لأنها آثرت التحصن عن الفاحشة، وهو يأبى إلا إكراهها عليها. ولو أبرز مكنون هذا المعنى لم يقع الزاجر من النفس موقعه، وعسى هذه الآية تأخذ بالنفوس الدنية، فكيف بالنفوس العربية، والله الموفق.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٤]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
مُبَيِّناتٍ هي الآيات التي بينت في هذه السورة وأوضحت في معاني الأحكام والحدود. ويجوز أن يكون الأصل مبينا فيها فاتسع في الظرف. وقرئ بالكسر، أى:
بينت هي الأحكام والحدود، جعل الفعل لها على المجاز. أو من «بين» بمعنى تبين. ومنه المثل قد بين الصبح لذي عينين. وَمَثَلًا مِنَ أمثال من قَبْلِكُمْ أى قصة عجيبة من قصصهم كقصة يوسف ومريم، يعنى قصة عائشة رضى الله عنها وَمَوْعِظَةً ما وعظ به في الآيات والمثل، من نحو قوله وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ:
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٥]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥)
نظير قوله اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مع قوله مَثَلُ نُورِهِ، ويَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ:
قولك: زيد كرم وجود، ثم تقول: ينعش الناس بكرمه وجوده. والمعنى: ذو نور السماوات، وصاحب نور السماوات، ونور السماوات والأرض الحق، شبهه بالنور في ظهوره وبيانه، كقوله تعالى اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ: أى من الباطل إلى الحق.
أى هذا الذي شبهت به الحق نور متضاعف قد تناصر فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، حتى لم تبق مما يقوى النور ويزيده إشراقا ويمدّه بإضاءة: بقية، وذلك أن المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره، بخلاف المكان الواسع فإنّ الضوء ينبث فيه وينتشر، والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة، وكذلك الزيت وصفاؤه يَهْدِي اللَّهُ لهذا النور الثاقب مَنْ يَشاءُ من عباده، أى: يوفق لإصابة الحق من نظر وتدبر بعين عقله
زجاجة، بكسر الزاى. (ع) [.....]
(٢). قوله «يعنى زويت ذبالته بزيتها» في الصحاح: زويت الشيء: جمعته وقبضته. وانزوت الجلدة في النار، أى: اجتمعت وتقبضت. وفيه «الذبالة» الفتيلة، ولعله «رويت» بالراء» كما في عبارة النسفي.
(٣). أخرجه الطبراني وابن أبى حاتم في العلل وأبو نعيم في الطب والثعلبي كلهم من طريق عثمان بن صالح عن ابن لهيعة عن يزيد بن حبيب عن أبى الخير عن عتبة بن عامر بهذا
(٤). قوله «ولا مقنأة» في الصحاح «المقأة» المكان الذي لا تطلع عليه الشمس.
(٥). لم أجده
(٦). قوله «والوبيص» البريق واللمعان، أفاده الصحاح. (ع)
«الله نور السماوات والأرض» أى نشر فيها الحق وبثه فأضاءت بنوره. أو نور قلوب أهلها به، وعن أبىّ بن كعب رضى الله عنه: مثل نور من آمن به. وقرئ: زجاجة الزجاجة، بالفتح والكسر:
ودرّىّ: منسوب إلى الدرّ أى، أبيض متلألأ. ودرّىء: بوزن سكيت: يدرأ الظلام بضوئه.
ودريء كمريق. ودرى كالسكينة، عن أبى زيد. وتوقد: بمعنى تتوقد. والفعل للزجاجة. ويوقد، وتوقد، بالتخفيف. ويوقد، بالتشديد. ويوقد بحذف التاء وفتح الياء، لاجتماع حرفين زائدين وهو غريب. ويمسه بالياء، لأن التأنيث ليس بحقيقى، والضمير فاصل.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨)
فِي بُيُوتٍ يتعلق بما قبله، أى، كمشكاة في بعض بيوت الله وهي المساجد، كأنه قيل:
مثل نوره كما يرى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت. أو بما بعده، وهو يسبح، أى: يسبح له رجال في بيوت. وفيها تكرير، كقولك: زيد في الدار جالس فيها. أو بمحذوف، كقوله فِي تِسْعِ آياتٍ أى سبحوا في بيوت. والمراد بالإذن: الأمر. ورفعها: بناؤها، كقوله بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ وعن ابن عباس رضى الله عنهما: هي المساجد، أمر الله أن تبنى. أو تعظيمها والرفع من قدرها. وعن الحسن رضى الله عنه: ما أمر الله أن ترفع بالبناء، ولكن بالتعظيم وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ أوفق له، وهو عام في كل ذكر. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: وأن يتلى فيها كتابه. وقرئ: يسبح، على البناء للمفعول، ويسند إلى أحد الظروف الثلاثة، أعنى: لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ، ورِجالٌ مرفوع بما دلّ عليه يُسَبِّحُ وهو يسبح له. وتسبح، بالتاء وكسر الباء. وعن أبى جعفر رضى الله عنه بالتاء وفتح الباء. ووجهها أن يسند إلى أوقات الغدوّ والآصال على زيادة الباء، وتجعل الأوقات مسبحة. والمراد ربها، كصيد عليه يومان. والمراد وحشهما. والآصال: جمع أصل وهو العشى.
والمعنى: بأوقات الغدوّ، أى: بالغدوات. وقرئ: والإيصال، وهو الدخول في الأصيل.
