تفسير سورة النّور

أحكام القرآن للجصاص
تفسير سورة سورة النور من كتاب أحكام القرآن المعروف بـأحكام القرآن للجصاص .
لمؤلفه الجصَّاص . المتوفي سنة 370 هـ

الرَّابِعَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ إقْرَارِهِ أَرْبَعًا
لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ فَلَوْ كَانَ الْحَدُّ وَاجِبًا بِإِقْرَارِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً
لَسَأَلَ عَنْهُ فِي أَوَّلِ إقْرَارِهِ وَمَسْأَلَتُهُ جِيرَانَهُ وَأَهْلَهُ عَنْ عَقْلِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَلَى الإمام الاستثبات والاحتياطيات فِي الْحَدِّ وَمَسْأَلَتُهُ عَنْ الزِّنَا كَيْفَ هُوَ وَمَا هُوَ وَقَوْلُهُ لَعَلَّك لَمَسْت لَعَلَّك قَبَّلْت يفيد حكمين أحدهما أنه لا يقصر عَلَى إقْرَارِهِ بِالزِّنَا دُونَ اسْتِثْبَاتِهِ فِي مَعْنَى الزِّنَا حَتَّى يُبَيِّنَهُ بِصِفَةٍ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ أَنَّهُ زِنًا وَقَوْلُهُ لَعَلَّك لَمَسْت لَعَلَّك قَبَّلْت تَلْقِينٌ لَهُ الرُّجُوعَ عَنْ الزِّنَا وَأَنَّهُ إنَّمَا أراد اللمس كما روى أنه لِلسَّارِقِ مَا إخَالُهُ سَرَقَ وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جِيءَ بِامْرَأَةٍ حُبْلَى بِالْمَوْسِمِ وَهِيَ تَبْكِي فَقَالُوا زَنَتْ فَقَالَ عُمَرُ مَا يُبْكِيك فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رُبَّمَا اُسْتُكْرِهَتْ عَلَى نَفْسِهَا يلقنها ذلك فأخبرت أن رجل رَكِبَهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ فَقَالَ عُمَرُ لَوْ قُتِلَتْ هَذِهِ لَخَشِيت أَنْ تَدْخُلَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْأَخْشَبَيْنِ النَّارُ فَخَلَّى سَبِيلَهَا
وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ لِشُرَاحَةَ حِينَ أَقَرَّتْ عِنْدَهُ بِالزِّنَا لَعَلَّك عَصِيَتْ نَفْسُك قَالَتْ أَتَيْت طَائِعَةً غَيْرَ مُكْرَهَةٍ فَرَجَمَهَا
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ
يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ رُجُوعِهِ عَنْ إقْرَارِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا امْتَنَعَ مِمَّا بَذَلَ نَفْسَهُ لَهُ بَدِيًّا قَالَ هَلَّا تَرَكْتُمُوهُ وَلَمَّا لَمْ يَجْلِدْهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ وَالْجَلْدَ لَا يَجْتَمِعَانِ قَوْله تَعَالَى وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ الطَّائِفَةُ الرَّجُلُ إلَى الْأَلْفِ وَقَرَأَ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا وَقَالَ عَطَاءٌ رَجُلَانِ فَصَاعِدًا وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو بريدة الطَّائِفَةُ عَشَرَةٌ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ فِي قَوْلِهِ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ قَالَ كَانَ رَجُلًا وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ ثَلَاثَةٌ فَصَاعِدًا وَقَالَ قَتَادَةُ لِيَكُونَ عِظَةً وَعِبْرَةً لَهُمْ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ أَرْبَعَةٌ لِأَنَّ الشُّهُودَ أَرْبَعَةٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يُشْبِهُ أَنَّ الْمَعْنَى فِي حُضُورِ الطَّائِفَةِ مَا قَالَهُ قَتَادَةُ أَنَّهُ عِظَةٌ وَعِبْرَةٌ لَهُمْ فَيَكُونُ زَجْرًا لَهُ عَنْ الْعَوْدِ إلَى مِثْلِهِ وَرَدْعًا لِغَيْرِهِ عَنْ إتْيَانِ مِثْلِهِ وَالْأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ جَمَاعَةً يستفيض الخير بِهَا وَيَشِيعُ فَيَرْتَدِعُ النَّاسُ عَنْ مِثْلِهِ لِأَنَّ الْحُدُودَ مَوْضُوعَةٌ لِلزَّجْرِ وَالرَّدْعِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
بَابُ تَزْوِيجُ الزَّانِيَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
قال أبو بكر روى عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
106
جَدِّهِ قَالَ كَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ وَكَانَ يَحْمِلُ الْأَسْرَى مِنْ مَكَّةَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمْ الْمَدِينَةَ وَكَانَ بِمَكَّةَ بَغِيٌّ يُقَالُ لَهَا عَنَاقٌ وَكَانَتْ صَدِيقَةً لَهُ وَكَانَ وَعَدَ رَجُلًا أَنْ يَحْمِلَهُ مِنْ أَسْرَى مكة وإن عناقا رَأَتْهُ فَقَالَتْ لَهُ أَقِمْ اللَّيْلَةَ عِنْدِي قَالَ يَا عَنَاقُ قَدْ حَرَّمَ اللَّهُ الزِّنَا فَقَالَتْ يَا أَهْلَ الْخِبَاءِ هَذَا الَّذِي يَحْمِلُ أَسْرَاكُمْ فَلَمَّا قَدِمْت الْمَدِينَةَ أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أتزوج عناق فلم يرد على حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تنكحها
فبين عمر وبن شُعَيْبٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الزَّانِيَةِ الْمُشْرِكَةِ أَنَّهَا لَا يَنْكِحُهَا إلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَإِنَّ تَزَوُّجَ الْمُسْلِمِ الْمُشْرِكَةَ زِنًا إذْ كَانَتْ لَا تَحِلُّ لَهُ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وَحُكْمِهَا فَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ فِي قَوْله تَعَالَى الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً قَدْ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الَّتِي بَعْدَهَا وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ قَالَ كَانَ يُقَالُ هِيَ مِنْ أَيَامَى الْمُسْلِمِينَ فَأَخْبَرَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَحَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً قال كان رجال يريدون الزنا بنساء زوان بَغَايَا مُعْلِنَاتٍ كُنَّ كَذَلِكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقِيلَ لَهُمْ هَذَا حَرَامٌ فَأَرَادُوا نِكَاحَهُنَّ فَذَكَرَ مُجَاهِدٌ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي نِسَاءٍ مَخْصُوصَاتٍ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر فِي قَوْلِهِ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً أَنَّهُ نَزَلَ فِي رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بَغِيَّةً عَلَى أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ فَأَخْبَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّهْيَ خَرَجَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ أَنْ يُزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُخَلِّيَهَا وَالزِّنَا وَرَوَى حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ سعيد ابن جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ يَعْنِي بِالنِّكَاحِ جِمَاعَهَا وَرَوَى ابْنُ شُبْرُمَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً قَالَ لَا يَزْنِي حِينَ يَزْنِي إلَّا بِزَانِيَةٍ مِثْلِهِ وَقَالَ شُعْبَةُ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابن عباس بغاياكن فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْعَلْنَ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ رَايَاتٍ كَرَايَاتِ الْبَيَاطِرَةِ يَأْتِيهِنَّ نَاسٌ يُعْرَفْنَ بِذَلِكَ وَرَوَى مُغِيرَةُ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً يَعْنِي بِهِ الْجِمَاعَ حِينَ يَزْنِي وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَذَهَبَ هَؤُلَاءِ إلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْإِخْبَارُ بِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الزِّنَا وَأَنَّ الْمَرْأَةَ كَالرَّجُلِ فِي ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ زَانِيًا فَالْمَرْأَةُ مِثْلُهُ إذَا طَاوَعَتْهُ وَإِذَا زَنَتْ الْمَرْأَةُ فَالرَّجُلُ مِثْلُهَا فَحَكَمَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ بِمُسَاوَاتِهِمَا فِي
107
الزِّنَا وَيُفِيدُ ذَلِكَ مُسَاوَاتَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَدِّ وَعِقَابِ الْآخِرَةِ وَقَطْعِ الْمُوَالَاةِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ وَرُوِيَ فِيهِ قَوْلٌ آخَرُ وَهُوَ مَا رَوَى عَاصِمُ الْأَحْوَلُ عَنْ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ الْمَحْدُودُ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا مَحْدُودَةً وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَزْوِيجِ الزَّانِيَةِ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي آخَرِينَ مِنْ التَّابِعِينَ أَنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ أَوْ زَنَى بِهَا غَيْرُهُ فَجَائِزٌ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَالْبَرَاءِ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُمَا لَا يَزَالَانِ زَانِيَيْنِ مَا اجْتَمَعَا
وَعَنْ عَلِيٍّ إذَا زَنَى الرَّجُلُ فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَكَذَلِكَ هِيَ إذَا زَنَتْ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَمَنْ حَظَرَ نِكَاحَ الزَّانِيَةِ تَأَوَّلَ فِيهِ هَذِهِ الْآيَةَ وَفُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ وَأَنَّ الزِّنَا لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهَا عَلَى الزَّوْجِ وَلَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا وَلَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا وَذَلِكَ حَقِيقَتُهُ أَوْ نَهْيًا وَتَحْرِيمًا ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذِكْرِ النِّكَاحِ هُنَا الْوَطْءَ أَوْ الْعَقْدَ وَمُمْتَنِعٌ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنَى الْخَبَرِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ لِأَنَّا وَجَدْنَا زَانِيًا يَتَزَوَّجُ غَيْرَ زَانِيَةٍ وَزَانِيَةٌ تَتَزَوَّجُ غَيْرَ الزَّانِي فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ مَوْرِدَ الْخَبَرِ فَثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ الْحُكْمَ وَالنَّهْيَ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ يَخْلُو مِنْ أن يكون المراد الوطء والعقد وَحَقِيقَةُ النِّكَاحِ هُوَ الْوَطْءُ فِي اللُّغَةِ لِمَا قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُ فِي أَنَّ الْمُرَادَ الْجِمَاعُ وَلَا يُصْرَفُ إلَى الْعَقْدِ إلَّا بِدَلَالَةٍ لِأَنَّهُ مَجَازٌ وَلِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْحَقِيقَةَ انْتَفَى دُخُولُ الْمَجَازِ فِيهِ وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ زِنَا الْمَرْأَةِ أَوْ الرَّجُلِ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ إذْ كَانَا جَمِيعًا مَوْصُوفَيْنِ بِأَنَّهُمَا زَانِيَانِ لِأَنَّ الْآيَةَ قَدْ اقْتَضَتْ إبَاحَةَ نِكَاحِ الزَّانِي لِلزَّانِيَةِ فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ الَّذِي زَنَى بِهَا قَبْلَ أَنْ يَتُوبَا وَأَنْ لَا يَكُونَ زناهما حال في الزَّوْجِيَّةِ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَقُولُ ذَلِكَ وَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ لِلزَّانِي أَنْ يَتَزَوَّجَ مُشْرِكَةً وَلِلْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ مُشْرِكًا وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَأَنَّ نِكَاحَ الْمُشْرِكَاتِ وَتَزْوِيجَ الْمُشْرِكِينَ مُحَرَّمٌ مَنْسُوخٌ فدل ذلك على أحد المعنيين إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْجِمَاعَ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَابَعَهُ أَوْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْآيَةِ مَنْسُوخًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَحْتَجُّ فِي أَنَّ الزِّنَا لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ بِمَا
رَوَى هَارُونُ بْنُ رِئَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ وَيَرْوِيهِ عَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ عَنْ أَبِي
108
الزُّبَيْرِ وَكِلَاهُمَا يُرْسِلُهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ امْرَأَتِي لَا تمنع يد لامس فأمر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِمْتَاعِ مِنْهَا
فيحمل ذلك على أنها لا تمنع أحد مِمَّنْ يُرِيدُهَا عَلَى الزِّنَا وَقَدْ أَنْكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَذَا التَّأْوِيلَ قَالُوا لَوْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّجُلَ وَصَفَ امْرَأَتَهُ بِالْخَرَقِ وَضَعْفِ الرَّأْيِ وَتَضْيِيعِ مَالِهِ فَهِيَ لَا تَمْنَعُهُ مِنْ طَالِبٍ وَلَا تَحْفَظُهُ مِنْ سَارِقٍ قَالُوا وَهَذَا أَوْلَى لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَحَمْلُهُ عَلَى الْوَطْءِ كِنَايَةٌ وَمَجَازٌ وَحَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَوْلَى وَأَشْبَهَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا
قَالَ عَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ إذَا جَاءَكُمْ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْدَى وَاَلَّذِي هُوَ أَهْنَأُ وَاَلَّذِي هُوَ أَتْقَى
فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَجَعَلَ الْجِمَاعَ لَمْسًا قِيلَ لَهُ إنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَقُلْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهَا لَا تَمْنَعُ لَامِسًا وَإِنَّمَا قَالَ يَدَ لَامِسٍ وَلَمْ يَقُلْ فَرْجَ لَامِسٍ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةُ اللَّمْسِ بِالْيَدِ وَقَالَ جريج الْخَطْفِيُّ يُعَاتِبُ قَوْمًا:
أَلَسْتُمْ لِئَامًا إذْ تَرُومُونَ جارهم ولولاهمو لَمْ تَمْنَعُوا كَفَّ لَامِسِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْوَطْءَ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّكُمْ لَا تَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ الضَّيْمَ وَمَنَعَ أَمْوَالَكُمْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ فَكَيْفَ تَرُومُونَ جَارَهُمْ بِالظُّلْمِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ تَزْوِيجَ الزَّانِيَةِ وَإِمْسَاكَهَا عَلَى النكاح محظور منهى عنه مادامت مُقِيمَةً عَلَى الزِّنَا وَإِنْ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي إفْسَادِ النِّكَاحِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَبَاحَ نِكَاحَ الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يَعْنِي الْعَفَائِفَ مِنْهُنَّ وَلِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ كَذَلِكَ لَا يُؤْمَنُ أَنْ تَأْتِيَ بِوَلَدٍ مِنْ الزِّنَا فَتُلْحِقَهُ بِهِ وَتُوَرِّثَهُ مَالَهُ وَإِنَّمَا يُحْمَلُ قَوْلُ مَنْ رَخَّصَ فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا تَائِبَةٌ غَيْرُ مُقِيمَةٍ عَلَى الزِّنَا وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ زِنَاهَا لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ فِي الْقَاذِفِ لِزَوْجَتِهِ بِاللِّعَانِ ثُمَّ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فَلَوْ كَانَ وُجُودُ الزِّنَا مِنْهَا يوجب الفرقة لوجب إيقاع الفرقة بقذفه إياها لا عترافه بِمَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ أَنَّ أَبَاهُ قَدْ كَانَ وَطِئَهَا لَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِهَذَا الْقَوْلِ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ بَعْدَ اللِّعَانِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الزِّنَا يُوجِبُ التَّحْرِيمَ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا وَجَبَتْ الْفُرْقَةُ بِاللِّعَانِ قِيلَ لَهُ لَوْ كَانَ كَمَا ذَكَرْت لَوَجَبَتْ الْفُرْقَةُ بِنَفْسِ الْقَذْفِ دُونَ اللِّعَانِ فَلَمَّا لَمْ تَقَعْ بِالْقَذْفِ دَلَّ عَلَى فَسَادِ مَا ذَكَرْت فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِاللِّعَانِ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا بِالزِّنَا فَلَمَّا حُكِمَ عَلَيْهَا بِذَلِكَ حُكِمَ بِوُقُوعِ الفرقة لأجل
109
الزِّنَا قِيلَ لَهُ وَهَذَا غَلَطٌ أَيْضًا لِأَنَّ شَهَادَةَ الزَّوْجِ وَحْدَهُ عَلَيْهَا بِالزِّنَا لَا تُوجِبُ كَوْنَهَا زَانِيَةً كَمَا أَنَّ شَهَادَتَهَا عَلَيْهِ بِالْإِكْذَابِ لَا تُوجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمَ بِالْكَذِبِ فِي قَذْفِهِ إيَّاهَا إذْ لَيْسَتْ إحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ مَحْكُومًا لَهُ بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ عَلَيْهَا بِالزِّنَا لَوَجَبَ أَنْ تُحَدَّ حَدَّ الزِّنَا فَلَمَّا لَمْ تُحَدَّ بِذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ عَلَيْهَا بِالزِّنَا بِقَوْلِ الزَّوْجِ والله أعلم بالصواب.

