سورة النور
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه السورة مدنية باتفاق، وسميت " سورة النور " لكثرة ذكر النور فيها، فقد جاء ضمن آياتها قوله تعالى :﴿ الله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ﴾ [ ٥٣ ]، وقوله تعالى :﴿ نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء ﴾، [ ٥٣ ]، وقوله تعالى :﴿ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ﴾ [ ٤٠ ].ومن دقق النظر في موقع سورة النور بعد سورة الإيمان لا يصعب عليه أن يكتشف المناسبة الموجودة بين السورتين، فقد سبق في سورة المؤمنين المفلحين وصفهم بأنهم ﴿ لفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ﴾ [ الآيات : ٥، ٦، ٧ ] كما سبق فيها ما يشير إلى وصف أعداء الإيمان وخصوم الرسالة الإلهية، في الجاهلية وما قبلها، بممارسة عدة أعمال فاحشة لا يرضى عنها الطبع السليم، ولا الشرع القويم، حيث قال تعالى في شأنهم ووصف أعمالهم على وجه الإجمال :﴿ بل قلوبهم في غمرة من هذا، ولهم أعمال من دون ذلك، هم لها عاملون ﴾ [ الآية : ٦٤ ]، وفي طليعة تلك الأعمال المنكرة ممارسة الزنى والتبرج، اللذين لا يتصور معهما إحصان ولا عفاف، فجاءت سورة النور تضع النقط على الحروف، وتبين " آياتها البينات " أسس التربية الخلقية والاجتماعية النظيفة، التي يجب ان يقوم عليها المجتمع الإسلامي والأسرة المسلمة، بصفها الخلية الأولى وحجر الزاوية في بناء ذلك المجتمع، حتى يقضى على الخصال الجاهلية، والمفاهيم الوثنية غير الأخلاقية، قضاء مبرما.
وهكذا أشهرت " سورة النور " الحرب على الزنى وما ألحق به، سواء كان عن طواعية أو إكراه، وحددت طريقة الزواج المشروع وما يلزم اتباعه في شأنه بالنسبة للفقراء والأيامى، وملك اليمين، وأحاطت عرض الأزواج بأكبر الضمانات، حتى لا يلغ أحد في عرض أحد، وبينت الإجراءات الاستثنائية التي يلزم اتخاذها عند صدور القذف من نفس الزوج في عرض زوجته، وبهذه المناسبة تعرضت في عدة آيات لقصة الإفك التي اختلقها المنافقون، وروجوها للقذف في عائشة أم المؤمنين، ثم ما أنزل الله في براءتها ولعن المنافقين، ووصفهم المشين، كما قررت سورة النور حرمة المساكن والبيوت، ومنع دخولها وانتهاك حرمتها للاطلاع على دخائلها، ونصت على طريقة الاستيذان للدخول في البيت، وأوجبت الاستيذان في فترات الخلوة اليومية على أعضاء العائلة أنفسهم ولو كانوا صغارا، ووصفت جملة من الآداب في الزينة واللباس تحافظ عليها المرأة عند الاتصال بمحارمها فضلا عن غيرهم، ولم تهمل آداب الضيافة عند اجتماع ذوي القربى وأصدقائهم حول مائدة واحدة، ولعل هذه المعاني، مجتمعة، هي التي أوحت إلى القرطبي أن يقول : " مقصود هذه السورة ذكر أحكام العفاف والستر ". وإلى ما فصلته في هذا المجال من واجبات، وما حضت على اجتنابه من محرمات، وما أذنت به من مباحات، نصت على الحرمة الخاصة والقداسة البالغة التي تتمتع بها بيوت الله لشرف نسبتها إليه، وأعطت للمؤمنين درسا عمليا في آداب مجالسة رسول الله والحديث معه والنداء عليه، وآداب الانصراف من مجلسه الشريف، بعد الاجتماع به والجلوس بين يديه، صلوات الله وسلامه عليه، وتخللت سورة النور آيات كريمة تبرز عجائب صنع الله، مما يذكر بجلاله وعظمته، وقدرته وحكمته، وختمت بتقرير عقيدة ثابتة لا سبيل إلى تجاهلها أو إنكارها، ﴿ ألا إن لله ما في السموات والأرض ﴾ [ الآية : ٦٤ ].
ﰡ
بعد ان عالج كتاب الله في الربع الماضي قصة الإفك والبهتان العظيم التي لفقها المنافقون، وألقى عليها وعلى بواعثها وانعكاساتها ونتائجها الأضواء الكاشفة، وحذر عامة المؤمنين من الوقوع في شرك الإشاعات الباطلة كيفما كان مصدرها، ورسم لهم طريق مواجهتها ومقاومتها للقضاء عليها في المهد، وجه إليهم الخطاب مرة أخرى في بداية هذا الربع، محذرا إياهم في هذا الموقف وجميع المواقف، من الانقياد للشيطان والسير في ركابه واتباع خطواته، مبينا من جديد أن الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم، ويوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس، لا يقود من وثق به، ولا يجر من اتبعه إلا إلى التلبس بالفواحش وممارسة المناكر، فهو دليل شر لا قائد خير، وهو قرين سوء وفساد، لا رفيق هدى ورشاد، وإلى ذلك يشير قوله تعالى هنا :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ﴾.
