تفسير سورة الفاتحة

تفسير الشعراوي
تفسير سورة سورة الفاتحة من كتاب تفسير الشعراوي .
لمؤلفه الشعراوي . المتوفي سنة 1419 هـ
فاتحة الكتاب هي أم الكتاب، لا تصلح الصلاة بدونها، فأنت في كل ركعة تستطيع أن تقرأ آية من القرآن الكريم، تختلف عن الآية التي قرأتها في الركعة السابقة، وتختلف عن الآيات التي قرأتها في صلواتك.. ولكن إذا لم تقرأ الفاتحة فسدت الصلاة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلى صلاة لم يقرأ فيها أم القرآن فهي خداج ثلاثا غير تام " ١ أي غير صالحة.
فالفاتحة أم الكتاب التي لا تصلح الصلاة بدونها، والله سبحانه وتعالى يقول في حديث قدسي : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل.. فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين. قال الله عز وجل حمدني عبدي. فإذا قال : الرحمن الرحيم، قال الله عز وجل : أثنى علي عبدي، فإذا قال مالك يوم الدين، قال الله عز وجل مجدني عبدي.. فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين، قال الله عز وجل هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل.. وإذا قال :﴿ اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ﴾ قال الله عز وجل : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل٢.
وعلينا أن نتنبه ونحن نقرأ هذا الحديث القدسي أن الله تعالى يقول : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي، ولم يقل قسمت الفاتحة بيني وبين عبدي، ففاتحة الكتاب هي أساس الصلاة، وهي أم الكتاب.
١ رواه مسلم في صحيحه بسنده عن أبي هريرة..
٢ رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حيان عن أبي هريرة،.
القرآن الكريم منذ اللحظة التي نزل فيها نزل مقرونا بسم الله سبحانه وتعالى ؛ ولذلك حينما نتلوه فإننا نبدأ البداية نفسها التي أرادها الله تبارك وتعالى، وهي أن تكون البداية بسم الله.
وأول الكلمات التي نطق بها الوحي لمحمد صلى الله عليه وسلم كانت ﴿ اقرأ بسم ربك الذي خلق ﴾. وهكذا كانت بداية نزول القرآن الكريم ليمارس مهمته في الكون.. هي بسم الله. ونحن الآن حينما نقرأ القرآن نبدأ نفس البداية.
ولقد كان محمد عليه الصلاة والسلام في غار حراء حينما جاءه جبريل وكان أول لقاء بين الملك الذي يحمل الوحي بالقرآن.. وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الحق تبارك وتعالى :﴿ اقرأ ﴾. واقرأ تتطلب أن يكون الإنسان.. إما حافظا لشيء يحفظه، أو أمامه شيء مكتوب ليقرأه.. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حافظا لشيء يقرؤه.. وما كان أمامه كتاب ليقرأ منه.. وحتى لو كان أمامه كتاب فهو أمي لا يقرأ ولا يكتب.
وعندما قال جبريل : " اقرأ ".. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ.. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم منطقيا مع قدراته. وتردد القول ثلاث مرات.. جبريل عليه السلام بوحي من الله سبحانه وتعالى يقول للرسول : " اقرأ " ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما أنا بقارئ.. ولقد أخذ خصوم الإسلام هذه النقطة.. وقالوا كيف يقول الله لرسوله اقرأ ويرد الرسول ما أنا بقارئ.
نقول إن الله تبارك وتعالى.. كان يتحدث بقدراته التي تقول للشيء كن فيكون، بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحدث ببشريته التي تقول إنه لا يستطيع أن يقرأ كلمة واحدة، ولكن قدرة الله هي التي ستأخذ هذا النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب لتجعله معلما. للبشرية كلها إلى يوم القيامة.. لأن كل البشر يعلمهم بشر.. ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم سيعلمه الله سبحانه وتعالى. ليكون معلما لأكبر علماء البشر.. يأخذون عنه العلم والمعرفة. لذلك جاء الجواب من الله سبحانه وتعالى :
} اقرأ باسم ربك الذي خلق " ١ " خلق الإنسان من علقٍ " ٢ " { ( سورة العلق ).
أي أن الله سبحانه وتعالى. الذي خلق من عدم. سيجعلك تقرأ على الناس ما يعجز علماء الدنيا وحضارات الدنيا على أن يأتوا بمثله.. وسيكون ما تقرأه وأنت النبي الأمي إعجازا.. ليس لهؤلاء الذين سيسمعونه منك لحظة نزوله. ولكن للدنيا كلها وليس في الوقت الذي ينزل فيه فقط، ولكن حتى قيام الساعة، ولذلك قال جل جلاله :
﴿ اقرأ وربك الأكرم " ٣ " الذي علم بالقلم " ٤ " ﴾( سورة العلق ).
أي أن الذي ستقرؤه يا محمد.. سيظل معلما للإنسانية كلها إلى نهاية الدنيا على الأرض.. ولأن المعلم هو الله سبحانه وتعالى قال :﴿ اقرأ وربك الأكرم ﴾ مستخدما صيغة المبالغة. فهناك كريم وأكرم.. فأنت حين تتعلم من بشر فهذا دليل على كرم الله جل جلاله.. لأنه يسر لك العلم على يد بشر مثلك.. أما إذا كان الله هو الذي سيعلمك.. يكون " أكرم ".. لأن ربك قد رفعك درجة عالية ليعلمك هو سبحانه وتعالى..
والحق يريد أن يلفتنا إلى أن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يقرأ القرآن لأنه تعلم القراءة، ولكنه يقرؤه بسم الله، ومادام بسم الله.. فلا يهم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلم من بشر أو لم يتعلم. لأن الذي علمه هو الله.. وعلمه فوق مستوى البشرية كلها.
على أننا نبدأ أيضا تلاوة القرآن بسم الله.. لأن الله تبارك وتعالى هو الذي أنزله لنا.. ويسر لنا أن نعرفه ونتلوه.. فالأمر لله علما وقدرة ومعرفة.. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى :
﴿ قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ " ١٦ " ﴾( سورة يونس ).
لذلك أنت تقرأ القرآن بسم الله.. لأنه جل جلاله هو الذي يسره لك كلاما وتنزيلا وقراءة.. ولكن هل نحن مطالبون أن نبدأ فقط تلاوة القرآن بسم الله ؟.. إننا مطالبون أن نبدأ كل عمل بسم الله.. لأننا لابد أن نحترم عطاء الله في كونه. فحين نزرع الأرض مثلا.. لابد أن نبدأ بسم الله.. لأننا لم نخلق الأرض التي نحرثها.. ولا خلقنا البذرة التي نبذرها. ولا أنزلنا الماء من السماء لينمو الزرع.
إن الفلاّح الذي يمسك الفأس ويرمي البذرة قد يكون أجهل الناس بعناصر الأرض ومحتويات البذرة وما يفعله الماء في التربة لينمو الزرع.. إن كل ما يفعله الإنسان هو أنه يعمل فكره المخلوق من الله في المادة المخلوقة من الله.. بالطاقة التي أوجدها الله في أجسادنا ليتم الزرع.
والإنسان لا قدرة له على إرغام الأرض لتعطيه الثمار.. ولا قدرة له على خلق الحبة لتنمو وتصبح شجرة. ولا سلطان له على إنزال الماء من السماء.. فكأنه حين يبدأ العمل بسم الله، يبدؤه بسم الله الذي سخر له الأرض.. وسخر له الحَبّ، وسخر له الماء، وكلها لا قدرة له عليها.. ولا تدخل في طاقته ولا في استطاعته.. فكأنه يعلن أنه يدخل على هذه الأشياء جميعا باسم من سخرها له..
والله تبارك وتعالى سخر لنا الكون جميعا وأعطانا الدليل على ذلك. فلا تعتقد أن لك قدرة أو ذاتية في هذا الكون.. ولا تعتقد أن الأسباب والقوانين في الكون لها ذاتية. بل هي تعمل بقدرة خالقها. الذي إن شاء أجراها وإن شاء أوقفها.
الجمل الضخم والفيل الهائل المستأنس قد يقودهما طفل صغير فيطيعانه. ولكن الحية صغيرة الحجم لا يقوى أي إنسان على أن يستأنسها. ولو كنا نفعل ذلك بقدراتنا.. لكان استئناس الحية أو الثعبان سهلا لصغر حجمهما.. ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعلهما مثلا لنعلم أنه بقدراته هو قد أخضع لنا ما شاء، ولم يخضع لنا ما شاء. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى :
﴿ أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون " ٧١ " وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون " ٧٢ " ﴾ ( سورة يس ).
وهكذا نعرف أن خضوع هذه الأنعام لنا هو بتسخير الله لها وليس بقدرتنا.
