تفسير سورة النّور

الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه
تفسير سورة سورة النور من كتاب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

﴿ ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾

قوله تعالى: ﴿الزَّانيةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَة﴾:
عمَّ الله - جَلَّ ذِكرُه - بهذا الحدِّ كُلَّ زانٍ وزانيةٍ.
وقد يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِمٌ أنه منسوخٌ بقوله في الإِماء: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ماعَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ﴾ [النساء: ٢٥]، وليسَ الأمرُ على هذا، إنَّما هو علىأَحَدِ وَجْهَيْن:
- إما أن تكونَ آيةُ الإِماء نَزَلَت قبلَ سورةِ النُّور فيكونُ ذلك شيئاً قد(استَقَرَّ وعُلِمَ) في الأَنْفُس، فَفُهِمَ مِن آية النور أنها في الأحرار خاصة.
- أو تكون آيةُ الإِماء نَزَلَت بعد آية النور فخصَّصَتْها وبيَّنَتْها أنها فيالأحرار دون الإِماء، وحَقُّ النسخ زوالُ الحكم بأسره، وهذا لا يجوز في هذا، فلا نسخَ يُتَوَّهمُ في هذا، بل هما محكمتان في صنفيْن مختلفيْن.

﴿ ٱلزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَٱلزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾

قوله تعالى: ﴿الزَّاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً، والزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَاإِلاَّ زانٍ أَو مُشْرِكٌ﴾ الآية.
قال ابنُ المسيِّب: يزعمون أنها نُسِخَت بقوله تعالى: ﴿وأَنكِحُواالأيَامَى مِنكُمْ﴾ [النور: ٣٢]، فدخلت الزانيةُ في أيامى المسلمين، وعلى هذاالقولِ جماعةٌ من العلماء.
فمن زنى بامرأة مؤمنةٍ أَو كتابيةٍ، فله أَن يتزوَّجَها، أو لغيره من المسلمينأَن يتزوَّجها بعد أن يستبرئها - وهو قول (جابر بن زيد وعبدِ الله بن عمر)وعطاء (وطاووس) ومالك وأبي حنيفة وأصحابه والشافعي -.
وعن ابن عباس، أنه قال: النِّكاح في هذه الآيةِ الوطءُ والآية محكمة، ومعناها: أن الزاني لا يزني إلا بزانيةٍ مثلِه من أَهل القِبْلَةِ لا تسْتَحِلُّ الزنا أو بمشركةٍ، وكذلك الزَّانيةُ من المسلمات لا تزني إلاَّ مع زانٍ من المسلمينلا يستحلُّ [ الزنا أو (مع) مُشْرِكٍ، ويدلُّ على ذلك إجماعُهم على أن الزانيةَمن المسلمين] لا يَحِلُّ لها أن تتزوَّجَ (رَجُلاً من المشركين) وأَن الزانيمن المسلمين لا يَحِلُّ له أن يتزوَّجَ مُشْرِكةً غيرَ كتابية.
وعن الحسن أنه قال: الآيةُ محكمةٌ غيرُ منسوخة، ومعناها: أنالمجلودَ على الزنا لا يَنْكِحُ إلاَّ زانيةً [مجلودة على الزنا] أو مشركةً، وكذلك الزَّانِيةُ، وهذا هو الحكم عنده، وروى في ذلك حديثاً عن النبي- عليه السلام -، وقد أَجمع أهل العلم على خلافه، والحديث إن صحّ فهومنسوخ كالآية بقوله ﴿وأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ﴾ [النور: ٣٢].
وقال مجاهد: نَزَلَت هذه الآيةُ في نساءٍ بأعيانهن، كان الرَّجُلُ يتزوَّجُإحداهن على أن تُنْفِقَ عليه مما تَكْسِبُه من الزنا فحرَّمَ الله - تعالى ذكره -ذلك. (وعن القاسم بن عبد الله أنه) كانت بـ "جياد" امرأة يقال لها أُم(مهروب)، وكانت تُسافح فأراد رجل من المسلمين أن يتزوجها، فأنزل الله- جلَّ ذكره -: ﴿والزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إلاّ زَانٍ أو مُشْرِك﴾، فتكون الآية علىهذا القول محكمةً مخصوصةً في شيء بعينه. ثم (نُسِخَت بقوله): ﴿وأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ﴾.