وبين كتاب الله أن صلاح الصالحين وتقوى المتقين من عباده المؤمنين، لا يتم لأحد منهم على الوجه الأكمل، إلا بتوفيق الله ومعونته، وفضله ورحمته، فقد خلق الإنسان ضعيفا ميالا للشهوات، معرضا لتأثير كثير من النزغات والنزوات ﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ﴾.
وأشار كتاب الله إلى ما ينبغي أن يكون عليه الموسرون المحسنون من حسن المعاملة للمحتاجين المعسرين، وغض الطرف عن فلتات ألسنتهم، وعدم مؤاخذتهم بما قد يصدر عنهم من أغلاط في تصرفاتهم، ورغبهم في الصفح عنهم ومعاملتهم بمثل ما يرجون أن يعاملهم به ربهم، ما داموا يرغبون هم أيضا في عفو الله وغفرانه، ونيل رضوانه، فقال تعالى :﴿ وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ﴾.
وإذا كان الوعيد الذي تتضمنه هذه الآيات عاما ونافذا في حق كل من قذف المحصنات المؤمنات على العموم، فإنه يكون نافذا من باب أولى وأحرى في حق من تجرأ على مقام أمهات المؤمنين بالخصوص ولا سيما عائشة بنت الصديق، التي كانت قصة الإفك في حقها سبب النزول بالأخص، وإلى نفس هذا المعنى يشير قوله تعالى في سورة الأحزاب :﴿ إن الذين يوذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا ﴾ [ الآية : ٥٧ ].
وإذا كان الوعيد الذي تتضمنه هذه الآيات عاما ونافذا في حق كل من قذف المحصنات المؤمنات على العموم، فإنه يكون نافذا من باب أولى وأحرى في حق من تجرأ على مقام أمهات المؤمنين بالخصوص ولا سيما عائشة بنت الصديق، التي كانت قصة الإفك في حقها سبب النزول بالأخص، وإلى نفس هذا المعنى يشير قوله تعالى في سورة الأحزاب :﴿ إن الذين يوذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا ﴾ [ الآية : ٥٧ ].
وإذا كان الوعيد الذي تتضمنه هذه الآيات عاما ونافذا في حق كل من قذف المحصنات المؤمنات على العموم، فإنه يكون نافذا من باب أولى وأحرى في حق من تجرأ على مقام أمهات المؤمنين بالخصوص ولا سيما عائشة بنت الصديق، التي كانت قصة الإفك في حقها سبب النزول بالأخص، وإلى نفس هذا المعنى يشير قوله تعالى في سورة الأحزاب :﴿ إن الذين يوذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا ﴾ [ الآية : ٥٧ ].
والمراد " بالمتاع " الوارد في هذه الآية ﴿ فيها متاع لكم ﴾ عموم الانتفاع. وتحذيرا من استعمال هذه الرخصة في غير محلها، والتذرع بها إلى ما لم يأذن به الله قال تعالى معقبا عليها :﴿ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ﴾.
فإن لك الأولى، وليس لك الآخرة " رواه أبو داود والترمذي. وإلى جانب الأمر بغض البصر ألح كتاب الله من جديد على التزام العفة وحفظ الفرج من طرف الرجال والنساء، وبديهي أن هذا الحفظ لا يتحقق إلا بتفادي كل متعة خبيثة خارج الحياة الزوجية الطاهرة، كيفما كان نوعها وشكلها، وذلك قوله تعالى هنا :﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ﴾
فإن لك الأولى، وليس لك الآخرة " رواه أبو داود والترمذي. وإلى جانب الأمر بغض البصر ألح كتاب الله من جديد على التزام العفة وحفظ الفرج من طرف الرجال والنساء، وبديهي أن هذا الحفظ لا يتحقق إلا بتفادي كل متعة خبيثة خارج الحياة الزوجية الطاهرة، كيفما كان نوعها وشكلها، وذلك قوله تعالى هنا :﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ﴾
﴿ وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ﴾.
وبعد هذا التمهيد تناول كتاب الله بالتفصيل ما يجب على المؤمنات ستره من اطرافهن وما يسمح لهن بإظهاره من زينتهن، وبين من هم الذين لا جناح عليهم إذا شاهدوا تلك الزينة بالخصوص، فقال تعالى :﴿ ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ﴾ إشارة إلى أنه لا يسوغ للمؤمنات أن يظهرن شيئا من الزينة للأجانب عنهن، ما عدا الشيء الذي يتعذر إخفاؤه من الزينة الظاهرة، مثل الكحل والخاتم وظاهر الثياب، والمراد " بالأجانب " هنا كل الأشخاص الذين لا يعتبرهم الشرع من المحارم، ثم قال تعالى :﴿ وليضربن بخمرهن على جيوبهن ﴾ إشارة إلى وجوب ستر النحر والصدر حتى لا يرى منه شيء، على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية، قال مقاتل : " على جيوبهن " أي على صدورهن، يعني مواضع جيوبهن، فقد كانت الجيوب عند العرب تجعل في الثوب عند الصدر، أما الوجه والكفان فلا مانع من كشفهما وعدم سترهما، لأن كشفهما مقبول في العبادة، فما بالك بما هو من قبيل العادة. و " الخمر " جمع خمار، وهو في الأصل ما يغطى به الرأس.
