تفسير سورة النّور

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة النور من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

سورة النور
مدنية بالإجماع- وعدد آياتها ثلاث وستون آية. وفيها إشعاعات النور، والآداب الإسلامية العامة التي تحافظ على الأنساب والأعراض وبيان أن ذلك كله من نور الله.
افتتاح السورة [سورة النور (٢٤) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١)
المفردات:
سُورَةٌ السورة: جملة من القرآن الكريم لها بدء ونهاية معلومان شرعا بالتوقيف. ولعل الأصل في التسمية أنها كالسور لما فيها من الآيات، أو هي بمعنى المنزلة والمرتبة، ولا شك أن من يقرأها ويفهمها ويعمل بها يصبح ذا منزلة عالية رفيعة أَنْزَلْناها المراد: أوحينا بها إليك يا محمد، ولعل السر في التعبير بالإنزال الذي يشعر بالنزول من العلو هو الإشارة إلى أن هذا القرآن من عند الله، ولا شك أن من دونه نازل عنه في الرتبة والمكانة وَفَرَضْناها أمرنا بها أمرا جازما مؤثرا آياتٍ جمع آية هي العلامة، وقد تطلق على الجملة من القرآن لأنها علامة على النبي صلّى الله عليه وسلم.
افتتح الله- سبحانه وتعالى- هذه السورة الكريمة بما هو متحقق في كل سورة فما من سورة في القرآن إلا وقد أنزلها الله على نبيه، وفرضها- جل شأنه- على عباده وألزمهم بالعمل بما فيها من أحكام، وما أنزل فيها من آيات بينات، وحجج واضحات.
ولعل السر في بدء هذه السورة بهذا البدء العجيب هو أن يسترعى انتباه المسلمين لها، فينظروا إلى ما فيها من أحكام ومواعظ، ويعملوا به.
وهذه السورة حقيقية بهذه العناية فقد عالجت ناحية من أخطر النواحي ناحية الأسرة وما يحفها، وبخاصة العرض وأثره والخوض فيه، ثم ذكرت قصة الإفك وما فيها من آداب وحكم غالية. وإشارات سامية، وما يستتبع ذلك من الأمر بغض النظر، والاستئذان وغير ذلك مما يساعد على العفة، وعلى العموم ففي هذه السورة أسس الحياة المنزلية وآداب الحياة الزوجية الصحيحة، وما يتصل بذلك، وفيها آية النور اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وغير ذلك كثير.
ولا شك أن في هذه السورة من الأحكام المفصلة، والآيات البينة ما لو تذكرها المسلم لنجا من مزالق النفس ومسالك الشيطان والهوى، وهي مدعاة للذكرى وإن الذكرى تنفع المؤمنين.
الزنا وحدّه [سورة النور (٢٤) : الآيات ٢ الى ٣]
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)
المفردات:
فَاجْلِدُوا الجلد الضرب، وسمى به لأن فيه إصابة الجلد بالسوط أو العصا رَأْفَةٌ الرأفة: الشفقة ورقة القلب.
650
المعنى:
جريمة الزنا إحدى الموبقات بل هي أشدها بعد الشرك بالله، ولا تحصل إلا من زان أو مشرك، وكان الواجب ألا تكون من مؤمن ولا مسلم، وهي من الخطورة بمكان. بحيث كانت أول حكم في تلك السورة، وما بعدها من أحكام فوقاية منها، وشرعت من أجلها، وانظر يا أخى إلى حده المخزى الزاجر، ثم إلى النهى عن الرأفة بالزاني والزانية وإن كان من يقيم الحد يؤمن بالله واليوم الآخر، فالغلظة معهما من مقتضيات الإيمان، ثم اشترط التشهير بهما والفضيحة لهما بشهود طائفة من الناس لعذابهما، وما بالك؟ بأن النهى كان عن القرب منه لا عن فعله فقط كغيره من المنكرات، وقد قرنه الله بالشرك وقتل النفس وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً [سورة الفرقان الآيتان ٦٨ و ٦٩].
ثم انظر إلى ما رتب من أحكام على مجرد الاتهام به، وأنه لا يثبت إلا بالإقرار أو الشهادة من أربع شهود عدول.
مما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني، فإن كان بكرا ببكر فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة على جسمه ما عدا الوجه والفرج.
وهذه عقوبة الزنا في الدنيا، وفي الآخرة أشد وأبقى. وهذا هو حكم الزنا مع غير الإحصان، أما المحصن وهو من سبق له زواج شرعي إن زنى فحكمه الرجم بالحجارة، وقيل البكر يجلد مائة ويغرب عاما، والمحصن يجلد ثم يرجم.
وكأن الزاني والزانية خرجا عن حدود الإنسانية إلى حد البهائم التي لا تردع إلا بالضرب والألم، أما الموعظة الحسنة فلم تعد تؤثر فيه.
ولا شك أن عقوبة الزنا كبيرة وشاقة، ولكنا نهينا عن أن تؤثر فينا الرأفة بهما وتقودنا إلى العطف عليهما في تنفيذ حد الله.
وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ من باب الإلهاب، واستنهاض الهمم، وشحذ العزيمة حيث علق تنفيذ العقوبة وعدم الرأفة بهما على الإيمان بالله واليوم الآخر كما نقول: إن كنت رجلا فافعل هذا.
651
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، وهذا إيلام لنفسيهما بعد إيلام جسميهما وهو معنى التشهير والفضيحة فجعل ضربهما أمام جماعة من الناس ليكون الخزي والعار أبلغ وأكمل، وفي هذا شهادة عامة من الناس جميعا بأن هؤلاء قد تجردوا من الإنسانية ومعانيها السامية، فلا حق لهما في إعادة الاعتبار، ودعوى الافتخار.
وانظر إلى التنفير من تلك الفعلة الشنيعة بقوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وهذه الآية من المشكلات في القرآن التي تحتاج إلى تؤدة وتأن حتى يمكن فهمها وفي أسباب نزولها روايات. المعقول منها روايتان:
الأولى: أن كثيرا من المهاجرين في المدينة قد أجهدهم الفقر، وأضرّ بهم الاحتياج حيث تركوا أموالهم وديارهم في سبيل الله، وقد رأوا في المدينة البغايا المعلنات عن أنفسهن، وقد كثر عندهن المال والخير فحدثتهم أنفسهم لو تزوجوا من هؤلاء فيكن عونا لهم على الإقامة بالمدينة- فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك على عادتهم في كل صغيرة وكبيرة فنزلت الآية ليمتنعوا عن ذلك فامتنعوا.
وروى جماعة كأبى داود والترمذي والبيهقي أن صحابيا يقال له مرثد، ذهب إلى مكة مستخفيا ليحمل أسيرا فرأته امرأة اسمها عناق- وكانت بغيا وكان له بها صلة قبل إسلامه- وطلبت منه أن يبيت عندها وتسهل له مأموريته فقال لها مرثد: يا عناق إن الله حرم هذا فصاحت المرأة به وأخبرت قريشا بوجوده، ولكنه بلباقته تمكن من الحصول على طلبته ونقل الأسير إلى المدينة ثم يروى مرثد عن نفسه قائلا: فأتيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله: أأنكح عناق؟ فأمسك ولم يرد على شيئا حتى نزلت هذه الآية فقال النبي: «يا مرثد! الزّاني لا ينكح إلّا زانية أو مشركة والزّانية لا ينكحها إلّا زان أو مشرك وحرّم ذلك على المؤمنين» فلا تنكحها.
واعلم يا أخى أن هناك حقائق شرعية سلّم بها من الجميع. وهي أن المسلم ولو كان زانيا لا ينكح مشركة، وكذا المسلمة، وأن المسلم الزاني يحل له نكاح العفيفة، والزانية يحل لها نكاح العفيف.
وعلى هذا الأساس فالمعنى الظاهر من الآية- وهو أن الزاني لا يحل له أن ينكح إلا امرأة زانية أو مشركة، وأن الزانية لا يحل لها إلا نكاح الزاني أو المشرك- مخالف
652
لما أجمع عليه المسلمون، ولما سار عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة أجمعون، وهذا يدلنا على أن هذا الحكم المفهوم من الآيات منسوخ، وبهذا قال بعض العلماء.
وخلاصة هذا الرأى. أن الآية واردة لتحريم نكاح الزواني والزناة إلا من بعضهم لبعض أو من بعضهم للمشركين، وأن ذلك نسخ بقوله تعالى وَأَنْكِحُوا الْأَيامى والزانية لم تخرج عن كونها من أيامى المسلمين بالإجماع، ونسخ جواز نكاح المشركين والمشركات ولو زناة المسلمين بقوله تعالى وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [سورة البقرة آية ٢٢١].
وعلى هذا فأحل النكاح بين الزناة والعفائف، وبين الزاني والأعفاء، وحرم النكاح بين المسلمين- ولو زناة- وبين المشركين.
ولكن النسخ غير مسلم به عند كل العلماء فمن يمنعه قال. إن الآية مسوقة للتنفير من نكاح المسلم العفيف للزانية، وتنفير المسلمة العفيفة من نكاح الزاني، ولو جاء لكل واحد منهما خير كثير. وتكون الآية مطابقة لأسباب النزول، وهي مسوقة لتنفير المسلمين الضعفاء الذين حدثتهم أنفسهم بالتزوج من البغايا رجاء المال وطمعا في الرخاء الذي يعينهم على ما هم فيه من جهد، وعلى تحقيق ما ألقى على عاتقهم من مسئوليات (كمرثد).
فلما استأذنوا رسول الله في ذلك، نزلت الآية ليبتعد المسلمون عن بيئة الزنى فإنه مدعاة للخروج عن حدود الدين، وينزل بالمسلم إلى درجة قد تؤثر عليه فإن رؤية المنكرات، تميت في المسلم الحمية الدينية والعصبية الإسلامية كما هو موجود عند كثير من المسلمين الذين خالطوا اللادينيين.
وهذا بلا شك مما لا يليق بالمؤمن، وإنما هو من سمات الزناة فهم الذين يميلون أو يقبلون نكاح الزواني أو من هن أفحش كالمشركات وكذلك الزانية هي التي تقبل أو يليق بها أن تميل إلى الزاني ومن هو شر منه كالمشرك، وعلى ذلك فالآية مسوقة للتنفير، وبيان ذلك أن هذا لا يليق بالمؤمن المحافظ على دينه ومما يؤيد هذا المعنى قوله تعالى الآتي: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [سورة النور آية ٢٦].
653
وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نعم ومحرم ذلك على المؤمنين الكاملين فنكاح المؤمن الصادق المحمود عند الله زانية خبيثة فاجرة وانخراطه في بيئة الفساق محظور عليه ومحرم، ولو كانت الزانية الفاجرة من أثرياء العالم.
وليس معنى ذلك أن العقد محرم ولا يصح، وإنما التحريم معناه لا ينبغي للمسلم ولا يصح ذلك منه من حيث كونه مؤمنا صادقا وإن عقد فالعقد صحيح من ناحية الحكم الشرعي، وكذلك الشأن عند من تتزوج من زان خبيث،
ولقد صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم «فاظفر بذات الدّين تربت يمينك»
أما نكاح المؤمن للمشركة وبالعكس فحرام مطلقا وهذا تعليم قرآنى كريم لا يصدر إلا من خبير بصير رءوف بنا رحيم، فقد أثبتت الأيام أن هذه الزيجات التي تعقد على أساس المادة مع التعامي عن الخلق والسيرة الحسنة فاشلة وغير مجدية.
بقي علينا أن نفهم السر في تقديم الزانية على الزاني في أول الآية، وتقديم الزاني على الزانية في عجز الآية!!.
ولعل السر أن الزنى ينشأ غالبا وللمرأة فيه الضلع الأكبر فخروجها سافرة متبرجة متزينة، داعية لنفسها بشتى الوسائل المغرية من أصباغ وعطور وملابس ضيقة تبرز كل أجزاء جسمها فهن العاريات الكاسيات المائلات المميلات، ثم هي تمشى بحركات وسكنات ونظرات كلها إغراء، وإلهاب للشباب وفتنة، وهذه كلها حبائل للشيطان، وليس معنى هذا أن الرجال بريئون، لا. بل عليهم قسط كبير في الجرم وقسط المرأة أكبر ولذا قدمها على الزاني وفي عجز الآية حيث يعالج النكاح بمعنى العقد وللمرأة فيه الخطوة الثانية أما الرجل فله مهما كانت الظروف الخطوة الأولى والكلمة الأولى، ولذا قدمه على المرأة والله أعلم بأسرار كتابه.
القذف بالزنا وحدّه [سورة النور (٢٤) : الآيات ٤ الى ٥]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
654
المفردات:
يَرْمُونَ الرمي: الإلقاء والقذف بحجر أو سهم مما يضر أو يؤذى استعير لنفى النسب والقذف بالزنى لما فيه من الأذى والضرر الْمُحْصَناتُ الإحصان هنا معناه العفة شُهَداءُ جمع شهيد وهو الشاهد، وسمى بذلك لأنه يخبر عن شهادة وعلم ويقين وأمانة.
وهذا حكم القذف بالزنى، وفيه دلالة على عظيم جرمه وكبير إثمه حيث كان الرمي به حده ثمانون جلدة، ورد الشهادة، والحكم بالفسق فما بال من يرتكب؟ أليس تخصيص هذا الحد بالزنى دون السرقة والقتل دليلا على ذلك.