يأتي الله سبحانه وتعالى إلى أرض ينزل عليها المطر بغزارة. والعلماء يقولون إن هذا يحدث بقوانين الكون. فيلفتنا الله تبارك وتعالى إلى خطأ هذا الكلام. بأن تأتي مواسم جفاف لا تسقط فيها حبة مطر واحدة لنعلم أن المطر لا يسقط بقوانين الكون ولكن بإرادة خالق الكون.. فإذا كانت القوانين وحدها تعمل فمن الذي عطلها ؟ ولكن إرادة الخالق فوق القوانين، إن شاءت جعلتها تعمل، وإن شاءت جعلتها لا تعمل.. إذن فكل شيء في الكون بسم الله.. هو الذي سخر وأعطى.. وهو الذي يمنح ويمنع. حتى في الأمور التي للإنسان فيها نوع من الاختيار.. واقرأ قول الحق تبارك وتعالى :
﴿ لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور " ٤٩ " أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً ويجعل من يشاء عقيماً إنه عليم قدير " ٥٠ " ﴾( سورة الشورى ).
والأصل في الذرية أنها تأتي من اجتماع الذكر والأنثى.. هذا هو القانون.. ولكن القوانين لا تعمل إلا بأمر الله.. لذلك يتزوج الرجل والمرأة ولا تأتي الذرية لأنه ليس القانون هو الذي يخلق.. ولكنها إرادة خالق القانون.. إن شاء جعله يعمل.. وإن شاء يبطل عمله.. والله سبحانه وتعالى لا تحكمه القوانين ؛ ولكنه هو الذي يحكمها.
وكما أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل القوانين تفعل أو لا تفعل.. فهو قادر على أن يخرق القوانين.. خذ مثلا قصة زكريا عليه السلام.. كان يكفل مريم ويأتيها بكل ما تحتاجه.. ودخل عليها ليجد عندها ما لم يحضره لها..
وسألها وهي القديسة العابدة الملازمة لمحرابها.. ﴿ قال يا مريم أنى لك هذا " ٣٧ " ﴾( سورة آل عمران ).
الحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة.. مع أن مريم بسلوكها وعبادتها وتقواها فوق كل الشبهات.. ولكن لنعرف أن الذي يفسد الكون.. هو عدم السؤال عن مصدر الأشياء التي لا تتناسب مع قدرات من يحصل عليها..
الأم ترى الأب ينفق ما لا يتناسب مع مرتبه.. وترى الابنة ترتدي ما هو أكبر كثيرا من مرتبها أو مصروفها.. ولو سألت الأم أو الأب أو الابنة من أين لك هذا، لَمَا فسد المجتمع.. ولكن الفساد يأتي من أننا نغمض أعيننا عن المال الحرام.
بماذا ردت مريم عليها السلام ؟
﴿ قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " ٣٧ " ﴾ ( سورة آل عمران ).
إذن فطلاقة قدرة الله لا يحكمها قانون.. لقد لفتت مريم زكريا عليهما السلام إلى طلاقة القدرة.. فدعا زكريا ربه في قضية لا تنفع فيها إلا طلاقة القدرة.. فهو رجل عجوز وامرأته عجوز وعاقر ويريد ولدا.. هذه قضية ضد قوانين الكون.. لأن الإنجاب لا يتم إلا وقت الشباب، فإذا كبر الرجل وكبرت المرأة لا ينجبان.. فما بالك إذا كانت الزوجة أساسا عاقرا.. لم تنجب وهي شابة وزوجها شاب.. فكيف تنجب وهي عجوز وزوجها عجوز.. هذه مسألة ضد القوانين التي تحكم البشر.. ولكن الله وحده القادر على أن يأتي بالقانون وضدِّه.. ولذلك شاء أن يرزق زكريا بالولد وكان.. ورزق زكريا بابنه يحيى.
إذن كل شيء في هذا الكون بسم الله.. يتم بسم الله وبإذن من الله.. الكون تحكمه الأسباب نعم ؛ ولكن إرادة الله فوق كل الأسباب.
أنت حين تبدأ كل شيء بسم الله.. كأنك تجعل الله في جانبك يعينك.. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا أن نبدأ كل شيء بسم الله.. لأن الله هو الاسم الجامع لصفات الكمال سبحانه وتعالى.. والفعل عادة يحتاج إلى صفات متعددة.. فأنت حين تبدأ عملا تحتاج إلى قدرة الله وإلى عونه وإلى رحمته.. فلو أن الله سبحانه وتعالى لم يخبرنا بالاسم الجامع لكل الصفات.. كان علينا أن نحدد الصفات التي نحتاج إليها.. كأن نقول بسم الله القوي وبسم الله الرازق وبسم الله المجيب وبسم الله القادر وبسم الله النافع.. إلى غير ذلك من الأسماء والصفات التي نريد أن نستعين بها.. ولكن الله تبارك وتعالى جعلنا نقول : بسم الله، بسم الله، بسم الله الجامع لكل هذه الصفات.
على أننا لابد أن نقف هنا عند الذين لا يبدأون أعمالهم بسم الله، وإنما يريدون الجزاء المادي وحده.. إنسان غير مؤمن لا يبدأ عمله بسم الله.. وإنسان مؤمن يبدأ كل عمل وفي باله الله.. كلاهما يأخذ من الدنيا لأن الله رب للجميع.. له عطاء ربوبية لكل خلقه الذين استدعاهم للحياة.. ولكن الدنيا ليست هي الحياة الحقيقية للإنسان.. بل الحياة الحقيقية هي الآخرة.. الذي في باله الدنيا وحدها يأخذ بقدر عطاء الربوبية.. بقدر عطاء الله في الدنيا.. والذي في باله الله يأخذ بقدر عطاء الله في الدنيا والآخرة.. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير ﴾ ( سورة سبأ : ١ ) ؛ لأن المؤمن يحمد الله على نعمه في الدنيا.. ثم يحمده عندما ينجيه من النار والعذاب ويدخله الجنة في الآخرة.. فلله الحمد في الدنيا والآخرة.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم أقطع ". ١
ومعنى أقطع أي مقطوع الذنب أو الذيل.. أي عمل ناقص، فيه شيء ضائع.. ؛ لأنك حين لا تبدأ العمل بسم الله قد يصادفك الغرور والطغيان بأ
١ رواه السيوطي في الجامع الصغير، وعزاه لعبد القادر الرهاوي في أول كتاب(الأربعين) عن أبي هريرة بإسناد حسن ورواه ابن كثير في تفسيره بلفظ "فهو أجذم"..
فإذا انتقلنا بعد ذلك إلى قوله تعالى :﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾ فالله محمود لذاته ومحمود لصفاته، ومحمود لنعمه، ومحمود لرحمته، ومحمود لمنهجه، ومحمود لقضائه، الله محمود قبل أن يخلق من يحمده. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل الشكر له في كلمتين اثنتين هما : الحمد لله.
والعجيب أنك حين تشكر بشرا على جميل فعله تظل ساعات وساعات.. تعد كلمات الشكر والثناء، وتحذف وتضيف وتأخذ رأي الناس. حتى تصل إلى قصيدة أو خطاب ملئ بالثناء والشكر. ولكن الله سبحانه وتعالى جلت قدرته وعظمته نعمه لا تعد ولا تحصى، علمنا أن نشكره في كلمتين اثنتين هما : الحمد لله..
ولعلنا نفهم أن المبالغة في الشكر للبشر مكروهة لأنها تصيب الإنسان بالغرور والنفاق وتزيد العاصي في معاصيه.. فلْنُقَلِّلْ من الشكر والثناء للبشر.. لأننا نشكر الله لعظيم نعمه علينا بكلمتين هما : الحمد لله، ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا صيغة الحمد. فلو أنه تركها دون أن يحددها بكلمتين.. لكان من الصعب على البشر أن يجدوا الصيغة المناسبة ليحمدوا الله على هذا الكمال الإلهي.. فمهما أوتي الناس من بلاغة وقدرة على التعبير. فهم عاجزون عن أن يصلوا إلى صيغة الحمد التي تليق بجلال المنعم.. فكيف نحمد الله والعقل عاجز أن يدرك قدرته أو يحصي نعمه أو يحيط برحمته ؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعطانا صورة العجز البشري عن حمد كمال الألوهية لله، فقال : " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ".
وكلمتا الحمد لله، ساوى الله بهما بين البشر جميعا، فلو أنه ترك الحمد بلا تحديد، لتفاوتت درجات الحمد بين الناس بتفاوت قدراتهم على التعبير. فهذا أمي لا يقرأ ولا يكتب لا يستطيع أن يجد الكلمات التي يحمد بها الله. وهذا عالم له قدرة على التعبير يستطيع أن يأتي بصيغة الحمد بما أوتي من علم وبلاغة. وهكذا تتفاوت درجات البشر في الحمد.. طبقا لقدرتهم في منازل الدنيا.
ولكن الحق تبارك وتعالى شاء عدله أن يسوي بين عباده جميعا في صيغة الحمد له.. فيعلمنا في أول كلماته في القرآن الكريم.. أن نقول " الحمد لله " ليعطي الفرصة المتساوية لكل عبيده بحيث يستوي المتعلم وغير المتعلم في عطاء الحمد، ومن أوتي البلاغة ومن لا يحسن الكلام.
