تفسير سورة الغاشية

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الغاشية من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

٨٨- سورة الغاشية
مكية، وآيها ست وعشرون وقد تقدم حديث النعمان بن بشير " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ﴿ سبح اسم ربك الأعلى ﴾ والغاشية في صلاة العيد ويوم الجمعة " وروى الإمام١ مالك أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير :" بم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة ؟ قال ﴿ هل أتاك حديث الغاشية ﴾ رواه مسلم٢ وأبو داود وغيرهما ).
١ اخرجه في الموطأ في ٥- كتاب العمل في غسل يوم الجمعة حديث رقم ١٩ (طبعتنا)..
٢ أخرجه مسلم في ٧- كتاب الجمعة، حديث رقم ٦٢ (طبعتنا)..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الغاشية
مكية. وآيها ست وعشرون. وقد تقدم
حديث النعمان بن بشير أن رسول الله ﷺ كان يقرأ (سبح اسم ربك الأعلى والغاشية) في صلاة العيد ويوم الجمعة.
وروى الإمام مالك «١»
أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير: بما كان رسول الله ﷺ يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة؟ قال: هل أتاك حديث الغاشية (رواه مسلم «٢» وأبو داود وغيرهما).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ١ الى ٩]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ أي خبرها وقصتها، وهي القيامة. وأصل الغاشية الداهية التي تغشى الناس بشدائدها. والاستفهام للتعظيم والتعجب مما في حيزه، مع تقريره وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ أي ذليلة. وهي وجوه أهل الكفر بالحق والجحود له. والمراد بالوجوه الذوات عامِلَةٌ ناصِبَةٌ قال القاشاني: أي تعمل دائبا أعمالا صعبة تتعب فيها، كالهوي في دركات النار، والارتقاء في عقباتها، وحمل مشاق الصور والهيئات المتعبة المثقلة من آثار أعمالها. أو عاملة من استعمال الزبانية إياها في أعمال شاقة فادحة من جنس أعمالها التي ضربت بها في الدنيا، وأتعابها فيها من غير منفعة لهم منها إلا التعب والعذاب. وجوز أن يكون عامِلَةٌ ناصِبَةٌ إشارة إلى عملهم في الدنيا. أي عملت ونصبت في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة. فيكون
(١) أخرجه في الموطأ في: العمل في غسل يوم الجمعة، حديث رقم ١٩.
(٢) أخرجه مسلم في: الجمعة، حديث رقم ٦٢.
بمنزلة حابطة أعمالها. أو جعلت أعمالها هباء منثورا كما يدل عليه آيات أخر، ويؤيده مقابلة هذه الآية، لقوله في أهل الجنة لِسَعْيِها راضِيَةٌ وذلك السعي هو الذي كان في الدنيا. والله أعلم تَصْلى ناراً حامِيَةً أي تدخل نارا متناهية في الحرارة. قال القاشاني: أي مؤذية مؤلمة بحسب ما تزاولها في الدنيا من الأعمال تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أي بلغت غايتها في شدة الحر لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ وهو من جنس الشوك، ترعاه الإبل ما دام رطبا. فإذا يبس تحامته، وهو سم قاتل. قال ابن جرير: الضريع عند العرب نبت يقال له الشبرق، وتسميه أهل الحجاز الضريع، إذا يبس. ولا منافاة بين هذه الآية وآية: وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة: ٣٦].
لأن العذاب ألوان، والمعذبون طبقات. فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع وقيل الضريع مجاز أو كناية، أريد به طعام مكروه حتى للإبل التي تلتذ برعي الشوك، فلا ينافي كونه زقوما أو غسلينا لا يُسْمِنُ أي لا يخصب البدن وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ أي لا يسكن داعية النفس ولا نهمها من أجله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ أي ذات حسن، على أنه من النعومة، كناية عن حسن المنظر. أو ناعمة بمعنى متنعمة، على أنه من النعيم لِسَعْيِها راضِيَةٌ أي لعملها الذي عملته في الدنيا، وجدّها في طريق البر واكتساب الفضائل، شاكرة لا تندم ولا تتحسر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ١٠ الى ١٦]
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ أي مرتفعة المحل. أو رفيعة القدر، من علوّ المكانة.
لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً أي لغوا، أو كلمة ذات لغو، أو نفسا تلغو. لأن كلامهم الحكمة والعلوم والتسبيح والحميد فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ أي لا انقطاع لها فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ أي مرتفعة ليروا، إذا جلسوا عليها. جميع ما خولوه من النعيم والملك وَأَكْوابٌ جمع كوب، وهو إناء لا أذن له مَوْضُوعَةٌ أي بين أيديهم لا يعوزهم تفقدها وَنَمارِقُ أي وسائد مَصْفُوفَةٌ أي فوق الأسرة أو في جوانب المساكن للاستناد إليها وَزَرابِيُّ أي بسط مَبْثُوثَةٌ أي مفروشة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠)
461
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ قال أبو السعود: استئناف مسوق لتقرير ما فصل من حديث الغاشية، وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون، بالاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره. والهمزة للإنكار والتوبيخ. والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وكلمة (كيف) منصوبة بما بعدها، معلقة لفعل النظر.