المعنى:
والذين يرمون المحصنات العفيفات بالزنى، ويتهمونهم بهذا الجرم الفظيع الذي يثلم العرض، ويؤذى النفس، ويطأطئ الرأس، ثم لم يأتوا بشهداء أربعة يشهدون بصدق قولهم، ولم يحصل إقرار ممن رمى بالزنا فجزاء هؤلاء القاذفين أن يجلدوا ثمانين جلدة، وألا يقبل من لسان فاعل هذا الفعل شهادة أبدا جزاء له على ما ارتكب من جرم، وأولئك هم الفاسقون الخارجون عن حدود الله وحدود شرعه.
إلا الذين تابوا وأنابوا من بعد ذلك الخطأ الشنيع، وأصلحوا ما أفسدوا بأن يقروا بأنهم أخطئوا في رميهم بالزنا فإن الله غفور رحيم، وهل تقبل شهادتهم بعد ذلك، ويخرجون من حكم الفسق أو لا تقبل شهادتهم أبدا، ولو بعد التوبة قولان لأئمة الفقه، ولكل سند يؤيد رأيه.
أما التوبة الصادقة فتقضى من الإنسان أن يعلم علما يقينا قلبيا بجرم ذنبه وخطأ رأيه، فيندم بعد ذلك ندما عميقا شديدا على فعله، ويستتبع ذلك الإقلاع عن الذنب
655
في الحال، والعزم عزما أكيدا على عدم الرجوع إليه أبدا بحال من الأحوال مهما كانت الظروف والملابسات، وأن يبعد عن الظروف التي قادته إلى مثل هذا العمل.
والإصلاح: يقتضى إصلاح نفسه، وتفكيره، وبيئته وظروفه، ويرد المظالم إلى أهلها إذا أمكنه ذلك، تلك يا أخى هي أصول التوبة الطاهرة التي تتوفر، على أن التوبة أمر قلبي لا يطلع عليه إلا الله فحذار حذار من التوبة باللسان فقط إذ هي لا تنفع شيئا.
قذف الرجل زوجته [سورة النور (٢٤) : الآيات ٦ الى ١٠]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
المفردات:
لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ اللعن: الطرد من الرحمة غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها الغضب هو:
إنزال العذاب مع المقت وَيَدْرَؤُا يدفع.
الحكم الأول للزنا، والثاني للقذف به مع الأجانب، والثالث للقذف به مع الزوجة، وهذا ما يسمى في كتب الفقه باللعان.
656
المعنى:
والذين يرمون أزواجهم بالزنا، وكأن الكلمة قبل أن تتكلم بها تكون في ملكك فإذا خرجت منك كانت كالسهم إذا انطلق فلا يمكن رده ولعل هذا مما يساعد على تفهم السر في التعبير عن القذف بالرمي على ما فيه- كما قلنا- من الألم والضرر.
ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم، وهذا أمر معقول فربما يدخل الرجل على امرأته في أماكنها الخاصة فيجد معها الأجنبى على هيئة منكرة فماذا يعمل! أيخرج يطلب الشهود! قد لا يتصور هذا أيسكت ويلحق بنفسه من لا يستحق هذا النسب، ويتخذ لأولاده أخا يرثه ويرثهم وهو لا يستحق! إن هذا لأمر خطير.
ولكن الشارع الحكيم قال: إن لم يكن له شهداء يشهدون على مثل الشمس رؤية ويقينا، إذا لم يكن ذلك فليشهد أربع شهادات بالله، فيقول: أشهد بالله العظيم إنى لصادق فيم رميت به زوجتي فلانة من الزنى (أربع مرات) ويقول في المرة الخامسة:
وعلى لعنة الله إن كنت من الكاذبين في دعواي، وحينما رمى زوجته بالزنا وجب عليه الحد كما نصت الآية السابقة فإنها عامة من المحصنات سواء كن زوجات أو أجنبيات.
وليس يرفع الحد إلا البينة بأربعة شهود أو اللعان منه أى أن يشهد أربع شهادات ثم الخامسة كما تقدم... عند ذلك يجب عليها الحد إن لم تلاعن هي الأخرى، وذلك كله بعد تحذير الحاكم لهما من الكذب وخطره، وبيان أن عذاب الدنيا بالحد أخف بكثير من عذاب الآخرة فإن أصرت الزوجة على تكذيب زوجها لا عنت فشهدت أربع شهادات بالله العظيم إنه لمن الكاذبين، وتقول: أشهد: بالله العظيم إن فلانا هذا زوجي لمن الكاذبين فيما رمانى به من الزنى، وفي الخامسة تقول: وعلى غضب الله إن كان من الصادقين.
وهذا معنى قوله تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ ومن أحكام اللعان أنه متى لا عن الزوج حرمت عليه زوجته، قيل حرمة مؤبدة وقيل كالطلقة البائنة يجوز له أن ينكحها إذا عاد وكذب نفسه وأقيم عليه الحد.
ولولا ما حفكم من فضل الله ومزيد إحسانه الذي منشؤه الرحمة التي هي صفة
657
ذاتية لله كتبها على نفسه، وأنه هو التواب الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات لولا ذلك كله لكان ما كان مما لا يطاق، ولا تحيط به العبارة.
حقا إن الله- سبحانه وتعالى- بما شرع من اللعان قد خلصنا من أزمات جسام! هب أن الرجل الحر فوجئ برجل على سريره يفعل المنكر فإن قتله قتل به أو ناله أذى على فعله شديد، وإن سكت سكت على ما لا يطاق، وإن تكلم ورمى زوجته بالزنى أقيم عليه الحد، وردت شهادته بين المسلمين فماذا يكون إذا؟
تفضل ربكم عليكم بتشريع يرفع هذا الحرج كله رحمة منه وفضلا فأباح للرجل أن يثبت قوله بشهادته أربع مرات على ما سبق بيانه، ولم يهمل شأن المرأة فقد يكون للظن السيئ والغيرة الشديدة أثر كبير في رمى الزوجة بالزنى وهي بريئة، ففتح لها باب الخلاص تدفع عن عرضها وشرفها وشرف قومها، فشرع لها اللعان، ورحمهما معا بالستر على الكاذب منهما في الدنيا، وقد يتوب فتقبل توبته فينجو من عذاب الدنيا والآخرة، فأى حكم أعدل وأرحم وأفضل من هذا؟!!!
وروى في سبب نزولها: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلّى الله عليه وسلّم بشريك ابن سحماء فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «البيّنة أو حدّ في ظهرك قال: يا رسول الله، إذا رأى أحد رجلا على امرأته يلتمس البينة! فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «البيّنة وإلّا حدّ في ظهرك» فقال هلال. والذي بعثك بالحق إنى لصادق، ولينزلن الله في أمرى ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت الآية
. وقيل إن القاذف لزوجته عويمر بن زيد لا هلال بن أمية.
وروى أن آية القذف لما نزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الآية وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد بن معاذ: يا رسول الله إن وجدت مع امرأتى رجلا أمهله حتى آتى بأربعة! والله لأضربنه بالسيف غير مصفح عنه فقال رسول الله:
«أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير من سعد. والله أغير منّى»
ثم لم يمض يسير من الزمن حتى جاء هلال بن أمية ورمى زوجته بالزنى، ونزلت الآية..
658
قصة الإفك [سورة النور (٢٤) : الآيات ١١ الى ٢٢]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)
659
المفردات:
بِالْإِفْكِ الكذب البعيد عن الصدق عُصْبَةٌ جماعة من الأربعة فصاعدا لا تَحْسَبُوهُ لا تظنوه شَرًّا الشر ما زاد ضرره على نفعه والخير ما زاد نفعه على ضرره كِبْرَهُ وفي قراءة كبره- بالضم- وهو معظم الشيء أَفَضْتُمْ الإفاضة الخوض مع الإكثار كأنهم زادوا في حديثهم حتى فاض من جوانبهم كما يفيض الماء من إنائه تَلَقَّوْنَهُ تلقى الشيء استقباله والتهيؤ لأخذه، والتلقف كالتلقى إلا أنه يلاحظ فيه معنى السرعة في الالتقاط هَيِّناً سهلا لا مؤاخذة فيه بُهْتانٌ كذب مختلق لا أساس له يفاجأ به الشخص، ولم يكن يخطر له على بال فإن المرمى به يبهت ويدهش تَشِيعَ الْفاحِشَةُ تفشو وتظهر والفاحشة الفعل القبيح المفرط في القبح وقيل الفاحشة في هذه الآية القول السيئ خُطُواتِ الشَّيْطانِ المراد مسالكه ومذاهبه ووساوسه، وواحد الخطوات خطوة وهو ما بين القدمين السَّعَةِ الغنى والثراء وَلا يَأْتَلِ لا يحلف من الألية وهي اليمين وَلْيَعْفُوا أى: يمحو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع.
سبب النزول: كان من عادته صلّى الله عليه وسلم إذا خرج إلى غزوة أقرع بين نسائه، فمن خرجت قرعتها أخذها معه، وفي عزوة بنى المصطلق في السنة السادسة للهجرة خرج ومعه عائشة وفي رجوعه إلى المدينة نزل منزلا مع القوم ثم أمر بالرحيل، فسارت عائشة
660
لبعض شأنها بعيدا عن الجيش ثم عادت وتفقدت عقدا لها فلم تجده، فعادت إلى مكانها في الخلا. تبحث عنه، وفي هذه الأثناء رحل القوم، وأتى الرجال إلى هودجها فحملوه، وكانت فتاة صغيرة قليلة اللحم فلم يشعروا بفقدها وعند ما عادت، لم تجد أحدا فنامت في مكانها وكان من عادة الجيش أن رجلا يتخلف ليأخذ ما ترك سهوا وكان هو صفوان بن المعطل السلمى، فلما أدركها عرفها، فأخذ يسترجع بعد أن أناخ راحلته بجوارها. فاستيقظت، وركبت وقاد هو الراحلة، وكانت آية الحجاب نزلت فلم يرها، وأدرك القوم في المنزل الثاني ومر على قوم من الجيش فيهم عبد الله ابن أبى ابن سلول زعيم المنافقين فسأل عنها فقيل: إنها عائشة فقال كلمة الإفك وفتن بكلامه نفر من المؤمنين، وبخاصة حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش.
وكان صفوان هذا من خيار الصحابة، وشهد غزوات الرسول، وقتل شهيدا في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمن عمر- رضي الله عنهم جميعا-.
وعقب رجوع الجيش من السفر مرضت عائشة شهرا في منزل الرسول صلّى الله عليه وسلم ولم تدر ما يقول الأفاكون، وهي تحدث نفسها وتقول: ما رابنى من رسول الله سوى أنى لم أر منه اللطف الذي اعتدته منه إذا كنت أشتكى، فكان يدخل ويسلم، ويقول:
كيف تيكم (وتى إشارة إلى المؤنث) ثم ينصرف، فلما برئت عرفت ما قيل فمرضت ثانية بأشد من المرة الأولى، فلما عادها رسول الله استأذنت منه في الانصراف إلى بيت أبيها فأذن لها، فأتت أمها، فاستيقنتها الخبر فقالت أمها: يا بنيّة هوّنى عليك فقلما كانت امرأة وضيئة ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقالت عائشة: سبحان الله!! ولقد تحدث الناس بهذا!! وملكها البكاء ليلتها لا يرقأ لها دمع، ولا ترى النوم.
ولما شاع الخبر وذاع، قام النبي صلّى الله عليه وسلم في المسجد خطيبا،
وقال: يا معشر المسلمين! من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟! يريد بذلك عبد الله ابن أبى بن سلول. فو الله ما علمت على أهلى إلا خيرا.
وروى أنه دخل عليها صلّى الله عليه وسلم فقال. يا عائشة، قد بلغني عنك كذا، وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه!! قالت عائشة: فلما قضى النبي مقالته تقلص دمعي من شدة الحزن والألم، ثم قالت لأبيها:
661
أجب عنى رسول الله قال أبو بكر مقالة المؤمن بالله لا يرهقه ولده طغيانا وكفرا قال.
والله ما أدرى ما أقول، وقالت لأمها كذلك فأجابت بمثل جواب أبيها فقالت عائشة المؤمنة والواثقة في الله الذي يعلم السر وأخفى، وهو الحكم العادل: والله لقد علمت أنكم سمعتم ذلك القول حتى استقر في نفوسكم، ولئن قلت لكم إنى بريئة- والله يعلم أنى بريئة- لا تصدقوني، وإن اعترفت لكم بما يعلم الله أنى بريئة منه لتصدقننى، والله لا أجد لكم ولي مثلا إلا قول العبد الصالح أبى يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ واضطجعت في فراشها وقالت عائشة: وأنا أعلم أن الله سيبرئنى
. ولكن ما كنت أظن أن سينزل في شأنى وحيا يتلى.
ولقد نزل الوحى على رسول الله، وقلوب الناس تضطرب وبخاصة أبويها خوفا على عائشة ولكن عائشة واثقة من نفسها، ومطمئنة إلى ربها، نزل الوحى مبرئا عائشة مما رميت به
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم أبشرى يا عائشة، أما والله لقد برأك الله فقالت لأمها:
لا أقوم إليه
، ولا أحمد إلا الله الذي برأنى، ونزلت الآيات العشر إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ إلى آخر الآيات.
كان مسطح قريب أبى بكر، كانت أمه بنت خالة أبى بكر، وكان ينفق عليه لفقره، فلما وقع في حديث الإفك حلف ألا ينفق عليه فنزل قوله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى - إلى قوله: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ.
المعنى:
إن الذين جاءوا بالإفك، واختلقوا هذا الكذب البعيد عن الصدق جماعة صغيرة منكم تآمرت عليه، واجتمعت حوله، وأخذت تذيع الأراجيف فيه، فلم يأت به جمهرة المسلمين وجماعتهم، على أنهم فيكم، ومعدودون منكم، وهذا كله يجعلكم تهونون من شأن الحادثة. ولا تثور نفوسكم عليهم ثورة جامحة. فالمرء عادة عرضة لأن يصاب من أقاربه وأهل بيته وفي هذا سلوى للنبي صلّى الله عليه وسلم وآل بيته الكرام.
