تفسير سورة الملك

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الملك من كتاب لطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ
قوله جل ذكره :﴿ بسم الله الرحمان الرحيم ﴾.
" بسم الله " اسم من لم تتعطر القلوب إلا بنسيم إقباله، ولم تتقطر الدموع إلا للوعة فراقه أو روح وصاله ؛ فدموعهم في كلتا الحالتين منسكبة، وقلوبهم في عموم أحوالهم ملتهبة، وعقولهم في غالب أوقاتهم منتهبة.

قوله جلّ ذكره :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
تَقَدَّسَ وتعالَى، مَنْ إحسانُه تَواتَرَ وتَوالَى، فهو المتكبِّرُ في جلالِ كبريائه، المتجرِّد في علاءِ بهائه ودوامِ سنائه.
﴿ بِيَدِهِ الْمُلْكُ ﴾ : بقدرته إظهارُ ما يريد، ﴿ وَهَوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ﴾.
خَلَقَ الموتَ والحياةَ، ابتلاءً للخَلْق، يختبرهم ليَظْهَر له شكرانهُم وكفرانُهم، كيف يكونان عند المحنة في الصبر وعند النعمة في الشكر - ﴿ وَهُوَ الْعِزِيزُ الْغَفُورُ ﴾.
عَرَّفَهم كمالَ قدرتِه بدلالاتِ خَلْقِه، فَمسَك السماءَ وأمسكها بلا عِمدَ، ورَكَّبَ أجزاءَها غيرَ مُسْتعينٍ بأحدِ في خَلْقِها، وبالنجومِ زَيَّنهَا، ومِنَ استراقِ سمعِ الشياطين حَصَّنها، وبغيرِ تعليم مُعلِّم أحكمها وأتقنها.
﴿ مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ؟ ﴾ : لا ترى فيما خَلَقَ تفاوتاً ينافي آثارَ الحكمة ولا يدل على كمال القدرة.
ويقال : ما ترى فيها تفاوتاً، في استغنائه عن الجميع. . . ما ترى فيها تفاوتاً في الخَلْقِ ؛ فَخْلقُ الكثير واليسير عنده سيَّان، فلا يَسْهُلُ عنده القليلُ ولا يَشُقُّ عليه الكثير ؛ لأنه مُتَنَزَّهٌ عن السهولة عليه ولحوقِ المشقة به.
فأنْعِمْ النظرَ، وكَرِّر السِّبْرَ والفِكْرَ. . . فلن تجد فيها عيباً ولا في عِزِّه قصوراً.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلّشَيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ﴾.
زَيَّنَ السماءَ بالكواكب والنجوم، وزَيَّنَ قلوبَ أوليائه بأنواعٍ من الأنوار والنجوم ؛ فالمؤمنون قلوبُهم مُزَيَّنةٌ بالتصديق والإيمان ثم بالتحقيق بتأَمُّل بالبرهان، ثم بالتوفيق لطلب البيان. والعارفون قلوبهم مُزَيَّنةٌ بشمسِ التوحيد، وأرواحُهم مُزَيَّنةٌ بأنوار التفريد، وأسرارُهم مزينةٌ بآثارِ التجريد. . . وعلى القياس :" لكلِّ طائفةٍ أنوارٌ ".
﴿ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينَ ﴾ : فمن النجوم ما هو للشياطين رجوم، ومنها ما هو للاهتداء به معلوم. . . فأخبر أن هذا القَدْرَ من العقوبة بواسطة الرجوم لا يكفي، وإنما يُعَذِّبهم مؤبَّدين في السعير.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِى تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ﴾.
أخبر : أنهم يحْتَجُّ عليهم بإرسال الرسل، فتقول لهم الملائِكةُ :﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ﴾.
﴿ وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أََوْ نَعْقِلُ. . . ﴾ فأخبر أنهم لم يكن لهم سمع قبول، فاستوجبوا العقوبة لأَجْلِه، لم يسمعوا نصيحةَ الناصحين ولا وَعْظَ الواعظين، ولا ما فيه لقلوبهم حياة.
وفي الآية للمؤمنين بشارة ؛ لأنهم يسمعون ويعقلون ما يسمعون ؛ فإِنَّ مَنْ سَمِعَ بالحقِّ سمع كل ما يقال عن الحق مِنْ كل مَنْ يقول عن الحق، فيحصل له الفهم لما يسمع، لأنه إذا كان من أهل الحقائق، يكون سَمْعُه من الله وبالله وفي الله.
قوله جلّ ذكره :﴿ فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾.
اعترفوا بذنبهم ولكن في غير وقت الاعتراف. . . فلا جَرَمَ يقال لهم :﴿ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعيرِ ﴾.
قوله جلّ ذكره :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾.
الخشيةُ توجِب عدمَ القرار فيكون العبدُ أبداً - لانزعاجه - كالحَبِّ على المَقْلَى ؛ لا يَقَرًُّ ليلَه أو نهارَه، يتوقَّعُ العقوباتِ مع مجاري الأنفاس، وكلمَّا ازداد في الله طاعةً ازداد لله خشيةً.
قوله جلّ ذكره :﴿ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾.
خوَّفَهم بِعلْمِه، ونَدَبَهم إلى مراقبته، لأنه يعلم السِّرَّ وأخفى، ويسمع الجَهْرَ والنجوى. . . ثم قال مُبَيِّناً :
﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبَيرُ ﴾.
وفي كل جُزْءِ مِنْ خَلْقِه - من الأعيانِ والآثارِ - أدِلةٌ على علمه وحكمته.
قوله جلّ ذكره :﴿ هُوَ الَّّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلولاً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِه وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾.
أي إذا أردتم أن تضربوا في الأرضِ سَهَّلَ عليكم ذلك.
كذلك جعل النَّفْس ذلولاً ؛ فلو طَالَبْتَها بالوفاقِ وَجَدْتَها مُسَاعدةً مُوَافقة، مُتَابِعةً مُسَابِقة. . . وقد قيل في صفتها :
هي النَّفْسُ ما عَوَّدْتها تتعودُ وللدهرِ أيامٌ تُذَمُّ وتُحْمَدُ
قوله جلّ ذكره :﴿ أأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴾.
﴿ مَّن فِي السَّمَاءِ ﴾ أراد بهم الملائكة الذين يسكنون السماء، فهم مُوَكَّلون بالعذاب.
وخوَّفهم بالملائكة أن يُنْزِلوا عليهم العقوبةََ من السماء، أو يخسفوا بهم الأرض، وكذلك خَوَّفَهمِ أنْ يُرْسِلوا عليهم حجارةً كما أرسلوا على قوم لوط. وبيَّن أنَّ مَنْ كذَّب قَبْلَ هؤلاءِ رُسُلَهم كيف كانت عقوبتهم، ثم زاد في البيان وقال :﴿ أَوَ لَمْ يَرَوا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءِ بَصِيرُ ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦:قوله جلّ ذكره :﴿ أأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴾.
﴿ مَّن فِي السَّمَاءِ ﴾ أراد بهم الملائكة الذين يسكنون السماء، فهم مُوَكَّلون بالعذاب.
وخوَّفهم بالملائكة أن يُنْزِلوا عليهم العقوبةََ من السماء، أو يخسفوا بهم الأرض، وكذلك خَوَّفَهمِ أنْ يُرْسِلوا عليهم حجارةً كما أرسلوا على قوم لوط. وبيَّن أنَّ مَنْ كذَّب قَبْلَ هؤلاءِ رُسُلَهم كيف كانت عقوبتهم، ثم زاد في البيان وقال :﴿ أَوَ لَمْ يَرَوا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءِ بَصِيرُ ﴾.