ثم قال تعالى مبينا محارم المرأة ومن ألحق بهم، ممن يجوز لها أن تظهر بزينتها الخفية أمامهم، لكن من غير تبرج :﴿ ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ﴾ أي أزواجهن ﴿ أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن * أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال ﴾ ومعنى " الإربة " الحاجة، والمراد " بالتابعين " هنا الأتباع من الأجراء والخدم الذين لا شهوة لهم في النساء مطلقا، لمانع طبيعي أو طارئ، أو لا طمع لهم في مخدوماتهم لأنهم غير أكفاء لهن ﴿ أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ﴾ أي الأطفال الصغار الذين لا عهد لهم ولا معرفة بشؤون النساء، والذين لم يصلوا إلى طور البلوغ. وإنما رخص للمحارم بالنظر إلى ما ليس بظاهر من زينة النساء المؤمنات، للضرورة التي تدعوهن إلى مداخلتهم ومخالطتهم أغلب الوقت، ولقلة توقع الفتنة والنظر إليهن بالشهوة من جهتهم، بسبب المحرمية والقرابة القريبة.
ثم نبه كتاب الله مرة أخرى إلى أنه لا ينبغي للنساء المؤمنات إذا كان شيء من زينتهن مستورا أن يلفتن إليه أنظار الرجال، بوسيلة أو بأخرى عند خروجهن، صيانة لأعراضهن وحفاظا على كرامتهن، وهذا المعنى هو المراد بقوله تعالى :﴿ ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ﴾ و " الضرب بالرجل " في هذه الآية يشير على ما كانت عليه المرأة في الجاهلية عندما كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت، إذ تضرب الأرض برجلها، ليسمع الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن ذلك، وينصب هذا النهي على من فعل ما يشبه ذلك بنعله أو حذائه من الرجال. وليضع كتاب الله حدا فاصلا لما كان متعارفا ومتبعا في الجاهلية من طرف الرجال والنساء، قال تعالى :﴿ وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ﴾. ومن لطائف التفسير في هذه الآية ربط الزمخشري لها بالأحكام السابقة ربطا وثيقا، حيث قال في تحليلها : " إن أوامر الله ونواهيه في كل باب لا يكاد العبد الضعيف يقدر على مراعاتها، وإن ضبط نفسه واجتهد، ولا يخلو من تقصير يقع منه، فلذلك وصى المؤمنين جميعا بالتوبة والاستغفار، وبتأميل الفلاح إذا تابوا واستغفروا ".
وعاد كتاب الله إلى الاهتمام بمشاكل " ملك اليمين "، فحض على إحدى الوسائل العملية لتحرير الرقاب، ألا وهي الاتفاق مع المملوك ملك يمين على قدر مقسط من المال يؤديه لمولاه، تعويضا عن الحق الذي له عليه، وهذا الاتفاق هو الذي يطلق عليه اسم " المكاتبة " في هذا الموضوع. ودعا كتاب الله الموسرين من المسلمين، من الموالي وغيرهم، إلى مساعدة المكاتبين على تحرير أنفسهم ببذل العون لهم على التحرر، من مال الله الذي آتاهم، علاوة على ما هو مخصص في بيت المال لتحرير الرقاب من موارد الزكاة في الإسلام، وبذلك يتمكن المكاتب من أن يشتغل ويكتسب ويتحرر ويتزوج إذا شاء، فيكون ذلك أعف له وأكرم، وهذا المعنى هو الذي يتضمنه قوله تعالى :﴿ والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ﴾ أي أمانة وصلاحا ﴿ وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ﴾.
ثم تصدى كتاب الله للقضاء على ما كان معروفا في بعض أوساط الجاهلية من تسخير الإماء لممارسة البغاء، من أجل ما يدره على مالكي رقابهن، فحرم كتاب الله ذلك تحريما باتا، لأن البغاء حرام في الإسلام في جميع الأحوال، وإلى ذلك يشير قوله تعالى :﴿ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ﴾، فالمراد " بالفتيات " هنا الإماء، على حد قوله عليه السلام :( ليقل أحدكم فتاي وفتاتي، ولا يقل عبدي وأمتي ) وإنما قيل " إن أردن تحصنا " تصويرا لحالة الإكراه، حيث إن إكراههن على البغاء لا يتصور إلا عند إرادتهن للتحصن، وليس معنى ذلك إباحة البغاء عند الرغبة فيه وعدم الإكراه عليه، وقوله تعالى :﴿ لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ﴾ إشارة إلى الدافع الخسيس الذي كان يدفع بعض مالكي الإماء في الجاهلية إلى استغلالهن في ممارسة البغاء، وقد كان رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول على رأس الذين يتاجرون في عرض إمائه، فوقف الإسلام له ولأمثاله بالمرصاد، وقضى على ما كان سائدا في عهد الجاهلية من الانحراف والفساد. ثم قال تعالى في نفس السياق :﴿ ومن يكرهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ﴾ أي غفور لهن ما أكرهن عليه، وإثمهن على من أكرههن، وفي الحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ".