لا تحسبوا هذا الحدث شرا لكم بل هو خير لكم، وأى خير؟!
662
إذ هو خير لعائشة حيث برئت منه في القرآن الكريم فكانت كمريم البتول وأصبح التصديق ببراءتها جزءا من إيمان كل مؤمن، وكل من شك فيه كفر.
وبعد أن بين أن فيه خيرا لا شرا أتبع ذلك بأن لكل امرئ منهم جزاء ما اكتسب من الإثم، والذي تولى كبره منهم وقاد هذه الحملة، وهو عبد الله بن أبى بن سلول، له عذاب عظيم من الله، وفي هذا تطمين لنفوسهم، فقد بان خيرهم، وانتقم لهم ممن آذاهم.
وهذا عتاب للمسلمين، وتربية لهم وتنبيه، حيث كان الواجب عليهم وقت أن سمعوا تلك المقالة الشنيعة أن يقيسوا الأمور بمقياس صحيح على أنفسهم فإذا كان مثل هذا بعيدا على المؤمن الذي عمر الإيمان قلبه من رجل وامرأة، أفلا يكون بعيدا بل مستحيلا على أمثال عائشة وصفوان؟!! فإذا قسنا هذا بقياس الإيمان أنتج هذه النتيجة، وهذا هو سر قوله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ.
وفي هذا بيان لموضع الإيمان من نفوس المؤمنين، وأنه مقياس صحيح، وأن المسلمين جميعا سواء، كان الواجب ألا يكتفوا بالظن الحسن في نفوسهم بل يقولون: هذا إفك وكذب ظاهر بين، فمن المستحيل أن تكون زوجة النبي زانية فإن الزنى أكبر عارا، وأشد حقارة من الكفر، ولقد صدر هذا الإفك من قوم عرفوا بالنفاق والكذب والزور، وكيف يتصور حصول هذا، فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله وعند الناس جميعا كاذبون!! ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة، بأن أمهلكم للتوبة في الدنيا وأرشدكم إلى الطريق، وفي الآخرة حيث قبل منكم التوبة، وأثابكم على امتثال الأمر.
ولولا هذا الفضل وتلك الرحمة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم، وقد أفاضوا في حديث الإفك، وأكثروا من الكلام فيه حتى فاض من جوانبهم كما يفيض الماء من الإناء والخطاب لجميع المسلمين، ومنهم ابن أبى، ولكنه ضيع الفضل والرحمة في الدنيا والآخرة لإصراره على الكلام، ووقوفه عند دعواه الباطلة لذلك مسه العذاب في الدنيا والآخرة.
663
ولولا فضل الله عليكم وتوفيقه لكم، ورحمته بكم لمسكم بسبب ما أفضتم فيه من حديث الإفك عذاب عظيم وقت تلقفكم له بألسنتكم، فقد كانوا يتلاقون مع بعض، ويستثير أحدهم الآخر بسؤاله: ما وراءك؟ ليتكلم ويفيض في الإفك، ويتلقى القول منه، ويجتذبه بلسانه، لا أنه مجرد سماع عفوا، ولعل هذا السر في التقييد بقوله:
بِأَلْسِنَتِكُمْ نعم وكانوا يقولون هذا بملء أفواههم غير ملقين له بالا، ولا مقدرين له خطرا ويقولون بأفواههم ما ليس له في قلوبهم حجة ولا برهان، وتحسبونه هينا سهلا لا جرم فيه، وهو عند الله عظيم، وكيف لا يكون كبيرا وعظيما، وفيه رمى بيت النبوة بالزنى، وتدنيس فراش النبي بأقبح القاذورات، ترى أن الله عاتبهم على ثلاثة أمور:
(أ) تلقى ذلك بالسؤال عنه واستثارة المخاطب ليتكلم فيه.
(ب) قالوا بلا علم ولا دليل.
(ج) استهانوا بما صدر منهم، ولم يتبعوه باستغفار ولا استنكار!! ولولا قلتم أيها المسلمون حين سمعتم هذا الخبيث من الكلام: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، ولا ينبغي أن نخوض في عرض النبي صلّى الله عليه وسلم بلا علم ولا حجة أبدا.
بل وتقولون: سبحانك يا رب وتنزيها لك وتقديسا أن ترضى لأكرم خلقك وأشرف الناس عندك أن يحل بأقرب الخلق إليه وألصقهم به تلك النقيصة وهذه الفاحشة سبحانك!! يا رب سبحانك!! هذا بهتان عظيم واختلاق أثيم يبهت له الإنسان ويدهش!! وقد روى أن بعض الصحابة قال ذلك حين سمع هذا.
وكل ما مضى من التسلية والتربية والتوجيه ليس الغرض منه التقريع والتوبيخ بل القصد هو أن يعظكم به ويرشدكم حتى لا تعودوا لمثله أبدا، إن كنتم مؤمنين، فهذا العمل وأمثاله يتنافى مع أصل الإيمان وحقيقته، ويبين الله لكم الآيات والله عليم بخلقه وبأحوالهم الخاصة والعامة السرية والجهرية حكيم يضع الأمور في نصابها.
وهذا نوع آخر لبيان جرم الوقوع في الأعراض، وإشاعة أخبار الزنى والفاحشة
664
بين الناس، والناس يحسبون هذا هينا لأنه كلام باللسان لا أذى باليد والسنان، وما علموا أن جرح اللسان قد يكون أشد من جرح السيف والسنان.
إن الذين يحبون أن تشيع وتنتشر الفاحشة وأخبارها بين الناس، لهم عذاب مؤلم في الدنيا والآخرة، وإذا كان الهم بالمعصية ثم تركها لا عقوبة عليه، فما بال حب ذكر الفاحشة! عليه هذا العقاب!؟ ولعل في ذكر حب الفاحشة إشارة إلى أن هذا داء قلبي يصاب به من يريد التعالي على الناس وهو يحسدهم على ما آتاهم ربهم فتراه يحب من صميم قلبه أن يجرح كرامتهم وأن يقع في أعراضهم ظنّا منه أن هذا شرف له، وقد كان هذا مع ابن أبى ورسول الله، وهو كذلك مع كل إنسان يتكلم في الأعراض ولا تنس أن الآية تشير إلى أن حب إشاعة الفاحشة كاف في لحوق العذاب فما بال من يشيع بالفعل؟! ولعل المراد أن الذين يحبون أن تشيع أخبار الفاحشة، ولكن الآية تقول: يحبون أن تشيع الفاحشة نفسها لأن إشاعة الخبر يقتضى إشاعة الفاحشة نفسها ألا تراك تمتنع مع ذكر أخبار الفاحشة أمام أولادك لاعتقادك أن في هذا خطرا عليهم، ومن الحقائق المعلومة أن ذكر الفاحشة وأخبارها مما يقرب الشخص إليها حتى يقع فيها.
هؤلاء الذين أذاعوا أخبار الفاحشة في بيت النبوة لهم عذاب أليم في الدنيا بالحد والإهانة من الناس، ألم تعلم أن من يتكلم في أعراض الناس لا بد أن يتكلم الناس في عرضه؟ فمن غربل الناس نخلوه، ومن لا يتق الشتم يشتم، ولهم في الآخرة عذاب شديد.
وانظر إلى التعبير بالفاحشة عن الزنى فإنه أفحش الفواحش لما يلحق صاحبه من المهانة وتنكيس الرأس، والله يعلم هذا وأكثر منه وأنتم لا تعلمون الخطر في أعمالكم فمن الخير لكم أن تمتثلوا أمر الله، وإن الزمن يثبت هذا.
ولولا فضل الله عليكم ورحمته حيث أمركم بالخير، وهداكم إلى الطريق الحق، ونهاكم عما يقطع أوصالكم، ويزرع الضغينة في نفوسكم، وكفى شرّا أنه من دواعي الوقوع في نفس الفاحشة، والتكلم في العرض وبخاصة مثل هذه الحادثة فإنها تتعلق ببيت النبوة الذين هم أئمة يقلدون، حقّا لولا فضل الله ورحمته وأنه رءوف رحيم حيث بين لنا خطر هذا الفعل الشنيع، لولا هذا لوقعتم في المهالك، ولضلت بكم السبل فالحمد لله الذي هدانا لهذا.
665
وهذا تحذير من الشيطان ووسوسته بعد تحذيرنا من النفس الأمارة بالسوء التي تحب دائما إذاعة الفاحشة فإن المعاصي تقع دائما من قائد يأمر بالسوء وهو الشيطان ونفس مدفوعة إلى الشر بطبعها.
يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومسالكه فإنه يأمركم بالفحشاء والمنكر ويدعوكم دائما إلى كل ضار في دينكم ودنياكم الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [سورة البقرة آية ٢٦٨].
والشيطان يوسوس للنفوس الضعيفة، ويزين لها الوقوع في المعاصي، عن طريق التدرج خطوة فخطوة حتى يتم له ما أراد، وإن خطوات الشيطان تكون فيما نحقر من أعمالنا «ولكنها تجرنا إلى المهالك».
فأعظم حادثة أو أكبر فاحشة لا تقع دفعة واحدة، ولكن لها خطوات يضعها الشيطان حتى يتم له ما أراد. نظرة... فكلام... فموعد... فلقاء.. فوقوع في المهالك... وهكذا.
يحكى أن عابدا في صومعته كان بجواره رجلان لهما أخت، فسافرا لأمر، وتركا أختهما في حراسة العابد، فكان كل يوم يضع لها الطعام أمام باب الصومعة لتأخذه فوسوس له الشيطان أن يضع الطعام على باب بيتها بحجة أنها لا تتجشم مشقة التعب والحضور إليه، ثم انتقل إلى خطوة أخرى، وهي أن يزيدها إكراما فيطلبها لتأخذ الطعام، ثم انتقل إلى خطوة ثالثة ورأى من وسوسة الشيطان أن المرأة في طول مقامها منفردة تلقى مشقة وتعبا فقد يكون من الخير لها أن تجلس معه ليسرى عنها بالتحدث إليه فترة وجيزة ففعل، وهنا ينطبق
الحديث «ما اجتمع رجل بامرأة إلّا وكان الشّيطان ثالثهما»
، فلما اجتمعا وقعا في التهلكة، لأن العابد مهما كان فهو رجل، والمرأة مهما كانت فهي أنثى، وفيها الغريزة الجنسية! فأنت ترى أن الشيطان جاءهما من طريق مؤثر، وهو في الظاهر خير، فحقّا لا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه للإنسان عدو مبين.
أبعد هذا يتوانى المسلمون في فهم الحقائق البشرية، وتطبيق قواعد الدين؟! ومن العجب أن ينادى بعض المسلمين بالاختلاط بين الجنسين، ويجره الشيطان إلى هذا بحجة أن الاختلاط يمنع الوقوع في المعصية، وما علم أن الطبيعة البشرية أقوى، ولا يعدلها
666
ويخفف من حدتها، ويوجهها إلى الوجهة العليا إلا الخوف من الله، وتلاوة القرآن ومدارسة الحديث، ومجالسة العلماء، والانضمام إلى الجمعيات الدينية حتى يشغل فراغه ويصرف وقته في النافع، وإن أساس الوقوع في المعصية هو الشباب والفراغ والمال فإذا أمكننا صرف الشباب إلى الوجهة النافعة، وشغل وقتهم وفراغهم بالهوايات الصالحة النافعة كالرياضة البدنية وغيرها توصلنا بهذا إلى التقليل من وقوع الجرائم الجنسية. والنبي صلّى الله عليه وسلم قد عالج هذا الموضوع
بقوله «يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة- أى:
النكاح- فليتزوّج وإلّا فعليه بالصّوم فإنّه له وجاء»

ولا شك أن في الصوم جنة، ورياضة روحية، وإضعافا للقوة الجسمية.
يا جماعة المسلمين: لولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا وكيف يسير الإنسان على الصراط المستقيم، وهو بين قائد ضال ودافع أضل؟ ولكن الله يزكى من يشاء، ويهدى إليه من ينيب، والله سميع عليم، ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وهو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون.
أليس في هذا خير لنا وهداية؟ نسأله التوفيق والسداد.
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أى: لا يحلف أصحاب الغنى والجاه أن يؤتوا أولى القربى والمساكين مما أعطاهم الله من خيره جزاء ما اشتركوا في إثم الإفك، وهذا نهى لأبى بكر حتى لا يمنع مسطحا من النفقة التي كان يجريها، وهكذا كل مسلم.
وليعفوا عن السيئات، وليصفحوا عن العصاة والمذنبين، ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟ وهذا تمثيل أى كما تحبون أن يغفر الله لكم، فاغفروا أنتم لمن دونكم
«من لا يرحم لا يرحم»
والله سبحانه كثير المغفرة والرحمة فاقتدوا به واعملوا بما أمر فهو خير لكم.
نهاية القصة [سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٣ الى ٢٦]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
667
المفردات:
لُعِنُوا طردوا من الرحمة دِينَهُمُ المراد جزاءهم مُبَرَّؤُنَ منزهون وهذا بعد الكلام الخاص في العفو والصفح عن بعض من خاض في الإفك كالدليل على أن هذا الجرم شديد وجزاؤه عظيم.
المعنى:
إن الذين يرمون المحصنات العفيفات الغافلات البعيدات عن التفكير في المعاصي والفواحش المؤمنات الصادقات هؤلاء لعنوا في الدنيا ولعنوا في الآخرة، ولهم عذاب عظيم هوله شديد وقعه.