باب حد القذف


قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِحْصَانُ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ الرَّجْمِ عَلَى الزَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا مُسْلِمًا قَدْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا صَحِيحًا وَدَخَلَ بِهَا وَهُمَا كَذَلِكَ وَالْآخَرُ الْإِحْصَانُ الَّذِي يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُرًّا بَالِغًا عَاقِلًا مُسْلِمًا عَفِيفًا وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى الْمُحْصَنَاتِ بِالذِّكْرِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ الْمُحْصَنِينَ مُرَادُونَ بِالْآيَةِ وَأَنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ عَلَى قَاذِفِ الرَّجُلِ الْمُحْصَنِ كَوُجُوبِهِ عَلَى قَاذِفِ الْمُحْصَنَةِ وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أن قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الرَّمْيُ بِالزِّنَا وَإِنْ كَانَ فِي فَحْوَى اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْمُحْصَنَاتِ وَهُنَّ الْعَفَائِفُ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ رَمْيُهَا بِضِدِّ الْعَفَافِ وَهُوَ الزِّنَا وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ دَلَالَةِ فَحْوَى اللَّفْظِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ يَعْنِي عَلَى صِحَّةِ مَا رَمَوْهُ بِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْعَدَدَ مِنْ الشُّهُودِ إنَّمَا هُوَ مَشْرُوطٌ فِي الزِّنَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ مَعْنَاهُ يَرْمُونَهُنَّ بِالزِّنَا وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْقَذْفَ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ إنَّمَا هُوَ الْقَذْفُ بِصَرِيحِ الزِّنَا وَهُوَ الَّذِي إذَا جَاءَ بِالشُّهُودِ عَلَيْهِ حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ وَلَوْلَا مَا فِي فَحْوَى اللَّفْظِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الرَّمْيِ مَخْصُوصًا بِالزِّنَا دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَقَعُ الرَّمْيُ بِهَا إذْ قَدْ يَرْمِيهَا بِسَرِقَةٍ وَشُرْبِ خَمْرٍ وَكُفْرٍ وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمَحْظُورَةِ وَلَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ حِينَئِذٍ مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ حُكْمِهِ بَلْ كَانَ يَكُونُ مُجْمَلًا مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى الْبَيَانِ إلَّا أَنَّهُ كَيْفَمَا تَصَرَّفَتْ الْحَالُ فَقَدْ حَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ الرَّمْيَ بِالزِّنَا مُرَادٌ وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ بِالزِّنَا إذْ حُصُولُ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الزِّنَا مُرَادٌ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِهِ فِي اللَّفْظِ فَوَجَبَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ وُجُوبُ حَدِّ الْقَذْفِ مقصورا
110
بِالزِّنَا دُونَ غَيْرِهِ وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْفُقَهَاءُ فِي التَّعْرِيضِ بِالزِّنَا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ بن شُبْرُمَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ لَا حَدَّ فِي التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ وَقَالَ مَالِكٌ عَلَيْهِ فِيهِ الْحَدُّ وَرَوَى الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ عُمَرُ يَضْرِبُ الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عن مالك عن أبى الرحال عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ أَنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبَّا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ وَاَللَّهِ مَا أَبِي بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ النَّاسَ فَقَالَ قَائِلٌ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَقَالَ آخَرُونَ قَدْ كَانَ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذَا نَرَى أَنْ يُجْلَدَ الْحَدَّ فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ عُمَرَ لَمْ يُشَاوِرْ فِي ذَلِكَ إلَّا الصَّحَابَةَ الَّذِينَ إذَا خَالَفُوا قُبِلَ خِلَافُهُمْ فَثَبَتَ بِذَلِكَ حُصُولُ الْخِلَافِ بَيْنَ السَّلَفِ ثُمَّ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ هُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَا لَمْ يَجُزْ لَنَا إيجَابُ الْحَدِّ عَلَى غَيْرِهِ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْحُدُودِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا الِاتِّفَاقُ أَوْ التَّوْقِيفُ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي التَّعْرِيضِ مُشَاوَرَةِ عُمَرَ الصَّحَابَةَ فِي حُكْمِ التَّعْرِيضِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِيهِ تَوْقِيفٌ وأنه قال اجْتِهَادًا وَرَأْيًا وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّعْرِيضَ بِمَنْزِلَةِ الْكِنَايَةِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْمَعَانِي وَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُ الْحَدِّ بِالِاحْتِمَالِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْقَائِلَ بَرِيءُ الظَّهْرِ مِنْ الْجَلْدِ فَلَا نَجْلِدُهُ بِالشَّكِّ وَالْمُحْتَمَلُ مَشْكُوكٌ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ يَزِيدَ بْنَ رُكَانَةَ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ اسْتَحْلَفَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم مَا أَرَدْت إلَّا وَاحِدَةً فَلَمْ يُلْزِمْهُ الثَّلَاثَ بِالِاحْتِمَالِ وَلِذَلِكَ قَالَ الْفُقَهَاءُ فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ إنَّهَا لَا تُجْعَلُ طَلَاقًا إلَّا بِدَلَالَةٍ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ
وَأَقَلُّ أَحْوَالِ التَّعْرِيضِ حِينَ كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْقَذْفِ وَغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِهِ وَأَيْضًا قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ التَّعْرِيضِ بِالنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ وَبَيْنَ التَّصْرِيحِ فَقَالَ وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا يَعْنِي نِكَاحًا فَجَعَلَ التَّعْرِيضَ بِمَنْزِلَةِ الْإِضْمَارِ فِي النَّفْسِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمَ التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّعْرِيضَ لَمَّا كَانَ فِيهِ احْتِمَالٌ كَانَ فِي حُكْمِ الضَّمِيرِ لِوُجُودِ الِاحْتِمَالِ فِيهِ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْعَبْدِ فِي الْقَذْفِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَالشَّافِعِيُّ إذَا قَذَفَ الْعَبْدُ حُرًّا فَعَلَيْهِ أَرْبَعُونَ جَلْدَةً وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يُجْلَدُ ثَمَانِينَ
وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ
111
عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا قَالَ يُجْلَدُ الْعَبْدُ فِي الْفِرْيَةِ أَرْبَعِينَ
وَرَوَى الثَّوْرِيُّ عَنْ ابْنِ ذَكْوَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَة قَالَ أَدْرَكْت أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْخُلَفَاءِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَضْرِبُونَ المملوك في القذف الأربعين قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَالِمٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعَطَاءٍ وَرَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ فِي عَبْدٍ قَذَفَ حُرًّا إنَّهُ يُجْلَدُ ثَمَانِينَ وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ جَلَدَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَبْدًا فِي الْفِرْيَةِ ثَمَانِينَ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ حَدَّ الْعَبْدِ فِي الزِّنَا خَمْسُونَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ لِأَجْلِ الرِّقِّ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ فَنَصَّ عَلَى حَدِّ الْأَمَةِ وَأَنَّهُ نِصْفُ حَدِّ الْحُرَّةِ وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ بِمَنْزِلَتِهَا لِوُجُودِ الرِّقِّ فِيهِ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُ فِي الْقَذْفِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَدِّ الْحُرِّ لِوُجُودِ الرِّقِّ فِيهِ وَاخْتَلَفُوا فِي قَاذِفِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ والشافعى لاحد عَلَى قَاذِفِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُحَدُّ قَاذِفُ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يُجَامِعُ إذَا لَمْ يَبْلُغْ وَيُحَدُّ قَاذِفُ الصَّبِيَّةِ إذَا كَانَ مِثْلُهَا تُجَامَعُ وَإِنْ لَمْ تُحْصَنْ وَيُحَدُّ قَاذِفُ الْمَجْنُونِ وَقَالَ اللَّيْثُ يُحَدُّ قَاذِفُ الْمَجْنُونِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْمَجْنُونُ وَالصَّبِيُّ وَالصَّبِيَّةُ لَا يَقَعُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زِنًا لِأَنَّ الْوَطْءَ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ زِنًا إذْ كَانَ الزِّنَا فِعْلًا مَذْمُومًا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعِقَابَ وَهَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّونَ الْعِقَابَ عَلَى أَفْعَالِهِمْ فَقَاذِفُهُمْ بِمَنْزِلَةِ قَاذِفِ الْمَجْنُونِ لِوُقُوعِ الْعِلْمِ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ وَلِأَنَّهُمْ لَا يَلْحَقُهُمْ شَيْنٌ بِذَلِكَ الْفِعْلِ لَوْ وَقَعَ مِنْهُمْ فَكَذَلِكَ لَا يَشِينُهُمْ قَذْفُ الْقَاذِفِ لَهُمْ بِذَلِكَ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْحَدِّ إلَى المقذوف لا تجوز وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُومَ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكَالَةَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِيهِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ تَجِبْ الْمُطَالَبَةُ لِأَحَدٍ وَقْتَ الْقَذْفِ فَلَمْ يَجِبْ الْحَدُّ لِأَنَّ الْحَدَّ إذَا وَجَبَ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْقَذْفِ لَا غَيْرَ فَإِنْ قِيلَ فَلِلرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ بِحَدِّ أَبِيهِ إذَا قُذِفَ وَهُوَ مَيِّتٌ فَقَدْ جَازَ أَنْ يُطَالِبَ عَنْ الْغَيْرِ بِحَدِّ الْقَذْفِ قِيلَ لَهُ إنَّمَا يُطَالِبُ عَنْ نَفْسِهِ لِمَا حَصَلَ بِهِ مِنْ الْقَدْحِ فِي نَسَبِهِ وَلَا يُطَالِبُ عَنْ الْأَبِ وَأَيْضًا لَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَاذِفَ الصبى لا بحد كَانَ كَذَلِكَ قَاذِفُ الصَّبِيَّةِ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ التَّكْلِيفِ وَلَا يَصِحُّ وُقُوعُ الزِّنَا مِنْهُمَا فَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَاللَّيْثُ إذَا قَذَفَهُمْ بِقَوْلٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إذَا قَالَ لَهُمْ يَا زُنَاةُ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ وَإِنْ قَالَ لِكُلِّ
112
إنْسَانٍ يَا زَانِي فَلِكُلِّ إنْسَانٍ حَدٌّ وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ إذَا قَذَفَ جَمَاعَةً فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ زَنَيْت بِفُلَانَةَ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ لِأَنَّ عُمَرَ ضَرَبَ أَبَا بَكْرَةَ وَأَصْحَابَهُ حَدًّا وَاحِدًا وَلَمْ يَحُدَّهُمْ لِلْمَرْأَةِ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ إذَا قَالَ يَا زَانِيَ ابْنَ زَانٍ فَعَلَيْهِ حَدَّانِ وَإِنْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ إنَّكُمْ زُنَاةٌ فَحَدٌّ وَاحِدٌ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ إذَا قَالَ مَنْ كَانَ دَاخِلَ هَذِهِ الدَّارِ فَهُوَ زَانٍ ضُرِبَ لِمَنْ كَانَ دَاخِلَهَا إذَا عُرِفُوا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِيمَا حَكَاهُ الْمُزَنِيّ عَنْهُ إذَا قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ فَعَلَيْهِ حَدَّانِ وَقَالَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِرَجُلٍ لَاعَنَ وَلَمْ يُحَدَّ لِلرَّجُلِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ جَلْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاذِفِينَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً فَكَانَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ وَمَنْ رَمَى مُحْصَنًا فَعَلَيْهِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ قَاذِفَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُحْصَنَاتِ لَا يُجْلَدُ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَانِينَ وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى قَاذِفِ جَمَاعَةِ الْمُحْصَنَاتِ أَكْثَرَ مِنْ حَدٍّ وَاحِدٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْآيَةِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أبو داود قال حدثنا محمد ابن بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ قَالَ أنبأنا هشام بن حسان قال حدثني عكرمة عن هلال ابن أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بشريك بن سمحاء فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيِّنَةُ أوحد فِي ظَهْرِك فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إذَا رَأَى أَحَدُنَا رَجُلًا عَلَى امْرَأَتِهِ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك فَقَالَ هِلَالٌ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ إنِّي لَصَادِقٌ وَلِيُنْزِلَن اللَّهُ فِي أَمْرِي مَا يُبْرِئُ ظَهْرِي مِنْ الْحَدِّ فنزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ
وذكر الحديث
وروى مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا مَخْلَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ شَرِيكَ بن سمحاء بِامْرَأَتِهِ فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ ائْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك قَالَ ذَلِكَ مِرَارًا فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ ثَبَتَ بِهَذَا الْخَبَرِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْآيَةَ كَانَ حُكْمًا عَامًّا فِي الزَّوْجَاتِ كَهُوَ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهلال بن أمية ائْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك
وَلِأَنَّ عُمُومَ الْآيَةِ قَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ ثُمَّ لَمْ يُوجِبْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هلال إلا حدا واحدا مع قذفه لامرأته ولشريك بن سمحاء إلَى أَنْ نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ فَأُقِيمَ اللِّعَانُ فِي الزَّوْجَاتِ مَقَامَ الْحَدِّ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ وَلَمْ ينسخ موجب الخبر من وجوب الاقتصاد على حد واحد إذا قذف «٨- احكام مس»
113
جَمَاعَةً فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى قَاذِفِ الْجَمَاعَةِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ سَائِرَ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ إذَا وُجِدَ مِنْهُ مِرَارًا لَا يُوجِبُ إلَّا حَدًّا وَاحِدًا كَمَنْ زَنَى مِرَارًا أَوْ سَرَقَ مِرَارًا أَوْ شَرِبَ مِرَارًا لَمْ يُحَدَّ إلَّا حَدًّا وَاحِدًا فَكَانَ اجْتِمَاعُ هَذِهِ الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مُوجِبًا لِسُقُوطِ بَعْضِهَا وَالِاقْتِصَارِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بينهما أنها حد وإن شئت قلت إنما يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ فَإِنْ قِيلَ حَدُّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَإِذَا قَذَفَ جَمَاعَةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اسْتِيفَاءُ حَدِّهِ عَلَى حِيَالِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ أَنَّهُ لَا يُحَدُّ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ قِيلَ لَهُ الْحَدُّ هُوَ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى كَسَائِرِ الْحُدُودِ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَإِنَّمَا الْمُطَالَبَةُ بِهِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ لَا الْحَدُّ نَفْسُهُ وَلَيْسَ كَوْنُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مُطَالَبَةِ الْآدَمِيِّ مِمَّا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ نَفْسُهُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ أَلَا تَرَى أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْآدَمِيِّ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ فَكَذَلِكَ حَدُّ الْقَذْفِ وَلِذَلِكَ لَا يُجِيزُ أَصْحَابُنَا الْعَفْوَ عَنْهُ وَلَا يُورَثُ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يُجْلَدُ فِي الْقَذْفِ أَرْبَعِينَ وَلَوْ كَانَ حَقًّا لِآدَمِيٍّ لَمَا اخْتَلَفَ الْحُرُّ والعبد فيه إذ كان الجلد مما ينتصف أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ وَالْحُرَّ يَسْتَوِيَانِ فِيمَا يَثْبُتُ عَلَيْهِمَا مِنْ الْجِنَايَاتِ عَلَى الْآدَمِيِّينَ فَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ ثَبَتَ الدَّمُ فِي عُنُقِهِ فَإِذَا كَانَ عَمْدًا قُتِلَ وَإِنْ كَانَ خَطَأً كَانَتْ الدِّيَةُ فِي رَقَبَتِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ حَرٌّ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فَلَوْ كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ حَقًّا لِآدَمِيٍّ لَمَا اخْتَلَفَ مَعَ إمْكَانِ تَنْصِيفِهِ الْحُرُّ العبد وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالْحُرُّ لَا يَخْتَلِفَانِ فِي اسْتِهْلَاكِ الْأَمْوَالِ إذْ مَا يَثْبُتُ عَلَى الْحُرِّ فَمِثْلُهُ يَثْبُتُ عَلَى الْعَبْدِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي إقَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُحَدُّ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَحُدُّهُ الْإِمَامُ وَإِنْ لَمْ يُطَالِبْ الْمَقْذُوفُ وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَحُدُّهُ الْإِمَامُ حَتَّى يُطَالِبَ الْمَقْذُوفُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ سَمِعَهُ يَقْذِفُ فَيَحُدُّهُ إذَا كَانَ مَعَ الْإِمَامِ شُهُودٌ عُدُولٌ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْمُهْرِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ سَمِعْت ابْنَ جُرَيْجٍ يُحَدِّثُ عن عمر وبن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمر وبن الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فَمَا بَلَغَنِي مِنْ حَدٍّ فَقَدْ وَجَبَ
فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدٍّ لَمْ يَكُنْ يُهْمِلُهُ وَلَا يُقِيمُهُ فَلَمَّا قَالَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قذف امرأته بشريك بن سمحاء ائتني بأربعة يشهدون وإلا
114
فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك وَلَمْ يُحْضِرْ شُهُودًا وَلَمْ يَحُدَّهُ حِينَ لَمْ يُطَالِبْ الْمَقْذُوفَ بِالْحَدِّ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُقَامُ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا
رُوِيَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي قِصَّةِ الْعَسِيفِ وَأَنَّ أَبَا الزَّانِي قَالَ إنَّ ابْنِي زَنَى بِامْرَأَةِ هَذَا فَلَمْ يَحُدَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَذْفِهَا وَقَالَ اُغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا
وَلَمَّا كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ وَاجِبًا لِمَا اُنْتُهِكَ مِنْ عِرْضِهِ بِقَذْفِهِ مَعَ إحْصَانِهِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمُطَالَبَةُ بِهِ حَقًّا لَهُ دُونَ الْإِمَامِ كَمَا أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ لَمَّا كَانَ وَاجِبًا لِمَا اُنْتُهِكَ مِنْ حِرْزِ الْمَسْرُوقِ وَأَخْذِ مَالِهِ لَمْ يَثْبُتْ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَأَمَّا فَرْقُ مَالِكٍ بَيْنَ أَنْ يَسْمَعَهُ الْإِمَامُ أَوْ يَشْهَدَ بِهِ الشُّهُودُ فَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ هَذَا إنْ كَانَ مِمَّا لِلْإِمَامِ إقَامَتُهُ مِنْ غَيْرِ مُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ فَوَاجِبٌ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ فِيهِ حُكْمُ سَمَاعِ الْإِمَامِ وَشَهَادَةِ الشُّهُودِ مِنْ غَيْرِ سَمَاعِهِ.
