ﰡ
(١) - يُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَه إِلى الاْعِتنَاءِ بِهَذِهِ السُّورَةِ التي أَنْزَلَهَا عَلَى رَسُولِهِ الكَرِيم، وَقَدَّرَ فِيهَا الحُدُودََ والأًَحكام عَلَى أَتَمَّ وَجَهِ، وَبَيِّنَ فِيها أَجدِلَة وَبَيِّناتِه الوَاضِحَةَ لِيُعدَّهُم بِذَلِكَ إِلى الهُدَى والاتِّعَاظِ، والعَمَلَِ بِمَا جَاءَ فِيها مِنَ أَوَامِر، والانْتِهَاءِ عَمَّا جَاءَ فِيهَا مِنْ نَوَاهٍ وَزَوَاجِرَ، لِتَتَحَقَّقَ لَهُم السَعَادَةُ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ.
فَرَضْنَاها - أَوْجَبْنَا أَحْكَامَهَا عَلَيْكُم، أَوْ قَدَّرْنَاها.
(٢) - فَهَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ فِيهَا حُكْمُ الزَّانِي فِي الحَدِّ فَالزَّانِي إِذَا كَانَ بكْراً - ذَكَراً كَانَ أَوْ أُنْثَى - وَهُوَ حُرٌّ بَالِغٌ عَاقِلٌ فَحَدُّهُ مِئَةُ جَلْدَةٍ كَمَا فِي الآيَة وَيَرَى جُمْهُورُ الفَقَهَاءِ أَنْ يُغَرَّبَ سَنَةً عَنْ مَوْطِنِهِ، إِنْ شَاءَ الإِمَامُ تَغْرِيبَهُ (أَي نَفْيَهُ مِنْ مَوْطِنِهِ). أَمَّا إِذَا كانَ الزَّانِي مُحْصَناً، وَهُوَ الذي سَبَقَ لَهُ الوَطْءُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ، فَإِنَّهُ يُرْجَمُ بالحِجَارَةِ حَتَّى المَوْتِ.
وَحُكْمُ الزَّانِي المُحْصَنِ مَأْخُوذٌ مِنَ السُنَّةِ، فَقَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ مُحْصَنَةٍ زَنَتْ.
وَيَثْبُتُ الزِّنَى بِالإِقْرَارِ، أَوْ بِحَبَلِ المَرْأَةِ بِلاَ زَوْجٍ مَعْرُوفٍ لَهَا، أو بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ مِنَ الشُّهُودِ العُدُولِ يَرَوْنَها فِي حَالَةِ الفِعْلِ.
(وَقَالَ بَعْضُ الأَئِمَّةِ: إِنَّهُ يَجِبُ الجَلْدُ مَعَ الرَّجٍمِ عَمَلاً بالنَّصِّ. وَلَكنَّ أَكْثَرَ الأَئِمَّةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَم وُجُوبِ الجَلْدِ مَعَ الرَّجْمِ لأَنَّ عُقُوبةَ الرَّجْمِ أَشَدُّ مِنْ عُقُوبَةِ الجَلْدِ).
وَيُنَبِّهُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ إِلى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِم أَلاَّ تَأْخُذَهُمْ رَأْفَةٌ بِالزُّنَاةِ فِي تَطْبِيقِ حُكْمِ اللهِ وَشَرْعِهِ، لأَنَّ مِنْ مُقْتَضَى الإِيْمَانِ إِيثَارَ مَرْضَاةِ اللهِ عَلَى مَرْضَاةِ النَّاسِِ، فَإِذَا رُفِعَتِ الحُدُودُ إِلى السُّلْطَانِ فَتُقَامُ وَلا تُعَطَّلُ.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: تَعَافوا الحُدُود بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَد وَجَبَ).
فَإِذَا كُنْتُم تُؤْمِنُونَ بِاللهِ، واليَوْمِ الآخِرِ، فَافْعَلُوا مَا أَمَرَكٌمْ بِهِ اللهُ مِنْ إِقَامَةِ الحَدِّ عَلَى الزُنَاةِ، وشَدِّدُوا عَلًيْهِم الضَّرْبَ عَلَى أَنْ لاَ يَكُونَ الضَّرْبُ مُبرِّحاًَ، لِيَرْتَدِعَ مَنْ يَصْنَعُ مِثْلَهُمْ.
ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ يَكُونَ تَنْفِيذُ الحُدُودِ عَلاَنِيَةً، وَأَنْ يَشْهَدَهُ طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنِينَ لأَنَّهُ يَكُونُ أَبْلَغَ فِي زَجْرِ النَّاسِ، وَأَنْجَعَ فِي رَدْعِهِمْ، وَيَكُونُ تَقْرِيعاً وَتَوْبِيخاً وَفَضِيحَةً إِذَا كَانَ النَّاسُ حُضُوراً.
الطائِفَةُ - تَشْمَلُ الوَاحِدَ فَمَا فَوقَ، وَقَالَ ابنُ عَبَّاسِ إِنَّهَا تَشْمَلُ الأَرْبَعَةَ فَصَاعِداً.
(وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ هَذَا بالنِّكَاحِ إِنَّمَا هُوَ الجمَاعِ، لاَ يَزْنِِي بِها إِلاَّ زانٍ أو مُشْرِكٌ). وَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ بالفُجَّارِ الزُّنَاةِ مِنَ الرِّجَالِ، إِلاَّ إِذَا حَدَثَتْ تَوْبَةٌ. فَإِنَّهُ يُسْمَحُ لِلتَّائِب مِنَ الزِّنى بالزَّوَاج مِنَ الحَرَائِرِ العَفِيفَاتِ.
(٤) - فِي هَذِهِ الآيَةِ يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى حُكْمَ الذينَ يَتَّهِمُونَ المُحَصَنَاتِ العَفِيفَاتِ بالزِّنَا (وَهُنَّ الحَرَائِرُ البَالِغَاتُ العَفِيفَاتُ). وإِذَا كَانَ المَقْذُوفَ رَجُلاً يُجحْلَدُوا قَاذِفُه أيضاً. فَإِذَا أَقَامَ القَاذِفُ البَيِّنَةَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ، دَرَأ ذَلِكَ الحَدَّ عَنْهُ. فَإِذَا لَمْ يَأتِ القَاذِفُ بِأَرْبَعَةِ رِجَالٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِحَّةِ مَا قَالَهُ، وَيُثْبِتُونَ صِحَّةَ دَعْوَاهُ، فَإِنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيهِ بِثَلاثِ عُقُوبَاتٍ:
- يُجْلَدُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً.
- تُرَدُّ شَهَادَتُهُ
- يُعَدُّ فَاسِقاً لَيْسَ بِعَدْلٍ لاَ عِنْدَ اللهِ وَلاَ عِنْدَ النَّاسِ.
يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ - يَقْذِفُونَ العَفِيفَاتِ بِالزِّنَى.
وَاخْتَلَفَ الأَئِمَةُ حَوْلَ مَدَى أثرِ التَوْبَةِ: هَلْ تَشْمَلُ الفِسْقَ وَرَدَّ الشَهَادَةِ معاً، أم الفِسْقَ فَقَط؟
- فَقَالَ الأَئِمَةُ: مَالِكٌ وَأَحْمِدُ والشَّافِعِيُّ: إِنَّ القَاذِفَ إٍِذا تَابَ ارْتَفَعَ عَنْهُ حُكْمُ الفِسْقِ، وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ.
- وَقَالَ أبو حَنِيفَة: إنَّ الاسْتِثْنَاءَ الوَارِدَ فِي الآيَةِ يَعُودُ لِلجُمْلَةِ الأخيرَةِ فَقَطْ، فَيَرْتَفِعُ الفِسْقُ بالتَّوْبَةِ وَيَبْقَى مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ.
- وَقَالَ الشَّعْبِيُّ والضَّحَّاكُ: لاَ تُقْبَل شَهَادَتُه وإِنْ تَابَ إِلاَّ أَنْ يَعْتَرِفَ عَلَى نَفْسِه أَنَّهُ قَدْ قَالَ البُهْتَانَ فَحِينَئذٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ.
(٦) - هَذِهِ الآيَةُ وَمَا بَعْدَها تَتَعَلَّقُ بِاللِّعَانِ، وَفِيهَا مَخْرَجٌ لأَزْوَاجِ إِذَا اتَّهَمُوا زَوْجَاتِهِم بالزِّنَى، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا إِقَامَةَ البَيِّنَةِ عَلَى زِنَاهُنَّ كَمَا أَمَرَ اللهُ، فَيُحْضِرُ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ إِلَى الإِمَامِ، فَيَدَّعِي عَلَيْهَا بِمَا رَمَاهَا بِهِ، فَيُحَلِّفُهُ الحَاكِمُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لِمَنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنَى. وَهَذِهِ الشَّهَادَاتُ الأَرْبَعُ تُقَابِل شَهَادَةَ الشُهَداءِ الأََربعَةِ الذينَ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى شَهَادَتَهم كَافِيَةً لإِثْبَاتِ الزِّنَى.
(٧) - وَيُحَلِّفُهُ فِي المَرَّةِ الخَامِسَةِ: أَنَّ لَعَنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الكَاذِبِينَ. فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ بَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ، وَحَرُمَتْ عَلَيْهِ أَبَداً. وَيُعْطِيها مَهْرَها، وَيَتَوَجَّبُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنى إِنْ سَكَتَتْ عَلَى مَا رَمَاهَا بِهِ زَوْجُها.
(٨) - وَلاَ يَدْرَأُ عَنْهَا إِقَامَةَ حَدِّ الزِّنى عَلَيْهَا (وَهُوَ الرَّجْمُ) إِلاَّ أَنْ تُلاَعِنَ، فَتَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ باللهِ عَلَى أَنَّ زَوْجَها مِنَ الكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِن الزِّنَى.
يَدْرأُ عَنْهَا العَذَابَ - يَدْفَعُ عَنْهَا عُقُوبَةَ الرَّجْمِ.
(٩) - وَتحْلِفُ فِي المَرَّةِ الخَامِسَةِ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ زَوْجُها مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنى. والمَغْضُوبُ عَلَيْهِ هُوَ الذي يَعْلَمُ الحَقَّ ثُمَّ يَحِيدُ عَنْهُ لِذَلِكَ خَصَّهَا اللهُ تَعَالى بِالغَضَبِ لأَنَّ الغَالِبَ أَنَّ الرَّجُلَ لا يَتَجَشَّمُ فَضِيحَةَ أَهْلِهِ وَرَمْيَها بالزِّنَى إِلاَّ وَهُوَ صَادِقٌ مَعْذَورٌ، وَهِيَ تَعْلَمُ صِدْقَهُ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ.
وَلَوْ جَعَلَ شَهَادَةَ الرَّجُلِ مُوجِبَةً مُوجِبَةً لِحَدِّ الزِّنى وَحْدَهَا، لَكَثُرَ افْتِراءُ الأَزْوَاجِ عَلى زَوْجَاتِهِمْ لِضَغِينَةٍ قَدْ تَكُونُ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَمِنْ ثُمَّ جَعَلَ شَهَادَاتِ كُلِّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مَعَ الجَزْمِ بِكَذِبِ الآخَرِ تَدْرَأَ عَنْهُ العُقُوبَةَ الدُّنْيَويَّةَ.