ومن المعلوم أن هذا الحكم- مع من يرمى المحصن الغافل المؤمن- كذلك وإنما تخصيصهن بالذكر، لأنه الكثير الغالب، وأن رمى النساء بالإفك أكبر إساءة لهن، وهذا هو الموافق لحديث الإفك.
ولا شك أن القذف بالزنا كالرمى بالحجارة التي تصيب كل من يصادفها بلا تفريق بين أب أو زوج أو أخ أو قريب.
والإحصان والغفلة والإيمان حواجز وموانع كان الواجب أن تمنع القذف وهي كالسبب المقتضى لذلك الجزاء الشديد لمن يقذف المحصنات.
وهؤلاء القذفة وبخاصة من قذف السيدة عائشة ملعونون على لسان الملائكة والمؤمنون إلى يوم القيامة، ومطرودون من رحمة الله في الدنيا حيث استحق الحد والتعذيب،
668
ولعن في الآخرة حيث استحق العذاب الشديد وعظم العذاب بقدر عظيم الجرائم، ومن يقذف بالفاحشة بريئا فقد أقض مضاجع، ونال من كرامات وثلم من شرف، وآذى من أبرياء، فهو يستحق هذا العذاب، وإن الله لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون.
نعم هم يستحقون ذلك العذاب يوم تشهد عليهم ألسنتهم.
ولعل هؤلاء الناس يوم القيامة يحاولون الإنكار والتنصل فيمنعهم الله من الإنكار، ثم ينطق ألسنتهم، وأيديهم، وأرجلهم بما اقترفوا قطعا لعذرهم. وتنكيلا بهم. كل ذلك بسبب ما كانوا يعملون، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق، ويعطيهم جزاءهم كاملا عادلا لا يزيد على جريرتهم ولا ينقص.
ويومئذ يرون أن كل ما وعد به الرسل، وما وصفوا به من عذاب العصاة وثواب الطائعين كله حق ولا شك فيه ولا مرية وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ وهل هذه الآية عامة في كل محصنة غافلة مؤمنة؟ وإن كان سبب النزول قصة عائشة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. أم هو خاص بعائشة- رضي الله عنها- نظرا إلى شدة الوعيد وعدم ذكر التوبة، وقيل إن الآية خاصة بكفار قريش إذ كانوا يرمون المؤمنات المهاجرات بأنهن هاجرن للفجور.
والظاهر والله أعلم أنها عامة في محصنة غافلة مؤمنة، والسيدة عائشة وأمهات المؤمنين داخلات فيها دخولا أوليّا، وعظم الجزاء لعظم الجرم، وعدم ذكر التوبة لا يمنع من قبولها فبابها مفتوح حتى للكفار.
كيف ترمون بيت النبوة بهذا الإفك؟!! أو ما علمتم أن الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، وهذا حكم غالبى فالخبيث يكون للخبيثة، ولا يصح أن يتخلف هذا الحكم في أشرف بيت ومع أكرم خلق الله على الله.
والطيبات من النساء كالسيدة عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين للطيبين من الرجال فالله يختار لكل فئة ما يناسبها ويليق بها، فلا يمكن أن يختار أخبث الخبيثات لأطيب الطيبين، وهذا قريب مما سبق في قوله: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وعند بعضهم أن المراد الخبيثات والطيبات من الكلام
669
للخبيثين والطيبين من الرجال والنساء، على معنى أن خبيث القول إنما يوجه للخبيث من الناس، والخبيث من الناس هو المستحق للخبيث من الكلام.
أولئك المذكورون من الطيبين والطيبات مبرأون مما يقول الخبيثون والخبيثات. وكلا المعنيين مروى عن ابن عباس.
والرأى الأول هو الظاهر والله أعلم.
الاستئذان وآدابه [سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)
المفردات:
بُيُوتاً جمع بيت وهو المسكن لأن المرء يأوى عادة إلى مسكنه ليلا تَسْتَأْنِسُوا المراد تستأذنوا لأن من دخل بيتا غير بيته تلازمه الوحشة حتى يؤذن له لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أى لا حرج ولا إثم.
وهذا حكم آخر يتعلق بالأسرة والبيوت، وهو مناسب لأصل الموضوع الأول، ومن دواعي البعد عن الريبة والظن والوقوع في الزنى، وأسس الآداب والمدنية والإنسانية.
670
المعنى:
يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان، اعلموا أنه يدعوكم إلى الفضيلة والآداب، ويرشدكم إلى أنكم لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم، أى ليس لكم فيها حق السكنى والمنفعة «وإن كانت ملكا لكم، لا تدخلوا حتى تستأنسوا وتستأذنوا، ولا شك أن الإذن يذهب الوحشة، ولذا سمى الإذن أنسا، بدليل قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ.
والاستئذان يكون بقرع الباب، أو النداء لمن في البيت، أو التسبيح والتحميد أو صريح الاستئذان وغير ذلك.
ومنع الدخول قبل الاستئذان عام في الرجال والنساء، مع المحارم وغير المحارم إذ كل إنسان له حالات لا يحب أن يطلع عليها أحد، ولو كان والدا أو ولدا،
ولقد قال رجل للنبي صلّى الله عليه وسلم: أأستأذن يا رسول الله على أمى؟ قال النبي «نعم»
قال: ليس لها خادم غيرى أأستأذن عليها؟ قال «أتحبّ أن تراها عريانة؟» قال: لا. قال:
«فاستأذن عليها».
حتى تستأنسوا، وتسلموا على أهلها أى: على من فيها، وظاهر الآية أن الاستئذان يحصل ثم السلام، وبعضهم يرى العكس، والبعض يرى أنه إذا رأى أحدا في الدار سلم أولا ثم استأذن: فإن لم ير استأذن أولا.
ذلكم خير لكم وأفضل، فإنه أغض للبصر، وأحفظ للسر، وأدعى إلى احترام البيوت والحرمات، ولا تظنوا أن في الاستئذان مذلة، بل هو خير لكم وأزكى، لعلكم تذكرون ذلك فتعملوا بمقتضاه.
ولا مانع من جعل حجرات الموظفين كالبيوت يحسن الاستئذان عند دخولها فلربما كان الموظف في شغل شاغل، أو عنده شخص في مصلحة لا يحب أن يطلع عليها أحد، وهذا بلا شك أحفظ للوقت، وأدعى إلى العمل والجد.
فإن لم تجدوا فيها أحدا من ساكنيها فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم، وهذا تعبير دقيق يشير إلى معنى أدق، فربما كان في البيت صاحبه، ولم يرد عليك ولم يأذن لك فيصدق على المستأذن أنه لم يجد أحدا في البيت.
671
وإن قيل لكم ارجعوا، ولا تدخلوا، فارجعوا وامتثلوا أمر صاحب البيت فهذا حقه وهو حر فيه، والرجوع أزكى وأطهر، والله بما تعملون عليم ومحيط.
وقد يكون في البيت ما يدعو إلى الدخول بلا إذن كحريق أو حادث أو استغاثة مثلا وهنا تدخل بلا إذن. ولا حرج عليك.
ليس عليكم جناح ولا إثم في أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة، وفيها متاع لكم كالحوانيت ومحال البيع والشراء، وقد روى أن أبا بكر- رضى الله عنه- لما نزلت آية الاستئذان قال: يا رسول الله فكيف يعمل تجار قريش الذين يختلفون من مكة والمدينة والشام، ولهم بيوت معلومة على الطريق فكيف يستأذنون ويسلمون؟ وليس فيها سكان؟ فنزل قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ الآية.
والمعنى: أن البيوت العامة كالمقاهى والبيوت التجارية ما دامت مفتوحة فلا استئذان في دخولها.
وهل بيت الإنسان الخاص الذي فيه أهل بيته يستأذن أم يكفى السلام فقط والإشعار بالحضور بأى شيء، الظاهر أن هذا يكفى.
والله يعلم ما تبدون وما تكتمون، فإن إباحة الدخول في الأماكن العامة لغرض، أو في البيوت الخاصة مثلا قد يتخذه بعض الناس لغرض آخر سيّئ فجاء قوله تعالى:
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ ليذكرهم بأن الله يعلم، وأنتم لا تعلمون وهو يعلم السر وأخفى.
ومن الآداب أنك عند زيارتك لإنسان، ووجدت الباب مفتوحا، أن تقف بحيث لا تطلع على شيء في البيت، فقد روى علماؤنا عن عمر بن الخطاب أنه قال: من ملأ عينيه من قاعة بيت فقد فسق
وروى في الصحيح عن سهل بن سعد أن رجلا اطلع في حجر في باب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومع النبي صلّى الله عليه وسلّم مدرى يرجل به رأسه فقال له الرسول: «لو علمت أنّك تنظر لطعنت به في عينك، إنّما جعل الله الإذن من أجل البصر».
672
آية الحجاب [سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
المفردات:
يَغُضُّوا غض البصر كفه يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ يظهرن مواضع الزنية بِخُمُرِهِنَّ جمع خمار وهو ما يستر الرأس جُيُوبِهِنَّ جمع جيب وهو فتحة في أعلى الجلباب يبدو منها بعض الصدر لِبُعُولَتِهِنَّ هم الأزواج الْإِرْبَةِ الحاجة يَظْهَرُوا يعرفوا ويطلعوا على عورات النساء.
وهذا حكم آخر من الأحكام التي تحفظ العرض، ويصان النسب، وتمنع الفحشاء،
673
وببعد الزنى، فالإذن قبل الدخول، والحجاب وعدم النظر ومنع الاختلاط مما يباعد بلا شك بين الشخص وبين الخطر.
المعنى:
قل يا محمد، وكذا كل رئيس للمؤمنين أو إمام لهم، قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم، ويكفوها عن النظر إلى الأجنبيات غير المحارم، ويحفظوا فروجهم من كل منكر كالنظر واللمس والزنى، وانظر إلى قوله- تعالى- وقد قدم تحريم النظر على حفظ الفروج التي هي المقصود الأساسى من الكلام ليعلم الناس جميعا ما للنظر من خطر وأثر، وأنه رسول الشهوة: وبريد الزنى، وبذرة الفسق والفجور.
وخص المؤمنين بالذكر لأنهم الممتثلون المنتفعون بهذا. ذلك أزكى لهم وأطهر، وأبعد عن الشك وأنفى للريبة، وأبقى للنفس طاهرة زكية بعيدة عن الخطر. واعلموا أيها الناس أن الله خبير بما تصنعون، فراقبوا الله واتقوا عذابه، واعلموا أنه يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، والله يعلم ما تبدون وما تكتمون.
وكل أمر في القرآن للمؤمنين فهو كذلك للمؤمنات، ولكنه أعيد الحكم هنا مع المؤمنات لأن النساء في أشد الحاجة إلى ذلك، على أن الحكم من أخطر الأحكام التي تقتضي التفصيل والبيان.
وقل: أيها القائد والمربى والمشرف على المؤمنات وتربيتهن والإرعاء عليهن سواء كنت حاكما أو زوجا أو معلما قل لهن يغضضن من أبصارهن، ويمنعن بعض أبصارهن عن النظر أما النظر جملة فمنعه شاق وعسير، ولقد صدق رسول الله حيث يقول: «لك الأولى وعليك الثّانية» أى لك النظرة الأولى دون الثانية، فالمنهى عنه النظر الذي يتجاوز الحد المعروف شرعا.
وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن، ولا يبدين مواضع الزينة منهن، وإنما نهى القرآن عن الزينة والمراد مواضعها للمبالغة في المنع، إلا ما جرت به العادة بكشفه لاقتضاء الضرورة ذلك كالوجه والكفين، لأنه لا غنى عن كشفهما.
وقد كانت العادة المتفشية في الجاهلية أن تكشف المرأة عن نحرها وصدرها وللأسف
674
أصبحت هذه العادة متفشية في مجتمعنا الحاضر- ولذا خصها الله بالذكر وإن كان في الحكم السابق يشملهما لاقتلاع تلك العادة السيئة التي يقع فيها كثير من الناس.
وكان قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ للإشارة إلى معنى الإلصاق والملازمة التي لا تنفك كضرب الخيمة في المكان.
وقوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ، زيادة التقرير والتأكيد وتوطئة للاستثناء الآتي، فليس تكرارا لما مضى.
وها هم أولاء الذين استثناهم الله فجاز أن تكشف المرأة زينتها لهم فيما عدا السرة والركبة فكأن الله يقول: ولا يبدين زينتهن لأحد إلا لبعولتهن الآية.
١- الأزواج لأنهن أحق الناس بألا يستر عنهم شيء، ولأنه يباح لهم النظر إلى جميع البدن ما عدا الفرج، وكذلك الاستمتاع بكل أنواعه الحلال ولذا قدمهم على غيرهم.
٢- آباؤهن: وكذا الأجداد، سواء كانوا لأب أو لأم.
٣- أبناء بعولتهن. سواء كانوا ذكورا. أو إناثا.
٤- الإخوة: الأشقاء أو لأب، أو لأم.
٥- أبناء الإخوة: كذلك، ويلحق بهؤلاء المذكورين الأعمام والأخوال وهذا الحكم يجرى في الأقارب من جهة النسب كما تقدم، وفي الأقارب من جهة الرضاع وهؤلاء يسمون المحارم.
وقوله تعالى: أو نسائهن أى الحرائر من المسلمات، أما الإماء فسيأتى حكمهن، وأما المرأة الكافرة فهي من المسلمة كالأجنبى، وقيل كالمسلمة.
أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ظاهر الآية يشمل العبيد والإماء المسلمات والكتابيات، وهو رأى لبعضهم، وقال ابن عباس لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، وقال سعيد بن المسيب: لا تغرنكم هذه الآية أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ إنما عنى بها الإماء ولم يعن بها العبيد، وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ وقد اختلف العلماء في المراد بهذه الآية فقيل: هم المسنون الضعفة الذين يتبعون الناس ليصيبوا من فضل طعامهم، أو هم البله الذين لا يفهمون من أمور
675
النساء شيئا، أو هو العنين أو الممسوخ، وهذا الاختلاف كله متقارب المعنى لا فهم له ولا اتجاه عنده إلى أمر النساء.
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ والمراد الأطفال الذين لم يفهموا عورات النساء، ولم تظهر فيهم الغريزة الجنسية لصغر سنهم، وإنما يكون هذا دون البلوغ.
وفي النهاية ختم الآية بقوله: وإياكم أيها النساء أن تضربن بأرجلكن ليعلم ما تخفين من الزينة، والمعنى عليكم ألا تظهروا ما خفى من مواضع الزينة فيكن، وهذه نصيحة قرآنية للنساء خالصة لهن خاصة بهن، فإن بروز المرأة من خدرها، وإظهار ما خفى من زينتها، وعرضها جمالها وجلالها في السوق والشارع كان له عميق الأثر من انصراف الشباب عن الزواج، فلقد صدق من يقول: أحب شيء إلى الإنسان ما منع.
ولسنا نقول: إن المرأة يجب أن تكون في السجن، لا، بل نقول لها اخرجى وتعلمي، واقضى حاجتك، ولكن نطالبها بالعفة ونطالبها بالمحافظة على نفسها، ونلح عليها في ألا تبرز زينتها، وألا تعرض نفسها على الناس فيقل طلبها واحترامها والنظر إليها.
وتوبوا أيها الناس جميعا مما تلمون به من نظر أو كلام أو اجتماع، توبوا إلى الله وارجعوا إليه لعلكم تفلحون، وهذا ختام جميل، وتذييل دقيق المعنى.
ويحسن أن نذكر العورة عند الرجل والمرأة باختصار فنقول: عورة الرجل ما بين سرته وركبتيه بالنسبة للرجال والنساء المحرمات عليه، وهي كذلك في الصلاة وعورة المرأة في الصلاة كل بدنها إلا وجهها وكفيها، وهي كلها عورة بالنسبة للرجال الأجانب وبعضهم يقول: كلها إلا الوجه والكفين ما لم تخف للفتنة. أما المحارم فما بين السرة والركبة، وأما مع الزوج فلا عورة معه أبدا، ويحرم النظر إلى الفرج خاصة من كل منهما، والأمة عورتها كالرجل ما بين السرة والركبة.
من علاج أزمة الزواج [سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
676
المفردات:
الْأَيامى جمع أيم وهو من لا زوج له ذكرا كان أو أنثى، سبق زواج أم لا، وقيل من فقد زوجه بموت أو طلاق فلا يقال للبكر أيم، وقيل: هذا اللفظ خاص بالأنثى الْكِتابَ والمكاتبة هي عقد بين المالك وعبده على أن يؤدى مالا لسيده فيعتق على هذا المال الْبِغاءِ هو زنى النساء خاصة.
المعنى:
ما مضى في حكم الزنى وفظاعته، وأنه سبة تقتضي عقابا خاصا لمن يسب بها مسلما بدون شهود على فعله، ثم جاءت قصة الإفك، وما فيها من آيات ومواعظ وحكم ومنافع، ثم كان الكلام على الإذن قبل الدخول، وعلى غض البصر كل ذلك لأجل البعد عن الزنى الذي هو من أكبر الفواحش والآثام، وبعد ذلك كان العلاج لهذا الداء الوبيل والخطر الجسيم، وهذا العلاج هو النكاح أى: الزواج الذي هو حرز لنصف
677
الدين وتنفيس شرعي اجتماعي للغريزة الجنسية، وفي هذه الآيات علاج لأزمة الزواج وقطع لعلل بعض الناس.
وأنكحوا أيها الأولياء، والسادة للعبيد، أو هو أمر موجه للأمة جميعا بمعنى التعاون وإزالة العقبات حتى يتم على أكمل صورة، وهل هو أمر للوجوب؟ الظاهر أنه أمر لمطلق الطلب لا للوجوب، إذا لم يقل أحد أن السيد واجب عليه أن يزوج عبده.
أيها الأولياء والسادة زوجوا من لا زوج له من الأحرار أو الحرائر، وكذا زوجوا الصالحين من عبيدكم وإمائكم، والمراد بالصالحين هم القائمون بحقوق الشرع الواجبة عليهم من امتثال الأوامر واجتناب النواهي ولا تنظروا إلى المال.
وإنما خص الصالحين من العبيد دون الأحرار، لأن الصالح من العبيد هو الذي يستحق أن يطلب من سيده وأن يجاب إلى طلبه.
وأما الأيامى من الأحرار فنفقاتهم على أنفسهم فالترغيب في زواجهم محمول على الإطلاق بدون شرط.
ولكن نرى كثيرا من الشباب يتعلل بالفقر، ويقول: كيف أتزوج وأنا فقير فيرد الله على هؤلاء بقوله: إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله، فالغنى والفقر بيد الله لا بيد مخلوق، وكما أعطاكم ورزقكم متفرقين يعطيكم مجتمعين بالزواج.
على أن الزواج قد يكون مدعاة للغنى فالشعور بالمسئولية، وحث الزوجة زوجها على العمل، وأنه صار صاحب بيت وأسرة، وقد تعلق به من هو في حاجة إليه، وقد يصير ذا أولاد بعد زمن، كل ذلك يدفع الرجل إلى العمل والجد والاجتهاد، وهذا يحصل الغنى، وبهذا يتحقق وعد الله، والواقع يؤيد ذلك غالبا.
والله واسع الفضل، عليم بالخلق يعطى كما يشاء ويعلم، فقد يتزوج الشخص ثم يظل فقيرا فلا يغتر إنسان بأن الزواج باب موصل مضمون للغنى، وإنما هو مظنة فقط، أو على الأقل هو إزاحة للتعليل الذي يتعلل به البعض.
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أى: ليعمل من لا يجد وسائل الزواج الموصلة إليه على العفة وضبط النفس وعدم الاسترسال في طريق الشهوات والبعد عما يثير الغرائز الجنسية كالاختلاط بالنساء والجلوس إليهن، والتعفف يدخل فيه تقوية الناحية الروحية بقراءة القرآن والصلاة والذكر ومجالسة أهل العلم والجلوس مع الصالحين
678
والاشتغال بما يفيد الدين ويغرس الخلق الفاضل، والتعفف يكون كذلك بإضعاف الناحية البدنية من شغل الجسم بالأعمال الشاقة والرياضة البدنية العنيفة والاشتغال بالهوايات التي يهواها الشخص أيا كانت بشرط أن تكون حلالا.
ولقد جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العلاج
بقوله: «يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ومن لم يستطع فعليه بالصّوم فإنّه له وجاء»
والصوم علاج روحي وجسمي وحذار أيها المسلمون من الاندفاع مع دعاة الشر وأتباع الشياطين الذين ينادون بأن الكبت ضار وأن التحلل علاج- وقانا الله شرهم-:
وهذا أمر يتعلق بالنكاح أيضا وخاصة الأرقاء فقد يكون الرقيق كبير النفس واسع العقل كبير الهمة فيريد أن يشترى نفسه من سيده بمال ليكون حرّا وهذا غالبا يكون عند شعوره بالحاجة إلى الزواج ذكرا أو أنثى حتى يكون له بيت أو أولاد ويظهر والله أعلم أن هذا هو السر في وضع تلك الآية هنا.
والشرع لا يدع فرصة تمر إلا وهو يدعو بإلحاح إلى العتق، وإلى الحرية والذين يبتغون الكتاب والمكاتبة، ويتعاقدون مع سيدهم على إعطائه جزءا من مال منجما على أوقات، فإذا ما وفي صار حرّا، إن حصل هذا فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا، واستعدادا طيبا للوفاء، وآتوهم من مال الله الذي آتاكم، وأنفقوا عليهم مما جعلكم مستخلفين فيه، ولا تبخلوا عليهم أبدا، ولحرص الشارع على الحرية، وتحرير الرقاب أمر أن يعطى المكاتب ما لا يستعين به على أداء ما عليه من أقساط، وجعل له حقّا في الصدقات إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَفِي الرِّقابِ [سورة التوبة آية ٦٠] أى فك الرقاب.
وهذا علاج آخر لمرض كان شائعا مبعثه حب المال والتحكم في الرقيق، فقد كانوا يؤجرون عبيدهم للزنى.
وجاء النهى عن تلك العادة بأسلوب شديد، وعبارة قاسية تتناسب مع شناعة الفعلة، فقال: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً.
ولقد نهاهم عن الإكراه، والإكراه أشنع من الإباحة وأفظع، وقال فتياتكم أى في سن المراهقة التي فيها الغرائز على أشد ما تكون، من الميل إلى الفجور وعدم تقدير الأمور، ثم أضافهن إليهم، ومن ذا الذي يقبل أن يكره فتاته المختلطة به وبأهل بيته
679
المنسوبة إليه على الزنى؟!! إنه لمجرد من الشهامة والرجولة، وقد روى أن عبد الله بن أبى كان يفعل هذا! وكان الإكراه في حال أنهن أردن تحصنا وتعففا، يا لله من جرم قبيح تكره فتاتك على الزنى وهي تريد الإحصان والعفة!!! تكرههنّ لأنك تبغى عرض الحياة الدنيا، يا لله من الناس في هذه الأيام!!! ألسنا نسمع الآن أن مصلحة السياحة تريد أن تؤجر سيدات وفتيات يصاحبن السائحين الأثرياء الأغنياء الوافدين علينا، تؤجرهن ليقمن معهم ويصاحبنهم في أسفارهم وحلهم، وخلواتهم.. يا لله من أولئك الرؤساء المتحللين الذين يكرهون الفتيات ويمهدون السبيل إلى البغاء العلنى بحجة الحضارة والمدنية، وللعجب العجاب قام بعض الكتاب والعلماء يطلبون وقف هذا ومنعه رسميا فلم يسمع لهم، بل نفذ الأمر وتم، وقام كاتب فاجر داعر يملك صحيفة وينادى بأن العلماء متأخرون جهلاء ينادون بالرجعية، وهم العقبة في سبيل التقدم!! إننا والله نسأله أن يأخذنا وألا تطول حياتنا في هذه الأيام السود، وماذا نعمل وقد عم الفساد والتحلل الخلقي، بل والدعوة السافرة إلى الاختلاط القبيح في الإذاعة والصحف والكتب والنشرات، ونرى تأييدا لهم من كل جهة تأييدا خفيا، حتى إذا تم الأمر وتمكن الحال جاهروا بإماتة الدين والعادات الإسلامية بحجة أننا في عهد الحرية والتقدم، يا رب أنقذنا من هذا!!! ونحن كالمستجير من الرمضاء بالنار.
والخلاصة: إن إكراه الفتيات على الزنا المباشر أو غير المباشر، سواء أردن تحصنا وعفة أم لا جرم كبير وذنب فظيع.
ومن يكرههنّ، وهن غير راغبات، فإن الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم بهن أما من أكرههن فله جهنم، وبئس المصير، والله أقوى من الجميع ووعد بهذا ووعده الحق وقوله الصدق، والعاقبة للمتقين..
أيها الناس! أيها المسلمون! أيها الشرقيون! لقد أنزل الله لكم آيات تدل على كمال العلم والحكمة، وأنها من الله العزيز الحكيم، وهي شاهدة بصدق الرسول، وتبين لنا الطريق الحق، والقول الصدق الذي ينجينا من المهالك إذ هي علاج صاحب الوجود الخالق للنفوس العالم بالطوايا، ولا يغرنكم ما نصاب به من نظريات وتقاليد للأجانب، فلسنا مثلهم، وليست أجواؤنا، وبيئاتنا كبيئاتهم.
680
ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم، وقصصا عجبا، لتعتبروا فهذا يوسف رمى بالزنى وبرأه الله، وهذه مريم البتول رماها اليهود وهي العفيفة الحصان، وها هي ذي عائشة رماها عبد الله بن أبى وهي البريئة بنص القرآن، فهذا كله موعظة وهدى، ولكن للمتقين.
الله نور السموات والأرض [سورة النور (٢٤) : آية ٣٥]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥)
المفردات:
نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أصل لفظ النور يطلق على النور الحسى الذي تبصر به العين، وقد تعورف في لسان الشرع على أنه ما به الاهتداء والإدراك كَمِشْكاةٍ المشكاة الكوة غير النافذة في الجبل أو الحائط. وقيل: هي ما يوضع فيه المصباح.
مِصْباحٌ هو السراج الضخم الثاقب مأخوذ من الصبح الزُّجاجَةُ جسم كالقنديل شفاف صاف كَوْكَبٌ الكوكب الجرم السماوي المضيء دُرِّيٌّ نسبة إلى الدر لصفائه وتلألئه.
المعنى:
إن من يقرأ تلك الآيات البينات، والأحكام المحكمات، وذلك النظام الدقيق للأسرة
681
التي هي نواة المجتمع النظيف، ويكرر النظر في ذلك يجد أن ذلك نور لو استضأنا به ما أظلمت حياتنا أبدا، ولما وقعنا في خطر أبدا، وكيف نضل، ومعنا النور الإلهى الذي يهدينا إلى الحق؟!! والله هو صاحب النور في السموات والأرض، هو يهدى إلى الحق، ويهدى إلى طريق مستقيم.