بَابُ شَهَادَةِ القذف
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقَاذِفِ إذَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى ما قذفه بِثَلَاثَةِ أَحْكَامٍ أَحَدُهَا جَلْدُ ثَمَانِينَ وَالثَّانِي بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ وَالثَّالِثُ الْحُكْمُ بِتَفْسِيقِهِ إلَى أَنْ يَتُوبَ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي لُزُومِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَهُ وَثُبُوتِهَا عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِنَفْسِ الْقَذْفِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الزِّنَا فَقَالَ قَائِلُونَ قَدْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ وَلَزِمَتْهُ سِمَةُ الْفِسْقِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَالشَّافِعِيِّ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ شَهَادَتُهُ مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ يُحَدَّ وَهَذَا يَقْتَضِي مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْسُومٍ بِسِمَةِ الْفِسْقِ مَا لَمْ يَقَعْ بِهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَتْهُ سِمَةُ الْفِسْقِ لَمَا جَازَتْ شَهَادَتُهُ إذْ كَانَتْ سِمَةُ الْفِسْقِ مُبْطِلَةً لِشَهَادَةِ مَنْ وُسِمَ بِهَا إذَا كَانَ فِسْقُهُ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ لَا مِنْ جِهَةِ التَّدَيُّنِ وَالِاعْتِقَادِ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً فَأَوْجَبَ بُطْلَانَ شَهَادَتِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صِحَّةِ قَذْفِهِ وَفِي ذَلِكَ ضَرْبَانِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِ وَبَقَاءِ حُكْمِ عدالته ما لم يقع الحد به أحد هما قوله ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ وثم للتراخي في حقيقة اللغة فاقتضى ذلك أنهم متى أتوا بأربعة شهداء متراخيا عن حال القذف أن يكونوا غير فساق بالقذف لأنه قال ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ الْآيَةَ فَكَانَ تَقْدِيرُهُ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ
115
فَإِنَّمَا حُكِمَ بِفِسْقِهِمْ مُتَرَاخِيًا عَنْ حَالِ الْقَذْفِ فِي حَالِ الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الشُّهُودِ فَمَنْ حَكَمَ بِفِسْقِهِمْ بِنَفْسِ الْقَذْفِ فَقَدْ خَالَفَ حُكْمَ الْآيَةِ وَأَوْجَبَ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الْقَاذِفِ غَيْرَ مَرْدُودَةٍ لِأَجْلِ الْقَذْفِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ بِنَفْسِ الْقَذْفِ لَمْ تَبْطُلْ شَهَادَتُهُ وَأَيْضًا فَلَوْ كانت شهادته تَبْطُلُ بِنَفْسِ الْقَذْفِ لَمَا كَانَ تَرْكُهُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ مُبْطِلًا لِشَهَادَتِهِ وَهِيَ قَدْ بَطَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ شهادته مادامت إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَاهُ مُمْكِنَةً أَلَا تَرَى أنه لو قال رجل لا مرأته أنت طالق إن كلمت فلان ثُمَّ لَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ أَنَّهَا إنْ كَلَّمَتْ فُلَانًا لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَتْرُكَ دُخُولَ الدَّارِ إلَى أَنْ تَمُوتَ فَتَطْلُقَ حِينَئِذٍ قَبْلَ مَوْتِهَا بِلَا فَصْلٍ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا وَلَمْ تَدْخُلِي الدَّارَ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ وَكَانَ الْكَلَامُ وَتَرْكُ الدُّخُولِ إلَى أَنْ تَمُوتَ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ وَلَا فَرْقَ بين قوله أنت طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا ثُمَّ دَخَلْت الدَّارَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا ثُمَّ لَمْ تَدْخُلِيهَا وَإِنْ افْتَرَقَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ شَرْطَ الْيَمِينِ فِي أَحَدِهِمَا وُجُودُ الدُّخُولِ وَفِي الْآخَرِ نَفْيُهُ وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَ قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ مُقْتَضِيًا لِشَرْطَيْنِ فِي بُطْلَانِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ أَحَدُهُمَا الرَّمْيُ وَالْآخَرُ عَدَمُ الشُّهُودِ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ مُتَرَاخِيًا عَنْ الْقَذْفِ وَفَوَاتِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِهِ فَمَا دَامَتْ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِالزِّنَا مُمْكِنَةً بِخُصُومَةِ الْقَاذِفِ فَقَدْ اقْتَضَى لَفْظُ الْآيَةِ بَقَاءَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِ وَأَيْضًا لَا يَخْلُو الْقَاذِفُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ وَبُطْلَانِ شَهَادَتِهِ بِنَفْسِ الْقَذْفِ أَوْ أَنْ يَكُونَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَلَوْ كَانَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ بِنَفْسِ الْقَذْفِ- ولذلك بطلت شهادته- فواجب أن لا يقبل بعد ذلك بينة عَلَى الزِّنَا إذْ قَدْ وَقَعَ الْحُكْمُ بِكَذِبِهِ وَالْحُكْمُ بِكَذِبِهِ فِي قَذْفِهِ حُكْمٌ بِبُطْلَانِ شَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ بِصِدْقِهِ فِي كَوْنِ الْمَقْذُوفِ زَانِيًا فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي حُكْمِ قَبُولِ بَيِّنَتِهِ عَلَى الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا وَأَنَّ ذَلِكَ يُسْقِطُ عَنْهُ الْحَدَّ ثَبَتَ أَنَّ قَذْفَهُ لَمْ يُوجِبْ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فَوَاجِبٌ أَنْ لَا تَبْطُلَ شَهَادَتُهُ إذْ لَمْ يُحْكَمْ بِكَذِبِهِ لِأَنَّ مَنْ سَمِعْنَاهُ بخبر يخبر لَا نَعْلَمُ فِيهِ صِدْقَهُ مِنْ كَذِبِهِ لَمْ تَبْطُلْ بِهِ شَهَادَتُهُ أَلَا تَرَى أَنَّ قَاذِفَ امرأته بالزنا لا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ بِنَفْسِ الْقَذْفِ وَلَا يَكُونُ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ بِنَفْسِ قَذْفِهِ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ إيجَابُ اللِّعَانِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَلَمَا أُمِرَ أَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَصَادِقٌ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا مَعَ الْحُكْمِ بِكَذِبِهِ وَلَمَا وُعِظَ فِي تَرْكِ اللِّعَانِ الْكَاذِبُ مِنْهُمَا وَلَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بعد
116
ما لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ فَأَخْبَرَ أَنَّ أَحَدَهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ هُوَ الْكَاذِبُ
وَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ دُونَ الزَّوْجَةِ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَفْسَ الْقَذْفِ لَا يُوجِبُ تَفْسِيقَهُ وَلَا الْحُكْمَ بِتَكْذِيبِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ فَلَمْ يَحْكُمْ بِكَذِبِهِمْ بِنَفْسِ الْقَذْفِ فَقَطْ بَلْ إذَا لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ إذَا لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ فِي الْقَذْفِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إبْطَالُ شَهَادَتِهِ قَبْلَ وُجُودِ هَذِهِ الشَّرِيطَةِ وَهُوَ عَجْزُهُ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ الْخُصُومَةِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ عِنْدَ الْإِمَامِ إذْ كَانَ الشُّهَدَاءُ إنَّمَا يُقِيمُونَ الشَّهَادَةَ عِنْدَ الْإِمَامِ فَمَنْ حَكَمَ بِتَفْسِيقِهِ وَأَبْطَلَ شَهَادَتَهُ بِنَفْسِ الْقَذْفِ فَقَدْ خَالَفَ الْآيَةَ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا قال الله تَعَالَى لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عَلَى النَّاسِ إذَا سَمِعُوا مَنْ يَقْذِفُ آخَرَ أَنْ يَحْكُمُوا بِكَذِبِهِ وَرَدِّ شَهَادَتِهِ إلَى أَنْ يَأْتِيَ بِالشُّهَدَاءِ قِيلَ لَهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَقَذَفَتِهَا لِأَنَّهُ قَالَ تعالى إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ- إلى قوله لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ وَقَدْ كَانَتْ بَرِيئَةَ السَّاحَةِ غَيْرَ مُتَّهَمَةٍ بِذَلِكَ وَقَاذِفُوهَا أَيْضًا لَمْ يَقْذِفُوهَا بِرُؤْيَةٍ مِنْهُمْ لِذَلِكَ وَإِنَّمَا قَذَفُوهَا ظَنًّا مِنْهُمْ وَحُسْبَانًا حِينَ تَخَلَّفَتْ ولم يدع أحد منهم أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ وَمَنْ أَخْبَرَ عَنْ ظَنٍّ فِي مِثْلِهِ فَعَلَيْنَا إكْذَابُهُ وَالنَّكِيرُ عَلَيْهِ وَأَيْضًا لَمَّا قَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ فَحَكَمَ بِكَذِبِهِمْ عِنْدَ عَجْزِهِمْ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ إيجَابُ الْحُكْمِ بِكَذِبِهِمْ بِنَفْسِ الْقَذْفِ وَأَنَّ مَعْنَاهُ وقالوا هذا إفك مبين إذ سمعوه لم يَأْتِ الْقَاذِفُ بِالشُّهُودِ وَالشَّافِعِيُّ يَزْعُمُ أَنَّ شُهُودَ الْقَذْفِ إذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ فَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ قَدْ أَبْطَلَ شَهَادَتَهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَقْبَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ شَهِدَ مَعَهُ ثلاث لِأَنَّهُ قَدْ فُسِّقَ بِقَذْفِهِ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِتَكْذِيبِهِ وَفِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ إذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ مَا يَلْزَمُهُ أَنْ لَا تَبْطُلَ شَهَادَتُهُمْ بِنَفْسِ الْقَذْفِ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا
رَوَى الْحَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ
فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَقَاءِ عَدَالَةِ الْقَاذِفِ مَا لَمْ يُحَدَّ وَيَدُلُّ عليه أيضا
حديث ابن منصور عباد عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ لَمَّا قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُجْلَدُ هلال
117
وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ
فَأَخْبَرَ أَنَّ بُطْلَانَ شَهَادَتِهِ مُعَلَّقٌ بِوُقُوعِ الْجَلْدِ بِهِ وَدَلَّ بِذَلِكَ أَنَّ الْقَذْفَ لَمْ يُبْطِلْ شَهَادَتَهُ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا تَابَ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ إذَا تَابَ وَقَالَ مَالِكٌ وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ إذَا تَابَ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَحْدُودٍ فِي الْإِسْلَامِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ثم استثنى فقال إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فَتَابَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْفِسْقِ وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا تَجُوزُ. حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ وَقَدْ وَرَدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أيضا ما حدثنا جعفر ابن مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ الْيَمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عبد الله بن صالح عن معاوية ابن صالح عن على بن طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْله تَعَالَى وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ قال ثم قال إِلَّا الَّذِينَ تابُوا قَالَ فَمَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ فَشَهَادَتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَقْبُولَةٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِأَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِأَنَّ شَهَادَتَهُ مَقْبُولَةٌ إذَا لَمْ يُجْلَدْ وَتَابَ وَالْأَوَّلُ عَلَى أَنَّهُ جُلِدَ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ وَرُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَالْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالُوا لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ إنَّمَا تَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ رُفِعَ عَنْهُمْ بِالتَّوْبَةِ اسْمُ الْفِسْقِ فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا تَجُوزُ أَبَدًا وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالشَّعْبِيِّ والقاسم ابن مُحَمَّدٍ وَسَالِمٍ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّ شَهَادَتَهُ تُقْبَلُ إذَا تَابَ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مِنْ وَجْهٍ مَطْعُونٍ فِيهِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ إنْ تُبْت قُبِلَتْ شَهَادَتُك وَذَلِكَ أَنَّهُ رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ سُفْيَانُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ثُمَّ شَكَّ وَقَالَ هُوَ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ إنْ تُبْت قُبِلَتْ شَهَادَتُك فَأَبَى أَنْ يَتُوبَ فَشَكَّ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَعُمَرَ بْنِ قَيْسٍ وَيُقَالُ إنَّ عُمَرَ بْنَ قَيْسٍ مَطْعُونٌ فِيهِ فَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ عُمَرَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ هَذَا الْقَوْلُ وَرَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ لِأَبِي بَكْرَةَ وَهَذَا بَلَاغٌ لَا يُعْمَلُ عَلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُخَالِفِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ شَهَادَتَهُ غير مقبولة
118
بَعْدَ التَّوْبَةِ فَإِنْ صَحَّ عَنْهُ حَدِيثُ عُمَرَ فَلَمْ يُخَالِفْهُ إلَّا إلَى مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَيْسَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ أنه قال ذلك لأبى بكرة بعد ما جلده وجائز أن يكون قاله قبل الجلد قال أبو بكر ما ذَكَرْنَا مِنْ اخْتِلَافِ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي حُكْمِ الْقَاذِفِ إذَا تَابَ فَإِنَّمَا صَدَرَ عَنْ اخْتِلَافِهِمْ فِي رُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْفِسْقِ أَوْ إلَى إبْطَالِ الشَّهَادَةِ وَسِمَةِ الْفِسْقِ جَمِيعًا فَيَرْفَعُهُمَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مَقْصُورُ الْحُكْمِ عَلَى مَا يَلِيهِ مِنْ زَوَالِ سِمَةِ الْفِسْقِ بِهِ دُونَ جَوَازِ الشَّهَادَةِ أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي اللُّغَةِ رُجُوعُهُ إلَى مَا يَلِيهِ وَلَا يَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْمُنَجَّيْنَ لِأَنَّهَا تَلِيهِمْ وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ إلَّا ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ إلَّا دِرْهَمٌ كَانَ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ وَكَانَ الدِّرْهَمُ مُسْتَثْنًى مِنْ الثَّلَاثَةِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ وَجَبَ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى مَا يَلِيهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَهُ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فِي مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى الرَّبَائِبِ دُونَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ يَلِيهِنَّ فَثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا صِحَّةُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الِاقْتِصَارِ بِحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى مَا يَلِيهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا كَانَ فِي مَعْنَى التَّخْصِيصِ وَكَانَتْ الْجُمْلَةُ الدَّاخِلُ عَلَيْهَا الِاسْتِثْنَاءُ عُمُومًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْعُمُومِ ثَابِتًا وَأَنْ لَا نَرْفَعَهُ بِاسْتِثْنَاءٍ قَدْ ثَبَتَ حُكْمُهُ فِيمَا يَلِيهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى رُجُوعِهِ إلَيْهَا فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً- إلَى قَوْلِهِ- إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَكَانَ
الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَقَالَ تَعَالَى لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ثُمَّ قَالَ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا فَكَانَ التَّيَمُّمُ لِمَنْ لَزِمَهُ الِاغْتِسَالُ كَلُزُومِهِ لِمَنْ لَزِمَهُ الْوُضُوءُ بِالْحَدَثِ فَكَذَلِكَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ الدَّاخِلُ عَلَى كَلَامٍ مَعْطُوفٍ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ يَجِبُ أَنْ يَنْتَظِمَ الْجَمِيعُ وَيَرْجِعَ إلَيْهِ قِيلَ لَهُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي اللُّغَةِ رُجُوعُهُ إلَى مَا يَلِيهِ وَلَا يَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِيمَا ذُكِرَ عَلَى رُجُوعِهِ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ عَلَى رجوعه إلى الْمَذْكُورِ فَإِنْ قِيلَ إذَا كُنَّا قَدْ وَجَدْنَا الِاسْتِثْنَاءَ تَارَةً يَرْجِعُ إلَى بَعْضِ الْمَذْكُورِ وَتَارَةً إلَى جَمِيعِهِ وَكَانَ ذَلِكَ مُتَعَالِمًا مَشْهُورًا فِي
119
اللُّغَةِ فَمَا الدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى بَعْضِ الْجُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي يَلِيهِ دُونَ رُجُوعِهِ إلَى الْجَمِيعِ قِيلَ لَهُ لَوْ سَلَّمْنَا لَك مَا ادَّعَيْت مِنْ جَوَازِ رُجُوعِهِ إلَى الْجَمِيعِ لَكَانَ سَبِيلُهُ أَنْ يَقِفَ مَوْقِفَ الِاحْتِمَالِ في رجوعه إلى ما يليه وإلى جميع المذكور وإذ كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ عُمُومًا مُقْتَضِيًا لِلْحُكْمِ فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ لَمْ يَجُزْ رَدُّ الِاسْتِثْنَاءِ إلَيْهِ بِالِاحْتِمَالِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ بِالِاحْتِمَالِ وَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ فِي الْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ مَا يَلِيهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ فَإِنْ قِيلَ مَا أَنْكَرْت أَنْ لَا يَكُونَ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ عُمُومًا مَعَ دُخُولِ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى آخِرِ الْكَلَامِ بَلْ يَصِيرُ فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ وَيَبْطُلُ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ فِيهِ إذْ لَيْسَ اعْتِبَارُ عُمُومِهِ بِأَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ عُمُومِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي عَوْدِهِ إلَى الْجَمِيعِ وَإِذَا بَطَلَ فِيهِ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ وَقَفَ مَوْقِفَ الِاحْتِمَالِ فِي إيجَابِ حُكْمِهِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ عُمُومِ اللَّفْظِ فِيهِ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ صِيغَةَ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ صِيغَةُ الْعُمُومِ لَا تَدَافُعَ بَيْنَنَا فِيهِ وَلَيْسَ لِلِاسْتِثْنَاءِ صِيغَةُ عُمُومٍ يَقْتَضِي رَفْعَ الْجَمِيعِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الصِّيغَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُمُومِ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ وَأَنْ لَا نُزِيلَهَا عَنْهُ إلَّا بِلَفْظٍ يَقْتَضِي صِيغَتُهُ رَفْعَ الْعُمُومِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ فِي لَفْظِ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنْ قِيلَ لَوْ قَالَ رَجُلٌ عَبْدُهُ حَرٌّ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ رَجَعَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجَمِيعِ وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا إنْ شَاءَ اللَّهُ فَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ رَاجِعًا إلَى جَمِيعِ الْأَيْمَانِ إذْ كَانَتْ مَعْطُوفَةً بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ قِيلَ لَهُ لَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ مُخَالِفٌ لِلِاسْتِثْنَاءِ الدَّاخِلِ عَلَى الْجُمْلَةِ بِحُرُوفِ الِاسْتِثْنَاءِ التي هي إلا وغير وسوى وَنَحْوِ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ يَدْخُلُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ مِنْهُ شَيْءٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ بِحَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ لَا يَجُوزُ دُخُولُهُ إلَّا لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ رَأْسًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا طَالِقٌ كَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا وَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا لِاسْتِحَالَةِ دُخُولِهِ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ وَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ رَاجِعًا إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ الْمَعْطُوفِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَلَمْ يَجِبْ مِثْلُهُ فِيمَا وَصَفْنَا فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ كَانَ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حَرٌّ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إلَى الْجَمِيعِ فَإِنْ لَمْ يَقْدَمْ فُلَانٌ حَتَّى مَاتَ طَلُقَتْ امْرَأَتُهُ وَعَتَقَ عَبْدُهُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ قِيلَ لَهُ لَيْسَ ذَلِكَ عَلَى مَا ظَنَنْت مِنْ قِبَلِ أَنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ
120
كَقَوْلِهِ إنْ لَمْ يَقْدَمْ فُلَانٌ وَحُكْمُ الشَّرْطِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ جَمِيعُ الْمَذْكُورِ إذَا كَانَ بَعْضُهُ مَعْطُوفًا عَلَى بَعْضٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْطَ يُشْبِهُ الِاسْتِثْنَاءَ الَّذِي هُوَ مَشِيئَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَيْثُ كَانَ وُجُودُهُ عَامِلًا فِي رَفْعِ الْكَلَامِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ مِنْهُ شَيْءٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ وَجَائِزٌ أَنْ لَا يُوجَدَ الشَّرْطُ أَبَدًا فَيَبْطُلُ حُكْمُ الْكَلَامِ رَأْسًا وَلَا يَثْبُتُ مِنْ الْجَزَاءِ شَيْءٌ فَلِذَلِكَ جَازَ رُجُوعُ الشَّرْطِ إلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ كَمَا جَازَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ هُوَ شَرْطٌ وَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ حَرْفُ الِاسْتِثْنَاءِ وَأَمَّا الِاسْتِثْنَاءُ الْمَحْضُ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا- وإِلَّا آلَ لُوطٍ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُهُ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ رَأْسًا حَتَّى لَا يَثْبُتَ مِنْهُ شَيْءٌ أَلَا
تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ ثَابِتًا فِي وَقْتٍ مَا وَأَنَّ مَنْ رَدَّ الِاسْتِثْنَاءَ إلَيْهِ فَإِنَّمَا يَرْفَعُ حُكْمَهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بَعْدَ ثَبَاتِ حُكْمِهِ فِي بَعْضِهَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ إِلَّا آلَ لُوطٍ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ رَافِعًا لِحُكْمِ النَّجَاةِ عَنْ الْأَوَّلِينَ وَإِنَّمَا عَمِلَ فِي بَعْضِ مَا انْتَظَمَهُ لَفْظُ الْعُمُومِ وَيُسْتَدَلُّ بِمَا ذَكَرْنَا عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ رُجُوعُهُ إلَى مَا يَلِيهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ وَأَنْ لَا يُرَدَّ إلَى مَا تَقَدَّمَهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَالَ دُخُولُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ لِرَفْعِ حُكْمِ الْكَلَامِ رَأْسًا حَتَّى لَا يَثْبُتَ مِنْهُ شَيْءٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُسْتَعْمَلًا فِي الْبَعْضِ دُونَ الْكُلِّ فَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ الْبَعْضُ الَّذِي عُمِلَ فِيهِ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ دُونَ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ لَفْظٍ لَا يَصِحُّ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِيهِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ مَقْصُورًا عَلَى الْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ دُونَ اعْتِبَارِ لَفْظِ الْعُمُومِ كَذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ وَلَمَّا جَازَ دُخُولُ شَرْطِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَائِرِ شُرُوطِ الْأَيْمَانِ لِرَفْعِ حُكْمِ اللَّفْظِ رَأْسًا وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ فِي جَمِيعِ الْمَذْكُورِ وَأَنْ لَا يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مَقْصُورٌ عَلَى مَا يَلِيهِ دُونَ مَا تَقَدَّمَهُ أَنَّ قَوْلَهُ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ وَقَوْلُهُ وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ خَبَرٌ وَالِاسْتِثْنَاءُ دَاخِلٌ عَلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ دُونَ رُجُوعِهِ إلَى الْأَمْرِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ لِلِاسْتِقْبَالِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ لِلْجَمِيعِ لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَنْتَظِمَ لَفْظٌ وَاحِدٌ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْحَدِّ إذَا كَانَ أَمْرًا وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْقَائِلِ أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا وَلَا تَدْخُلْ الدَّارَ وَفُلَانٌ خَارِجٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ إنَّ مَفْهُومَ هَذَا الْكَلَامِ رجوع الاستثناء
121
إلَى الْخُرُوجِ دُونَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الْأَمْرِ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْآيَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا- إلَى قَوْلِهِ- ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ثُمَّ قَالَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَمْرٌ وَقَوْلُهُ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا خَبَرٌ فَرَجَعَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجَمِيعِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ الْخَبَرِ وَالْأَمْرِ قِيلَ لَهُ إنَّمَا جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَإِنْ كَانَ أَمْرًا فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ صُورَتَهُ صُورَةُ الْخَبَرِ فَلَمَّا كَانَ الْجَمِيعُ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ جَازَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الْجَمِيعِ وَلَمَّا كَانَ قَوْله تَعَالَى فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً أَمْرًا عَلَى الْحَقِيقَةِ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ الْخَبَرُ وَجَبَ أَنْ لَا يَرْجِعَ إلَى الْجَمِيعِ وَمَعَ ذلك فإنا نقول متى اختلف صِيَغُ الْمَعْطُوفِ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ لَمْ يَرْجِعْ إلَّا إلَى مَا يَلِيهِ وَلَا يَرْجِعُ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِمَّا لَيْسَ فِي مِثْلِ صِيغَتِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ فَإِنْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ جَازَ رَدُّهُ إلَيْهِ وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ فِي آيَةِ الْمُحَارِبِينَ وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ فَهُوَ مُبْقًى عَلَى حُكْمِهِ فِي الْأَصْلِ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا كَانَتْ الْوَاوُ لِلْجَمْعِ ثُمَّ قَالَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ صَارَ الْجَمِيعُ كَأَنَّهُ مَذْكُورٌ مَعًا لَا تَقَدُّمَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ فَلَمَّا أُدْخِلَ عَلَيْهِ الِاسْتِثْنَاءُ لَمْ يَكُنْ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَذْكُورِ بِأَوْلَى مِنْ رُجُوعِهِ إلَى الْآخَرِ إذ لم يكن تقديم بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ حُكْمٌ فِي التَّرْتِيبِ فَكَانَ الْجَمِيعُ فِي الْمَعْنَى بِمَنْزِلَةِ الْمَذْكُورِ مَعًا فَلَيْسَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى سِمَةِ الْفِسْقِ بِأَوْلَى مِنْ رُجُوعِهِ إلَى بُطْلَانِ الشَّهَادَةِ وَالْحَدِّ وَلَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إلَى الْحَدِّ لَاقْتَضَى ذَلِكَ رُجُوعَهُ أَيْضًا وَزَوَالَهُ عَنْهُ بِالتَّوْبَةِ وقيل لَهُ إنَّ الْوَاوَ قَدْ تَكُونُ لِلْجَمْعِ عَلَى مَا ذَكَرْت وَقَدْ تَكُونُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَهِيَ فِي قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ لِلِاسْتِئْنَافِ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ لِلْجَمْعِ فِيمَا لَا يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ وَيَنْتَظِمُهُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَصِيرُ الْكُلُّ كَالْمَذْكُورِ مَعًا وَذَلِكَ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ إلَى آخِرِ الْآيَةِ لِأَنَّ الْجَمِيعَ أَمْرٌ كَأَنَّهُ قَالَ فَاغْسِلُوا هَذِهِ الْأَعْضَاءَ لِأَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ فَصَارَتْ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُنْتَظِمَةِ لِهَذِهِ الْأَوَامِرِ وَأَمَّا آيَةُ الْقَذْفِ فَإِنَّ ابْتِدَاءَهَا أَمْرٌ وَآخِرَهَا خَبَرٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَظِمَهُمَا جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ فَلِذَلِكَ كَانَتْ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ دُخُولُ مَعْنَى الْخَبَرِ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ وَقَوْلُهُ إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ
122
يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
الاستثناء
فيه عائدا إلَى الْأَمْرِ بِالْقَتْلِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ وَغَيْرُ عَائِدٍ إلَى الْخَبَرِ الَّذِي يَلِيهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إلَى قَوْلِهِ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ التَّوْبَةَ تُزِيلُ عَذَابَ الْآخِرَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ وَبَعْدَهَا فَعَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ مَشْرُوطَةٌ لِلْحَدِّ دُونَ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَدَلِيلٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ بُطْلَانُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ مُتَعَلِّقًا بِالْفِسْقِ أَوْ يَكُونَ حُكْمًا عَلَى حِيَالِهِ تَقْتَضِي الْآيَةُ تَأْبِيدَهُ فَلَمَّا كَانَ حَمْلُهُ عَلَى بُطْلَانِهَا بِلُزُومِ سِمَةِ الْفِسْقِ يُبْطِلُ فَائِدَةَ ذِكْرِهِ إذْ كَانَ ذِكْرُ التَّفْسِيقِ مُقْتَضِيًا لِبُطْلَانِهَا إلَّا بِزَوَالِهِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهُ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ حُكْمٌ بِرَأْسِهِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِسِمَةِ الْفِسْقِ وَلَا بِتَرْكِ التَّوْبَةِ وَأَيْضًا فَإِنَّ كُلَّ كَلَامٍ فَحُكْمُهُ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ وَغَيْرُ جَائِزٍ تَضْمِينُهُ بِغَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ وَفِي حَمْلِهِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ الْمُخَالِفُ تَضْمِينُهُ بِغَيْرِهِ وَإِبْطَالُ حُكْمِهِ بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ خِلَافُ مُقْتَضَى اللَّفْظِ وَأَيْضًا فَإِنَّ حَمْلَهُ عَلَى مَا ادَّعَى يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْفِسْقُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ عِلَّةً لِمَا ذُكِرَ مِنْ إبْطَالِ الشَّهَادَةِ فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا لِأَنَّهُمْ فَاسِقُونَ وَفِي ذَلِكَ إزَالَةُ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ وَصَرْفُهُ إلَى مَجَازٍ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فِي إيجَابِ حُكْمِهِ وَأَنْ لَا يُجْعَلَ عِلَّةً لِغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مَذْكُورٌ مَعَهُ وَمَعْطُوفٌ عَلَيْهِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ بُطْلَانَ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْجَلْدِ حُكْمٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى التَّوْبَةِ فَإِنْ قِيلَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الشَّهَادَةِ أَوْلَى مِنْهُ إلَى الْفِسْقِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ التَّوْبَةَ تُزِيلُ الْفِسْقَ بِغَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَلَا يَكُونُ رَدُّهُ إلَى الْفِسْقِ مُفِيدًا وَرَدُّهُ إلَى الشَّهَادَةِ يُفِيدُ جَوَازَهَا بِالتَّوْبَةِ إذْ كَانَ جَائِزًا أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ مَرْدُودَةً مَعَ وُجُودِ التَّوْبَةِ فَأَمَّا بَقَاءُ سِمَةِ الْفِسْقِ مَعَ وُجُودِ التَّوْبَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ فِي عَقْلٍ وَلَا سَمْعٍ إذْ كَانَتْ سِمَةُ الْفِسْقِ ذَمًّا وَعُقُوبَةً وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَسْتَحِقَّ التَّائِبُ الذَّمَّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ وَالْأَعْمَى غَيْرُ جَائِزِي الشَّهَادَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ وَالتَّعْنِيفِ لَكِنْ عِبَادَةً فَكَانَ رُجُوعُ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى الشَّهَادَةِ أَوْلَى بِإِثْبَاتِ فَائِدَةِ الْآيَةِ مِنْهُ إلَى الْفِسْقِ قِيلَ إنَّ التَّوْبَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إنَّمَا هِيَ التَّوْبَةُ مِنْ الْقَذْفِ وَإِكْذَابُ نَفْسِهِ فِيهِ لِأَنَّهُ بِهِ اسْتَحَقَّ سِمَةَ الْفِسْقِ وَقَدْ كَانَ جَائِزًا أَنْ تَبْقَى سِمَةُ الْفِسْقِ عَلَيْهِ إذَا تَابَ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ وَلَمْ يُكَذِّبْ نَفْسَهُ فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِزَوَالِ سِمَةِ الْفِسْقِ عَنْهُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ سِمَةَ الْفِسْقِ إنَّمَا لَزِمَتْهُ بِوُقُوعِ الْجَلْدِ
123
بِهِ وَلَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ عِنْدَ إظْهَارِ التَّوْبَةِ أَنْ لَا تَكُونَ مَقْبُولَةً فِي ظَاهِرِ الْحَالِ وَإِنْ كَانَتْ مَقْبُولَةً عِنْدَ اللَّهِ لِأَنَّا لَا نَقِفُ عَلَى حَقِيقَةِ تَوْبَتِهِ فَكَانَ جَائِزًا أَنْ يَتَعَبَّدَنَا بِأَنْ لَا نُصَدِّقَهُ عَلَى تَوْبَتِهِ وَأَنْ نتركه على الجملة لا نَتَوَلَّاهُ عَلَى حَسَبِ مَا نَتَوَلَّى سَائِرَ أَهْلِ التَّوْبَةِ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِهِ أَفَادَتْنَا الْآيَةُ قَبُولَ تَوْبَتِهِ وَوُجُوبَ مُوَالَاتِهِ وَتَصْدِيقِهِ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ تَوْبَتِهِ فَإِنْ قيل لما اتفقا عَلَى أَنَّ الذِّمِّيَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ تُقْبَلُ شهادته إذ أَسْلَمَ وَتَابَ دَلَّ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الْمُسْلِمِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى بُطْلَانِ الشَّهَادَةِ إذْ كَانَ الذِّمِّيُّ مُرَادًا بِالْآيَةِ وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ كَوْنُ بُطْلَانِ الشَّهَادَةِ مَوْقُوفًا عَلَى التَّوْبَةِ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا رَفَعَتْ التَّوْبَةُ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِ كَانَ الْمُسْلِمُ فِي حُكْمِهِ لِوُجُودِ التَّوْبَةِ مِنْهُ قِيلَ لَهُ لَيْسَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا ظَنَنْت وَذَلِكَ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْآيَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ إنَّمَا اقْتَضَتْ بُطْلَانَ شَهَادَةِ مَنْ جُلِدَ وَحُكِمَ بِفِسْقِهِ مِنْ جِهَةِ الْقَذْفِ وَالذِّمِّيُّ قَدْ تَقَدَّمَتْ لَهُ سِمَةُ الْفِسْقِ فَلَمَّا لَمْ يَسْتَحِقَّ هَذِهِ السِّمَةَ بِالْجَلْدِ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْآيَةِ وَإِنَّمَا جَلَدْنَاهُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَمْ يَحْصُلْ الِاتِّفَاقُ عَلَى بُطْلَانِ شَهَادَتِهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ بِالْجَلْدِ الْوَاقِعِ فِي حَالِ كُفْرِهِ فَأَجَزْنَاهَا كَمَا نُجِيزُ شَهَادَةَ سَائِرِ الْكُفَّارِ إذَا أَسْلَمُوا فَإِنْ قِيلَ فَيَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ الْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ مرادا بالآية إذ لم يتحدث سِمَةَ الْفِسْقِ بِوُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ قِيلَ لَهُ هُوَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي حُكْمِهَا بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ وَإِنَّمَا أَجَازَ أَصْحَابُنَا شَهَادَةَ الذِّمِّيِّ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ إسْلَامِهِ وَتَوْبَتِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْحَدَّ فِي الْقَذْفِ يُبْطِلُ الْعَدَالَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا عَدَالَةُ الْإِسْلَامِ وَالْآخَرُ عَدَالَةُ الْفِعْلِ وَالذِّمِّيُّ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا حِينَ حُدَّ فَيَكُونُ وُقُوعُ الْحَدِّ بِهِ مُبْطِلًا
لِعَدَالَةِ إسْلَامِهِ وَإِنَّمَا بَطَلَتْ عَدَالَتُهُ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ فَإِذَا أَسْلَمَ فَأَحْدَثَ تَوْبَةً فَقَدْ حَصَلَتْ لَهُ عَدَالَةٌ مِنْ جِهَةِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ أَيْضًا فالتوبة فَلِذَلِكَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَإِنَّ الْحَدَّ قَدْ أَسْقَطَ عَدَالَتَهُ مِنْ طَرِيقِ الدِّينِ وَلَمْ يتحدث بِالتَّوْبَةِ عَدَالَةً أُخْرَى مِنْ جِهَةِ الدِّينِ إذْ لم يتحدث دِينًا بِتَوْبَتِهِ وَإِنَّمَا اسْتَحْدَثَ عَدَالَةً مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ فَلِذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ إذْ كَانَ شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وُجُودَ الْعَدَالَةِ مِنْ جِهَةِ الدِّينِ وَالْفِعْلِ جَمِيعًا فَإِنْ قِيلَ لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِ إذَا تَابَ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ رَاجِعٌ إلَى الشَّهَادَةِ كَرُجُوعِهِ إلَى التَّفْسِيقِ فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أَنْ يَكُونَ مُقْتَضِيًا لِقَبُولِهَا بَعْدَ الْحَدِّ كَهُوَ قَبْلَهُ قِيلَ لَهُ إنَّ شَهَادَتَهُ لَمْ تَبْطُلْ بِالْقَذْفِ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ وَلَا وَجَبَ الْحُكْمُ
124
بِتَفْسِيقِهِ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَوْ لَمْ يَتُبْ وَأَقَامَ عَلَى قَذْفِهِ كَانَتْ شَهَادَتُهُ مَقْبُولَةً وَإِنَّمَا بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ وَلُزُومُهُ سِمَةَ الْفِسْقِ مُرَتَّبٌ عَلَى وُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ فَالِاسْتِثْنَاءُ إنَّمَا رفع عنه سمة الفسق التي لزمه بَعْدَ وُقُوعِ الْحَدِّ فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الشَّهَادَةِ وَلَا فِي الْحُكْمِ بِالتَّفْسِيقِ وَدَلِيلٌ آخَرُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا وَهُوَ أَنَّا قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ الْحَدَّ وَلَمْ يَرْجِعْ الِاسْتِثْنَاءُ إلَيْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ مِثْلَهُ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا أَمْرَانِ قَدْ تَعَلَّقَا بِالْقَذْفِ فَمِنْ حَيْثُ لَمْ يَرْجِعْ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْحَدِّ وَجَبَ أَنْ لَا يَرْجِعَ إلَى الشَّهَادَةِ وَأَمَّا التَّفْسِيقُ فَهُوَ خَبَرٌ لَيْسَ بِأَمْرٍ فَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا وَصَفْنَا وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْحَدِّ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَكَذَلِكَ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّهَادَاتِ إنَّمَا هِيَ حَقٌّ للمشهود له وبمطالبة يَصِحُّ أَدَاؤُهَا وَإِقَامَتُهَا كَمَا تَصِحُّ إقَامَةُ حَدِّ الْقَذْفِ بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا سَوَاءً فِي أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَرْفَعُهُمَا وَأَمَّا لُزُومُ سِمَةِ الْفِسْقِ فَلَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إلَيْهِ وَمَقْصُورًا عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ التَّائِبُ مِنْ الْكُفْرِ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ فالتائب من القذف أحرى به قِيلَ لَهُ التَّائِبُ مِنْ الْكُفْرِ يَزُولُ عَنْهُ الْقَتْلُ وَلَا يَزُولُ عَنْ التَّائِبِ مِنْ الْقَذْفِ حَدُّ الْقَذْفِ فَكَمَا جَازَ أَنْ تُزِيلَ التَّوْبَةُ مِنْ الْكُفْرِ الْقَتْلَ عَنْ الْكَافِرِ جَازَ أَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ التَّائِبُ مِنْ الْقَذْفِ لِأَنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُزِيلُ الْجَلْدَ عَنْهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا غَيْرُ مَوْضُوعَةِ عَلَى مَقَادِيرِ الْأَجْرَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاذِفَ بِالْكُفْرِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقَاذِفُ بِالزِّنَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَغُلِّظَ أَمْرُ الْقَذْفِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَا لَمْ يُغَلَّظْ بِهِ أَمْرُ الْقَذْفِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ عُقُوبَةُ الْكُفْرِ فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمَ فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا تَابَ وأصلح فهو عدل ولى الله تَعَالَى وَقَدْ كَانَ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بَدِيًّا عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ وَالتَّوْبَةُ تُزِيلُ الْعُقُوبَةَ وَتُوجِبُ الْعَدَالَةَ وَالْوِلَايَةَ فَغَيْرُ جَائِزٍ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ قِيلَ لَهُ لَا يَكُونُ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بَعْدَ تَوْبَتِهِ عَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ بَلْ عَلَى جِهَةِ الْمِحْنَةِ كَمَا لَا تَكُونُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ عَلَى جِهَةِ الْعُقُوبَةِ بَلْ عَلَى جِهَةِ الْمِحْنَةِ وَلِلَّهِ أَنْ يَمْتَحِنَ عِبَادَهُ بِمَا شَاءَ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ وَلِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ غَيْرُ مَقْبُولِ الشَّهَادَةِ وَكَذَلِكَ الْأَعْمَى وَشَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُ فَلَيْسَ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ فِي الْأُصُولِ مَوْقُوفًا عَلَى الْفِسْقِ وَعَلَى وَجْهِ الْعُقُوبَةِ حَتَّى يُعَارَضَ فِيهِ بِمَا ذَكَرْت وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ الْقَاذِفِ لَا تُوجِبُ جَوَازَ شَهَادَتِهِ أَنَّ شَهَادَتَهُ إنَّمَا بَطَلَتْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ بِالْجَلْدِ وَجَلْدِهِ إيَّاهُ وَلَمْ تَبْطُلْ بِقَذْفِهِ