ولذلك فإننا نحمد الله سبحانه وتعالى على أنه علمنا كيف نحمده وليظل العبد دائما حامدا، ويظل الله دائما محمودا.. فالله سبحانه وتعالى قبل أن يخلقنا خلق لنا موجبات الحمد من النعم، فخلق لنا السماوات والأرض وأوجد لنا الماء والهواء. ووضع في الأرض أقواتها إلى يوم القيامة.. وهذه نعمة يستحق الحمد عليها لأنه جل جلاله جعل النعمة تسبق الوجود الإنساني، فعندما خلق الإنسان كانت النعمة موجودة تستقبله. بل إن الله جل جلاله قبل أن يخلق آدم أبا البشر جميعا سبقته الجنة التي عاش فيها لا يتعب ولا يشقى. فقد خُلِق فَوَجَد ما يأكله وما يشربه وما يقيم حياته وما يتمتع به موجودا وجاهزا ومعدا قبل الخلق.. وحينما نزل آدم وحواء إلى الأرض كانت النعمة قد سبقتهما. فوجدا ما يأكلانه وما يشربانه، وما يقيم حياتهما.. ولو أن النعمة لم تسبق الوجود الإنساني وخلقت بعده لهلك الإنسان وهو ينتظر مجيء النعمة.
بل إن العطاء الإلهي للإنسان يعطيه النعمة بمجرد أن يخلق في رحم أمه، فيجد رحما مستعدا لاستقباله وغذاء يكفيه طول مدة الحمل. فإذا خرج إلى الدنيا يضع الله في صدر أمه لبنا ينزل وقت أن يجوع ويمتنع وقت أن يشبع. وينتهي تماما عندما تتوقف فترة الرضاعة. ويجد أبا وأما يوفران له مقومات حياته حتى يستطيع أن يعول نفسه.. وكل هذا يحدث قبل أن يصل الإنسان إلى مرحلة التكليف وقبل أن يستطيع أن ينطق : " الحمد لله ".
وهكذا نرى أن النعمة تسبق المنعم عليه دائما.. فالإنسان حيث يقول " الحمد لله " فلأن موجبات الحمد وهي النعمة موجودة في الكون قبل الوجود الإنساني.
والله سبحانه وتعالى خلق لنا في هذا الكون أشياء تعطي الإنسان بغير قدرة منه ودون خضوع له، والإنسان عاجز عن أن يقدم لنفسه هذه النعم التي يقدمها الحق تبارك وتعالى له بلا جهد. فالشمس تعطي الدفء والحياة للأرض بلا مقابل وبلا فعل من البشر، والمطر ينزل من السماء دون أن يكون لك جهد فيه أو قدرة على إنزاله. والهواء موجود حولك في كل مكان تتنفس منه دون جهد منك ولا قدرة. والأرض تعطيك الثمر بمجرد أن تبذر فيها الحب وتسقيه. فالزرع ينبت بقدرة الله.. والليل والنهار يتعاقبان حتى تستطيع أن تنام لترتاح، وأن تسعى لحياتك.. لا أنت أتيت بضوء النهار، ولا أنت الذي صنعت ظلمة الليل، ولكنك تأخذ الراحة في الليل والعمل في النهار بقدرة الله دون أن تفعل شيئاً.
كل هذه الأشياء لم يخلقها الإنسان، ولكنه خُلق ليجدها في الكون تعطيه بلا مقابل ولا جهد منه. ألا تستحق أن نقول الحمد على نعمة تسخير الكون لخدمة الإنسان ؟ إنها تقتضي وجوب الحمد.
وآيات الله سبحانه وتعالى في كونه تستوجب الحمد..
فالحياة التي وهبها الله لنا، والآيات التي أودعها في كونه لتدلنا على أن لهذا الكون خالقاً عظيماً..
والكون بشمسه وقمره ونجومه وأرضه وكل ما فيه مما يفوق قدرة الإنسان.. ولا يستطيع أحد أن يدعيه لنفسه. فلا أحد مهما بلغ علمه يستطيع أن يدعي أنه خلق الشمس، أو أوجد النجوم، أو وضع الأرض أو وضع قوانين الكون، أو أعطى غلافها الجوي.. أو خلق نفسه، أو خلق غيره.
هذه الآيات كلها أعطتنا الدليل على وجود قوة عظمى. وهي التي أوجدت وهي التي خلقت.. وهذه الآيات ليست ساكنة، لتجعلنا في سكونها ننساها، بل هي متحركة لتلفتنا إلى خالق هذا الكون العظيم.
فالشمس تشرق في الصباح فتذكرنا بإعجاز الخلق، وتغيب في المساء لتذكرنا بعظمة الخالق.. وتَعاقُبُ الليل والنهار يَحدُث أمامنا كل يوم علّنا نلتفت ونفيق.. والمطر ينزل من السماء ليذكرنا بألوهية من أنزله.. والزرع يخرج من الأرض يسقى بماء واحد، ومع ذلك فإن كل نوع له لون وله شكل وله مذاق وله رائحة.. وله تكوين يختلف عن الآخر، ويأتي الحصاد فيختفي الثمر والزرع.. ويأتي موسم الزراعة فيعود من جديد.
كل شيء في هذا الكون متحرك ليذكرنا إذا نسينا. ويعلمنا أن هناك خالقاً عظيماً.
ونستطيع أن نمضي في ذلك بلا نهاية، فنعم الله لا تعد ولا تحصى.. وكل واحدة منها تدلنا على وجود الحق سبحانه وتعالى، وتعطينا الدليل الإيماني على أن لهذا الكون خالقاً مبدعاً.. وأنه لا أحد يستطيع أن يدعي أنه خلق الكون أو خلق شيئاً مما فيه.. فالقضية محسومة لله. و( الحمد لله )لأنه وضع في نفوسنا الإيمان الفطري، ثم أيده بإيمان عقلي بآياته في كونه.
بل إن كل شيء في هذا الكون يقتضي الحمد، ومع ذلك فإن الإنسان يمتدح الوجود وينسى الموجود ! ! أنت حين ترى جوهرة جميلة مثلاً أو زهرة غاية في الإبداع.. أو أي خلق من خلق الله، يشيع في نفسك الجمال تمتدح هذا الخلق.. فتقول : ما أجمل هذه الزهرة، أو هذه الجوهرة، أو هذا المخلوق.. ولكن المخلوق الذي امتدحته، لم يعط صفة الجمال لنفسه.. فالزهرة لا دخل لها أن تكون جميلة أو غير جميلة، والجوهرة لا دخل لها في عظمة خلقها.. وكل شيء في هذا الكون لم يضع الجمال لنفسه، وإنما الذي وضع الجمال فيه هو الله سبحانه وتعالى، فلا نخلط ونمدح المخلوق وننسى الخالق.. بل قل : الحمد لله الذي أوجد في الكون ما يذكرنا بعظمة الخالق ودقة الخلق.
ومنهج الله سبحانه وتعالى يقتضي منا الحمد.. لأن الله أنزل منهجه ليرينا طريق الخير، ويبعدنا عن طريق الشر.
فمنهج الله الذي أنزله على رسله قد عرّفنا أن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق لنا هذا الكون وخلقنا.. فدقة الخلق وعظمته تدلنا على أن هناك خالقا عظيما.. ولكنها لا تستطيع أن تقول لنا من هو، ولا ماذا يريد منا، ولذلك أرسل الله رسله، ليقولوا لنا : إن الذي خلق هذا الكون وخلقنا هو الله تبارك وتعالى، وهذا يستوجب الحمد.
ومنهج الله بيّن لنا ماذا يريد الحق منا، وكيف نعبده.. وهذا يستوجب الحمد، ومنهج الله جل جلاله أعطانا الطريق وشرع لنا أسلوب حياتنا تشريعاً حقاً.. فالله تبارك وتعالى لا يفرق بين أحد منا.. ولا يفضل أحداً على أحد إلا بالتقوى، فكلنا خلق متساوون أمام الله جل جلاله.
إذن : فشريعة الحق، وقول الحق، وقضاء الحق، هو من الله، أما تشريعات الناس فلها هوى، تميز بعضاً عن بعض.. وتأخذ حقوق بعض لتعطيها للآخرين، ولذلك نجد في كل منهج بشرى ظلماً بشرياً. فالدول الشيوعية أعضاء اللجنة المركزية فيها هم أصحاب النعمة والترف. بينما الشعب كله في شقاء.. لأن هؤلاء الذي شرعوا اتبعوا هواهم. ووضعوا مصالحهم فوق كل مصلحة.. وكذلك في الدول الرأسمالية. أصحاب رأس المال يأخذون كل الخير.
ولكن الله سبحانه وتعالى حين نزّل لنا المنهج قضى بالعدل بين الناس.. وأعطى كل ذي حق حقه. وعلّمنا كيف تستقيم الحياة على الأرض عندما تكون بعيدة عن الهوى البشري خاضعة لعدل الله، وهذا يوجب الحمد.
والحق سبحانه وتعالى يستحق منا الحمد ؛ لأنه لا يأخذ منا ولكنه يعطينا. فالبشر في كل عصر يحاولون استغلال البشر.. لأنهم يطمعون فيما بين أيديهم من ثروات وأموال، ولكن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى ما في أيدينا، إنه يعطينا ولا يأخذ منا، عنده خزائن كل شيء مصداقا لقوله جل جلاله :﴿ وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم " ٢١ " ﴾
( سورة الحجر ).
فالله سبحانه وتعالى دائم العطاء لخلقه، والخلق يأخذون دائماً من نعم الله، فكأن العبودية لله تعطيك ولا تأخذ منك شيئاً، وهذا يستوجب الحمد..