واعلم يا أخى أن الهدى والنور- بمعنى الاهتداء- أساس الفوز في الأعمال وأصل النجاح فيها، وعلى الهدى والنور تؤتى الأعمال ثمرتها والمرجو منها، من أجل هذا توسعوا في لفظ النور حتى أطلقوه على كثير من المعاني التي تعتبر أساسا لغيرها في الثمرات فقيل: فلان نور البلد، إذا كان عليه نظامها وإليه يرجع الفضل في تدبير أمرها وترتيب شئونها ويقال لنفس النظام والتدبير: نور فيقال مثلا: قد بنى هذا النظام على نور أى نظام وإتقان.
وعلى هذا يمكن أن نفهم قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية على ما يأتى:
الله- سبحانه وتعالى- هو صاحب النور في السموات والأرض وهو خالق ذلك النور الحسى فيهما وهو صاحب النور فيها بمعنى أنه هو الذي بث فيهما من كمال النظام وحسن التدبير، ما لو تفكر فيهما إنسان بعقل حر برىء لآمن به إيمانا كاملا وهو- تبارك وتعالى- نور السماء بالملائكة، والأرض بالشرائع وما فطر عليه النفوس من الفطر السليمة التي تهدى إلى الحق، والله- سبحانه وتعالى- نور السماء بالكواكب، والأرض بالأنبياء.
ولك أن تقول بالإجمال، الله- سبحانه- هو المدبر لما يجرى في السموات والأرض وهو المبدع لخلقهما، وهو منزل الشرائع وباعث الملائكة بالوحي، والهادي لعباده بالأنبياء والرسل جل شأنه وتبارك اسمه وتقدس في علاه، فهو نور السموات والأرض حقا.
وإن أردت أن تتمثل نور الحق- تبارك وتعالى-، وتتصوره بمثال حسى يجلوه لك فهو كمشكاة فيها مصباح قد وضع في زجاجة صافية كأنها كوكب درى.
مثل نوره وهدايته التي بسطها للعالمين من أدلة عقلية وسمعية وأحكام صحيحة وفي
682
قوته وشدة تأثيره ووضوحه: كمشكاة فيها مصباح قوى الإضاءة، شديد التأثير وهذا المصباح في زجاجة صافية، كأنها كوكب مضيء متلألئ كالدر صفاء وتلألؤا، يدفع نوره بعضه بعضا لشدته ولمعانه ووضعه بهذا الشكل، وهذا المصباح يوقد من شجرة مباركة طيبة هي شجرة الزيتون، وليست تقع شرقى شيء كالجبل، ولا غربي شيء كذلك فإنها إن وقعت في هذا الموقع حجب الحاجز عنها ضوء الشمس في أول النهار وآخره فكانت الشجرة ضعيفة، فالشجرة في مكان جيد متمتع بضوء الشمس والهواء الطلق، وذلك أكمل لنضجها وطيب ثمرها.
وانظر يا أخى إلى هذا التمثيل، وذلك التصوير الذي أبرز النور في صورة مؤثرة أخاذة للنفس، فقد جعل النور في مصباح، والمصباح في زجاجة، وهو في كورة داخلة، كل ذلك يجعل نوره مسلطا في جهة معينة، مبددا للظلام الحالك الذي يحيط به، وهو أشد روعة من نور الشمس الوهاج الذي لا يحيط به ظلام، ألا ترى إلى البرق الخاطف وأثره في النفس؟ أليس أشد من ضوء الشمس تأثيرا في النفس وإن المصباح وسط الظلمات المتكاثفة لهو أشبه شيء بنور الحق وسط ظلمات الكفر والفسق والعصيان.
ولذا وصف الشجرة بأنها مباركة نامية، لا يحجبها عن نور الشمس والهواء الطليق جبل أو حاجز ولعل قوله تعالى: لا شرقية ولا غربية إشارة دقيقة إلى أن نور الإسلام وشرائعه وسط بين طرفين متقابلين وما في شرائع الإسلام شاهد على ذلك وهذا الزيت المستخرج من تلك الشجرة، زيت صاف يكاد يضيء بدون مس النور.
تأمل هذا التصوير تجد نفسك أمام نور قد استجمع مظاهر النور، وتجلى في وسط ظلمة زادت بهاء ظهورا، فهو بحق نور، وهذا شأن هداية الله لعباده نور من كل ناحية، وضوء من كل جانب فهو نور متضاعف يزداد كلما نظرت فيه، وحاولت الوقوف على سره.
وانظر إلى التصوير الفنى العالي للمصباح وما يحيط به ثم انظر إليه وقد تعرض لمادة النور، وهم لا يعرفون من مادة الاستصباح إلا الزيت، وأجوده زيت الزيتون.
وإذا كان هذا هو وصف هداية الله وتمثيلها بالنور الحسى فما بالنا نرى كثيرا لم يهتد بذلك النور، فرد الله على ذلك بقوله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ
683
يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ كل على حسب ما جبلت عليه نفسه، وما اختاره الله له، ولا عيب في النور، ولا عجز فيه.
ويضرب الله الأمثال للناس: ويبصرهم بما خفى عليهم في صور مختلفة، والله بكل شيء من المحسوس والمعقول والظاهر والخفى عليم، وبه خبير.
المنتفعون بنور الحق تبارك وتعالى [سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨)
المفردات:
بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ المراد المساجد المرفوعة لذكر الله بِالْغُدُوِّ الغداة والغدو أول النهار الْآصالِ جمع أصيل وهو آخر النهار.
وهذا نهاية المطاف بعد الحديث عن الهداية الإلهية فأثرها إيمان المؤمنين وكفر الكافرين، وهكذا كان الناس منهم سعيد، ومنهم شقي.
المعنى:
يسبح الله، ويقدس له المسبحون في بيوت أذن الله أن ترفع، ويذكر في تلك البيوت
اسمه، والمعنى ينزهه ويقدسه في الصلاة والوعظ والذكر والتفكير في الملكوت وغيره، يسبحون في بيوت أراد الله أن ترفع وأن تكون خاصة لذكره جل شأنه، يسبحونه في أول النهار وآخره، والمراد كل وقت... رجال.
هؤلاء المسبحون رجال لا تلهيهم تجارة، ولا بيع عن ذكر الله، أى ليسوا ماديين نفعيين، بل هم قوم لا تشغلهم الدنيا عن الآخرة بل يذكرون الله، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار، يوم تتردد فيه النفوس بين الخوف والرجاء فتتقلب القلوب متجهة إلى اليمين والشمال لا تدرى من أين تؤخذ؟
أو من أين تؤتى كتبها؟ أمن اليمين أم من الشمال؟.
فهم يسبحون الله ويذكرونه ويقيمون الصلاة ويؤدون الزكاة، ويخافون يوم الحساب ليجزيهم الله على أحسن ما عملوا الجزاء الأوفى، ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب وهو واسع الفضل، وهو على كل شيء قدير.
المحرومون من نور الحق [سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
المفردات:
كَسَرابٍ السراب ما يرى في الصحراء نصف النهار في اشتداد الحر كالماء،
685
وهو يلتصق بالأرض بِقِيعَةٍ القيعة مفردها قاع وهو ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت، وفيه السراب، وأصل القاع الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء الظَّمْآنُ العطشان لُجِّيٍّ هو الذي لا يدرك قعره، واللجة معظم الماء واللجة أصوات الناس.
وهذا مثل للكفار بعد مثل المؤمنين.
المعنى:
والذين كفروا بالله ورسوله أعمالهم التي يعملونها وفي ظاهرها خير إذا كانوا يوم القيامة وجدها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، فهذه أعمالهم التي يعملونها من بر أو صدقة أو غيرها لا خير فيها ولا جزاء عليها يوم القيامة فهو أشبه ما تكون بالسراب مع العطشان لا يفيده شيئا، نرى هؤلاء يوم القيامة، قد خاب أملهم وطاش ظنهم وضاع مرتقبهم كالعطاش في الصحراء إذا اشتد بهم العطش ظنوا الماء في السراب حتى إذا ذهبوا إليه لم يجدوا شيئا وهم في أشد الحاجة إلى الماء.
وأما ما عمله من سيئ الأعمال، فإنه يراه وقد عظم جرمه، وتراكم ذنبه من جهة كفره وسوء عمله، وبطلان قصده، وضلال نفسه وكأنه قد قذف به في بحر لجي تلاطمت أمواجه، وتراكمت غيومه، واشتد ظلام ليله، فإذا حاول أن يرى يده لم يرها، لأنه فقد نور ربه، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
وإن هذه الآيات البينات لتوحى لنا أن شرع الله ونظامه هو نور السموات والأرض نور الدنيا ونور في الآخرة والمتبعون ذلك النور هم المنتفعون به الناجون يوم القيامة.
وأما غير ذلك النور، وأما التشريع المخالف لذلك التشريع فهو كالسراب مع الظمآن في الصحراء يحسب فيه الخير فإذا ذهب إليه وعمل به لم يجد شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب.
فهل من مدكر؟!! ولا عجب، فإنما يتذكر أولو الألباب...
686
انقياد الكون لله [سورة النور (٢٤) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤)
المفردات:
صَافَّاتٍ مصطفات الأجنحة في الهواء، والطير أثناء طيرانه يقبض أجنحته وقد يسطها بلا تحرك يُزْجِي يسوق يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ يجمعه رُكاماً مجتمعا يركب بعضه بعضا الْوَدْقَ قيل: إنه البرق، أو المطر وبكل نطق العرب سَنا بَرْقِهِ ضوء ذلك البرق الذي في السحاب.
إذا كان الله أحكم كتاب الكون الناطق بلسان الحال على قدرته وحكمته أفلا يكون هذا دليلا على إحكام كتابه الناطق المنزل على رسوله وخاتم أنبيائه.
المعنى:
الله نور السموات والأرض، وواهب الهداية للكل، فمن الخلق من انتفع بذلك
687
النور، واهتدى بهديه، ومنهم من ضل سواء السبيل، وتراكمت عليه الظلمات حتى إذا أخرج يده (وهي أقرب الأشياء إليه) لم يكد يراها.. والله قد ساق من الأدلة الحسية ما يشهد بذلك ويؤيده، ويبين مدى انقياد الكون كله لله، وفي هذا ما يدل على فرط جهل الكفار، وبيان ضلالهم.
ألم تر وتعلم أيها النبي وكذلك كل مخاطب أن الله- سبحانه- يسبح له من في السموات ومن في الأرض، وما بينهما من الطير، ولقد ساق الله هذا بأسلوب فيه استفهام تقريرى وفي ذلك إشارة إلى أن تسبيح الكائنات وانقيادها له- سبحانه- واضح إلى حد أن يرى ويعلم علما لا شك فيه.
هذا الكون كله بما فيه من سماء وأرض وفضاء وكل شيء يدل دلالة قوية على تنزيه الحق- سبحانه وتعالى-، ويشهد على ذلك بلسان الحال لا بلسان المقال، وبما أودع فيها من آيات الإبداع والإتقان الدالات على كمال منشئها وعظيم قدرته وحسن تنظيمه وإتقانه.
انظر إلى العوالم التي في السماء، والعوالم التي في الأرض، وإلى عالم الطير الذي يعيش في الجو، وما يحويه كل عالم من عجائب تجدها ناطقة على قدرة القادر، ووحدة الصانع، ووصفه بصفات الكمال والجلال:
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه الواحد
وهذا تقرير الربوبية، ولفت النظر إلى الكائنات العلوية والسفلية، وإنما خص الطير حالة كونها صافات أجنحتها بلا تحرك وهي في أجواء الفضاء طائرة لأن ذلك أدل على قدرة الله الصانع.
كل كائن في السماء أو في الأرض أو بينهما قد علم الله صلاته وتسبيحه، والله عليم بما يفعلون، فما بالك أيها الإنسان تكفر بربك، وتجحد نعمته ولا تؤمن بكتابه.
والله وحده ملك السموات والأرض، وما فيهن، وإلى الله وحده المصير، وإليه المرجع والمآب، والكل منه وإليه.
وهذا دليل آخر من أدلة العظمة الإلهية، التي نراها ونلمسها في كل وقت وحين ألم تر أن الله يزجى سحابا أى: يسوق بعضه إلى بعض، ولا غرابة فهو يتكون من
688
البخار الذي يخرج من البحار، ويرتفع إلى أعلى منساقا بعضه إلى بعض، ثم يؤلف الله بين أجزائه ويجمعها حتى يتكون منها سحاب عال مرتفع في طبقات الجو الباردة، وهذا معنى قوله: ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً.
فترى الودق أى المطر أو البرق يخرج من خلال السحاب. وهذه السحب المتجمعة في السماء تشبه الجبل، وتراها وقد أنزل منها المطر والبرد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء بحكمته وقدرته.
يكاد سنا برق السحاب يذهب الأبصار لقوته وإن منظر السحاب في تراكمه ثم نزوله مطرا أو ثلجا أو بردا مما يوقظ النفوس الغافلة وينبهها إلى الأدلة الحسية التي تثبت وجود القادر المهيمن على العالم، وإن ظهور البرق الخاطف والرعد القاصف وسط السحاب المملوء ماء لدليل على قدرة الله- جل شأنه- وتصريفه الكامل للسموات والأرض.
يقلب الله الليل والنهار، فيتعاقب كل منهما على الآخر، ويأكل كل منهما من أخيه بزيادة أو نقص، وتنقلب الأحوال فيهما من حر وبرد وغيرهما كل هذا يحصل أمام الناس ويشاهدونه، فهل من مدكر؟!! إن في ذلك كله لعبرة وعظة لأولى الأبصار، فهي أدلة مجموعة يكفى لإدراكها البصر فقط، وليست من الأمور العويصة التي تحتاج إلى فكر ونظر وبصيرة.