(وَرُوي أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ آيَةِ اللِّعَانِ، هُوَ أَنَّهُ لَمَا نَزَلَتْ آيَةُ القَذْفِ (والذينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأَتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ يَقُولُ لَهُ إِنَّهُ عَادَ إِلى بَيْتِهِ فَوَجَدَ رَجُلاً عِنَدَ امْرَأَتِهِ، فَسَمِعَ بِأَذِنِهِ، وَرَأَى بِعَيْنِهِ، فَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ، وَجَاءَ إٍِلى الرَّسُولِ فأَعْلَمَهُ بِمَا رَأى وَسَمِعَ، فاعْتَبَرَ الرَّسُولُ ذَلِكَ القَوْلَ قَذْفاً مِنْهُ بِحَقِّ زَوْجَتِهِ، وَطَالَبَهُ بِإِقَامَةِ البَيِّنَةِ أوأَنَّ الرَّسُولَ سَيَأْمُرُ بِحَدِّهِ حَدَّ القَذْفِ. فَقَالَ الرَّجُلُ؟ يَا رَسُولَ اللهِ إِذَا رَأى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلاً يَنْطِلِقُ يَلْتَمِسُ البَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ النَبِيُّ يَقُولُ لَهُ: البَيِّنَةَ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: والذي بَعَثَكَ بالحَقِّ إِنِي لَصَادِقٌ، وَلِيُنْزلَنَّ اللهُ مَا يُبْرِيءُ ظَهْرِي مِنَ الحَدِّ. فَنَزَلَ جِبْريلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِهَذِهِ الآيَاتِ. فَأَرْسَلَ الرَّسُول إِلى الرَّجُلِ وَزَوْجِهِ فَشَهِدَ الرَّجُلُ، والنَّبِيُّ يَقُولُ لَهُ: إِنْ اللهَ لَيَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا لَكَاذِبٌ، ثُمَّ قَامِتِ المَرْأَةُ فَشَهدَتْ، فَلَمَّا كَانَتِ الخَامِسَةُ وَقُفُوهَا، وَقَالُوا لَهَا: إِنَّهَا مُوجَبَةٌ، تُوجِبُ العَذَابَ عَلَيْكِ، فَتَلَكَّأَتْ، حَتَّى ظُنَّ أَنَّها تَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لاَ أَفَضَحُ قَوْمِي سَائِرَ اليومِ، فَمَضَتْ وَحَلَفَتْ).
(١١) - هَذِهِ الآيَةُ أشَارَتْ إِلَى حَدِيثِ الإِفْكِ الذي أَطْلَقَهُ بَعْضُ المُنَافِقِينَ بِحَقِّ عَائِشَةَ أَمَّ المُؤْمِنِينَ، رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْها. وَتَتَلَّخَصُ هَذِهِ القِصَّةُ فِي الآتي:
(كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا غَزَا أَجْرَى القُرْعَةَ بَينَ نِسَائِهِ فَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهَا مِنْهُنَّ صَحِبَها فِي غَزَوَتِهِ، وَفِي إِحْدَى الغَزَوَاتِ خَرَجَ سَهْمُ عَائِشَة رِضْوَانُ اللهِ عَليها، وَذَلِكَ بَعْدَما أُنْزِلَتْ آيَةُ الحِجَابِ، فَلَمَّا فَرَغَ الرَّسُولُ مِنَ الغَزْوَةِ قَفَلَ عَائِداً بِالجَيْشِ، وَلَمَّا دَنَوْا مِنَ المَدِينَةِ آذَنَ النَّاسَ لَيْلَةً بالرَّحِيلِ، فَلَمَا آذَنَهُمْ بِالرَّحِيلِ خَرَجَتْ عَائِشَةُ لِقَضَاءِ بَعْضِ حَاجَتِهَا، حَتَّى جَاوَزَت الجَيشَ. ثُمَّ عَادَتْ فالتمَسَتْ عِقْداً لَهَا فَوَجَدَتْهُ قَدِ انْفَرَطَ، فَرَجَعَتْ تَلْتَمِسُهُ، فَتَأَخَّرَتْ فِي البَحْثِ عَنْهُ. وَجَاءَ الرِّجَالُ الذينَ كَانُوا يَحْمِلُونَهَا، فاحْتَمِلُوا هَوْدجَها فَرَحَّلُوهُ عَلَى بَعِيرِهَا الذي كَانَتْ تَركَبُهُ، وهُمْ يحسَبُونَ أَنَّها فيهِ (وَكَانَ النِّسَاءُ في ذَلِكَ الحِينِ خِفَاقاً لَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ) فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الرِّجَالُ خِفَّةَ الهَوْدَجَ حِينَمَا رَفَعُوهُ وَحَمَلُوهُ عَلَى البَعِيرِ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ إِذْ ذَاكَ صَغِيرَةَ السِّنِّ، خَفِيفَةَ الوَزْنِ، فَبَعَثُوا الجَمَلَ وَسَارُوا.
أَمَّا عَائِشَةُ فَإِنَّهَا وَجَدَتْ عِقْدَهَا بَعْدَ أَنْ سَارَ الجَيْشُ، فَلَمَّا جَاءَتْ مَنَازِلَ الجَيْشِ وَجَدَتْهُ قَدْ ارْتَحَلَ، فَاتَّجَهَتْ إِلى المَكَانِ. الذي كَانَتْ تَنْزِلُ فِيهِ، وَفِي ظَنِّهَا أَنَّ القَوْمَ سَيَفْتَقِدُونَهَا فَيَرْجِعُونَ للبحْثِ عَنْهَا. وَبَيْنَمَا كَانَتْ جَالِسَةً غَلَبَتْهَا عَيْنَاهَا فَنَامَتْ.
وَكَانَ صفْوَانُ بنُ مُعَطِّل السّلَمِي - وَهُوَ مِنْ جَنْدِ المُسْلِمِينَ - قَدْ عَرَّسَ غَازِياً مِنْ وَرَاءِ الجَيْشِ فَأَدْلَجَ (سَارَ لَيْلاً) فَأَصْبَحَ عِنْدَ المَنْزِلِ الذي كَانَتْ عَائِشَةُ فِيهِ، فَرَأى سَوَادَ إِنْسَانٍ فَاقْتَرَبٍ فَعَرفِ عَائِشَةَ حِينَ رآهَا، وَكَانَ قَدْ رآهَا قَبْلَ الحِجَابِ، فاسْتَرْجَعَ حَتَّى اسْتَيْقَظَتْ عَائِشَةُ، فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَرَكِبَتَ، وَقَادَ الرَّاحِلَةَ وَسَارَ بِهَا حَتَّى أَتَى الجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا عِنْدَ الظَهِيرَةِ.
وَتَقُولُ عَائِشَةُ: واللهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً وَاحِدَةً.
فَانْطَلَقَ المُنَافِقُونَ - وَعَلَى رَأْسِهِمْ رَأْسُ الكُفِرِ والنِّفَاقِ عَبْدُ اللهِ بنُ أُبَيِّ بنِ سَلُولٍ - يَتَقَوَّلُونَ وَيُلَمِّحُونَ بِمَا يُثِيرُ الشُّبُهَاتِ فِي نُفوسِ ضِعَافِ الإِيْمَانِ والذِّمَمِ، فَخَاضَ فِيهِ مَنْ خَاضَ. وَهَلَكَ فِيهِ مَنْ هَلَكَ.
ثُمَّ مَرِضَتْ عَائِشَةُ بَعْدَ عَوْدَةِ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى المَدِينَةِ، وَهِيَ لاَ تَعْلَمُ شَيئاً مِمَّا يَتَقَوَّلُهُ المُنافِقُونَ، وَقَدْ رَابَهَا مَا لاَحَظَتْهُ مِنْ أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُظْهِرْ لَهَا مِن اللُّطْفِ فِي المُعَامِلَةِ مِثْلَمَا كَانَتْ تَراهُ مِنْهُ حِينَ تَشْتَكِي عِلَّةً. وَحِينَما بَدَأَتْ تَسْتَرِدُّ صِحَّتَهَا، خَرَجَتْ مَعَهَا أُمُّ رَجُلٍ مِنْ بَنِي المُطَّلِبِ اسْمُهُ مِسْطَحٌ، وَهُوَ ابنُ خَالَةِ أَبي بَكْر الصِّدِّيقِ، وَكَانَ أبُو بَكْرٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِ لأَنَّهُ كَانَ مُقِلاًّ مِنَ المَالِ. فَعَثَرتْ أُمَّ مِسْطِحٍ بِمُرْطِها فَقَالَتْ تَعْسَ مِسْطَحٌ.
فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: بِئْسَما قُلْتِ تَسُبِّينَ رَجُلاً شَهِدَ بَدْراً! فَأَدْرَكَتْ أُمُّ مِسْطحٍ أَنَّ عَائِشَةَ لاَ تَدْرِي مِمَّا يُقَالُ عَنْهَا شَيئاً، فَأَخبَرتها بِحَدِيثِ الإِفْكِ فازْدَادَ مَرَضُها.
فَقَامَ الرَّسُولُ مِنْ يَوْمِهِ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بن أُبَيِّ بنِ سَلُول، فَقَالَ وَهُوَ عَلَى المِنْبَر: (يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي، فَواللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ خَيْراً، وَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْراً، ومَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلاَّ مَعِي.)
فَقَامَ سَعْدُ بنُ مُعَاذٍ سَيِّدُ الأًَوْسِ، فَقَالَ: أَنَا أَعْذُرُكَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنْ الخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ.
فَقَامَ سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ، وَهُوَ سَيِّدُ الخَزْرَجِ، وَكَانَ رَجُلاً صَالِحاً، وَلَكِنَّ الحَمِيَّةَ قَد احْتَمَلَتْهُ، فَقَالَ لِسَعْدِ بنِ مُعَاذٍ: كَذَبْت لَعَمْرُ اللهِ لا تَقْتُلُهُ ولا تَقْدِرُ عَلى قَتْلِهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ رَهْطِكَ مَا أَحْبَبْتَ أَنْ يُقْتَلَ، فَقَامَ أُسَيْدُ بنُ حُضَيْرٍ، وَهُوَ ابنُ عَمِّ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ بنِ عُبَادَةَ، كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللهِ لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ المُنافِقِ.
فَثَارَ الأَوْسُ والخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا بِالاقْتِتَالِ وَرَسُولُ الله ﷺ عَلَى المِنْبَرِ فَلَمْ يَزَلِ الرَّسُولُ ﷺ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا، وَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ. ثُمَّ ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى بِيتِ أًَبي بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرِ وَزَوْجَتُهُ وَعَائِشَةُ فِيهِ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ. وَقَدْ لَبِثَ شَهْراً لاَ يَجْلِسُ عِنْدَهُمَا، وَلاَ يُوحَى إِلَيْهِ شَيءٌ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ. وَبَعْدَ أَنْ جَلَسَ تَشَهَّدَ رَسُولُ اللهِ، وَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا، وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللهُ، وَإِنْ كُنْتِ ألْمَمْتِ بِذَنْبٍِ فَاسْتَغْفِري الله وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ وَتَابَ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ.
فَقَالَتْ عَائِشَةُ لأَبِيهَا أَجِبْ رَسُولَ اللهِ عَنِّي، فَقَالَ واللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِلرَّسُولِ ﷺ: واللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَقَدْ سَمِعْتُم بِهَذَا الحَدِيثِ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفِسِكُمْ، وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةُ، واللهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لاَ تُصَدِّقُونَنِي، وَلَئِنْ اعْتَرَفَتُ بِأَمْرِ، وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُونَنِي، فَوَاللهِ مَا أَجِدُ لِي وَلكُمْ مَثَلاً إِلاَّ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ﴾ وَتَحَوَّلَتْ عَنْهُمْ إِلَى فِرَاشِها فَاضْطَجَعَتْ.
وَبَعْدَ أَنْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَاتِ أَقْسَمَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لاَ يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ أبداً، فَأَنْزَلَ اللهُ قَوْلَهُ: ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى﴾ إلى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ﴾. فَقَالَ أَبُو بَكْرِ واللهِ إِتِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي، فَرَجَعَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ.
وَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَاتِ أقامَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَدَّ القَذْفِ عَلَى رَجُلَيْنِ هُمَا حَسّانُ بنُ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ وَمِسْطَح، وَعَلَى امْرأةٍ هِيَ حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ لأُخْتُ زَوْجَتِهِ زَيْنَبَ بِنتِ جَحْشٍ، فَضَرَبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُم ثَمَانِينَ جَلْدَةً).
