تفسير سورة النّمل

نظم الدرر
تفسير سورة سورة النمل من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
ولما ختم التي قبلها بتحقيق أمر القرآن، وأنه من عند الله، ونفي الشبه عنه وتزييف ما كانوا يتكلفونه من تفريق القول فيه بالنسبة إلى السحر والأضغاث والافتراء والشعر، الناشىء كل ذلك عن أحوال الشياطين، وابتدأ هذه بالإشارة إلى أنه من الكلام القديم المسموع المطهر عن وصمة تلحقه من شيء من ذلك، تلاه بوصفه بأنه كما أنه منظوم مجموع لفظاً ومعنى لا فصم فيه ولا خلل، ولا وصم ولا زلل، فهو جامع لأصول الدين ناشر لفروعه، بما أشار إليه الكون من المسلمين فقال :﴿ تلك ﴾ أي الآيات العالية المقام البعيدة المرام، البديعة النظام ﴿ آيات القرآن ﴾ أي الكامل في قرآنيته الجامع للأصول، الناشر للفروع، الذي لا خلل فيه ولا فصم، ولا صدع ولا وصم ﴿ و ﴾ آيات ﴿ كتاب ﴾ أي وأيّ كتاب هو مع كونه جامعاً لجميع ما يصلح المعاش والمعاد، قاطع في أحكامه، غالب في أحكامه، في كل من نقضه وإبرامه، وعطفه دون إتباعه للدلالة على أنه كامل في كل من قرآنيته وكتابيته ﴿ مبين* ﴾ أي بين في نفسه أنه من عند الله كاشف لكل مشكل، موضح لكل ملبس مما كان ومما هو كائن من الأحكام والدلائل في الأصول والفروع، والنكت والإشارات والمعارف، فيا له من جامع فارق واصل فاصل.
ولما كانت العناية في هذه السورة بالنشر - الذي هو من لوازم الجمع في مادة " قرا " كما مضى بيانه أول الحجر - أكثر، قدم القرآن، يدل على ذلك انتشار أمر موسى عليه الصلاة والسلام في أكثر قصته بتفريقه من أمه، وخروجه من وطنه إلى مدين، ورجوعه مما صار إليه إلى ما كان فيه، والتماسه لأهله الهدى والصلى واضطراب العصا وبث الخوف منها، وآية اليد وجميع الآيات التسع، واختيار التعبير بالقوم الذي أصل معناه القيام، وإبصار الآيات، وانتشار الهدهد، وإخراج الخبأ الذي منه تعليم منطق الطير، وتكليم الدابة للناس، وانتشار المرأة وقومها وعرشها بعد تردد الرسل بينها وبين سليمان عليه الصلاة والسلام، وكشف الساق، وافتراق ثمود إلى فريقين، مع الاختصام المشتت، وانتثام قوم لوط عليه السلام إلى ما لا يحل، وتفريق الرياح نشراً، وتقسيم الرزق بين السماء والأرض، ومرور الجبال، ونشر الريح لنفخ الصور الناشىء عنه فزع الخلائق المبعثر للقبور، إلى غير ذلك مما إذا تدبرت السورة انفتح لك بابه، وانكشف عنه حجابه، وهذا بخلاف ما في الحجر على ما مضى.
وقال الإمام ابو جعفر ابن الزبير : لما أوضح في سورة الشعراء عظيم رحمته بالكتاب، وبيان ما تضمنه مما فضح به الأعداء، ورحم به الأولياء، وبراءته من أن تتسور الشياطين عليه، وباهر آياته الداعية من اهتدى بها إليه، فتميز بعظيم آياته كونه فرقاناً قاطعاً، ونوراً ساطعاً، أتبع سبحانه ذلك مدحة وثناء، وذكر من شملته رحمته به تخصيصاً واعتناء، فقال ﴿ تلك آيات القرآن ﴾ أي الحاصل عنها مجموع تلك الأنوار آيات القرآن ﴿ وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين ﴾ ثم وصفهم ليحصل للتابع قسطه من بركة التبع، وليتقوى رجاؤه في النجاة مما أشار إليه ﴿ وسيعلم الذين ظلموا ﴾ من عظيم ذلك المطلع ؛ ثم أتبع ذلك بالتنبيه على صفة الآهلين لما تقدم من التقول والافتراء تنزيهاً لعباده المتقين، وأوليائه المخلصين، عن دنس الشكوك والامتراء فقال :﴿ إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون ﴾ أي يتحيرون فلا يفرقون بين النور والإظلام، لارتباك الخواطر والأفهام ؛ ثم أتبع ذلك بتسليته عليه الصلاة والسلام بالقصص الواقعة بعد تنشيطاً له وتعريفاً بعلي منصبه، وإطلاعاً له على عظيم صنعه تعالى فيمن تقدم، ثم ختمت السورة بذكر أهل القيامة وبعض ما بين يديها، والإشارة إلى الجزاء ونجاة المؤمنين، وتهديد من تنكب عن سبيله عليه الصلاة والسلام - انتهى.

﴿طس﴾ يشير إلى طهارة الطور وذي طوى منه وطيب طيبه، وسعد بيت المقدس الذي بناه سليمان عليه الصلاة والسلام التي انتشر منها الناهي عن الظلم، وإلى أنه لما طهر سبحانه بني إسرائيل، وطيبهم بالابتلاء فصبروا، خلصهم من فرعون وجنوده بمسموع موسى عليه الصلاة والسلام للوحي المخالف لشعر الشعراء، وإفك الآثمين وزلته من الطور،
122
ولم يذكر تمام أمرهم بإغراق فرعون، لأن مقصودها إظهار العلم والحكمة دون البطش والنقمة، فلم يقتض الحال ذكر الميم.
ولما ختم التي قبلها بتحقيق أمر القرآن، وأنه من عند الله، ونفي الشبه عنه وتزييف ما كانوا يتكلفونه من تفريق القول فيه بالنسبة إلى السحر والأضغاث والافتراء والشعر، الناشىء كل ذلك عن أحوال الشياطين، وابتدأ هذه بالإشارة إلى أنه من الكلام القديم المسموع المطهر عن وصمة تلحقه من شيء من ذلك، تلاه بوصفه بأنه كما أنه منظوم مجموع لفظاً ومعنى لا فصم فيه ولا خلل، ولا وصم ولا زلل، فهو جامع لأصول الدين ناشر لفروعه، بما أشار إليه الكون من المسلمين فقال: ﴿تلك﴾ أي الآيات العالية المقام البعيدة المرام، البديعة النظام ﴿آيات القرآن﴾ أي الكامل في قرآنيته الجامع للأصول، الناشر للفروع، الذي لا خلل فيه ولا فصم، ولا صدع لولا وصم ﴿و﴾ آيات ﴿كتاب﴾ أي وأيّ كتاب هو مع كونه جامعاً لجميع ما يصلح المعاش والمعاد، قاطع في أحكامه، غالب في أحكامه، في كل من نقضه وإبرامه، وعطفه دون إتباعه للدلالة على أنه كامل في كل من قرآنيته وكتابيته ﴿مبين*﴾ أي بين في نفسه أنه من عند الله كاشف لكل مشكل، موضح لكل ملبس مما كان ومما هو كائن من الأحكام والدلائل في الأصول والفروع، والنكت والإشارات والمعارف، فيا له من جامع فارق واصل فاصل.
123
ولما كانت العناية في هذه السورة بالنشر - الذي هو من لوازم الجمع في مادة «قرا» كما مضى بيانه أول الحجر - أكثر، قدم القرآن، يدل على ذلك انتشاراً أمر موسى عليه الصلاة والسلام في أكثر قصته بتفريقه من أمه، وخروجه من وطنه إلى مدين، ورجوعه مما صار إليه إلى ما كان فيه، والتماسه لأهله الهدى والصلى واضطراب العصى وبث الخوف منها، وآية اليد وجميع الآيات التسع، واختيار التعبير بالقوم الذي أصل معناه القيام، وإبصار الآيات، وانتشار الهدهد، وإخراج الخبأ الذي منه تعليم منطق الطير، وتكليم الدابة للناس، وانتشار المرأة وقومها وعرشها بعد تردد الرسل بينها وبين سليمان عليه الصلاة والسلام، وكشف الساق، وافتراق ثمود إلى فريقين، مع الاختصام المشتت، وانتثام قوم لوط عليه السلام إلى ما لا يحل، وتفريق الرياح نشراً، وتقسيم الرزق بين السماء والأرض، ومرور الجبال، ونشر الريح لنفخ الصور الناشىء عنه فزع الخلائق المبعثر للقبور، إلى غير ذلك مما إذا تدبرت السورة انفتح لك بابه، وانكشف عنه حجابه، وهذا بخلاف ما في الحجر على ما مضى.
وقال الإمام ابو جعفر بن الزبير: لما أوضح في سورة الشعراء عظيم رحمته بالكتاب، وبيان ما تضمنه مما فضح به الأعداء، ورحم به الأولياء، وبراءته من أن تتسور الشياطين عليه، وباهر آياته الداعية من اهتدى بها إليه، فتميز بعظيم آياته كونه فرقاناً قاطعاً، ونوراً ساطعاً، أتبع سبحانه ذلك مدحة وثناء، وذكر من شملته رحمته به تخصيصاً واعتناء، فقال ﴿تلك آيات القرآن﴾ أي الحاصل عنها مجموع تلك الأنوار
124
آيات القرآن ﴿وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين﴾ ثم وصفهم ليحصل للتابع قسطه من بركة التبع، وليتقوى رجاؤه في النجاة مما أشار إليه ﴿وسيعلم الذين ظلموا﴾ من عظيم ذلك المطلع؛ ثم أتبع ذلك بالتنبيه على صفة الآهلين لما تقدم من التقول والافتراء تنزيهاً لعباده المتقين، وأوليائه المخلصين، عن دنس الشكوك والامتراء فقال: ﴿إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون﴾ أي يتحيرون فلا يفرقون بين النور والإظلام، لارتباك الخواطر والأفهام؛ ثم أتبع ذلك بتسليته عليه الصلاة والسلام بالقصص الواقعة بعد تنشيطاً له وتعريفاً بعلي منصبه، وإطلاعاً له على عظيم صنعه تعالى فيمن تقدم، ثم ختمت السورة بذكر أهل القيامة وبعض ما بين يديها، والإشارة إلى الجزاء ونجاة المؤمنين، وتهديد من تنكب عن سبيله عليه الصلاة والسلام - انتهى.
ولما عظم سبحانه آيات الكتاب بما فيها من الجمع من النشر مع الإبانة، ذكر حاله فقال: ﴿هدى﴾ ولما كان الشيء قد يهدي إلى مقصود يكدر حال قاصده. قال نافياً لذلك، وعطف عليه بالواو دلالة على الكمال في كل من الوصفين: ﴿وبشرى﴾ أي عظيمة.
فلما تشوفت النفوس، وارتاحت القلوب، فطم من ليس بأهل عن عظيم هذه الثمرة فقال: ﴿للمؤمنين﴾ أي الذين صار ذلك لهم
125
وصفاً لازماً بما كان لهم فيل دعاء الداعي من طهارة الأخلاق، وطيب الأعراق، وفي التصريح بهذا الحال تلويح بأنه فتنه وإنذار للكافرين ﴿يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً فأما الذين في قلوبهم زيغ﴾ - الآية، ﴿قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء﴾ [فصلت: ٤٤]، ﴿والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمي﴾ - إلى غير ذلك من الآيات.
ولما كان وصف الإيمان خفياً، وصفهم بما يصدقه من الأمور الظاهرة فقال: ﴿الذين يقيمون الصلاة﴾ أي بجميع حدودها الظاهرة والباطنة من المواقيت والطهارات والشروط والأركان والخشوع والخضوع والمراقبة والإحسان إصلاحاً لما بينهم وبين الخالق.
ولما كان المقصود الأعظم من الزكاة إنما هو التوسعة على الفقراء قال: ﴿ويؤتون الزكاة﴾ أي إحساناً فيما بينهم وبين الخلائق.
ولما كان الإيمان بالبعث هو الجامع لذلك ولغيره من سائر الطاعات، ذكره معظماً لتأكيده، فقال معلماً بجعله حالاً إلا أنه شرط لما قبله: ﴿وهم﴾ أي والحال أنهم.
ولما كان الإيمان بالبعث هو السبب الأعظم للسعادة وهو محط للحكمة، عبر فيه بما يقتضي الاختصاص، لا للاختصاص بل للدلالة على غاية الرسوخ في الإيمان به، فقال: ﴿بالآخرة هم﴾ أي المختصون بأنهم ﴿يوقنون*﴾ أي يوجدون الإيقان حق الإيجاد ويجددونه في كل حين
126
بما يوجد منهم من الإقدام على الطاعة، والإحجام عن المعصية.
ولما أفهم التخصيص أن ثم من يكذب بها وكان أمرها مركوزاً في الطباع، لما عليها من الأدلة الباهرة في العقل والسماع، تشوفت نفس السامع على سبيل التعجب إلى حالهم، فقال مجيباً له مؤكداً تعجيباً ممن ينكر ذلك: ﴿إن الذين لا يؤمنون﴾ أي يوجدون الإيمان ويجددونه ﴿بالآخرة زينا﴾ أي بعظمتنا التي لا يمكن دفاعها ﴿لهم أعمالهم﴾ أي القبيحة، حتى أعرضوا عن الخوف من عاقبتها مع ظهور قباحتها، والإسناد إليه سبحانه حقيقي عند أهل السنة لأنه الموجد الحقيقي، وإلى الشيطان مجاز سببي ﴿فهم﴾ أي فتسبب عن ذلك أنهم ﴿يعمهون*﴾ أي يخبطون خبط من لا بصيرة له اصلاً ويترددون في أودية الضلال، ويتمادون في ذلك، فهم كل لحظة في خبط جديد، بعمل غير سديد ولا سعيد، فإن العمه التحير والتردد كما هو حال الضال.
127
ولما خص المؤمنين بما علم منه أن لهم حسن الثواب، وأنهم في الآخرة هم الفائزون، ذكر ما يختص به هؤلاء من ضد ذلك فقال: ﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء ﴿الذين لهم﴾ أي خاصة ﴿سوء العذاب﴾ في الدارين: في الدنيا بالأسر والقتل والخوف ﴿وهم في الآخرة هم﴾
127
المختصون بأنهم ﴿الأخسرون*﴾ أي أشد الناس خسارة لأنهم خسروا ما لا خسارة مثله، وهو أنفسهم التي لا يمكنهم إخلافها.
ولما وصف القرآن من الجمع والفرقان، بما اقتضى بيان أهل الفوز والخسران، وكان حاصل حال الكفرة أنهم يتلقون كفرهم الذي هو في غاية السفه إما عن الشياطين الذين هم في غاية الشر، وإما عن آبائهم الذين هم في غاية الجهل، وصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضد حالهم، فذكر جلالة المنزل عليه والمنزل ليكون أدعى إلى قبوله. فقال عاطفاً على ﴿إن الذين لا يؤمنون بالآخرة﴾ :﴿وإنك﴾ أي وأنت أشرف الخلق وأعلمهم وأحلمهم وأحكمهم ﴿لتلقى القرآن﴾ أي تجعل متلقياً له من الملك، وحذف هنا الواسطة وبناه للمفعول إعلاء له.
ولما كانت الأمور التي من عند الله تارة تكون على مقتضى الحكمة فتسند إلى أسبابها، وأخرى خارقة للعادة فتنسب إليه سبحانه، والخارقة تارة تكون في أول رتب الغرابة فيعبر عنها بعند، تارة تكون في أعلاها فيعبر عنها بلدان، نبه سبحانه على أن هذا القرآن في الذروة من الغرابة في أنواع الخوارق فقال: ﴿من لدن﴾.
ولما مضى في آخر الشعراء ما تقدم من الحكم الجمة في تنزيله بهذا اللسان. وعلى قلب سيد ولد عدنان، بواسطة الروح الأمين، مبايناً لأحوال الشياطين، إلى غير ذلك مما مضى إلى أن ختمت بتهديد الظالمين،
128
وكان الظالم إلى الحكمة أحوج منه إلى مطلق العلم، وقدم في هذه أنه هدى، وكان الهادي لا يقتدي به ولا يوثق بهدايته إلا إن كان في علمه حكيماً، اقتضى السياق تقديم وصف الحكمة، واقتضى الحال التنكير لمزيد التعظيم فقال: ﴿حكيم﴾ أي بالغ الحكمة، فلا شيء من أفعاله إلا وهو في غاية الإتقان ﴿عليم*﴾ أي عظيم العلم واسعه تامة شاملة، فهو بعيد جداً عما ادعوه فيه من أنه كلام الخلق الذي لا علم لهم ولا حكمة إلا ما آتاهم الله، ومصداق ذل عجز جميع الخلق عن الإتيان بشيء من مثله، وإدراك شيء من مغازيه حق إدراكه.
ولما وصفه بتمام الحكمة وشمول العلم، دل على كل من الوصفين، وعلى إبانه القرآن وما له من العظمة التي أشار إليها أول السورة بما يأتي في السورة من القصص وغيرها، واقتصر في هذه السورة على هذه القصص لما بينها من عظيم التناسب المناسب لمقصود السورة، فابتدىء بقصة أطبق فيها الأباعد على الكفران فأهلكوا، والأقارب على الإيمان فأنجوا، وثنى بقصة أجمع فيها الأباعد على الإيمان، لم يتخلف منهم إنسان، وثلث بأخرى حصل بين الأقارب فيها الفرقان، باقتسام الكفر والإيمان، وختم بقصة تمالأ الأباعد فيها على العصيان، وأصروا على الكفران،
129
فابتلعتهم الأرض ثم غطوا بالماء كما بلغ الأولين الماء فكان فيه التواء.
ولما كان تعلق «إذ» باذكر من الوضوح في حد لا يخفى على أحد، قال دالاً على حكمته وعلمه: ﴿إذ﴾ طاوياً لمتعلقه لوضوح أمره فصار كأنه ﴿قال﴾ : اذكر حكمته وعلمه حين قال: ﴿موسى لأهله﴾ أي زوجة وهو راجع من مدين إلى مصر، قيل: ولم يكن معه غيرها: ﴿إني آنست﴾ أي أبصرت إبصاراً حصل لي الأنس، وأزال عني الوحشة والنوس ﴿ناراً﴾ فعلم بما في هذه القصة من الأفعال المحكمة المنبئة عن تمام العلم اتصافه بالوصفين علماً مشاهداً، وقدم ما الحكمة فيه أظهر لاقتضاء الحال التأمين من نقص ما يؤمر به من الأفعال.
ولما كان كأنه قيل: فماذا تصنع؟ قال آتياً بضمير المذكر المجموع للتعبير عن الزوجة المذكورة بلفظ «الأهل» الصالح للمذكر والجمع صيانة لها وستراً. جازماً بالوعد للتعبير بالخير الشامل للهدى وغيره، فكان تعلق الرجاء به أقوى من تعلقه بخصوص كونه هدى، ولأن مقصود السورة يرجع إلى العلم، فكان الأليق به الجزم، ولذا عبر بالشهاب الهادي لأولي الألباب: ﴿سآتيكم﴾ أي بوعد صادق وإن أبطأت
130
﴿منها بخبر﴾ أي ولعل بعضه يكون مما نهتدي به في هذا الظلام إلى الطريق، وكان قد ضلها ﴿أو آتيكم بشهاب﴾ أي شعلة من نار ساطعة ﴿قبس﴾ أي عود جاف مأخوذ من معظم النار فهو بحيث قد استحكمت فيه النار فلا ينطفىء؛ وقال البغوي: وقال بعضهم: الشهاب شيء ذو نور مثل العمود، والعرب تسمي كل أبيض ذي نور شهاباً، والقبس: القطعة من النار. فقراءة الكوفيين بالتنوين على البدل أو الوصف، وقراءة غيرهم بالإضافة، لأن القبس أخص. وعلل إتيانه بذلك إفهاماً لأنها ليله باردة بقوله: ﴿لعلكم تصطلون*﴾ أي لتكونوا في حال من يرجى أن يستدفىء بذلك أي يجد به الدفء لوصوله معي فيه النار، وآذن بقرب وصوله فقال: ﴿فلما جاءها﴾ أي تلك التي ظنها ناراً.
ولما كان البيان بعد الإبهام أعظم، لما فيه من التشويق والتهيئة للفهم، بني للمفعول قوله: ﴿نودي﴾ أي من قبل الله تعالى.
ولما أبهم المنادى فتشوقت النفوس إلى بيانه، وكان البيان بالإشارة أعظم. لما فيه من توجه النفس إلى الاستدلال، نبه سبحانه عليه بجعل الكلام على طريقة كلام القادرين، إعلاماً بأنه الملك الأعلى فقال بانياً للمعفول، آتياً بأداة التفسير، لأن النداء بمعنى القول:
131
﴿أن بورك﴾ أي ثبت تثبيتاً يحصل منه من النماء والطهارة وجميع الخيرات ما لا يوصف ﴿من في النار﴾ أي بقعتها، أو طلبها وهو طلب بمعنى الدعاء، والعبارة تدل على أن الشجرة كانت كبيرة وأنها لما دنا منها بعدت منه النار إلى بعض جوانبها فتبعها، فلما توسط الردحة أحاط به النور، وسمي النور ناراً على ما كان في ظن موسى عليه الصلاة والسلام، وقال سعيد بن جبير: بل كانت ناراً كما رأى موسى عليه السلام، والنار من حجب الله كما في الحديث:
«حجابه النار لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» ﴿ومن حولها﴾ من جميع الملائكة عليهم السلام وتلك الأراضي المقدسة على ما أراد الله في ذلك الوقت وفي غيره وحق لتلك الأراضي أن تكون كذلك لأنها مبعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ومهبط الوحي عليهم وكفاتهم أحياء وأمواتاً.
ولما أتاه النداء - كما ورد - من جميع الجهات، فسمعه بجميع الحواس، أمر بالتنزيه، تحقيقاً لأمر من أمره سبحانه، وتثبيتاً له، فقال عاطفاً على ما أرشد السياق إلى تقديره من مثل: فأبشر بهذه البشرى العظيمة: ﴿وسبحان الله﴾ أي ونزه الملك الذي له الكمال المطلق تنزيهاً
132
يليق بجلاله، ويجوز أن يكون خبراً معطوفاً على ﴿بورك﴾ أي وتنزه الله سبحانه تنزهاً يليق بجلاله عن أن يكون في موضع النداء أو غيره من الأماكن.