وجود الضلال رغم الآيات الناطقة [سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٥ الى ٥٠]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠)
689
المفردات:
دَابَّةٍ الدابة، اسم على لكل ما دب ودرج على وجه الأرض، وقد يستعمل في العرف العام: خاصة بذوات الأربع يَتَوَلَّى يعرض مُذْعِنِينَ طائعين منقادين ارْتابُوا شكوا يَحِيفَ يجور ويظلم.
وهذا من تتمة الأدلة على كمال القدرة، وتمام العلم والحكمة، مع التعرض لبعض من عميت بصائرهم فلم يهتدوا بنور الحق كالمنافقين.
المعنى:
والله- سبحانه وتعالى- خلق كل دابة تدب على الأرض من إنسان وحيوان، وطير، ووحش، وغيرها. خلق كل ذلك من ماء، وهل هو المنى الحيواني الذي يخرج من كل كائن حي للقاح؟ أم المراد بالماء العنصر المعروف، بناء على أنه داخل في قوام كل حيوان، ولا غنى عنه في تخلق الحيوان وحياته، كل هذا يصح.
وأيّا ما كان فإن هذه الآية تشبه في الدلالة على باهر القدرة، قوله تعالى: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [سورة الرعد آية ٤] فقد خلق الكل من الماء ثم باين بين الأنواع مباينة تامة، وفي هذا دلالة على كمال القدرة.
فمنهم من يمشى على بطنه، وهذا النوع أظهر في الدلالة حيث يمشى بلا رجلين ومنهم من يمشى على رجلين، ومنهم من يمشى على أربعة أرجل، وقد عبر بمن وهي للعقلاء تغليبا ثم عبر في كل نوع بها للمشاكلة فإن من يمشى على رجلين يدخل فيه الإنسان والطير فعبر بمن تغليبا، وعبر بها في غيره المشاكلة.
690
يخلق الله خلقه على ما يشاء ولا غرابة في ذلك. إنه على كل شيء قدير.
بعض العلماء يرى أن هذا المثل ضرب للكفار إذ هم يمشون على بطونهم وقد ضرب للمنافق ما يمشى على أربع وضرب للمسلم المنتفع بنور الله من يمشى على رجلين والله أعلم.
لقد أنزل آيات دالات على كمال القدرة منها ما ذكر هنا، وهذه الآيات مبينات للحق والهدى، ظاهرات في نفسها، ولكن لا يهتدى بها إلا من يشاء الله له الهداية، لأنه بطبعه يميل إليها وهو يستحقها، والله- سبحانه- يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وذلك الفضل من الله وكان الله عليما حكيما، وهو على كل شيء شاءه قدير.
بعد أن ساق- جل شأنه- من الأدلة والبراهين، ما يثبت الإيمان الحق، في قلوب الناس، وينفى الشك والريب. شرع- جل جلاله- يبين أن هذه الآيات وإن تكن بينة واضحة في نفسها مبينة وموضحة حقيقة الشرع، إلا أنها لا تكفى وحدها بل لا بد من هداية من الله وتوفيقه لمن يشاء، حتى يظل الإنسان طامعا في عفوه، غير خارج عن حظيرة الرجوع إلى الله في كل شيء، وهذه قصة بعض المنافقين، الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم يؤمنون باللسان ثم لا يرضون بحكم الله، وهؤلاء قد ضلوا سواء السبيل. ولعل ذكر أوصافهم صريحة مما يقوى تمثيلهم بالحيوان.
روى أن رجلا من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فدعاه اليهودي إلى التحاكم إلى رسول الله، ودعاه المنافق إلى التحاكم إلى كعب بن الأشرف فرارا من الحكم الحق الذي سيحكمه رسول الله ثم انتهى الأمر، وتحاكما إلى رسول الله فحكم لليهودي،
لأنه صاحب الحق، ورسول الله لا يحكم إلا به ولو على أقرب الناس إليه، فرضي اليهودي بذلك، ولم يرض المنافق، وتحاكما إلى عمر طمعا فيه فقال له اليهودي: قد تحاكمنا إلى رسول الله ورضيت ولم يرض زميلي فقال عمر: أهذا حصل، قال المنافق:
نعم، فضرب عمر رقبته بالسيف حيث لم يرض بحكم رسول الله!!.
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ.
691
والمعنى: من الناس من يقول بلسانه بدون اعتقاد: آمنا وأطعنا ثم يتسلل فريق منهم ويعرض عن حكم الله الذي هو مقتضى قوله آمنا وأطعنا، وانظر إلى قوله: ثم التي تفيد العطف ولكن مع التراخي في الترتيب إذ بعيد على العاقل أن يقر بالإيمان والطاعة ثم يعرض عن حكم الله ورسوله وما أولئك بالمؤمنين أبدا.
أليس هذا كافيا؟! لمن يدعى الإيمان ثم يجاهر بالرضا عن الحكم بغير كتاب الله وسنة رسوله!! إنه بلا شك في الدرك الأسفل من النفاق العملي: وإذا دعوا هؤلاء إلى الحكم بكتاب الله وسنة رسوله ليحكم بينهم إذا فريق- وقد يكون كبيرا- منهم معرضون، وكيف يقبلون التحاكم إلى الله؟ الله يحكم بشدة على الزاني والسارق وشارب الخمر، والذي يسب المحصنات الغافلات، ويحرم الاختلاط، والسفور، ويقول للمؤمنين وللمؤمنات: غضوا من أبصاركم واحفظوا فروجكم وأنفسكم عن الفاحشة.
فلا يقبل هذا ولا يرضى به إلا كل مسلم عفيف، وكل محصنة عفيفة، أما من يريد الإباحية، والفوضى الخلقية، فيتعلل بأنظمة واهية، وتقاليد غريبة بالية لا تصلح لنا ولا تعيش في جونا، وما أشبه الليلة بالبارحة.
فأولئك هم الذين ينفقون النفس والنفيس في سبيل عرقلة الدعوة إلى الحكم بكتاب الله، وأصارحكم يا إخوانى أن هناك عدة جهات همها وعملها في الشرق إماتة كل حركة إسلامية فإنها العدو اللدود للاستعمار.
ومن الغريب أن يخدع بعض الشباب المسلم بهذا، وينادى بما ينادى به أولئك القوم، ولكن لا غرابة فالله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.
هؤلاء الذين لا يرضون الحكم بكتاب الله يقول الله في شأنهم:
أفي قلوبهم مرض؟ أم ارتابوا؟ أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله؟... بل أولئك هم الظالمون...
نعم فهم لا يخرجون عن واحد من هذه الفروض ليخلص أن الباعث الحقيقي هو ظلمهم وتوغلهم فيه وحدهم.
ومعنى الآية: أعميت بصائرهم فلم يدركوا هذا النور الذي ملأ السموات والأرض؟!!.. بل أهم في شك من أمره صلّى الله عليه وسلم، فلا يدرون أحق ما جاء به أم
692
باطل؟!! بل ألحقهم الخوف من أن يحيف عليهم حكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما شعروا به من ضلالهم وظلمهم؟!! كلا! وألف كلا! لم يكن شيء من ذلك عند من أعرض عن حكم الرسول قديما وبدليل أنهم يأتون إليه مذعنين عند ما يعلمون أن الحكم في جانبهم، وأنهم لا يتكلفون شيئا.
فهل هذا إلا لشيء واحد هو ظلمهم، وتمسكهم به، والاستفهام في الآية لإنكار أن يكون السبب غير الظلم فقط وتمسكهم به.
وانظر إلى مكانة الرسول صلّى الله عليه وسلّم حيث جعل مع الله في سلك واحد في قوله وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ فقد بينت الآية أن حكم الرسول هو حكم الله فهل يعقل أن من هذا وضعه مع الله- سبحانه- يحيف في الحكم، أو ينطق عن الهوى أو بالإثم؟!!.
رب إن الهدى هداك وآيا تك نور تهدى بها من تشاء
هؤلاء هم المؤمنون الممتثلون [سورة النور (٢٤) : الآيات ٥١ الى ٥٤]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤)
693
المفردات:
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
قدر طاقتهم من اليمين وَيَتَّقْهِ أى: ويتق فالهاء للسكت.
المعنى:
لقد مضى الكلام في المنافقين المترددين في قبول حكم الله وحكم رسوله، الذين يسيرون مع الإسلام إذا كانت لهم مصلحة، فإن ابتعدت المصلحة ابتعدوا عن الإسلام وركبه، واعلم يا أخى أن هذه أمراض لا زلنا نراها في كثير من الناس؟ أما المؤمنون الصادقون فها هو ذا قولهم الحق الناشئ عن إيمانهم الصدق، إنما كان قول المؤمنون إذا دعوا إلى الله ورسوله في أى شيء يتعلق بهم وبخاصة في الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله، إنما كان قولهم أن يقولوا بألسنتهم وقلوبهم: سمعنا وأطعنا، أى: سمعنا دعوتكم للتحاكم لرسول الله وشرعه، وأطعناكم فيما تطلبون، وتلك مقالة المؤمنين الواثقين المتمكنين.
ومن يطع الله ورسوله في أمور الدين كلها، ومن يخش الله أى: يخف عذابه وعقابه فيما مضى من الذنوب، ويتقه فيما يستقبل منها فأولئك هم الفائزون وحدهم، لأجل اتصافهم بطاعة الله وطاعة رسوله وبخشيته وتقواه.
ثم عاد الكلام إلى الفريق الأول من المنافقين، وما أكثرهم في كل زمان ومكان وأقسموا بالله جهد طاقتهم من الأيمان لئن أمرتهم ليخرجن إلى العدو أو ليخرجن من أموالهم بالصدقة، فيرد الله عليهم قائلا: قل لهم: لا تقسموا... طاعتكم معروفة.
فأنتم تطيعون في السهل من الأمور كالصلاة مثلا، أما صعبها كتحكيم كتاب الله أو الجهاد أو الشيء يحتاج إلى بذل وعطاء فلستم معنا إن الله خبير بما تعملون.
قل لهم يا محمد: أطيعوا الله وأطيعوا رسوله في كل ما فرض الله وسن رسوله،
694
فإن تولوا واعرضوا فلا شيء أبدا، إذ لا تذر وازرة وزر أخرى فإنما على الرسول ما حمل، وعليه تنفيذ ما طلب منه، وعليكم إثم ما طلب منكم، ولم تقوموا بأدائه.
وإن تطيعوا الرسول تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ فقط وما يتصل به: وليس عليه الهداية والحساب فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ [سورة الغاشية ٢١- ٢٦].
دولة المؤمنين [سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
المفردات:
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ليجعلنهم خلفاء فيها وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ليجعلنه ممكنا بتثبيت قواعده وإعزاز جانبه مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أى: لا تلحقهم قدرة الله.
لما كشف الله سر المنافقين، وفضح حالهم، وعرفهم المؤمنون، وكان في ذلك تقليل لعددهم، وأراد الله أن يطمئن المؤمنين، ويشد أزرهم ببيان مكانة الدولة الإسلامية بين الدول.
695
المعنى:
- وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليجعلنهم خلفاء الله في أرضه ووعده ناجز، وقوله صادق فالله لا يخلف الميعاد وقد شرط الله ذلك بالإيمان والعمل الصالح فإن تحقق الشرط تحقق المشروط، والعكس صحيح، وقد حقق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فاستخلف المؤمنين في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، ومكّن لهم دينهم، وبدلهم من بعد خوفهم أمنا.
ولا يزال هذا شأن كل أمة مسلمة تؤمن بالله حقا وتعمل الصالح الذي أمر الله- تعالى- به. ونهى عن غيره، فأقاموا العدل والنظام وحكموا بما أمر الله، وأخذوا الحيطة لأنفسهم كجماعة ودولة.
والتمكين لهم في دينهم بإعزاز جانبه. وإرساء قواعده. وتقوية حجته. حتى يقبلوا عليه بنفوس اشتراها الله ليكون لهم الجنة فيجاهدون في سبيله بأموالهم وأنفسهم ابتغاء رضوانه.
وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً اعلم يا أخى أن المؤمنين بالله في كل عصر وزمن قلة بالنسبة لغيرهم فيريد الله أن يقلع جذور الخوف من قلوبهم. ويملؤها. إيمانا ويقينا وثباتا بنصر الله ومعونته وتأييده ودفاعه عنهم. ليعلموا أن النصر والنهاية الحسنة لهم ما داموا مؤمنين عاملين. عابدين حقا لا يشركون به شيئا. والإشراك بالله باب واسع يشمل الشرك في العقيدة كالمشركين والوثنيين، ويشمل الشرك في العمل كالمرائين والمتكبرين والمعجبين.
ولقد وعد الله المؤمنين أن يخلفهم في الأرض وأن يمكن لهم في دينهم وأن يبدل خوفهم أمنا إذا آمنوا إيمانا عميقا. وعملوا عملا وثيقا. وعبدوا الله عبادة خالصة يتحقق فيها قوله تعالى. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
ومن كفر بعد ذلك البيان الكامل الذي ينير الطريق. فأولئك هم الفاسقون الخارجون عن حدود الدين الصحيح وفي هذا تهديد ووعيد.
أيها المؤمنون إن العمل الصالح له دعائم. هي إقامة الصلاة التي هي عماد الدين التي تجر إلى فضائل كثيرة. وتنهى عن رذائل كثيرة، ولا تعترض بما يفعله بعض المصلين
696
من الخروج عن حدود الدين. فأولئك يأتون بصلاة لا روح فيها. صلاة من غير عقل إذ قد خلت من الخشوع والخضوع. وكمال الاستحضار الدعامة الثانية الزكاة فالصلاة لتقويم الفرد أولا ثم المجموع ثانيا. والزكاة لتقويم الجماعة. وتصفية الضمائر، وتقوية الأواصر. وتجعل الأمة كالبنيان المرصوص لهذا قرنت دائما بالصلاة في القرآن.
وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون. وفي هذا إجمال لكل ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلكم بعد هذا ترحمون وتلك هي الدعامة الثالثة.
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وفي هذا تبديد لمخاوفهم وتطمين لنفوسهم حتى لا يرهبون أعداء الله مع كثرتهم وقوتهم فإن الله معهم وناصرهم وهو القوى القادر فلا تظنوا أن الكفار مهما كانوا يعجزون الله هربا بل هم في قبضة الله، في الدنيا، وأما في الآخرة فمأواهم النار وبئس المصير مصيرهم.
والخلاصة أن دولة المؤمنين وعزهم وسلطانهم مشروط بالإيمان والعمل الصالح والعبادة الخالصة بلا إشراك مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول في كل ما جاء به فإن تخلوا عن ذلك أو عن جزء منه أصابهم الوهن والعجز والانحلال وتحكم فيهم عدوهم وعدو دينهم.
آداب لمن يعيشون في بيت واحد [سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
697
المفردات:
الظَّهِيرَةِ وقت الظهر لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ أى: لم يحتملوا، والبلوغ الذي هو مناط التكليف يكون بالاحتلام أو ببلوغ السن خمس عشرة سنة طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أى يطوفون عليكم وَالْقَواعِدُ النساء قعدن لكبرهن وضعفهن مُتَبَرِّجاتٍ التبرج الظهور والتكشف.
المعنى:
تلك آداب خاصة لمن يعيش في أسرة كبيرة في بيت واحد، ويكون فيه الإخوة والأولاد والخدم والعبيد مثلا، فالواحد منهم لم يدخل بيتا غير بيته حتى تشمله الآيات السابقة الخاصة بالاستئذان، وما من شخص إلا وله أحوال داخلية، لا يجب أن يطلع عليها إنسان، ولو كان ابنه، لهذا لم يتركنا القرآن الكريم الذي هو الدستور الإسلامى الإلهى بل أنقذنا من ذلك الحرج فقال:
يا أيها الذين آمنوا: ليستأذنكم المملوكون لكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات وكون الصبى غير مكلف لا يمنع أن وليه يعوده على ما يطلب منه من الآداب والحقوق ألا ترى إلى
قول الرسول: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم لعشر».
698
أما الأوقات الثلاث فهي: من قبل صلاة الفجر حين يستيقظ من نومه ويهب من فراشه، فيخلع ثوبا ويلبس ثوبا، ولعله بحاجة إلى خلوة في هذه الحال، ومن بعد صلاة العشاء حيث يكون قد فرغ من عمله، وتخلى عن تكاليف الحياة وأوى إلى أهل بيته ليأنس بهم، ويأنسوا به، وهو يستعد إلى النوم، وربما لبس ثيابا خاصة، ولا منغص له أكثر من طارئ يفاجئه على هذه الحال مهما كان، ولو كان صغيرا ما دام يعقل، ولم يتعرض لما بين الوقتين لندرة الدخول حينئذ ويمكنك أن تفهم بالإشارة استحباب تعجيل النوم عقب صلاة العشاء والتبكير باليقظة قبل صلاة الفجر فذلك أعون على انتظام الصحة العامة الوقت الثالث: حين تضعون ثيابكم من الظهيرة.
وليس محددا كأخويه إذ القيلولة قد يتعجلها إنسان. ويتأخر بها آخر. فلذلك قال وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ.
هي ثلاث عورات لكم. وهذا تعديل للحكم. وبيان لحكمة التشريع. والعورات كل ما يكره الإنسان أن يطلع عليه غيره.
أما في غير هذه الأوقات، فلا حرج ولا جناح عليكم فإن الإنسان في بيته حيث لم يكن في حجرته الخاصة لا يسوؤه أن يراه أحد من خدمه وأولاده مثلا بلا استئذان على أن من في البيت يطوفون عليكم بعضكم على بعض فلو استأذنوا لشق عليهم ذلك كذلك يبين لكم آياته الكاملة والله عليم بخلقه حكيم في حكمه يضع الأمور في نصابها.
وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم أى: بلغوا سن التكليف فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم في الآيات السابقة لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها
وهذا علاج لبعض البيوت غير المحافظة التي ترى أن الطفل وإن شب وترعرع فلا مانع من الاختلاط لأنه كان صغيرا وكانوا يطلعون عليه فهذه الآيات تمنع تلك العادة. والقواعد من النساء وهن من قعدن في البيوت أو كان أغلب أحوالهن القعود ولا يطمع فيهن لكبرهن ولا جناح عليهن ولا حرج في أن يضعن ثيابهن التي لا يفضى خلعها إلى كشف العورة مثل القناع والجلباب الذي يلبس فوق الملابس الداخلية، حالة كونهن غير متبرجات بزينة، وهذا المعنى هو الحد الفارق بين من يخشى منها الفتنة ومن لا يخشى منها ذلك، فالثانية لا جناح عليها أن تضع ثيابها التي لا تكشف
699
العورة بشرط عدم التبرج بالزينة ومع هذا فالاستعفاف، والاحتياط بالستر خير لهن وأكمل نسأل الله أن يوفقنا إلى العمل بكتابه وإرشاداته وأن يعصمنا من الزلل.
آداب إسلامية [سورة النور (٢٤) : آية ٦١]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
المفردات:
حَرَجٌ الحرج الضيق، وفي لسان الشرع هو الإثم والذنب أَشْتاتاً متفرقين مُبارَكَةً كثيرة الخير.
700
المعنى:
أراد الله- سبحانه وتعالى- وهو أرحم الراحمين بنا ألا يتركنا نتخبط في شيء حتى في الأمور العامة التي هي من المباحات وليست من العقائد والعبادات، أراد الحق- جل شأنه- أن يرسم لنا الطريق، ويؤدبنا بأدب الإسلام العالي في الأكل والشرب مع غيرنا.
وقد كان بعض الناس يأنف من الأكل مع الأعمى والأعرج والمريض مثلا حرصا على نفسه، أو حبّا في أن يتمتع صاحب العلة كل حسب ما يريد، فجاء القرآن ونفى الحرج والإثم عن ذلك وقال ما معناه: ليس على الأعمى والأعرج والمريض حرج وليس عليهم إثم في أن يأكلوا مع الأصحاء، وأن يجتمعوا معهن على مائدة واحدة، إذ الأمر أوسع مما تظنون أيها المتزمتون فالله يربينا على أن مسائل الأكل والشرب من توافه الأمور وبسائطها التي يجب ألا يعنى بها المسلم إلى هذه الدرجات لأننا نأكل لنعيش ولنقيم أودنا، ولسنا في الدنيا نعيش لنأكل كالبهائم والكفار.
والخلاصة: ليس على هؤلاء حرج في أن يأكلوا مع غيرهم من الأصحاء، وكذلك لا حرج على من يؤاكلهم على مائدة واحدة، وليس عليهم حرج أن يأكلوا من بيوت غيرهم حيث أباحوا لهم ذلك في غيبتهم.
وقوله تعالى: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ إلى آخر الآية إنما هو توسعة على الناس، وبيان لما تقتضيه أواصر الصلات والمحبة بين الأفراد، والآية أباحت لنا أن نأكل من أحد عشر موضعا بلا إذن حيث نعلم أنه لا يتألم، ولا تشح نفسه لذلك بل يسر فإن عرفت أن قريبك يتألم من أكلك طعامه في غيبته فإياك أن تأكل منه وكن عفيفا، والأحد عشر هم:
(١) الأكل من بيوتنا، ولعله أراد بيوت أبنائنا، فإن مقتضى الصلة الأكيدة التي بين الأب وابنه أن يجعل من بيوت الأبناء بيوتا للآباء.
(٢) أو بيوت آبائكم.
(٣) أو بيوت أمهاتكم.
(٤) أو بيوت إخوانكم.
(٥) أو بيوت أخواتكم.
(٦) أو بيوت أعمامكم. (٧) أو بيوت عماتكم.
701
(٨) أو بيوت أخوالكم.
(٩) أو بيوت خالاتكم.
(١٠) أو ما ملكتم مفاتحه، كأن تكونوا وكلاء عن أصحاب المال مثلا.
(١١) أو بيوت صديقكم، ومحل ذلك كله إذا كنت تعلم أنه يسر ويرضى كما هو مقتضى الصلة والصداقة والأخوة الإسلامية، فإذا ظننت أنه لا يرضى فحرام عليك الأكل
لقوله صلّى الله عليه وسلم. «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه».
والواقع يؤيد ذلك فإن من يأكل الطعام في غيبة صاحب البيت يعتبر هذا عملا يسر له صاحب البيت بل ربما كان مثل هذا العمل من دواعي إزالة بعض ما في النفوس.
ليس عليكم أن تأكلوا جميعا أى مجتمعين أو أشتاتا أى: متفرقين فلا حرج عليكم في هذا أو ذاك.
فإذا دخلتم بيوت الأقارب والأهل والأصدقاء فسلموا على من فيه بتحية الإسلام، وهذا أدب قرآنى أى إذا دخلتم بيتا أبيح لكم دخوله كبيت أبيك أو أخيك أو صديقك مثلا فلا تتهجم وتدخل بلا إذن بل عليك أن تستأذن وتسلم على من فيه بتحية الإسلام تحية من عند الله مباركة نامية كثيرة الخيرات والبركات.
على هذا النحو من البيان الرائع والأدب العالي، والتوجيه السليم جرت عادة القرآن الكريم أن يبين الله آياته فيه فتملأ قلوبنا حكمة، ونفوسنا رحمة، وحياتنا تنظيما وكل هذا لعلكم تعقلون فيزداد تمكنكم بها، وتعلقكم بأهدابها، ويكثر شكركم من أجلها والله أعلم.
من آداب الجماعة نحو الرسول صلّى الله عليه وسلم [سورة النور (٢٤) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
702
المفردات:
جامِعٍ أمر مهم يحتاج إلى الاجتماع والتشاور دُعاءَ الرَّسُولِ طلب الرسول لهم أن يجتمعوا يَتَسَلَّلُونَ التسلل الخروج خفية لِواذاً أى: متسترين بعضهم ببعض.
المعنى:
كان هذا خير ما يختم به تلك السورة العظيمة التي عالجت علاقة الناس مع بعضهم وبخاصة في الأسرة والبيوت وها هي الآن تعالج أدب الجلوس مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في أمر هام.
إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، وإذا كانوا مع النبي مجتمعين على أمر هام جامع، اجتمعوا فيه للتشاور وأخذ الرأى، لم يذهبوا حتى يستأذنوه، فالانصراف في هذه الحالة ضار بالشخص نفسه لحرمانه من شهود مجتمع هام، وضار بالمجتمعين أنفسهم، لما يلقيه من الوهن والضعف، وشديد على النبي صلّى الله عليه وسلّم لحرصه على هداية قومه، وانتفاعهم بكل مجالسه، لما فيها من الخير النافع لهم في دينهم ودنياهم، والآية
703
قد حصرت المؤمنين في من اجتمع فيه ثلاث خصال: الإيمان بالله، والإيمان برسوله، والتزام مجتمعه صلّى الله عليه وسلّم إذا كان أمر مهم فلا يذهب شخص حتى يستأذنه.
وفي هذا بيان لما يجب أن يكون عليه المؤمنون مع النبي صلّى الله عليه وسلم، وهذا الحكم يجرى مع الجماعة ورئيسها العام أم الخاص.
فالذين يذهبون ولا يستأذنون أولئك هم المنافقون، وليسوا من الإيمان في شيء وهذا ما يوافق سبب النزول، فقد
روى أن الآية نزلت في قوم منافقين كانوا ينصرفون عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أثناء الخطبة عند ما كانوا يحسون بالحرج والألم وقت أن يشرح النبي حال المنافقين.
إن الذين يستأذنونك، أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم، واستغفر لهم الله، وهذا يجعلنا نقول إن الاستئذان يكون للأمر المهم لا لكل أمر عارض، إن الإذن موكول للرئيس إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن والمفروض فيه أنه يعالج ما يعرض له حسب الحكمة، ويحسن بنا ألا ننصرف- ولو بإذن لبعض الشئون الهامة- حيث كان الاجتماع لأمر مهم يتعلق بالجماعة، وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ يفيد أن الإذن مهما كانت دواعية مما يقتضى الاستغفار.
يا أيها الناس لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم لبعض فإن النبي حينما يدعوكم لأمر يتعلق بدينكم أو بدنياكم يجب أن تأخذوه على أنه أمر مهم واجتماع من المصلحة العامة ألا تحرموا منه، ويجب أن تتقبلوه بصدر رحب ولا تظنوه كدعوة بعضكم لبعض في توافه الأمور، ودعاء بعضكم لبعض المراد منه دعاء من ليس له ولاية عليكم، فمتى ثبتت الولاية لشخص ثبت له الحكم، واعلموا أن الله يعلم الذين يتسللون ويخرجون خفية متسترين ببعض بلا إذن، وسيجازيهم على ذلك.
فليحذر الذين يخالفون خارجين عن أمره- سبحانه وتعالى- مهما كان ليحذروا أن تصيبهم فتنة في دينهم أو دنياهم أو يصيبهم عذاب أليم، وهذا تهديد شديد نشفق منه على الأمة الإسلامية ولعل ما يصيبنا من فتنة راجع لمخالفتنا أوامر القرآن في كل شيء.
وهذه الأوامر والتكاليف التي في السورة كلها يجب عليكم أن تتنبهوا لها، وتعملوا بها فإنها صادرة ممن يملك السماء وما فيها، والأرض وما عليها، ويعلم ما أنتم عليه من سر وجهر، ويوم يرجع الناس إليه فينبئهم بما عملوا ويجازيهم عليه، والله بكل شيء عليم.
704
Icon