بعد أن عرض كتاب الله في الآيات السابقة من هذه السورة ما يجب أن يكون عليه نظام الأسرة المسلمة، التي هي الخلية الأولى للمجتمع الإسلامي، وحجر الزاوية في بناء الدولة الإسلامية، وبعد أن رفع الستار عن الحكمة الربانية التي تكمن وراء تلك التشريعات والتوجيهات، إذ قال تعالى في ختام الربع الماضي :﴿ ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين ﴾ لفت كتاب الله أنظار البشرية جمعاء، إلى أن الإنسان بالرغم مما رزقه الله من عقل لا يمكن له أن يستغني عن الاستنارة بنور الله في تدبير شؤونه الخاصة والعامة، وكما أن " الطبيعة " إنما تسير بانتظام وفقا للنواميس والسنن التي وضعها الله فيها وأودعها إياها، فلا بد للإنسان وهو كائن مخير إذا أراد أن يسير في حياته سيرا متئدا موفقا سعيدا، من التزام الشرائع الإلهية، التي هي بالنسبة إليه مثل النواميس الكونية بالنسبة للطبيعة المسخرة، وقد وصف كتاب الله الهداية الإلهية بكونها نورا يخرج الناس من الظلمات في عدة آيات، منها قوله تعالى :﴿ هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور ﴾ [ الحديد : ٩ ]، وقوله تعالى :﴿ الله ولي الذين آمنوا يخرجكم من الظلمات إلى النور ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ]، وقوله تعالى :﴿ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ﴾ [ إبراهيم : ١ ]، وقوله تعالى :﴿ ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورا نهدي به من يشاء من عبادنا ﴾ [ الشورى : ٥٢ ]، وقوله تعالى :﴿ فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ]، وقوله تعالى :﴿ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ﴾ [ المائدة : ١٥ ]. وعلى ضوء هذا المعنى يكون قوله تعالى في بداية هذا الربع :﴿ الله نور السموات والأرض ﴾ تعقيبا مناسبا على جميع آيات الأحكام التي سبق تفسيرها من سورة النور المدنية في الربعين الماضيين، ويكون مرتبطا بها كلها في سياق واحد، ومن نسق واحد، وأضيف لفظ ( النور ) في هذه الآية إلى السماوات والأرض للدلالة على سعة إشراقه وإنارته، وقوة انتشاره وإضاءته، إذ يستضيء به أهل السماوات والأرض جميعا، فنور الله لازم لتدبير شؤون الإنسان كيفما كان، كما هو لازم لتسخير بقية الأكوان، والعالم كله علويه وسفليه مشحون بالأنوار، ما بين أنوار روحية وعقلية، وأنوار مادية وحسية. قال ابن عباس في تفسير هذه الآية ﴿ الله نور السموات والأرض ﴾ : " الله هادي السموات والأرض، فهم بنوره يهتدون، وبهدايته من حيرة الضلالة ينجون ".
وكما من الله على المؤمنين من عباده بنور من عنده يكون لهم في حياتهم قرينا وخفيرا، إذ قال تعالى في سورة الزمر :﴿ أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ﴾ [ الآية : ٢٢ ] ضرب كتاب الله هنا أروع الأمثال لذلك النور الإلهي الذي يهتدي به المؤمن في كل حين، فشبه حاله وهو يقتبس من نور الله بالمشكاة، وهي الكوة غير النافذة التي يتوسطها مصباح قوي الضوء، شديد الإنارة، وهذا المصباح من زجاج شفاف في غاية اللمعان، والزيت الذي يوقد منه هذا المصباح أشد الزيوت صفاء وإشراقا، وجلاء وبريقا، حتى أنه ليكاد ينير ما حوله ببريقه وحده دون أن يوقده أحد، لأن الشجرة التي يستخلص منها ذلك الزيت شجرة مباركة، تتلقى من الهواء الذي تنمو فيه ما يساعدها على النضج التام، حتى يكون حملها أجود حمل، ودهنها أصفى دهن. قال ابن عطية " إنها في وسط الشجر لا تصيبها الشمس طالعة ولا غاربة، بل تصيبها بالغداة والعشي ". وهكذا تعاونت المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، مما ضرب الله به المثل، على تقوية هذا النور أضعافا مضاعفة، وواضح أن المصباح إذا كان في مكان ضيق كالمشكاة الممثل بها هنا كان أضوأ له وأجمع لنوره، بخلاف المكان المتسع، فإن الضوء ينبث فيه وينتشر، فيضعف أثره ويتضاءل، وإلى هذه المعاني مجتمعة يشير قوله تعالى في إيجاز وإعجاز :﴿ مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور ﴾، قال أبي بن كعب في تفسير هذه الآيات مع الاقتصار على أهم الفقرات : " هذا مثل المؤمن، فالمشكاة نفسه، والزجاجة قلبه، والمصباح ما جعله الله فيه من الإيمان والقرآن، ﴿ يوقد من شجرة مباركة ﴾ هي شجرة الإخلاص لله وحده ﴿ لا شرقية ولا غربية ﴾ هي خضراء ناعمة، لا تصيبها الشمس على أي حال كانت، لا إذا طلعت ولا إذا غربت، وكذلك المؤمن يحترس من أن يصيبه شيء من الفتن، وقد يبتلى بها فيثبته الله فيها، فهو بين أربع خلال : " إن أعطي شكر، وإن ابتلي صبر، وإن قال صدق، وإن حكم عدل " ﴿ يكاد زيتها يضيء ﴾ أي يكاد قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يتبين له، لموافقته إياه، وإلى هذا المعنى ينظر قوله صلى الله عليه وسلم :( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) ﴿ نور على نور ﴾ فهو يتقلب في خمسة أنوار : قوله نور، وعمله نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره يوم القيامة إلى النور، أي مصداقا لقوله تعالى :﴿ يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ﴾ [ الحديد : ١٢ ]، انتهى ما رواه المفسرون عن أبي بن كعب في تفسير هذه الآيات. والمراد بمدخل المؤمن ومخرجه هنا سره وعلانيته. ثم قال تعالى :﴿ يهدي الله لنوره من يشاء ﴾ أي يوفق لإصابة الحق من يشاء من عباده، إما اعتمادا على الذكر الحكيم، أو استنادا إلى العقل السليم، أو استئناسا بالفطرة التي فطر الله الناس عليها، فنزلوا عند حكمها مضطرين كلما تحاكموا إليها. ونبه كتاب الله في نهاية هذا السياق إلى أن الغاية من ضرب المثل الذي تضمنته الآيات السابقة هي تصوير الأثر البالغ، الذي يحدثه النور الإلهي، عندما تتخلل أضواؤه زوايا قلب المؤمن، فتنيره من كل جانب، فالأمر يتعلق بتقريب الانفعالات الروحية، والظواهر النفسية، إلى الأفهام العادية، تيسيرا على عامة الناس، وتسهيلا لإدراك الحقائق حتى يزول عنها وعنهم كل التباس، أما الحق سبحانه وتعالى فهو غني عن ضرب المثل، لأنه يعلم ما ظهر وما بطن منذ الأزل، وذلك قوله تعالى :﴿ ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم ﴾.