وَمَعْنَى الآيَةِ: إِنًَّ الذينَ جَاؤوا بِحَديثِ الإِفْكِ، وَهُوَ الكَذِبُ والبُهْتَانُ وَالافْتِرَاءُ، هُمْ جَمَاعَةٌ مِنْكُم (عُصْبَةٌ) فَلا تَحْسَبوا أَنَّ فِي ذَلِكَ شَرّاً لَكُمْ وَفِتْنَةُ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ، فَهُوَ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الدُّنْيَا، وَرَفْعَةُ مَنَازِلَ فِي الآخِرَةِ، وَإِظْهَارُ شَرَفٍ لَكُمْ بِاعْتِنَاءِ اللهِ تَعَالَى بِعَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنينَ، إِذْ أَنْزَلَ اللهُ بَرَاءَتَهَا فِي القُرْآنِِ. وَلِكُلِّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الأَمْرِ وَخَاضَ فِيهِ، وَرَمَى أَمَّ المُؤْمِنِينَ بَشَيءٍ مِنَ الفاحِشَةِ، جَزَاءُ مَا اجْتَرَحَ مِنَ الإِثْمِ، بِقَدَرِ مَا خَاضَ فِيهِ. فَمِنْهُمْ مَنْ تَكَلَّمَ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَمِعَ وَضِحِكَ سُرُوراً بِمَا سَمِعَ، وَمِنْهُم مَنْ كَانَ ذَنْبُهُ أَقَلَّ، وَبَعْضُهم مَنْ كَانَ ذَنْبُهُ أَكْبَرَ. والذِي تَوَلَّى مُعْظَمَ الإِثْمِ مِنْهُمْ (كِبْرَهُ) - وَهُوَ عَذَابٌ عَظِيمٌ عَلَى ذَلِكَ الإِفْكُ - أَقْبَحُ الكَذِبِ وأَفْحَشُهُ.
عُصْبَةٌ مِنْكُم - جَمَاعَةٌ مِنْكُم.
تَوَلَّى كِبْرَهُ - تَوَلَّى مُعْظَمُهُ.
(١٢) - يُؤَدِّبُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ المُؤْمِنِينَ فِي قِصَّةِ عَائشَةَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا، حَينَ أَفاضَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ الإِفِكِ، فَقَالَ تَعَالَى: هَلاَّ إِذْ سَمِعْتُمْ هَذَا القَوْلَ الذي رُمِيَتْ بِهِ أمُّ المُؤْمِنِينَ، فَقِسْتُمْ ذَلِكَ الكَلاَمَ عَلَى أَنْفُسكُم، فَإِذَا كَانَ لاَ يَلِيقُ بِكُمْ، فَأُمُّ المُؤْمِنِينَ أَوْلَى بالبَرَاءَةِ مِنْهُ، بِالأَحْرَى وَالأَوْلَى.
وَقَالَ تَعَالَى: هَلاَّ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ الخَيْرَ، فَأُمُّ المُؤْمِنِينَ أَهْلُهُ وَأَوْلَى بِهِ، وَهَلاَّ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ هَذَا كَذِبٌ ظًاهِرٌ عَلَى أُمِّ المُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ الذي وَقَعَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يُريبُ، وَذَلِكَ أَنَّ عَائِشَةَ جَاءَتْ رَاكِبَةً جَهْرَةً عَلَى رَاحِلَةِ صِفْوَانِ بنِ المُعَِّطلِ السلمِي، فِي وَقْتِ الظَهِيرَةِ، والجَيْشُ بِكَامِلِهِ يُشَاهِدُ ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ مَعَهُمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفِي كُلَّ شُبْهَةٍ وَشَكٍّ، وَلَوْ كَانَ فِي الأَمْرٍ مَا يُرْتَابُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا جَهْرَةً.
(وَرَوْيَ أَنَّ أَبَا أَيُّوب الأَنْصَارِيَّ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ أَيُّوبٍ: يَا أَبَا أَيُّوبٍ أَمَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟ قال: نَعَمْ وَذَلِكَ الكَذِبُ. أَكُنْتِ فَاعِلَةً ذَلِكَ يَا أَُمَّ أَيُّوبٍ؟ قَالَتْ: لاَ واللهِ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَهُ، فَقَالَ: فَعَائِشَةُ واللهِ خَيْرٌ مِنْكِ).
(وَقِيلَ إِنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي أبي أَيُّوبٍ حَينَ قَالَ مَا قَالَ لَزَوْجَتِهِ أُمِّ أَيُّوبٍ).
(١٣) - هَلاَّ جَاءَ الخَائِضُونَ فِي الإِفْكِ بِأَرْبَعَةَ شُهُودٍ عَلَى ثُبُوتِ مَا قَالُوا، وَمَا رَمَوْها بِهِ، فَإِذا لَمْ يَأْتِ هَؤُلاءِ المُفْسِدُونَ بالشُّهَدَاءِ لإِثَْبَاتِ مَا قَالُوا فَهُمْ كَاذِبُونَ فِي حُكْمِ اللهِ تَعَالَى وَشَرْعِهِ.
(١٤) - وَلَوْلاَ تَفَضُّلُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْكُم بِبَيَانِ الأَحْكَامِ، وَلَوْلاَ رَحْمَتُهُ بِكُمْ فِي الدُّنْيَا بِعَدَمِ التَّعْجِيلِ بِالعُقُوَبَةِ، وَفِي الآخِرَةِ بِالمَغْفِرَةِ، لَنَزَلَ بِكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ بِسَبَبَ الخَوْضِ فِي هَذِهِ التُّهْمَةِ أَفَضْتُمِ فِيهِ - خُضْتُمْ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ الإِفْكِ.
(وَفِي الحَدِيثِ: " إِنَّ الرَّجُلَ لِيَتَكَلَّمُ بِالكَلِِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لاَ يَدْرِي مَا تَبْلُغُ يَهْوِي بِهََا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بِيْنَ السَّماءِ والأَرْضِ ")، (رواهُ مسلمٌ والبخاري).
تَحْسَبُونهُُ هَيِّناً - تَظُنُّونَهُ سَهْلاً لاَ تَبِعَةَ فِيهِ.
(١٦) - وَكَانَ يَنْبَغِي عَلَيْكُمْ عِنْدَ سَمَاعِ مَا أَشَاعَهُ المُنَافِقُونَ مِنْ حَدِيثِ الإِفْكِ والكَذِب والافْتِرَاءِ عَلَى أَمِّ المُؤْمِنِينَ الطَاهِرَةِ، أَنْ تَنْصحُوا بِعَدَمِ الخَوْضِ فِيهِ لأَنَّهُ غَيْرُ لاَئِق بِكُمْ، وأَنْ تَتَعَجَّبُوا مِنْ اخْتِرَاعِ هَذَا النَّوْعِ، مِنْ الكَذِبِ والبُهْتَانِ، وأَنْ تَقُولُوا: لاَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَفَوَّهَ بِهَذًَا الكَلاَمِ، وَلاَ أَنْ نَذْكُرَهُ لأَحَدٍِ تَنَزَّهَ اللهُ رَبُّنَا أَنْ يَقَالَ هَذَا الكَلامَُ، عَلَى ابنةِ الصِّدِّيقِ زَوْجَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَمَا هُوَ إِلاَّ كَذِبٌ وَبُهَتَانٌ، وَإِنَّنا لَنَبْرَأُ إِلَى اللهِ رَبِّنَا مِنْهُ، وَمِنْ كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُه أَنْ يَكُونَ الوَسِيلةَ فِي انْتِشَارِ هَذَا القَوْلِ الكَاذِبِ بَيْنَ المُؤْمِنِينَ.
سُبْحَانَكَ - تَعَجُّبٌ مِن شَنَاعَةِ هَذَا الإِفْكِ.
بُهَتَانٌ - كَذِبٌ يُحَيِّرُ سَامِعَهُ لِفَظَاعَتِهِ.
(١٨) - وَيُنَزِّلُ اللهُ تَعَالَى لَكُمُ الآيَاتِ الدَّالَةَ عَلَى الأَحْكَامِ وَاضِحَةً جَلِيَّةَ، واللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَه، حَكِيمٌ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ.
(١٩) - إِنَّ الذين يَرْمُونَ المُحْصنَاتِ، وَبِخَاصَّةِ أُوْلَئِكَ الذين يَتَجِرَّؤوُنَ عَلَى رَمِي بَيْتِ النُّبُوَّةِ الكَرِيمِ، إِنَّمَا يَعْمَلُونَ عَلَى زَعْزَعَةِ ثِقَةِ الجَمَاعَةِ المُسْلِمَةِ بالخَيْرِ والعِفَّةِ، وَعَلَى إِزَالَةِ التَّحَرُّجِ مِنْ ارْتِكَابِ الفَاحِشَةِ، وَذَلِكَ، عَنْ طَرِيقِ الإِيْحَاءِ بأَنَّ الفَاحِشَةَ شَائِعَةٌ فِيهَا، وَبِذَلِكَ تَشِيعٌ الفَاحِشَةُ فِي النُّفُوسِ، ثُمَّ تَشِيعُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الوَاقِعِ، فَهَؤُلاءِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ عَنْدَ اللهِ: فِي الدُّنْيَا بِإِقَامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِم، واللَّعْنِ والذَّمِّ مِنَ النَّاسِ، وَفِي الآخِرَةِ بِعَذَابِ النَّارِ. وَمَنْ ذا الذي يَرَى الظَّاهِرَ والبَاطِنَ، وَلاَ يَخْفَى عَلَيْه شَيءٌ غَيْرُ اللهِ تَعَالَى العَلِيمِ الخَبِيرِ؟ فَرُدُّوا الأُمُورَ إِلَى الله تَرْشُدُوا، وَلا َ تَْروُوا مَا لاَ علْمَ لَكُمْ بِهِ.
(٢١) - يَأْمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِأَلاَّ يَتَّبعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَسَالِكَهِ، وَمَا يَأْمُرُ بِهِ أَوْلِيَاءَهُ، والشَّيْطَانُ إِنَّمَا يَأْمُرُ أَوْلِيَاءَهُ بِفِعْلِ الفَاحِشَةِ وإِشَاعَتِهَا وارْتِكَابِ المُنْكَرَاتِ، فَمَنْ اتَّبَعَ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ جَرَّهُ إِلى ارْتِكَابِ هَذِهِ المُوبقَاتِ. وَلَوْلاَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَرْزقُ مَنْ يَشَاءُ التَّوْبَةَ، والرُّجُوعَ إِلَيْهِ، وَيُزَكِّي بِهَا النُّفُوسَ وَيُطَهِّرُهَا مِنْ شِرْكِهَا وَفُجُورِهَا وَدَنسِها، لَمَ تَطَهَّر مِنْكُم أَحَدٌ مِنْ ذَنْبِهِ، وَلَكَانَتْ عَاقِبَتُهُ النَّكَالَ والوَبَالَ، وَلَعَاجَلَكُم بالعُقُوبَةِ، وَلَكِنَّ الله تَعَالَى يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ، واللهُ سَمِيعٌ لأَقْوَالِ العِبَادِ، عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ مِنْهُم الهِدَايَةَ فَيَهْدِيِهِ.
خُطُوَات الشَّيْطَانِ - طُرُقهُ وَمَذَاهِبُهُ وَآثَارُهُ.
الفَحْشَاءُ - ما عَظُمَ قُبْحُهُ مِنَ الذُّنُوبِ.
المُنْكَرُ - مَا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ.
مَا زَكَى - مَا تَطَهَّرَ مِنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ.
(٢٢) - وَلاَ يَحْلِفِ القَادِرُونَ مِنْكُم عَلَى الإِنْفَاقِ والإِحْسَانِ (أُولُوا الفَضْلِ)، والذينَ يَجِدُونَ سَعَةً فِي الرِّزْقِ، عَلَى أَنْ لاَ يَصِلُوا أَقْرَبَاءَهُمْ المَسَاكِينَ والمَهَاجِرِينَ، وَلَيَصْفَحُوا عَنْهُم، وَلْيَعْفُوا عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْهُمْ مِنْ الإِسَاءَةِ والأَذَى، فَاللهُ تَعَالَى يَجْزِيهِمْ بِصَفْحِهِمْ عَنْ أَذَى ذَوِي قُرْبَاهُمْ المَسَاكِينَ، وَعَلَى إِحْسَانِهِمْ إِلَيْهِمْ، بالعَفُوِ والمَغْفِرَةِ. فَإِذَا كُنْتُمْ تُحِبُّونَ أَنْ يَعَفُو رَبُّكُم عَنْ سَيِّئَاتِكُم، فَافْعَلُوا مَعَ المُسِيءِ إِلَيْكُم مِثْلَمَا تُحِبُّونَ أَنْ يَفْعَلَ بِكُمْ رَبُّكُم، وَتَأَدَّبُوا بِأَدَبِهِ تَعَالَى، فَهُوَ وَاسِعُ المَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ.
(نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ حِينَمَا أَقْسَمَ عَلَى أَنْ لاَ يُنْفِقَ عَلَى ابنِ خَالَتِهِ مِسْطَحِ بنِ أُثَاثَةَ، وَهُوَ مِنْ فُقَرَاءِ المُهاجِرِينَ لِمَا خَاضَ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ الإِفْكِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: (بَلَى وَاللهِ إِنَّا نُحِبُّ أًَنْ تَغْفِرَ لَنَا يَا رَبّ). ثُمَّ عَادَ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِنْفَاقِ عَلَى مِسْطَحٍ).
أوْلُوا الفَضْلِ - أَصْحَابُ الزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ.
السعَةِ - الغَنِى.
(٢٣) - يَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى الذينَ يَتَّهِمُونَ بِالفَاحِشَةِ النِّسَاءَ العَفِيفَاتِ (المُحْصَنَاتِ) الغَافِلاتِ عَنْهَا، المُؤْمِنَاتِ (وَمِنْ بَابِ أوْلَى أُمَهَاتِ المُؤْمِنِينَ)، وَيَقُولُ لَهُمْ: إِنَّهُمْ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وَإِنَّهُ تَعَالَى أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً عَظِيماً يَوْمَ القِيَامَةِ إِذَا لَمْ يَتُوبُوا فَإِذَا تَابُوا قُبِلَتْ تَوْبَتُهمْ.
المُحْصَناتُ - العَفِيفَاتُ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ فِي تَفَسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: إِنَّ المُشْرِكِينَ حِينَ يَرَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلاَّ أَهْلُ الإِيْمَانِ والصَّلاَةِ، يَقُولُونَ: تَعَالوا نَجْحَدْ، وَنُنْكِرْ مَا كَانَ مِنَّا، فَيْجْحَدُونَ، فَيَخْتِمُ اللهُ عَلَى أَفْوَاهِهِم وَتَشْهِدُ عَلَيْهِمْ أَيْدِيهم وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَجْتَرِحُونَ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً.
(٢٥) - وَفِي ذَلِكَ اليَوْمٍ يُوَفِّيهمُ اللهُ تَعَالَى جَزَاءَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ بالتَّمَامِ والكَمَالِ (دِينَهُمُ الحَقَّ)، وَحِينَئذٍ يَعْلَمُونَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ، وَوَعِيدَهُ حَقٌّ، وَحِسَابَه هُوَ العَدْلُ الذي لاَ جَوْرَ فِيهِ، وَيَزُولُ عَنْهُمْ كُلُّ شَكٍّ وَرَيْبٍ أَلَمَّ بِهِمْ فِي الدًارِ الدُّنْيَا.
دينَهُمُ الحَقَّ - جَزَاءَهُمُ الثَّابِتَ لَهُمْ بالعَدْلِ.
(٢٦) - النِّسَاءُ الخَبِيثَاتُ يَكُنَّ للرِّجَالِ الخَبِيِثِينَ، والخَبِيثُونَ مِنَ الرِّجَالِ يَكُونُونُ لِلخَبِيثَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، والطَّيِّبُونَ مِنَ الرِّجَالِ يَكُونُونَ للطِّيِّبَاتِ مِنَ النِّسَاءِ، والطَّيِّبَاتُ مِنَ النِّسَاءِ يَكُنَّ للطِّيِّبِينَ مِنَ الرِّجَالِ، لأَنَّ المُجَانِسَةَ مِنْ دَوَاعِي الالْفَةِ، فَمَا كَانَ اللهُ تَعَالَى لِيَجْعَلَ عَائِشَةَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا، إِلاَّ وَهِيَ طَيِّبَةٌ، لأَنَّهُ ﷺ أَطْيَبُ خَلْقِ اللهِ، وَلَوْ كَانَتْ خَبِيثَةً لمَا صَلَحَتْ لَهُ شَرْعاً وَلاَ قَدَراً.
والطَّيِّبُونَ والطَّيِّبَاتُ بِعِيدُونَ عَمَّا يَقُولُه أَهْلُ الإِفْكِ، مُبَرَّؤونَ مِنَ التُّهَمِ التي يَصِفُهُمْ بِهَا الخَبِيثُونَ، وَلَهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ بِسَبَبِ مَا قِيلَ فِيهِمْ مِنَ الكَذِبِ، وَلَهُمْ عِنْدَ اللهِ جَنَّاتُ النَّعِيمِ، والرِّزْقُ الكَرِيمُ.
(وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الخَبِيثَاتِ مِنَ الكَلِمَاتِ والأًقْوَالِ لاَئِقَاتٌ بالخَبِيثينَ مِنَ الرِّجَالِ الذينَ يَتَفَوَّهُونَ بِهَا).
(٢٧) - يُؤَدِّبُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ فَيَأْمُرُهُم بِأَلاَّ يَدْخُلُوا بُيوتاً غَيْرَ بُيُوتِهِمْ حَتَّى يَسْتَأْذِنُوا قَبْلَ الدُّخُولِ (يَسْتَأنِسُوا)، وَيُسَلِّمُوا بَعْدَ الاسْتِئْذَانِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَأَذِنُوا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فَإِذَا أُذِنَ لَهُمْ دَخُلُوا وَإِلاَّ انْصَرَفُوا، فَالاسْتِئْذَانُ خَيْرٌ لِلمُسْتَأذِنِ وَلأَهْلِ البَيْتِ، فالبيْتُ سَكَنٌ يَفِيُْ إِلَيْهِ النَّاسُ فَتَسْكُنُ أَرْوَاحُهُمْ، وَيَطْمَئِنُّونَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ وَحُرَمَاتِهِم، وَيُلْقُونَ عَنْهُمْ أَعْبَاءَ الحِرْصِ والحَذَرِ المُرْهِقَةِ للنُّفُوسِ والأَعْصَابِ، والبُيُوتُ لاَ تَكُونُ كَذَلِكَ إِلاَّ تَكُونُ حَرَمَاً آمِناً لاَ يَسْتَبِيحُهُ أَحَدٌ إِلاَّ بِعِلمِ أَهْلِهِ وإِذْنِهِمْ فِي الوَقتِ الذي يُرِيدُونَ هُمْ.
(وَكَانُوا فِي الجَاهِليَّةِ يَدْخُلُونَ بِدُونِ اسْتِئْذَان) ثُمَّ يَقُولُونَ لَقَدْ دَخَلْنَا).
أزْكَى لَكُمْ - أطْهَرُ لَكُمْ مِنْ دَنَسِ الرِّيبَةِ والدَّنَاءَةِ.
(٢٩) - وَلاَ بَأسَ عَلَيْكُم أَيَّها المُؤْمِنُونَ فِي أَنْ تَدْخُلوا بُيوتاً غَيْرَ مُعَدَّةٍ لِسُكْنَى قَوْمٍ مُعَيِّنِينَ، وَلَكُمْ فِيها مَتَاعٌ، كالحَمَّامَاتِ، والفَنَادِقِ، والخَانَاتِ المُعَدَّةِ لاْسْتِِقْبَالِ العَامَّةِ، فَإِذَا أُذِنَ لِلزَّائِرِ أَوَّلَ مَرَّةٍ كَفَى، وَرَقَابَتهُ عَلَى سَرَائِرِكُم وَعَلاَنِيتِكم، وَفِي هَذِهِ الرَّقَابَةِ ضَمَانَةٌ لِطَاعَةِ القُلُوبِ وامْتِثَالِهَا للأَدَبِ الذي يُؤْدِّبُها بِهِ الله.
جُنَاحٌ - جُرْمٌ أَوْ إِثْمٌ أو حَرَجٌ.
مَتَاعٌ لَكُمْ - مَنْفَعَةٌ لَكُمْ وَمَصْلَحَةٌ.
(٣٠) - يَأْمُرُ اللهُ عِبَادَه المُؤْمِنِيِنَ بِأَنْ يَغُضُوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِم، فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ وَقَعَ البَصَرُ عَلَى مُحَرِّم عَلَيْهِمْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَعَلى المُؤْمِن أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ بَصَرَهُ سَرِيعاً، كَمَا يَأَمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِحِفْظِ فُرُوجِهم عَنِ الزِّنَى، وبِحِفْظِها مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا، فَذَلِكَ أَطْهَرُ لِقُلُوبِهِمْ وَأَزَكَى لِدِيِنهِم.
(وَفِي الحَدِيثِ، " احْفَظْ عَوْرَتَكَ إٍِلاَّ مِنْ زَوْجِكَ أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ").
(أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ).
يَغْضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ -يَكُفُّوا نَظَرَهُمْ عِنِ المُحَرَّمَاتِ.
(٣١) - وَقُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلمُؤْمِنَاتِ أَنْ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبَصَارِهِنَّ عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَا لاَ يَحِلُّ لَهُنَّ النَّظَرُ إِلَيْهِ مِنْ عَوْرَاتِ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ، وأَنْ يَغْضُضْنَ بَصَرَهُنَّ عَنِ النَّظَرِ إِلى الرِّجَالِ الأَجَانِبِ عَنْهُنَّ، لأَنَّهُ أَوَلى بِهِنَّ وَأَلْيَقُ، وَأَنْ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ عَنْ الفَوَاحِشِ، وَعَمَّا لاَ يَحِلُّ لَهُنَّ، وَعَنْ أن، ْ يَراهُنَّ، أَحَدٌ، وَأَنْ لاَ يُظْهِرْنَ شَيئْاً مِنَ الزِّينَةِ للأَجَانِبِ إِلاَّ مَا لاَ يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهُ كالرِّدَاءِ والثِّيَابِ والخلخَالِ (وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: الوَجْهِ والكَفَّيْنِ والخَاتَمِ)، وأَنْ يُلْقِينَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى فَتْحَاتِ ثِيَابِهِنَّ عِنْدَ الصُّدُورِ (جُيُوبِهِنَّ) لِيَسْتُرْنَ بِذَلِكَ شُعُورَهُنَّ وَأَعْنَاقُهُنَّ وَصُدُورَهُنَّ حَتَّى لاَ يُرى مِنْهَا شَيءٌ، وَأَنْ لاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ (كالسِّوارِ والخَاتَمِ والكُحْلِ والخِصَابِ...) إِلاَّ للأَزْوَاجِ وآبَاءِ الأَزْوَاجِ والإخْوَةِ وأَبْنَائِهِمْ، وَأبْنَاءِ الأَخَوَاتِ، وأَبْنَاءِ الأَزْوَاجِ، وَبَقِيةِ المَحَارِمِ الذينَ عَدَّدهُمْ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ، أو لِلنِّسَاءِ المُسْلِمَاتِ (نِسَائِهِنَّ - وَقِيلَ إِنَّ نِسَاءَهُنَّ تَعْنِي النِّسَاءَ المَخْتَصَّاتِ بِصُحْبَتِهِنَّ وخِدْمَتِهِنَّ)، أو لِمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ مِنْ عَبِيدَ مُسْلِمِينَ (وَقِيلَ حَتَّى لِغَيْرِ المُسْلِمِينَ)، أو الأتْبَاعِ المُغَفَّلِينَ وَفِي عُقُولِهِمْ وَلَهٌ، وَلاَ يَشْتَهُونَ النِّسَاءَ (وَهُمْ التَّابِعُونَ غَيْرُ أوْلِي الإِرْبَةِ مِن الرِّجَالِ)، أو لِلأَطْفَالِ الصِّغَارِ الذين لاَ يَفْهَمُونَ أَحْوَالَ النِّسَاءِ وَعَوْرَاتِهِنَّ، أَمَّا إذَا كانَ الطِّفْلُ مُرَاهِقاً أَوْ قَرِيباً مِنْهُ، يَعْرِفُ ذَلِكَ وَيَدْرِيهِ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الشَّوْهَاءِ والحَسْنَاءِ فَلاَ يُسْمَحُ لَهُ بالدُّخُولِ عَلَى النِّسَاءِ).