يقال: آصل، كأظهر وأعتم. التجارة: صناعة التاجر، وهو الذي يبيع ويشترى للربح، فإما
التجارة لأهل الجلب، اتجر فلان في كذا: إذا جلبه. التاء في إقامة، عوض من العين الساقطة للإعلال. والأصل: إقوام» فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض، فأسقطت. ونحوه:
وأخلفوك عد الأمر الّذى وعدوا «١»
وتقلب القلوب والأبصار: إما أن تتقلب وتتغير في أنفسها: وهو أن تضطرب من الهول والفزع وتشخص، كقوله وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ. وإما أن تتقلب أحوالها وتتغير فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعا عليها لا تفقه، وتبصر الأبصار بعد أن كانت عميا لا تبصر أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أى أحسن جزاء أعمالهم، كقوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى والمعنى يسبحون ويخافون، ليجزيهم ثوابهم مضاعفا ويزيدهم على الثواب تفضلا. وكذلك معنى قوله الْحُسْنى وَزِيادَةٌ المثوبة الحسنى وزيادة عليها من التفضل. وعطاء الله تعالى: إما تفضل، وإما ثواب، وإما عوض وَاللَّهُ يَرْزُقُ ما يتفضل به بِغَيْرِ حِسابٍ فأما الثواب فله حساب لكونه على حسب الاستحقاق.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٩]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩)
السراب: ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة. يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجرى. والقيعة: بمعنى القاع أو جمع قاع، وهو المنبسط المستوى من الأرض، كجيرة في جار. وقرئ: بقيعات: بتاء ممطوطة، كديمات وقيمات، في ديمة وقيمة. وقد جعل بعضهم بقيعاة بتاء مدورة، كرجل عزهاة، شبه ما يعمله من لا يعتقد الإيمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه ثم تخيب في العاقبة أمله ويلقى خلاف ما قدّر، بسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة فيحسبه ماء، فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد زبانية الله عنده يأخذونه فيعتلونه إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق، وهم الذين قال الله فيهم عامِلَةٌ ناصِبَةٌ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً، وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً
[سورة النور (٢٤) : آية ٤٠]
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
اللجىّ: العميق الكثير الماء، منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر. وفي أَخْرَجَ ضمير الواقع فيه لَمْ يَكَدْ يَراها مبالغة في لم يرها أى: لم يقرب أن يراها، فضلا عن أن يراها. ومثله قول ذى الرمة:
إذا غيّر النّأى المحبّين لم يكد | رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح «١» |
وهذا الكلام مجراه مجرى الكنايات، لأنّ الألطاف إنما تردف الإيمان والعمل. أو كونهما مترقبين. ألا ترى إلى قوله وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وقوله وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وقرئ: سحاب ظلمات، على الإضافة. وسحاب ظلمات، برفع سَحابٌ وتنوينه وجرّ كَظُلُماتٍ بدلا من ظُلُماتٌ الأولى.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢)
إذا غير النأى المحبين لم يكد | رسيس الهوى من حب مية يبرح |
فلا القرب يدنو من هواها ملالة | ولا حبها أن تنزح الدار ينزح |
ويبرح: يذهب، أى: لم يقرب من البراح. وروى أنه لما قدم ذو الرمة الكوفة اعترض عليه ابن شبرمة في ذلك بأنه يدل على زوال رسيس الهوى، فغيره ذو الرمة بقوله: لم أجد، وقال ابن عتبة: حدثت أبى بذلك فقال:
أخطأ ابن شبرمة، وأخطأ ذو الرمة في تغييره، وإنما هو كقوله تعالى لَمْ يَكَدْ يَراها والملالة: السآمة. وتنزح:
تبعد. وينزح: يزول.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤)
يُزْجِي يسوق. ومنه: البضاعة المزجاة: التي يزجيها كل أحد لا يرضاها. والسحاب يكون واحدا كالعماء، وجمعا كالرباب «١». ومعنى تأليف الواحد: أنه يكون قزعا «٢» فيضم بعضه إلى بعض. وجاز بينه وهو واحد، لأنّ المعنى بين أجزائه، كما قيل في قوله:
... بين الدّخول فحومل «٣»
والركام: المتراكم بعضه فوق بعض. والودق: المطر مِنْ خِلالِهِ من فتوقه ومخارجه: جمع خلل، كجبال في جبل. وقرئ: من خلله وَيُنَزِّلُ بالتشديد. ويكاد سنا: على الإدغام «٤».
(٢). قوله «أن يكون قزعا» القزع: قطع من السحاب رقيقة، الواحدة: قزعة. (ع)
(٣).
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل | بسقط اللوى بين الدخول فحومل |
وقالا: هذا أشعر من على وجه الأرض: لقد وقف واستوقف، وبكى واستبكى، وذكر واستذكر وهي الحبيب والدار في نصف بيت. والسقط- مثلث-: طرف اللوى، أى: المكان الملتوى المعوج. وهو هنا اسم مكان بعينه. وبين لا يضاف إلا لمتعدد المعنى، أو معطوف عليه بالواو خاصة، فالمعنى: بين أجزاء الدخول فحومل. أى فأجزاء حومل كلاهما اسم موضع، ولعل «سقط اللوى» ممتد بينهما. ويجوز أن الفاء بمعنى الواو، فيكون «سقط اللوى» بين هذين الموضعين، وتكون استعارة الفاء هنا للدلالة على قرب ما بين الدخول وحومل.