125
لِمَا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ فَلَمَّا تَعَلَّقَ بطلان شهادته بحكم الحاكم لم يجز إجَازَتُهَا إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِجَوَازِهَا لِأَنَّ فِي الْأُصُولِ أَنَّ كُلَّ مَا تَعَلَّقَ ثُبُوتُهُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ الْحُكْمُ عَنْهُ إلَّا بِمَا يَجُوزُ ثُبُوتُهُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ كَالْإِمْلَاكِ وَالْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ تَوْبَتُهُ مِمَّا تَصِحُّ الْخُصُومَةُ فِيهِ وَلَا يَحْكُمُ بِهَا الْحَاكِمُ لَمْ يَجُزْ لَنَا إبْطَالُ مَا قَدْ ثَبَتَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَإِنْ قِيلَ فُرْقَةُ اللِّعَانِ وَالْعِنِّينِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَيَعُودَ النِّكَاحُ فَكَذَلِكَ بُطْلَانُ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ إطْلَاقَ شَهَادَتِهِ عِنْدَ تَوْبَتِهِ وَيَكُونُ حُكْمُ الْحَاكِمِ بَدِيًّا بِبُطْلَانِهَا مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ الَّتِي لَمْ تَحْدُثْ فِيهَا تَوْبَةٌ كَمَا أَنَّ الْفُرْقَةَ الْوَاقِعَةَ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ إنَّمَا هِيَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ مِنْهُمَا فِيهَا عَقْدٌ مُسْتَقْبَلٌ قِيلَ لَهُ لِأَنَّ النِّكَاحَ
الثَّانِيَ مِمَّا يَجُوزُ وُقُوعُ الْحُكْمِ بِهِ فَجَازَ أَنْ تَبْطُلَ بِهِ الْفُرْقَةُ الْوَاقِعَةُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَالتَّوْبَةُ لَيْسَتْ مِمَّا يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ فَلَا تَثْبُتُ فِيهِ الْخُصُومَاتُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْطُلَ بِهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِ وَلَكِنَّهُ لَوْ شَهِدَ الْقَاذِفُ بِشَهَادَةٍ عِنْدَ حَاكِمٍ يَرَى قَبُولَ شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ فَحَكَمَ بِجَوَازِ شَهَادَتِهِ بَعْدَ حُكْمِهِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا زَنَى فَحَدَّهُ الْحَاكِمُ ثُمَّ تَابَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَلَمْ يَكُنْ حُكْمُ الْحَاكِمِ مَانِعًا مِنْ قَبُولِهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ قِيلَ لَهُ الزَّانِي لَمْ يَتَعَلَّقْ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَإِنَّمَا بَطَلَتْ بِزِنَاهُ قَبْلَ أَنْ يَحُدَّهُ الْحَاكِمُ لِظُهُورِ فِسْقِهِ فَلَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بَلْ بِفِعْلِهِ جَازَتْ عِنْدَ ظُهُورِ تَوْبَتِهِ وَشَهَادَةُ الْقَاذِفِ لَمْ تَبْطُلْ بِقَذْفِهِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا وإنما يحكم بكذبه وفسقه عند جلدا لحاكم إيَّاهُ فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي حُكْمِ مَنْ لَمْ يَقْذِفْ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ
حَدِيثُ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حين قذف امرأته بشريك بن سَحْمَاءَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُجْلَدُ هِلَالٌ وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ وُقُوعَ الْجَلْدِ بِهِ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّوْبَةِ فِي قَبُولِهَا
وقد روى الحجاج بن أرطاة عن عمر وبن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِيهِ وُجُودَ التَّوْبَةِ مِنْهُ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُرَيْحٌ قَالَ حَدَّثَنَا مَرْوَانُ عَنْ يَزِيدَ ابن أَبِي خَالِدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
126
لَا تَجُوزُ فِي الْإِسْلَامِ شَهَادَةُ مُجَرَّبٍ عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورِ وَلَا خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ وَلَا مَجْلُودٍ حَدًّا وَلَا ذِي غَمْرٍ لِأَخِيهِ وَلَا الصَّانِعِ لِأَهْلِ الْبَيْتِ وَلَا ظَنِينٍ وَلَا قَرَابَةٍ
فأبطل صلّى الله عليه وسلّم الْقَوْلَ بِإِبْطَالِ شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي بُطْلَانَ شَهَادَةِ سَائِرِ الْمَحْدُودِينَ فِي حَدِّ قَذْفٍ أَوْ غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى جَوَازِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ إذَا تَابَ مِمَّا حُدَّ فِيهِ وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ فِي الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ فَهُوَ عَلَى عُمُومِ لَفْظِهِ تَابَ أَوْ لَمْ يَتُبْ وَإِنَّمَا قَبِلْنَا شَهَادَةَ الْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الْقَذْفِ إذَا تَابَ لِأَنَّ بُطْلَانَ شَهَادَتِهِ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِسْقِ فَمَتَى زَالَتْ عَنْهُ سِمَةُ الْفِسْقِ كَانَتْ شَهَادَتُهُ مَقْبُولَةً وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي اسْتَحَقَّ بِهِ الْحَدَّ مِنْ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ قَدْ أَوْجَبَ تَفْسِيقَهُ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ فَلَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بُطْلَانُ شَهَادَتِهِ بالحد كان بمنزلة سائر الفاسق إذَا تَابُوا فَتُقْبَلُ شَهَادَاتُهُمْ وَأَمَّا الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ فَلَمْ يُوجِبْ الْقَذْفُ بُطْلَانَ شَهَادَتِهِ قَبْلَ وُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ وَإِنَّمَا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ بِوُقُوعِ الْحَدِّ بِهِ فَلَمْ تُزِلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِتَوْبَتِهِ قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ اقْتَضَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَنْ يَكُونَ شُهُودُ الزِّنَا أَرْبَعَةً كَمَا أَوْجَبَ قوله وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ وقوله وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ قَبُولَ شَهَادَةِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ فِيهِ وَامْتِنَاعُ جَوَازِ الِاقْتِصَارِ عَلَى أَقَلَّ مِنْهُ وَقَالَ تَعَالَى فِي سِيَاقِ التِّلَاوَةِ عِنْدَ ذِكْرِ أَصْحَابِ الْإِفْكِ لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ فجعل عد الشُّهُودِ الْمُبَرِّئِ لِلْقَاذِفِ مِنْ الْحَدِّ أَرْبَعَةً وَحَكَمَ بِكَذِبِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى عَدَدَ شُهُودِ الزِّنَا فِي قَوْله تَعَالَى وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ الْآيَةَ وَأَعَادَ ذِكْرَ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ عِنْدَ الْقَذْف إعْلَامًا لَنَا أَنَّ الْقَاذِفَ لَا تُبْرِئُهُ مِنْ الْجَلْدِ إلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْقَاذِفِ إذَا جَاءَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فُسَّاقٍ فَشَهِدُوا عَلَى الْمَقْذُوفِ بِالزِّنَا فَقَالَ أَصْحَابُنَا وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ لَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ وَإِنْ كَانُوا فُسَّاقًا وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي رَجُلٍ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَا ثُمَّ جَاءَ بِأَرْبَعَةِ فُسَّاقٍ يَشْهَدُونَ أَنَّهُ زَانٍ إنَّهُ يُحَدُّ الْقَاذِفُ وَيُدْرَأُ عَنْ الشُّهُودِ وَقَالَ زُفَرُ يُدْرَأُ عَنْ الْقَاذِفِ وَعَنْ الشُّهُودِ وَقَالَ مَالِكٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ يُحَدُّ الشُّهُودُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَصْحَابُنَا لَوْ جَاءَ بِأَرْبَعَةِ كُفَّارٍ أَوْ مَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ أَوْ عَبِيدٍ أَوْ عُمْيَانٍ أَنَّ الْقَاذِفَ وَالشُّهُودَ جَمِيعًا يُحَدُّونَ لِلْقَذْفِ فَأَمَّا إذَا
127
كَانُوا فُسَّاقًا فَإِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ قَدْ تَنَاوَلَهُمْ إذْ لَمْ يُشْرَطْ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ الْعُدُولُ دُونَ الْفُسَّاقِ فَوَجَبَ بِمُقْتَضَى الْآيَةِ زَوَالُ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ إذْ جُعِلَ شَرْطُ وُجُوبِ الْحَدِّ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَهُوَ قَدْ أَتَى بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إذْ كَانَ الشُّهَدَاءُ اسْمًا لِمَنْ أَقَامَ الشَّهَادَةَ فَإِنْ قِيلَ يَلْزَمُك مِثْلُهُ فِي الْكُفَّارِ وَالْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ وَنَحْوِهِمْ قِيلَ لَهُ قَدْ اقْتَضَى الظَّاهِرُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا خَصَّصْنَاهُ بِدَلَالَةٍ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفُسَّاقَ إنَّمَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ لِلتُّهْمَةِ وَكَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي رَدِّهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ بِالشُّبْهَةِ الَّتِي رُدَّتْ مِنْ أَجْلِهَا شَهَادَتُهُمْ وَوَجَبَ سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ أَيْضًا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ كَمَا أَسْقَطْنَاهَا عَنْهُمْ إذْ كَانَ سَبِيلُ الشُّبْهَةِ أَنْ يَسْقُطَ بِهَا الْحَدُّ وَلَا يَجِبُ بِهَا الْحَدُّ وَأَمَّا الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ وَالْكَافِرُ وَالْعَبْدُ وَالْأَعْمَى فَلَمْ نَرُدَّ شَهَادَتَهُمْ لِلتُّهْمَةِ وَلَا لِشُبْهَةٍ فِيهَا وَإِنَّمَا رَدَدْنَاهَا لَمَعَانٍ مُتَيَقَّنَةٍ فِيهِمْ تَبْطُلُ الشَّهَادَةُ وَهِيَ الْحَدُّ وَالْكُفْرُ وَالرِّقُّ وَالْعَمَى فَلِذَلِكَ حَدَدْنَاهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لِشَهَادَتِهِمْ تَأْثِيرٌ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُمْ وَعَنْ الْقَاذِفِ وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الْفُسَّاقَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا رَدَدْنَاهَا اجْتِهَادًا وَقَدْ يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ لِغَيْرِنَا فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ إذَا كَانَ مَا نَحْكُمُ نَحْنُ بِأَنَّهُ فِسْقٌ يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَرَاهُ غَيْرُنَا غَيْرَ مَانِعٍ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَنَا إيجَابُ الْحَدِّ عَلَى الشُّهُودِ وَلَا عَلَى الْقَاذِفِ بالاجتهاد وأما الحد في القذف والكفر ونظائر هما فَلَيْسَ طَرِيقُ إثْبَاتِهَا الِاجْتِهَادَ بَلْ الْحَقِيقَةُ فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُحَدُّوا وَلَمْ يَكُنْ لِشَهَادَتِهِمْ تَأْثِيرٌ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفَاسِقَ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِ إذْ الْفِسْقُ لَيْسَ بِمَعْنًى يَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ وَلَا يَسْمَعُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَاتِ فَلَمَّا لَمْ يَحْكُمْ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِمْ وَلَا كَانَ الْفِسْقُ مِمَّا تَقُومُ بِهِ الْبَيِّنَاتُ وَيَحْكُمُ بِهِ الْحَاكِمُ لَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِمْ فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ وَلَمَّا كَانَ حَدُّ الْقَذْفِ وَالْكُفْرُ
وَالرِّقُّ وَالْعَمَى مِمَّا يَقَعُ الْحُكْمُ بِهِ وَتَقُومُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَاتُ كَانَ مَحْكُومًا بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِمْ وَخَرَجُوا بِذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَوَجَبَ أَنْ يُحَدُّوا لِوُقُوعِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِخُرُوجِهِمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْفِسْقَ مِنْ الشَّاهِدِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ فِي حَالِ الشَّهَادَةِ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا بِتَوْبَتِهِ فِي الْحَالِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَأَمَّا الْكُفْرُ وَالْحَدُّ وَالْعَمَى وَالرِّقُّ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ زَائِلٍ وَهُوَ الْمَانِعُ لَهُ مِنْ كَوْنِهِ شَاهِدًا فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا فَإِنْ قِيلَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ قَدْ أَسْلَمَ أَيْضًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ قِيلَ لَهُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِاعْتِقَادِهِ الْإِسْلَامَ دُونَ إظْهَارِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُمْكِنُهُ
128
إظْهَارُهُ فَإِذَا لَمْ يُظْهِرْهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ فَقَوْلُ زُفَرَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَظْهَرُ لِأَنَّهُ إنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِسْقُ الشُّهُودِ غَيْرَ مُخْرِجٍ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِي بَابِ سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُمْ فَكَذَلِكَ حُكْمُهُمْ فِي سُقُوطِهِ عَنْ الْقَاذِفِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي شُهُودِ الزِّنَا إذَا جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ ومالك والأوزاعى والحسن ابن صَالِحٍ يُحَدُّونَ وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُحَدُّونَ وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا كَانَ الزِّنَا وَاحِدًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا شَهِدَ الْأَوَّلُ وَحْدَهُ كَانَ قَاذِفًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْأَرْبَعَةُ غَيْرَهُ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُولُ مِنْهُ دُخُولَهُ فِي الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ ائْتِ بِنَفْسِك بَعْدَ الشَّهَادَةِ أَوْ الْقَذْفِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ سِوَاك وَلِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا أَنْتِ زَانِيَةٌ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ لَأَنْ يَأْتِيَ بِأَرْبَعَةٍ غَيْرِهِ يَشْهَدُونَ بِالزِّنَا وَلَيْسَ هُوَ مِنْهُمْ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَشْهَدُ أَنَّك زَانِيَةٌ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ اقْتَضَى ظَاهِرُ الْآيَةِ إيجَابَ الْحَدِّ عَلَى كُلِّ قَاذِفٍ سَوَاءٌ كَانَ قَذْفُهُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ أَوْ بِغَيْرِ لَفْظِ الشَّهَادَةِ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ حُكْمَ الْأَوَّلِ كَانَ كَذَلِكَ حُكْمَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَالرَّابِعِ إذْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاذِفَ مُحْصَنَةٍ قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَلَمْ يُبْرِئْهُ مِنْهُ إلَّا بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ غَيْرِهِ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحَدَّ إذَا كَانَ قَاذِفًا وَلَمْ يجيء مَجِيءَ الشَّهَادَةِ فَأَمَّا إذَا جَاءَ مَجِيءَ الشَّهَادَةِ بأن يقول أشهد أن فلان زَنَى فَلَيْسَ هَذَا بِقَاذِفٍ قِيلَ لَهُ قَذْفُهُ إيَّاهَا بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ حُكْمِ الْقَاذِفِينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَشْهَدْ مَعَهُ غَيْرُهُ لَكَانَ قَاذِفًا وَكَانَ الْحَدُّ لَهُ لَازِمًا فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ إيرَادَهُ الْقَذْفَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَاذِفًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ وَحْدَهُ وَأَيْضًا فَقَدْ تَنَاوَلَهُ عُمُومُ قَوْلِهِ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ إذْ كَانَ رَامِيًا وَإِنَّمَا يَنْفَصِلُ حُكْمُ الرَّامِي مِنْ حُكْمِ الشَّاهِدِ إذَا جَاءَ أَرْبَعَةٌ مُجْتَمَعِينَ وَهُمْ الْعَدَدُ الْمَشْرُوطُ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَكُونُونَ مُكَلَّفِينَ لَأَنْ يَأْتُوا بِغَيْرِهِمْ فَأَمَّا مَنْ دُونَ الْأَرْبَعَةِ إذَا جَاءُوا قَاذِفِينَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ أَوْ بِغَيْرِ لَفْظِهَا فَإِنَّهُمْ قَذَفَةٌ إذْ هُمْ مكلفين لِلْإِتْيَانِ بِغَيْرِهِمْ فِي صِحَّةِ قَذْفِهِمْ فَإِنْ قِيلَ قَدْ رُوِيَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ كَتَبَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أَرْبَعَةً جَاءُوا يَشْهَدُونَ عَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ بِالزِّنَا فَشَهِدَ ثلاثة أنهم رأوه كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَلَمْ يَشْهَدْ الرَّابِعُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ إنْ شَهِدَ الرَّابِعُ عَلَى مِثْلِ مَا شَهِدَ عَلَيْهِ الثَّلَاثَةُ فَاجْلِدْهُمَا وَإِنْ كَانَا مُحْصَنَيْنِ فَارْجُمْهُمَا وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ إلَّا بِمَا كَتَبْت بِهِ إلَيَّ فَاجْلِدْ الثَّلَاثَةَ وخل «٩- أحكام مس»
129
سَبِيلَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ مَعَ الثَّلَاثَةِ آخَرُ أَنَّهُمْ لَا يُحَدُّونَ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ مَعَ كَوْنِ الثَّلَاثَةِ بَدِيًّا مُنْفَرِدِينَ قِيلَ لَهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي لَمْ يَشْهَدْ بِمَا شَهِدَ بِهِ الْآخَرُونَ لَمْ يَنْفَرِدْ عَنْهُمْ بَلْ جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ مَجِيءَ الشَّهَادَةِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ شَهِدُوا بِالزِّنَا فَلَمَّا اسْتَثْبَتُوا بِالرَّجُلِ أَنْ يُصَرِّحَ بِمَا صَرَّحَ بِهِ الثَّلَاثَةُ فَأَمَرَ عُمَرُ بِأَنْ يُوقَفَ الرَّجُلُ فَإِنْ أَتَى بِالتَّفْسِيرِ عَلَى مَا أَتَى بِهِ الْقَوْمُ حُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِمَا وَإِنْ هُوَ لَمْ يَأْتِ بِالتَّفْسِيرِ أُبْطِلَ شَهَادَتُهُ وَجُعِلَ الثَّلَاثَةُ مُنْفَرِدِينَ فَحَدَّهُمْ وَلَمْ يَقُلْ عُمَرُ إنْ جَاءَ رَابِعٌ فَشَهِدَ مَعَهُمْ فَاقْبَلْ شَهَادَتَهُمْ فَيَكُونُ قَابِلًا لِشَهَادَةِ الثَّلَاثَةِ الْمُنْفَرِدِينَ مَعَ وَاحِدٍ جَاءَ بَعْدَهُمْ وَقَدْ جَلَدَ أبا بكرة وأصحابه لما نكل زيادة عَنْ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَقُلْ لَهُمْ ائْتُوا بِشَاهِدٍ آخَرَ يَشْهَدُ بِمِثْلِ شَهَادَتِكُمْ وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَوْ كَانَ قَبُولُ شَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ شَهِدَ
مَعَهُمْ جَائِزًا لَوَقَفَ الْأَمْرَ وَاسْتَثْبَتَهُمْ وَقَالَ هل يشهد بمثل شهادتكم شاهد آخر وإذا لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ وَلَمْ يُوقِفْ أَمْرَهُمْ بِمَا عَزَمَ عَلَيْهِ مِنْ حَدِّهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا قَذَفَةً قَدْ لَزِمَهُمْ الْحَدُّ وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُبَرِّئُهُمْ مِنْ الْحَدِّ إلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ آخَرِينَ فَإِنْ قِيلَ فَهُوَ لَمْ يَقُلْ لَهُمْ هَلْ مَعَكُمْ أَرْبَعَةٌ يَشْهَدُونَ بِمِثْلِ شَهَادَتِكُمْ وَلَمْ يُوقِفْ أَمْرَ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ لِجَوَازِ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لَوْ شَهِدَ بِمِثْلِ شَهَادَتِهِمْ قِيلَ لَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لَوْ جَاءُوا بِأَرْبَعَةٍ آخَرِينَ يَشْهَدُونَ لَهُمْ بِذَلِكَ لَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةً وَكَانَ الْحَدُّ عَنْهُمْ زَائِلًا فَلَوْ كَانُوا قَدْ عَلِمُوا أَنَّ هُنَاكَ شُهُودًا أَرْبَعَةً يَشْهَدُونَ بِذَلِكَ لَسَأَلُوهُ التَّوْقِيفَ فَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يُعْلِمَهُمْ ذَلِكَ وَأَمَّا الشاهد الواحد لو شهد معه فَإِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَخْفَى حُكْمُهُ عَلَيْهِمْ فِي جَوَازِ شَهَادَتِهِ مَعَهُمْ أَوْ بُطْلَانِهَا فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَقْبُولًا لَوَقَفَهُمْ عَلَيْهِ وَأَعْلَمْهُمْ إيَّاهُ حَتَّى يَأْتُوا بِهِ إنْ كَانَ.