والله سبحانه وتعالى في عطائه يحب أن يطلب منه الإنسان، وأن يدعوه، وأن يستعين به، وهذا يوجب الحمد ؛ لأنه يقينا الذل في الدنيا. فأنت إن طلبت شيئاً من صاحب نفوذ، فلابد أن يحدد لك موعداً أو وقت الحديث ومدة المقابلة، وقد يضيق بك فيقف لينهي اللقاء.. ولكن الله سبحانه وتعالى بابه مفتوح دائماً.. فأنت بين يديه عندما تريد، وترفع يديك إلى السماء وتدعو وقتما تحب، وتسأل الله ما تشاء، فيعطيك ما تريده إن كان خيراً لك.. ويمنع عنك ما تريده إن كان شراً لك.
والله سبحانه وتعالى يطلب منك أن تدعوه، وأن تسأله فيقول :
﴿ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين " ٦٠ " ﴾ ( سورة غافر ).
ويقول سبحانه وتعالى :
﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون " ١٨٦ " ﴾( سورة البقرة ).
والله سبحانه وتعالى يعرف ما في نفسك، ولذلك فإنه يعطيك دون تسأل. واقرأ الحديث القدسي :
يقول رب العزة :
" من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين " ١. والله سبحانه وتعالى عطاؤه لا ينفذ، وخزائنه لا تفرغ، فكلما سألته جل جلاله كان لديه المزيد، ومهما سألته فإنه لا شيء عزيز على الله سبحانه وتعالى، إذا أراد أن يحققه لك..
واقرأ قول الشاعر :
فإذا انتقلنا إلى قوله تعالى :﴿ الرحمن الرحيم ﴾ فمن موجبات الحمد أن الله سبحانه وتعالى رحمن رحيم.. يعطي نعمه في الدنيا لكل عباده عطاء ربوبية، وعطاء الربوبية للمؤمن والكافر.. وعطاء الربوبية لا ينقطع إلا عندما يموت الإنسان..
والله لا يحجب نعمه عن عبيده في الدنيا.. ونعم الله لا تعد ولا تحصى ومع كل التقدم في الآلات الحاسبة والعقول الإلكترونية وغير ذلك فإننا لم نجد أحدا يتقدم ويقول أنا سأحصي نعم الله.. لأن موجبات الإحصاء أن تكون قادرا عليه.. فأنت لا تقبل على عد شيء إلا إذا كان في قدرتك أن تحصيه.. ولكن مادام ذلك خارج قدرتك وطاقاتك فإنك لا تقبل عليه.. ولذلك لن يقبل أحد حتى يوم القيامة على إحصاء نعم الله تبارك وتعالى لأن أحدا لا يمكن أن يحصيها. ولابد أن نلتفت إلي أن الكون كله يضيق بالإنسان، وأن العالم المقهور الذي يخدمنا بحكم القهر والتسخير يضيق حين يرى العاصين.. لأن المقهور مستقيم على منهج الله قهرا.. فحين يرى كل مقهور الإنسان الذي هو خدمته عاصيا يضيق.
وقرأ الحديث القدسي لتعرف شيئا عن رحمة الله بعباده.. يقول الله عز وجل :
ما من يوم تطلع شمسه إلا وتنادي السماء تقول يا رب إئذن لي أن أسقط كسفا على ابن آدم ؛ فقد طعم خيرك ومنع شكرك. وتقول البحار يا رب إئذن لي أن أغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك. وتقول الجبال يا رب إئذن لي أن أطبق على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك. فيقول الله تعالى : دعوهم دعوهم لو خلقتموهم لرحمتموهم إنهم عبادي فإن تابوا إلي فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم " رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده ".
تلك تجليات صفة الرحمن وصفة الرحيم.. وكيف ضمنت لنا بقاء كل ما يخدمنا في هذا الكون مع معصية الإنسان.. أنها كلها تخدمنا بعطاء الربوبية وتبقى في خدمتنا بتسخير الله لها لأنه رحمن رحيم.. بعض الناس قد يتساءل هل تتكلم الأرض والسماء وغيرها من المخلوقات في عالم الجماد والنبات والحيوان ؟ نقول نعم إن لها لغة لا نعرفها نحن وإنما يعرفها خالقها.. بدليل أنه منذ الخلق الأول أبلغنا الحق تبارك وتعالى أن هناك لغة لكل هذه المخلوقات.. واقرأ قوله جل جلاله :
﴿ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين " ١١ " ﴾( سورة فصلت ).
إذن فالأرض والسماء فهمت عن الله.. وقالت له سبحانه وتعالى ﴿ أتينا طائعين ﴾ ألم يعلم الله سليمان منطق الطير ولغة النملة ؟ ألم تسبح الجبال مع داود ؟ إذن كل خلق الله له إدراكات مناسبة له.. بل له عواطف.. فعندما تكلم الله سبحانه وتعالى عن قوم فرعون.. قال :
﴿ كم تركوا من جنات وعيون " ٢٥ " وزروع ومقامٍ كريمٍ " ٢٦ " ونعمة كانوا فيها فاكهين " ٢٧ " كذلك وأورثناها قوماً آخرين " ٢٨ " فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين " ٢٩ " ﴾( سورة إبراهيم ).
إذن فالسماوات والأرض لهما انفعال.. انفعال يصل إلى مرحلة البكاء.. فهما لم تبكيا على فرعون وقومه.. ولكنهما تبكيان حزنا عندما يفارقهما الإنسان المؤمن المصلي المطبق لمنهج الله.. ولقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه :( إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان.. موضع في الأرض وموضع في السماء.. أما الموضع في الأرض هو مكان مصلاه الذي أسعده وهو يصلي فيه. وأما الموضع في السماء فهو مصعد عمله الطيب ).
إذا كانت كل نعم الله تستحق الحمد.. فإن ﴿ مالك يوم الدين ﴾ تستحق الحمد الكبير.. لأنه لو لم يوجد يوم للحساب، لنجا الذي ملأ الدنيا شروراً. دون أن يجازى على ما فعل.. ولكان الذي التزم بالتكليف والعبادة وحرم نفسه من متع دنيوية كثيرة إرضاء لله قد شقي في الحياة الدنيا.. ولكن لأن الله تبارك وتعالى هو ﴿ مالك يوم الدين ﴾.. فقد أعطى الاتزان للوجود كله.. هذه الملكية ليوم الدين هي التي حمت الضعيف والمظلوم وأبقت الحق في كون الله.. إن الذي منع الدنيا أن تتحول إلى غابة يفتك فيها القوي بالضعيف والظالم بالمظلوم هو أن هناك آخرة وحساباً، وأن الله سبحانه وتعالى هو الذي سيحاسب خلقه.
والإنسان المستقيم استقامته تنفع غيره ؛ لأنه يخشى الله ويعطي كل ذي حق حقه ويعفو ويسامح.. إذن كل من حوله قد استفاد من خلقه الكريم ومن وقوفه مع الحق والعدل.
أما الإنسان العاصي فيشقى به المجتمع لأنه لا أحد يسلم من شره ولا أحد إلا يصيبه ظلمه.. ولذلك فإن ﴿ مالك يوم الدين ﴾ هي الميزان.. تعرف أنت أن الذي يفسد في الأرض تنتظره الآخرة.. لن يفلت مهما كانت قوته ونفوذه، فتطمئن اطمئنانا كاملاً إلى أن عدل الله سينال كل ظالم.
على أن ﴿ مالك يوم الدين ﴾ لها قراءتان.. ﴿ مالك يوم الدين ﴾.. وملك يوم الدين. والقراءتان صحيحتان.. والله تبارك وتعالى وصف نفسه في القرآن الكريم بأنه :﴿ مالك يوم الدين ﴾.. ومالك الشيء هو المتصرف فيه وحده.. ليس هناك دخل لأي فرد آخر.. أنا أملك عباءتي.. وأملك متاعي، وأملك منزلي، وأنا المتصرف في هذا كله أحكم فيه بما أراه..
فمالك يوم الدين.. معناها أن الله سبحانه وتعالى سيصرف أمور العباد في ذلك اليوم بدون أسباب.. وأن كل شيء سيأتي من الله مباشرة.. دون أن يستطيع أحد أن يتدخل ولو ظاهراً..
ففي الدنيا يعطي الله الملك ظاهرا لبعض الناس.. ولكن في يوم القيامة ليس هناك ظاهر.. فالأمر مباشر من الله سبحانه وتعالى.. ولذلك يقول الله في وصف يوم الدين :
﴿ كلا بل تكذبون بالدين " ٩ " ﴾ ( سورة الانفطار ).
فكأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في الدنيا لتمضي به الحياة.. ولكن في الآخرة لا توجد أسباب. الملك في ظاهر الدنيا من الله يهبه لمن يشاء.. واقرأ قوله تعالى :
﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " ٢٦ " ﴾( سورة آل عمران ).
ولعل قوله تعالى :﴿ تنزع ﴾ تلفتنا إلى أن أحدا في الدنيا لا يريد أن يترك الملك.. ولكن الملك يجب أن ينتزع منه انتزاعا رغما عن إرادته.. والله هو الذي ينزع الملك ممن يشاء..