كَمَا أَمَرَهُنَّ بِأَنْ لاَ يَمْشِينَ فِي الطُّرُقَاتِ وَفِي أَرْجُلِهِنَّ الخَلاَخِيلُ فَيَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ الأَرْضَ ليُسمَعَ صَوْتُ مِشْيَتِهِنَّ، وَلِتَلْتَفِتَ الأَنْظَارُ إِلَيْهِنَّ، كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ نِسَاءُ الجَاهِلِيَّةِ.
(وَفِي الحَدِيثِ " الرَّافِلَةُ فِي الزَّيِنَةِ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا كَمِثْلِ ظُلْمَةِ يَوْمِ القِيَامَةِ "). (أَخْرَجَهُ الترْمَذِي).
وارْجِعُوا تَائِبينَ إِلَى طَاعَةِ اللهِ يا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ، وافْعَلُوا مَا أَمَرَكُمْ بِهِ ربُّكُم مِنَ التَّخَلُّقِ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الجَمِيلَةِ والأَخْلاقِ الحَمِيدَةِ، واتْرُكُوا مَا كَانَ عَلَيْهِ أهلُ الجَاهِلِيَّةِ مِنَ الصِّفَاتِ والأْخْلاقِ الذَّمِيمَةِ، فإِنَّ الفَلاَحَ فِي فِعْلِ ما أَمَرَ اللهَ وَرَسُولُه بِهِ، وَتَرْكِ مَا نَهَيا عَنْهُ.
زِينَتَهُنَّ - مَوَاضِعَ زِينَتِهِنَّ مِنَ الجَسَدِ.
ظَهَرَ مِنْهَا - الوَجْهُ والكفَّانِ والقَدَمَانِ.
ولْيَضْرِبْنَ - وَلْيُلْقِينَ وَيُسْدِلْنَ.
بِخُمُرْهِنَّ - أَغْطِيَةِ رُؤُوسِهِنَّ والمَقَانِعِ.
جُيُوبِهِنَّ - فَتَحَاتِ ثِيَابِهِنَّ عِنْدَ الصُّدُورِ.
نِسَائِهِنَّ - المُخْتَصَّاتِ بِخَدْمَتِهِنَّ وَصُحْبَتِهِنَّ.
أُولِي الإرْبَةِ - أصْحَابِ الحَاجَةِ إِلَى النِّسَاءِ.
لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ - لَمْ يَبْلُغوا حَدَّ الشَّهْوَةِ.
(٣٢) - يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى بِمَدِّ يَدِ المُسَاعَدَةِ، بِكُلِّ الوَسَائِلِ، لِمَنْ أَرَادَ التَّزَوُّجَ، وَلاَ زَوْجَ لَهُ مِنَ الأَحْرَارِ والحَرَائِرِ (الأَيَامَى مِنْكُم - والأَيِّمُ هُوَ مَنْ لاَ زَوْجَ لَهُ ذَكَراً أَوْ أَنْثَى) القَادِرِ عَلَى النِّكاحِ، والقِيَامِ بِحُقُوقِ الزَّوْجيَّةِ، مِنَ الصَّحَّةِ والمَالِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: رَغَّبَهُم اللهُ فِي التَّزَوُّجِ وأَمَرَ بِهِ الأَحْرَارَ والعَبيدَ، وَوَعَدَهُم عَلَيْهِ الغَنِى (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهم اللهُ) واللهُ واسِعُ الفَضْلِ، عَلِيمٌ بِمَصَالِحِ العِبَادِ.
أَنْكَحُوا الأَيَامَى - زَوَّجُوا مَنْ لاَ زَوْجَ لَهَا، وَمَنْ لاَ زَوْجَةَ لَهُ.
(٣٣) - وَمَنْ لَمْ يَجِدْ سَبيلاً إِلى التَّزَوُّجِ، فإِنَّ الله يَأْمُرُهُ بالتَّعَفُّفِ عَن الحَرَامِ، إِلى أَنْ يَمُنَّ اللهُ عَلَيْهِ بِمَا يُمْكِّنُهُ مِنَ الزَّوَاجِ. وإِذَا طَلَبَ العَبْدُ مِنْ سِيِّدِهِ أَنْ يَكَاتِبَهُ عَلَى مَالٍ يُؤدِّيهِ إِليْهِ مِنْ كَسْبِهِ مُقَسَّطاً وَمْنجَّماً، فَإِنَّ اللهَ يَأْمُرُ سَيِّدَهُ بِأَنْ يُكَتِبَهُ. إِذَا قَدَّرَ أَنَّ لِلْعَبْدِ حِيلَةً، وَقُدْرَةً عَلَى الكَسْبِ، وأَمَانَةً وَصِدقاً.
(وَقِيلَ إِنَّ هَذَا الأَمْرَ أَمْرُ إِرْشَادٍ واسْتِحْبَابٍ لاَ أَمْرَ إِيْجَابٍ، فَإِنْ شَاءَ كَاتَبَهُ، وإِنْ شَاءَ لَمْ يُكَاتِبْهُ).
وَاخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللهِ الذِي آتاكُم﴾. والأَكْثَرُونَ مُتِّفِقُونَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: اطْرَحُوا لَهُمْ مِنَ الكِتَابَةِ بَعْضَها.
وَقَالَ آخَرُونَ بَلِ المَقْصُودُ هُوَ النَّصِيبُ الذي فَرَضَ اللهُ لَهُمْ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ. وَعَلى كُلٍّ فَإِنَّ الله تَعَالَى قَدْ حَثَّ جَمِيعَ المُؤْمِنِينَ عَلَى عَتْقِ الرِّقَابِ، والإِعَانَةِ فِي تَحْرِيرِهَا.
(وَجَاءَ فِي الحَدِيثِ: " ثَلاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللهِ عَوْنُهُمْ: المُكَاتبُ الذي يُريِدجُ الأَداءَ، والنَّاكِحُ يُرِيدُ العَفَافَ، والمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ "). (رَوَاهُ أحْمَد والتِّرمذِيُّ).
وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ إِذَا كَانَ لأَحَدِهِمْ أَمَةٌ أَرْسَلَهَا تَزنِي، وَجَعَلَ عَلَيْهَا ضَرِيبَةً َأْخُذُهَا مِنْهَا كُلَّ وَقْت، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلامُ نَهَى اللهُ المُؤْمِنِينَ عَنْ ذَلِكَ.
وَكَانَ عَبْدُ اللهِ بنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ لَهُ إِمَاءُ يُكْرِهُهُنَّ عَلَى البِغَاءِ طَلَباً لِِخَرَاجِهِنَّ، وَرَغْبَةً في أَوْلاَدِهنَّ، وَكَانَ بَعْضُ هَؤُلاءِ الإِمَاءِ يَأْبَيْنَ ذَلِكَ، وَشَكَوْنَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ فِيهِ. فَهُنَّ يُرِدْنَ التَّعَفُّفَ، وَهُوَ يُريدُ إِكْرَاهَهُنَّ لِيُحَصِّلَ خَرَاجَهُنَّ وَمَهُورَهُنَّ وَأَوْلاَدَهُنَّ.
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: إِذَا أَكْرَهَهُنَّ سَادَتهُنَّ عَلَى البِغَاءِ فإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ يَغْفِرُ لَهُنَّ إِثْمَهُنَّ، وَيَكُونُ الإِثْمُ عَلَى مَنْ أَكْرَهَهُنَّ.
وَيَقُولُ تَعَالَى: لاَ تُكْرِهُوا إِمَاءِكُمْ عَلى البِغَاءِ التِمَاساً لَعَرَضِ الدُّنْيَا، فَالزِّنَى عَمَلٌ قَبِيحٌ شَنِيعٌ، فَإِنَّ ذَا المُرُوءَةِ لاَ يَرْضَى بِفُجُورِ مَنْ يَحْوِيهِ بَيْتُهُ، فَكَيْفَ يَرْضَى شَهْمٌ عَاقِلٌ أَنْ يُكْرِهَ أَمَتَهُ عَلَى الزِّنَى وَهِيَ تُرِيدُ التَّعَفُّفَ والتَّحَصُّنَ؟
يَبْتَغُونَ الكِتَابَ - يَطْلُبُونَ عَقْدَ المُكَاتَبةِ المَعْرُوفَ.
فَتَيَاتِكُم - إِمَاءَكُمْ.
البِغَاءُ - الزِّنَى.
تَحًصُّّناً - تَعَفُّفاً وَتَصَوُّناً عَنِ الزِّنى.
(٣٤) - يَقُولُ اللهُ تَعَالَى إِنَّهُ أَنْزَلَ القُرآنَ وَفِيهِ آياتٌ مُبَيِّنَاتٌ لِمَا أَنْتُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ مِنَ الأَحْكَامِ والشَّرْعِ، كَمَا أَنْزَلَ فِيهِ قصَصاً تَحْوِي أَخْبَارَ الأُمَمِ الغَابِرَةِ، وَفِيهِ عِظَةٌ لِمَنِ اتَّقَى اللهَ وَخَافَهُ.
(٣٥) - اللهُ تَعَالَى هَادٍ أََهْلِ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ بِمَا نَصَبَ مِنَ الأَدِلَّةِ فِي الأَنْفُسِ والآفَاقِ، وَبِمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رُسُلِهِ مِنَ البَيِّنَاتِ، فَهُمْ يَهْتَدُونَ إِلى الحَقِّ بِنُورِهِ، وَبِهِ يَنْجونَ مِنْ حيرَةِ الشَّكَّ والضَّلالِ. وَمَثَلُ الأَدِلَّةِ التي بَثَّهَا اللهُ فِي الآفَاقِ، والتي أَنْزَلَهَا عَلَى رُسُلِهِ، فَهَدَى مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، كَمَثَلِ النُّورِ الثَّاقِبِ المُنْبَعِثِ مِنْ سِرَاجٍ ضَخْمٍ (مِصْبَاح) مَوْضُوعٍ فِي كُوَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ مِنْ جِدَارٍ (مِشْكَاةٍ)، والمِصْبَاحُ يَقُومُ فِي قِنْدِيلٍ مِنْ زُجَاجٍ أَزْهَرَ صَافٍ (زُجَاجَةٍ)، وَهَذِهِ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ ضَخْمٌ مَضِيءٌ مِنْ دَرَارِي النُجُومِ ذَاتِ اللَّمَعَانِ الشَّدِيدِ، وَقَدْ رُوِّيَتْ فَتِيلَةُ هَذَا المِصْبَاحِ بِزَيْتٍ صَافٍ جِداً يُسْتَخْرَجُ مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةِ زَيْتُونٍ كَثِيرَةِ الخَيْرِ والمَنَافِعِ (مُبَارَكَةٍ)، زُرِعَتْ عَلَى جَبَلٍ عَالٍ، أَوْ فِي صَحْرَاءَ وَاسِعَةٍ، فَهِيَ مُعَرَّضَةٌ للشَّمْسِ، لاَ يُظِلُّها جَبَلٌ، وَلاَ يَحْجُبُ نُورَ الشَّمْسِ عَنْهَا شَيءٌ، مِنْ طَلُوعِ الشَّمُسِ، حَتَّى غُرُوبِهَا (وَمِثْلُ هَذِهِ الزَّيْتُونَة يَكُونُ زيْتُها أَشَّدَّ مَا يَكُونُ الزَّيْت صَفَاءً).
(وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبيَّةٍ، إِنَهَا لاَ شَرْقِيَّةٌ فَحَسْبُ، فَتَقَعُ عَلَيْهَا الشَّمْسُ مِنْ جِهَتِها الشَّرْقِيَةِ فَحَسْبُ، وَلاَ تُصِيبُها مِنْ طَرَفِهَا الغَرْبِيِّ، كَذَلِكَ لَيْسَتْ هِيَ غَرْبِيَّةً فَحَسْبُ، وَإِنَّمَا تُصِيبُها الشَّمْسُ طُولَ النَّهَارِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَتَّى مَغِيبها، وَمِنْ جِمِيعِ جِهَاتِهَا).