﴿ وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ ٱلْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَٱجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، فاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ الآية.
وجب من ظاهر هذا النص وعمومِه جلدُ الرَّجُلِ ثمانين (جلدةً) إذا رمى زوجتَه بالزنا أو غيرَ زوجتِه ثم نسخ اللهُ الحد في الزوجةِ باللِّعانِالمذكورِ بعد هذا الموصوف حُكْمُه.
وقد قيل: إن الآيةَ مخصوصةٌ في قذف غيرِ الزوجات، وبيَّن ذلكاللعانُ وخصَّصَه، فلا نسخ فيه.
واحتجّ مَن رأى النسخَ في الآية فقال: إن النسخَ في الآية ظاهرٌ بمارواه ابنُ سيرين عن أنس بن مالك أَنَّ هلالَ بنَ أُميَّة قذف امرأتَه ورماهابِشَريك بن سَحْمي، فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ائت بأربعةِشهداء، وإِلاَّ تُحَدُّ في ظهرِك. فقال هلال: إن الله يعلم أَني صادق [وجعلالنبي - صلى الله عليه وسلم - يُكَرِّرُ عليه إيجابَ الحدّ، وهلال يكرر قوله: إن الله يعلم أَنيصادق] ثم قال هلال: (والله) لَيُنْزِلَنَّ الله - عزّ وجلّ - عليك ما يُبَرِّىءُظهري من الجلد فنزلت آية اللعان - الحديث -.
فهذا يدلُّ على أن الحدَّ كان واجباً على القاذف لزوجته ولغيرها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوجب عليه الحدَّ، ثم نسخ اللهُ ذلك باللعان، وبقي الحدُّعلى القاذفِ لغير زوجته، وهذا يُبيِّنُ أن الآيةَ الأولى كانت عامةً في القاذفلزوجتِه أو لغيرِها ثم نُسِخَ الحدُّ عن القاذف لزوجته باللِّعان المذكوربعد ذلك، فهو من نسخ القرآن بالقرآن.
وقد روي عن ابن عباس (أنه قال): إنه منسوخٌ بقوله: ﴿والَّذِينَيَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ [النور: ٦] - الآية -.
قال أبو محمد: والرِّوايةُ عن ابن عباس في هذا ضعيفةٌ. والذي يقولبه أهلُ النظر: إن هذا لا يجوز أن يُنْسَخ لأن نسخه رفعُ حكمه كُلِّه، والحكمبالجلد على القاذف المحْصَنةَ بالزنا وعلى القاذف زوجته إذا نَكَل عن اللّعانباقٍ لكنه مخصَّص ومبيَّن بالآية الثانية. بيَّن الله بآية اللعان أن المرادَبالآية الأولى قذفُ غيرِ الأزواج بالزنا وما على مَنْ فَعَلَهُ، وبيَّنَ في الثانية ماعلى الأزواج إذا قذفوا زوجاتِهم بالزنا من اليمين (والحكم، وما علىالزوجات في ذلك)، وبيَّنت السُّنَّةُ أَنَّ مَنْ نَكَلَ منهما عن اليمين رجعإلى الحدِّ (إما الجلد ثمانين على الزوج إذا نكَلَ، وإما الرجم على الزوجةإذا كانت محصنةً، أو الجلد مائةً إذا كانت غيرَ محصَنة)، فالآيتان لا نسخَ فيهما غير أن الثانيةَ بينت الأولى وخصَّصْتها فأخرجْتها من العمومإلى الخصوص.
وفُهمَ من دليل الخطاب مع ما بيَّنته السُّنَّة أن الحدَّ في قذف الرّجلالحرِّ بالزنا كالحدِّ في قذف المرأة الحرَّةِ، إذ النَّصُ إنما وقع (في قذفالنساء) الحرائر. والإِحصان - في قوله: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَات﴾ -: الحريةُ، أو العفافُ، أو الإِسلامُ، أو أَحدُهما مع التزويج، ولا يَحْسُنُ أنيكونَ الإِحصانُ - في هدا -: التزويج فقط، لأنه يلزمُ أن لا يُحَدَّ من رمى غيرَمتزوجةٍ بالزنا.

﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾

قولُه تعالى: ﴿إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأَصْلَحُوا﴾ الآية:
قال أبو عبيد وغيرُه: هذا ناسخٌ لقولِه: ﴿وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادةًأبداً﴾ [النور: ٤]: أوجبت تركَ قَبولِ شهادةِ القاذف على الأبد، ثم نسخَهُ بقوله:﴿إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا﴾ [النور: ٤].
قال أبو محمد: وهذا عند جميع العلماء ليس بنسخ، إنما هو استثناءبحرف الاستثناء، ولو وَجَب هذا لكان كُلُّ استثناء ناسخاً للمستثنى منه. وهذا لا يقوله أَحد.
وقد اختلف في رجوع هذا الاستثناء:
فقيل: يرجع إلى الفاسقين ولا تقبل شهادةُ القاذف أبداً وإن تاب، ويكون الوقف على هذا القول على "أبداً". وقيل: يرجع الاستثناء إلى قوله: ﴿وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادةً أَبداً﴾ [النور: ٤]، فتقبل شهادةُ القاذف على هذا القول إذا تاب، وعليه أكثرُ الفقهاء.
وقد بسطنا شرح هذه الآية بأشبع من هذا في غير هذا الكتاب، ويكون الوقف على "رحيم" ولا يوقف على "أبداً" - في هذا القول -.

﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَهْلِهَا ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾

قوله تعالى: ﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غيرَ بُيُوتِكُمْ﴾الآية:
رُوِيَ عن ابن عباس أنها منسوخةٌ نسخَها قولُه: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنتَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ﴾ [النور: ٢٩] - الآية - يعني الخانات التيينزلها المسافرون.
وقيل: هي الحوانيت.
وقال أكثرُ المفسرين: الآيتان محكمتان مرادٌ بأحدهما: البيوتُالتي لها سُكانٌ لا تُدْخَل إلا بإذن، ومرادٌ بالأُخرى: ما ليس فيه ساكن منبيوت الخانات والحوانيت، وشبهِ ذلك.
وتستأنسوا: (تستعلموا).

﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِيۤ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ ٱلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَاتِ ٱلنِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾

قولُه تعالى: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾. الآية:
أمر الله جميع المؤمنات بذلك.
قال ابن عباس: نُسِخَ ذلك بقوله تعالى: ﴿والقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ﴾- الآية - فأباح اللهُ لَهُنَّ وضعَ الجلابيب التي تستر الزينةُ، لكنه قال:﴿وأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُن﴾ [النور: ٦٠]، أَي: أَن يَلْبِسْنَ جلابيبَهُن ويستَِتِرْنَ خيرٌلَهُن.
قال أبو محمد: وقد يكونُ قولُه تعالى: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾مخصوصاً في غيرِ القواعد، وتكون آيةُ القواعد خصَّصَتْها وبَيَّنَت أنها فيغير القواعدِ من النساء، ودليلُ ذلك أَنَّ حُكْمَ الأولى لم يَزُلْ بِكُلِّيَّتهِ، إنما زالبعضُه، وأكثرُ النسخ وبابُه وأَصلُه إنما هو (بزوالِ الحكم الأول) وحلولالثاني محلّه.
وباب التخصيص معناه: زوالُ بعضِ حُكْمِ الأول وبقاءُ ما بقيعلى حكمه. فهذا بالتخصيص أَشْبَهُ منه بالنسخ.

﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ ٱلَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ وَٱلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ ٱلْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَـلَٰوةِ ٱلْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَـٰبَكُمْ مِّنَ ٱلظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَٰوةِ ٱلْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَٰفُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأَيَـٰتِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾

قوله تعالى: ﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذينَ مَلَكَتْ أَيمانُكُمْ﴾الآية:
رُوِيَ عن ابن المسيِّب أنه قال: هي منسوخةٌ، ولم يذكر ما نَسَخَها.
وسُئلَ ابنُ عباس عن هذه الآية فقال: لا يعملُ بها اليوم. وذلك أنالقومَ كانوا لا سُتْرَةَ لهم ولا حجال، فربما دخل عليهم (الخدَمُوالولَدُ) وهم في حال جماعٍ، فأمرَ اللهُ - جلَّ ذكره - بالاستئذان فيالأوقات المذكورةِ، ثم جاء اللهُ بالستر وبسط الرزق، فاتخذ الناسُ الأبوابَوالستورَ، فرأى الناسُ أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أُمروا به، وكذلك قال مالك إذ سُئِلَ عن الآية.
قال أبو محمد: فعلى (هذا القول) يكونُ هذا مما نَزَل وفُرِضَلعلَّةٍ فلما زالت تلك العلَّةُ زال الحكم، وبقي اللفظ متلوّاً كآخر سورةالممتحنة.
وعن أبي قلابة أنه قال: ﴿يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُم﴾ [النور: ٥٨]- الآية - وقوله: ﴿وأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٨٢]: إنما أمروا بهذا على طريقالحضِّ والنَّدب، وليس بواجبٍ [فرضٍ.
وأكثرُ العلماء على أن الآيةَ محكمةٌ، وحكْمُها باق، والاستئذان فيهذه الثلاثة الأوقات واجبٌ].
قال الشعبي: ليست هذه الآيةُ منسوخةً، فقيل له: إن الناس لا يعملونبها، فقال: الله المستعان.
وقد رُوِيَ عن ابن عباس أنه قال: ثلاثُ آياتٍ مِن كتابِ الله، لا أَرىأحداً من الناس يَعْمَلُ بِهِنّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذينَ مَلَكَتْ أَيمانُكُمْ﴾ - الآية -، ﴿وإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُرْبى﴾ - الآية -، ﴿إِنَّأَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ - الآية -.
- وقال مثلَ ذلك سعيدُ بنُ جبير، ويحيى بن يعمر -.
وقدِ اخْتُلِفَ في قوله: ﴿الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾. فقيل: ذلك في الإِماء، فأما العبيد فلا يدخلون في هذه الأوقاتِ ولا في غَيْرِها إلابالاستِئْذان.
وقال أكثرُ الناس بظاهر الآية بأن العبيدَ والإِماءَ يستأذنون في هذهالثلاث الأوقات خاصةً دون غيرِها.
والقولُ الأَوَّلُ مرويٌ عن أبي عبد الرحمن السُّلَمي، وكِلا القولين يدلعلى أن الآية محكمةٌ غيرُ منسوخة.