ورفع بيوت الله يدل على معنيين جليلين :
المعنى الأول الأمر بتشييدها وبنائها لتؤدي الرسالة المنوطة بها في الدين على أحسن وجه، فكلمة ( رفع ) تستعمل بمعنى بنى، كما في قوله تعالى :﴿ أنتم أشد خلقا أم السماء، بناها، رفع سمكها فسواها ﴾ [ النازعات : ٢٧، ٢٨ ]، وقوله تعالى :﴿ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ﴾ [ البقرة : ١٢٧ ] وهذا هو الرفع الحسي.
المعنى الثاني الأمر بتعظيمها وتطهيرها من الأنجاس والأقذار، على غرار ما ورد في قوله تعالى :﴿ وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود ﴾ [ الحج : ٢٦ ] وهذا هو الرفع المعنوي.
ويندرج تحت المعنى الأول وهو الأمر بتشييدها وبناءها اتخاذ المطاهر حولها، وإجراء المياه بها، حتى يتمكن الوافدون عليها من الطهارة والصلاة، وقد كانت قريبا من مسجد رسول الله آبار يستقون منها، فيشربون ويتطهرون ويتوضأون.
ويندرج تحت المعنى الثاني وهو الأمر بتعظيمها وتطهيرها من الأنجاس تنظيفها وتطييبها وتبخيرها أيام الجمع، كما كان يفعل عمر بن الخطاب كل جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنزيهها عن كل ما فيه رائحة مستكرهة، كالإتيان إليها عقب أكل البصل والثوم، وتفادي كل ما يمكن أن يجلب لها القذارة والنجاسة، فلا يسمح بالبصاق ولا بالتنخم ولا بالتمخط فوق أرضها ولا فوق فرشها، ولا يسمح بدخول المجانين وصغار الأطفال إليها خوفا من تدنيسها، ولا بمرور الحائض أو حامل اللحم النيء بها، خوفا من تلويثها بدم الحيض أو الدم المتقاطر من اللحم، ولا يقام فيها حد ولا قصاص، خوفا مما يمكن أن يرشح من المجلود أو المقطوع، ولا يدخلها أحد وقد أشهر سلاحه، تفاديا لما يمكن أن يصيب المصلين من سلاحه إذا غفل عنه، وينبغي البدء بالرجل اليمنى عند دخول أبوابها، والمبادرة بالسلام على روادها، والقيام بصلاة ركعتين تحية للمسجد فور دخولها، كما ينبغي تجنب كل ما فيه أذى لبقية المصلين، فلا يتخطى الداخل إليها رقاب الناس، ولا يضيق على أحد منهم في الصف، ولا يمر بين يدي أحد وهو يصلي، ولا يفرقع أصابعه، ولا يعبث بشيء من جسده، قال القرطبي في كتابه ( الجامع لأحكام القرآن ) :" " إن كل من تأذى به جيرانه في المسجد، بأن يكون ذرب اللسان سفيها عليهم، أو كان ذا رائحة قبيحة لا تريمه ( أي لا تفارقه ) لسوء صناعته، أو ذا عاهة مؤذية كالجذام وشبهه، وكل ما يتأذى به الناس، كان لهم إخراجه، ما كانت العلة موجودة فيه حتى تزول ". وبهذا البيان الشافي لرفع بيوت الله حسيا ومعنويا يتضح للجميع معنى قوله تعالى هنا :﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ﴾.