وَهَذَا الزِّيْتُ يَكَادُ يُضِيءُ بِنَفْسِهِ لِشِدَّةِ صَفَائِهِ، وَلَوْ لَمْ تَمْسَسهُ نارٌ، فَإِذَا أُشْعِلَ اجْتَمَعَ نُورُ الزَّيْتِ، وَنُورُ النَّارِ فِيهِ وَأَضَاءَا مَعاً (نورٌ عَلَى نُورٍ).
وَكَذَلِكَ قَلْبُ المُؤْمِنِ يَعْمَلُ بالهُدَى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيهِ العِلْمُ، فَإِذَا جَاءَهُ العِلْمُ ازْدَادَ نُوراً على نُورٍ، وَهُدى عَلَى هُدىً، وَاللهُ يُرْشِدُ مَنْ يَشَاءُ إِلى الصَّوَابِ بالنَّظَرِ والتَّدَبُّرٍ، وَلِيدرِكُوا بِهَا مَعَانِي مَا أَرَادَ اللهُ. واللهُ تَعَالَى عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الهِدَايَةَ فَيَهْدِيهِ، وَبِمَنْ يَسْتَحِقُّ الضَلاَلَ فَيُضِلُّهُ.
اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ والأًَرْضِ ٠ مُنَوِّرُهَمَا َأَوْ هَادِي أًَهْلِهمَا.
المِشْكَاةُ - الكُوَّةُ غَيْرُ النَّافِذَةِ فِي الجِدَارِ.
مِصْبَاحٌ - سِرَاجٌ ضَخْمٌ ثَاقِبٌ.
زُجَاجَةٌ - قِنْدِيلٌ مِنَ الزُّجَاجِ صَافٍ أَزْهَرُ.
كَوْكَبٌ دُرِّيٌ - مُتلألِئٌ صَافٍ.
في بُيُوتٍ - المَسَاجِدِ كُلِّها.
أَنْ تُرْفَعَ - أَنْ تُعَظَّمَ وَتَطَهَّر أو تُشَادَ.
بالغُدُوِّ والآصَالِ - أَولِ النَّهَارِ وآخِرِهِ.
(٣٧) - وَهَؤُلاءِ الرِّجَالُ، الذينَ يَعْمُرُونَ بُيُوتَ اللهِ، هُمُ رِجَالٌ أَصْحَابُ هِمَمٍ وَعَزَائِمَ لاَ يُلْهِيهِمْ شَيءٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ، وإِقَامِ الصَّلاَةِ: لاَ تِجَارَةٌ، وَلاَ بَيْعٌ، وَلاَ تَشْغَلُهُم الدُّنْيا وَزُخْرُفُهَا، وَزِينَتُها، وَمَلاذُّهَا، وَلاَ بَيْعُها، ولاَ رِبْحُها.. عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الذي عَنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُمْ وأَنْفَعُ مِمَا بِأَيْدِيهِمْ، وَهُمْ يُقَدِّمُونَ طَاعَةَ رَبِّهِمْ وَمَحَبَّتَه عَلَى مُرَادِهِم وَمَحَبَّتِهِمْ، فَلاَ شَيءَ يُلْهِيهِم عَنْ أَنْ يُؤدُّوا الصَّلاَةَ فِي وَقْتِهَا، لأَنَّهُمْ يَخَافُونَ يَومَ القِيَامَةِ الذي تتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأَبْصَارُ مِنْ شِدَّةِ الفَزَعِ، وَعِظَمِ الهَوْلِ.
بِغَيْرِ حِسَابٍ - بَلاَ نِهَايِةٍ لِمَا يُعْطِي، أَو بِتَوَسُّعٍ.
(٣٩) - وَيَضْرِبُ اللهُ تَعَالَى مَثَلاً للأَعْمِالِ الصَّالِحَةِ التِي يَعْمَلُها الذينَ كَفَرُوا بِاللهِ، وَكَذَّبُوا رُسُلَه، وَجَحَدُوا كُتَبَه، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنْ أَعْمَالَهم تَنْفَعُهم يَوْمَ القِيَامَة، وَتًنْجِيهِم مِنْ عَذَابِ اللهِ، ثُمَّ تَخِيبُ فِي النَّتِيِجَةِ آمَالُهْم، وَيَجْدونَ خَلافَ ما قَدَّرُوا. فَيُشَبِّهُ اللهُ تَعَالَى تِلْكَ الأَعْمَالَ بالسَّرَابِ الذي يَرَاهُ الظَّمْآنُ فِي القِيعَانِ مِنَ الأَرْضِ وَكَأنَّهُ بَحْرٌ طَام، مُعَلَّقٌ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، فَإِذَا رَأى السَّرَابَ مَنْ هُوَ مُحْتَاج إِلى المَاءِ حسِبَهُ مَاءً فَقَصَدَهُ لِيَشرَبَ مِنْهُ فَإِذا جَاءَهُ لَمْ يَجدْهُ شَيئاً. فَكَذَلِكَ الكَافِرُ يَحْسَبُ أَنَّهُ قَدْ عَمِلَ عَمَلاً يَنْفَعُهُ، وأَنَّهُ قَدْ حَصَّل شَيئاً فِي حَيَاتِهِ الدُّنْيَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْفَعَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ. فَإِذَا جَاءَ اللهَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَحَاسَبَهُ رَبُّهُ، وَنَاقَشَهُ فِي أَعْمَالِهِ لَمنْ يَجدْ لَهُ شَيْئاً مِنَ العَمَلِ مَقْبُولاً يَنْتَفِعُ بِهِ عِنْدَ اللهِ فَيُوفِّيِه اللهُ حِسَابَه، وَهُوَ العِقَابُ الذِي تَوَّعَدَ اللهُ بِهِ الكَافِرِينَ. واللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ لاَ يُبْطِى وَلاَ يُخْطِئُ.
السَّرَابُ - شُعَاعٌ يُرَى ظُهْراً فِي البِرِّ عَنْدَ اشْتِدَادِ الحَرِّ كَالمَاءِ السَّارِبِ.
القِيعَةِ - الأًَرْضِ المُنْبَسِطَةِ وَفِيهَا يَظْهَرُ السَّرَابُ.
(٤٠) - وَيَضْرِبُ اللهُ تَعَالَى مَثَلاً آخَرَ يُشَبِّهُ بِهِ أَعْمَالَ الكَافِرِينَ الصَّالِحَةِ، فَيَقُولُ إِنَّهَا تُشْبِهُ ظُلُمَاتِ البَحْرِ العِمِيقِ الوَاسِعِ، الذي تَتَلاَطَمُ أَمْوَاجُهُ عِنْدَ هِيَاجِهِ، وَيَعْلُو بَعْضَها فَوْقَ بَعْض، وَيُغَطِّيهَا سَحَابٌ كَثِيفٌ قَاتِمٌ يَحْجُبُ النُّورَ عَنْهَا فَهِذِهِ ظُلُمَاتٌ مُتَرَاكِمَةٌ لاَ يِسْتَطِيعُ رَاكِبُ البَحْرِ مَعَهَا أَنْ يَرَى يَدَهُ إِذَا أَخْرَجَهَا لِشِدَّةِ الظُّلْمَةِ. وَهُوَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ هَذِه الحَيْرَةِ مِنْ غَيْرِ نُورٍ يَهْدِيهِ فِي مَسِيرَتِهِ.
كَذِلِكَ الكَافِرُونَ لاَ يُفِيدُونَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلاَ يَخْرُجُونَ مِنْ عمَايَتِهِمْ وَضَلاَلِهِمْ، إِلاَّ بِنُورِ الإِيْمَانِ، وَمَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللهُ إِلى الإِيْمَانِ، وَإِلى الخَيْرِ فَلَيْسَ مَنْ يَهِدْيِهِ. وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَلَيْسَ لَهُ مِنْ تُورٍ.
(وَقِيلَ بَلْ إِنَّ المَقْصَودَ هُنَا بالظُّلُمَاتِ أَعْمَالُ الْكَافِرِينَ، وَبَالبَحْرِ اللُّجِّيِّ قُلُوبُهم التي غَمَرَهَا الجَهْلُ، وَتَغَشَّهْا الحَيْرَةُ والضَّلاَلَةُ، فَهِي لاَ تَعْقِلُ مَا فِي الكَوْنِ مِنْ آيَاتٍ وَحُجَجٍ وَعِظَاتٍ فَتِلْكَ ظُلُمَاتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ).
بَحْرٌ لُجِّيٌّ - عَمِيقٌ كَثِيرُ المَاءِ.
يَغْشَاهُ - يَعْلُوه وَيُغَطِّيهِ.
سَحَابٌ - غَيْمٌ يَحْجُبُ نُورَ السَّمَاءِ.
(٤١) - أَلَمْ تَعْلَمْ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ (وَهُمُ المَلاَئِكَةُ)، وَمَنْ فِي الأَرْضِ مَنَ البَشَرِ والدَّوَابِّ والجَمَادِ والنَّبَاتِ، وَتُسَبِّحُ لَهُ الطِّيْرُ فِي حَالِ طَيَرَانِهَا فِي أَجْوَاءِ الفَضَاءِ (صَافَّاتِ)، وَتَعْبُدُهُ وَهُوَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُهُ، وَقَدْ أَرْشَدَ اللهُ كُلَّ مَخْلَوقٍ إِلى طرِيقَتِهِ وَمَسْلَكِهِ فِي عِبَادَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاللهُ عَالِمٌ بِكُلِّ ذَلِكَ، لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ مِنْهُ، فَكَيْفَ يَكْفُرُ بِهِ هَؤُلاءِ الجَاحِدُون؟
صَافَّاتٍ - بَاسِطَاتٍ أَجْنِحَتَها فِي الهَوَاءِ.
(٤٢) - واللهُ تَعَالَى هُوَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، فَهُوَ الحَاكِمُ وَالإِلهُ المَعْبُودُ، الذي لاَ تَنْبَغِي العِبَادَةُ إِلاَّ لَهُ، وَلاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَإِلَيْهِ يَصِيرُ النَّاسُ جَمِيعاً يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُحَاسِبَهم عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَيَجْزِيَهُمْ عَلَيْهَا.
(٤٣) - أَلَمْ تَرَ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ كَيفَ يَسُوقُ اللهُ تَعَالى بِقُدْرَتِهِ السَّحَابَ بِالرِّيحِ أَوَّلَ مَا يُنْشِئُهُ (وَهُوَ الإِزْجَاءُ)، ثُمَّ يَجْمَعُهُ وَيَضُمُّ بَعْضَه إِلَى بَعْضٍ بَعْدَ تَفَرُّقِهِ (وَهُوَ التَّأَلِيفُ)، ثُمَّ يَجْعَلُهُ مُتَرَاكِماً يَرْكَبُ بَعْضُه بَعْضاً، فإِذَا أَثْقَلَ خَرَجَ المَطَرُ (الوَدْقُ) مِنْ خِلاَلِهِ، وَيَكُونُ السَّحَابُ فِي هَيْئَةِ الجِبَالِ الضَّخْمَةِ الكَثِيفَةِ فِيها قِطَعُ البَرَدَ والثَّلْجِ الصَّغِيرَةِ، ثُمَّ وَفْقَ نِظَامٍ قَدَّرَه اللهُ تَعَالَى، يُوَجِّهُ اللهُ السَّحَابَ إِلَى الأَمَاكِن التي يُرِيدُ لِيُفْرِغَ مَا فِيهِ مِنْ مَاءٍ وَبَرَدٍ وَثَلْجٍ، فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ، وَيَصْرِفُهُ عَمَّنْ يَشاءُ مِنْ خَلْقِهِ، وَيَخْرُجُ مِنْ خِلالِ السَّحَابِ البَرْقِ الذي تَكَادُ قُوَّةُ بَرِيقِهِ تَخْطَفٌ الأبْصَارَ، وَتَذْهَبُ بِهَا. وَهَذِهِ الظَّوَاهِرُ دَلاَلَةٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ المُوجِبَةِ للإِيْمَانِ بِهِ.
الوَدْقُ - مَاءُ المَطَرِ.