﴿ لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَٰنِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَٰمِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّٰتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَٰلِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَٰلَٰتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُبَٰرَكَةً طَيِّبَةً كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾

قولُه تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ﴾. الآية.
قال ابنُ زيد: مِنْ قولِه: ﴿وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾ إلى آخر الآية، منسوخٌ لأنهم كانوا في أَوَّلِ أَمرِهم ليس على أَبوابِهم أغلاقٌ، فَرُبَّما أتى الرَّجُلُ وهو جائعٌ فدخل البيتَ ولا أحدَ فيه، فَسَوَّغَ الله أن يأكلَ ممافيه، إلى أن صارت الأغلاقُ على البيوت، فلا يَحِلُّ لأحدٍ أن يفتحَهاويأكلَ مما فيها، كأنه يريدُ أن ذلك منسوخٌ بقوله: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا أَموَالَكُم بَيْنَكُم بالبَاطِل﴾ [البقرة: ١٨٨]. والإِجماع على تحريم مالِ المسلم إلاَّ بإذنه.
وقال ابنُ عباس: الآيةُ ناسخةٌ لِما أحدثَ المؤمنونَ عند نزول قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأكُلُوا أموَالَكُم بَيْنَكُم بالبَاطِل﴾، فانتهوا عن أنيأكلَ أَحدٌ طعامَ أَحَدٍ فأنزلَ الله: ﴿لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١] إلى﴿أشتاتاً﴾ [النور: ٦١]، وقوله: ﴿أو مَا مَلَكْتُم مَفَاتِحَه﴾ [النور: ٦١]: هو الرجل يَتَوَكَّلُ علىالرَّجُلِ على حائِطه أو جِنَانِه أو غَنَمِه، فللوكيل أَنْ يَأكُلَ من ثَمَرِ ذلك ولَبَنِه.
وقد قال أبو عبيد: لا يأكلُ إلا بمشورة ربِّ المال، لأن الناس كانوا قد (توقفوا) عن الأكل بعد الإِذن، فأباح الله (لهم ذلك) بعد الإِذن.
وقيل: الآيةُ ناسخةٌ لما كانوا عليه من التَّحَرُّجِ من الأكل مع الأعمىوالأعرج والمريض.
(وقائلُ هذا القول يجعلُ "على" بمعنى "في") أي: ليس فيالأعمى حرجٌ أي: في الأكل معه.
وقال أَكثَرُ أهل التأويل: الآية مُحْكَمةٌ، وذلك أَنهم كانوا إذا خرجوا معالنبي - عليه السلام - إلى الجهاد وضعوا مفاتِحَهُم عند أهل العِلَّة والزِّمَانَةِالمتخلفين عن الجهاد لعذرهم، وعند أقربائهم، وكانوا يأذنون لهم أن يأكلوامما في [بيوتِهم إذا احتاجوا إلى ذلك، فكان الْمُتَخَلِّفون يتقونَ أن يأكلوا مما في] بيوتِ الغُيَّبِ، ويقولون: نخشى ألاّ تكونَ أنفُسُهُم بذلك طيِّبَةً، فأنزل الله - تعالى ذكرُه - هذه الآيةَ تُحِلُّ لهم ذلك. وهذا التفسير مرويٌ عنعائشةَ - رضيَ اللهُ عنها - وقاله ابن المسيّب أيضاً -.
وقال ابنُ زيد: قولُه: ﴿لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١]، إلى قوله:﴿وَلاَ عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١]، مُحْكَمٌ نزل في الغزو، أي ليس عليهمضيق في تَأَخُّرِهِم (عن الغزو)، للعذر الذي لهم. فـ ﴿عَلَىالأعْمَى﴾: خبر ليس - على هذا القول -، وإذا جعلت ذلك في إباحة الطعاملهم - على قول من تقدم ذكرُه - كان خبر ليس: ﴿أن تأكُلُوا﴾.

Icon