(٤). قوله «ويكاد سنا على الإدغام» لعل رسمه هكذا «يكاسنا» إلا أن يعتبر ما قبل الإدغام. (ع)
بمعنى العلو والارتفاع، من قولك: سنىّ، المرتفع. ويَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ على زيادة الباء، كقوله وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ عن أبى جعفر المدني. وهذا من تعديد الدلائل على ربوبيته وظهور أمره، حيث ذكر تسبيح من في السماوات والأرض وكل ما يطير بين السماء والأرض ودعاؤهم له وابتهالهم إليه، وأنه سخر السحاب التسخير الذي وصفه وما يحدث فيه من أفعاله حتى ينزل المطر منه، وأنه يقسم رحمته بين خلقه ويقبضها ويبسطها على ما تقتضيه حكمته، ويريهم البرق في السحاب الذي يكاد يخطف أبصارهم، ليعتبروا ويحذروا. ويعاقب بين الليل والنهار، ويخالف بينهما بالطول والقصر. وما هذه إلا براهين في غاية الوضوح على وجوده وثباته. ودلائل منادية على صفاته، لمن نظر وفكر وتبصر وتدبر. فإن قلت: متى رأى رسول الله ﷺ تسبيح من في السماوات ودعاءهم، وتسبيح الطير ودعاءه، وتنزيل المطر من جبال برد في السماء، حتى قيل له: ألم تر؟ قلت: علمه من جهة إخبار الله إياه بذلك على طريق الوحى.
فإن قلت: ما الفرق بين من الأولى والثانية والثالثة في قوله مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ، مِنْ بَرَدٍ؟
قلت: الأولى لابتداء الغاية. والثانية للتبعيض. والثالثة للبيان. أو الأوليان للابتداء، والآخرة للتبعيض. ومعناه: أنه ينزل البرد من السماء من جبال فيها، وعلى الأوّل مفعول «ينزل» :
«من جبال». فإن قلت: ما معنى مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ؟ قلت: فيه معنيان. أحدهما: أن يخلق الله في السماء جبال برد كما خلق في الأرض جبال حجر. والثاني: أن يريد الكثرة بذكر الجبال، كما يقال: فلان يملك جبالا من ذهب.
[سورة النور (٢٤) : آية ٤٥]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥)
وقرئ: خالق كل دابة. ولما كان اسم الدابة موقعا على المميز وغير المميز، غلب المميز فأعطى ما وراءه حكمه، كأن الدواب كلهم مميزون. فمن ثمة قيل: فمنهم، وقيل: من يمشى في الماشي على بطن والماشي على أربع قوائم. فإن قلت: لم نكر الماء في قوله مِنْ ماءٍ؟
قلت: لأنّ المعنى أنه خلق كل دابة من نوع من الماء مختص بتلك الدابة. أو خلقها من ماء مخصوص وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات من النطفة، فمنها هوام ومنها بهائم ومنها ناس.
قدم ما هو أعرق في القدرة وهو الماشي بغير آلة مشى من أرجل أو قوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع. فإن قلت: لم سمى الزحف على البطن مشيا؟ قلت: على سبيل الاستعارة، كما قالوا في الأمر المستمرّ: قد مشى هذا الأمر. ويقال: فلان لا يتمشى له أمر.
ونحوه استعارة الشقة مكان الجحفلة «٢»، والمشفر مكان الشفة. ونحو ذلك. أو على طريق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى القائلين آمنا وأطعنا. أو إلى الفريق المتولى، فمعناه على الأوّل: إعلام من الله بأنّ جميعهم منتف عنهم الإيمان لا الفريق المتولى وحده. وعلى الثاني:
إعلام بأنّ الفريق المتولى لم يكن ما سبق لهم من الإيمان إيمانا، إنما كان ادّعاء باللسان من غير مواطأة القلب، لأنه لو كان صادرا عن صحة معتقد وطمأنينة نفس لم يتعقبه التولي والإعراض.
والتعريف في قوله بِالْمُؤْمِنِينَ دلالة على أنهم ليسوا بالمؤمنين الذين عرفت: وهم الثابتون المستقيمون على الإيمان، الموصوفون في قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا.
الغرض فيما نحن فيه أنه تعالى خلق كل دابة من نوع من الماء مخصوص وهو النطفة، ثم خالف بين المخلوقات بحسب اختلاف نطفها، فمنها كذا ومنها كذا. ونحوه قوله يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ وأما آية «اقترب» فالغرض فيها أن أجناس الحيوانات كلها مخلوقة من هذا الجنس» قال أحمد: وتحرير الفرق أن المقصد في الأولى إظهار الآية بأن شيئا واحدا تكونت منه بالقدرة أشياء مختلفة، ذكر تفصيلها في آية النور والرعد:
والمقصد في آية اقترب: أنه خلق الأشياء المتفقة في جنس الحياة من جنس الماء المختلف الأنواع، فذكر معرفا ليشمل أنواعه المختلفة، فالآية في الأول لإخراج المختلف من المتفق، والله أعلم.
(٢). قوله «مكان الجحفلة» في الصحاح: الجحفلة للحافر، كالشفة للإنسان، اه أى لذي الحافر. (ع)
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩)معنى إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى رسول الله كقولك: أعجبنى زيد وكرمه، تريد: كرم زيد.
ومنه قوله:
غلّسنه قبل القطا وفرّطه «١»
أراد: قبل فرط القطا. روى: أنها نزلت في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض، فجعل اليهودىّ يجرّه إلى رسول الله، والمنافق يجرّه إلى كعب بن الأشرف ويقول: إن محمدا يحيف علينا. وروى أنّ المغيرة بن وائل كان بينه وبين علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه خصومة في ماء وأرض، فقال المغيرة: أمّا محمد فلست آتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف علىّ إِلَيْهِ صلة يأتوا، لأنّ «أتى و «جاء» قد جاءا معدّيين بإلى، أو يتصل بمذعنين لأنه في معنى مسرعين في الطاعة. وهذا أحسن لتقدّم صلته ودلالته على الاختصاص. والمعنى:
أنهم لمعرفتهم أنه ليس معك إلا الحق المرّ والعدل البحت. يزورّون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق، لئلا تنتزعه من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك، لتأخذ لهم ما ذاب لهم في ذمّة الخصم «٢».