فِيمَنْ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى الْمَمْلُوكِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ يُقِيمُهُ الْإِمَامُ دُونَ الْمَوْلَى وَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ وَقَالَ مَالِكٌ يَحُدُّهُ الْمَوْلَى فِي الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالْقَذْفِ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ الشُّهُودُ وَلَا يَقْطَعُهُ فِي السَّرِقَةِ وَإِنَّمَا يَقْطَعُهُ الْإِمَامُ وَهُوَ قَوْلُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَحُدُّهُ الْمَوْلَى وَيَقْطَعُهُ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ يَحُدّهُ الْمَوْلَى فِي الزِّنَا رِوَايَةَ الْأَشْجَعِي وَذَكَرَ عَنْهُ الْفِرْيَابِيُّ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا حَدَّ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ جَازَتْ شَهَادَتُهُ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يَحُدُّهُ الْمَوْلَى
130
وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ ضَمِنَ هَؤُلَاءِ أَرْبَعًا الصَّلَاةَ وَالصَّدَقَةَ وَالْحُدُودَ وَالْحُكْمَ رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ عَوْنٍ وَرُوِيَ عَنْهُ بَدَلُ الصَّلَاةِ الْجُمُعَةِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ الْحُدُودُ وَالْفَيْءُ وَالْجُمُعَةُ وَالزَّكَاةُ إلَى السُّلْطَانِ وَقَدْ رَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَحْيَى الْبَكَّاءِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ابْنُ عُمَر يَأْمُرُنَا أَنْ نَأْخُذَ عَنْهُ وَهُوَ عَالِمٌ فَخُذُوا عَنْهُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ الزَّكَاةُ وَالْحُدُودُ وَالْفَيْءُ وَالْجُمُعَةُ إلَى السُّلْطَانِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ هَذَا يَظُنُّ أَنَّهُ أَخُو أبى بكرة واسمه نافع فهؤلاء والسلف قَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَلَا نَعْلَمُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ خِلَافَهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْأَعْمَشِ أَنَّهُ ذَكَرَ إقَامَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حَدًّا بِالشَّامِ وَقَالَ الْأَعْمَشُ هُمْ أُمَرَاءُ حَيْثُ كَانُوا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قَدْ كَانَ وَلِيَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْمَحْدُودَ كَانَ عَبْدَهُ فَإِنْ قيل روى عن بن أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ قَالَ أَدْرَكْت بَقَايَا الْأَنْصَارِ يَضْرِبُونَ الْوَلِيدَةَ مِنْ وَلَائِدِهِمْ إذَا زَنَتْ فِي مَجَالِسِهِمْ قِيلَ لَهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا فَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ لَا عَلَى وَجْهِ إقَامَةِ الْحَدِّ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مَأْمُورِينَ بِرَفْعِهَا إلَى الْإِمَامِ بَلْ كَانُوا مَأْمُورِينَ بِالسَّتْرِ عَلَيْهَا وَتَرْكِ رَفْعِهَا إلَى الْإِمَامِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْمَمْلُوكِ إلَى الْإِمَامِ دُونَ الْمَوْلَى قَوْله تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا
وَقَالَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ وَقَدْ عَلِمَ مَنْ قَرَعَ سَمْعَهُ هَذَا الْخِطَابُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُخَاطَبِينَ بِذَلِكَ هُمْ الْأَئِمَّةُ دُونَ عَامَّةِ النَّاسِ فَكَانَ تَقْدِيرُهُ فَلْيَقْطَعْ الْأَئِمَّةُ وَالْحُكَّامُ أَيْدِيَهُمَا وَلْيَجْلِدْهُمَا الْأَئِمَّةُ وَالْحُكَّامُ وَلَمَّا ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ أَنَّ الْمَأْمُورِينَ بِإِقَامَةِ هَذِهِ الْحُدُودِ عَلَى الْأَحْرَارِ هُمْ الْأَئِمَّةُ وَلَمْ تُفَرِّقْ هَذِهِ الْآيَاتُ بَيْنَ الْمَحْدُودِينَ مِنْ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ جَمِيعًا وَأَنْ يَكُونَ الْأَئِمَّةُ هُمْ الْمُخَاطَبُونَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ دُونَ الْمَوَالِي وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ جَازَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْمَعَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ عَلَى عَبْدِهِ بِالسَّرِقَةِ فَيَقْطَعَهُ ثُمَّ يَرْجِعَ الشُّهُودُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَضْمِينُ الشُّهُودِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَضْمِينَ الشُّهُودِ يَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الحاكم بالشهادة لأنه لو لم يحكم بشادتهم لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا فَكَانَ يَصِيرُ حَاكِمًا لِنَفْسِهِ بِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الناس لا يجوز له أَنْ يَحْكُمَ لِنَفْسِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ اسْتِمَاعَ الْبَيِّنَةِ عَلَى عَبْدِهِ بِذَلِكَ وَلَا قَطْعَهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيَّ سَوَاءٌ فِي حد العبد والأمة بدلالة أن إقراره عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَأَنَّ
131
إقْرَارَ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ مَقْبُولٌ وَإِنْ جَحَدَهُ الْمَوْلَى فَلَمَّا كَانَا فِي ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا جَازَ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَسْمَعَ الْبَيِّنَةَ وَيُقِيمَ الْحَدَّ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِي ثُبُوتِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ عنه فَلِذَلِكَ سَمِعَ الْبَيِّنَةَ وَحَكَمَ بِالْحَدِّ فَإِنْ قِيلَ يَجُوزُ إقْرَارُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَا يَمْلِكُ مَعَ ذَلِكَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى نَفْسِهِ قِيلَ لَهُ إذَا كَانَ مَنْ يَجُوزُ إقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى نَفْسِهِ فَمَنْ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَى عَبْدِهِ أَحْرَى بِأَنْ لَا يُقِيمَ الْحَدَّ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ فَلَا نَجْعَلُ قَوْلَ الْحَاكِمِ عَلَيْهِ عِلَّةَ جَوَازِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ قِيلَ لَهُ إنَّ قَوْلَ الْحَاكِمِ قَدْ ثَبَتَ عِنْدِي لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَلَيْسَ بِإِقْرَارٍ مِنْهُ وَإِنَّمَا هُوَ حُكْمٌ وَكَذَلِكَ الْبَيِّنَةُ إذَا قَامَتْ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يُقِيمُ الْحَدَّ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ فَمَنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ لَا يَمْلِكُ سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ وَلَا إقَامَةَ الْحَدِّ فَإِنْ قِيلَ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ لَا يَقْبَلَانِ قَوْلَ الْحَاكِمِ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ لِأَنَّهُمَا يَقُولَانِ لَا
يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ الْحَاكِمِ غَيْرُ مَقْبُولٍ إذَا قَالَ ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدِي بِبَيِّنَةٍ أَوْ بِإِقْرَارٍ لِأَنَّ مِنْ قَوْلِهِمَا أَنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِمَا إنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِعِلْمِهِ فِي الْحُدُودِ أَنَّهُ لَوْ شَاهَدَ رَجُلًا عَلَى زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِ الْحَدَّ بِعِلْمِهِ فَأَمَّا إذَا قَالَ قَدْ شَهِدَ عِنْدِي شُهُودٌ بِذَلِكَ أَوْ قَالَ أُقِرَّ عِنْدِي بِذَلِكَ فَإِنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ مِنْهُ فِي ذَلِكَ وَيَسَعُ مَنْ أَمَرَهُ الْحَاكِمُ بِالرَّجْمِ وَالْقَطْعِ أَنْ يَرْجُمَ وَيَقْطَعَ وَاحْتَجَّ الْمُخَالِفُ لَنَا بِمَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
وَقَوْلُهُ إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا وَإِنْ عَادَتْ فَلْيَجْلِدْهَا وَإِنْ عادت فليجلدها ولا يترب عَلَيْهَا فَإِنْ عَادَتْ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ فَلْيُقِمْ عَلَيْهَا الْحَدَّ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ
قَوْلَهُ أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
هُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما وَقَوْلِهِ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ رَفْعُهُ إلَى الْإِمَامِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ فَالْمُخَاطَبُونَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ هُمْ الْأَئِمَّةُ وَسَائِرُ النَّاسِ مُخَاطَبُونَ بِرَفْعِهِمْ إلَيْهِمْ حَتَّى يُقِيمُوا عَلَيْهِمْ الحدود فكذلك
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
هُوَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى وأما
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا
فَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ جَلْدٍ حَدًّا لِأَنَّ الْجَلْدَ قَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ فَإِذَا عَزَّرْنَاهَا فَقَدْ قَضَيْنَا عُهْدَةَ الْخَبَرِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ نَجْلِدَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْزِيرَ
قَوْلُهُ لَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا
يعنى ولا
132
يُعَيِّرْهَا وَمِنْ شَأْنِ إقَامَةِ الْحَدِّ أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَةِ النَّاسِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي الزَّجْرِ وَالتَّنْكِيلِ فَلَمَّا
قَالَ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا
دَلَّ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ التَّعْزِيرَ لَا الْحَدَّ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرَّابِعَةِ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ
وَلَمْ يَأْمُرْ بِجَلْدِهَا وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَدًّا لَذَكَرَهُ وَأَمَرَ بِهِ كَمَا أمر به الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْحُدُودِ بَعْدَ ثُبُوتِهَا عِنْدَ مَنْ يُقِيمُهَا وَقَدْ يَجُوزُ تَرْكُ التَّعْزِيرِ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الإمام فيه من المصلحة فإن قيل التَّعْزِيرَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَوْ عَزَّرَهَا الْمَوْلَى ثُمَّ رُفِعَ إلَى الْإِمَامِ بَعْدَ التَّعْزِيرِ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدَّ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ فَيَكُونُ قَدْ اجْتَمَعَ عَلَيْهَا الْحَدُّ وَالتَّعْزِيرُ قِيلَ لَهُ لَا يَنْبَغِي لِمَوْلَاهَا أَنْ يَرْفَعَهَا إلَى الْإِمَامِ بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِالسَّتْرِ عَلَيْهَا
لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم لهزال حين أشار على ما عز بِالْإِقْرَارِ بِالزِّنَا لَوْ سَتَرْته بِثَوْبِك كَانَ خَيْرًا لَك
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فإن أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ
وَأَيْضًا فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ وَقَدْ يَجِبُ النَّفْيُ عِنْدَنَا مَعَ الْجَلْدِ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ
وَرُوِيَ أَنَّ النَّجَاشِيَّ الشَّاعِرَ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي رَمَضَانَ فَضَرَبَهُ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ثَمَانِينَ وَقَالَ هَذَا لِشُرْبِك الْخَمْرَ ثُمَّ جَلَدَهُ عِشْرِينَ وَقَالَ هَذَا لِإِفْطَارِك فِي رَمَضَانَ
فَجَمَعَ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَالتَّعْزِيرَ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَمْ يَمْتَنِعْ لَوْ رُفِعَتْ هَذِهِ الْأَمَةُ بَعْدَ تَعْزِيرِ الْمَوْلَى إلَى الْإِمَامِ أَنْ يَحُدَّهَا حَدَّ الزنا.