وهنا نتساءل هل الملك في الدنيا والآخرة ليس لله ؟.. نقول الأمر في كل وقت لله.. ولكن الله تبارك وتعالى استخلف بعض خلقه أو مكنهم من الملك في الأرض.. ولذلك نجد في القرآن الكريم قوله تعالى :
﴿ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " ٢٥٨ " ﴾( سورة البقرة ).
والذي حاج إبراهيم في ربه كافر منكر للألوهية.. ومع ذلك فإنه لم يأخذ الملك بذاته.. بل الله جل جلاله هو الذي أتاه الملك.. إذن الله تبارك وتعالى هو الذي استخلف بعض خلقه ومكنهم من ملك الأرض ظاهريا.. ومعنى ذلك أنه ملك ظاهر للناس فقط.. أن بشرا أصبح ملكا.. ولكن الملك ليس نابعا من ذات من يملك.. ولكنه نابع من أمر الله.. ولو كان نابعا من ذاتية من يملك لبقى له ولم ينزع منه.. والملك الظاهر يمتحن فيه العباد، فيحاسبهم الله يوم القيامة.. كيف تصرفوا ؟ وماذا فعلوا ؟.. ويمتحن فيه الناس هل سكتوا على الحاكم الظالم ؟.. وهل استحبوا المعصية ؟ أم أنهم وقفوا مع الحق ضد الظلم ؟.. والله سبحانه وتعالى لا يمتحن الناس ليعلم المصلح من المفسد.. ولكنه يمتحنهم ليكونوا شهداء على أنفسهم.. حتى لا يأتي واحد منهم يوم القيامة ويقول : يا رب لو أنك أعطيتني الملك لاتبعت طريق الحق وطبقت منهجك.
وهنا يأتي سؤال.. إذا كان الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء فلماذا الامتحان ؟.. نقول إننا إذا أردنا أن نضرب مثلا يقرب ذلك إلى الأذهان.. ولله المثل الأعلى.. نجد أن الجامعات في كل أنحاء الدنيا تقيم الامتحانات لطلابها.. فهل أساتذة الجامعة الذي علموا هؤلاء الطلاب يجهلون ما يعرفه الطالب ويريدون أن يحصلوا منه على العلم ؟.. طبعا لا.. ولكن ذلك يحدث حتى إذا رسب الطالب في الامتحان.. وجاء يجادل واجهوه بإجابته فيسكت.. ولو لم يعقد الامتحان لادعى كل طالب أنه يستحق مرتبة الشرف.
إذا قال الحق تبارك وتعالى :﴿ مالك يوم الدين ﴾.. أي الذي يملك هذا اليوم وحده يتصرف فيه كما يشاء.. وإذا قيل :﴿ مالك يوم الدين ﴾ فتصرفه أعلى على المالك لأن المالك لا يتصرف إلا في ملكه.. ولكن الملك يتصرف في ملكه وملك غيره.. فيستطيع أن يصدر قوانين بمصادرة أو تأميم ما يملكه غيره.
الذين قالوا :﴿ مالك يوم الدين ﴾ اثبتوا لله سبحانه وتعالى أنه مالك هذا اليوم يتصرف فيه كما يشاء دون تدخل من أحد ولو ظاهرا : والذين يقرأون ملك.. يقولون أن الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم يقضي في أمر خلقه حتى الذين ملكهم في الدنيا ظاهرا.. ونحن نقول عندما يأتي يوم القيامة لا مالك ولا ملك إلا الله.
الله تبارك وتعالى يريد أن يطمئن عباده.. أنهم إذا كانوا قد ابتلوا بمالك أو ملك يطغى عليهم فيوم القيامة لا مالك ولا ملك إلا الله جل جلاله.. عندما تقول مالك أو ملك يوم الدين.. هناك يوم وهناك الدين.. اليوم عندنا من شروق الشمس إلى شروق الشمس.. هذا ما نسيمه فكليا يوما.. واليوم في معناه ظرف زمان تقع فيه الأحداث.. والمفسرون يقولون :﴿ مالك يوم الدين ﴾ أي مالك أمور الدين لأن ظرف الزمان لا يملك.. نقول أن هذا بمقاييس ملكية البشر، فنحن لا نملك الزمن.. الماضي لا نستطيع أن نعيده، والمستقبل لا نستطيع أن نأتي به.. ولكن الله تبارك وتعالى هو خالق الزمان.. والله جل جلاله لا يحده زمان ولا مكان.. كذلك قوله تعالى :﴿ مالك يوم الدين ﴾ لا يحده زمان ولا مكان.. واقرأ قوله سبحانه :
﴿ ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون " ٤٧ " ﴾( سورة الحج ).
وقوله تعالى :
﴿ تعرج الملائكة والروح إليه في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ " ٤ " ﴾( سورة المعارج ).
وإذا تأملنا هاتين الآيتين نعرف معنى اليوم عند الله تبارك وتعالى.. ذلك أن الله جل جلاله هو خالق الزمن.. ولذلك فإنه يستطيع أن يخلق يوما مقداره ساعة.. ويوما كأيام الدنيا مقداره أربع وعشرون ساعة.. ويوم مقداره ألف سنة.. ويوما مقداره خمسون ألف سنة ويوما مقداره مليون سنة.. فذلك خاضع لمشيئة الله.
ويوم الدين موجود في علم الله سبحانه وتعالى. بأحداثه كلها بجنته وناره.. وكل الخلق الذين سيحاسبون فيه.. وعندما يريد أن يكون ذلك اليوم ويخرج من علمه جل جلاله إلى علم خلقه.. سواء كانوا من الملائكة أو من البشر أو الجان يقول : كن.. فالله وحده هو خالق هذا اليوم.. وهو وحده الذي يحدد كل أبعاده.. واليوم نحن نحدده ظاهرا بأنه أربع وعشرون ساعة.. ونحدده بأنه الليل والنهار.. ولكن الحقيقة أن الليل والنهار موجودان دائما على الأرض.. فعندما تتحرك الأرض، كل حركة هي نهاية نهار في منطقة وبداية نهار في منطقة أخرى.. وبداية ليل في منطقة ونهاية ليل في منطقة أخرى.. ولذلك في كل لحظة ينتهي يوم ويبدأ يوم.. وهكذا فإن الكرة الأرضية لو أخذتها بنظرة شاملة لا ينتهي عليها نهار أبدا.. ولا ينتهي عنها ليل أبدا.. إذن فاليوم نسبي بالنسبة لكل بقعة في الأرض.. ولكنه في الحقيقة دائم الوجود على كل الكرة الأرضية.
والله سبحانه وتعالى يريد أن يطمئن عباده.. أنهم إذا أصابهم ظلم في الدنيا.. فإن هناك يوم لا ظلم فيه.. وهذا اليوم الأمر فيه لله وحده بدون أسباب.. فكل إنسان لو لم يدركه العدل والقصاص في الدنيا فإن الآخرة تنتظره.. والذي أتبع منهج الله وقيد حركته في الحياة يخبره الله سبحانه وتعالى أن هناك يوم سيأخذ فيه أجره وعظمة الآخرة أنها تعطيك الجنة.. نعيم لا يفوتك ولا تفوته.
ولقد دخل أحد الأشخاص على رجل من الصالحين.. وقال له : أريد أن أعرف.. أأنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة ؟.. فقال له الرجل الصالح.. إن الله أرحم بعباده، فلم يجعل موازينهم في أيدي أمثالهم.. فميزان كل إنسان في يد نفسه.. لماذا ؟.. لأنك تستطيع أن تغش الناس ولكنك لا تغش نفسك.. ميزانك في يديك.. تستطيع أن تعرف أأنت من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة.
قال الرجل كيف ذلك ؟ فرد العبد الصالح : إذا دخل عليك من يعطيك مالا.. ودخل عليك من يأخذ منك صدقة.. فبأيهما تفرح ؟.. فسكت الرجل.. فقال العبد الصالح : إذا كنت تفرح بمن يعطيك مالا فأنت من أهل الدنيا.. وإذا كنت تفرح بمن يأخذ منك صدقة فأنت من أهل الآخرة.. فإن الإنسان يفرح بمن يقدم له ما يحبه.. فالذي يعطيني مالا يعطيني الدنيا.. والذي يأخذ مني صدقة يعطيني الآخرة.. فإن كنت من أهل الآخرة.. فافرح بمن يأخذ منك صدقة.. أكثر من فرحك بمن يعطيك مالا.
ولذلك كان بعض الصالحين إذا دخل عليه من يريد صدقة يقول مرحبا بمن جاء يحمل حسناتي إلى الآخرة بغير أجر.. ويستقبله بالفرحة والترحاب.
قول الحق سبحانه وتعالى :﴿ مالك يوم الدين ﴾.. هي قضية ضخمة من قضايا العقائد.. لأنها تعطينا أن البداية من الله، والنهاية إلى الله جل جلاله.. وبما أننا جميعا سنلقى الله، فلابد أن نعمل لهذا اليوم.. ولذلك فإن المؤمن لا يفعل شيئا في حياته إلا وفي باله الله.. وأنه سيحاسبه يوم القيامة.. ولكن غير المؤمن يفعل ما يفعل وليس في باله الله.. وعن هؤلاء يقول الحق سبحانه :
﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب " ٣٩ " ﴾( سورة النور ).