ولما كان تعليق ذلك بالاسم العلم دالاً على أنه يستحق ذلك لمجرد ذاته المستجمع لجميع صفات الكمال، من الجلال والجمال، وصفه بما يعرف أنه يستحقه أيضاً لأفعاله بكل مخلوق التي منها ما يريد أن يربي به موسى عليه الصلاة والسلام كبيراً بعد ما رباه به صغيراً، فقال: ﴿رب العالمين*﴾.
ولما تشوفت النفس إلى تحقق الأمر تصريحاً، قال معظماً له تمهيداً لما أراد سبحانه إظهاره على يده من المعجزات الباهرات: ﴿يا موسى إنه﴾ أي الشأن العظيم الجليل الذي لا يبلغ وصفه ﴿أنا الله﴾ أي البالغ من العظمة ما تقصر عنه الأوهام، وتتضاءل دونه نوافذ الأفهام، ثم أفهمه مما تتضمن ذلك وصفين يدلانه على أفعاله معه فقال: ﴿العزيز﴾ أي الذي يصل إلى جميع ما يريد ولا يوصل إلى شيء مما عنده من غير الطريق التي يريد ﴿الحكيم*﴾ أي الذي ينقض كل ما يفعله غيره إذا أراد،
133
ولا يقدر غيره أن ينقض شيئاً من فعله.
ولما كان التقدير: فافعل جميع ما آمرك به فإنه لا بد منه، ولا تخف من شيء فإنه لا يوصل إليك بسوء لأنه متقن بقانون الحكمة، محروس بسور العزة، دل عليه بالعطف في قوله: ﴿وألق عصاك﴾ أي لتعلم علماً شهودياً عزتي وحكمتي - أو هو معطوف على ﴿أن بورك﴾ - فألقاها كما أمر، فصارت في الحال - بما أذنت به الفاء - حية عظيمة جداً، هي - مع كونها في غاية العظم - في نهاية الخفة والسرعة في اصطرابها عند محاولتها ما يريد ﴿فلما رآها تهتز﴾ أي تضطرب في تحركها مع كونها في غاية الكبر ﴿كأنها جآن﴾ أي حية صغيرة في خفتها وسرعتها، ولا ينافي ذلك كبر جثتها ﴿ولى﴾ أي موسى عليه الصلاة والسلام.
ولما كانت عليه التولية مشتركة بين معان، بين المراد بقوله: ﴿مدبراً﴾ أي التفت هارباً منها مسرعاً جداً لقوله: ﴿ولم يعقب﴾ أي لم يرجع على عقبه، ولم يتردد في الجد في الهرب، ولم يلتفت إلى ما وراءه بعد توليته، يقال: عقب عليه تعقيباً، أي كر، وعقب في الأمر تعقيباً: تردد في طلبه مجداً - هذا في ترتيب المحكم. وفي القاموس: التعقيب:
134
الالتفات. وقال القزاز في ديوانه: عقب - إذا انصرف راجعاً فهو معقب.
ولما تشوفت النفس إلى ما قيل له عند هذه الحالة، أجيبت بأنه قيل له: ﴿يا موسى لا تخف﴾ ثم علل هذا النهي بقوله، مبشراً بالأمن والرسالة: ﴿إني لا يخاف لديّ﴾ أي في الموضع الذي هو من غرائب نواقض العادات، وهي وقت الوحي ومكانه ﴿المرسلون*﴾ أي لأنهم معصومون من الظلم، ولا يخاف من الملك العدل إلا ظالم.
135
ولما دل أول الكلام وآخره على أن التقدير ما ذكرته، وعلم منه أن من ظلم خاف، وكان المرسلون بل الأنبياء معصومين عن صدور ظلم، ولكنهم لعلو مقامهم، وعظيم شأنهم، يعد عليهم خلاف الأولى، بل بعض المباحات المستوية، بل أخص من ذلك، كما قالوا «حسنات الأبرار سيئات المقربين»، استدرك سبحانه من ذلك بأداة الاستثناء ما يرغب المرهبين من عواقب الظلم آخر تلك في التوبة، وينبه موسى عليه السلام على غفران وكزة القبطي له، وأنه لا خوف عليه بسببه وإن كان قتله مباحاً لكونه خطأ مع أنه كافر، لكن علو المقام يوجب التوقف عن الإقدام إلا بإذن خاص، ولذلك سماه هو ظلماً فقال ﴿رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي﴾ وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها
135
فقال: ﴿إلا﴾ أو المعنى: لكن ﴿من ظلم﴾ كائناً من كان، بفعل سوء ﴿ثم بدل﴾ بتوبته ﴿حسناً بعد سوء﴾ وهو الظلم الذي كان عمله، أي جعل الحسن بدل السوء كالسحرة الذين آمنوا بعد ذلك بموسى عليه الصلاة والسلام فإني أغفره له بحيث يكون كأنه لم يعمله أصلاً، وأرحمه بما أسبغ عليه من ملابس الكرامة المقارنة للأمن والعز وإن أصابه قبل ذلك نوع خوف. ثم علل ذلك بأن المغفرة والرحمة صفتان له ثابتتان، فقال: ﴿فإني﴾ أي أرحمه بسبب أني ﴿غفور﴾ أي من شأني أني أمحو الذنوب محواً يزيل جميع آثارها ﴿رحيم*﴾ أعامل التائب منها معاملة الراحم البليغ الرحمة بما يقتضيه حاله من الكرامة، فايل أثر ما كان وقع فيه من موجب الخوف وهو الظلم.
ولما أراه سبحانه هذه الخارقة فيما كان في يده بقلب جوهرها إلى جوهر شيء آخر حيواني، أراه آية أخرى في يده نفسها بقلب عرضها الذي كانت عليه إلى عرض آخر نوراني، فقال: ﴿وأدخل يدك في جيبك﴾ أي فتحة ثوبك، وهو ما قطع منه ليخيط بعنقك ﴿تخرج﴾ أي إذا أخرجتها ﴿بيضاء﴾ أي بياضاً عظيماً نيراً
136
جداً، له شعاع كشعاع الشمس.
ولما كان ربما وقع في وهم أن هذه الآفة، قال: ﴿من غير سوء﴾ أي برص ولا غيره من الآفات، آية أخرى كائنة ﴿في﴾ جملة ﴿تسع آيات﴾ كما تقدم شرحها في سورة الإسراء وغيرها، منتهية على يدك برسالتي لك ﴿إلى فرعون وقومه﴾ أي الذين هم أشد أهل هذا الزمان قياماً في الجبروت والعدوان؛ ثم علل إرساله إليهم بالخوارق بقوله: ﴿إنهم كانوا﴾ أي كوناً كأنه جبلة لهم ﴿قوماً فاسقين*﴾ أي خارجين عن طاعتنا لتردهم إلينا.
ولما كان التقدير: فأتاهم كما أمرناهم فعاندوا أمرنا، قال منبهاً على ذلك، دالاً بالفاء على سرعة إتيانه إليهم امتثالاً لما أمر به: ﴿فلما جاءتهم آياتنا﴾ أي على يده ﴿مبصرة﴾ أي سبب الإبصار لكونها منيرة ظاهرة جداً، فهي هادية لهم إلى الطريق الأقوم هداية النور لمن يبصر، فهو لا يخطىء شيئاً ينبغي أن ينتفع به ﴿قالوا هذا سحر﴾ أي خيال لا حقيقة له ﴿مبين*﴾ أي واضح في أنه خيال ﴿وجحدوا﴾ أي أنكروا عالمين ﴿بها﴾ أي أنكروا كونها آيات موجبات لصدقه مع علمهم بإبطالهم لأن الجحود الإنكار مع العلم.
ولما كان الجحد معناه إنكار الشيء مع العلم به، حقق ذلك بقوله: ﴿واستيقنتها﴾ أي والحال أنهم قد طلبوا الوقوف على حقائق أمرها
137
حتى تيقنتها في كونها حقاًَ ﴿أنفسهم﴾ وتخلل علمها صميم عظامهم، فكانت ألسنتهم مخالفة لما في قلوبهم، ولذلك أسند الاستيقان إلى النفس. ثم علل جحدهم ووصفهم لها بخلاف وصفها فقال: ﴿ظلماً وعلواً﴾ أي إرادة وضع الشيء في غير حقه، والتكبر على الآتي به، تلبيساً على عباد الله.
ولما كان التقدير: فأغرقناهم أجمعين بأيسر سعي وأهون أمر فلم يبق منهم غير تطرف، ولم يرجع منهم مخبر، على كثرتهم وعظمتهم وقوتهم، عطف عليه تذكيراً به مسبباً عنه قوله: ﴿فانظر﴾ ونبه على أن خبرهم مما تتوفر الدواعي على السؤال عنه لعظمته، فقال معبراً بأداة الاستفهام: ﴿كيف كان﴾ وكان الأصل: عاقبتهم، أي آخر أمرهم، ولكنه أظهر فقال: ﴿عاقبة المفسدين*﴾ ليدل على الوصف الذي كان سبباً لأخذهم تهديداً لكل من ارتكب مثله.
138
ولما تم بهذه القصة الدليل على حكمته، توقع السامع الدلالة على علمه سبحانه، فقال مبتدئاً بحرف التوقع مشيراً إلى أنه لا نكير في فضل الآخر على الأول عاطفاً على ما تقديره: فلقد آتينا موسى وأخاه هارون عليهما السلام حكمة وهدى وعلماً ونصراً على من
138
خالفهما وعزاً: ﴿ولقد آتينا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿داود وسليمان﴾ أي ابن داود، وهما من أتباع موسى عليهم السلام وبعده بأزمان متطاولة ﴿علماً﴾ أي جزاء من العلم عظيماً من منطق الطير والدواب وغير ذلك لم نؤته لأحد قبلهما.
ولما كان التقدير: فعملا بمقتضاه، عطف عليه قوله: ﴿وقالا﴾ شكراً عليه، دلالة على شرف العلم وتنبيهاً لأهله على التواضع: ﴿الحمد﴾ أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال ﴿لله﴾ أي الذي لا مثل له وله الجلال والجمال ﴿الذي فضلنا﴾ أي بما آتانا من ذلك ﴿على كثير من عباده المؤمنين*﴾ أي الذين صار الإيمان لهم خلقاً.
ولما كان كل منهما عليهما السلام قد أوتي ما ذكر، أشار إلى فضل سليمان عليه السلام بأنه جمع إلى ما آتاه ما كان منح به أباه فقال: ﴿وورث سليمان داود﴾ أي أباه عليهما السلام دون إخوته في النبوة والعلم والملك الذي كان قد خصه الله دون قومه بجمعه له إلى النبوة، فشكر الله على ما أنعم به عليه أولاً وثانياً ﴿وقال﴾ أي سليمان عليه السلام محدثاً بنعمة ربه ومنبهاً على ما شرفه الله به، ليكون أجدر في قبول الناس ما يدعوهم إليه من الخير: ﴿يا أيها الناس﴾.
139
ولما كان من المعلوم أنه لا معلم له إلا الله، فإن لا يقدر على ذلك غيره، قال بانياً للمفعول: ﴿علمنا﴾ أي أنا وأبي بأيسر أمر وأسهله ممن لا يقدر على ما علمنا سواء ولو كان المقصود هو وحده لم يكن من التعاظم في شيء، بل هو كلام الواحد المطاع، تنبيهاً على تعظيم الله بما عظمه به مما يختص بالقدرة عليه أو بالأمر به كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفعل إذا كان هناك حال يحوج إليه كما قال في الزكاة: إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا عز وجل، وكما كان يكتب لبعض الجبابرة ﴿منطق الطير﴾ أي فهم ما يريد كل طائر إذا صوت، والمنطق ما يصوت به من المفرد والمؤلف المفيد وغير المفيد، لا بدع في أن الذي آتى كل نفس هداها وعلمها تميز منافعها ومضارها يؤتيها قوة تدرك بها تخاطباً بينها يتفاهم كل نوع منها به فيما يريد، ويكون ذلك قاصراً عن إدراك الإنسان لخصوصه بالجزئيات الناشئة عن الحسيات ﴿وأوتينا﴾ ممن له العظمة بأيسر أمر من أمره ﴿من كل شيء﴾ أي يكمل به ذلك من اسباب الملك والنبوة وغيرهما، وعبر بأداة الاستغراق تعظيماً للنعمة كما يقال لمن يكثر تردد الناس إليه: فلان يقصده كل أحد.
140
ولما كان هذا أمراً باهراً، دل عليه بقوله مؤكداً بأنواع التأكيد وشاكراً حاثاً لنفسه على مزيد الشكر وهازاً لها إليه: ﴿إن هذا﴾ أي الذي أوتيناه ﴿لهو الفضل المبين*﴾ أي البين في نفسه لكل من ينظره، الموضح لعلو قدر صاحبه ووحدانية مفيضة مؤتية.
ولما كان هذا مجرد خبر، أتبعه ما يصدقه فقال: ﴿وحشر﴾ أي جمع جمعاً حتماً بقهر وسطوة وإكراه بأيسر سعي ﴿لسليمان جنوده﴾.
ولما دل ذلك على عظمه، زاد في الدلالة عليه بقوله: ﴿من الجن﴾ بدأ بهم لعسر جمعهم ﴿والإنس﴾ ثنى بهم لشرفهم ومشاركتهم لهم في ذلك من حيث تباعد أغراضهم وتناءي قصودهم.
ولما ذكر ما يعقل وبدأ به لشرفه، أتبعه ما لا يعقل فقال: ﴿والطير﴾ ولما كان الحشر معناه الجمع بكره، فكان لا يخلو عن انتشار، وكان التقدير: وسار بهم في بعض الغزوات، سبب عنه قوله تعظيماً للجيش وصاحبه: ﴿فهم يوزعون*﴾ أي يكفون بجيش أولهم على آخرهم بأدنى أمر وأسهله ليتلاحقوا، فيكون ذلك أجدر بالهيبة، وأعون على النصرة، وأقرب إلى السلامة؛ عن قتادة أنه كان على كل صنف من جنوده وزعة ترد أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير، قال: والوازع: الحابس وهو النقيب. وأصل الوزع الكف والمنع.
141
ولما كان التقدير: فساروا، لأن الوزع لا يكون إلا عن سير، غياه بقوله: ﴿حتى إذا أتوا﴾ أي أشرفوا. ولما كان على بساطه فوق متن الريح بين السماء والأرض. عبر بأداة الاستعلاء فقال: ﴿على واد النمل﴾ وهو واد بالطائف - كما نقله البغوي عن كعب، وهو الذي تميل إليه النفس فإنه معروف إلى الآن عندهم بهذا الاسم، ويسمى أيضاً نخب وزن كتف، وقد رأيته لما قصدت تلك الديار لرؤية مشاهدها، والتطواف في معابدها ومعاهدها. والتبرك بآثار الهادي، في الانتهاء والمبادىء، ووقفت بمسجد فيه قرب سدرة تسمى الصادرة مشهور عندهم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى به، وهذه السدرة مذكورة في غزوة الطائف من السيرة الهشامية واقتصر في تسمية الوادي على نخب، وأنشدت فيه يوم وقوفي ببابه، وتضرعي في أعتابه:
142
في قصيدة طويلة.
ولما كانوا في أمر يهول منظره، ويوهي القوى مخالطته ومخبره، فكان التقدير: فتبدت طلائعهم، وتراءت راياتهم ولوامعهم، وأحمالهم ووضائعهم، نظم به قوله: ﴿قالت نملة﴾ أي من النمل الذي بذلك الوادي: ﴿يا أيها النمل﴾ ولما حكى عنهم سبحانه ما هو من شأن العقلاء، عبر بضمائرهم فقال: ﴿ادخلوا﴾ أي قبل وصول ما أرى من الجيش ما ﴿مساكنكم﴾ ثم عللت أمرها معينة لصاحبه إذ كانت أماراته لا تخفى فقالت جواباً للأمر أو مبدلاً منه: ﴿لا يحطمنكم﴾ أي يكسرنكم ويهشمنكم أي لا تبرزوا فيحطمنكم.
فهو نهي لهم عن البروز في صور نهيه وهو أبلغ من التصريح بنهيهم لأن من نهى كبيراً عن شيء كان لغيره أشد نهياً ﴿سليمان وجنوده﴾ أي فإنهم لكثرتهم إذا صاروا في الوادي استعلوا عليه فطبقوه فلم يدعوا منه موضع شبر خالياً ﴿وهم﴾ أي سليمان عليه السلام وجنوده ﴿لا يشعرون*﴾ أي بحطمهم لكم لاشتغالهم بما هم فيه من أحوال السير، وتعاطي مصالحة، مع صغر أجسامكم، وخفائكم على السائر في حال اضطرابكم ومقامكم، وقولها هذا يدل على
143
علمها بأنهم لو شعروا بهم ما آذوهم لأنهم أتباع نبي فهم رحماء.
ولما كان هذا أمراً معجباً لما فيه من جزالة الألفاظ وجلالة المعاني، تسبب عنه قوله: ﴿فتبسم﴾ ولما دل ذلك على الضحك، وكان ذلك قد يكون للغضب، أكده وحقق معناه بقوله: ﴿ضاحكاً من قولها﴾ أي لما أوتيته من الفصاحة والبيان، وسروراً بما وصفته به من العدل في أنه وجنوده لا يؤذون أحداً وهم يعلمون ﴿وقال﴾ متذكراً ما أولاه ربه سبحانه بحسن تربيته من فهم كلامها إلى ما أنعم عليه من غير ذلك: ﴿رب﴾ أي أيها المحسن إليّ ﴿أوزعني أن﴾ أي اجعلني مطيقاً لأن ﴿أشكر نعمتك﴾ أي وازعاً له كافاً مرتبطاً حتى لا يغلبني. ولا يتفلت مني، ولا يشذ عني وقتاً ما.
ولما أفهم ذلك تعلق النعمة به. حققه بقوله: ﴿التي أنعمت عليّ﴾ وربما أفهم قوله: ﴿وعلى والديّ﴾ أن أمه كانت أيضاً تعرف منطق الطير. وتحقيق معنى هذه العبارة أن مادة «وزع» - بأيّ ترتيب كان - يدور على المعوز - لخرقة بالية يلف بها الصبي، ويلزمها التمييز، فإن الملفوف بها يتميز عن غيره، ومنه الأوزاع وهم الجماعات المتفرقة، ويلزمها أيضاً الإطاقة فإن أكثر الناس يجدها، ومنه العزون - لعصب من الناس، فإنهم يطيقون ما يريدون ويطيقهم من يريدهم، ومنه الوزع وهو كف ما يراد كفه، والولوع بما يزاد، ومنه الإيعاز - للتقدم بالأمر والنهي، والزوع للجذب، ويلزمها أيضاً الحاجة فإنه لا يرضى بها دون الجديد إلا محتاج، فمعنى الآية: اجعلني وازعاً - أي مطيقاً - أن أشكرها كما يطيق الوازع كف ما يريد كفه، ويمكن أن يكون مدار المادة الحاجة لأن الأوزاع -
144
وهم الجماعات - يحتاجون إلى الاجتماع جملة، والكاف محتاج إلى امتثال ما يكفه لأمره، والجاذب محتاج إلى الزوع أي الجذب، والمولع بالشيء فقير إليه، والموعز محتاج إلى قبول وصيته، فالمعنى: اجعلني وازعاً أي فقيراً إلى الشكر، أي ملازماً له مولعاً به، لأن كل فقير إلى شيء مجتهد في تحصيله، ويلزم على هذا التخريج احتقار العمل، فيكون سبباً للأمن من الإعجاب، وفي الآية تنبيه على بر الوالدين في سؤال القيام عنهم بما لم يبلغاه من الشكر - والله الموفق.
والشكر في اللغة فعل ينبىء عن تعظيم المنعم لكونه منعماً كالثناء على المنعم بما يدل على أن الشاكر قد عرف نعمته واعترف له بها وحسن موقعها عنده، وخضع قلبه له لذلك، وحاصله أنه اسم لمعرفة النعمة لأنها السبيل إلى معرفة المنعم فإنه إذا عرفها تسبب في
145
التعرف إليه، فسلك طريق التعرف وجد في الطلب، ومن جدَّ وجد، ويروى عن داود عليه الصلاة والسلام أنه قال: يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة آخرى منك أحتاج عليها إلى شكر آخر؟ فأوحى الله تعالى إليه: يا داود! إذا علمت أن ما بك من نعمة فمني فقد شكرتني.
والشكر ثلاثة أشياء: الأول معرفة النعمة بمعنى إحضارها في الخاطر بحيث يتميز عندك أنها نعمة، فرب جاهل يحسن إليه وينعم عليه وهو لا يدري، فلا جرم أنه لا يصح منه الشكر. والثاني: قبول النعمة بتلقيها من المنعم بإظهار الفقر والفاقة، فإن ذلك شاهد بقبولها حقيقة، والثالث: الثناء بها بأن تصف المنعم بالجود والكرم ونحوه مما يدل على حسن تلقيك لها واعترافك بنزول مقامك في الرتبة عن مقامه، فإن اليد العليا خير من اليد السفلى، وهو على ثلاث درجات: الأولى الشكر على المحاب أي الأشياء المحبوبة، وهذا شكر تشارك فيه المثبتون المسلمون واليهود والنصارى والمجوس، فإن الكل يعتقدون أن الإحسان الواصل من الرحمن واجب معرفته على الإنسان، ومن سعة بر البارىء سبحانه وتعالى أن عده شكراً مع كونه واجباً على الشاكر. ووعد عليه الزيادة، وأوجب فيه المثوبة إحساناً ولطفاً. الثانية: الشكر في المكاره، وهو إما من رجل لا يميز بين الحالات، بل يستوي عنده المكروه والمحبوب، فإذا نزل به المكروه شكر الله عليه بمعنى أنه أظهر الرضا بنزوله به، وهذا مقام الرضا، وإما من رجل
146
يميز بين الأحوال فهو لا يحب المكروه ولا يرضى بنزوله، فإن نزل به مكروه فشكره عليه إنما هو كظم الغيظ وستر الشكوى وإن كان باطنه شاكياً، والكظم إنما هو لرعاية الأدب بالسلوك في مسلك العلم، فإنه يأمر العبد بالشكر في السراء والضراء والثالثة: أن لا يشهد العبد إلا المنعم باشتغاله بالاستغراق في مشاهدته عن مشاهدة النعمة، وهذا الشهودعلى ثلاثة أقسام: أحدها أن يستغرق فيها عبودة، فيكون مشاهداً له مشاهدة العبد للسيد بأدب العبيد إذا حضروا بين يدي سيدهم، فإنهم ينسون ما هم فيه من الجاه والقرب الذي ما حصل لغيرهم، باستغراقهم في الأدب، وملاحظتهم لسيدهم خوفاً من أن يسير إليهم في أمر فيجدهم غافلين، وهذا أمر معروف عند من صحب الملوك.
فصاحب هذا الحال إذا أنعم عليه سيده في هذه الحالة، مع قيامه في حقيقة العبودة، استعظم الإحسان، لأن العبودة توجب عليه أن يستضغر نفسه. ثانيها أن يشهد سيده شهود محبة غالبة، فهو يسبب هذا الاستغراق فيه، يستحلي منه الشدة، وقد قال بعض عشاق حسن الصورة لا صورة الحسن فأحسن:
مررت بوادي النمل يا صاح بكرة فصحت وأجريت الدموع على خدي
وتممت منه موقف الهاشمي الذي ملأ الأرض توحيداً يزيد على العد
وكم موقف أفرشته حر جبهتي وأبديت في أرجائه ذلة العبد
من لم يذق ظلم الحبيب كظلمه حلواً فقد جهل المحبة وادعى
ثالثها: أن يشهد شهود تفريد يرفع الثنويه ويفني الرسم ويذهب الغيرية،
147
فإذا وردت عليه النعمة أو الشدة كان مستغرقاً في الفناء فلم يحس بشيء منهما.
ولما علم من هذا كله أن الشاكر هو المستغرق في الثناء على المنعم بما يجب عليه من العمل من فناء أو غيره بحسب ما يقدر عليه، وكان ذلك عمل مما يجوز أن يكون زين لذلك العبد كونه حسناً وهو ليس كذلك، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشيراً إلى هذا المعنى: ﴿وأن أعمل صالحاً﴾ أي في نفس الأمر. ولما كان العمل الصالح قد لا يرضي المنعم لنقص في العمل كما قيل في معنى ذلك:
إذا كان المحب قليل حظ فما حسناته إلا ذنوب
قال: ﴿ترضاه﴾.
ولما كان العمل الصالح المرضي قد لا يعلى إلى درجة المرضي عنهم، لكون العامل منظوراً إليه بعين السخط، لكونه ممن سبق عليه الكتاب بالشقاء، لأن الملك المنعم تام الملك عظيم الملك فهو بحيث لا يسأل عما يفعل، قال معرضاً عن عمله معترفاً بعجزه، معلماً بأن المنعم غني عن العمل وعن غيره، لا تضره معصية ولا ينفعه طاعة: ﴿وأدخلني برحمتك﴾ أي لا بعملي ﴿في عبادك الصالحين*﴾ أي لما أردتهم له من تمام النعمة بالقرب والنظر إليهم بعين العفو
148
والرحمة والرضا.
149
ولما كان التقدير: فوصل إلى المنزل الذي قصده فنزله وتفقد أحوال جنوده كما يقتضيه العناية بأمور الملك، أي تجنب فقدهم بأن تعرف من هو منهم موجود ومن هو منهم مفقود، الذي يلزمه أن لا يغيب أحد منهم: ﴿وتفقد الطير﴾ إذ كانت أحد أركان جنده ففقد الهدهد ﴿فقال ما لي﴾ أي أيّ شيء حصل لي حال كوني ﴿لا أرى الهدهد﴾ أي أهو حاضر، وستره عني ساتر، وقوله: ﴿أم كان من الغائبين*﴾ كما أنه يدل على ما قدرته يدل على أنه فقد جماعة من الجند، فتحقق غيبتهم وشك في غيبته، وذكره له دونهم يدل على عظيم منزلة الهدهد فيما له عنده من النفع، وأن غيبة غيره كانت بأمره عليه السلام. ثم قال على سبيل الاستئناف إقامة لسياسة الملك ما يدل أيضاً على عظمته، قالوا: إنه يرى الماء في الأرض كما يرى الإنسان الماء من داخل الزجاج فينقر الأرض فتأتي الشياطين فتستخرجه: ﴿لأعذبنه﴾ أي بسبب غيبته فيما لم آذن فيه ﴿عذاباً شديداً﴾ أي مع إبقاء روحه تأديباً له وردعاً لأمثاله ﴿أو لأذبحنه﴾ أي تأديباً لغيره ﴿أو ليأتيني﴾ أي ليكونن أحد هذه الثلاثة الأشياء، أو تكون ﴿أو﴾ الثانية بمعنى إلا أن
149
فيكون المعنى: ليكونن أحد الأمرين: التعذيب أو الذبح: إلا أن يأتيني ﴿بسلطان مبين*﴾ أي حجة واضحة في عذره، فكأنه قال: والله ليقيمن عذره أو لأفعلن معه أحد الأمرين ﴿فمكث﴾ أي فترتب على ذلك أنه مكث بعد الحلف بالتهديد زماناً قريباً ﴿غير بعيد﴾ من زمان التهديد، وأتى خوفاً من هيبة سليمان عليه السلام، وقياماً بما يجب عليه من الخدمة، قرأه عاصم وروح عن يعقوب بفتح الكاف على الأغلب في الأفعال الماضية، وضمه الجماعة إشارة إلى شدة الغيبة عن سليمان عليه السلام ليوافق إفهام حركة الكلمة ما أفهمه تركيب الكلام ﴿فقال﴾ عقب إتيانه مفخماً للشأن ومعظماً لرتبة العلم ودافعاً لما علم أنه أضمر من عقوبته: ﴿أحطت﴾ أي علماً ﴿بما لم تحط به﴾ أي أنت من اتساع علمك وامتداد ملكك، والإحاطة: العلم بالشيء من جميع جهاته، وفي هذه المكافحة التنبيه على أن أضعف الخلق قد يؤتي ما لا يصل إليه أقواهم لتتحاقر إلى العلماء علومهم ويردوا العلم في كل شيء إلى الله، وفيه إبطال لقول الرافضة: إن الإمام لا يخفى عليه شيء، ولا يكون في زمانه من هو أعلم منه.
ولما أبهمه تشويقاً، وأخذ بمجامع القلب إلى تعرفه، ثنى بمدح
150
الخبر مجلياً بعض إبهامه، هزاً للنفس إلى طلب إتمامه، فقال: ﴿وجئتك﴾ أي الآن ﴿من سبإ﴾ قيل: إنه اسم رجل صار علماً لقبيلة، وقيل: أرض في بلاد اليمن، وحكمة تسكين قنبل له بنية الوقف الإشارة إلى تحقير أمرهم بالنسبة إلى نبي الله سليمان عليه السلام بأنهم ليست لهم معه حركة أصلاً على ما هم فيه من الفخامة والعز والبأس الشديد ﴿بنبإ﴾ أي خبر عظيم ﴿يقين*﴾ وهو من أبدع الكلام موازنة في اللفظ ومجانسة في الخط مع ما له من الانطباع والرونق، فكأنه قيل: ما هو؟ فقال: ﴿إني وجدت امرأة﴾ وهي بلقيس بنت شراحيل ﴿تملكهم﴾ أي أهل سبأ.
ولما كانت قد أوتيت من كل ما يحتاج إليه الملوك أمراً كبيراً قال: ﴿وأوتيت﴾ بنى الفعل للمفعول إقراراً بأنها مع ملكها مربوبة ﴿من كل شيء﴾ تهويلاً لما رأى من أمرها.
ولما كان عرشها - أي السرير الذي تجلس عليه للحكم - زائداً في العظمة، خصه بقوله: ﴿ولها عرش﴾ أي سرير تجلس عليه للحكم ﴿عظيم*﴾ أي لم أر لأحد مثله.
ولما كان في الخدمة أقرب أهل ذلك الزمان إلى الله فحصل له من النورانية ما هاله لأجله إعراضهم عن الله، قال مستأنفاً تعجيباً:
151
﴿وجدتها وقومها﴾ أي كلهم على ضلال كبير، وذلك أنهم ﴿يسجدون للشمس﴾ مبتدئين ذلك ﴿من دون الله﴾ أي من أدنى رتبة من رتب الملك الأعظم الذي لا مثل له، وهي الرتبة الأفعال لأنها مصنوع من مصنوعاته تعالى سواء كان ذلك مع الاستقلال أو الشرك ﴿وزين لهم الشيطان أعمالهم﴾ أي هذه القبيحة حتى صاروا يظنونها حسنة.
ولما تسبب عن ذلك أنه أعماهم عن طريق الحق قال: ﴿فصدهم عن السبيل﴾ أي الذي لا سبيل إلى الله غيره، وهو الذي بعث به أنبياءه ورسله عليهم الصلاة والسلام.
ولما تسبب عن ذلك ضلالهم، قال: ﴿فهم﴾ أي بحيث ﴿لا يهتدون*﴾ أي لا يوجد لهم هدى، بل هم في ضلال صرف، وعمى محض.
152
ولما كان هذا الضلال عجباً في نفسه فضلاً عن أن يكون من قوم يجمعهم جامع ملك مبناه السياسة التي محطها العقل الذي هو نور الهداية، ودواء الغواية، علله بانتفاء أعظم مقرب إلى الله: السجود، تعظيماً له وتنويهاً به فقال: ﴿ألا﴾ أي لئن لا ﴿يسجدوا﴾ أي حصل لهم هذا العمى العظيم الذي استولى به عليهم الشيطان لانتفاء سجودهم، ويجوز
152
أن يتعلق بالتزيين، أي زين لهم لئلا يسجدوا ﴿لله﴾ أي يعبدوا الذي له الكمال كله بالسجود الذي هو محل الإنس، ومحط القرب، ودارة المناجاة، وآية المعافاة، فإنهم لو سجدوا له سبحانه لاهتدوا، فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ففات الشيطان ما يقصده منهم من الضلال، وعلى قراءة الكسائي وأبي جعفر بالتخفيف وإشباع فتح الياء يكون استئنافاً، بدىء بأداة الاستفتاح تنبيهاً لهم على عظم المقام لئلا يفوت الوعظ أحداً منهم بمصادفته غافلاً، ثم نادى لمثل ذلك وحذف المنادى إيذاناً بالاكتفاء بالإشارة لضيق الحال، خوفاً من المبادرة بالنكال عن استيفاء العبارة التي كان حقها:: ألا يا هؤلاء اسجدوا لله، أي لتخلصوا من أسر الشيطان، فإن السجود مرضاة للرحمن، ومجلاة للعرفان، ومجناة لتمام الهدى والإيمان.
ولما كانت القصة في بيان علمه سبحانه السابق لعلم الخلائق المستلزم للحكمة، وصفه بما يقتضي ذلك فقال: ﴿الذي يخرج الخبء﴾ وهوالشيء المخبوء بالفعل المخفي في غيره، وهو ما وجد وغيب عن الخلق كالماء الذي في بطن الأرض، أو بالقوة وهو ما لم يوجد أصلاً، وخصه بقوله: ﴿في السماوات والأرض﴾ لأن ذلك منتهى مشاهدتنا،
153
فننظر ما يتكون فيهما بعد أن لم يكن من سحاب ومطر ونبات وتوابع ذلك من الرعد والبرق وغيرهما، وما يشرق من الكواكب ويغرب - إلى غير ذلك من الرياح، والبرد والحر، الحركة والسكون، والنطق والسكوت، وما لا يحصيه إلا الله تعالى، والمعنى أنه يخرج ما هو في عالم الغيب فيجعله في عالم الشهادة.
ولما كان ذلك قد يخص بما لم يضمر في القلوب كالماء الذي كان يخرجه الهدهد وكان ذلك قد يعرف بأمارات، وكان ما تضمره القلوب أخفى، قال: ﴿ويعلم ما تخفون﴾ ولما كان هذا مستزماً لعلم الجهر، وكان التصريح ما ليس لغيره من المكنة والطمأنينة، مع أن الإعلان ربما كان فيه من اللغط واختلاط الأصوات ما يمنع المستمع من العلم، قال: ﴿وما تعلنون*﴾ أي يظهرون.
ولما كان هذا الوصف موجباً لأن يعبد سبحانه وحده، صرح بما يقتضيه في قوله؛ ﴿الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له؛ ولما كان هذا إشارة إلى أنه لا سمي له، أتبعه التصريح بأنه لا كفوء له فقال: ﴿لا إله إلا هو﴾ ولما كان وصف عرشها بعظم ما، قال: ﴿رب﴾ أي مبدع ومدبر ﴿العرش العظيم*﴾ أي الكامل في
154
العظم الذي لا عظيم يدانيه، وهو محتو على جميع الأكوان، وقد ثبت أن صاحبه أعظم منه ومن كل عظيم بآية الكرسي وبغيرها، فقطع ذلك لسان التعنت عند ذكره مع مزيد اقتضاء السياق له لأنه للانفراد بالإلهية المقتضية للقهر والكبر بخلاف آية المؤمنون، وهذه آية سجدة على كل القراءتين، لأن مواضع السجود إما مدح لمن أتى بها، أو ذم لمن تركها، كقراءة التشديد، أو أمر بالسجود كقراءة التخفيف، والكل ناظر إلى العظمة.
ولما صح قوله في كون هذا خبراً عظيماً، وخطباً جسيماً، حصل التشوق إلى جوابه فقيل: ﴿قال﴾ أي سليمان عليه السلام للهدهد: ﴿سننظر﴾ أي نختبر ما قلته ﴿أصدقت﴾ أي فيه فنعذرك. ولما كان الكذب بين يديه - لما أوتيه من العظمة بالنبوة والملك الذي لم يكن لأحد بعده - يدل على رسوخ القدم فيه، قال: ﴿أم كنت﴾ أي كوناً هو كالجبلة ﴿من الكاذبين*﴾ أي معروفاً بالانخراط في سلكهم، فإنه لا يجترىء على الكذب عندي إلا من كان عريقاً في الكذب دون «أم كذبت» لأن هذا يصدق بمرة واحدة. ثم شرع فيما يختبره به، فكتب له كتاباً على الفور في غاية الوجازة قصداً للإسراع في إزالة المنكر على تقدير صدق الهدهد بحسب الاستطاعة، ودل على إسراعه في كتابته بقوله جواباً له: ﴿اذهب بكتابي هذا﴾ قول من
155
كان مهيئاً عنده ودفعه إليه.
ولما كان عليه السلام قد زاد قلقه بسجودهم لغير الله، أمره بغاية الإسراع، وكأنه كان أسرع الطير طيراناً وأمده الله زيادة على ذلك بمعونة منه إكراماً لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصار كأنه البرق، فأشار إلى ذلك بالفاء في قوله: ﴿فألقه﴾ ولما لم يخصها في الكتاب دونهم بكلام لتصغر إليهم أنفسهم بخطابه مع ما يدلهم على عظمته، جمع فقال: ﴿إليهم﴾ أي الذين ذكرت أنهم يعبدون الشمس، وذلك للاهتمام بأمر الدين.
ولما كان لو تأخر عنهم بعد إلقائه إلى موضع يأمن فيه على نفسه على ما هو فيه من السرعة لداخلهم شك في أنه هو الملقى له، أمره بأن يمكث بعد إلقائه يرفرف على رؤوسهم حتى يتحققوا أمره، فأشار سبحانه إلى ذلك بأداة التراخي بقوله، ﴿ثم﴾ أي بعد وصولك وإلقائك ﴿تول﴾ أي تنح ﴿عنهم﴾ إلى مكان تسمع فيه كلامهم ولا يصلون معه إليك ﴿فانظر﴾ عقب توليك ﴿ماذا يرجعون*﴾ أي من القول من بعضهم إلى بعض بسبب الكتاب.
ولما كان العلم واقعاً بأنه يفعل ما أمر به لا محالة، وأنه لا يدفعه
156
إلا إلى الملكة التي بالغ في وصفها، تشوفت النفس إلى قولها عند ذلك، فكان كأنه قيل: فأخذ الكتاب وذهب به، فلما ألقاه إليها وقرأته، وكانت قارئة كاتبة من قوم تبع ﴿قالت﴾ لقومها بعد أن جمعتهم معمظمة لهم، أو لأشرافهم فقط: ﴿يا أيها الملأ﴾ أي الأشراف.
ولما كان من شأن الملوك أن لا يصل إليهم أحد بكتاب ولا غيره إلا على أيدي جماعتهم، عظمت هذا الكتاب بأنه وصل إليها على غير ذلك المنهاج فبنت للمفعول قولها: ﴿إني ألقي إليَّ﴾ أي بإلقاء ملق على وجه غريب ﴿كتاب﴾ أي صحيفة مكتوب فيها كلام وجيز جامع.
ولما كان الكريم كما تقدم في الرعد - من ستر مساوىء الأخلاق بإظهار معاليها لأنه ضد اللئيم، وكان هذا الكتاب قد حوى من الشرف أمراً باهراً لم يعهد مثله من جهة المرسل والرسول والافتتاح بالاسم الأعظم إلى ما له من وجازة اللفظ وبلوغ المعنى، قالت: ﴿كريم*﴾ ثم بينت كرمه أو استأنفت جواباً لمن يقول: ممن هو وما هو؟ فقالت: ﴿إنه﴾ أي الكتاب ﴿من سليمان﴾ وفيه دلالة على أن الابتداء باسم صاحب الكتاب لا يقدح في الابتداء بالحمد ﴿وإنه﴾ أي المكتوب فيه ﴿بسم الله الرحمن الرحيم*﴾ فحمد المستحق للحمد وهو الملك الأعلى المحيط عظمه بدائرتي الجلال والإكرام، العام الرحمة
157
بك نعمة، فملك الملوك من فائض ما له من الإنعام الذي يخص بعد العموم من يشاء بما يشاء مما ترضاه ألوهيته من إنعامه العام، بعد التعريف باسمه إشارة إلى أنه المدعو إليه للعبادة بما وجب له لذاته وما استحقه بصفاته، وذلك كله بعد التعريف بصاحب الكتاب ليكون ذلك أجدر بقبوله، لأن أكثر الخلق إنما يعرف الحق بالرجال، ولما في كتابه من الدلالة على نبوته، فسر مراده بأمر قاهر فقال: ﴿ألا تعلوا عليّ﴾ أي لا تمتنعوا من الإجابة لي، والإذعان لأمري، كما يفعل الملوك، بل اتركوا علوهم، لكوني داعياً إلى الله الذي أعلمت في باء البسملة بأنه لا تكون حركة ولا سكون إلا به، فيجب الخضوع له لكونه رب كل شيء ﴿وأتوني مسلمين*﴾ أي منقادين خاضعين بما رأيتم من معجزتي في أمر الكتاب.
ولما تشوفت النفس غلى جوابهم، اعلم سبحانه بأنهم بهتوا فقال: ﴿قالت يا أيها الملأ﴾ ثم بينت ما داخلها من الرعب من صاحب هذا الكتاب بقولها: ﴿أفتوني﴾ أي تكرموا عليّ بالإبانة عما أفعله ﴿في أمري﴾ هذا الذي أجيب به عن هذا الكتاب، جعلت المشورة فتوى توسعاً، لأن الفتوى الجواب في الحادثة، والحكم بما هو صواب مستعار من
158
الفتاء في السن الذي صفرة العمر؛ ثم عللت أمرها لهم بذلك بأنها شأنها دائماً مشاورتهم في كل جليل وحقير، فكيف بهذا الأمر الخطير، وفي ذلك استعطافهم بتعظيمهم وإجلالهم وتكريمهم، فقال: ﴿ما كنت﴾ أي كوناً ما ﴿قاطعة أمراً﴾ أي فاعلته وفاصلته غير مترددة فيه ﴿حتى تشهدون*﴾ وقد دل على غزارة عقلها وحسن أدبها، ولذلك جنت ثمرة أمثال ذلك طاعتهم لها في المنشط والمكره، فاستأنف تعالى الإخبار عن جوابهم بقوله: ﴿قالوا﴾ أي الملأ مائلين إلى الحرب: ﴿نحن أولوا قوة﴾ أي بالمال والرجال ﴿وأولوا بأس﴾ أي عزم في الحرب ﴿شديد * والأمر﴾ راجع وموكول ﴿إليك﴾ أي كل من المسالمة والمصادمة ﴿فانظري﴾ بسبب أنه لا نزاع معك ﴿ماذا تأمرين*﴾ أي به فإنه مسموع.
159
ولما علمت أن من سخر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده، ولا أحد يكيده، مالت إلى المسالمة، فاستأنف سبحانه وتعالى الإخبار عنها بقوله: ﴿قالت﴾ جواباً لما أحست في جوابهم من ميلهم إلى الحرب أن الصواب من غير ارتياب أن نحتال في عدم قصد هذا الملك المطاع؛ ثم عللت هذا الذي أفهمه سياق كلامها بقولها
159
﴿إن الملوك﴾ أي مطلقاً، فكيف بهذا النافذ الأمر، العظيم القدر ﴿إذا دخلوا قرية﴾ أي عنوة بالقهر والغلبة ﴿أفسدوها﴾ أي بالنهب والتخريب ﴿وجعلوا أعزة أهلها أذلة﴾ أي بما يرونهم من البأس، ويحلون بهم من السطوة. ثم أكدت هذا المعنى بقولها: ﴿وكذلك﴾ أي ومثل هذا الفعل العظيم الشأن، الوعر المسلك البعيد الشأو ﴿يفعلون*﴾ دائماً، هو خلق لهم مستمر جميعهم على هذا، فكيف بمن تطيعه الطيور، ذوات الوكور، فيما يريده من الأمور.
ولما بينت ما في المصادمة من الخطر، أتبعته ما عزمت عليه من المسالمة، فقالت: ﴿وإني مرسلة﴾ وأشار سبحانه إلى عظيم ما ترسل به بالجمع في قولها: ﴿إليهم﴾ أي إليه وإلى جنوده ﴿بهدية﴾ أي تقع منهم موقعاً. قال البغوي: وهي العطية على طريق الملاطفة. ﴿فناظرة﴾ عقب ذلك وبسببه ﴿بم﴾ أي بأي شيء ﴿يرجع المرسلون*﴾ بتلك الهدية عنه من المقال أو الحال، فنعمل بعد ذلك على حسب ما نراه من أمره، فنكون قد سلمنا من خطر الإقدام على ما لم نعرف عاقبته، ولم يضرنا ما فعلنا شيئاً.
ولما كان التقدير: فأرسلت بالهدية، وهي فيما يقال خمسمائة
160
غلام مرد، زينتهم بزي الجواري، وأمرتهم بتأنيث الكلام، وخمسمائة جارية في زي الغلمان، وأمر لهم بتغليظ الكلام. وجزعه معوجة الثقب، ودرة غير مثقوبة - وغير ذلك، وسألته أن يميز بين الغلمان والجواري، وأن يثقب الدرة، وأن يدخل في الجزعة خيطاً، فأمرهم بغسل الوجوه والأيدي، فكانت الجارية تأخذ الماء بإحدى يديها ثم تنقله إلى الأخرى ثم تضرب الوجه وتصب الماء على باطن ساعدها صباً، وكان الغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه ويصب الماء على ظهر الساعد ويحدره على يديه حدراً، وأمر الأرضة فثقبت الدرة، والدودة فأدخلت السلك في الثقب المعوج، رتب عليه قوله مشيراً بالفاء إلى سرعة الإرسال: ﴿فلما جاء﴾ أي الرسول الذي بعثته وأرسلته، والمراد به الجنس؛ قال أبو حيان: وهو يقع على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث. ﴿سليمان﴾ فدفع إليه ذلك ﴿قال﴾ أي سليمان عليه السلام للرسول ولمن في خدمته استصغاراً لما معه: ﴿أتمدونن﴾ أي أنت ومن معك ومن أرسلك ﴿بمال﴾ وإنما قصدي لكم لأجل الدين، تحقيراً لأمر الدنيا وإعلاماً بأنه لا التفات
161
له نحوها بوجه، ولا يرضيه شيء دون طاعة الله.
ثم سبب عنه ما أوجب له استصغار ما معه فقال: ﴿فما آتاني الله﴾ أي الملك الأعظم الذي له جميع الكمال من المال والجلال بالنبوة والملك والقرب منه سبحانه، وهو الذي يغني مطيعه عن كل ما سواه، فمهما سأله أعطاه، وذلك أنه صف الشياطين والإنس والسباع والوحش والطير والهوام صفوفاً فراسخ عدة، وبسط المكان كله بلين الذهب إلى غير ذلك مما يليق به ﴿خير مما آتاكم﴾ أي من الملك الذي لا نبوة فيه، ولا تأييد من الله.
ولما كان التقدير: ولكنكم لا تعلمون أن هديتكم مما يزهد فيه لتقيدكم بظاهر من الحياة الدنيا، نسق عليه قوله: ﴿بل أنتم﴾ أي بجهلكم لذلك تستعظمون ما أنتم فيه، فأنتم ﴿بهديتكم تفرحون*﴾ بتجويزكم أن الدنيا تردني عنكم لأنها غاية قصدي، ويجوز أن يراد أنكم تفرحون بما يهدي إليكم فتتركون من كنتم تريدون غزوه لأجل ما آتاكم منه من الدنيا، فحالي خلاف حالكم، فإنه لا يرضيني إلا الدين. ثم أفرد الرسول إرادة لكبيرهم بقوله: ﴿ارجع﴾ وجمع في قوله: ﴿إليهم﴾ إكراماً لنفسه، وصيانه لاسمها عن التصريح بضميرها، وتعميماً لكل من يهتم بأمرها ويطيعها ﴿فلنأتينهم بجنود لا قبل﴾ أي طاقة ﴿لهم بها﴾ أي بمقابلتها لمقاومتها وقلبها عن قصدها، أي لا يقدرون أن يقابلوها
162
﴿ولنخرجنهم منها﴾ أي من بلادهم ﴿أذلة﴾.
ولما كان الذل قد يكون لمجرد الانقياد، لا على سبيل الهوان، حقق المراد بقوله: ﴿وهم صاغرون*﴾ أي لا يملكون شيئاً من المنعة إن لم يقروا بالإسلام.
ولما ذهب الرسل، وعلم صلى الله عليه السلام مما رأى من تصاغرهم لما رأوا من هيبته وجلاله الذي حباه به ربه وعظمته أنهم يأتون بها مذعنة ﴿قال﴾ لجماعته تحقيقاً لقوله: ﴿وأوتينا من كل شيء﴾ لإعلامه بأنها استوثقت من عرشها: ﴿يا أيها الملأ﴾ أي الأشراف ﴿أيّكم يأتيني بعرشها﴾ لترى بعض ما آتاني الله من الخوارق، فيكون أعون على متابعتها في الدين، ولآخذه قبل أن يحرم أخذه بإسلامها، وأختبر به عقلها ﴿قبل أن يأتوني﴾ أي هي وجماعتها ﴿مسلمين*﴾ أي منقادين لسلطاني، تاركين لعز سلطانهم، منخلعين من عظيم شأنهم، ليكون ذلك أمكن في إقامة الحجة عليها في نبوتي وأعون على رسوخ الإيمان في قلبها وإخلاصها فيه ﴿قال عفريت﴾. ولما كان هذا اللفظ يطلق على الأسد، وعلى المارد القوي، وعلى الرجل النافذ في الأمر المبالغ فيه مع دهاء وقوة - وقال الرازي:
163
مع خبث ومكر - وعلى غيره، بينه بأن قال: ﴿من الجن أنا﴾ الداهية الغليظ الشديد ﴿آتيك به﴾ ولما علم أن غرضه الإسراع قال: ﴿قبل أن تقوم من مقامك﴾ أي مجلسك هذا، ثم أوثق الأمر وأكده بقوله: ﴿وإني عليه﴾ أي الإتيان به سالماً ﴿لقوي﴾ لا يخشى عجزي عنه ﴿أمين*﴾ لا يخاف انتقاضي شيئاً منه.
ولما كانت القصة لإظهار فضل العلم المستلزم للحكمة، دلالة على أنه تعالى حكيم عليم، ترغيباً في القرآن، وحثاً على ما أفاده من البيان، قال حاكياً لذلك استئنافاً جواباً لاستشرافه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأقرب من ذلك: ﴿قال الذي عنده﴾.
ولما كان لكتب الله من العظمة ما لا يحيطه إلا الله، اشار إلى ذلك بتنكير ما لهذا الذي يفعل مثل هذا الخارق العظيم من ذلك فقال: ﴿علم﴾ تنبيهاً على أنه اقتدر على ذلك بقوة العلم ليفيد ذلك تعظيم العلم والحث على تعلمه، وبين أن هذا الفضل إنما هو للعلم الشرعي فقال: ﴿من الكتاب﴾ أي الذي لا كتاب في الحقيقة غيره، وهو المنسوب إلينا، وكأنه الذي كان شهيراً في ذلك الزمان، ولعله التوراة والزبور، إشارة إلى أن من خدم كتاباً حق الخدمة
164
كان الله - تعالى كما ورد في شرعنا - سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، أي إنه يفعل له ما يشاء، وقيل في تعيينه إنه آصف بن برخيا وكان صديقاً عالماً: ﴿أنا آتيك به﴾ وهذا أظهر في كونه اسم فاعل لأن الفعل قارن الكلام؛ وبين فضله على العفريت بقوله: ﴿قبل أن يرتد﴾ أي يرجع ﴿إليك طرفك﴾ أي بصرك إذا طرفت بأجفانك فأرسلته إلى منتهاه ثم رددته؛ قال القزاز: طرف العين: امتداد بصرها حيث أدرك، ولذلك يقولون: لا أفعل ذلك ما ارتد إليّ طرفي، أي ما دمت أبصر، ويقال: طرف الرجل يطرف - إذا حرك جفونه، وقيل: الطرف اسم لجامع البصر لا يثنى ولا يجمع. وبين تصديق فعله لقوله أنه استولىعليه قبل أن يتحكم منه العفريت فبادر الطرف إحضاره كما أشار إليه قوله تعالى: ﴿فلما رآه﴾ أي العرش.
ولما كانت الرؤية قد تكون عن بعد ومجازية، وكذلك العندية، بين أنها حقيقية بإظهار العامل في الظرف ومن حقه في غير هذا السياق الحذف فقال: ﴿مستقراً عنده﴾ أي ثابتاً ثباتاً لا مرية فيه، ما هو بسحر ولا منام لا مثال؛ قال الإمام جمال الدين بن هشام في الباب
165
الثالث من كتابه المغني: زعم ابن عطية أن ﴿مستقراً﴾ هو المتعلق الذي يقدر في أمثاله قد ظهر، والصواب ما قاله أبو البقاء وغيره من أن هذا الاستقرار معناه عدم التحرك لا مطلق الوجود والحصول، فهو كون خاص. ﴿قال﴾ أي سليمان عليه السلام شكراً لما آتاه الله من هذه الخوارق: ﴿هذا﴾ أي الإتيان المحقق ﴿من فضل ربي﴾ أي المحسن إليّ، لا بعمل أستحق به شيئاً، فإنه أحسن إليّ بإخراجي من العدم وتطويقي للعمل، فكل عمل نعمة منه يستوجب عليّ به الشكر، ولذلك قال: ﴿ليبلوني﴾ أي يفعل معي فعل المبتلي الناظر ﴿ءأشكر﴾ فأعترف بكونه فضلاً ﴿أم أكفر﴾ بظن أني أوتيته باستحقاق. ثم زاد في حث نفسه على الشكر بقوله: ﴿ومن شكر﴾ أي أوقع الشكر لربه ﴿فإنما يشكر لنفسه﴾ فإن نفعه لها، وأما الله تعالى فهو أعلى من أن يكون له في شيء نفع أو عليه فيه ضر ﴿ومن كفر فإن ربي﴾ أي المحسن إليّ بتوفيقي لما أنا فيه من الشكر ﴿غني﴾ أي عن شكر، لا يضره تركه شيئاً ﴿كريم*﴾ يفعل معه بإدرار النعم عليه فعل من أظهر محاسنه وستر مساوئه، ثم هو جدير بأن يقطع إحسانه إن استمر على إجرامه كما
166
يفعل الغني بمن أصر على كفر إحسانه فإذا هو قد هلك.
167
ولما قدم - كما هو دأب الصالحين - الشكر، علم أنه يفعل في العرش ما لأجله أحضره، تشوفت النفس إليه فأجيبت بقوله: ﴿قال﴾ أي سليمان عليه السلام: ﴿نكروا لها عرشها﴾ أي بتغيير بعض معالمه وهيئته اختباراً بعقلها كما اختبرتنا هي بالوصفاء والوصائف والدرة وغير ذلك، وإليه الإشارة بقوله: ﴿ننظر أتهتدي﴾ أي إلى معرفته فيكون ذلك سبباً لهدايتها في الدين ﴿أم تكون من الذين﴾ شأنهم أنهم ﴿لا يهتدون*﴾ أي بل هم في غاية الغباوة، لا يتجدد لهم اهتداء، بل لو هدوا لوقفوا عند الشبه، وجادلوا بالباطل وما حلوا، وأشار إلى سرعة مجيئها إشارة إلى خضوعها بالتعبير بالفاء في قوله: ﴿فلما جاءت﴾ وكان مجيئها - على ما قيل - في اثنى عشر ألف قيل من وجوه اليمن، تحت يد كل قيل ألوف كثيرة، وكانت قد وضعت عرشها داخل بيت منيع، ووكلت به حراساً أشداء ﴿قيل﴾ أي لها وقد رأت عرشها بعد تنكيره بتقليب نصبه وتغييره، من قائل لا يقدر على السكوت عن جوابه لما نالها من الهيبة وخالطها من الرعب من عظيم ما رأت، فقرعها بكلمة تشمل على أربع كلمات: هاء التنبيه، وكاف التشبيه، واسم الإشارة،
167
مصدرة بهمزة الاستفهام، أي تنبهي ﴿أهكذا﴾ أمثل ذا العرش ﴿عرشك قالت﴾ عادلة عن حق الجواب من «نعم» أو «لا» إشارة إلى أنها غلب على ظنها أنه هو بعينه كما قالوا في «كأن زيداً قائم» :﴿كأنه هو﴾ وذلك يدل على ثبات كبير، وفكر ثاقب، ونظر ثابت، وطبع منقاد، لتجويز المعجزات والإذعان لها مع دهشة القدوم، واشتغال الفكر بما دهمها من هيبته وعظيم أمره، فعلم سليمان عليه السلام رجاحة عقلها وبطلان ما قال الشياطين من نقصه خوفاً من أن يتزوجها فتفشي عليه أسرار الجن لأن أمها كانت جنية - على ما قيل، وقالوا: إن رجلها كحافر الحمار، وإنها كثيرة الشعر جداً.
ولما كانت مع ذلك قد شبه عليها ولم تصل إلى حاق الانكشاف مع أنها غلبت على عرشها مع الاحتفاظ عليه، استحضر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما خصه الله به من العلم زيادة في حثه على الشكر، فقال عاطفاً على ما تقديره: فأوتيت من أمر عرشها علماً، ولكنه يخالجه شك، فدل على أنها في الجملة من أهل العلم المهيئي للهداية، أو يكون التقدير
168
بما دل عليه ما يلزم من قولها ﴿كأنه﴾ : فجهلت أمر عرشها على كثرة ملابستها له: ﴿وأوتينا﴾ معبراً بنون الواحد المطاع، لا سيما والمؤتى سبب لعظمة شرعية، وهو العلم الذي لا يقدر على إيتائه غير الله، ولذلك بني الفعل للمفعول لأن فاعله معلوم ﴿العلم﴾ أي بجميع ما آتانا الله علمه، ومنه أنه يخفى عليها ﴿من قبلها﴾ أي من قبل إتيانها، بأن عرشها يشتبه عليها، أو من قبل علمها بما ظنت من أمر عرشها، أو أنا وأسلافي من قبل وجودها، فنحن عريقون في العلم، فلذلك نحن على حقيقة من جميع أمورنا، وإنما قال: ﴿ننظر أتهتدي﴾ بالنسبة إلى جنوده.
ثم ذكر السبب في وجود العلم واتساعه وثباته فقال: ﴿وكنا﴾ أي مع العلم الذي هيأنا الله له بما جعل في غرائزنا من النورانية ﴿مسلمين*﴾ أي خاضعين لله تعالى عريقين في ذلك مقبلين على جميع أوامره بالفعل على حسب أمره كما أشار إليه قوله تعالى: ﴿واتقوا الله ويعلمكم الله﴾ [البقرة: ٢٨٢]، ﴿يهديهم ربهم بإيمانهم﴾ [يونس: ٩].
ولما كان المعنى: وأما هي فإنها وإن أوتيت علماً فلم يكن ثابتاً، ولا كان معه دين، ترجمه بقوله: ﴿وصدها﴾ أي هي عن كمال العلم
169
كما صدها عن الدين ﴿ما﴾ أي المعبود الذي ﴿كانت﴾ أي كوناً ثابتاً في الزمن الماضي ﴿تعبد﴾ أي عبادة مبتدئة ﴿من دون الله﴾ أي غير الملك الأعلى الذي له الكمال كله أو أدنى رتبة من رتبته، وهي عبادة الشمس ليظهر الفرق بين حزب الله الحكيم العليم وحزب إبليس السفيه الجهول. ثم علل ذلك إشارة إلى عظيم نعمة الله عليه بالنعمة على أسلافه بقوله: ﴿إنها﴾ وقرىء بالفتح على البدل من فاعل «صد» ﴿كانت من قوم﴾ أي ذوي بطش وقيام ﴿كافرين*﴾ أي فكان ذلك سبباً - وإن كانت في غاية من وفور العقل وصفاء الذهن وقبول العلم كما دل عليه ظنها في عرشها، ما يهتدي له إلا من عنده قابلية الهدي - في اقتفائها لآثارهم في الدين، فصديت مرآة فكرها ونبت صوارم عقلها.
ولما تم ذلك، كان كأنه قيل: هل كان بعد ذلك اختبار؟ فقيل: نعم! ﴿قيل لها﴾ أي من قائل من جنود سليمان عليه السلام، فلم تمكنها المخالفة لما هناك من الهيبة بالملك والنبوة والدين: ﴿ادخلي الصرح﴾ وهو قصر بناه قبل قدومها، وجلس في صدره، وجعل صحنه من الزجاج الأبيض الصافي، وأجرى تحته الماء، وجعل فيه دواب البحر، وأصله - كما قال في الجمع بين العباب والمحكم: بيت واحد يبني منفرداً
170
ضخماً طويلاً في السماء، قال: وقيل: كل بناء متسع مرتفع، وقيل: هو القصر، وقيل: كل بناء عال مرتفع، والصرح: الأرض المملسة، وصرحة الدار ساحتها. ودل على مبادرتها لامتثال الأمر وسرعة دخولها بالفاء فقال: ﴿فلما رأته﴾ وعبر بما هو من الحسبان دلالة على أن عقلها وأن كان في غاية الرجاحة ناقص لعبادتها لغير الله فقال: ﴿حسبته﴾ أي لشدة صفاء الزجاج واتصال الماء بسطحه الأسفل ﴿لجة﴾ أي غمرة عظيمة من ماء، فعزمت على خوضها إظهاراً لتمام الاستسلام ﴿وكشفت عن ساقيها﴾ أي لئلا تبتل ثيابها فتحتاج إلى تغييرها قبل الوصول إلى سليمان عليه السلام، فرآها أحسن الناس ساقاً وقدماً غير أنها شعراء.
ولما حصل مراده، استؤنف الإخبار عن أمره بعده فقيل: ﴿قال﴾ مبيناً لعظم عقله وعلمه، وحكمته وقدرته، مؤكداً لأنه لشدة اشتباهه بجودة المادة وتناهي حسن الصنعة وإحكامها لا يكاد يصدق أنه حائل دون الماء: ﴿إنه﴾ أي هذا الذي ظننته ماءاً ﴿صرح﴾ أي قصر ﴿ممرد﴾ أي مملس، وأصل المرودة: الملامة والاستواء
171
﴿من﴾ أي كائن من ﴿قوارير*﴾ أي زجاج ليتصف بشفوفة الماء فيظن أنه لا حائل دونه، فلما رأت ما فضله الله به من العلم، المؤيد بالحكمة، المكمل بالوقار والسكينة، المتمم بالخوارق، بادرت إلى طاعته علماً بأنه رسول الله، فاستأنف تعالى الإخبار عن ذلك بقوله: ﴿قالت﴾ مقبلة على من آتاه، للاستمطار من فضله، والاستجداء من عظيم وبله: ﴿رب﴾ أي أيها المحسن إليّ ﴿إني ظلمت نفسي﴾ أي بما كنت فيه من العمى بعبادة غيرك عن عبادتك ﴿وأسلمت﴾ أي ليظهر عليّ ثمرات الإسلام.
ولما ذكرت هذا الأساس الذي لا يصح بناء طاعة إلا عليه، أتبعته الداعي الذي لا تتم ثمرات الأعمال المؤسسة عليه إلا بحبه، والإذعان له، والانقياد والاعتراف بالفضل، وبهدايته إلى ما يصلح منها وما لا يصلح على الوجوه التي لا تقوم إلا بها من الكميات والكيفيات. فقالت: ﴿مع سليمان﴾.
ولما ذكر صفة الربوبية الموجبة للعبادة بالإحسان، ذكرت الاسم الأعظم الدال على ذات المستجمع للصفات الموجبة للإلهية للذات
172
فقالت: ﴿لله﴾ أي مقرة له بالألوهية والربوبية على سبيل الوحدانية. ثم رجعت إشارة إلى العجز عن معرفة الذات حق المعرفة إلى الأفعال التي هي بحر المعرفة فقالت: ﴿رب العالمين*﴾ فعمت بعد أن خصت إشارة إلى الترقي من حضيض دركات العمى إلى أوج درجات الهدى، فلله درها ما أعلمها! وأطيب أعراقها وأكرمها! ويقال: أن سليمان عليه السلام تزوجها واصطنع الحمام - وهو أول من اتخذه - وأذهب شعرها بالنورة.
173
ولما أتم سبحانه هذه القصة المؤسسة على العلم المشيد بالحكمة المنبئة عن أن المدعوين فيها أطبقوا على الاستسلام للدخول في الإسلام، مع أبالة الملك ورئاسة العز، والقهر على يد غريب عنهم بعيد منهم، أتبعها قصة انقسم أهلها مع الذل والفقر فريقين مع أن الداعي منهم لا يزول باتباعه شيء من العز عنهم، مع ما فيها من الحكمة، وإظهار دقيق العلم بإبطال المكر، بعد طول الأناة والحلم، فقال تعالى مفتتحاً بحرف التوقع والتحقيق لمن ظن أن هذا شأن كل رسول مع يدعوهم، عاطفاً على ﴿ولقد آتينا داود﴾ :﴿ولقد أرسلنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿إلى ثمود﴾ ثم أشار إلى العجب من توقفهم بقوله: ﴿أخاهم صالحاً﴾ فجمع إلى حسن الفعل حسن الاسم وقرب النسب. ثم ذكر المقصود من الرسالة بما لا أعدل منه ولا أحسن، وهو الاعتراف بالحق لأهله،
173
فقال: ﴿أن اعبدوا الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له وحده، ولا تشركوا به شيئاً ولا سيما شيئاً لا يضر بوجه ولا ينفع، بياناً لأن الرسل عليهم الصلاة والسلام متفقون على ذلك عربهم وعجمهم. ثم زاد في التعجيب منهم بما أشارت إليه الفاء وأداة المفاجأة من المبادرة إلى الافتراق بما يدعو إلى الاجتماع فقال: ﴿فإذا هم﴾ أي ثمود ﴿فريقان﴾ ثم بين بقوله: ﴿يختصمون*﴾ أنها فرقة افتراق بكفر وإيمان، لا فرقة اجتماع في هدى وعرفان، فبعضهم صدق صالحاً واتبعه كما مضى في الأعراف. وتأتي هنا الإشارة إليه بقوله «وبمن معك» وبعضهم استمر على شركه وكذبه، وكل فريق يقول: أنا على الحق وخصمي على الباطل. ثم استأنف بما أشار إليه حرف التوقع من شدة التشوف قائلاً: ﴿قال﴾ أي صالح مستعطفاً في هدايته: ﴿يا قوم﴾ أي يا أولاد عمي ومن فيهم كفاية للقيام بالمصالح ﴿لم تستعجلون﴾ أي تطلبون العجلة بالإتيان ﴿بالسيئة﴾ أي الحالة التي مساءتها ثابتة وهي العقوبة التي أنذرت بها من كفر ﴿قبل﴾ الحالة ﴿الحسنة﴾ من الخيرات التي أبشركم بها في الدنيا والآخرة إن آمنتم، والاستعجال: طلب الإتيان بالأمر قبل الوقت
174
المضروب له. واستعجالهم لذلك للإصرار على سببه وقولهم استهزاء ﴿ائتنا بما تعدنا﴾ ﴿لولا﴾ أي هلا ولم لا ﴿تستغفرون الله﴾ أي تطلبون غفران الذي له صفات الكمال لذنوبكم السالفة بالرجوع إيه بالتوبة بإخلاص العبادة له ﴿لعلكم ترحمون*﴾ أي لتكونوا على رجاء من أن تعاملوا من كل من فيه خير معاملة المرحوم بإعطاء الخير والحماية من الشر، ثم استأنف حكاية جوابهم فقال: ﴿قالوا﴾ فظاظة وغلظة مشيرين بالإدغام إلى أن ما يقولونه إنما يفهمه الحذاق بمعرفة الزجر وإن كان الظاهر خلافه بما أتاهم به من الناقة التي كان في وجودها من البركة أمر عظيم؛ ﴿اطيرنا﴾ أي تشاءمنا ﴿بك وبمن معك﴾ أي وهو الذين آمنوا بك، فإنه وقع بيننا بسببكم الخلاف، وكثر القال والقيل والإرجاف، وحصلت لنا شدائد واعتساف، لأنا جعلناكم مثل الطائر الذي يمر من جهة الشمال - على ما يأتي في الصافات ﴿قال طائركم﴾ أي ما تيمنون به فيثمر ما يسركم، أو تتشاءمون به فينشأ عنه ما يسوءكم وهو عملكم من الخير أو الشر ﴿عند الله﴾ أي الملك الأعظم المحيط بكل شيء علماً وقدرة، وليس شيء منه بيد غيره ولا ينسب إليه، فإن شاء جعلنا سببه وإن شاء جعل غيرنا.
175
ولما كان معنى نسبته إلى الله أن هذا الذي بكم الآن من الشر ليس منا، قال: ﴿بل أنتم قوم تفتنون*﴾ أي تختبرون من الملك الأعلى بما تنسبونه إلى الطير من الخير والشر، أي تعاملون به معاملة الاختبار هل تصلحون للخير بالرجوع عن الذنب فيخفف عنكم أو لا فتمحنوا.
ولما أخبر عن عامة هذا الفريق بالشر، أخبر عن شرهم بقوله: ﴿وكان في المدينة﴾ أي مدينتهم الحجر من عظماء القرية وأعيانها ﴿تسعة رهط﴾ أي رجال، مقابلة لآيات موسى التسع.
ولما كان الرهط بمعنى القوم والرجال، أضيفت التسعة إليه، فكأنه قيل: تسعة رجال، وإن كان لقوم ورجال مخصوصين، وهم ما بين الثلاثة أو السبعة إلى العشرة، وما دون التسعة فنفر، وقال في القاموس: إن النفر ما دون العشرة غير أنه يفهم التفرق، والرهط يفهم العظمة والشدة والاجتماع ﴿يفسدون﴾ وقال: ﴿في الأرض﴾ إشارة إلى عموم فسادهم ودوامه.
ولما كان الكفرة كلهم مفسدين بالكفر، وكان بعضهم ربما كان يصلح في بعض أفعاله، بين أن هؤلاء ليسوا كذلك، بل هم شر
176
محض فحقق خلوصهم للفساد بقوله مصرحاً بما أفهمته صيغة المضارع: ﴿ولا يصلحون*﴾.
ولما اقتضى السياق السؤال عن بيان بعض حالهم، أجاب بقوله: ﴿قالوا تقاسموا﴾ أمر مما منه القسم، أي أوقعوا المقاسمة والمحالفة بينكم ﴿بالله﴾ أي الذي لا سمى له لما شاع من عظمته، وشمول إحاطته في علمه وقدرته، فليقل كل منكم عن نفسه ومن معه إشارة إلى أنكم كالجسد الواحد: ﴿لنبيتنّه﴾ أي صالحاً ﴿وأهله﴾ أي لنهلكن الجميع ليلاً، فإن البيات مباغتة العدو ليلاً.
ولما كانت العادة جارية بأن المبيتين لا بد أن يبقى بعضهم، قالوا: ﴿ثم لنقولن لوليّه﴾ أي المطالب بدمه إن بقي منهم أحد: ﴿ما شهدنا﴾ أي حضرنا حضوراً تاماً ﴿مهلك﴾ أي هلاك ﴿أهله﴾ أي أهل ذلك الولي فضلاً عن أن نكون باشرنا، أو أهل صالح عليه السلام فضلاً عن أن نكون شهدنا مهلك صالح أو باشرنا قتله ولا موضع إهلاكهم. ولما كانت الفجيعة من وليه بهلاكه - عليه السلام - أكثر من الفجيعة بهلاك أهله وأعظم، كان في السياق بالإسناد إلى الولي - على تقدير كون الضمير لصالح عليه السلام -
177
أتم إرشاد إلى أن التقدير: ولا مهلكه.
ولما كانوا قد صمموا على هذا الأمر، وظنوا أنفسهم على المبالغة في الحلف والاجتراء على الكذب فقالو: ﴿وإنا﴾ أي ونقول في جملة القسم تأكيداً للقسم، إيهاماً لتحقق الصدق: وإنا ﴿لصادقون*﴾ فيا للعجب من قوم إذا عقدوا اليمين فزعوا إلى الله العظيم، ثم نفروا عنه نفور الظليم، إلى أوثان أنفع منها الهشيم.
178
ولما كان هذا منهم عمل من لا يظن أن الله عالم به، قال تعالى محذراً أمثالهم عن أمثال ذلك: ﴿ومكروا مكراً﴾ أي ستروا ستراً عظيماً أرادوا به الشر بهذه المساومة على المقاسمة، فكان مكرهم الذي اجتهدوا في ستره لدينا مكشوفاً وفي حضرتنا معروفاً وموصوفاً، فشعرنا بل علمنا به فأبطلناه ﴿ومكرنا مكراً﴾ أي وجزينانهم على فعلهم بما لنا من العظمة شيئاً هو المكر في الحقيقة فإنه لا يعلمه أحد من الخليقة، ولذلك قال: ﴿وهم﴾ أي مع اعتنائهم بالفحص عن الأمور. والتحرز من عظائم المقدور ﴿لا يشعرون*﴾ أي لا يتجدد لهم شعور بما قدرناه عليهم بوجه ما، فكيف بغيرهم، وذلك أنا جعلنا تدميرهم في تدبيرهم، فلم يقدروا على إبطاله، فأدخلناهم في خبر كان، لم يفلت منهم إنسان، وأهلكنا جميع الكفرة من قومهم في أماكنهم
178
مساكنهم أو غير مساكنهم، وأما مكرهم فكانوا على اجتهادهم في إتقانه وإحكام شأنه، قد جوزوا فيه سلامة بعض من يقصدونه بالإهلاك، فشتان بين المكرين، وهيهات هيهات لما بين الأمرين، وقد ظهر أن الآية إما احتباك أو شبيهة به: عدم الشعور دال على حذف عدم الإبطال من الثاني، وعلى حذف الشعور والإبطال الذي هو نتيجته من الأول.
ولما علم من هذا الإبهام تهويل الأمر، سبب عنه سبحانه زيادة في تهويله قوله: ﴿فانظر﴾ وزاده عظمة بالإشارة بأداة الاستفهام إلى أنه أهل لأن يسأل عنه فقال: ﴿كيف كان عاقبة مكرهم﴾ فإن ذلك سنتنا في أمثالهم، ثم استأنف لزيادة التهويل قوله بياناً لما أبهم: ﴿إنا﴾ أي بما لنا من العظمة، ومن فتح فهو عنده بدل من ﴿عاقبة﴾ ﴿دمرناهم﴾ أي أهلكناهم، أي التسعة المتقاسمين، بعظمتنا التي لا مثل لها ﴿وقومهم أجمعين*﴾ لم يفلت منهم مخبر، ولا كان في ذلك تفاوت بين مقبل ومدبر، وأين يذهب أحد منهم أو من غيرهم من قبضتنا أو يفر من مملكتنا.
ولما كانت يتسبب عن دمارهم زيادة الهول والعرب بالإشارة إلى
179
ديارهم، لاستحضار أحوالهم، واستعظامهم بعظيم أعمالهم، قال: ﴿فتلك﴾ أي المبعدة بالغضب على أهلها ﴿بيوتهم﴾ أي ثمود كلهم ﴿خاوية﴾ أي خالية، متهدمة بالية، مع شدة أركانها، وإحكام بنيانها، فسبحان الفعال لما يريد، القادر على الضعيف كقدرته على الشديد..
ولم ذكر الهلاك، أتبعه سببه في قوله: ﴿بما ظلموا﴾ أي أوقعوا من الأمور في غير مواقعها فعل الماشي في الظلام، كما عبدوا من الأوثان، ما يستحق الهوان، ولا يستحق شيئاً من التعظيم بوجه، معرضين عمن لا عظيم عندهم غيره عند الإقسام، والشدائد والاهتمام، وخراب البيوت - كما قال أبو حيان - وخلوّها من أهلها حتى لا يبقى منهم أحد مما يعاقب به الظلمة.
ثم زاد في التهويل بقوله: ﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر الباهر للعقول الذي فعل بثمود ﴿لآية﴾ أي عظيمة، ولكنها ﴿لقوم يعلمون*﴾ أي لهم علم. وأما من لا ينتفع بها نادى على نفسه بأنه في عداد البهائم.
ولما كان ذلك ربما أوهم أن الهلاك عم الفريقين قال: ﴿وأنجينا﴾ بعظمتنا ﴿الذين آمنوا﴾ أو وهم الفريق الذين كانوا مع صالح عليه السلام كلهم ﴿وكانوا يتقون*﴾ أي متصفين بالتقوى اتصافاً كأنهم مجبولون عليه، فيجعلون بينهم وبين ما يسخط ربهم وقايه
180
من الأعمال الصالحة، والمتاجر الرابحة. وكذلك نفعل بكل من فعل فعلهم، قيل: كانوا أربعة آلاف، ذهب بهم صالح عليه السلام إلى حضرموت، فلما دخلوها مات صالح عليه السلام، فسميت بذلك.
ولما فرغ من قصة القريب الذي دعا قومه فإذا هم قسمان، بعد الغريب الذي لم يختلف عليه ممن دعاهم اثنان، اتبعها بغريب لم يتبعه ممن دعاهم إنسان، فقال دالاً على أنه له سبحانه الاختيار، فتارة يجري الأمور على القياس، وأخرى على خلاف الأساس، الذي تقتضيه عقول الناس، فقال: ﴿ولوطاً﴾ أي ولقد أرسلناه؛ وأشار إلى سرعة إبلاغه بقوله: ﴿إذ﴾ أي حين ﴿قال لقومه﴾ أي الذين كان سكن فيهم لما فارق عمه إبراهيم الخليل عليه السلام وصاهرهم، وكانوا يأتون الأحداث، منكراً موبخاً: ﴿أتأتون﴾ ولما كان للإبهام ثم التعيين من هز النفس وترويعها ما ليس للتعيين من أول الأمر قال: ﴿الفاحشة﴾ أي الفعلة المتناهية في القبح ﴿وأنتم تبصرون*﴾ أي لكم عقول تعرفون بها المحاسن والمقابح، وربما كان بعضهم يفعله بحضرة بعض كما قال ﴿وتأتون في ناديكم المنكر﴾ [العنكبوت: ٢٩] فيكون حينئذ من البصر والبصيرة؛ ثم أتبع هذا الأنكار إنكاراً آخر لمضمون جملة مؤكدة أتم التأكيد، إشارة إلى أن فعلتهم هذه مما يعي الواصف،
181
ولا يبلغ كنه قبحها ولا يصدق ذو عقل أن أحداً يفعلها، فقال معيناً لما أبهم: ﴿أئنكم لتأتون﴾ وقال: ﴿الرجال﴾ تنبيهاً على بعدهم عما يأتونه إليهم، ثم علله بقوله: ﴿شهوة﴾ إنزالاً لهم إلى رتبة البهائم التي ليس فيها قصد ولد ولا عفاف؛ وقال: ﴿من دون﴾ أي إتياناً مبتدئاً من غير، أو أدنى رتبة من رتبة ﴿النساء﴾ إشارة إلى أنهم أساؤوا من الطرفين في الفعل والترك.
ولما كان قوله: ﴿شهوة﴾ ربما أوهم أنهم لا غنى بهم عن إتيانهم للشهوة الغالبة لكن النساء لا تكفيهم، لذلك نفى هذا بقوله: ﴿بل﴾ أي إنكم لا تأتونهم لشهوة محوجة بل ﴿أنتم قوم﴾ ولما كان مقصود السورة إظهار العلم والحكمة، وكانوا قد خالفوا ذلك إما بالفعل وإما لكونهم يفعلون من الإسراف وغيره عمل الجهلة، قال: ﴿تجهلون*﴾ أي تفعلون ذلك إظهاراً للتزين بالشهوات فعل المبالغين في الجهل الذين ليس لهم نوع علم في التجاهر بالقبائح خبثاً وتغليباً لأخلاق البهائم، مع ما رزقكم الله من العقول التي أهملتموها حتى غلبت عليها الشهوة، وأشار إلى تغاليهم في الجهل وافتخارهم به بما سببوا عن ذلك بقوله: ﴿فما كان جواب قومه﴾ أي لهذا الكلام الحسن لما لم يكن لهم حجة في دفعه بل ولا شبهة ﴿إلا أن﴾ صدقوه في نسبته لهم إلى
182
الجهل بأن ﴿قالوا﴾ عدولاً إلى المغالبة وتمادياً في الخبث ﴿أخرجوا آل لوط﴾ فأظهر ما أضمره في الأعراف لأن الإظهار أليق بسورة العلم والحكمة وإظهار الخبء، وقالوا؛ ﴿من قريتكم﴾ مناً عليه بإسكانه عندهم؛ وعللوا ذلك بقولهم: ﴿إنهم﴾ ولعلهم عبروا بقولهم: ﴿أناس﴾ مع صحة المعنى بدونه تهكماً عليه لما فهموا من أنه أنزلهم إلى رتبة البهائم ﴿يتطهرون*﴾ أي يعدون أفعالنا نجسة ويتنزهون عنها.
فلما وصلوا في الخبث إلى هذا الحد، سبب سبحانه عن قولهم وفعلهم قوله: ﴿فأنجيناه وأهله﴾ أي كلهم، أي من أن يصلوا إليه بأذى أو يلحقه شيء من عذابنا ﴿إلا امرأته﴾ فكأنه قيل: فما كان من أمرها؟ فقيل: ﴿قدرناها﴾ أي جعلناها بعظمتنا وقدرتنا في الحكم وإن كانت خرجت معه ﴿من الغابرين*﴾ أي الباقين في القرية في لحوق وجوههم والداهية الدهياء أنفسهم وديارهم حتى كانوا كأمس الدابر ﴿وأمطرنا﴾ وأشار إلى أنه إمطار عذاب بالحجارة مع تعديته بالهمزة وهو معدى بدونها فصارت كأنها لإزالة الإغاثة بالإتيان بضدها بقوله: ﴿عليهم﴾ وأشار إلى سوء الأثر لاستلزامه سوء الفعل الذي نشأ عنه وغرابته بقوله: ﴿مطراً﴾ أي وأيّ مطر؛ ولذلك سبب عنه قوله: ﴿فساء مطر المنذرين*﴾
183
أي الذين وقع إنذارنا لهم الإنذار الذي هو الإنذار.
184
ولما تم بهذه القصص استنتاج ما أراد سبحانه من الدليل على حكمته وعلمه ومباينته للأصنام في قدرته وحلمه، أمر نبيه صلى الله عليه السلام بأن يحمده شكراً على ما علم ويقررهم بعجز أصنامهم رداً لهم عن الجهل بأوضح طريق وأقرب متناول فقال: ﴿قل﴾ ما أنتجه ما تقدم في هذه السورة، وهو ﴿الحمد﴾ أي الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿لله﴾ أي مختص بالمستجمع للأسماء الحسنى، والصفات العلى عند الإعدام كما كان عند الإيجاد ﴿وسلام﴾ أي سلامة وعافية وبقاء في هذا الحين وكل حين، كما كان قبل هذا في غابر السنين، وأشار بأنه لا وصول للعطب إليهم بأداة الاستعلاء في قوله: ﴿على﴾ وأشار إلى شرفهم بقوله: ﴿عباده﴾ بإضافتهم إليه؛ وأكد ذلك بقوله: ﴿الذين اصطفى﴾ أي في كل عصر وحين كما أن الحمد لمعبودهم أزلاً وأبداً لا بذين، وعطب وغضب على من عصى، وخالف الرسل وأبى كما ترى في أصحاب هذه الأنباء، والمعنى أن هذا الحكم المستمر بنجاة الرسل وأتباعهم، وهلاك الكافرين وأشياعهم، دليل قطعي على أن الإحاطة لله في كل أمر؛ قال أبو حيان: وكان هذا صدر خطبة لما
184
يلقى من البراهين الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة، ومما يتنبه له أنه لم يرد في قصة لوط عليه السلام أكثر من نهيه لهم عن هذه الفاحشة، فلا يخلو حالهم من أمرين: إما أنهم كانوا لا يشركون بالله تعالى شيئاً، ولكنهم لما ابتكروا هذه المعضلة وجاهروا بها مصرين عليها، أخذوا بالعذاب لذلك ولكفرهم بتكذيبهم رسولهم، كما صرحت به آية الشعراء، وإما أنهم كانوا مشركين، ولكنه عليه السلام لما رآهم قد سفلوا إلى رتبة البهيمية، رتب داعاءهم منها إلى رتبة الإنسانية، ثم إلى رتبة الوحدانية، ويدل على هذا التقدير الثاني قوله مشيراً إلى أن الله تعالى أهلكهم وجميع من كفر من قبلهم، ولم تغن عنهم معبوداتهم شيئاً، بقوله: ﴿الله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام ﴿خير﴾ أي لعباده الذين اصطفاهم فأنجاهم ﴿أما يشركون*﴾ يا معاشر العرب من الأصنام وغيرها لعباديها ومحبيها فإنهم لا يغنون عنكم شيئاً كما لم يغنوا عمن عبدهم من هؤلاء الذين أهلكناهم شيئاً، ولا تفزعون عند شدائدهم إلا إلى الله وحده، هذا على على قراءة الخطاب للجماعة، والتقدير على قراءة الغيب للبصريين وعاصم: أما يشرك الكفار عامة قديماً وحديثاً لمن أشركوا بهم، فلم يقدروا على نفعهم عند إحلال البأس بهم، وأفعل
185
التفضيل لإلزام الخصم والتنبيه على ظهور خطائه المفرط، وجهله المورط إلى حد لا يحتاج فيه إلى كشف لأعلى بابها.
ولما كان مع هذا البيان من الأمر الواضح أن التقدير زيادة في توبيخ المشركين وتقرير المنكرين: من فعل هذه الأفعال البالغة في الحكمة المتناهية في العلم أم من سميتموه إلهاً، ولا اثر له أصلاً، عاد له بقوله: ﴿أمَّن﴾ وكان الأصل: أم هو، ولكنه عبر باسم موصول أصل وضعه لذي العلم، ووصله بما لا يصح أن يكون لغيره ليكون كالدعوى المقرونة بالدليل فقال: ﴿خلق السماوات والأرض﴾ تنبيهاً بالقدرة على بدء الخلق على القدرة على إعادته، بل من باب الأولى، دلالة على الإيمان بالآخرة تخلقاً بأخلاق المؤمنين الذين مضى أول السورة أن هذا القرآن المبين بشرى لهم.
ولما كان الإنبات. من أدل الآيات، على إحياء الأموات، قال: ﴿وأنزل﴾ وزاد في تقريعهم وتبكيتهم وتوبيخهم بقوله: ﴿لكم﴾ أي لأجلكم خاصة وأنتم تكفرون به وتنسبون ما تفرد به من ذلك لغيره: ﴿من السماء ماء﴾ هو للارض كالماء الدافق للأرحام كالماء الذي ينزل آخر الدهور على القبور.
186
في وجوده وقدرته واختياره لفعل المتباينات في الطعم واللون والريح والطبع والشكل بماء واحد في أرض واحدة واختصاصه بفعل ذلك من غير مشاركة شيء له شيء منه أصلاً، وهو آيته العظمى على أمر البعث، عدل إلى التكلم وعلى وجه العظمة فقال: ﴿فأنبتنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿به حدائق﴾ أي بساتين محدقة - أي محيطة - بها أشجارها وجدرانها، والظاهر أن المراد كل ما كان هكذا، فإنه في قوة أن يدار عليه الجدار وإن لم يكن له جدار، وعن الفراء أن البستان إن لم يكن عليه حائط فليس بحديقة.
ولما كان الأولى بجمع الكثرة لما لا يعقل الوصف بالمفرد قال مفيداً أنها كالشيء الواحد في ذلك الوصف: ﴿ذات بهجة﴾ أي بهاء وحسن ورونق، وبشر بها وسرور على تقارب أصولها مع اختلاف أنواعها، وتباين طعومها وأشكالها، ومقاديرها وألوانها.
ولما أثبت الإنبات له، نفاه عن غيره على وجه التأكيد تنبيهاً على تأكد اختصاصه بفعله، وعلى أنه إن أسند إلى غيره فهو مجاز عن التسبب وأن الحقيقة ليست إلا له فقال: ﴿ما كان﴾ أي ما صح وما تصور بوجه من الوجوه ﴿لكم﴾ وأنتم أحياء فضلاً عن شركائكم الذين هم أموات بل موات ﴿أن تنبتوا شجرها﴾ أي شجر
187
تلك الحدائق.
ولما ثبت أنه المتفرد بالألوهية، حسن موقع الإنكار والتقرير في قوله: ﴿أإله﴾ أي كائن ﴿مع الله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا مثل له.
ولما كان الجواب عند كل عاقل: لا وعزته! قال معرضاً عنهم للإيذان بالغضب: ﴿بل هم﴾ أي في دعائهم معه سبحانه شريكاً ﴿قوم يعدلون*﴾ أي عن الحق الذي لا مرية فيه إلى غيره، مع العلم بالحق، فيعدلون بالله غيره.
ولما فرغ من آية اشترك فيها الخافقان، ذكر ما تتفرد به الأرض، لأنها اقرب إليهم وهم بحقيقتها وما لابسوه من أحوالها أعلم منهم بالأمور السماوية، تعديداً للبراهين الدالة على تفرده بالفعل الدال على تفرده بالإلهية، فقال مبدلاً من ﴿أمَّن خلق﴾ :﴿أمَّن﴾ أي أم فعل ذلك الذي ﴿جعل الأرض قراراً﴾ أي مستقرة في نفسها ليقر عليها غيرها، وكان القياس يقتضي أن تكون هاوية أو مضطربة كما يضطرب ما هو معلق في الهواء.
ولما ذكر قرارها، أتبعه دليله في معرض الامتنان فقال:
188
﴿وجعل خلالها﴾ أي في الأماكن المنفرجة بين جبالها ﴿أنهاراً﴾ أي جارية على حالة واحدة، فلو اضطربت الأرض أدنى اضطراب، لتغيرت مجاري المياه بلا ارتياب.
ولما ذكر الدليل، ذكر سبب القرار فقال: ﴿وجعل لها رواسي﴾ أي كمراسي السفن، كانت أسباباً في ثباتها على ميزان دبره سبحانه في مواضع من أرجائها بحيث اعتدلت جميع جوانبها فامتنعت من الاضطراب.
ولما أثبت القرار وسببه، وكان قد جعل سبحانه للأنهار طرقاً تتصرف فيها ولو حبسها عن الجري شيء لأوشك أن تستبحر، فيصير أكثر الأرض لا ينتفع به في سير ولا نبات، أو أن تخرق ذلك الحابس بما لها من قوة الجري وشدة النفوذ بلطافة السريان، لأن من عادة المياه التخلل بين أطباق التراب والتغلغل بما لها من اللطافة والرقة، والثقل في الأعماق ولو قليلاً قليلاً، وكان سبحانه قد سد ما بين البحرين: الرومي والفارسي، وكان ما بينهما من الأرض إنما هو يسير جداً في بعض المواضع، وكان بعض مياه الأرض عذباً، وبعضه ملحاً، مع
189
القرب جداً من ذلك العذب، سألهم - تنبيهاً لهم على عظيم القدرة - عن الممسك لعدوان أحدهما على آخر، ولعدوان كل من خليجي الملح على ما بينهما لئلا يخرقاه فيتصلا فقال: ﴿وجعل بين البحرين حاجزاً﴾ أي يمنع أحدهما أن يصل إلى الآخر.
ولما كان من المعلوم أنه الله وحده. ليس عند عاقل شك في ذلك، كرر الإنكار في قوله: ﴿أإله مع الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة. ولما كان الجواب الحق قطعاً: لا، وكان قد أثبت لهم في الإضراب الأول علماً من حيث الحكم على المجموع، وكان كل منهم يدعي رجحان العقل، وصفاء الفكر، ورسوخ القدم في العلم بما يدعيه العرب، قال: ﴿بل أكثرهم﴾ أي الخلق الذين ينتفعون بهذه المنافع ﴿لا يعلمون*﴾ أي ليس لهم نوع من العلم، بل هم كالبهائم لإعراضهم عن هذا الدليل الواضح.
ولما دلهم بآيات الآفاق، وكانت كلها من أحوال السراء، وكانت بمعرض الغفلة عن الإله، ذكرهم بما في أنفسهم مما يوجبه تغير الأحوال الدالة بمجردها على الإله، ويقتضي لكل عاقل صدق التوجه إليه،
190
وإخلاص النية لديه، والإقبال عليه، على ذلك ركزت الطباع، وانعقد الإجماع، فلم يقع فيه نزاع، فقال: ﴿أمن يجيب المضطر﴾ أي جنس الملجأ إلى ما لا قبل له به، الصادق على القليل والكثير إذا أراد إجابته كما تشاهدون، وعبر فيه وفيما بعده بالمضارع لأنه مما يتجدد، بخلاف ما مضى من خلق السماوات وما بعده ﴿إذا دعاه﴾ أي حين ينسيكم الضر شركاءكم، ويلجئكم إلى من خلقكم ويذهل المعطل عن مذهبه ويغفله عن سوء أدبه عظيمُ إقباله على قضاء أربه.
ولما كانت الإجابة ذات شقين، جلب السرور، ودفع الشرور، وكان النظر إلى الثاني أشد، خصه بادئاً به فقال: ﴿ويكشف السوء﴾ ثم أتبعه الأول على وجه أعم، فقال مشيراً إلى عظيم المنة عليهم بجعلهم مسلطين عالين على جميع من في الأرض وما في الأرض مشرفين بخلافته سبحانه، ولذلك أقبل عليهم، ﴿ويجعلكم خلفاء الأرض﴾ أي فيما يخلف بعضكم بعضاً، لا يزال يجدد ذلك بإهلاك قرن وإنشاء آخر إلى قيام الساعة. ولما كان هذا أبين، كرر الإنكار فيه مبكتاً لهم بالنسيان فقال: ﴿أإله﴾ أي كائن أو موجود ﴿مع الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له.
191
ثم استأنف التبكيت تفظيعاً له ومواجهاً به في قراءة الجماعة لما يؤذن به كشف هذه الأزمات من القرب المقتضي للخطاب، ولذلك أكد بزيادة «ما» فقال: ﴿قليلاً ما تذكرون*﴾ أي بأن من أنجاكم من ذلك وحده حين أخلصتم له التوجه عند اشتداد الأمر هو المالك لجميع أموركم في الرخاء كما كان مالكاً له في الشدة، وأن الأصنام لا تملك شيئاً بشفاعة ولا غيرها كما لم تملك شيئاً في اعتقادكم عند الأزمات، واشتداد الكربات، في الأمور المهمات، فإن هذا قياس ظاهر، ودليل باهر، ولكن من طبع الإنسان نسيان ما كان فيه من الضير، عند مجيء الخير، ومن قرأ بالتحتانية وهم أبو عمرو وهشام وروح، فللإيذان بالغضب الأليق بالكفران، مع عظيم الإحسان.
ولما ذكر آيات الأرض، وختم بالمضطر، وكان المضطر قد لا يهتدي لوجه حيلة، أتبعها آيات السماء ذاكراً ما هو من أعظم صور الاضطرار فقال: ﴿أمَّن يهديكم﴾ أي إذا سافرتم بما رسم لكم من المعالم العلوية والسفلية ﴿في ظلمات البر﴾ أي بالنجوم والجبال والرياح، وهي وإن كانت أضعفها فقد يضطر إليه حيث لا يبدو
192
شيء من ذينك ﴿والبحر﴾ بالنجوم والرياح.
ولما كانت الرياح كما كانت من أدلة السير، كان بعضها من أدلة المطر، قال: ﴿ومن يرسل الرياح﴾ أي التي هي من دلائل السير ﴿نشراً﴾ أي تنشر السحاب وتجمعها ﴿بين يدي رحمته﴾ أي التي هي المطر تسمية للمسبب باسم السبب؛ والرياح التي يهتدي بها في المقاصد أربع: الصبا، والدبور، والشمال، والجنوب، وهي أضعف الدلائل؛ قال الإمام أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري في كتاب أسماء الأشياء وصفاتها: الرياح أربع: الشمال، وهي التي تجيء عن يمينك إذا استقبلت قبلة العراق - يعني: وذلك ما بين مطالع الشمس الصيفية وبنات نعش، وهي في الصيف حارة، واسمها البارح، والجنوب تقابلها، والصبا من مطلع الشمس وهي القبول، والدبور تقابلها، ويقال الجنوب: النعامى والأرنب - انتهى.
وهذه العبارة أبين العبارات في تعيين هذه الرياح، وقال الإمام أبو العباس أحمد بن أبي أحمد بن القاص
193
الطبري الشافعي في كتابه أدلة القبلة: إن قبلة العراقيين إلى باب الكعبة كله إلى الركن الشامي الذي عند الحجر، وقال: وقد اختلف أهل العلم بهذا الشأن - أي في التعبير عن مواطن الرياح - اختلافاً متبايناً، وأقرب ذلك - على ما جربته وتعاهدته بمكة - أن الصبا تهب ما بين مطالع الشمس في الشتاء إلى مطلع سهيل، وسهيل يمان مسقطه في رأي العين على ظهر الكعبة إذا ارتفع، وقال صاحب القاموس: والصبا ريح مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش، وقال: والقبول كصبور: ريح الصبا، لأنها تقابل الدبور، أو لأنها تقابل باب الكعبة، أو لأن النفس تقلبها. وقال الإمام أبو عبد الله القزاز: الصبا: الريح التي تهب من مطلع الشمس، والقبول: الريح التي تهب من مطلع الشمس، وذلك لأنها تستقبل الدبور، وقيل: لأنها تستقبل باب الكعبة وهي الصبا، فقد اتفقت أقولهم كما ترى على خلاف ابن القاص، وقال ابن القاص: وهي - أي الصبا - ريح معها روح وخفة، ونسيم تهب مما بين مشرق الشتاء ومطلع سهيل،
194
ولها برد يقرص أشد من هبوبها، وتلقح الأشجار، ولا تهب إلا بليل، سلطانها إذا أظلم الليل، إلى أن يسفر النهار وتطلع الشمس، وأشد ما يكون في وقت الأسحار وما بين الفجرين، والجنوب تهب ما بين مطلع سهيل إلى مغارب الشمس في الصيف. وقال في القاموس: والجنوب: ريح تخالف الشمال، مهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا، وعن ابن هشام اللخمي أن الجنوب هي الريح القبلية. وفي الجمع بين العباب والمحكم: والجنوب ريح تخالف الشمال تأتي عن يمين القبلة، وقيل: هي من الرياح ما استقبلك عن شمالك إذا وقفت في القبلة، قال ابن الأعرابي: ومهب الجنوب من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا، وقال الأصمعي: إذا جاءت الجنوب جاء معها خير وتلقيح، وإذا جاءت الشمال نشفت، ويقال للمتصافيين: ريحهما جنوب، وإذا تفرقا قيل: شملت ريحهما، وعن ابن الأعرابي: الجنوب في كل موضع حارة
195
إلا بنجد فإنها باردة؛ وقال ابن القاص: وإذا هبت فقوتها في العلو والهواء أكثر لأنها موكلة بالسحاب، وتحرك الأغصان ورؤوس الأشجار، ومع ذلك فتراها تؤلف الغيم في السماء، فتراه متراكماً مشحوناً، قال: وسمعت من يقول: ما اشتد هبوبها إلا خيف المطر، ولا هبت جنوب قط ثم يتبعها دبور إلا وقع مطر، وهي تهيج البحر وتظهر بكل ندى كامل في الأرض، وهي من ريح الجنة. والدبور - قال في القاموس: ريح تقابل الصبا، وقال القزاز: هي التي تأتي من دبر الكعبة وهي التي تقابل مطلع الشمس، وقال ابن القاص: تهب ما بين مغارب الشمس في الصيف إلى مطلع بنات نعش، وقوتها في الأرض أشد من قوتها في الهواء، وهي إذا هبت تثير الغبار.
وتكسح الأرض. وترفع الذيول، وتضرب الأقدام، وأشد ما تثير الغبار إذا تنكبت، تراها كأنها تعلب بالتراب على وجه الأرض، وترى الأشجار في البوادي والرمال لها دوي من ناحية الدبور، وقد اجتمع في أصلها التراب وما يلي الجنوب عارياً مكشوفاً متحفزاً وقوتها في الأرض - والله أعلم، لأن عاداً أو عدت بالتدمير بالرياح، فحفرت الآبار واستكنت فيها، فبعث الله الدبور فدخلت الآبار وقذفتهم متدمرين حتى أهلكتهم. والشمال - قال في القاموس: الريح التي تهب من قبل الحجر، والصحيح أنه ما مهبه ما بين مطله الشمس وبنات نعش، أو من مطلع النعش إلى
196
مسقط النسر الطائر، ولا تكاد تهب ليلاً. وقال القزاز: هي الريح التي تأتي عن شمالك إذا استقبلت مطلع الشمس، والعرب تقول: إن الجنوب قالت للشمال: إن لي عليك فضلاً، أنا أسري وأنت لا تسرين، فقالت الشمال: إن الحرة لا تسرين، وقال الصغاني في مجمع البحرين: والشمال: الريح التي تهب من ناحية القطب، وعن أبي حنيفة: هي التي تهب من جهة القطب الشمالي وهي الجربياء وهي الشامية لأنها تأتيهم من شق الشام، وفي الجمع بين العباب والمحكم، والبوارح: شدة الرياح من الشمال في الصيف دون الشتاء كأنه جمع بارحة، وقيل: البوارح: الرياح الشدائد التي تحمل التراب، واحدتها بارح، والجربياء: الريح التي بين الجنوب والصبا، وقيل: هي النكباء التي تجري بين الشمال والدبور، وهي ريح تقشع السحاب، وقيل هي الشمال، وجربياؤها بردها - قاله الأصمعي، وقال الليث: هي الشمال الباردة، وقال ابن القاص: والشمال تهب ما بين مطلع بنات نعش إلى مطلع الشمس في الشتاء، وهي تقطع الغيم وتمحوها، ولذلك سميت الشمال المحوة، قال: وهذا بأرض الحجاز، وأما أرض العراق والمشرق فربما ساق الجنوب غيماً واستداره ولم يحلبه حتى تهب الشمال فتحلبه، والجنوب والشمال متماثلتان، لأنهما موكلتان بالسحاب، فالجنوب تطردها
197
وهي مشحونة، والشمال تردها وتمحوها إذا أفرغت، قال أبو عبيدة: الشمال عند العرب للروح، والجنوب للأمطار والندى، والدبور للبلاء، وأهونه أن يكون غباراً عاصفاً يقذي العيون، والصبا لإلقاح الشجر، وكل ريح من هذه الرياح انحرفت فوقعت بين ريحين فهي نكباء، وسميت لعدولها عن مهب الأربع اللواتي وصفن قبل - انتهى. وقال المسعودي في مروج الذهب في ذكر البوادي من الناس وسبب اختيار البدو: إن شخصاً من خطباء العرب وفد على كسرى فسأله عن أشياء منها الرياح فقال: ما بين سهيل إلى طرف بياض الفجر جنوب، وما بإزائهما مما يستقبلهما من المغرب شمال، وما جاء من وراء الكعبة فهي دبور، وما جاء من قبل ذلك فهي صبا، ونقل ابن كثير في سورة النور عن ابن أبي حاتم وابن جرير عن عبيد بن عمير الليثي أنه قال: يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قماً، ثم يبعث الله الناشئة فتنشىء السحاب، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف بينه، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح السحاب.
ولما انكشف بما مضى من الآيات. ما كانوا في ظلامه من واهي الشبهات، واتضحت الأدلة، ولم تبق لأحد في شيء من ذلك علة. كرر سبحانه الإنكار في قوله: ﴿أإله مع الله﴾ أي الذي كمل علمه فشملت قدرته.
198
ولما ذكر حالة الاضطرار، وأتبعها من صورها ما منه ظلمة البحر، وكانوا في البحر يخلصون له سبحانه ويتركون شركاءهم، نبههم على أن ذلك موجب لاعتقاد كون الإخلاص له واجباً دائماً، فأتبعه قوله على سبيل الاستعظام، معرضاً عنهم بإجماع العشرة إعراض من بلغ به الغضب: ﴿تعالى الله﴾ أي الفاعل القادر المختار الذي لا كفوء له ﴿عما يشركون﴾، أي فإن شيئاً منها لا يقدر على شيء من ذلك، وأين رتبة العجز من رتبة القدرة.
ولما رتب سبحانه هذه الأدلة على هذا الوجه ترقياً من أعم إلى أخص، ومن أرض إلى سماء، ختمها بما يعمها وغيرها، إرشاداً إلى قياس ما غاب منها على ما شوهد، فلزم من ذلك قطعاً القدرة على الإعادة، فساقها لذلك سياق المشاهد المسلم، وعد من أنكره في عداد من لا يلتفت إليه فقال: ﴿أمن يبدأ الخلق﴾ أي كله: ما علمتم منه وما لم تعلموا، ثم بيده لأن كل شيء هالك إلا وجهه، له هذا الوصف باعترافكم يتجدد أبداً تعلقه. ولما كان من اللازم البين لهم الإقرار بالإعادة لاعترافهم بأن كل من أبدى شيئاً قادر على إعادته، لأن الإعادة أهون، قال: ﴿ثم يعيده﴾ أي بعد ما يبيده.
ولما كان الإمطار والإنبات من أدل ما يكون على الإعادة، قال
199
مشيراً إليهما على وجه عم جميع ما مضى: ﴿ومن يرزقكم من السماء﴾ أي بالمطر والحر والبرد وغيرهما مما له سبب في التكوين أو التلوين ﴿والأرض﴾ أي بالنبات والمعادن والحيوان وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله، وعر عنهما بالرزق لأن به تمام النعمة ﴿أإله مع الله﴾ أي الذي له صفات الجلال والإكرام، كائن، أو يفعل شيئاً من ذلك.
ولما كانت هذه كلها براهين ساطعة، ودلائل قاطعة، وأنواراً لامعة، وحججاً باهرة، وبينات ظاهرة، وسلاطين قاهرة، على التوحيد المستلزم للقدرة على البعث وغيره من كل ممكن، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إعراضاً عنهم، إيذاناً بالغضب في آخرها بأمرهم بالإتيان ببرهان واحد على صحة معتقدهم فقال: ﴿قل﴾ أي هؤلاء المدعين للعقول ﴿هاتوا برهانكم﴾ أي على نفي شيء من ذلك عن الله تعالى، أو على إثبات شيء منه لغيره، لتثبت دعوى الشركة في الخلق فتسمع دعوى الشركة في الألوهية، وليكن إتيانكم بذلك ناجزاً من غير مهلة، لأن من يدعي العقل لا يقدر على شيء إلا ببرهان حاضر ﴿إن كنتم صادقين*﴾ أي في أنكم على حق في أن مع الله غيره. وأضاف البرهان إليهم إضافة ما كأنه عنيد، لا كلام في وجوده وتحققه، وإنما المراد الإتيان به كل ذلك تهكماً بهم وتنبيهاً على أنهم أبعدوا في الضلال، وأعرقوا في
200
المحال، حيث رضوا لأنفسهم بتدين لا يصير إليه عاقل إلا بعد تحقق القطع بصحته، ولا شبهة في أنه لا شبهة لهم على شيء منه.
201
ولما كانت مضمونات هذه البراهين متوقفة على علم الغيب، لأنه لا يخرج الخبء باختراع الخلق وكشف الضر وإحكام التدبير إلا به، لأنه لا قدرة أصلاً لمن لا علم له ولا تمام لقدرة من لا تمام لعلمه - كما مضى بيانه في طه، وطالبهم سبحانه آخر هذه البراهين بالبرهان على الشرك، وكانوا ربما قالوا: سنأتي به، أمر أن يعلموا أنه لا برهان لهم عليه، بل البرهان قائم على خلافه، فقال: ﴿قل﴾ أي لهم أو لكل من يدعي دعواهم: ﴿لا يعلم﴾ أحد، ولكنه عبر بأداة العقلاء فقال: ﴿من﴾ لئلا يخصها متعنت بما لا يعقل، عبر بالظرف تنبيهاً على أن المظروف محجوب، وكل ظرف حاجب لمظروفه عن علم ما وراءه، فقال: ﴿في السماوات والأرض الغيب﴾ أي الكامل في الغيبة، وهو الذي لم يخرج إلى عالم الشهادة أصلاً، ولا دلت عليه أمارة، ليقدر على شيء مما تقدم في هذه الآيات من الأمور فيعلمه.
ولما كان الله تعالى منزهاً عن أن يحويه مكان. جعل الاستثناء هنا منقطعاً، ومن حق المنقطع النصب كما قرأ به ابن أبي عبلة شاذاً، لكنه رفع بإجماع العشرة بدلاً على لغة بني تميم، فقيل:
201
﴿إلا الله﴾ أي المختص بصفات الكمال كما قيل في الشعر:
وبلدة ليس بها أنيس... إلا اليعافير وإلا العيس
بمعنى: إن كانت اليعافير أنيساَ ففيها أنيس، بتاً للقول بخلوها من الأنيس، فيكون معنى الآية: إن كان الله جل وعلا ممن في السماوات والأرض ففيهم من يعلم الغيب، يعني إن علم أحدهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم، ويصح كونه متصلاً، والظرفية في حقه سبحانه مجاز بالنسبة إلى علمه وإن كان فيه جمع بين الحقيقة والمجاز، وعلى هذا فيرتفع على البدل أو الصفة، والرفع أفصح من النصب، لأنه من منفي، وقد عرف بهذا سر كونه لم يقل «لا يعلم أحد الغيب إلا هو» وهو التنبيه على المظروفية والحاجة، وأن الظرف حجاب، لا يرتاب فيه مرتاب، وجعل ابن مالك متعلق الظرف خاصاً تقديره: يذكر، وجعل غيره «من» مفعولاً والغيب بدل اشتمال، والاستثناء مفرغاً، فالتقدير: لا يعلم غيب المذكورين - أي ما غاب عنهم - كلهم غيره.
ولما كان الخبر - الذي لم يطلع عليه أحد من الناس - قد يخبر به الكهان، أو أحد من الجان، من أجواف الأوثان، وكانوا يسمون هذا غبياً وإن كان في الحقيقة ليس به لسماعهم له من السماء بعد ما أبرزه الله إلى عالم
202
الشهادة للملائكة ومن يريد من عباده، وكانوا ربما تعتنوا به عن العبارة، وكانت الساعة قد ثبت أمرها، وشاع في القرآن وعلى لسان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأصحابهم رضي الله تعالى عنهم ذكرها، بحيث صارت بمنزلة ما لا نزاع فيه، وكان علم وقتها من الغيب المحض، قال: ﴿وما يشعرون﴾ أي أحد ممن في السماوات والأرض وإن اجتمعوا وتعاونوا ﴿أيان﴾ أي أيّ وقت ﴿يبعثون*﴾ فمن أعلم بشيء من ذلك على الحقيقة بأن صدقه، ومن تخرص ظهر كذبه.
ولما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بعث والكفر قد عم الأرض، وكانوا قد أكثروا في التكذيب بالساعة والقطع بالإنكار لها بعضهم صريحاً، وبعضهم لزوماً، لضلاله عن منهاج الرسل وكان الذي ينبغي للعالم الحكيم أن لا يقطع بالشيء إلا بعد إحاطة علمه به، قال متهكماً بهم كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك! استهزاء به مستدركاً لنفي شعورهم بها بياناً لكذبهم باضطراب قولهم: ﴿بل ادّارك﴾ أي بلغ وتناهي ﴿علمهم في الآخرة﴾ أي أمرها مطلقاً: علم وقتها ومقدار عظمتها في هو لها وغير ذلك من نعتها لقطعهم بإنكارها وتمالؤهم
203
عليه، وتنويع العبارات فيه، وتفريع القول في أمره - هذا في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وكذا في قراءة الباقين: ادّارك بمعنى تدارك يعني تتابع واستحكم.
ولما كانوا مع تصريحهم بالقطع في إنكارها كاذبين في قطعهم، مرتبكين في جهلهم، وقد يعبرون - دليلاً على أنه لا علم من ذلك عندهم - بالشك، قال تعالى: ﴿بل هم في شك﴾ ولما كانت لشدة ظهورها لقوة أدلتها كأنها موجودة، عبر بمن، أي مبتدىء ﴿منها﴾ ولما كانوا يجزمون بنفيها تارة ويترددون أخرى، كانت حقيقة حال من ينكر الشيء تارة على سبيل القطع وأخرى وجه الشك الوصف بالجهل البالغ به قال: ﴿بل هم﴾ ولما كان الإنسان مطبوعاً على نقائص موجبة لطغيانه، ومبالغته في العلو في جميع شأنه، ولا يوهن تلك النقائص منه إلا الخوف من عرضه على ديانه، الموجب لجهله. وتماديه على قبيح فعله، فقال مقدماً للجار: ﴿منها عمون*﴾ أي ابتدأ عماهم البالغ الثابت من اضطرابهم في أمرها، فضلوا فأعماهم ضلالهم عن جميع ما ينفعهم، فصاروا لا ينتفعون بعقولهم، بل انعكس نفعها ضراً، وخيرها شراً، ونسب ما ذكر لجميع من في السماوات والأرض، لأن فعل البعض قد يسند إلى الكل لغرض، وهو هنا التنبيه على عظمة هذا الأمر، وتناهي وصفه، وأنه
204
يجب على الكل الاعتناء به، والوقوف على حقه، والتناهي عن باطله، أو لشك البعض وسكوت الباقي لقصد تهويله، أو أن إدراك العلم من حيث التهويل بقيام الأدلة التي هي أوضح من الشمس، فهم بها في قوة من أدرك علمه بالشيء، وهو معرض عنه، فقد فوّت على نفسه من الخير ما لا يدري كنهه، ثم نزل درجة أخرى بالشك ثم أهلكها بالكلية، وأنزلها العمى عن رتبة البهائم التي لا همّ لها إلا لذة البطن والفرج، وهذا كمن يسمع باختلاف المذاهب وتضليل بعضهم لبعض فيضلل بعضهم من غير نظر في قوله فيصير خابطاً خبط عشواء، ويكون أمره على خصمه هيناً أو الشك لأجل أن أعمالهم أعمال الشاك، أو أنهم لعدم علم الوقت بعينة كأنهم في شك بل عمى، ولأن العقول والعلوم لا تستقل بإدراك شيء من أمرها، وإنما يؤخذ ذلك عن الله بواسطة رسله من الملك والبشر.
ومن أخذ شيئاً من علمها عن غيرهم ضل.
ولما كان التقدير لحكاية كلامهم الذي يشعر ببلوغ العلم، فقالوا مقسمين جهد أيمانهم: لا تأتينا الساعة، عطف عليه ما يدل على الشك والعمى، وكان الأصل: وقالوا، ولكنه قال: ﴿وقال الذين كفروا﴾ أي ستروا دلائل التوحيد والآخرة التي هي أكثر من أن تحصى وأوضح من الضياء، تعليقاً للحكم بالوصف، مستفهمين استفهام المستبعد المنكر: ﴿أإذا كنا تراباً وآباؤنا﴾ وكرروا الاستفهام
205
إشارة إلى تناهي الاستبعاد والجحود، وعد ما استبعدوه محالاً، فقالوا: ﴿أئنا﴾ أي نحن وآباؤنا الذين طال العهد بهم، وتمكن البلى فيهم ﴿لمخرجون*﴾ أي من الحالة التي صرنا إليها من الموت والبلى إلى ما كنا عليه قبل ذلك من الحياة والقوة، ثم أقاموا الدليل في زعمهم على ذلك فقالوا تعليلاً لاستبعادهم: ﴿لقد وعدنا﴾.
ولما كانت العناية في هذه السورة بالإيقان بالآخرة، قدم قوله: ﴿هذا﴾ أي الإخراج من القبور كما كنا أول مرة - على قوله: ﴿نحن وآباؤنا﴾ بخلاف ما سبق في سورة المؤمنون، وقالوا: ﴿من قبل﴾ زيادة في الاستبعاد، أي أنه قد مرت الدهور على هذا الوعد، ولم يقع منه شيء، فلذلك دليل على أنه لا حقيقة له فكأنه قيل: فما المراد به؟ فقالوا: ﴿إن﴾ أي ما ﴿هذا إلا أساطير الأولين*﴾ أي ما سطروه كذباً لأمر لا نعرف مرادهم منه. ولا حقيقة لمعناه، فقد حط كلامهم هذا كما ترى على أنهم تارة في غاية الإنكار دأب المحيط العلم، وتارة يستبعدون دأب الشاك، المركب الجهل، الجدير بالتهكم كما مضى أنه معنى الإضرابات - والله الموفق.
206
ولما لم يبق هذا الذي أقامه من دلائل القدرة على كل شيء عموماً، وعلى البعث خصوصاً، مقال، يرد عن الغي إلا التهديد بالنكال، وكان كلامهم هذه موجباً للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الغم والكرب ما لا يعلمه إلا الله تعالى، قال سبحانه ملقناً له ومرشداً لهم في صورة التهديد: ﴿قل سيروا في الأرض﴾ أي أيها المعاندون أو العمي الجاهلون.
ولما كان المراد الاسترشاد للاعتقاد، والرجوع عن الغي والعناد، لكون السياق له، لا مجرد التهديد، قال ﴿فانظروا﴾ بالفاء المقتضية للإسراع، وعظم المأمور بنظره بجعله أهلاً للعناية به، والسؤال عنه، فقال: ﴿كيف كان﴾ أي كوناً هو في غاية المكنة ﴿عاقبة المجرمين*﴾ أي القاطعين لما أمر الله به أن يوصل من الصلاة التي هي الوصلة بين الله وبين عباده، والزكاة التي هي وصلة بين بعض العباد وبعض، لتكذيبهم الرسل الذين هم الهداة إلى ما لا تستقل به العقول، فكذبوا بالآخرة التي ينتج التصديق بها كل هدى، ويورث التكذيب بها كل عمى - كما تقدمت الإشارة إليه في افتتاح السورة، فإنكم إن نظرتم ديارهم، وتأملتم أخبارهم، حق التأمل، أسرع بكم ذلك إلى التصديق فنجوتم وإلا هلكتم، فلم تضروا إلا أنفسكم، وقد تقدم لهذا مزيد بيان
207
في النحل.
ولما دهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأسف على جلافتهم في عماهم عن السبيل، الذي هدى إليه الدليل، ما لا يعلمه إلا الله قال: ﴿ولا تحزن عليهم﴾ أي في عدم إيمانهم.
ولما كانوا لا يقتصرون على التكذيب، بل يبغون للمؤمنين الغوائل، وينصبون الحبائل، قال: ﴿ولا تكن﴾ مثبتاً للنون لأنه في سياق الإخبار عن عنادهم واستهزائهم مع كفايته سبحانه وتعالى لمكرهم بما أعد لهم من سوء العذاب في الدارين، فلا مقتضى للتناهي في الإيجاز والإبلاغ في نفي الضيق، فيفهم إثبات النون الرسوخ، فلا يكون منهياً عما لا ينفك عنه العسر مما أشار إليه قوله تعالى ﴿ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون﴾ وإنما ينهى عن التمادي معه في الذكر بخلاف ما مضى في النحل، فإن السياق هناك للعدل في العقوبة لما وقع من المصيبة في غزوة أحد المقتضى لتعظيم التسلية بالحمل على الصبر، ونفي جميع الضيق ليكون ذلك وازعاً عن مجاوزة الحد، بل حاملاً على العفو ﴿في ضيق﴾ أي في الصدر ﴿مما يمكرون*﴾ فإن الله جاعل تدميرهم في تدبيرهم كطغاة قوم صالح.
208
في النحل.
ولما دهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأسف على جلافتهم في عماهم عن السبيل، الذي هدى إليه الدليل، ما لا يعلمه إلا الله قال: ﴿ولا تحزن عليهم﴾ أي في عدم إيمانهم.
ولما كانوا لا يقتصرون على التكذيب، بل يبغون للمؤمنين الغوائل، وينصبون الحبائل، قال: ﴿ولا تكن﴾ مثبتاً للنون لأنه في سياق الإخبار عن عنادهم واستهزائهم مع كفايته سبحانه وتعالى لمكرهم بما أعد لهم من سوء العذاب في الدارين، فلا مقتضى للتناهي في الإيجاز والإبلاغ في نفي الضيق، فيفهم إثبات النون الرسوخ، فلا يكون منهياً عما لا ينفك عنه العسر مما أشار إليه قوله تعالى ﴿ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون﴾ وإنما ينهى عن التمادي معه في الذكر بخلاف ما مضى في النحل، فإن السياق هناك للعدل في العقوبة لما وقع من المصيبة في غزوة أحد المقتضى لتعظيم التسلية بالحمل على الصبر، ونفي جميع الضيق ليكون ذلك وازعاً عن مجاوزة الحد، بل حاملاً على العفو ﴿في ضيق﴾ أي في الصدر ﴿مما يمكرون*﴾ فإن الله جاعل تدميرهم في تدبيرهم كطغاة قوم صالح.
209
ولما أشار إلى أنهم لم يبقوا في المبالغة في التكذيب بالساعة وجهاً، أشار إلى أنهم بالوعيد بالساعة وغيرها من عذاب الله أشد مبالغة، فقال: ﴿ويقولون﴾ بالمضارع المؤذن بالتجدد كل حين للاستمرار: ﴿متى هذا الوعد﴾ وسموه وعداً إظهاراً للمحبة تهكماً به، وهو العذاب والبعث والمجازاة ﴿إن كنتم﴾ أي أنت ومن تابعك، كوناً هو في غاية الرسوخ، كما تزعمون ﴿صادقين*﴾ فأجابهم على هذا الجواب الغص بجواب الواسع القادر الذي لا يعتريه ضيق، ولا تنويه عجلة، مشيراً إلى الاستعداد للدفاع أو الاستسلام لذي الجلال والإكرام، كما فعلت بلقيس رضي الله عنها، فقال مخاطباً الرأس الذي لا يقدر على هذه التؤده حق القدرة غيره: ﴿قل﴾ يا محمد ﴿عسى﴾ أي يمكن ﴿أن يكون﴾ وجدير وخليق بأن يكون ﴿ردف﴾ أي تبع ردفاً حتى صار كالرديف ولحق.
ولما قصر الفعل وضمنه معنى ما يتعدى باللام لأجل الاختصاص قال: ﴿لكم﴾ أي لأجلكم خاصة ﴿بعض الذي تستعجلون*﴾ إتيانه من الوعيد، فتطلبون تعجيله قبل الوقت الذي ضربه الله له، فعلى تقدير وقوعه ماذا أعددتم لدفاعه؟ فإن العاقل من ينظر في عواقب أموره، ويبنيها على أسوأ التقادير، فيعد لما يتوهمه من البلاء ما يكون فيه
210
الخلاص كما فعلت بلقيس رضي الله عنها من الانقياد الموجب للأمان لما غلب على ظنها أن الإباء يوجب الهوان، لا كما فعل قوم صالح من الآبار، التي أعانت على الدمار، وغيرهم من الفراعنة.
ولما كان التقدير قطعاً: فأن ربك لا يعجل على أهل المعاصي بالانتقام مع القطع بتمام قدرته، عطف عليه قوله: ﴿وإن ربك﴾ أي المحسن إليك بالحلم عن أمتك وترك المعاجلة لهم بالعذاب على المعاصي ﴿لذو فضل﴾ أي تفضل وإنعام ﴿على الناس﴾ أي كافة ﴿ولكن أكثرهم لا يشكرون*﴾ أي لا يوقعون الشكر له بما أنعم عليهم، ويزيدون في الجهل بالاستعجال.
ولما كان الإمهال قد يكون من الجهل بذنوب الأعداء، قال نافياً لذلك: ﴿وإن ربك﴾ أي والحال أنه أشار بصفة الربوبية إلى إمهالهم إحساناً إليه وتشريفاً له ﴿ليعلم﴾ أي علماً لا يشبه علمكم بل هو في غاية الكشف لديه دقيقه وجليله ﴿ما تكن﴾ أي تضمر وتستر وتخفي ﴿صدورهم﴾ أي الناس كلهم فضلاً عن قومك ﴿وما يعلنون*﴾ أي يظهرون من عداوتك فلا تخشهم، وذكر هذا القسم لأن التصريح أقر للنفس والمقام للأطناب، على أنه ربما كان
211
في الإعلان لغط واختلاط أصوات يكون سبباً للخفاء.
ولما كان ثبات علة الناس في الغالب مقيداً بالكتاب، قال تقريباً لأفهامهم: ﴿وما من غائبة﴾ أي من هنة من الهنات في غاية الغيبوبة ﴿في السماء والأرض﴾ أي في أي موضع كان منهما، وأفردهما دلالة على إرادة الجنس الشامل لكل فرد ﴿إلا في كتاب﴾ كتبه قبل إيجادها لأنه لا يكون شيء إلا بعلمه وتقديره ﴿مبين*﴾ لا يخفى شيء فيه على من تعرف ذلك منه كيفما كان؛ ثم دل على ذلك بقوله: ﴿إن هذا القرآن﴾ أي الآتي به هذا النبي الأمي الذي لم يعرف قبله علماً ولا خالط عالماً ﴿يقص﴾ أي يتابع الإخبار ويتلو شيئاً فشيئاً على سبيل القطع الذي لا تردد فيه، من غير زيادة ولا نقص ﴿على بني إسرائيل﴾ أي الذي أخبارهم مضبوطة في كتبهم لا يعرف بعضها إلا قليل من حذاق أخبارهم ﴿أكثر الذي هم﴾ أي خاصة لكونه من خاص أخبارهم التي لا علم لغيرهم بها ﴿فيه يختلفون*﴾ أي من أمر الدين وإن بالغوا في كتمه، كقصة الزاني المحصن في إخفائهم أن حده الرجم، وقصة عزير والمسيح، وإخراج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك من توارتهم، فصح بتحقيقه على لسان من لم يلم بعلم قط أنه من عند الله، وصح أن الله تعالى يعلم كل شيء إذ لا خصوصية لهذا دون غيره بالنسبة إلى علمه سبحانه.
212
ولما بان بهذا دليل علمه، أتبعه دليل فضله وحلمه، فقال: ﴿وإنه﴾ أي القرآن ﴿لهدى﴾ أي موصل إلى المقصود لمن وفق ﴿ورحمة﴾ أي نعمة وإكرام ﴿للمؤمنين*﴾ أي الذين طبعتهم على الإيمان، فهو صفة لهم راسخة كما أنه للكافرين وقر في أذانهم وعمى في قلوبهم.
ولما ذكر دليل فضله، أتبعه دليل عدله، فقال مستأنفاً لجواب من ظن أن فضله دائم العموم على الفريقين: ﴿إن﴾ وقال: ﴿ربك﴾ أي المحسن إليك بجمعه لكل بين العلم والبلاغة والدين والبراعة والدنيا والعفة والشجاعة تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿يقضي بينهم﴾ أي بين جميع المخلفين ﴿بحكمه﴾ أي الذي هو أعدل حكم وأتقنه وأنفذه وأحسنه مع كفرهم به واستهزائهم برسله، لا بحكم غيره ولا بنائب يستنيبه ﴿وهو﴾ أي والحال أنه هو ﴿العزيز﴾ فلا يرد له أمر ﴿العليم*﴾ فلا يخفى عليه سر ولا جهر، فلما ثبت له العلم والحكمة، والعظمة والقدرة، تسبب عن ذلك قوله: ﴿فتوكل على الله﴾ أي الذي له جميع العظمة بما ثبت علمه وقدرته التي أثبت بها أنك أعظم عباده الذين اصطفى في استهزاء الأعداء وغيره من مصادمتهم ومسالمتهم لتدع الأمور كلها إليه، وتستريح من تحمل المشاق، وثوقاً بنصره، وما أحسن قول قيس بن الخطيم وهو جاهلي:
213
متى ما تقد بالباطل الحق يأبه وأن تقد الأطوار بالحق تنقد
ثم علل ذلك حثاً على التحري في الأعمال، وفطماً لأهل الإبطال، عن تمني المحال، فقال: ﴿إنك على الحق المبين*﴾ أي البين في نفسه الموضح لغيره، فحقك لا يبطل ووضوحه لا يخفى، ونكوصهم ليس عن خلل في دعائك لهم، وإنما الخلل في مداركهم، فثق بالله في تدبير أمرك فيهم؛ ثم علل هذا الذي أرشد السياق إلى تقديره، أو استأنف لمن يسأل متعجباً عن وقوفهم عن الحق الواضح بقوله: ﴿إنك لا تسمع الموتى﴾ أي لا توجد سمعاً للذين هم كالموتى في عدم الانتفاع بمشاعرهم التي هي في غاية الصحة، وهم إذا سمعوا الآيات أعرضوا عنها.
ولما كان تشبيههم بالموتى مؤيساً، قال مرجياً: ﴿ولا تسمع الصم الدعاء﴾ أي لا تجدد ذلك لهم، فشبههم بما في أصل خلقهم مما جبلوا عليه من الشكاسة وسوء الطبع بالصم.
ولما كانوا قد ضموا إلى ذلك الإعراض والنفرة فصاروا كالأصم المدبر، وكان الأصم إذا أقبل ربما بمساعدة بصره وفهمه، قال: ﴿إذا ولوا مدبرين*﴾ فرجاه في إيجاد الإسماع إذا حصلت لهم حالة من الله تقبل بقلوبهم.
ولما شبههم بالصم في كونهم لا يسمعون إلا مع الإقبال، مثلهم
214
بالعمى في أنهم لا يهتدون في غير عوج أصلاً إلا براعٍ لا تشغله عنهم فترة ولا ملال، فقال: ﴿وما أنت بهادي﴾ أي بموجد الهداية على الدوام في قلوب ﴿العمي﴾ أي في أبصارهم وبصائرهم مزيلاً لهم وناقلاً ومبعداً ﴿عن ضلالتهم﴾ عن الطريق بحيث تحفظهم عن أن يزالوا عنها أصلاً، فإن هذا لا يقدر عليه إلا الحي القيوم، والسياق كما ترى يشعر بتنزيل كفرهم في ثلاث رتب: عليا ككفر أبي جهل، ووسطى كعتبة بن ربيعة، ودنيا كأبي طالب وبعض المنافقين، وسيأتي في سورة الروم لهذا مزيد بيان.
ولما كان ربما أوقف عن دعائهم، رجاه في انقيادهم وارعوائهم بقوله: ﴿إن﴾ أي ما ﴿تسمع﴾ أي سماع انتفاع على وجه الكمال، في كل حال ﴿إلا من يؤمن﴾ أي من علمناه أنه يصدق ﴿بآياتنا﴾ بأن جعلنا فيه قابلية السمع. ثم سبب عنه قوله دليلاً على إيمانه: ﴿فهم مسلمون*﴾ أي في غاية الطواعية لك في المنشط والمكره، لا خيرة لهم ولا إرادة في شيء من الأشياء.
215
ولما فرغ من عظيم زجرهم بتسليته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمرهم وختم بالإسلام، عطف عليه ذكر ما يوعدون مما تقدم استعجالهم له استهزاء
215
به، وبدأ منه بالدابة التي تميز المسلم من غيره، فقال محققاً بأداة التحقيق: ﴿وإذا وقع القول﴾ أي حان حين وقوع الوعيد الذي هو معنى القول، وكأنه لعظمه لا قول غيره ﴿عليهم﴾ بعضه بالإتيان حقيقة وبعضه بالقرب جداً ﴿أخرجنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿لهم﴾ من أشراط الساعة ﴿دآبة﴾ وأيّ دابة في هولها وعظمها خلقاً وخلقاً ﴿من الأرض﴾ أي أرض مكة التي هي أم الأرض، لأنه لم يبق بعد إرسال أكمل الخلق بأعلى الكتب إلا كشف الغطاء.
ولما كان التعبير بالدابة يفهم أنها كالحيوانات العجم لا كلام لها قال: ﴿تكلمهم﴾ أي بكلام يفهمونه، روى البغوي من طريق مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريباً» ومن طريق ابن خزيمة عن أبي شريحة الغفاري رضي الله عنه أن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر، فتخرج خروجاً بأقصى اليمن فيفشو ذكرها بالبادية، ولا يدخل ذكرها القرية - يعني مكة، ثم تمكن زماناً طويلاً، ثم تخرج خرجة أخرى قريباً من مكة فيفشو ذكرها بالبادية ويدخل ذكرها القرية، ثم بينما
216
الناس يوماً في أعظم المساجد على الله عز وجل حرمة وأكرمها على الله عز وجل - يعني المسجد الحرام، لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو - كذا قال عمرو - يعني ابن محمد العبقري أحد رواة الحديث - ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط ذلك، فارفض الناس عنها وثبت لها عصابة عرفوا أنهم لن يعجزوا الله فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب، فمرت بهم فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب، ولا يعجزها هارب، حتى أن الرجل ليقوم فيتعوذ منها بالصلاة، فتأتيه من خلفه فتقول: يا فلان! الآن تصلي، فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه، فيتجاور الناس في ديارهم، ويصطحبون في أسفارهم، ويشتركون في الأموال، يعرف الكافر من المؤمن، فيقال للمؤمن: يا مؤمن، ويقال للكافر: يا كافر» ؛ ومن طريق الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «تخرج الدابة ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان عليهما السلام، فتجلو وجه المؤمن بالعصا، وتخطم أنف الكافر بالخاتم، حتى أن أهل الخوان
217
ليجتمعون فيقول هذا: يا مؤمن، وهذا: يا كافر».
ثم علل سبحانه إخراجه لها بقوله: ﴿أن الناس﴾ أي بما هم ناس لم يصلوا إلى أول أسنان الإيمان، وهو سن ﴿الذين آمنوا﴾ بل هم نائسون مترددون مذبذبون تارة، وتارة ﴿كانوا﴾ أي كوناً هو لهم كالجبلة ﴿بآياتنا﴾ أي المرئيات التي كتبناها بعظمتنا في ذوات العالم، والمسموعات المتلوات، التي أتيناهم بها على ألسنة أكمل الخلق: الأنبياء والرسل، حتى ختمناهم بإمامهم الذي هو أكمل العالمين، قطعاً لحجاجهم، ورداً عن لجاجهم، ولذا عممنا برسالته وأوجبنا على جميع العقل أتباعه ﴿لا يوقنون*﴾ من اليقين، وهو إتقان العلم بنفي الشبه، بل هم فيها مزلزلون، فلم يبق بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا كشف الغطاء عما ليس من جنس البشر بما لا تثبت له عقولهم.
ولما كان من فعل الدابة التمييز بين المؤمن والكافر بما لا يستطيعون دفعه، تلاه بتمييز كل فريق منهما عن صاحبه يجمعهم يوم القيامة في ناحية، وسوقهم من غير اختلاط بالفريق الآخر، فقال عاطفاً على العامل في «وإذا وقع القول» :﴿ويوم نحشر﴾ أي نجمع - بما لنا من العظمة - على وجه الإكراه؛ قال أبو حيان: الحشر: الجمع
218
على عنف ﴿من كل أمة فوجاً﴾ أي جماعة كثيرة ﴿ممن يكذب﴾ أي يوقع التكذيب للهداة على الاستمرار، مستهيناً ﴿بآياتنا﴾ أي المرئية بعدم الاعتبار بها، والمسموعة بردها والطعن فيه على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا؛ وأشار إلى كثرتهم بقوله متسبباً عن العامل في الظرف من نحو: يكونون في ذل عظيم: ﴿فهم يوزعون*﴾ أي يكف بأدنى إشارة منه أولهم على - آخرهم، وأطرافهم على أوساطهم، ليتلاحقوا، ولا يشذ منهم أحد، ولا يزالون كذلك ﴿حتى إذا جاءوا﴾ أي المكان الذي أراده الله لتبكيتهم ﴿قال﴾ لهم ملك الملوك غير مظهر لهم الجزم بما يعلمه من أحوالهم، في عنادهم وضلالهم، بل سائلاً لهم إظهاراً للعدل بإلزامهم بما يقرون به من أنفسهم، وفيه إنكار وتوبيخ وتبكيت وتقريع: ﴿أكذبتم﴾ أي أيها الجاهلون ﴿بآياتي﴾ على ما لها من العظم في أنفسها، وبإتيانها إليكم على أيدي أشرف عبادي ﴿و﴾ الحال أنكم ﴿لم تحيطوا بها علماً﴾ أي من غير فكر ولا نظر يؤدي إلى الإحاطة بها في معانيها وما أظهرت لأجله حتى تعلموا ما تستحقه ويليق بها بدليل لا مرية فيه ﴿أمّاذا كنتم﴾ أي في تلك الأزمان بما هو لكم كالجبلات ﴿تعملون*﴾ فيها هل صدقتم بها أو كذبتم بعد الإحاطة بعلمها؟ أخبروني عن ذلك كله! ما دهاكم حيث لم تشتغلوا بهذا العمل المهم؟ فإن هذا - وعزتي - مقام العدل
219
والتحرير، ولا يترك فيه قطمير ولا نقير، ولا ظلم فيه على أحد في جليل ولا حقير، ولا قليل ولا كثير، والسؤال على هذا الوجه منبه على الاضطرار إلى التصديق أو الاعتراف بالإبطال، لأنهم إن قالوا: كذبنا، فإن قالوا مع عدم الإحاطة كان في غاية الوضوح في الإبطال، وإن قالوا مع الإحاطة كان أكذب الكذب.
220
ولما كان التقدير بما أرشد إليه السياق: فأجابوا بما تبين به أنهم ظالمون، عطف عليه قوله: ﴿ووقع القول﴾ أي مضمون الوعيد الذي هو القول حقاً، مستعلياً ﴿عليهم بما ظلموا﴾ أي بسبب ما وقع منهم من الظلم من صريح التكذيب وما نشأ عنه من الضلال، في الأقوال والأفعال ﴿فهم لا ينطقون*﴾ أي بسبب ما شغلهم من وقوع العذاب المتوعد به مما أحاط بقواهم، فهد أركانهم، وما انكشف لهم من أنه لا ينجيهم شيء.
ولما ذكر الحشر، استدل عليه بحشرهم كل ليلة إلى المبيت، والختم على مشاعرهم، وبعثهم من المنام، وإظهار الظلام الذي هو كالموت بعد النور، وبعث النور بعد إفنائه بالظلام، فقال: ﴿ألم يروا﴾ مما يدلهم على قدرتنا على بعثهم بعد الموت وعلى كل ما أخبرناهم به ﴿أنا جعلنا﴾ أي بعظمتنا التي لا يصل أحد إلى مماثلة شيء منها
221
الدالة على تفردنا وفعلنا بالاختيار ﴿الليل﴾ أي مظلماً ﴿ليسكنوا فيه﴾ عن الانتشار ﴿والنهار مبصراً﴾ أي بإبصار من يلابسه، لينتشروا فيه في معايشهم بعد أن كانوا ماتوا الموتة الصغرى، وكم من شخص منهم بات سوياً لا قلبة به فمات، ولو شئنا لجعلنا الكل كذلك لم يقم منهم أحد، وعدل عن ﴿ليبصروا فيه﴾ تنبيهاً على كمال كونه سبباً للإبصار، وعلى أنه ليس المقصود كالسكون، بل وسيلة المقصود الذي هو جلب المنافع، فالآية من الاحتباك: ذكر السكون أولاً دليل على الانتشار ثانياً، وذكر الإبصار ثانياً دليل على الإظلام أولاً، ثم عظم هذه الآية حثاً على تأمل ما فيها من القدرة الهادية إلى سواء السبيل فقال: ﴿إن في ذلك﴾ أي الحشر والنشر الأصغرين مع آيتي الليل والنهار ﴿لآيات﴾ أي متعددة، بينة على التوحيد والبعث الآخر والنبوة، لأن من قلب الملوين لمنافع الناس الدنيوية، أرسل الرسل لمنافعهم في الدراين.
ولما كان من مباني السورة تخصيص الهداية بالمؤمنين، خصهم بالآيات لاختصاصهم بالانتفاع بها وأن كان الكل مشتركين في كونها دلالة لهم، فقال: ﴿لقوم يؤمنون*﴾ أي قضيت بأن إيمانهم لا يزال يتجدد، فهم كل يوم في علو وارتفاع.
222
ولما ذكر هذا الحشر الخاص، والدليل على مطلق الحشر والنشر، ذكر الحشر العام، لئلا يظن أنه إنما يحشر الكافر، فقال مشيراً إلى عمومهم بالموت كما عمهم بالنوم، وعمومهم بالإحياء كما عمهم بالإيقاظ: ﴿ويوم ينفخ﴾ أي بأيسر أمر ﴿في الصور﴾ أي القرن الذي جعل صوته لإماتة الكل.
ولما كان ما ينشأ عنه من فزعهم مع كونه محققاً مقطوعاً به كأنه وجد ومضى، يكون في آن واحد، أشار إلى ذلك وسرعة كونه بالتعبير بالماضي فقال: ﴿ففزع﴾ أي صعق بسسب هذا النفخ ﴿من في السماوات﴾.
ولما كان الأمر مهولاً، كان الإطناب أولى، فقال: ﴿ومن في الأرض﴾ أي كلهم ﴿إلا من شاء الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة وعزة وعظمة، أن لا يفزع؛ ثم أشار إلى النفخ لإحياء الكل بقوله: ﴿وكل﴾ أي من فزع ومن لم يفزع ﴿أتوه﴾ أي
222
بعد ذلك للحساب بنفخة أخرى يقيمهم بها، دليلاً على تمام القدرة في كونه أقامهم بما به أنامهم ﴿داخرين*﴾ أي صاغرين منكسرين؛ واستغنى عن التصريح به بما يعلم بالبديهة من أنه لا يمكن إتيانهم في حال فزعهم الذي هو كناية عن بطلان إحساسهم، هذا معنى ما قاله كثير من المفسرين والذي يناسب سياق الآيات الماضية - من كون الكلام في يوم القيامة الذي هو ظرف لما بين البعث ودخول الفريقين إلى داريهما - أن يكون هذا النفخ بعد البعث وبمجرد صعق هو كالغشي كما أن حشر الأفواج كذلك، ويؤيده التعبير بالفزع، ويكون الإتيان بعده بنفخة أخرى تكون بها الإقامة، فهاتان النفختان حينئذ هما المراد من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يصعق الناس يوم القيامة» - الحديث، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى لفظاً ومعنى، ويحل ما فيه من إشكال في آخر سورة الزمر.
ولما ذكر دخورهم، تلاه بدخور ما هو أعظم منهم خلقاً، وأهول أمراً، فقال: عاطفاً على ناصب الظرف مما تقديره: كانت أمور محلولة، معبراً بالمضارع لأن ذلك وإن شارك الفزع في
223
التحقق قد فارقه في الحدوث والتجدد شيئاً فشيئاً: ﴿وترى الجبال﴾ أي عند القيام من القبور، والخطاب إما للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليدل ذلك - لكونه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنفذ الناس بصراً وأنورهم بصيرة - على عظم الأمر، وإما لكل أحد لأن الكل صاروا بعد قيامهم أهلاً للخطاب بعد غيبتهم في التراب ﴿تحسبها جامدة﴾ أي قائمة ثابته في مكانها لا تتحرك، لأن كل كبير متباعد الأقطار لا يدرك مشيته إلا تخرصاً ﴿وهي تمر﴾ أي تسير حتى تكون كالعهن المنفوش فينسفها الله فتقع حيث شاء كأنها الهباء المنثور، فتستوي الأرض كلها بحيث لا يكون فيها عوج، وأشار إلى أن سيرها خفي وإن كان حثيثاً بقوله: ﴿مر السحاب﴾ أي مراً سريعاً لا يدرك على ما هو عليه لأنه إذا طبق الجو لا يدرك سيره مع أنه لا شك فيه وإن لم تنكشف الشمس بلا لبس، وكذا كل كبير الجرم أو كثير العد يقصر عن الإحاطة به لبعد ما بين أطرافه بكثرته البصر، يكون سائراً، والناظر الحاذق يظنه واقفاً.
ولما كان ذلك أمراً هائلاً، أشار إلى عظمته بقوله، مؤكداً
224
لمضمون الجملة المتقدمة: ﴿صنع الله﴾ أي صنع الذي له الأمر كله ذلك الذي أخبر أنه كائن في ذلك اليوم صنعاً، ونحو هذا المصدر إذا جاء عقب كلام جاء كالشاهد بصحته، والمنادي على سداده، والصارخ بعلو مقداره، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا هكذا، ثم زاد في التعظيم بقوله دالاً على تمام الإحكام في ذلك الصنع: ﴿الذي أتقن كل شيء﴾.
ولما ثبت هذا على هذا الوجه المتقن، والنظام الأمكن، أنتج قطعاً قوله: ﴿إنه﴾ أي الذي أحكم هذه الأمور كلها ﴿خبير بما يفعلون*﴾ أي لأن الإتقان نتيجة القدرة، وهي نتيجة العلم، فمن لم يكن شامل العلم لم يكن تام القدرة، وعبر بالفعل الذي هو أعم من أن يكون بعلم أو لا، لأنه في سياق البيان لعماهم، ونفي العلم عنهم، وقرىء بالخطاب المؤذن بالقرب المرجي للرضا، المرهب من الإبعاد، المقرون بالسخط، وبالغيبة المؤذنة بالإعراض الموقع في الخيبة، وما أبدع ما لاءم ذلك ولاحمه ما بعده على تقدير الجواب لسؤال من كأنه قال: ماذا يكون حال أهل الحشر مع الدخور عند الناقد البصير؟ فقال: من إتقانه للأشياء أنه رتب الجزاء أحسن ترتيب ﴿من جاء بالحسنة﴾ أي الكاملة وهي الإيمان ﴿فله﴾ وهو من جملة إحكامه للأشياء ﴿خير﴾ أي أفضل ﴿منها﴾ مضاعفاً، أقل ما يكون عشرة أضعاف إلى ما لا يعلمه إلا الله، وأكرمت وجوههم عن النار، وهؤلاء أهل القرب
225
الذين سبقت لهم الحسنى ﴿وهم من فزع يومئذ﴾ أي إذا وقعت هذه الأحوال، العظيمة الأهوال ﴿آمنون*﴾ أي حتى لا يحزنهم الفزع الأكبر، فانظر إلى بلاغة هذا الكلام، وحسن نظمه وترتيبه، وأخذ بعضه بحجزة بعض، كأنما أفزع إفزاعاً واحداً، ولأمر ما أعجز القوي، وأخرس الشقاشق والادعاء ﴿ومن جاء بالسيئة﴾ أي التي لا سيئة مثلها، وهي الشرك لقوله: ﴿فكبت﴾ أي بأيسر أمر ﴿وجوههم في النار﴾ مع أنه ورد في الصحيح أن مواضع السجود - التي أشرفها الوجوه - لا سبيل للنار عليها، والوجه أشرف ما في الإنسان، فإذا هان كان ما سواه أولى بالهوان، والمكبوب عليه منكوس.
ولما كانوا قد نكسوا أعمالهم وعكسوها بعبادة غير الله، فوضعوا الشيء في غير موضعه، فعظموا ما حقه التحقير، واستهانوا أمر العلي الكبير. وكان الوجه محل ظهور الحياء والانكسار، لظهور الحجة، وكانوا قد حدقوا الأعين جلادة وجفاء عند العناد، وأظهروا في الوجوه التجهم والعبوس والارتداد، بدع قوله بناء على ما تقديره بما دل عليه الاحتباك: وهم من فزع يومئذ خائفون، وليس لهم إلا مثل سيئتهم: ﴿هل﴾ أي مقولاً لهم: هل ﴿تجزون﴾ أي بغمس الوجوه
226
في النار؛ وبني للمفعول لأن المرغب المرهب الجزاء، لا كونه من معين، وإشارة إلى أنه يكون بأيسر أمر، لأن من المعلوم أن المجازي هو الله لا غيره ﴿إلا ما كنتم﴾ أي بما هو لكم كالجبلة ﴿تعملون*﴾ أي تكررون عمله وأنتم تزعمون أنه مبني على قواعد العلم بحيث يشهد كل من رآه أنه مماثل لأعمالكم سواء بسواء، وهو شامل أيضاً لأهل القسم الأول، والآية من الاحتباك: ذكر الخيرية والأمن أولاً دليلاً على حذف المثل والخوف ثانياً، والكب في النار ثانياً دليلاً على الإكرام عنه أولاً.
ولما أتم الدين بذكر الأصول الثلاثة: المبدأ والمعاد والنبوة، ومقدمات القيامة وأحوالها، وبعض صفتها وما يكون من أهوالها، وذلك كمال ما يتعلق بأصول الدين على وجوه مرغبة أتم ترغيب، مرهبة أعظم ترهيب، أوجب هذا الترغيب والترهيب لكل سامع أن يقول: فما الذي نعمل ومن نعبد؟ فأجابه المخاطب بهذا الوحي. المأمور بإبلاغ هذه الجوامع، الداعي لمن سمعه، الهادي لم اتبعه، بأنه لا يرضى له ما رضي لنفسه، وهو ما أمره به ربه، فقال: ﴿إنما أمرت﴾ أي بأمر من لا يرد له أمر، ولا يعد أن يكون بدلاً من قوله ﴿الحمد لله وسلام على عباده الذين اصصفى﴾ فيكون محله نصباً بقل،
227
وعظم المأمور به بإحلاله محل العمدة فقال: ﴿أن أعبد﴾ أي بجميع ما أمركم به ﴿رب﴾ أي موجب ومدبر وملك؛ وعين المراد وشخصه وقربة تشريفاً وتكريماً بقوله: ﴿هذه البلدة﴾ أي مكة التي تخرج الدابة منها فيفزع كل من يراها، ثم تؤمن أهل السعادة، أخصه بذلك لا أعبد شيئاً مما عدلتموه به سبحانه وادعيتم أنهم شركاء، وهم من جملة ما خلق؛ ثم وصف المعبود الذي أمر بعبادة أحد غيره بما يقتضيه وصف الربوبية، وتعين البلدة التي أشار إليها بأداة القرب لحضورها في الأذهان لعظمتها وشدة الإلف بها وإرادتها بالأرض التي تخرج الدابة منها، فصارت لذلك بحيث إذا أطلقت البلدة انصرفت إليها وعرف أنها مكة، فقال: ﴿الذي حرمها﴾ تذكيراً لهم بنعمته سبحانه عليهم وتربيته لهم بأن أسكنهم خير بلاده، وجعلهم بذلك مهابة في قلوب عباده، بما ألقى في القلوب من أنها حرم، لا يسفك بها دم، ولا يظلم أحد، ولا يباح بها صيد، ولا يعضد شجرها، وخصها بذلك من بين سائر بلاده والناس يتخطفون من حولهم وهم آمنون لا ينالهم شيء من فزعهم وهولهم.
228
ولما كانت إضافتها إليه إنما هي لمحض التشريف، قال احتراساً عما لعله يتوهم: ﴿وله كل شيء﴾ أي من غيرها مما أشركتموه به وغيره خلقاً وملكاً وملكاً، وليس هو كالملوك الذين ليس لهم إلا ما حموه على غيرهم.
ولما كانوا ربما قالوا: ونحن نعبده بعبادة من نرجوه يقربنا إليه زلفى، عين الدين الذي تكون به العبادة فقال: ﴿وأمرت﴾ أي مع الأمر بالعبادة له وحده، وعظم المفعول المأمور به بجعله عمدة الكلام بوضعه موضع الفاعل فقال: ﴿أن أكون﴾ أي كوناً هو في غاية الرسوخ ﴿من المسلمين*﴾ أي المنقادين لجميع ما يأمر به كتابه أتم انقياد، ثابتاً على ذلك غاية الثبات.
229
ولما بين ما أمر به في نفسه، أتبعه ما تعم فائدته غيره فقال: ﴿وأن أتلو القرآن﴾ أي أواظب على تلاوته وتلوه - أي اتباعه - عبادة لربي، وإبلاغاً للناس ما أرسلت به إليهم مما لا يلم به ريب في أنه من عنده، ولأكون مستحضراً لأوامره فأعمل بها، ولنواهيه فأجتنبها، وليرجع الناس إيه ويعولوا في كل أمر عليه. لأنه جامع لكل علم.
ولما تسبب عن ذلك أن من انقاد له نجى نفسه، ومن
229
استعصى عليه أهلكها، قال له ربه سبحانه مسلياً ومؤسياً ومرغباً ومرهباً: ﴿فمن اهتدى﴾ أي باتباع هذا القرآن الداعي إلى الجنان ﴿فإنما يهتدي لنفسه﴾ لأنه يحييها بحوزة الثواب، ونجاته من العقاب، فإنما أنا من المبشرين، أبشره أنه من الناجين ﴿ومن ضل﴾ أي عن الطريق التي نهج وبينها من غير ميل ولا عوج ﴿فقل﴾ له كما تقول لغيره: ﴿إنما أنا من المنذرين*﴾ أي المخوفين له عواقب صنعه، وإنما فسره ورده فلم أومر به الآن ﴿وقل﴾ أي إنذاراً لهم وترغيباً وترجية وترهيباً: ﴿الحمد﴾ أي الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿لله﴾ أي الذي له العظمة كلها سواء اهتدى الكل وضل الكل، أو انقسموا إلى مهتد وضال، لأنه لا يخرج شيء عن مراده.
ولما كانت نتيجة ذلك القدرة على كل شيء قال: ﴿سيريكم﴾ أي في الدنيا والآخرة بوعد محقق لا شك في وقوعه ﴿آياته﴾ أي الرادة لكم عما أنتم فيه يوم يحل لي هذه البلدة الذي حرمها بما أشار إليه جعلي من المنذرين وغير ذلك ما يظهر من وقائعه ويشتهر من أيامه التي صرح أو لوح بها القرآن، فيأتيكم تأويله فترونه عياناً، وهو معنى ﴿فتعرفونها﴾ أي بتذكركم ما أتوعدكم الآن به وأصفه لكم
230
منها، لا تشكون في شيء من ذلك أنه على ما وصفته ولا ترتابون، فتظهر لكم عظمة القرآن، وإبانة آيات الكتاب الذي هو الفرقان، وترون ذلك حق اليقين ﴿ولتعلمن نبأه بعد حين﴾ [ص: ٨٨]، ﴿يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق﴾ [الأعراف: ٥٣]، ﴿هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون﴾ [يس: ٥٢].
ولما كان قد نفس لهم بالسين في الآجال، وكان التقدير تسلية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وما ربك بتاركهم على هذا الحال من العناد لأن ربك قادر على ما يريد، عطف عليه قوله: ﴿وما ربك﴾ أي المحسن إليك بجميع ما أقامك فيه من هذه الأمور العظيمة والأحوال الجليلة الجسيمة ﴿بغافل عما تعملون*﴾ أي من مخالفة أوامره، ومفارقة زواجره، ويجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل ﴿يرى﴾ أي ربكم غير غافل، ومن قرأ بالخطاب كان المعنى: عما تعمل انت وأتباعك من الطاعة. وهو من المعصية، فيجازي كلاًّ منكم بما يستحق فيعلي أمرك، ويشد إزرك، ويوهن أيدهم، ويضعف كيدهم، بما له من الحكمة، والعلم ونفوذ الكلمة، فلا يظن ظان أن تركه للمعالجة بعقابهم لغفلة عن شيء من أعمالهم، إنما ذلك لأنه حد لهم حداهم بالغوه لا محالة لأنه لا يبدل القول لديه، فقد رجع آخرها كما ترى بإبانة الكتاب وتفخيم القرآن وتقسيم الناس فيه إلى مهتد وضال إلى أولها، وعانق ختامها ابتداءها بحكمة منزلها، وعلم مجملها ومفصلها، إلى غير ذلك
231
مما يظهر عند تدبرها وتأملها - والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب.
نجز الجزء المبارك من مناسبات البقاعي بحمد الله وعونه ويتلوه القصص إن شاء الله تعالى - اللهم اغفر لنا ذنوبنا وتجاوز عن سيئاتنا.
232
مقصودها التواضع لله، المستلزم لرد الأمر كله إليه، الناشىء عن الإيمان بالآخرة، الناشىء عن الإيمان بنبوة محمد (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، الثابتة بإعجاز القرآن، المظهر للخفايا على لسان من لم يتعلم علماً قط من أحد من الخلق، المنتج لعلو المتصف به، وذلك هو المأخوذ من تسميتها بالقصص الذي حكم لأجله شعيب بعلو الكليم عليهما السلام على من ناواه، وقمعه لمن عاداه، فكان المآل وفق ما قال) بسم الله (الذي اختص بالكبرياء والعظمة، فألبس خدامه من ملابي هيبته) الرحمن (الذي عم بنعمة البيان، حتى أهل الكفران الرحيم الذي
233
خص بنعمة ما بعد البعث أهل الإيمان.
لما ختم تلك بالوعد المؤكد بأنه يظهر آياته فتعرف، وأنه ليس بغافل عن شيء، تهديداً للظالم، وتثبيتاً للعالم، وكان من الأول ما يوحيه في هذه من الأساليب المعجزة من خفايا علوم أهل الكتاب، فلا يقدرون على رده، ومن الثاني ما صنع بفرعون وآله، قال أول هذه:
234
Icon