أما قوله تعالى :﴿ ويذكر فيها اسمه ﴾ فهو تحديد دقيق لرسالة بيوت الله التي أنيطت بها، وأقيمت من أجلها، بحيث لا يسوغ التخلي عنها بحال، وكل ما يتصل بها يجب استعباده في جميع الأحوال، ولذلك نهي عن التحدث فيها باللغو والرفث والخنى، ونهى عن إنشاد الشعر في جنباتها إذا كان لا يتضمن ثناء على الله ورسوله، ولا يؤدي غرضا شرعيا ملائما لأغراضها، ونهى عن البيع والشراء داخلها، ونهى عن مباشرة الخصومات والمحاكمات والمشاجرات ورفع الأصوات بين جدرانها، ونهى عن المبيت والنوم بها إلا عند الضرورة القصوى لغريب أو عابر سبيل، وقد كان عمر رضي الله عنه يفتش المسجد بعد العشاء فلا يترك فيه أحدا، كل ذلك حرصا على أن تظل بيوت الله مقصورة على ما أنشئت من أجله، ألا وهو ذكر الله وتمجيده وتنزيهه، والتعريف بمظاهر قدرته وحكمته، وتبليغ الرسالة الإلهية المتضمنة لهدايته، والدعوة إلى عبادته وطاعته، وتمكين النوع الإنساني من بلوغ سعادته. وواضح أن الأمور التي نهى عنها الشرع في هذا المقام كلها منافية لذكر الله، لأنها تشوش على الذاكرين والذاكرات ذكرهم، فلا يطمئن لهم بال، وتصرف فكرهم عن الاستغراق والتأمل فيما لله من نعوت الجلال والجمال.
وعن فريق الضالين الذين حبطت أعمالهم فأصبحت هباء منثورا، وخسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى منددا بهم، وضاربا المثل لخسرانهم المبين وخيبتهم المرة :﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب * أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ﴾ و " القاع " ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت، وفيه يكون السراب، وجمعه " قيعة " كما قال تعالى هنا :﴿ أعمالهم كسراب بقيعة ﴾
وعن فريق الضالين الذين حبطت أعمالهم فأصبحت هباء منثورا، وخسروا أنفسهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى منددا بهم، وضاربا المثل لخسرانهم المبين وخيبتهم المرة :﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب * أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ﴾ و " القاع " ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت، وفيه يكون السراب، وجمعه " قيعة " كما قال تعالى هنا :﴿ أعمالهم كسراب بقيعة ﴾
﴿ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ﴾
ثم عقب كتاب الله على وصفه للفريقين فقال :﴿ ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ﴾.
﴿ ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار ﴾
سبق لنا في الآيات الأخيرة من الربع الماضي أن كتاب الله حدد معيارا دقيقا للتمييز بين المؤمنين الصادقين الذي خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم فاستجابوا لله ورسوله، والمنافقين الذين في قلوبهم مرض، ممن درجوا على المراوغة والكذب والتكذيب، وذلك المعيار هو ما يظهر على هذا الفريق أو ذاك من الرضا أو السخط، ومن الثقة أو الشك، ومن الإقبال أو الإعراض، عندما يدعى للتحاكم إلى الله ورسوله، فلا يكون من الفريق الأول إلا القبول والسمع والطاعة، ولا يكون من الفريق الثاني إلا التحفظ والتردد والتمرد ﴿ أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ﴾.
ومضيا في نفس السياق، واستمرارا في نفس الموضوع، أخبرنا كتاب الله في بداية هذا الربع بالأثر البالغ الذي أحدثته الآيات السابقة في نفوس المنافقين حيث كشفت عنهم الستار، وفضحت ما ينطوون عليه من الجحود والإنكار، فلم يسعهم إلا أن يلجأوا إلى الأيمان المغلظة يقسمون بها، ويكثرون منها، ليؤكدوا إيمانهم وطاعتهم، وليخادعوا الله ورسوله والمؤمنين إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا، وكان من بين ما أقسموا عليه، للدلالة على إخلاصهم وصدق إيمانهم، أنهم على كامل الاستعداد، لمفارقة المال والأهل والأولاد، والخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل الجهاد، لكن الوحي الإلهي سجل عليهم مرة أخرى نفاقهم فيما يدلون به من أيمان كاذبة، وعرف رسوله بأن الطاعة التي يعلنونها لا فائدة من ورائها، لأنها مشكوك في أمرها، ومدخولة من أصلها، وأنهم مهما حاولوا إخفاء حقيقتهم، فإن الله تعالى مطلع على سرائرهم، لأنه يعلم السر وأخفى، وإلى ذلك يشير قوله تعالى هنا :﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم ﴾ أي طاقة ما قدروا أن يحلفوا ﴿ لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون ﴾.
وقد نصر الله عبده، وأنجز لرسوله وللمؤمنين الصالحين وعده، فقامت لدين الحق دولة كبرى لا تغيب عنها الشمس، وهذا الدين قادر بما فيه من طاقات كامنة على أن يقيم اليوم دولة أخرى كما أقامها بالأمس، فالوعد الإلهي مستمر وقائم على الدوام، لكل من آمن بالله ثم استقام، وبقدر ما يتحقق من هذين الشرطين أو من أجزائهما يكون من حق المؤمنين انتظار وعد الله كليا أو جزئيا، لكن بقدر ما يطرأ من إهمالهما يتخلف عنهم وعد الله، فتنحط منزلتهم، بعدما رفعهم الله مكانا عليا.
ولتوضيح جملة من مقتضيات الإيمان والعمل الصالح تولى كتاب الله الحديث عنها في نفس السياق فقال :﴿ يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون * وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ﴾، ونبه كتاب الله خلال هذه الآية نفسها على أن المؤمنين الذين أنعم الله عليهم، مطالبون بشكر نعمه، وإلى أنهم لا يستحقون وصف الإيمان الكامل إلا إذا استعملوا نعمه فيما منحت لأجله، فلم يكفروا بها ولم يتنكروا لها، ولم يستعملوها في غير وجهها، وإلا انقلب وصفهم بالإيمان والمؤمنين، إلى وصفهم بالفسق والفاسقين، والفاسق من إذا استغنى تجبر وطغى، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها وبغى، وذلك قوله تعالى هنا :﴿ ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴾.
وقد نصر الله عبده، وأنجز لرسوله وللمؤمنين الصالحين وعده، فقامت لدين الحق دولة كبرى لا تغيب عنها الشمس، وهذا الدين قادر بما فيه من طاقات كامنة على أن يقيم اليوم دولة أخرى كما أقامها بالأمس، فالوعد الإلهي مستمر وقائم على الدوام، لكل من آمن بالله ثم استقام، وبقدر ما يتحقق من هذين الشرطين أو من أجزائهما يكون من حق المؤمنين انتظار وعد الله كليا أو جزئيا، لكن بقدر ما يطرأ من إهمالهما يتخلف عنهم وعد الله، فتنحط منزلتهم، بعدما رفعهم الله مكانا عليا.
ولتوضيح جملة من مقتضيات الإيمان والعمل الصالح تولى كتاب الله الحديث عنها في نفس السياق فقال :﴿ يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون * وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ﴾، ونبه كتاب الله خلال هذه الآية نفسها على أن المؤمنين الذين أنعم الله عليهم، مطالبون بشكر نعمه، وإلى أنهم لا يستحقون وصف الإيمان الكامل إلا إذا استعملوا نعمه فيما منحت لأجله، فلم يكفروا بها ولم يتنكروا لها، ولم يستعملوها في غير وجهها، وإلا انقلب وصفهم بالإيمان والمؤمنين، إلى وصفهم بالفسق والفاسقين، والفاسق من إذا استغنى تجبر وطغى، وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها وبغى، وذلك قوله تعالى هنا :﴿ ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴾.
﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ﴾
ويلتقي مع هذه الآيات حول نفس المعنى قول الله تعالى في سورة الحج :﴿ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور ﴾ [ الآية : ٤١ ] فهذه هي الضمانات الكبرى والدائمة، لتمكين المؤمنين في الأرض، طولها والعرض.
ونبه كتاب الله إلى أنه لا حرج على العيال والأقرباء، والضيوف والأصدقاء في أن يأكلوا مجتمعين أو متفرقين حسب الظروف، وإن كان الاجتماع على مائدة واحدة أبرك وآنس، وأجلب للألفة، وذلك قوله تعالى :﴿ ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا ﴾، وحض الزائرين على البدء بتحية أهل البيت الذين جاؤوا لزيارتهم والسلام عليهم، فقال تعالى :﴿ فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ﴾ يعني إخوانكم الذين هم بمنزلة أنفسكم ﴿ تحية من عند الله مباركة طيبة ﴾، قال جار الله الزمخشري : " ووصفها بالبركة والطيب، لأنها دعوة مؤمن لمؤمن، يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق ".
وإلى هذا النظام الأساسي الذي وضعه كتاب الله لحياة المسلمين العامة يشير قوله تعالى في الآيات الأخيرة من هذا الربع فيقول :﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم ﴾.
في نهاية الربع الماضي حث كتاب الله السابقين الأولين، الذين نالوا من العناية الإلهية أوفر نصيب، بصحبة خاتم الأنبياء والمرسلين، وكذلك من يأتي بعدهم من كافة المؤمنين، على عدم الانصراف من أي جمع إسلامي عام تعالج فيه الشؤون العامة للمسلمين، إلى أن ينتهي الجمع إلى النتيجة التي التأم من أجلها، وأمرهم بأن لا يفارق أي واحد منهم مقر الجمع، إلا بإذن صريح من رسول الله الذي هو رئيس الجماعة الإسلامية الأول والأصيل، وواضح أن هذا التوجيه الإلهي ينسحب بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى على خلفائه من بعده، وذلك قوله تعالى :﴿ وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ﴾.
وبعد ان استوفى كتاب الله في الستين آية التي مضت من سورة النور المدنية جملة الضوابط التي تضبط الحياة الخاصة والحياة العامة للأسرة المسلمة، الصغرى والكبرى، وما يلزم أن تطبقه من التعليمات الدقيقة في علاقاتها الاجتماعية والسياسية، سواء فيما بين أفرادها بعضهم مع بعض، أو فيما بين الراعي منهم والرعية، حذر كتاب الله من التمرد على تلك الضوابط والمخالفة لتلك التعليمات، مبينا ما يؤدي إليه عدم اتباعها والخروج عليها والإعراض عنها من أسوأ العواقب، في الدنيا والآخرة، فقال تعالى :﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ﴾ لأن اعتقاد ما هو مخالف لقول الله كفر، وفعل ما هو مخالف لأمره معصية. وتصدق هذه الآية الكريمة أيضا على الاجتماعات التي تعقد للنظر في ( أمر جامع ) تتوقف عليه مصلحة المسلمين العامة، طبقا لأصول الإسلام الثابتة، فلا يسوغ الخروج على مقرراتها، ولا مخالفة توجيهاتها، إذ الغرض الأساسي منها متى دعا إليها الرسول وصالحو المؤمنين هو الحصول على الإجماع والاتفاق، وتفادي الخلاف والشقاق، ومتى وقع الخروج عليها منيت الأمة بالانحلال والفشل، وأصيبت الدولة بمختلف الأدواء والعلل. ومن قوله تعالى هنا :﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره ﴾ [ الآية : ٦٣ ]، استنبط المحققون من علماء الأصول أن " الأمر " صريح في الاقتضاء والطلب، وأن كونه للوجوب إنما يؤخذ من توجه اللوم والذم، وترتيب العقاب على مخالفته.