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٠]
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠)
ومنهل من الفيافي أوسطه | غلسنه قبل القطا وفرطه |
المنهل: الوادي ومسيل الماء. والفيافي: الصحارى، جمع فيفاء. والظاهر أن أوسطه صفة منهل المجرور برب المحذوفة، وهاؤه للسكت، ولو جعلته بدل بعض والهاء ضمير المنهل: لزم جر المعرفة برب، مع إمكان التخلص عنه إلا عند من جعل ضمير النكرة نكرة فلا محذور. ويروى: من الفلا في أوسطه. والفلا واحده فلاة، أى: مفازة.
والرواية: غلسنه بالتشديد، أى سرنه في وقت الغلس وهو ظلمة الفجر، أو وردنه فيه. والفرط من القطا:
المتقدمات السابقات لغيرها، جمع فارط، كركع وراكع. وخصها لأنها أسرع الطير خروجا من أوكارها.
وأجاج المقيظ: شعاع الشمس يرى في شدة القيظ أى الحر كأنه يسير. وأجت النار: اشتعلت، والحر: اشتد، والظليم: أسرع وله حفيف، والأمر: اختلط. وأجاج: صفة مبالغة منه. وأغبط الشيء فهو مغبط: دام واستمر فمغبطه الدائم الكثير منه. والمعنى: أنه يبتدئ السير قبل السابقات من القطا، ويستمر عليه مع اشتداد الحر في ظل شعاع الشمس، لا يظله إلا هو إن كان له ظل، وهذا من المبالغة في النفي. ويجوز أنه اعتاده فصار عنده كالظل.
ويجوز أن المعنى: تحت كنفه وسترته وجاهه الشبيه بالظل. [.....]
(٢). قوله «ما ذاب لهم في ذمة الخصم» في الصحاح: ذاب لي عليه من الحق كذا: إذا وجب وثبت. (ع)
[سورة النور (٢٤) : آية ٥١]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١)
وعن الحسن: قول المؤمنين، بالرفع والنصب أقوى، لأنّ أولى الاسمين بكونه اسما لكان.
أوغلهما في التعريف، وأن يقولوا: أوغل، لأنه لا سبيل عليه للتنكير، بخلاف قول المؤمنين، وكان هذا من قبيل كان في قوله ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ، ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا وقرئ، ليحكم، على البناء للمفعول. فإن قلت: إلام أسند يحكم؟ ولا بدّ له من فاعل. قلت:
هو مسند إلى مصدره، لأن معناه: ليفعل الحكم بينهم، ومثله: جمع بينهما، وألف بينهما.
ومثله لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ فيمن قرأ بَيْنَكُمْ منصوبا: أى وقع التقطع بينكم. وهذه القراءة مجاوبة لقوله دُعُوا.
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٢]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢)
قرئ: ويتقه، بكسر القاف والهاء مع الوصل وبغير وصل. وبسكون الهاء. وبسكون القاف وكسر الهاء: شبه تقه بكتف فخفف، كقوله:
قالت سليمى اشتر لنا سويقا «١»
ولقد جمع الله في هذه الآية أسباب الفوز. وعن ابن عباس في تفسيرها وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ في
قالت سليمى اشتر لنا سويقا | وهات خبز البرّ أو دقيقا |
يا سلم لو كنت لذا مطيقا | ما كان عيشى عندكم ترنيقا |
وعن بعض الملوك أنه سأل عن آية كافية فتليت له هذه الآية.
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٣]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣)
جهد يمينه: مستعار من جهد نفسه: إذا بلغ أقصى وسعها، وذلك إذا بالغ في اليمين وبلغ غاية شدّتها ووكادتها. وعن ابن عباس رضى الله عنه: من قال بالله، جهد يمينه. وأصل: أقسم جهد اليمين: أقسم يجهد اليمين جهدا، فحذف الفعل وقدّم المصدر فوضع موضعه مضافا إلى المفعول كقوله: فَضَرْبَ الرِّقابِ وحكم هذا المنصوب حكم الحال، كأنه قال: جاهدين أيمانهم.
وطاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
خبر مبتدإ محذوف. أو مبتدأ محذوف الخبر، أى: أمركم والذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشك فيها ولا يرتاب، كطاعة الخلص من المؤمنين الذين طابق باطن أمرهم ظاهره، لا أيمان تقسمون بها بأفواهكم وقلوبكم على خلافها. أو طاعتكم طاعة معروفة، بأنها بالقول دون الفعل. أو طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة.
وقرأ اليزيدي: طاعة معروفة، بالنصب على معنى: أطيعوا طاعة إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ
يعلم ما في ضمائركم ولا يخفى عليه شيء من سرائركم، وأنه فاضحكم لا محالة ومجازيكم على نفاقكم.
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٤]
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤)
صرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات وهو أبلغ في تبكيتهم. يريد:
فإن تتولوا فما ضررتموه وإنما ضررتم أنفسكم، فإنّ الرسول ليس عليه إلا ما حمله الله وكلفه من أداء الرسالة، فإذا أدّى فقد خرج عن عهدة تكليفه. وأما أنتم فعليكم ما كلفتم من التلقي بالقبول والإذعان، فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه. وإن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى، فالنفع والضرر عائدان إليكم، وما الرسول إلا ناصح وهاد، وما عليه إلا أن يبلغ ما له نفع في قبولكم «١»، ولا عليه ضرر في توليكم:
والبلاغ: بمعنى التبليغ، كالأداء: بمعنى التأدية. ومعنى المبين: كونه مقرونا بالآيات والمعجزات.