وهكذا من يفعل شيئا وليس في باله الله.. سيفاجأ يوم القيامة بأن الله تبارك وتعالى الذي لم يكن في باله موجود وأنه جل جلاله هو الذي سيحاسبه.
وقوله تعالى :﴿ مالك يوم الدين ﴾ هي أساس الدين.. لأن الذي لا يؤمن بالآخرة يفعل ما يشاء.. فمادام يعتقد أنه ليس هناك آخره وليس هناك حساب.. فمم يخاف ؟.. ومن أجل من يقيد حركته في الحياة..
إن الدين كله بكل طاعاته وكل منهجه قائم على أن هناك حسابا في الآخرة.. وأن هناك يوما نقف فيه جميعا أمام الله سبحانه وتعالى.. ليحاسب المخطئ ويثيب الطائع.. هذا هو الحكم في كل تصرفاتنا الإيمانية.. فلو لم يكن هناك يوم نحاسب فيه.. فلماذا نصلي ؟.. ولماذا نصوم ؟.. ولماذا نتصدق ؟..
إن كل حركة من حركات منهج السماء قائمة على أساس ذلك اليوم الذي لن يفلت منه أحد.. والذي يجب علينا جميعا أن نستعد له.. إن الله سبحانه وتعالى سمى هذا اليوم بالنسبة للمؤمنين يوم الفوز العظيم.. والذي يجعلنا نتحمل كل ما نكره
وقبل أن نتكلم عن قول الحق تبارك وتعالى :﴿ إياك نعبد وإياك نستعين ﴾.. لابد أن نتحدث عن قضية مهمة.. فهناك نوعان من الرؤية.. الرؤية العينية أي بالعين.. والرؤية الإيمانية أي بالقلب.. وكلاهما مختلف عن الآخر.. رؤية العين هي أن يكون الشيء أمامك تراه بعينيك، وهذه ليس فيها قضية إيمان.. فلا تقول أنني أومن أنني أراك أمامي لأنك تراني فعلا.. مادمت تراني فهذا يقين.. ولكن الرؤية الإيمانية هي أن تؤمن كأنك ترى ما هو غيب أمامك.. وتكون هذه الرؤية أكثر يقينا من رؤية العين.. لأنها رؤية إيمان ورؤية بصيرة.. وهذه قضية مهمة جدا..
وقد روي عمر بن الخطاب قال :
بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر. لا يرى عليه أثر السفر. ولا يعرفه منا أحد. حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأسند ركبتيه إلي ركبتيه. ووضع كفيه على فخذيه قال : يا محمد أخبرني عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله. وأن محمدا رسول الله. وتقيم الصلاة. وتؤتي الزكاة. وتصوم رمضان. وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال : صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه.
قال : فأخبرني عن الإيمان
قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وتؤمن بالقدر ؛ خيره وشره
قال : صدقت. قال : فأخبرني عن الإحسان، قال :
أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
قال : فأخبرني عن الساعة ؟
قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل.
قال : فأخبرني عن أماراتها
قال : أن تلد الأمة ربتها. وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان.
قال : ثم انطلق فلبثت مليا.. ثم قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : يا عمر أتدري من السائل ؟
قلت : الله ورسوله أعلم.
قال : فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم١.
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".. هو بيان للرؤية الإيمانية في النفس المؤمنة.. فالإنسان حينما يؤمن، لابد أن يأخذ كل قضاياه برؤية إيمانية.. حتى إذا قرأ آية عن الجنة فكأنه يرى أهل الجنة وهم ينعمون.. وإذا قرأ آية عن أهل النار اقشعر بدنه.. وكأنه يرى أهل النار وهم يعذبون. ذات يوم شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد صحابته وكان اسمه الحارث.. فقال له :
كيف أصبحت يا حارث ؟
فقال : أصبحت مؤمنا حقا
قال الرسول : فانظر ما تقول. فإن لكل قول حقيقة. فما حقيقة إيمانك ؟ قال الحارث : عزفت نفسي عن الدنيا. فأسهرت ليلي. وأظمأت نهاري. وكأني انظر عرش ربي بارزا. وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها. وكأني انظر إلى أهل النار يتضاغون فيها. ( يتصايحون فيها ).
قال النبي " يا حارث عرفت فالزم " ٢
ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى وهو يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم.. يقول :
﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " ١ " ﴾ ( سورة الفيل ).
يأخذ بعض المستشرقين هذه الآية في محاولة للطعن في القرآن الكريم.. فقوله تعالى :﴿ ألم تر ﴾.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ولد في عام الفيل.. أنه لم ير لأنه كان طفلا عمره أيام أو شهور.. لو قال الله سبحانه وتعالى ألم تعلم.. لقلنا علم من غيره.. فالعلم تحصل عليه أنت أو يعطيه لك من علمه.. أي يعلمك غيرك من البشر.. ولكن الله سبحانه وتعالى قال :﴿ ألم تر ﴾..
نقول أن هذه قضية من قضايا الإيمان.. فما يقوله الله سبحانه وتعالى هو رؤية صادقة بالنسبة للإنسان المؤمن.. فالقرآن هو كلام متعبد بتلاوته حتى قيام الساعة.. وقول الله :﴿ ألم تر ﴾.. معناها أن الرؤية مستمرة لكل مؤمن بالله يقرأ هذه الآية.. فما دام الله تبارك وتعالى قال :﴿ ألم تر ﴾.. فأنت ترى بإيمانك ما تعجز عينك عن أن تراه.. هذه هي الرؤية الإيمانية، وهي أصدق من رؤية العين.. لأن العين قد تخدع صاحبها ولكن القلب المؤمن لا يخدع صاحبه أبدا..
على أن هناك ما يسمونه ضمير الغائب.. إذا قلت زيد حضر.. فهو موجود أمامك.. ولكن إذا قلت قابلت زيدا.. فكأن زيداً غائب عنك ساعة قلت هذه الجملة.. قابلته ولكنه ليس موجوداً معك ساعة الحديث..
إذن فهناك حاضر وغائب ومتكلم.. الغائب هو من ليس موجوداً أو لا نراه وقت الحديث.. والحاضر هو الموجود وقت الحديث.. والمتكلم هو الذي يتحدث. وقضايا العقيدة كلها ليس فيها مشاهدة، ولكن الإيمان بما هو غيب عنا يعطينا الرؤية الإيمانية التي هي كما قلنا أقوى من رؤية البصر.
فالله سبحانه وتعالى حين يقول ﴿ الحمد لله رب العالمين ﴾.. " الله " غيب ﴿ ورب العالمين ﴾ غيب.. ﴿ والرحمن الرحيم ﴾.. " غيب ".. و﴿ مالك يوم الدين ﴾ غيب.. وكان السياق اللغوي يقتضي أن يقال إياه نعبد. ولكن الله سبحانه وتعالى غير السياق ونقله من الغائب إلي الحاضر.. وقال :﴿ إياك نعبد ﴾ فانتقل الغيب إلى حضور المخاطب.. فلم يقل إياه نعبد.. ولكنه قال :﴿ إياك نعبد ﴾.. فأصبحت رؤية يقين إيماني.
فأنت في حضرة الله سبحانه وتعالى الذي غمرك بالنعم، وهذه تراها وتحيط بك لأنه ﴿ رب العالمين ﴾.. وجعلك تطمئن إلى قضائه لأنه ﴿ الرحمن الرحيم ﴾ أي أن ربوبيته جل جلاله ليست ربوبية جبروت بل هي ربوبية ﴿ الرحمن الرحيم ﴾ فإذا لم تحمده وتؤمن به بفضل نعمه التي تحسها وتعيش فيها. فاحذر من مخالفة منهجه لأنه ﴿ مالك يوم الدين ﴾.
حين يستحضر الحق سبحانه وتعالى ذاته بكل هذه الصفات.. التي فيها فضائل الألوهية، ونعم الربوبية.. والرحمة التي تمحو الذنوب والرهبة من لقائه يوم القيامة تكون قد انتقلت من صفات الغيب إلى محضر الشهود.. استحضرت جلال الألوهية لله وفيوضات رحمته.. ونعمه التي لا تحد وقيوميته يوم القيامة..
عندما تقرأ قوله تعالى :﴿ إياك نعبد ﴾ فالعبارة هنا تفيد الخصوصية.. بمعنى أنني إذا قلت لإنسان أنني سأقابلك، قد أقابله وحده، وقد أقابله مع جمع من الناس. ولكن إذا قلت إياك سأقابل.. فمعنى ذلك أن المقابلة ستكون خاصة..
الحق سبحانه وتعالى حين قال :﴿ إياك نعبد ﴾ قصر العبادة على ذاته الكريمة.. لأنه لو قال نعبدك وحدك فهي لا تؤدي المعنى نفسه ؛ لأنك قد تقول نعبدك وحدك ومعك كذا وكذا. ولكن إذا قلت " إياك نعبد " وقدمت إياك.. تكون قد حسمت الأمر بأن العبادة لله وحده.. فلا يجوز العطف عليها.. فالعبادة خضوع لله سبحانه وتعالى بمنهجه افعل ولا تفعل.. ولذلك جعل الصلاة أساس العبادة، والسجود هو منتهى الخضوع لله.. لأنك تأتي بوجهك الذي هو أكرم شيء فيك وتضعه على الأرض عند موضع القدم. فيكون هذا هو منتهى الخضوع لله.. ويتم هذا أمام الناس جميعا في الصلاة. لإعلان خضوعك لله أمام البشر جميعا.