يُزْجِي سَحَاباً - يَسُوقُه بِرْفْقٍ إِلى حَيْثُ يُرِيدُ
يَجْعَلُهُ رُكاماً - مَجْتَمِعاً يَرْكَبُ بَعْضُه بَعْضاً.
سَنَا بَرْقِهِ - ضَوْءُ بَرْقِهِ وَلَمَعَانُهُ.
(٤٤) - وَاللهُ تَعَالَى يَتَصَّرفُ بِاللَّيْلِ والنَّهَارِ، فَيأخذُ مِنْ طُولِ هَذَا لِيُضِيفَ فِي قِصَرِ هَذَا حَتَّى يَعْتَدِلاَ، ثُمَّ يَتَتَابَعُ هَذَا التَّنَاوُبُ، فَهُوَ تَعَالَى المُتَصَرِّفُ بِذَلِكَ بِأَمْرِهِ وَقَهْرِهِ، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى عَظَمَةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ تَجْعَلُ ذَوِي الأَبْصَارِ والعُقُولِ المُدْرِكَة يُؤمِنُونَ بِاللهِ تَعَالَى.
(٤٦) - وَلَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى آيَاتٍ وَاضِحَاتٍ لِلدَّلاَلَةِ عَلَى طَرِيقِ الحَقِّ والرَّشَادِ، ولَكِنْ لاَ يَتَوصَّلُ إِلَى فَهْمِهَا إِلاَّ أُوتِي فَهْماً سَلِيماً وَبَصِيرَةً نَيِّرَةً، وَاللهُ يُرْشِدُ مَنْ يَشاءُ إِلى الطَّرِيقِ القَويمِ الذي لاَ عِوَجَ فِيهِ، طَرِيقِ الهُدَى والرَّشَادِ.
(٤٧) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ المُنَافِقِينَ الذين يُظْهِرُونَ خِلافَ مَا يُبْطِنُونَ، فَيَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ: آمَنَّا بِاللهِ وبِالرَّسُولِ، وأَطْعَنَا أمْرَهُمَا، ثُمَّ تُخَالِفُ أَعْمَالُهُمْ أَقْوَالَهُمْ فَيَفْعَلُونَ خِلافَ مَا يَقُولُونَ، لِذَلِكَ يَقُولُ تَعَالَى عَنْهُمْ: إِنَّ أولَئِكَ لَيْسُوا بالمُؤْمِنِينَ المُخْلِصينَ الثَّابِتِينَ عَلَى الإِيْمَانِ الصَّحِيحِ.
مُذْعِنِينَ - مُنَقَادِينَ مُطِيعِينَ.
(٥٠) - وَلاَ يَخْرُجُ سَبَبُ إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الاحْتِكَامِ إِلى كِتَابِ اللهِ، وَإِلَى رَسُولِ الله مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاحِداً مِنْ ثَلاثَةٍ.
- إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضُ الكُفْرِ والنِّفَاقِ.
- وَإِمَّ أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ أَنَّهُم ارْتَابُوا أَوْ شَكُّوا فِي نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السلامُ.
- وإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُهُ أَنَّهُمْ خَافُوا أَنْ يَجُورَ عَلَيهم اللهُ وَرَسُولَهُ فِي الحُكْمِ.
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى: وَلَكِنَّ الحَقِيقَةِ هِي أَنَّهُمْ لَمْ يَعْدِلُوا عَنْ الاحْتِكَامِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ إِلاَّ لأَنَّهُمْ مَرْضَى القُلُوبِ بِالْكُفْرِ والنِّفَاقِ، وَلأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ لأَنْفُسِهِمْ بِمُخالَفَتِهِمْ أَمْرَ رَبِّهِم الذي يَقْضِي عَلَى المُؤْمِنِينَ بالرِّضَا بِحُكْمِ اللهِ، وَحُكْمِ رَسُولِهِ فِيمَا أَحَبُّوا، وَفِيمَا كَرِهُوا، والتَّسْلِيمِ لِقَضَائِهِ ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ.﴾ أَنْ يَحِيفَ - أَنْ يَجُورَ.
(٥١) - أَمَّا المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ فَإِنَّهُمْ إِذَا دُعُوا إِلى اللهِ، وَإِلَى رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: سَمْعاً وَطَاعَةً للهِ وَلِرَسُولِهِ، وَهَؤُلاءِ الذينَ يَقُولُونَ هَذَا القَوْلَ، هُمُ المُفْلِحُونَ، لأَنَّهُمْ يَنَالُونَ مَا يَطْلبُونَ، وَيَسْلَمُونَ مِمَّا يَرْهَبُونَ.
(٥٢) - وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَا بِهِ، وَيَنْتَهِ عَمَّا نَهَيَا عَنْهُ، وَمَنْ يَخْشَ اللهَ فِيمَا صَدَرَ عَنْهُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَيَتَقَّهِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ والأَعْمَالِ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَالآمِنُونَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ.
(٥٣) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ النِّفَاقِ، الذينَ كَانُوا يَحْلِفُونَ للرَّسُولِ ﷺ عَلَى أَنَّهُ إِذَا أََمَرَهُمْ بالخُرُوجِ مَعَهُ إِلَى الغَزَاةِ لَيَخْرُجُنَّ مَعَهُ مُطِيِعينَ مُمْتْثِلِينَ. وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ الكَرِيمِ قُلْ لَهُمْ: لاَ تُقْسِمُوا، وَلاَ تَحْلِفُوا فَطَاعَتُكُمْ مَعْرُوفَةٌ، فَهِيَ قَوْلٌ لاَ فِعْلٌ، وَكُلَّمَا حَلَفْتُمْ كَذَبْتُم، وَاللهُ خَبِيرٌ بِكُمْ، وَبِمَنْ يُطِيعُ، وَبِمَنْ يَعْصِي، فالحَلْفُ وإِظْهَارُ الطَّاعَةِ إِذَا رَاجَا عَلَى المَخْلُوقِ، فَلاَ يَرُوجَانِ عَلَى الخَالِقِ، لأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي الضَّمَائِرِ، وَإِنْ أَظْهَرَ العِبَادُ خِلاَفَ مَا يُضْمِرُونَ.
جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ - مُجْتَهِدِينَ فِي الحَلْفِ بأَغْلَظِ الأَيْمَانِ.
طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ - طَاعَتُكُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ باللِّسَانِ.
(٥٤) - قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: أطِيعُوا الله، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ طَاعَةً صَادِقَةً، واتَّبِعُوا كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُوِلِهِ، فَفِي اتِّبَاعِهِمَا الهِدَايَةُ والرَّسَادُ، أَمَّا إِذَا تَوَلَّيْتُمْ وأَعْرَضْتُم وَتَرَكْتُم مَا جَاءَكُم بِهِ رَسُولُ اللهِ، فَعَلَى الرُّسُولِ إِبْلاَغُ الرِّسَالَةِ، وأَدَاءُ الأَمَانَةِ (عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ)، فَهِيَ مَا حَمَّلَهُ اللهُ، أَمَّا أَنْتُمْ فَقَدْ حُمِّلْتُمْ قَبُولَ ذَلِكَ، والإِيْمَانَ بِهِ وتَعْظِيمَهُ، والقِيَامَ بِمُقْتَضَاهُ، وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَبْلُغُوا الهِدَايَةَ لأَنَّهُ يَدْعُو إِلَى صِرَاطِ اللهِ المُسْتَقِيمِ، والرَّسُولُ مُكَلَّفٌ بِدَعْوَتِكُمْ وَإِبْلاَغِكُمْ.
مَا حُمِّلَ - مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ التَّبْلِيغِ.
مَا حُمِّلْتُمْ - مًَا أُمِرْتُمْ بِهِ مِنَ الطَّاعَةِ والانْقِيَادِ.
(٥٥) - هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ ﷺ بِأَنَّهُ سَيَجْعَلُ مِنْ أُمَّتِهِ خُلَفَاءَ فِي الأَرْضِ، وَأَئِمَّةً لِلنَّاسِ، وَأَنَّهُ سَيُبَدِّلُهُمْ بَعْدَ خَوْفِهِمْ مِنَ النَّاسَ أَمْناً وَحُكْماً فِيهِمْ. وَقَدْ أَمْضَى المُسْلِمُونَ عَشْرَ سِنِينَ فِي مَكَّةَ يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى الإِسْلاَمِ سِرّاً، وَهُمْ خَائِفُونَ لاَ يُؤْمَرونَ بِالقِتَالِ، حَتَّى أُمِرُوا بالهِجْرَةِ إِلَى المَدِينَةِ، وَأُمِرُوا بِالقِتَالِ، فَكَانُوا خَائِفِينَ يُمْسُونَ بالسِّلاَحِ، وَيُصْبِحُونَ بالسَّلاحِ، فَصَبُروا عَلَى ذَلِكَ مَا شَاءَ اللهُ. ثُمَّ إِنَّ رَجُلاً مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَبَدَ الدَّهْرِ نَحْنُ خَائِفُونَ هَكَذَا؟ مَا يَأتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأَمَنُ فِيهِ، وَنَضَعُ السِّلاَحَ؟ فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: لَنْ تَصْبِروا إِلاَّ يَسِيراً حَتَّى يَجْلِسَ الرَّجُلُ مِنْكُم فِي المَلأ العَظِيمِ مُحْتَبياً لَيْسَتْ فِيهِ حَدِيدَةٌ).
وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ.
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ يَقُولُ تَعَالَى إِنَّهُ سَيَسْتَخْلِفُ المُؤْمِنِينَ فِي الأَرْضِ، كَمَا اسْتَخَلَفَ المُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلِهِم، وَسَيَكُونُ لَهُم الأَمْرُ. وَحَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَمَنْ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ، وَجَحَدَ نِعَمَهُ عَلَيْهِ، فَقَدْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ وَكَفَى بِذَلِكَ ذَنْباً عَظِيماً.
(٥٦) - يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَه المُؤْمِنِينَ بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ، وَإِتْمَامِهَا بِخُشُوعٍ وَحُضَورِ قَلْبٍ، وَبِعِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَبِإِيتاءِ الزَّكَاةِ (وَهِيَ الإِحْسَانُ إِلى الضُعَفَاءِ والفُقَرَاءِ) كَمَا يَأْمُرُهُمْ بِأَنْ يُطِيعُوا فِي ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ فِيمَا أَمَرَهُمْ، بِهِ، وَأَنْ يَتْرُكُوا مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ لَعَلَّ الله يَرْحَمُهُمْ بِذَلِكَ.
(٥٧) - وَلاَ تَظُنَّ يَا مُحَمَّدُ أَنَّ الذينَ كَفَرُوا، وَخَالفُوكَ، وَكَذَّبُوكَ، أَنَّهُمْ سَيُعْجِزُونَ اللهَ عَنِ الوُصُولِ إِلَيْهِمْ فِي الأَرْضِ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِمْ، وَسَيُعَذِّبُهُم عَلَى ذَلِكَ أَشَدَّ العَذَابِ، وَسَيَجْعَلُ جَهَنَّمَ مَأْوَاهُمْ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ، وَسَاءَتِ النَّارُ مُسْتَقَرّاً وَمَصِيراً.
مُعْجِزِينَ - فَائِتِينَ مِنْ عَذَابِنَا بِالهَرَبِ.
- قَبْلَ صَلاَةِ الفَجْرِ إِذْ يَكُونُ النَّاسُ نِيَاماً فِي فُرشِهِمْ.
- وَوَقْتَ القَيْلُولَةِ بَعْدَ الظَّهِيرَةِ، لأَنَّ الإِنْسَانَ قَدْ يَضَعُ ثِيَابَهُ وَيَكُونَ فِي تِلْكَ الحَالِ مَعْ أَهْلِهِ.
- وَوَقْتَ النَّوْمِ (بَعْدَ صَلاَةِ العِشَاءِ).