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٥]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥)
قطع سبيل، وسفك دماء، وأخذ أموال بغير حقها «٤» » وقرئ: كما استخلف، على البناء للمفعول وليبدلنهم: بالتشديد. فإن قلت: أين القسم الملتقى باللام والنون في لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ؟ قلت:
هو محذوف تقديره: وعدهم الله، وأقسم ليستخلفنهم. أو نزّل وعد الله في تحققه منزلة القسم،
(٢). أخرجه الطبري من طريق أبى جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبى العالية في قوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ قال: مكث النبي ﷺ عشر سنين خائفا يدعو إلى الله سرا وعلانية. ثم أمر بالهجرة إلى المدينة فمكث بها هو وأصحابه- إلى آخره» وصله الحاكم وابن مردويه دون أوله بذكر أبى بن كعب فيه. وأوله «لما قدم النبي ﷺ وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار.
رمتهم العرب عن قوس واحدة لا يبيتون إلا بالسلاح... الحديث».
(٣). قوله «تصير بزيزى» في الصحاح: بزه ينزه بزا: سلبه. والاسم البزيزى مثل الخصيصى. (ع)
(٤). لم أجده. وأوله في السنن وابن ماجة والحاكم وأحمد والطبراني والبيهقي والثعلبي كلهم من حديث سفينة «الخلافة في أمتى ثلاثون سنة ثم ملك بعد ملك» وفي لفظ «ثم يملك الله من يشاء» وروى أحمد وابن أبى شيبة والطبراني من طريق عبد الرحمن بن سابط عن أبى ثعلبة عن أبى عبيدة ومعاذ بن جبل مرفوعا. «إن الله بدأ هذا الأمر نبوة ثم يصير خلافة... الحديث».
قلت: إن جعلته استئنافا لم يكن له محل، كأن قائلا قال: ما لهم يستخلفون ويؤمنون؟ فقال:
يعبدونني. وإن جعلته حالا عن وعدهم، أى وعدهم الله ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم، فمحله النصب وَمَنْ كَفَرَ يريد كفران النعمة: كقوله فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ. فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أى: هم الكاملون في فسقهم. حيث كفروا تلك النعمة العظيمة وجسروا على غمطها «١». فإن قلت: هل في هذه الآية دليل على أمر الخلفاء الراشدين؟ قلت: أوضح دليل وأبينه لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم هم.
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٦]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦)
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ معطوف على أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وليس ببعيد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه فاصل وإن طال: لأنّ حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه. وكرّرت طاعة الرسول: تأكيدا لوجوبها.
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٧]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
وقرئ: لا يحسبن، بالياء. وفيه أوجه: أن يكون مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ هما المفعولان.
والمعنى: لا يحسبن الذين كفروا أحدا يعجز الله في الأرض حتى يطمعوا هم في مثل ذلك. وهذا معنى قوى جيد. وأن يكون فيه ضمير الرسول لتقدم ذكره في قوله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأن يكون الأصل: لا يحسبنهم الذين كفروا معجزين، ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأوّل، وكان الذي سوّغ ذلك أنّ الفاعل والمفعولين لما كانت لشيء واحد، اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث، وعطف قوله وَمَأْواهُمُ النَّارُ على لا يحسبنّ الذين كفروا معجزين، كأنه قيل: الذين كفروا لا يفوتون الله ومأواهم النار. والمراد بهم: المقسمون جهد أيمانهم.
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨)
أعور الفارس، «١» وأعور المكان، والأعور: المختل العين. ثم عذرهم في ترك الاستئذان وراء هذه المرات، وبين وجه العذر في قوله طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ يعنى أن بكم وبهم حاجة إلى المخالطة والمداخلة: يطوفون عليكم للخدمة، وتطوفون عليهم للاستخدام، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت، لأدّى إلى الحرج. وروى أن مدلج بن عمرو: وكان غلاما أنصاريا: أرسله رسول الله ﷺ وقت الظهر إلى عمر ليدعوه، فدخل عليه وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه، فقال عمر: لوددت أنّ الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية «٢» : وهي إحدى الآيات المنزلة بسبب عمر رضى الله تعالى عنه. وقيل: نزلت في أسماء بنت أبى مرشد «٣»، قالت: إنا لندخل على الرجل والمرأة ولعلهما يكونان في لحاف واحد «٤».
وقيل: دخل عليها غلام لها كبير في وقت كرهت دخوله، فأتت رسول الله ﷺ فقالت: إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها. وعن أبى عمرو: الْحُلُمَ بالسكون.
وقرئ ثَلاثُ عَوْراتٍ بالنصب بدلا عن ثلاث مرات، أى: أوقات ثلاث عورات. وعن الأعمش: عورات على لغة هذيل. فإن قلت ما محل ليس عليكم؟ قلت: إذا رفعت ثلاث عورات كان ذلك في محل الرفع على الوصف. والمعنى: هنّ ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان، وإذا نصبت: لم يكن له محل وكان كلاما مقرّرا للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة: فإن قلت:
بم ارتفع بَعْضُكُمْ؟ قلت: بالابتداء وخبره عَلى بَعْضٍ على معنى: طائف على بعض، وحذف لأن طوافون يدل عليه. ويجوز أن يرتفع بيطوف مضمرا لتلك الدلالة.
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٩]
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩)
(٢). هكذا نقله الثعلبي والواحدي والبغوي وابن عباس رضى الله عنهما بغير سند.
(٣). قوله «وقيل نزلت في أسماء بنت أبى مرشد» لعله مرثد، كما في عبارة النسفي. (ع)
(٤). هكذا نقله الثعلبي والواحدي عن مقاتل.
قال. نعم وإن كانت في حجرك تمونها، وتلا هذه الاية. وعنه، ثلاث آيات جحدهنّ الناس:
الإذن كله. وقوله إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ فقال ناس: أعظمكم بيتا. وقوله وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ. وعن ابن مسعود. عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمهاتكم وأخواتكم. وعن الشعبي:
ليست منسوخة، فقيل له، إن الناس لا يعملون بها، فقال، الله المستعان. وعن سعيد بن جبير يقولون هي منسوخة، ولا والله ما هي منسوخة، ولكن الناس تهاونوا بها: فإن قلت ما السنّ التي يحكم فيها بالبلوغ؟ قلت: قال أبو حنيفة ثماني عشرة سنة في الغلام. وسبع عشرة في الجارية.
وعامة العلماء على خمس عشرة فيهما. وعن على رضى الله عنه أنه كان يعتبر القامة ويقدره بخمسة أشبار. وبه أخذ الفرزدق في قوله:
ما زال مذ عقدت يداه إزاره | فسما فأدرك خمسة الأشبار «١» |
ما زال مذ عقدت يداه إزاره | وسما فأدرك خمسة الأشبار |
يدنى خوافق من خوافق تلتقي | في ظل معتبط الغبار مثار |
ما زال يقتحم الحروب من حين بلغ أشده إلى أن مات. وإسناد العقد إلى اليد من باب الاسناد للآلة، لأنه عاقد بها. وسما: ارتفع فبلغت قامته مقدار خمسة الأشبار. قيل: المراد بها مقدار السيف، وذلك كناية عن بلوغه أشده. وقيل: المراد بها مقدار القبر، وإدراكها: كناية عن موته. أى: من حين تمييزه إلى حين موته يهيج الحروب وهو أبلغ في المعنى. وعطف «أدرك» بالفاء دلالة على قصر مدته وقرب موته. ويروى: فسما، بالفاء.
ويجوز أن يكون معناه: ارتفع قدره، فيكون قد حكى جميع حالاته. وقوله «يدنى» خبر ما زال، أى: يقرب رايات مضطربات إلى أخرى في الحرب. أو خيلا مضطربة إلى مثلها. والمراد أنه يقرب الكتائب بعضها إلى بعض حتى تلتقي كلها في ظل معتبط من الغبار، والمعتبط- بالعين المهملة-: اسم مفعول، أى: لم يقاتل فيه غيره قبله فيثيره من موضعه، بل هو الذي أثاره منه. أو أنه هو الذي أخرجه من الأرض الصلبة فلم يكن موجودا قبل.
ويروى بالغين المعجمة. أى: مكثر: والمعنى: أنه كان يزاد منه ويكثره. ويجوز أنه اسم مكان. ويروى:
معترك العجاج، وهو موضع المعركة. والعجاج: الغبار. ومثار: صفة معتبط إن لم يتعرف بالاضافة، ويجوز أن أصله: مثاره، بالاضافة للضمير، فحذف للضرورة. وفي إثبات الظل للغبار المعتبط المثار: دلالة على أنه متراكم حاجب ضوء الشمس عن المحاربين.
[سورة النور (٢٤) : آية ٦٠]
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
القاعد: التي قعدت عن الحيض والولد لكبرها لا يَرْجُونَ نِكاحاً لا يطمعن فيه: والمراد بالثياب: الثياب الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ غير مظهرات زينة «١»، يريد: الزينة الخفيفة التي أرادها في قوله وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أو غير قاصدات بالوضع التبرج، ولكن التخفف إذا احتجن إليه. والاستعفاف من الوضع خير لهنّ لما ذكر الجائز عقبه بالمستحب، بعثا منه عن اختيار أفضل الأعمال وأحسنها، كقوله وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ. فإن قلت: ما حقيقة التبرج؟ قلت:
تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه من قولهم: سفينة بارج، لا غطاء عليها. والبرج: سعة العين، يرى بياضها محيطا بسوادها كله لا يغيب منه شيء، إلا أنه اختص بأن تتكشف المرأة للرجال بإبداء زينتها وإظهار محاسنها. وبدأ، وبرز، بمعنى: ظهر، من أخوات: تبرج وتبلج، كذلك.
[سورة النور (٢٤) : آية ٦١]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
على لاحب لا يهتدى بمناره
أى: لا منار فيه فيهتدى به، وكذلك، المراد هنا: والقواعد من النساء اللاتي لا زينة لهن فيتبرجن بها، لأن الكلام فيمن هي بهذه المثابة، وكأن الغرض من ذلك أن هؤلاء استعفافهم عن وضع الثياب خير لهن، فما ظنك بذوات الزينة من الثياب، وأبلغ ما في ذلك أنه جعل عدم وضع الثياب في حق القواعد من الاستعفاف إيذانا بأن وضع الثياب لا مدخل له في العفة، هذا في القواعد، فكيف بالكواعب؟ والله أعلم. [.....]
(٢). قوله «أو جرح يبض أو أنف يذن» يبض أى يسيل قليلا قليلا. ويذن: أى يسيل مخاطه. أفاده الصحاح. (ع)
كونها في يده وحفظه. وقيل: بيوت المماليك، لأن مال العبد لمولاه. وقرئ: مفتاحه:
فإن قلت: فما معنى أَوْ صَدِيقِكُمْ؟ قلت: معناه: أو بيوت أصدقائكم. والصديق يكون واحدا وجمعا «٢»، وكذلك الخليط والقطين والعدوّ. يحكى عن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك وقال: هكذا وجدناهم، هكذا وجدناهم.