ويستوي في العبودية الغني والفقير والكبير والصغير.. حتى يطرد كل منا الكبر والاستعلاء من قلبه أمام الناس جميعا فيساوى الحق جل جلاله بين عباده في الخضوع له وفي إعلان هذا الخضوع. وقول الحق سبحانه وتعالى :﴿ إياك نعبد ﴾ تنفي العبودية لغير الله.. أي لا نعبد غير الله ولا يعطف عليها أبدا.. إذن " إياك نعبد " أعطت تخصيص العبادة لله وحده لا إله غيره ولا معبود سواه.. وعلينا أن نلتفت إلى قوله تبارك وتعالى :
﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون " ٢٢ " ﴾( سورة الأنبياء ).
وهكذا فإننا عندما نقول " الحمد لله " فإننا نستحضر موجبات الحمد وهي نعم الله ظاهرة وباطنة.. وحين نقول " رب العالمين " نستحضر نعم الربوبية في خلقه وإخضاع كونه.. وحين نستحضر " الرحمن الرحيم " فإننا نستحضر الرحمة والمغفرة ومقابلة الإساءة بالإحسان وفتح باب التوبة.. وحين نستحضر : " مالك يوم الدين " نستحضر يوم الحساب وكيف أن الله تبارك وتعالى سيجازيك على أعمالك.. فإذا استحضرنا هذا كله نقول : " إياك نعبد " أي أننا نعبد الله وحده.. إذن عرفنا المطلوب منا وهو العبادة.
وهنا نتوقف قليلا لنتحدث عما يطلقون عليه في اللغة " العلة والمعلول " إذا أراد ابنك أن ينجح في الامتحان فإنه لابد أن يذاكر.. وعلة المذاكرة هي النجاح.. فكأن النجاح ولد في ذهني أولا. بكل ما يحققه لي من مميزات ومستقبل مضمون وغير ذلك مما أريده وأسعى إليه.
إذن فالدافع قبل الواقع.. أي أنك استحضرت النجاح في ذهنك.. ثم بعد ذلك ذاكرت لتجعل النجاح حقيقة واقعة. وأنت إذا أردت مثلا أن تسافر إلى مكان ما.. فالسيارة سبب يحقق لك ما تريد وقطع الطريق سبب آخر. ولكن الدافع الذي جعلني أنزل من بيتي وأركب السيارة وأقطع الطريق.. هو أنني أريد أن أسافر إلى الإسكندرية مثلا.. الدافع هنا وهو الوصول إلى الإسكندرية.. هو الذي وجد في ذهني أولا ثم بعد ذلك فعلت كل ما فعلته لتحقيقه.
والله سبحانه وتعالى خلقنا في الحياة لنعبده.. مصداقا لقوله تبارك وتعالى :
﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " ٥٦ " ﴾( سورة الذاريات ).
إذن فعلة الخلق هي العبادة.. ولقد تم الخلق لتتحقق العبادة وتصبح واقعا.. ولكن " العلة والمعلول " لا تنطبق على أفعال الله سبحانه وتعالى.. نقول ليس هناك علة تعود على الله جل جلاله بالفائدة. لأن الله تبارك وتعالى غني عن العالمين.. ولكن العلة تعود على الخلق بالفائدة ؛ فالله سبحانه وتعالى خلقنا لنعبده. ولكن علة الخلق ليس لأن هذه العبادة ستزيد شيئا في ملكه.. وإنما عبادتنا تعود علينا نحن بالخير في الدنيا والآخرة..
أن أفعال الله لا تعلل، والمأمور بالعبادة هو الذي سينتفع بها.
ولكن هل العبادة هي الجلوس في المساجد والتسبيح أم أنها منهج يشمل الحياة كلها.. في بيتك وفي عملك وفي السعي في الأرض ؟.. ولو أراد الله سبحانه وتعالى من عباده الصلاة والتسبيح فقط.. لما خلقهم مختارين بل خلقهم مقهورين لعبادته ككل ما خلق ما عدا الإنس والجن.. والله تبارك وتعالى له صفة القهر.. من هنا فإنه يستطيع أن يجعل من يشاء مقهورا على عبادته.. مصداقا لقوله جل جلاله :
﴿ لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين " ٣ " إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين " ٤ " ﴾( سورة الشعراء ).
فلو أراد الله أن يخضعنا لمنهجه قهراً.. لا يستطيع أحد أن يشذ عن طاعته.. وقد أعطانا الله الدليل على ذلك بأن في أجسادنا وفي أحداث الدنيا.. ما نحن مقهورون عليه.. فالجسد مقهور لله في أشياء كثيرة. القلب ينبض ويتوقف بأمر الله دون إرادة منا.. والمعدة تهضم الطعام ونحن لا ندري عنها شيئا.. والدورة الدموية في أجسادنا لا إرادة لنا فيها.. وأشياء كثيرة في الجسد البشري كلها مقهورة لله سبحانه وتعالى.. وليس لإرادتنا دخل في عملها.. وما يقع علي في الحياة الدنيا من أحداث أنا مقهور فيه.. لا أستطيع أن أمنعه من الحدوث.. فلا أستطيع أن أمنع سيارة أن تصدمني.. ولا طائرة أن تحترق بي.. ولا كل ما يقع علي من أقدار الله في الدنيا..
إذن فمنطقة الاختيار في حياتي محددة.. لا أستطيع أن أتحكم في يوم مولدي.. ولا فيمن هو أبي ومن هي أمي.. ولا في شكلي هل أنا طويل أم قصير ؟ جميل أم قبيح أو غير ذلك. إذن فمنطقة الاختيار في الحياة هي المنهج أن
بعد أن آمنت بالله سبحانه وتعالى إلها وربا.. واستحضرت عطاء الألوهية ونعم الربوبية وفيوضات رحمة الله على خلقه. وأعلنت أنه لا إله إلا الله. وقولك : " إياك نعبد " أي أن العبادة لله تبارك وتعالى لا نشرك به شيئا ولا نعبد إلا إياه.. وأعلنت أنك ستستعين بالله وحده بقولك : " إياك نستعين ". فإنك قد أصبحت من عباد الله. ويعلمك الله سبحانه وتعالى الدعاء الذي يتمناه كل مؤمن.. ومادامت من عباد الله، فإن الله جل جلاله سيستجيب لك.. مصداقا لقوله سبحانه :
﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا بي لعلهم يرشدون " ١٨٦ " ﴾( سورة البقرة ).
والمؤمن لا يطلب الدنيا أبدا.. لماذا ؟.. لأن الحياة الحقيقية للإنسان في الآخرة. فيها الحياة الأبدية والنعيم الذي لا يفارقك ولا تفارقه. فالمؤمن لا يطلب مثلا أن يرزقه الله مالا كثيراً ولا أن يمتلك عمارة مثلا.. لأنه يعلم أن كل هذا وقتي وزائل.. ولكنه يطلب ما ينجيه من النار ويوصله إلى الجنة..
ومن رحمة الله تبارك وتعالى أنه علمنا ما نطلب.. وهذا يستوجب الحمد لله.. وأول ما يطلب المؤمن هو الهداية والصراط المستقيم :﴿ إهدنا الصراط المستقيم ﴾.
والهداية نوعان : هداية دلالة وهداية معونة. هداية الدلالة هي للناس جميعا.. وهداية المعونة هي للمؤمنين فقط المتبعين لمنهج الله. والله سبحانه وتعالى هدى كل عباده هداية دلالة أي دلهم على طريق الخير وبينه لهم.. فمن أراد أن يتبع طريق الخير اتبعه.. ومن أراد ألا يتبعه تركه الله لما أراد..
هذه الهداية العامة هي أساس البلاغ عن الله. فقد بين لنا الله تبارك وتعالى في منهجه بافعل ولا تفعل ما يرضيه وما يغضبه.. وأوضح لنا الطريق الذي نتبعه لنهتدي. والطريق الذي لو سلكناه حق علينا غضب الله وسخطه.. ولكن هل كل من بين له الله سبحانه وتعالى طريق الهداية اهتدى ؟.. نقول لا.. واقرأ قوله جل جلاله :
﴿ وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون " ١٧ " ﴾ ( سورة فصلت ).
إذن هناك من لا يأخذ طريق الهداية بالاختيار الذي أعطاه الله له.. فلو أن الله سبحانه وتعالى أرادنا جميعا مهديين.. ما استطاع واحد من خلقه أن يخرج على مشيئته. ولكنه جل جلاله خلقنا مختارين لنأتيه عن حب ورغبة بدلا من أن يقهرنا على الطاعة.. ما الذي يحدث للذين اتبعوا طريق الهداية والذين لم يتبعوه وخالفوا مراد الله الشرعي في كونه ؟
﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم " ١٧ " ﴾( سورة محمد ).