بَابُ اللِّعَانِ
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ كَانَ حَدُّ قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَالزَّوْجَاتِ الْجَلْدَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ بْنِ أمية حين قذف امرأته بشريك بن سَحْمَاءَ ائْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ
وَقَالَ الْأَنْصَارُ أَيُجْلَدُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ حَدَّ قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ كَانَ كَحَدِّ قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَأَنَّهُ نُسِخَ عَنْ الْأَزْوَاجِ الْجَلْدُ بِاللِّعَانِ لِأَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ ائْتِنِي بِصَاحِبَتِك فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيك وَفِيهَا قُرْآنًا وَلَاعَنَ بَيْنَهُمَا
وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَإِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ وَإِنْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ
فَدَلَّتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ عَلَى أَنَّ حَدَّ قَاذِفِ الزَّوْجَةِ كَانَ الْجَلْدَ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَسَخَهُ بِاللِّعَانِ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا إنَّ الزَّوْجَ
133
إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَلَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ كَمَا أَنَّهُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَسَقَطَ اللِّعَانُ مِنْ قِبَلِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَقَالُوا لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمَحْدُودَةُ فِي الْقَذْفِ أَوْ كَانَتْ أَمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الزَّوْجِ لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ اللِّعَانُ مِنْ قِبَلِهَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ تَصْدِيقِهَا الزَّوْجَ بِالْقَذْفِ لَمَّا سَقَطَ اللِّعَانُ مِنْ جِهَتِهَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الزَّوْجِ الْحَدُّ وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيمَنْ يَجِبُ بَيْنَهُمَا اللِّعَانُ مِنْ الزَّوْجَيْنِ فَقَالَ أَصْحَابُنَا جَمِيعًا أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَسْقُطُ اللِّعَانُ بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ أَيُّهُمَا وُجِدَ لَمْ يَجِبْ مَعَهُ اللِّعَانُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَةُ مِمَّنْ لَا يَجِبُ عَلَى قَاذِفِهَا الْحَدُّ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا نَحْوُ أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ مَمْلُوكَةً أَوْ ذِمِّيَّةً أَوْ قَدْ وُطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا فِي غَيْرِ مِلْكٍ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الشَّهَادَةِ بِأَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ أَوْ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا فَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا أَعْمَى أَوْ فَاسِقًا فَإِنَّهُ يَجِبُ اللِّعَانُ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ يُلَاعِنُ الْمُسْلِمُ زَوْجَتَهُ الْيَهُودِيَّةَ إذَا قَذَفَهَا وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ الأمة المسلمة والحرة والنصرانية واليهودية تلا عن الْحُرَّ الْمُسْلِمَ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ الْيَهُودِيَّةَ وقال الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ لَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ لِعَانٌ إذَا قَذَفَهَا إلَّا أَنْ يَقُولَ رَأَيْتهَا تزنى فتلا عن سَوَاءٌ ظَهَرَ الْحَمْلُ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ لِأَنَّهُ يَقُولُ أَخَافُ أَنْ أَمُوتَ فَيَلْحَقُ نَسَبُ وَلَدِهَا بِي وَإِنَّمَا يُلَاعِنُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ فِي دَفْعِ الْحَمْلِ وَلَا يُلَاعِنُهَا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَا يُلَاعِنُ زَوْجَتَهُ الْأَمَةَ إلَّا فِي نَفْيِ الْحَمْلِ قَالَ وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ يُلَاعِنُ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجَانِ جَمِيعًا كَافِرَيْنِ فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا وَالْمَمْلُوكَانِ الْمُسْلِمَانِ بَيْنَهُمَا لِعَانٌ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ الْوَلَدَ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ لَا يَجِبُ اللِّعَانُ إذَا كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَمْلُوكًا أَوْ كَافِرًا وَيَجِبُ إذَا كَانَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ لَا لِعَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا بَيْنَ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَامْرَأَتِهِ وَقَالَ اللَّيْثُ فِي الْعَبْدِ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ وَادَّعَى أَنَّهُ رَأَى عَلَيْهَا رَجُلًا يُلَاعِنُهَا لِأَنَّهُ يُحَدُّ لَهَا إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا فإن كانت أمة أو نصرانية لا عنها فِي نَفْيِ الْوَلَدِ إذَا ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ وَلَا يُلَاعِنُهَا فِي الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ لَا يُحَدُّ لَهَا وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ يُلَاعِنُ امْرَأَتَهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ كُلُّ زَوْجٍ جَازَ طَلَاقُهُ وَلَزِمَهُ الْفَرْضُ يُلَاعِنُ إذَا كَانَتْ مِمَّنْ يَلْزَمُهَا الْفَرْضُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ الذين يُسْقِطَانِ اللِّعَانَ فَإِنَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ بِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللِّعَانَ فِي الْأَزْوَاجِ أُقِيمَ مَقَامَ الْحَدِّ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ وَقَدْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى قَاذِفِ الزَّوْجَةِ وَالْأَجْنَبِيَّةِ جَمِيعًا الْجَلْدَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
134
بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً
ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَنْ الْأَزْوَاجِ وَأُقِيمَ اللِّعَانُ مَقَامَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بشريك بن سَحْمَاءَ ائْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ
وَقَوْلُ الرَّجُلِ الَّذِي قَالَ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَتَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ وَإِنْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَنْ غَيْظٍ فَأُنْزِلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيك وَفِي صَاحِبَتِك قُرْآنًا فائتني بِهَا
فَلَمَّا كَانَ اللِّعَانُ فِي الْأَزْوَاجِ قَائِمًا مَقَامَ الْحَدِّ فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ لَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ عَلَى قَاذِفِ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَوْ قَذَفَهَا أَجْنَبِيٌّ وَأَيْضًا
فَقَدْ سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللِّعَانَ حَدًّا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ نَصْرِ الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ دَرَّاجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا لَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ إنْ جَاءَتْ بِهِ أَرَحَّ الْقَدَمَيْنِ يُشْبِهُ فُلَانًا فَهُوَ مِنْهُ قَالَ فَجَاءَتْ بِهِ يُشْبِهُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ الْحَدِّ لَرَجَمْتهَا
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ اللِّعَانَ حَدٌّ وَلَمَّا كَانَ حَدًّا لَمْ يَجُزْ إيجَابُهُ عَلَى الزَّوْجِ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَمْلُوكَةً إذْ كَانَ حَدًّا مِثْلَ حَدِّ الْجَلْدِ وَلَمَّا كَانَ حَدًّا لَمْ يَجِبْ عَلَى قَاذِفِ الْمَمْلُوكِ فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ حَدًّا لَمَا وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ الْجَلْدُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَجْتَمِعَ حَدَّانِ بِقَذْفٍ وَاحِدٍ وَفِي إيجَابِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ عِنْدَ إكْذَابِهِ نَفْسَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ لَيْسَ بِحَدٍّ قِيلَ لَهُ قَدْ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدًّا وَغَيْرُ جَائِزٍ اسْتِعْمَالُ النَّظَرِ فِي دَفْعِ الْأَثَرِ وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ الْحَدَّيْنِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ جَلْدًا فَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا جَلْدًا وَالْآخَرُ لِعَانًا فَإِنَّا لَمْ نَجِدْ فِي الْأُصُولِ خِلَافَهُ وَأَيْضًا فَإِنَّ اللِّعَانَ إنَّمَا هُوَ حَدٌّ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ فَمَتَى أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَجُلِدَ الْحَدَّ خَرَجَ اللِّعَانُ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَدًّا إذْ كَانَ مَا يَصِيرُ حَدًّا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَارَةً حَدًّا وَتَارَةً لَيْسَ بِحَدٍّ فَكَذَلِكَ كُلُّ مَا تَعَلَّقَ بِالشَّيْءِ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَارَةً عَلَى وَصْفٍ وَأُخْرَى عَلَى وَصْفٍ آخَرَ وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ مِنْ شَرْطِ اللعان أن يكون الزوجات جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ فَلَمَّا سَمَّى اللَّهُ لِعَانَهُمَا شَهَادَةً ثُمَّ قَالَ فِي الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَجَبَ بِمَضْمُونِ الْآيَتَيْنِ انْتِفَاءُ اللِّعَانِ عَنْ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي الْمَحْدُودِ ثَبَتَ فِي سَائِرِ
135
مَنْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ مِثْلُ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ وَنَحْوِهِمَا وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَا يُلَاعِنُ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي سَائِرِ مَنْ لَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يُوجِبُ اللِّعَانَ عَلَى الْمَحْدُودِ لَا يُوجِبُهُ عَلَى مَنْ ذَكَرْنَا وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَلَا يَخْلُو الْمُرَادُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْأَيْمَانُ فَحَسْبُ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَعْنَى الشَّهَادَةِ فِيهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ أَيْمَانًا لَيُعْتَبَرَ فِيهَا مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى مَا نَقُولُهُ فَلَمَّا قَالَ تَعَالَى وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْمُلَاعِنُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَالِفُونَ إلَّا أَنْفُسُهُمْ إذ كل أحد لا يحلف إلا على نَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ إحْلَافُ الْإِنْسَانِ عَنْ غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَالِفُونَ إلَّا أَنْفُسُهُمْ لَاسْتَحَالَ وَزَالَتْ فَائِدَتُهُ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَمِينًا وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ فَلَمْ يَخْلُ الْمُرَادُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْإِتْيَانُ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي هَذِهِ الْأَيْمَانِ أَوْ الْحَلِفُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَوَاءٌ كَانَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ حَلِفًا فَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِ بِجَوَازِ قَبُولِ الْيَمِينِ مِنْهُمَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَتْ كَانَ مُخَالِفًا لِلْآيَةِ وَلِلسُّنَّةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ وقال فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ وَلَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْإِخْبَارِ دُونَ إيرَادِهِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَكَذَلِكَ فَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ لَاعَنَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ أَمَرَهُمَا بِاللِّعَانِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى لَفْظِ الْيَمِينِ دُونَهَا وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ شَرْطَ هَذِهِ الْأَيْمَانِ أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ بِهَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَيُلَاعِنَانِ فَإِنْ قِيلَ الْفَاسِقُ وَالْأَعْمَى لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَيُلَاعِنَانِ قِيلَ لَهُ الْفَاسِقُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْفِسْقَ الْمُوجِبَ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ قَدْ يَكُونُ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ فِي الرَّدِّ وَالْقَبُولِ وَالثَّانِي أَنَّهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِ إذْ الْفِسْقُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْحَاكِمُ فَلَمَّا لَمْ تَبْطُلْ شَهَادَتُهُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَالثَّالِثُ أَنَّ فِسْقَهُ فِي حَالِ لِعَانِهِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ إذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ تَائِبًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونَ عَدْلًا مَرْضِيًّا عِنْدَ اللَّهِ وَلَيْسَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ يَسْتَحِقُّ بِهَا عَلَى الْغَيْرِ فَتُرَدُّ مِنْ أَجْلِ مَا عُلِمَ مِنْ ظُهُورِ فِسْقِهِ بَدِيًّا فَلَمْ يَمْنَعْ فِسْقُهُ مِنْ قَبُولِ لِعَانِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ شروطه كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ
136
الْكُفْرُ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَوْ اعْتَقَدَ الْإِسْلَامَ لَمْ يَكُنْ مُسْلِمًا إلَّا بِإِظْهَارِهِ إذَا أَمْكَنَهُ ذَلِكَ فَكَانَ حُكْمُ كُفْرِهِ
بَاقِيًا مَعَ اعْتِقَادِهِ لِغَيْرِهِ مَا لَمْ يُظْهِرْ الْإِسْلَامَ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَدَالَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يُحْكَمُ بِهَا لِلتُّهْمَةِ وَالْفَاسِقُ إنَّمَا رُدَّتْ شَهَادَتُهُ فِي الْحُقُوقِ لِلتُّهْمَةِ وَاللِّعَانُ لَا تُبْطِلُهُ التُّهْمَةُ فَلَمْ يَجِبْ اعْتِبَارُ الْفِسْقِ فِي سُقُوطِهِ وَأَمَّا الْأَعْمَى فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ كَالْبَصِيرِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّ شَهَادَتَهُ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي الْحُقُوقِ لِأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ حَائِلًا وَلَيْسَ شَرْطُ شَهَادَةِ اللِّعَانِ أَنْ يَقُولَ رَأَيْتهَا تَزْنِي إذْ لَوْ قال هي زانية ولم أر ذلك لا عن فَلَمَّا لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْإِخْبَارِ عَنْ مُعَايَنَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ لَمْ يَبْطُلْ لِعَانُهُ لِأَجْلِ عَمَاهُ وَقَدْ رُوِيَ فِي مَعْنَى مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ مِنْهَا
مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ دَاوُد السَّرَّاجُ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا عَتَّابُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَرْبَعٌ مِنْ النِّسَاءِ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ ملا عنة الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة تَحْتَ الْمُسْلِمِ وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَمَوَيْهِ بْنِ سَيَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو سَيَّارٍ التُّسْتَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ مُجَالِدِ الْمِصِّيصِيِّ قَالَ أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ صَدَقَةَ أَبِي تَوْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَرْبَعٌ لَيْسَ بَيْنَهُنَّ مُلَاعَنَةٌ الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّة تَحْتَ الْمُسْلِمِ وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ
فَإِنْ قِيلَ اللِّعَانُ إنَّمَا يَجِبُ فِي نَفْيِ الْوَلَدِ لِئَلَّا يَلْحَقَ بِهِ نَسَبٌ لَيْسَ مِنْهُ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْأَمَةِ وَفِي الْحُرَّةِ قِيلَ لَهُ لَمَّا دَخَلَ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ لَزِمَهُ حُكْمُهُ وَمِنْ حُكْمِهِ أَنْ لَا يَنْتَفِيَ مِنْهُ نَسَبُ وَلَدِهَا كَمَا لَزِمَهُ حُكْمُهُ فِي رِقِّ وَلَدِهِ.
بَابُ الْقَذْفِ الَّذِي يُوجِبُ اللِّعَانَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً الآية ولإخلاف بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ قَذْفُ الْأَجْنَبِيَّاتِ الْمُحْصَنَاتِ بِالزِّنَا سَوَاءٌ قَالَ زَنَيْت أَوْ قَالَ رَأَيْتُك تَزْنِينَ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ رَمْيُهَا بِالزِّنَا ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي صِفَةِ الْقَذْفِ الْمُوجِبِ لِلِّعَانِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيُّ إذَا قَالَ لَهَا يَا زَانِيَةُ وَجَبَ اللِّعَانُ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ لَا يُلَاعِنُ إلَّا أَنْ يَقُولَ رَأَيْتُك تَزْنِينَ أَوْ يَنْفِيَ حَمْلًا بِهَا أَوْ وَلَدًا مِنْهَا وَالْأَعْمَى يُلَاعِنُ
137
إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَقَالَ اللَّيْثُ لَا تَكُونُ مُلَاعَنَةً إلَّا أَنْ يَقُولَ رَأَيْت عَلَيْهَا رَجُلًا أَوْ يَقُولَ قَدْ كُنْت اسْتَبْرَأْت رَحِمَهَا وَلَيْسَ هذا الحمل منى ويحلف بالله ما عَلَى مَا قَالَ وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ إذَا قَالَ رَأَيْتهَا تَزْنِي لَاعَنَهَا وَإِنْ قَذَفَهَا وَهِيَ بِخُرَاسَانَ وَإِنَّمَا تَزَوَّجَهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ لَمْ يُلَاعِنْ وَلَا كَرَامَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي إيجَابَ اللِّعَانِ بِالْقَذْفِ سَوَاءٌ قَالَ رَأَيْتُك تَزْنِينَ أَوْ لَمْ يَقُلْ لِأَنَّهُ إذَا قَذَفَهَا بِالزِّنَا فَهُوَ رَامٍ لَهَا سَوَاءٌ ادَّعَى مُعَايَنَةَ ذَلِكَ أَوْ أَطْلَقَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْعِيَانَ وَأَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّ قَاذِفَ الْأَجْنَبِيَّةِ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ الْمُعَايَنَةَ أَوْ يُطْلِقَهُ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الزَّوْجِ فِي قَذْفِهِ إيَّاهَا إذْ كَانَ اللِّعَانُ مُتَعَلِّقًا بِالْقَذْفِ كَالْجَلْدِ وَلِأَنَّ اللِّعَانَ فِي قَذْفِ الزَّوْجَاتِ أُقِيمَ مَقَامَ الْجَلْدِ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِيمَا يَتَعَلَّقَانِ بِهِ مِنْ لَفْظِ الْقَذْفِ وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ إنَّ الْأَعْمَى يُلَاعِنُ وَهُوَ لَا يَقُولُ رَأَيْت فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطُ اللِّعَانِ رميها برؤية الزِّنَا مِنْهَا وَأَيْضًا قَدْ أَوْجَبَ مَالِكٌ اللِّعَانَ فِي نَفْيِ الْحَمْلِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ رُؤْيَةٍ فَكَذَلِكَ نَفْيُ غَيْرِ الْحَمْلِ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يشرط فيه الرؤية.