أو لم يروا كيف خَلَقَ الطيور على اختلاف أجناسها، واختصاصها بالطيران لأن لها أجنحة، بخلاف الأجسام الأخر. . . مَنْ الذي يمسكهن ويحفظهن، وهن يقبضن ويبسطن أجنحتهن في الفضاء ؟ وما الذي يوجبه العقل حفظ هذه الطيور، أم بقية الأجسام الأُخر ؟
إِن أراد الرحمانُ بك سوءاً. . . فَمَنْ الذي يُوَسِّعُ عليكم ما قَبَضَه، أو يمحو ما أثبته، أو يُقَدِّمُ ما أَخَّرَه، أو يُؤَخّرُ ما قدَّمَه ؟.
قوله جلّ ذكره :﴿ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ ﴾.
وخَصَّكم بالسمع والبصر والأفئدة، وأنتم لا تشكرون عظيمَ نِعَمه.
وأجاب عنه حيث قال : لا تستعجلوا العذاب، وبيَّن أنهم إذا رأوه كيف يخافون وكيف يندمون.
قوله جلّ ذكره :﴿ قُلْ أَرَأيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الكَافِرِينَ مِنَ عَذَابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ الرَّحْمانُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا. . . ﴾.
وإليه أمورنَا - جملةً - فَوَّضْنَا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٨:قوله جلّ ذكره :﴿ قُلْ أَرَأيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنيَ اللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الكَافِرِينَ مِنَ عَذَابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ الرَّحْمانُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا... ﴾.
وإليه أمورنَا - جملةً - فَوَّضْنَا.

مَنْ الذي يأتيكم بالماء إذا صار غائراً في الأرض لا تناله الأيدي.
وهذه الآيات جميعها على وجه الاحتجاج عليهم. . . ولم يكن لواحدٍ عن ذلك جواب.
Icon