يريد كبراء الصحابة ومن لقيهم من البدريين رضى الله عنهم. وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كيسه فيأخذ منه ما شاء، فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سرورا بذلك. وعن جعفر بن محمد الصادق رضى الله عنهما: من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الأنس والثفة والانبساط وطرح الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ والابن. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: الصديق أكبر من الوالدين، إن الجهنميين لما استغاثوا لم يستغيثوا بالآباء والأمّهات. فقالوا: فما لنا من شافعين ولا صديق حميم. وقالوا: إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك، قام ذلك مقام الإذن الصريح، وربما سمج الاستئذان وثقل، كمن قدّم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل منه جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً أى مجتمعين أو متفرّقين. نزلت في بنى ليث بن عمرو من كنانة كانوا يتحرجون أن يأكل لرجل وحده فربما قعد منتظرا نهاره إلى الليل، فان لم يجد من يواكله أكل ضرورة. وقيل في قوم من الأنصار: إذا نزل بهم ضيف
(٢). قال محمود: «الصديق يكون واحدا وجمعا والمراد هنا الجمع» قال أحمد: وقد قال الزمخشري: إن سر إفراده في قوله تعالى فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ دون الشافعين التنبيه على قلة الأصدقاء، ولا كذلك الشافعون، فان الإنسان قد يحمى له ويشفع في حقه من لا يعرفه فضلا عن أن يكون صديقا، ويحتمل في الآيتين- والله أعلم- أن يكون المراد به الجمع فلا كلام، ويحتمل أن يراد الافراد، فيكون سره ذلك، والله أعلم.
أو لأنّ التسليم والتحية طلب سلامة وحياة للمسلم عليه والمحيا من عند الله. ووصفها بالبركة والطيب: لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق. وعن أنس رضى الله عنه قال: خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين- وروى: تسع سنين- فما قال لي لشيء فعلته لم فعلته؟ ولا قال لي لشيء كسرته لم كسرته؟ وكنت واقفا على رأسه أصب الماء على يديه فرفع رأسه فقال: ألا أعلمك ثلاث خصال ننتفع بها؟ قلت: بلى بأبى وأمى يا رسول الله. قال: متى لقيت من أمّتى أحدا فسلم عليه يطل عمرك، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوّابين «٢» ». وقالوا:
إن لم يكن في البيت أحد فليقل: السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. السلام على أهل البيت ورحمة الله. وعن ابن عباس: إذا دخلت المسجد فقل:
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين تحية من عند الله، وانتصب تحية بسلموا، لأنها في معنى تسليما، كقولك: قعدت جلوسا.
[سورة النور (٢٤) : آية ٦٢]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢)
(٢). أخرجه أبو القاسم حمزة بن يوسف الجرجاني في تاريخ جرجان. والبيهقي في الشعب في الحادي والستين.
والثعلبي من طريق اليسع بن زيد بن سهل عن ابن عتبة عن حميد وعن أنس بتمامه واليسع آخر من زعم أنه سمع من ابن عتبة. مات بعد الثمانين والمائتين وهو واهى الحديث وأصل الحديث دون القصة التي فيه، في الصحيح من حديث أنس رضى الله عنه. وباقيه مروى عن أنس من أوجه. منها ما رواه البزار من طريق عويد بن عمران الجونى عن أبيه قال: «أوصانى النبي ﷺ بخمس خصال قال: أسغ الوضوء يزد في عمرك: وسلم على من لقيت من أمتى تكثر حسناتك. وإذا دخلت بيتك فسلم على أهلك يكثر خير بيتك وصل صلاة الضحى.
فإنها صلاة الأوابين، وارحم الصغير ووقر الكبير، تكن من رفاقى» وعويد. قال ابن حبان: يروى عن أبيه ما ليس من حديثه. ورواه أبو يعلى من رواية عمرو بن أبى خليفة عن ضرار بن عمرو عن أنس وإسناده ضعيف جدا وكذا رواه الطبراني في الصغير من رواية عمرو بن دينار عن أنس والراوي عنه ساقط ورواه العقيلي من رواية الفضل بن العباس عن ثابت عن أنس والفضل مجهول. قال العقيلي: لم يتابعه عليه إلا من هو دونه أو قبله ورواه ابن عدى من طريق أزور بن غالب عن سليمان التيمي عن أنس. قال ابن طاهر: أزور منكر الحديث. وله طريق أخرى عن أنس أشد ضعفا من هذه.
[سورة النور (٢٤) : آية ٦٢]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢)أراد عز وجل أن يريهم عظم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغير إذنه إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله، وجعلهما كالتشبيب له «١» والبساط لذكره، وذلك مع تصدير الجملة بإنما وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبرا عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين، ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتشديدا، حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله (إنّ الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله) وضمنه شيأ آخر، وهو: أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين، وعرّض بحال المنافقين وتسللهم لو إذا. ومعنى قوله (لم يذهبوا حتى يستأذنوه) لم يذهبوا حتى يستأذنوه ويأذن لهم. ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استصوب أن يأذن له. والأمر الجامع: الذي يجمع له الناس، فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز، وذلك نحو مقاتلة عدوّ، أو تشاور في خطب مهمّ، أو تضام لإرهاب مخالف، أو تماسح في حلف وغير ذلك. أو الأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه. وقرئ: أمر جميع. وفي قوله (إذا كانوا معه على أمر جامع) أنه خطب جليل لا بد لرسول الله ﷺ فيه من ذوى رأى وقوّة، يظاهرونه عليه ويعاونونه ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفايته، فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال مما يشق على قلبه ويشعث عليه رأيه، فمن ثمة غلظ عليهم وضيق عليهم الأمر في الاستئذان، مع العذر المبسوط ومساس الحاجة إليه، واعتراض ما يهمهم ويعنيهم، وذلك قوله لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ. وذكر الاستغفار للمستأذنين:
دليل على أنّ الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه. وقيل: نزلت في حفر لخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن. وقالوا: كذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل ولا يتفرقون عنهم. والأمر في الإذن مفوّض إلى الإمام: إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن، على حسب ما اقتضاه رأيه.