والجملة في حيز الجر على أنها بدل اشتمال من (الإبل) أي أينكرون ما ذكر من البعث وأحكامه، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عزّ وجلّ، فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين، إلى أنها كيف خلقت خلقا بديعا معدولا به عن سنن خلقة سائر أنواع الحيوانات، في عظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيئتها اللائقة به تأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة، كالنوء بالأوقار الثقيلة وجر الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة. وفي صبرها على الجوع والعطش، حتى أن أظماءها لتبلغ العشر فصاعدا. واكتفائها باليسير، ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك، مما لا يكاد يرعاه سائر البهائم. وفي انقيادها مع ذلك الإنسان في الحركة والسكون والبروك والنهوض، حيث يستعملها في ذلك كيفما يشاء، ويقتادها بقطارها كل صغير وكبير وَإِلَى السَّماءِ التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار كَيْفَ رُفِعَتْ أي رفعت كواكبها رفعا سحيق المدى، وأمسك كل منها في مداره إمساكا لا يختل سيره ولا يفسده نظامه وَإِلَى الْجِبالِ أي التي ينزلون في أقطارها كَيْفَ نُصِبَتْ أي أقيمت منتصبة لا تبرح مكانها، حفظ للأرض من الميدان وَإِلَى الْأَرْضِ أي التي يضربون فيها ويتقلبون عليها كَيْفَ سُطِحَتْ أي بسطت ومهدت، حسبما يقتضيه صلاح أموره ما عليها من الخلائق.
قال الزمخشري: والمعنى أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق. حتى لا ينكروا اقتداره على البعث، فيسمعوا إنذار الرسول ﷺ ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه.
لطيفة:
ذكر السكاكي في (المفتاح) في بحث الجامع الخيالي أن جمعه على مجرى الإلف والعادة بحسب ما تنعقد الأسباب في استيداع الصور خزانة الخيال. وأنه إذا لم يوفه حقه من التيقظ وأنه من أهل المدر، أنى يستحلى كلام رب العزة مع أهل الوبر، حيث يبصرهم الدلائل ناسقا ذلك النسق أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ الآيات، لبعد البعير عن خياله في مقام النظر، ثم لبعده في خياله عن السماء، وبعد
462
خلقه عن رفعها. وكذا البواقي. لكن إذا وفاه حقه بتيقظه لما عليه تقلبهم في حاجاتهم، جاء الاستحلاء. وذلك إذا نظر أن أهل الوبر، إذا كان مطعمهم ومشربهم وملبسهم من المواشي، كانت عنايتهم مصروفة لا محالة إلى أكثرها نفعا، وهي الإبل. ثم إذا كان انتفاعهم بها لا يتحصل إلا بأن ترعى وتشرب، كان جلّ مرمى غرضهم نزول المطر، وأهم مسارح النظر عندهم السماء، ثم إذا كانوا مضطرين إلى مأوى يؤويهم وإلى حصن يتحصنون فيه ولا مأوى ولا حصن إلا الجبال.
لنا جبل يحتلّه من نجيره منيع يردّ الطرف وهو كليل
فما ظنك بالتفات خاطرهم إليها؟ ثم إذا تعذر طول مكثهم في منزل- ومن لأصحاب مواش بذاك- كان عقد الهمة عندهم بالتنقل من أرض إلى سواها من عزم الأمور. فعند نظره هذا، أيرى البدوي إذا أخذ يفتش عما في خزانة الصور له، لا يجد صورة الإبل حاضرة هناك أو لا يجد صورة السماء لها مقارنة، أو تعوزه صورة الجبال بعدهما، أو لا تنصّ إليه صورة الأرض تليها بعدهن؟ لا. وإنما الحضري، حيث لم تتآخذ عنده تلك الأمور، وما جمع خياله تلك الصور على ذلك الوجه وإذا تلا الآية قبل أن يقف على ما ذكرت، ظن النسق بجهله معيبا للعيب فيه. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ٢١ الى ٢٦]
فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦)
فَذَكِّرْ أي من أرسلت إليه بآياته تعالى، التي تسوق إلى الإيمان بخالقها الفطرة إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أي مبلغ ما نسي من أمره تعالى: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي بمتسلط تقهرهم على الإيمان. وقرئ بالصاد على إبدالها من السين إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ وهو عذاب جهنم. والاستثناء منقطع. أي لكن من تولى وكفر، فإن لله الولاية والقهر، فهو يعذبه العذاب الأكبر على جحده الحق إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ أي رجوعهم ومعادهم بالموت والبعث. والجملة تعليل لتعذيبه تعالى بالعذاب الأكبر. وجمع الضمير فيه وفيما بعده، باعتبار معنى (من) كما أن إفراده قبل باعتبار لفظها ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ أي فنجازيهم بالعذاب الأكبر. فإن القهر والغلبة له تعالى وحده.
Icon