وفي بداية هذا الربع كشف كتاب الله النقاب عن حقيقة فريق من الناس ضعاف الإيمان لا تهمهم شؤون المسلمين العامة، ولا يحملون لرؤسائهم المسلمين في قلوبهم وقارا، لكن تضطرهم الظروف إلى حضور مثل هذه الجموع كي لا يوصموا بالعار، حتى إذا ما حضروها أحسوا في أنفسهم بالضيق والملل، وحاولوا التسلل منها في خفية عن الأنظار، وإلى هذه الطائفة التي في قلبها مرض، وجه كتاب الله تحذيره الصريح، إذ قال تعالى :﴿ قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ﴾، إشارة إلى أنه إذا غفلت عين الرئيس المسلم الذي يرأس الجمع، أو غفلت أعين المسلمين المجتمعين فيه، عن تسلل أولئك المذبذبين، وخروجهم من الجمع مختفين مستترين، دون اعتذار ولا استئذان، حذرا من الفضيحة والهوان، فإن الله تعالى الذي يعلم السر والنجوى لا يخفى عليه من أمرهم شيء، وسيحاسبهم، بمقتضى علمه، على ما في ضمائرهم حسابا عسيرا. وكلمة ( لواذا ) في هذه الآية من الملاوذة، وهي أن تستتر بشيء مخافة من يراك، وقد كان المنافقون أول من دشن على عهد الرسالة هذا النوع من الالتواء والمخاتلة، فتركوه سنة لمن بعدهم.
وفي سياق الحديث عن " الأمر الجامع " الذي يدعو الرسول إلى حضوره وتدور حوله المناقشة والحوار نبه كتاب الله إلى أن مخاطبة رسوله الأعظم يجب ان تكون مصحوبة بالأدب اللائق بمقامه الكريم، ويشمل ذلك اللقب الذي يدعى به، واللهجة التي يخاطب بها، فلا يدعى إلا بوصفه " رسول الله " ولا يدعى إلا برفق ولين، دون تهجم أو رفع للصوت، وذلك قوله تعالى هنا :﴿ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ﴾ على غرار قوله تعالى في سورة الحجرات :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ﴾ [ الآية : ٢ ]، وقد استحسن العلماء ملاحظة هذا المعنى في مخاطبة ذوي الخطط والولايات المختلفة، حيث يفضل أن يدعى كل واحد منهم بلقب خطته تكريما له، ومن ذلك الخليفة والأمير والوزير، وهكذا، كما نبه على ذلك القاضي أبو بكر ( ابن العربي ).
ويمكن أن يكون المراد بقوله تعالى :﴿ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ﴾ هو أن الجمع الذي يوجه الرسول الدعوة لحضوره يجب أن ينال من الاهتمام والاعتبار ما لا تحظى به دعوات غيره من الناس، ولذلك لا يسوغ التخلف عن حضوره إلا لعذر مشروع، ولا تجوز مفارقته إلا بإذن صريح، ويقاس عليه ما يدعو إليه من الاجتماعات المتعلقة بالمصالح العامة أمراء المؤمنين، ورؤساء المسلمين، ولا مانع من أن تحمل هذه الآية على كلا المعنيين، إذ لا تعارض بينهما ولا تناقض، ويكون ذلك من باب الإيجاز والإعجاز.
ثم ذكر كتاب الله كل من في قلوبهم مرض، ممن يخيل إليهم أنهم بمنجاة من رقابته وسطوته، أنه لا يخفى عليه من أحوالهم شيء، وإن بالغوا في التستر بها، والتظاهر بغيرها، وأنه سينبئهم بما عملوا ويؤاخذهم عليه، فقال تعالى :﴿ ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم ﴾، إذ كيف يخفى عليه أمرهم وجميع ما في السماوات والأرض في قبضته، خلقا وملكا وعلما، وواضح أن لفظ ( قد ) في قوله تعالى هنا :﴿ قد يعلم ما أنتم عليه ﴾ لا يعني في هذا السياق إلا توكيد علمه سبحانه بما هم عليه من المخالفة والنفاق، وكما أفاد لفظ ( قد ) في قوله تعالى من قبل :﴿ قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ﴾ تحقيق علمه سبحانه بهم وتوكيده، أفاد لفظ ( قد ) هنا نفس المعنى، والمغزى المراد من توكيد العلم في كلتا الآيتين هو توكيد الوعيد الذي تتضمنه الواحدة تلو الأخرى، حسبما نبه على ذلك جار الله الزمخشري.