[سورة النور (٢٤) : آية ٦٣]
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣)
[سورة النور (٢٤) : آية ٦٢]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢)أراد عز وجل أن يريهم عظم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغير إذنه إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ فجعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله، وجعلهما كالتشبيب له «١» والبساط لذكره، وذلك مع تصدير الجملة بإنما وإيقاع المؤمنين مبتدأ مخبرا عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين، ثم عقبه بما يزيده توكيدا وتشديدا، حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله (إنّ الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله) وضمنه شيأ آخر، وهو: أنه جعل الاستئذان كالمصداق لصحة الإيمانين، وعرّض بحال المنافقين وتسللهم لو إذا. ومعنى قوله (لم يذهبوا حتى يستأذنوه) لم يذهبوا حتى يستأذنوه ويأذن لهم. ألا تراه كيف علق الأمر بعد وجود استئذانهم بمشيئته وإذنه لمن استصوب أن يأذن له. والأمر الجامع: الذي يجمع له الناس، فوصف الأمر بالجمع على سبيل المجاز، وذلك نحو مقاتلة عدوّ، أو تشاور في خطب مهمّ، أو تضام لإرهاب مخالف، أو تماسح في حلف وغير ذلك. أو الأمر الذي يعم بضرره أو بنفعه. وقرئ: أمر جميع. وفي قوله (إذا كانوا معه على أمر جامع) أنه خطب جليل لا بد لرسول الله ﷺ فيه من ذوى رأى وقوّة، يظاهرونه عليه ويعاونونه ويستضيء بآرائهم ومعارفهم وتجاربهم في كفايته، فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال مما يشق على قلبه ويشعث عليه رأيه، فمن ثمة غلظ عليهم وضيق عليهم الأمر في الاستئذان، مع العذر المبسوط ومساس الحاجة إليه، واعتراض ما يهمهم ويعنيهم، وذلك قوله لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ. وذكر الاستغفار للمستأذنين:
دليل على أنّ الأحسن الأفضل أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه. وقيل: نزلت في حفر لخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن. وقالوا: كذلك ينبغي أن يكون الناس مع أئمتهم ومقدميهم في الدين والعلم يظاهرونهم ولا يخذلونهم في نازلة من النوازل ولا يتفرقون عنهم. والأمر في الإذن مفوّض إلى الإمام: إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن، على حسب ما اقتضاه رأيه.
[سورة النور (٢٤) : آية ٦٣]
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣)
أو لا تجعلوا تسميته ونداءه بينكم كما يسمى بعضكم بعضا ويناديه باسمه الذي سماه به أبواه، ولا تقولوا: يا محمد، ولكن: يا نبى الله، ويا رسول الله، مع التوقير التعظيم والصوت المخفوض والتواضع. ويحتمل: لا تجعلوا دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم، يسأله حاجة فربما أجابه وربما ردّه، فإن دعوات رسول الله ﷺ مسموعة مستجابة يَتَسَلَّلُونَ ينسلون قليلا قليلا. ونظير «تسلل» :«تدرّج وتدخل» : واللواذ:
الملاوذة، وهو أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا، يعنى: ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض. ولِواذاً حال، أى: ملاوذين. وقيل: كان بعضهم يلوذ بالرجل إذا استأذن فيأذن له، فينطلق الذي لم يؤذن له معه. وقرئ: لو إذا، بالفتح. يقال.
خالفه إلى الأمر، إذا ذهب إليه دونه. ومنه قوله تعالى وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ وخالفه عن الأمر: إذا صدّعنه دونه. ومعنى الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ الذين يصدّون عن أمره دون المؤمنين وهم المنافقون، فحذف المفعول لأنّ الغرض ذكر المخالف والمخالف عنه.
الضمير في أمره لله سبحانه أو للرسول صلى الله عليه وسلم. والمعنى: عن طاعته ودينه فِتْنَةٌ محنة في الدنيا أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. وعن ابن عباس رضى الله عنهما: فتنة قتل. وعن عطاء: زلازل وأهوال. وعن جعفر بن محمد: يسلط عليهم سلطان جائر.
[سورة النور (٢٤) : آية ٦٤]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
أدخل (قد) ليؤكد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين والنفاق ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد، وذلك أن (قد) إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى «ربما» فوافقت «ربما» في خروجها إلى معنى التكثير في نحو قوله:
فان تمس مهجور الفناء فربّما | أقام به بعد الوفود وفود «١» |
ألا إن عينا لم تجد يوم واسط | عليك يجارى دمعها لجمود |
عشية قام النائحات وشققت | جيوب بأيدى مأتم وخدود |
فان تمس مهجور الفناء فربما | أقام به بعد الوفود وفود |
والمأتم: مكان الاقامة: استعمل في جماعة النساء الحزينات مجازا مشهورا، وجمعه: مآتم بمد الهمزة. يقول:
إن كل عين لم تبك عليك ذلك اليوم لشديدة الجمود. وعشية: بدل من يوم. وجيب القميص. مخرج الرأس منه، أى: مزقت الجيوب والخدود بأيدى النساء، ثم التفت إلى الخطاب، وصبر وتصبر بقوله: فان تمس مهجور الفناء، كناية عن الموت، فربما: أى كثيرا أقام بفناء بيتك جموع من الناس بعد جموع، يستمنحونك، أى: فان يهجر فناؤك الآن فلا حزن، لأنه كثيرا ما اجتمع فيه الناس ومنحوا خيرا.
أخى ثقة لا تهلك الخمر ماله | ولكنّه قد يهلك المال نائله «١» |
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة النور أعطى من الأجر عشر حسنات بعدد كل مؤمن ومؤمنة فيما مضى وفيما بقي «٢» ».
(٢) أخرجه الثعلبي وابن مردويه باسناديهما إلى أبى بن كعب رضى الله عنه.