فَيُؤْمَرُ الخَدَمُ والأطْفَالُ بِأَلاَّ يَهْجُمُوا عَلَى أَهْلِ البَيْتِ فِي هَذِهِ الأَحْوَالِ. وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ هَذِهِ الأَوْقَاتِ هِيَ عَوْرَاتٌ للنَّاسِ. أَمَّا فِي غَيْرِ هَذِهٍ الأَوْقَاتِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمْ إِذَا دَخَلثوا لأَنَّهُمْ فِي خِدْمَةِ البَيْتِ يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى إِنَّهُ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ آياتِهِ وَأَحْكَامَهُ، وَهُوَ عَلِيمٌ بِمَا فِيهِ المَصْلَحَةُ، حَكِيمٌ فِيمَا يَشْرَعُ.
جُنَاحٌ - حَرَجٌ فِي الدُّخُولِ بِلا اسْتِئْذَانٍ.
(٥٩) - فَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ الذينَ كَانُوا يَسْتَأْذِنُونَ فِي العَوْرَاتِ الثَلاَثِ مَبْلَغَ الرِّجَالِ (الحُلُمَ)، وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الأَحْوَالِ الثَّلاثَةِ كَمَا يَسْتَأْذِنُ مَنْ سَبَقُوهُم فِي البُلُوغِ، مِنْ وَلَدِ الرَّجُلِ وأَقَارِبِهِ، وَكَمَا بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ مَا ذَكَرَ غَايَةَ البيانِ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ لَكُمْ مَا فِيهِ سَعَادَتُكُم فِي دُنْيَاكُم وَآخِرَتِكُم، وَاللهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ خَلْقِهِ، حَكِيِمٌ فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَقَدَرِهِ.
(٦٠) - والنِّسَاءُ الطَاعِنَاتُ فِي السِنِّ اللاَّتِي يَِئِسْنَ مِنَ الوَلَدِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُنَّ تَطَلُّعٌ إِلَى التَّزَوُّجِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ مَا عَلَى غَيْرِهنَّ مِنَ النِّسَاءِ فِي الحَجِرِ والتَّسَتُّرِ، وَلا حَرَجَ عَلَيْهِنَّ فِي أَنْ يَخْلَعْنَ ثِيَابَهُنَّ الخَارِجِيَّةَ عَلَى أًَنْ لاَ تَنْكَشِفَ عَوْرَاتُهُنَّ، وَلا يَنْكِشِفْنَ عَنْ زِينَةٍ، وَخَيْرٌ لَهُنَّ أَنْ يَبْقَيْنَ كَاسِياتٍ بِثِيَابِهِنَّ الخَارِجِيَّةِ الفَضْفَاضَةِ، وَسَمَّى تَعَالَى مِنْهُنَّ ذَلِكَ اسْتِعَفَافاً، أَيْ يَفْعَلْنَهُ طَلَباً لِلعِفَّةِ، وإِيثَاراً لَهَا لِمَا بَيْنَ التَّبُّرجِ والفِتْنَةِ مِنْ صِلَةٍ، وَبَيْنَ التَّحَجُّبِ والتَّسَتُّرِ وَالعِفَّةِ مِنْ صِلَةٍ، وَخَيْرُ سَبِيلٍ إِلى العِفَّةِ تَقْلِيلُ فُرَصِ الغَوَايَةِ، والحَيْلُولَةِ بَيْنَ اللِّسَانُ، وَيَطِّلِعُ بَيْنَ أَسْبَابِ الإٍثَارَةِ وَبَيْنَ النُّفُوسِ. واللهُ تَعَالَى يَسْمَعُ مَا يَقُولُهُ اللِّسَانُ، وَيَطِّلِ'ُ عَلَى مَا يُوَسْوِسُ فِي الجَنَانِ ويُجَازِي عَلَى ذَلِكَ. وَالأَمْرُ كُلُّهُ أَمْرُ نِيَّةٍ وَحَسَاسِيَّةٍ فِي الضَّمِيرِ.
القَوَاعِدَ مِنَ النِّسَاءِ - العَجَائِزُ اللَّوَاتي قَعَدْنَ عَنِ الحَيْضِ.
مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينةٍ - مُظْهِرَاتٍ لِلزِّينَةِ الخَفِيَّةِ.
(٦١) - اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ حَوْلَ مَوْضَوعِ الحَرَجِ الذي رُفِعَ فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ عَنْ الأَعْمَى والأَعْرَجِ والمَرِيضِ:
- فَقِيلَ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الجِهَادِ، وَإِنَّهُ لاَ حَرَجَ عَلَى هَؤُلاَءِ فِي تَرْكِهِ لِضَعْفِهِمْ وَعَجْزِهِمْ.
- وَقِيلَ أيضاً: إِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الأَكْلِ مَعَ الأَعْمَى لأَنَّهُ لاَ يَرَى الطَّعَامَ، وَمَا فِيهِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، فَرُبَّمَا سَبَقَه غَيْرُهُ إِلى ذَلِكَ، كَمَا كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مَعَ الأَعْرَجِ لأَنَّهُ لاَ يَتَمَكَّنُ مِنَ الجُلُوسِ فَيَفْتَاتُ عَلَيْهِ جَلِيسُهُ. كَمَا قِيلَ إِنَّ الأَمْرَ يَتَعَلَّقُ بالمَرِيضِ لأَنَّه لاَ يَسْتَوفِي مِنَ الطَّعَامِ كَغَيْرِهِ، فَكَرِهُوا أَنْ يُؤَاكِلُوهُمْ لِئلاَّ يَظْلِمُوهُمْ.
- وَقِيلَ أَيْضَاً: إِنَّ النَّاسَ كانُوا قَبْلَ مَبْعَثِ النَبِيِّ ﷺ يَتَحَرَّجُونَ مِنَ الأَكْلِ مَعَ هَؤُلاَءِ تَقَذُراً وَتَعَزُّزاً، لِئلاَّ يَتَفَضَّلُوا عَلَيْهِمِ.
- وَقِيلَ أَيْضَاً إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَدْخُلُ بَيتَ أَبِيهِ أَوْ أَخِيهِ فَتُتحِفُهُ المرأةُ بِشَيءٍ مِنَ الطَّعَامِ فَلاَ يَأْكُلُ لأَنَّ رَبَّ البَيْتِ غَيْرُ حَاضِرٍ.
وَلَمْ يَذْكُرِ اللهُ تَعَالَى الأَبْنَاءَ لأَنَّ بَيْتَ الابْنِ بِمَنْزِلَةِ بَيْتِ الأَبِ نَفْسِهِ وَمَالُ الابْنِ فِي مَنْزِلَةِ مَالِ الأَبِ.
- وَقِيلَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْ هَذِهِ البيوتٍ دُونَ استئذَانٍ، وَيَسْتَصْحِبُونَ العُمْيِ وَالعُرْجَ والمَرْضَى مِنَ الفُقَرَاءِ لِيُطْعِمُوهُمْ، وَبَعْدَ أَنْ نَزَلَتْ الآيَةُ: ﴿وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل﴾ تَحَرَّجَ النَّاسُ أَنْ يَطْعَمُوا وَتحَرَّجَ العُمْيُ والمَرْضَى أَنْ يَصْحَبُوهُم دُونَ دَعْوَةٍ مِنْ أَصْحَابِ البُيوتِ أو إِذْنٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ لِيَرْفَعَ الحَرَجَ عَنِ الأَعْمَى والأَعْرَجِ والقَرِيبِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ بِيتِ قَرِيبهِ، وَأَنْ يَصْحَبَ هَؤُلاَءِ المُحَتَاجِينَ تَأْسِيساً عَلَى أَنَّ صَاحِبَ البيتِ لاَ يَكْرَهُ هَذَا، وَلاَ يَتَضَرَّرُ بِهِ.
وَكَانَ مِنْ عَادَةِ بَعْضِ العَرَبِ فِي الجَاهِلِيَّةِ لا يَأْكُلَ الطَّعَامَ عَلَى انْفِرَادِهِ فَكَانَ إِذَا لَمْ يَجدْ مَنْ يُؤْاكِلُهُ عَافَ الطَّعَامَ، فَرَفَعَ الله هَذَ الحَرَجَ المُتَكَلَّفَ وَرَدَّ الأَمْرَ إِلى بَسَاطَتِهِ، دُونَ تَعْقِيدٍ. وَقَالَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلْوا أفْرَاداً أو جَمَاعَاتٍ (جَمِيعاً أو أشْتَاتاً).
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى آدَابَ دُخُولِ البُيُوتِ التي يُؤْكَلُ فِيهَا، فَيُسَلِّمُ الإِنْسَانُ عَلَى قَرِيبه أو صَدِيقِهِ، وَهُوَ كَأَنَّمَا يَسَلِّمُ عَلَى نَفْسِهِ ﴿فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ﴾، والتَّحِيَّةُ التي يُلْقِيهَا عَلَيْهِمْ هِيَ تَحِيَّةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وكَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ للنَّاسِ آيَاتِهِ وحِكَمَهُ لَعَلَّهُمْ يُدْرِكُونَ المَنْهَجَ الإِلَهيَّ، وَلَعَلَّهُم يَعْقِلُونَ مَا فِي هَذِهِ الآيَاتِ والحُجَجِ.
(٦٢) - وَهُنَا يُؤَدِّبُ اللهُ النَّاسَ، فَكَمَا أَمَرَهُمْ بالاسْتِئْذَانِ عِنْدَ الدُّخُولِ، كَذَلِكَ أَمَرَهُمْ اللهُ تَعَالَى بِأَلاَّ يَتَفَرَّقُوا عَنِ النَّبِيِّ إِلاَّ بعدَ اسْتِئْذَانِهِ ومُشَاوَرَتِهِ، ولِلرَّسُولِ ﷺ أَنْ يَأْذَنَ لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ.
وَرَوَى ابنُ إِسْحَاقَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ: لَمّا اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ وَالأَحْزَابُ عَلَى حَرْبِ المُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ الخَنْدَقِ، أَمَرَ الرَّسُولُ ﷺ بِحَفْرِ خَنْدقِ المَدِينَةِ، وَأَخَذَ يَعْمَلُ بِنَفْسِهِ تَرْغِيباً للمُسْلِمِينَ فِي الأَجْرِ، فَعَمِلَ المُسْلِمُونَ، وَأَبْطَأَ رِجَالٌ مِنَ المُنَافِقِينَ، وَأَخَذُوا يَقُومُونَ بالضَّعِيفِ مِنَ العَمَلِ وَيَتَسَلَّلُونَ بِغَيْرِ إِذْنِ الرَّسُولِ ﷺ. وَكَانَ المُسْلِمُونَ يَسْتَأْذِنُونَ الرَّسُولَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِم، فَإِذَا قَضَى أَحَدُهُمْ حَاجَتَهُ رَجَعَ إِلى مَا كَانَ فِيهِ مِنْ عَمَلٍ، رَغْبَةً فِي الخَيْرِ والأًجْرِ، واحْتِسَاباً لَهُ، وَيَقُولُ تَعَالَى إِنَّ هَؤُلاءِ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقّاً.
أَمْرٍ جَامِعٍ - أَمْرٍ مُهِمٍّ يَجِبُ اجْتِمَاعُهُمْ لَهُ.
دُعَاءَ الرَّسُول - دَعْوَتَه لَكُمْ للاجْتِمَاعِ، أو نِدَاءَكُم لَهُ.
يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُم - يَخْرُجُونَ مِنهُ تَدْرِيجاً فِي خِفْيَةٍ.
لِواذاً - يَسْتَتِرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فِي الخُرُوجِ.
يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ - يُعْرِضُونَ أَوْ يَصَدُّونَ عَنْهُ.
فِتْنَةٌ - بَلاَءٌ وَمِحْنَةٌ فِي الدُّنْيَا.
(٦٤) - يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ، وأَنَّهُ عَالِمُ الغَيْبِ والشَّهَادَةِ، وأنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَعْمَلُهُ العِبَادُ، فِي سِرِّهِمْ وَجَهْرِهِمْ، وَهُوَ عَالِمٌ بِمَا هُمْ عَلَيءه، وَمِشَاهِدٌ لَهُ، لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاءِ وَلاَ فِي الأَرْضِ، وَيَوْمَ يَرْجِعُ الخَلْقُ إِلى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يُخْبِرُهُم بِجَمِيعِ مَا فَعَلُوهُ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا.