تفسير سورة الجمعة

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
( سورة الجمعة وهي مكية حروفها سبعمائة وثمانية وأربعون كلماتها مائة وثمانون آياتها إحدى عشرة ).

(سورة الجمعة)
(وهي مكية حروفها سبعمائة وثمانية وأربعون كلماتها مائة وثمانون آياتها إحدى عشرة)
[سورة الجمعة (٦٢) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩)
فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)
القراآت:
كَمَثَلِ الْحِمارِ والتَّوْراةَ بالإمالة قد سبق ذكرهما.
الوقوف
وَما فِي الْأَرْضِ لا الْحَكِيمِ هـ مُبِينٍ هـ لا للعطف أي وفي آخرين بِهِمْ ط الْحَكِيمُ هـ مَنْ يَشاءُ ط الْعَظِيمِ هـ أَسْفاراً ط بِآياتِ اللَّهِ ط الظَّالِمِينَ هـ صادِقِينَ هـ أَيْدِيهِمْ ط بِالظَّالِمِينَ هـ تَعْلَمُونَ هـ الْبَيْعَ ط تَعْلَمُونَ هـ تُفْلِحُونَ هـ قائِماً ط التِّجارَةِ ط الرَّازِقِينَ هـ.
299
التفسير:
في الأميين منسوب إلى أمة العرب أو إلى أم القرى. وقد مر سائر الوجوه في «الأعراف» في قوله النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ [الآية: ١٥٧] وباقي الآية مذكور في «البقرة» و «آل عمران». والمراد بآخرين التابعون وحدهم أو مع تبع التابعين إلى يوم القيامة. ثمّ شبه اليهود الطاعنين في نبوّة محمد ﷺ مع أنهم حاملو التوراة وحفاظها العارفون بما فيها من نعت نبيّ آخر الزمان بالحمار الحامل للأسفار أي الكتب الكبار لأنه لا يدري منها إلا ما مر بجنبيه من الكدّ والتعب. ومعنى حُمِّلُوا كلفوا العمل بما فيها. ومحل يَحْمِلُ جر صفة للحمار كما في قوله «على اللئيم يسبني» وهذا مثل كل من علم علما يتعلق بعمل صالح ثم لم يعمل به. ثم قبح مثلهم بقوله بِئْسَ مثلا مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه فقيل لهم: إن كان قولكم حقا فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ ليكون وصولكم إلى دار الكرامة أسرع وقد مر مثله في أول «البقرة» إلا أنه قال هاهنا وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ وهناك ولن يتمنوه وذلك أن كليهما للنفي إلا أن «لن» أبلغ في نفي الاستقبال وكانت دعواهم هناك قاطعة بالغة وهي كون الجنة لهم بصفة الخلوص فخص الأبلغ بتلك السورة. ثم بين أن الموت الذي لا يجترؤن على تمنيه خيفة أن يؤاخذوا بوبال كفرهم فإنه ملاقيهم لا محالة. قال أهل النظم:
قد أبطل الله تعالى قول اليهود في ثلاث: زعموا أنهم أولياء لله فكذبهم بقوله فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ وافتخروا بأنهم أهل الكتاب والعرب لا كتاب لهم فشبههم بالحمار يحمل أسفارا، وباهوا بالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله فشرع لنا الجمعة. قال جار الله: يوم الجمعة بالسكون الفوج المجموع كضحكة للمضحوك منه، وضمّ الميم تثقيل لها كما قيل في عسرة عسرة. قلت: ومما يدل على أن أصلها السكون جمعها على جمع كقدرة وقدر. وفي الكشاف أن مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بيان «إذا» وتفسير له. وأقوال: إن اليوم أعم من وقت النداء والعام. لإبهامه لا يصير بيانا ظاهرا فالأولى أن تكون «من» للتبعيض. والنداء الأذان في أول وقت الظهر، وقد كان لرسول الله ﷺ مؤذن واحد فكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل أقام للصلاة، ثم كان أبو بكر وعمر على ذلك، حتى إذا كان عثمان وكثر الناس زاد مؤذنا آخر، مؤذن على داره التي تسمى زوراء فإذا جلس على المنبر أذن المؤذن الثاني، فإذا نزل أقام للصلاة. وعن ابن عباس: إن أول جمعة في الإسلام بعد جمعة رسول الله ﷺ لجمعة اجتمعت بجواثى قرية من قرى البحرين من قرى عبد القيس وروي أن الأنصار بالمدينة اجتمعوا إلى أسعد بن زرارة. وكنيته أبو إمامة وقالوا: هلموا نجعل لنا يوما نجتمع فيه فنذكر الله ونصلي فإن لليهود السبت وللنصارى الأحد فاجعلوه يوم العروبة، فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموه يوم الجمعة لاجتماعهم فيه، وأنزل الله تعالى آية الجمعة فهي أول جمعة كانت في الإسلام قبل مقدم النبي ﷺ وأول جمعة جمعها رسول
300
الله ﷺ أنه لما قدم المدينة مهاجرا نزل قباء على بني عمرو بن عوف وأقام بها يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلّى الجمعة. وفضيلة صلاة الجمعة كثيرة منها ما
ورد في الصحاح عن أبي هريرة «إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول» «١»
و «مثل المبكر كمثل الذي يهدي بدنة تمّ كالذي يهدي بقرة ثم كبشا ثم دجاجة ثم بيضة فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر» «٢»
وعنه ﷺ «من مات يوم الجمعة كتب الله له أجر شهيد ووقى فتنة القبر»
وكانت الطرقات في أيام السلف وقت السحر وبعد الفجر غاصة بالمبكرين إلى الجمعة يمشون بالسرج.
وقيل: أول بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة. ولا تقام الجمعة عند أبي حنيفة إلا في مصر جامع وهو ما أقيمت فيه الحدود ونفذت فيه الأحكام. وقد يقال: ما يكون فيه نهر جار وسوق قائم وملك قاهر وطبيب حاذق. وعنده تنعقد بثلاثة سوى الإمام، وعند الشافعي لا تنعقد إلّا بأربعين متوطنين. وأعذار الجمعة مشهورة في كتب الفقه.
ومعنى السعي القصد دون العدو ومنه قول الحسن: ليس السعي على الأقدام ولكنه على النيات والقلوب. وعن ابن عمر أنه سمع الإقامة وهو بالبقيع فأسرع المشي. قال العلماء:
وهذا لا بأس به ما لم يجهد نفسه. قوله إِلى ذِكْرِ اللَّهِ أي إلى الخطبة والصلاة وهي تسمية الشيء بأشرف أجزائه. ومذهب أبي حنيفة أنه لو اقتصر على كل ما يسمى ذكرا مثل الحمد لله أو سبحان الله جاز. وعند صاحبيه والشافعي لا بد من كلام يسمى خطبة.
وعن جابر كان رسول الله ﷺ يقول في خطبته: نحمد الله ونثني عليه بما هو أهله ثم يقول: من يهد الله فلا مضل له ومن يضلله فلا هادي له،
إن أصدق الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
وعنه أن النبي ﷺ كان صلاته قصدا وخطبته قصدا.
وعن أبي وائل قال: خطبنا عمار فأوجز وأبلغ فلما نزل قال: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول «إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأقصر الخطبة وأطل الصلاة» «٣»
وإن من البيان لسحرا. قوله وَذَرُوا الْبَيْعَ خاص ولكنه عام في الحقيقة لكل ما يذهل عن ذكر الله. وسبب التخصيص أن أهل القرى وقتئذ يجتمعون
(١) رواه أحمد في مسنده (٢/ ٥٠٥).
(٢) رواه البخاري في كتاب الجمعة باب ٤. مسلم في كتاب الجمعة حديث ١. أبو داود في كتاب الطهارة باب ١٢٧. الترمذي في كتاب الجمعة باب ٦. الموطأ في كتاب الجمعة حديث ١.
(٣) رواه الدارمي في كتاب الصلاة باب ١٩٩. أحمد في مسنده (٤/ ٢٦٣).
301
من كل أوب في السوق وأغلب اجتماعهم على البيع والشراء. ولا خلاف بين العلماء في تحريم البيع وقت النداء. وهل يصح ذلك البيع إن وقع الأكثرون؟ نعم لأن المنع غير متوجه نحو خصوص البيع. وإنما هو متوجه نحو ترك الجمعة حتى لو تركها بسبب آخر فقد ارتكب النهي ولو باع في غير تلك الحالة لم يصادفه نهي. قوله فَانْتَشِرُوا وابتغوا إباحة بعد حظر. وعن بعض السلف أنه كان يشغل نفسه بعد الجمعة بشيء من أمور الدنيا امتثالا للآية. وعن ابن عباس: لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة أخ في الله. وعن الحسن وسعيد بن المسيب: الطلب طلب العلم. وقيل:
صلاة التطوع. وفي قوله وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً إشارة إلى أن المرء لا ينبغي أن يغفل عن ذكر ربه في كل حال كما قال رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [النور: ٣٧]
عن جابر قال: بينا نحن نصلي مع النبي ﷺ إذا قيل: عير تحمل طعاما فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي ﷺ إلا اثنا عشر رجلا فنزلت وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها
أي تفرقوا إليها وَتَرَكُوكَ قائِماً في الصلاة أو في الخطبة أو في الزاوية، وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق فهذا هو المراد باللهو والتقدير إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه.
يروى أنه صلى الله عليه وآله قال: والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارا.
ثم حث على تجارة الآخرة وعلى تيقن أن لا رازق بالحقيقة إلا هو سبحانه وقد مر مرارا.
302
Icon