أي أن كل من يتخذ طريق الهداية يعينه الله عليه.. ويزيده تقوى وحبا في الدين.. أما الذين إذا جاءهم الهدى ابتعدوا عن منهج الله وخالفوه.. فإن الله تبارك وتعالى يتخلى عنهم ويتركهم في ضلالهم. واقرأ قوله تعالى :
﴿ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين " ٣٦ " ﴾( سورة الزخرف ).
والله سبحانه وتعالى قد بين لنا المحرومين من هداية المعونة على الإيمان وهم ثلاثة كما بينهم لنا في القرآن الكريم :
﴿ ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين " ١٠٧ " ﴾ ( سورة النحل ).
﴿ ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدي القوم الفاسقين " ١٠٨ " ﴾( سورة المائدة ).
﴿ ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " ٢٥٨ " ﴾ ( سورة البقرة ).
إذن فالمطرودون من هداية الله في المعونة على الإيمان.. هم الكافرون والفاسقون والظالمون.. الحق سبحانه وتعالى يقول :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ ما هو الصراط ؟.. إنه الطريق الموصلة إلى الغاية. ولماذا نص على أنه الصراط المستقيم. لأن الله سبحانه وتعالى وضع لنا في منهجه الطريق المستقيم.. وهو أقصر الطرق إلى تحقيق الغاية.. فأقصر طريق بين نقطتين هو الطريق المستقيم. ولذلك إذا كنت تقصد مكانا فأقصر طريق تسلكه.. هو الطريق الذي لا اعوجاج فيه ولكنه مستقيم تماما..
ولا تحسب أن البعد عن الطريق المستقيم يبدأ باعوجاج كبير. بل باعوجاج صغير جدا ولكنه ينتهي إلى بعد كبير..
ويكفي أن تراقب قضبان السكة الحديد.. عندما يبدأ القطار في اتخاذ طريق غير الذي كان يسلكه فهو لا ينحرف في أول الأمر إلا بضعة ملليمترات.. أي أن أول التحويلة ضيق جدا وكلما مشيت اتسع الفرق وازداد اتساعا. بحيث عند النهاية تجد أن الطريق الذي مشيت فيه.. يبعد عن الطريق الأول عشرات الكيلومترات وربما مئات الكيلومترات.. إذن فأي انحراف مهما كان بسيطا يبعدك عن الطريق المستقيم بعدا كبيرا.. ولذلك فإن الدعاء : " اهدنا الصراط المستقيم " أي الطريق الذي ليس فيه اعوجاج ولو بضعة ملليمترات.. الطريق الذي ليس فيه مخالفة تبعدنا عن طريق الله المستقيم.
لذلك فإن الإنسان المؤمن يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يهديه إلى أقصر الطرق للوصول إلي الغاية.. وما هي الغاية ؟ أنها الجنة والنعيم في الآخرة.. ولذلك نقول يا رب اهدنا وأعنا على أن نسلك الطريق المستقيم وهو طريق المنهج.. ليوصلنا إلى الجنة دون أن يكون فيه أي اعوجاج يبعدنا عنها.
ولقد قال الله سبحانه وتعالى في حديث قدسي. إنه إذا قال العبد : " اهدنا الصراط المستقيم " يقول جل جلاله : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
يقول الحق تبارك وتعالى :﴿ صراط الذين أنعمت عليهم ﴾ ما معنى " الذين أنعمت عليهم " ؟.. اقرأ الآية الكريمة :
﴿ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً " ٦٩ " ﴾( سورة النساء ).
وأنت حين تقرأ الآية الكريمة فأنت تطلب من الله تبارك وتعالى أن تكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. أي أنك تطلب من الله جل جلاله.. أن يجعلك تسلك نفس الطريق الذي سلكه هؤلاء لتكون معهم في الآخرة.. فكأنك تطلب الدرجة العالية في الجنة.. لأن كل من ذكرناهم لهم مقام عال في جنة النعيم.. وهكذا فإن الطلب من الله سبحانه وتعالى هو أن يجعلك تسلك الطريق الذي لا اعوجاج فيه. والذي يوصلك في أسرع وقت إلى الدرجة العالية في الآخرة.
وعندما نعرف أن الله سبحانه وتعالى قال :( هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ).. تعرف أن الاستجابة تعطيك الحياة العالية في الآخرة وتمتعك بنعيم الله. ليس بقدرات البشر كما يحدث في الدنيا.. ولكن بقدرة الله تبارك وتعالى.. وإذا كانت نعم الدنيا لا تعد ولا تحصى.. فكيف بنعم الآخرة ؟ لقد قال الله سبحانه وتعالى عنها :
﴿ لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد " ٣٥ " ﴾ ( سورة ق ).
أي أنه ليس كل ما تطلبه فقط ستجده أمامك بمجرد وروده على خاطرك ولكن مهما طلبت من النعم ومهما تمنيت فالله جل جلاله عنده مزيد.. ولذلك فإنه يعطيك كل ما تشاء ويزيد عليه بما لم تطلب ولا تعرف من النعم.. وهذا تشبيه فقط ليقرب الله تبارك وتعالى صورة النعيم إلى أذهاننا، ولكن الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وبما أن المعاني لابد أن توجد أولا في العقل ثم يأتي اللفظ المعبر عنها.. فكل شيء لا نعرفه لا توجد في لغتنا ألفاظ تعبر عنه. فنحن لم نعرف اسم التليفزيون مثلا إلا بعد أن أخترع وصار له مفهوم محدد. تماما كما لم نعرف اسم الطائرة قبل أن يتم اختراعها.. فالشيء يوجد أولا ثم بعد ذلك يوضع اللفظ المعبر عنه. ولذلك فإن مجامع اللغات في العالم تجتمع بين فترة وأخرى. لتضع أسماء لأشياء جديدة اخترعت وعرفت مهمتها..
ومادام ذلك هو القاعدة اللغوية، فإنه لا توجد ألفاظ في لغة البشر تعبر عن النعيم الذي سيعيشه أهل الجنة لأنه لم تره عين ولم تسمع به أذن ولا خطر على القلب.. ولذلك فإن كل ما نقرؤه في القرآن الكريم يقرب لنا الصورة فقط. ولكنه لا يعطينا حقيقة ما هو موجود. ولذلك نجد الله سبحانه وتعالى حين يتحدث عن الجنة في القرآن الكريم يقول :
﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طمعه وأنهار من خمرٍ لذةٍ للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم " ١٥ " ﴾( سورة محمد ).
أي أن هذا ليس حقيقة الجنة ولكنها مثل فقط يقرب ذلك إلى الأذهان.. لأنه لا توجد ألفاظ في لغات البشر يمكن أن تعطينا حقيقة ما في الجنة.
وقوله تعالى :﴿ غير المغضوب عليهم ﴾.. أي غير الذين غضبت عليهم يا رب من الذين عصوا. ومنعت عنهم هداية الإعانة.. الذين عرفوا المنهج فخالفوه وارتكبوا كل ما حرمه الله فاستحقوا غضبه.
ومعنى غير " المغضوب عليهم " أي يا رب لا تيسر لنا الطريق الذي نستحق به غضبك. كما استحقه أولئك الذين غيروا وبدلوا في منهج الله ليأخذوا سلطة زمنية في الحياة الدنيا وليأكلوا أموال الناس بالباطل..
وقد وردت كلمة " المغضوب عليهم " في القرآن الكريم في قوله تعالى :﴿ قل هل أنبئكم بشرٍ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل " ٦٠ " ﴾( سورة المائدة ).
وهذه الآيات نزلت في بني إسرائيل.
وقول الله تعالى :﴿ ولا الضالين ﴾ هناك الضال والمضل.. الضال هو الذي ضل الطريق فاتخذ منهجا غير منهج الله.. ومشى في الضلالة بعيدا عن الهدى وعن دين الله.. ويقال ضل الطريق أي مشى فيه وهو لا يعرف السبيل إلى ما يريد أن يصل إليه.. أي أنه تاه في الدنيا فأصبح وليا للشيطان وابتعد عن طريق الله المستقيم.. هذا هو الضال.. ولكن المضل هو من لم يكتف بأنه ابتعد عن منهج الله وسار في الحياة على غير هدى.. بل يحاول أن يأخذ غيره إلى الضلالة.. يغري الناس بالكفر وعدم اتباع المنهج والبعد عن طريق الله.. وكل واحد من العاصين يأتي يوم القيامة يحمل ذنوبه.. إلا المضل فإنه يحمل ذنوبه وذنوب من أضلهم. مصداقا لقوله سبحانه :﴿ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون " ٢٥ " ﴾( سورة النحل ).
أي أنك وأنت تقرأ الفاتحة تستعيذ بالله أن تكون من الذين ضلوا.. ولكن الحق سبحانه وتعالى لم يأت هنا بالمضلين. نقول أنك لكي تكون مضلا لابد أن تكون ضالا أولا.. فالاستعاذة من الضلال هنا تشمل الاثنين. لأنك مادمت قد استعذت من أن تكون ضالا فلن تكون مضلا أبدا.
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
حسب نفسي عزا بأنني عبد يحتفى بي بلا مواعيد رب
هو في قدسه الأعز ولكن أنا ألقى متى أح
١ رواه البخاري والبزار والبيهقي عن ابن عمر..