بَابُ كَيْفِيَّةِ اللِّعَانِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي صِفَةِ اللِّعَانِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالثَّوْرِيُّ يَشْهَدُ الزَّوْجُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لِمَنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَتَشْهَدُ هِيَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لِمَنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَالْخَامِسَةُ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ نَفَاهُ يَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَصَادِقٌ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ نَفْيِ هَذَا الْوَلَدِ وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْحَاكِمَ يَأْمُرُ الزَّوْجَ أَنْ يقول أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رَمَيْتُك بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِك هَذَا فَيَقُولُ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فِيمَا رَمَيْتُك بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِك هَذَا ثُمَّ يَأْمُرُهَا الْقَاضِي فَتَقُولُ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنَّك لِمَنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتَنِي بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِي هَذَا فَتَقُولُ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ تَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ وَغَضَبُ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتَنِي بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِي هَذَا وَرَوَى حَيَّانُ بْنُ بِشْرٍ عن أبى
138
يُوسُفَ قَالَ إذَا كَانَ اللِّعَانُ بِوَلَدٍ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ قَدْ أَلْزَمْته أُمَّهُ وَأَخْرَجْته مِنْ نَسَبِ الْأَبِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ وَلَمْ أَجِدْ ذِكْرَ نَفْيِ الْحَاكِمِ الْوَلَدَ بِالْقَوْلِ فِيمَا قَرَأْتُهُ إلَّا فِي رِوَايَةِ حَيَّانَ بْنِ بِشْرٍ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ وَهُوَ الْوَجْهُ عِنْدِي وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ فِي سِيَاقِ رِوَايَتِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ لَا يَضُرُّهُ أَنْ يُلَاعَنَ بَيْنَهُمَا وهما قائما أَوْ جَالِسَانِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لِمَنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُك بِهِ مِنْ الزِّنَا يُقْبِلُ بِوَجْهِهِ عَلَيْهَا فَيُوَاجِهُهَا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَتُوَاجِهُهُ أَيْضًا هِيَ وَرُوِيَ عَنْ زُفَرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْمُوَاجِهَةِ وَقَالَ مَالِكٌ فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ أَنَّهُ يَحْلِفُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ يَقُولُ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنِّي رَأَيْتُهَا تَزْنِي وَالْخَامِسَةُ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كُنْتُ مِنْ الْكَاذِبِينَ وَتَقُولُ هِيَ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ مَا رَآنِي أَزْنِي فَتَقُولُ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ وَقَالَ اللَّيْثُ يَشْهَدُ الرَّجُلُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ وَتَشْهَدُ الْمَرْأَةُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْت بِهِ زَوْجَتِي فُلَانَةَ بِنْتَ فُلَانٍ وَيُشِيرُ إلَيْهَا إنْ كَانَتْ حَاضِرَةً يَقُولُ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ يُقْعِدُهُ الْإِمَامُ ويذكره اللَّهَ وَيَقُولُ إنِّي أَخَافُ إنْ لَمْ تَكُنْ صَدَقْت أَنْ تَبُوءَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ فَإِنْ رَآهُ يُرِيدُ أَنْ يُمْضِيَ أَمْرَهُ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ وَيَقُولُ إنَّ قَوْلَك عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إنْ كُنْت مِنْ الْكَاذِبِينَ مُوجِبَةٌ إنْ كُنْت كَاذِبًا فَإِنْ أَبَى تَرَكَهُ فَيَقُولُ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كُنْت مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْت بِهِ زَوْجَتِي فُلَانَةَ مِنْ الزِّنَا فَإِنْ قَذَفَهَا بِأَحَدٍ يُسَمِّيهِ بِعَيْنِهِ وَاحِدًا كَانَ أَوْ اثْنَيْنِ وَقَالَ مَعَ كُلِّ شَهَادَةٍ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا بِفُلَانٍ وَفُلَانٍ وَإِنْ نَفَى وَلَدَهَا قَالَ مَعَ كُلِّ شَهَادَةٍ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَإِنَّ هَذَا الْوَلَدَ وَلَدُ زِنًا مَا هُوَ مِنِّي فَإِذَا قَالَ هَذَا فَقَدْ فَرَغَ مِنْ الِالْتِعَانِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْله تَعَالَى فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ يقتضى ظاهره جواز الاقتصار عليه في شَهَادَاتِ اللِّعَانِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا مِنْ دَلَالَةِ الْحَالِ أَنَّ التَّلَاعُنَ وَاقِعٌ عَلَى قَذْفِهِ إيَّاهَا بِالزِّنَا عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمَا بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ وَاقِعَةٌ فِي نَفْيِ مَا رَمَاهَا بِهِ وَكَذَلِكَ اللَّعْنُ وَالْغَضَبُ وَالصِّدْقُ وَالْكَذِبُ رَاجِعٌ إلَى إخْبَارِ الزَّوْجِ عَنْهَا بِالزِّنَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ وُقُوعُ الِالْتِعَانِ وَالشَّهَادَاتِ عَلَى مَا وَقَعَ بِهِ رَمْيُ الزَّوْجِ فَاكْتَفَى بِدَلَالَةِ
139
الْحَالِ عَلَى الْمُرَادِ عَنْ قَوْلِهِ فِيمَا رَمَيْتهَا به من الزنا واقتصر على قوله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَهَذَا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ وَالْمُرَادُ وَالْحَافِظَاتِ فُرُوجَهُنَّ وَالذَّاكِرَاتِ اللَّهَ وَلَكِنَّهُ حُذِفَ لِدَلَالَةِ الْحَالِ عَلَيْهِ وَفِي حَدِيثِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَهِدَ
الرَّجُلُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ وَلَمْ يَذْكُرَا فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ إنَّهُ يَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ أَنَّهُ رَآهَا تَزْنِي فَمُخَالِفٌ لِظَاهِرِ لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وكذلك لَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ إنَّهُ يَذْكُرُهَا بِاسْمِهَا وَنَسَبِهَا وَيُشِيرُ إلَيْهَا بِعَيْنِهَا فَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ الإشارة تغنى عن ذكر الاسم فَذِكْرُ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ لَغْوٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَلَا تَرَى أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ شَهِدُوا عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ وَهُوَ حَاضِرٌ كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ أَنَّا نَشْهَدُ أَنَّ لِهَذَا الرَّجُلِ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى اسْمِهِ وَنَسَبِهِ.
في نَفْيِ الْوَلَدِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ فَنَفَى وَلَدَهَا حِينَ يُولَدُ أَوْ بَعْدَهُ بيوم أو بيومين لَاعَنَ وَانْتَفَى الْوَلَدُ وَإِنْ لَمْ يَنْفِهِ حِين يُولَدُ حَتَّى مَضَتْ سَنَةٌ أَوْ سَنَتَانِ ثُمَّ نَفَاهُ لَاعَنَ وَلَزِمَهُ الْوَلَدُ وَلَمْ يُوَقِّتْ أَبُو حَنِيفَةَ لِذَلِكَ وَقْتًا وَوَقَّتَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ مِقْدَارَ النِّفَاسِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ كَانَ غَائِبًا فَقَدِمَ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِقْدَارِ النِّفَاسِ مُنْذُ قَدِمَ مَا كَانَ فِي الْحَوْلَيْنِ فَإِنْ قَدِمَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الْحَوْلَيْنِ لَمْ يَنْتَفِ أَبَدًا وَقَالَ هِشَامٌ سَأَلْت مُحَمَّدًا عَنْ أُمِّ وَلَدٍ لِرَجُلٍ جاءت بولد ولمولى شَاهِدٌ فَلَمْ يَدَّعِهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ فَقَالَ إذَا مَضَى أَرْبَعُونَ يَوْمًا مِنْ يَوْمِ وَلَدَتْهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ قَالَ قُلْت فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى غَائِبًا فَقَدِمَ وَقَدْ أَتَتْ لَهُ سُنُونَ فَقَالَ مُحَمَّدٌ إنْ كَانَ الِابْنُ نُسِبَ إلَيْهِ حَتَّى عُرِفَ بِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَإِنْ لَمْ يُنْسَبْ إلَيْهِ وَقَالَ هَذَا لَمْ أَعْلَمْ بِوِلَادَتِهِ فَإِنْ سَكَتَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مِنْ يَوْمِ قَدِمَ لَزِمَهُ الْوَلَدُ وَقَالَ مَالِكٌ إذَا رَأَى الْحَمْلَ فَلَمْ يَنْفِهِ حِينَ وَضَعَتْهُ لَمْ يَنْتَفِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ نَفَاهُ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً فَإِنْ انْتَفَى مِنْهُ حِينَ وَلَدَتْهُ وَقَدْ رَآهَا حَامِلًا فَلَمْ يَنْتَفِ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ الْحَدَّ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ فَصَارَ قَاذِفًا لَهَا وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ الْحَمْلِ وَقَدِمَ ثُمَّ وَلَدَتْهُ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ وَقَالَ اللَّيْثُ فِيمَنْ أَقَرَّ بِحَمْلِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ بعد ذلك رأيتها تزنى لاعن في رؤية وَيَلْزَمُهُ الْحَمْلُ وَقَالَ
140
الشَّافِعِيُّ إذَا عَلِمَ الزَّوْجُ بِالْوَلَدِ فَأَمْكَنَهُ الْحَاكِمُ إمْكَانًا بَيِّنًا فَتَرَك اللِّعَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ كَالشُّفْعَةِ وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ إنْ لَمْ يَنْفِهِ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ذِكْرُ نَفْيِ الْوَلَدِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْيُ الْوَلَدِ بِاللِّعَانِ إذَا قَذَفَهَا بِنَفْيِ الْوَلَدِ
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعِ عَنْ ابْنِ عمر أن رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ مِنْ أَرْضِهِ عَشِيًّا فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى آخِرِ ذِكْرِ اللِّعَانِ قَالَ فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَقَضَى أَنْ لَا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إذَا نَفَى وَلَدَهَا أَنَّهُ يُلَاعِنُ وَيَلْزَمُ الْوَلَدُ أُمَّهُ وَيَنْتَفِي نَسَبُهُ مِنْ أبيه إلا أنهم اختلفوا فِي وَقْتِ نَفْيِ الْوَلَدِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا
وَفِي خَبَرِ ابْنِ عُمَرَ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَنَّ رَجُلًا انْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَلَاعَنِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْأُمِّ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَفْيَ وَلَدِ زَوْجَتِهِ مِنْ قَذْفٍ لَهَا لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا لَاعَنَ بَيْنَهُمَا إذْ كَانَ اللِّعَانُ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْقَذْفِ وَأَمَّا تَوْقِيتُ نَفْيِ الْوَلَدِ فَإِنَّ طَرِيقَهُ الِاجْتِهَادُ وَغَالِبُ الظَّنِّ فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ قَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ فِيهَا نَفْيُ الْوَلَدِ وَكَانَ مِنْهُ قَبُولٌ لِلتَّهْنِئَةِ أَوْ ظَهَرَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ نَافٍ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَنْفِيَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَتَحْدِيدُ الْوَقْتِ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلَالَةٌ فَلَمْ يَثْبُتْ وَاعْتُبِرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ ظُهُورِ الرِّضَا بِالْوَلَدِ وَنَحْوِهِ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهُ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ رِضًا بِإِسْقَاطِهَا كَانَ كَذَلِكَ نَفْيُ الْوَلَدِ قِيلَ لَهُ قَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ السُّكُوتَ فِي ذَلِكَ إذَا مَضَتْ مُدَّةٌ مِنْ الزَّمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرِّضَا بِالْقَوْلِ إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِيهَا وَأَكْثَرُ مَنْ وَقَّتَ فِيهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَذَلِكَ لَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ اعْتِبَارُ هَذِهِ الْمُدَّةِ بِأَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ مَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهَا وَذَهَبَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إلَى أَنَّ الْأَرْبَعِينَ هِيَ مُدَّةُ أَكْثَرِ النِّفَاسِ وَحَالُ النِّفَاسِ هِيَ حَالُ الْوِلَادَةِ فَمَا دَامَتْ عَلَى حَالِ الْوِلَادَةِ قَبْلَ نَفْيِهِ وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ نَفْيَ الْوَلَدِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالنِّفَاسِ وَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ إنَّهُ إذَا رَآهَا حَامِلًا فَلَمْ يَنْتَفِ مِنْهُ ثُمَّ نَفَاهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ الْحَدَّ فَإِنَّهُ قَوْلٌ وَاهٍ لَا وَجْهَ لَهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْحَمْلَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ فَيُعْتَبَرُ نَفْيُهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ بِآكَدَ مِمَّنْ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْحَمْلِ فَعَلِمَ بِهِ وَسَكَتَ زَمَانًا يَلْزَمُهُ الْوَلَدُ وَإِنْ نَفَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ
141
لَاعَنَ وَلَمْ يَنْتَفِ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ إذْ لَمْ تَكُنْ صِحَّةُ اللِّعَانِ مُتَعَلِّقَةً بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُ إكْذَابٌ لِنَفْسِهِ بَعْدَ النَّفْيِ فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُجْلَدَ وَأَيْضًا قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ الْآيَةُ فَأَوْجَبَ اللِّعَانَ بِعُمُومِ الْآيَةِ عَلَى سَائِرِ الْأَزْوَاجِ فَلَا يُخَصُّ مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ فِيمَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ وَسُقُوطِ اللِّعَانِ.
بَابُ الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا ثُمَّ يَقْذِفُهَا
قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ قَذَفَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَكَذَلِكَ إنْ وَلَدَتْ وَلَدًا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَنَفَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ إذا بانت منه ثم أنكر حملها لا عنها إنْ كَانَ حَمْلُهَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَإِنْ قَذَفَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَهِيَ حَامِلٌ مُقِرٌّ بِحَمْلِهَا ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهُ رَآهَا تَزْنِي قَبْلَ أَنْ يُقَاذِفَهَا حُدَّ وَلَمْ يُلَاعِنْ وَإِنْ أنكر حملها بعد أن يطلقها ثلاثا لا عنها وَقَالَ اللَّيْثُ إذَا أَنْكَرَ حَمْلَهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لا عن وَلَوْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا بَعْدَ أَنْ بَانَتْ مِنْهُ وَذَكَرَ أَنَّهُ رَأَى عَلَيْهَا رَجُلًا قَبْلَ فِرَاقِهِ إيَّاهَا جُلِدَ الْحَدَّ وَلَمْ يُلَاعِنْ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ حَمْلًا فِي عِدَّتِهَا وأنكر الذي يعتد منه لا عنها وَإِنْ كَانَتْ فِي غَيْرِ عِدَّةٍ جُلِدَ وَأُلْحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَقَالَ الشَّافِعِيّ وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ مَغْلُوبَةٌ عَلَى عَقْلِهَا فَنَفَى زَوْجُهَا وَلَدَهَا الْتَعَنَ وَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَانْتَفَى الْوَلَدُ وَإِنْ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَ اللِّعَانِ فَطَالَبَ أَبُوهَا وَأُمُّهَا زَوْجَهَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَعِنَ وَإِنْ مَاتَتْ ثُمَّ قَذَفَهَا حُدَّ وَلَا لِعَانَ إلَّا أَنْ يَنْفِيَ بِهِ وَلَدًا أَوْ حَمْلًا فَيَلْتَعِنَ وَرَوَى قَتَادَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الرَّجُلِ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ يَقْذِفُهَا قَالَ يُحَدُّ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ يُلَاعِنُ وَرَوَى الشَّيْبَانِيُّ عَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ إنْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا فَادَّعَتْ حَمْلًا فَانْتَفَى مِنْهُ يُلَاعِنُهَا إنَّمَا فَرَّ مِنْ اللِّعَانِ وَرَوَى أَشْعَثُ عَنْ الْحَسَنِ مِثْلَهُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْفِرَارَ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا جُلِدَ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَعَطَاءٌ والزهري إذا قذفها بعد ما بَانَتْ مِنْهُ جُلِدَ الْحَدَّ قَالَ عَطَاءٌ وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَكَانَ ذَلِكَ حُكْمًا عَامًّا فِي قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَجْنَبِيَّاتِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ ثُمَّ نُسِخَ مِنْهُ قَاذِفُ الزَّوْجَاتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَالْبَائِنَةُ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ فَعَلَى الَّذِي كَانَ زَوْجُهَا الْحَدُّ إذَا قَذَفَهَا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ وَمَنْ أَوْجَبَ اللِّعَانَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَارْتِفَاعِ الزَّوْجِيَّةِ فَقَدْ نَسَخَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا لَمْ يَرِدْ تَوْقِيفٌ بِنَسْخِهِ وَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ
142
الْقُرْآنِ إلَّا بِتَوْقِيفٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِ اللِّعَانِ إذْ كَانَ اللِّعَان حَدًّا عَلَى مَا رَوَيْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْحُدُودِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ وَإِنَّمَا طَرِيقُهَا التَّوْقِيفُ أَوْ الِاتِّفَاقُ وَأَيْضًا لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهُ لَوْ قَذَفَهَا بِغَيْرِ وَلَدٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ وَلَا لِعَانَ فَثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي الْآيَةِ وَلَا مُرَادٍ إذْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ نَفْيُ الْوَلَدِ وَإِنَّمَا فِيهَا ذِكْرُ الْقَذْفِ وَنَفْيُ الْوَلَدِ مَأْخُوذٌ مِنْ السُّنَّةِ وَلَمْ تَرِدْ السُّنَّةُ بِإِيجَابِ اللِّعَانِ لِنَفْيِ الْوَلَدِ الْبَيْنُونَةِ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا يُلَاعَن بَيْنَهُمَا لِنَفْيِ الْوَلَدِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لِلزَّوْجِ وَلَا يَنْتَفِي مِنْهُ إلَّا بِاللِّعَانِ قِيَاسًا عَلَى حَالِ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ قِيلَ لَهُ هَذَا اسْتِعْمَالُ الْقِيَاسِ فِي نَسْخِ حُكْمِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْآيَةِ بِالْقِيَاسِ وَأَيْضًا لَوْ جَازَ إيجَابُ اللِّعَانِ لِنَفْيِ الْوَلَدِ مَعَ ارْتِفَاعِ الزَّوْجِيَّةِ لَجَازَ إيجَابُهُ لِزَوَالِ الْحَدِّ عَنْ الزَّوْجِ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الزَّوْجِيَّةِ فَلَمَّا كَانَ لَوْ قَذَفَهَا بِغَيْرِ وَلَدٍ حُدَّ وَلَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ لِيَزُولَ الْحَدُّ لِعَدَمِ الزَّوْجِيَّةِ كَذَلِكَ لَا يَجِبُ اللِّعَانُ لِنَفْيِ الْوَلَدِ مَعَ ارْتِفَاعِ الزَّوْجِيَّةِ فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ وقال وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَحَكَمَ تَعَالَى بِطَلَاقِ النِّسَاءِ وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ عندك من طلاقها بعد البينونة مادامت فِي الْعِدَّةِ فَمَا أَنْكَرْت مِثْلَهُ فِي اللِّعَانِ قِيلَ لَهُ هَذَا سُؤَالٌ سَاقِطٌ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ حَكَمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى نِسَاءِ الْمُطَلِّقِ لَمْ يَنْفِ بِذَلِكَ وُقُوعَهُ عَلَى مَنْ لَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِ بَلْ مَا عَدَا نِسَائِهِ فَحُكْمُهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ فِي وُقُوعِ طَلَاقِهِ أَوْ نَفْيِهِ وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى وُقُوعِهِ فِي الْعِدَّةِ وَأَمَّا اللِّعَانُ فَإِنَّهُ مَخْصُوصٌ بِالزَّوْجَاتِ وَلِأَنَّ مَنْ عَدَا الزَّوْجَاتِ فَالْوَاجِبُ فِيهِنَّ الْحَدُّ بِقَوْلِهِ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ فَكَانَ مُوجِبُ هَذِهِ الْآيَةِ نَافِيًا لِلِّعَانِ وَمَنْ أَوْجَبَهُ وَأَسْقَطَ حُكْمَ الْآيَةِ فَقَدْ نَسَخَهَا بِغَيْرِ تَوْقِيفٍ وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَلِذَلِكَ نَفَيْنَاهُ إلَّا مَعَ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ حَكَمَ بِطَلَاقِ النِّسَاءِ فَقَدْ حَكَمَ بِطَلَاقِهِنَّ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِقَوْلِهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَحَكَمَ
بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ الْفِدْيَةِ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ وَلَيْسَ مَعَك آيَةٌ وَلَا سُنَّةٌ فِي إيجَابِ اللِّعَانِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَأَيْضًا فَجَائِزٌ إثْبَاتُ الطَّلَاقِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ اللِّعَانِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ حَدٌّ لَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي إثْبَاتِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ اللِّعَانَ يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ وَلَا يَصِحُّ إثْبَاتُهَا بَعْدَ وُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ فَلَا مَعْنَى لإيجاب لعان
143
لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ بَيْنُونَةٌ إذْ كَانَ مَوْضُوعُ اللِّعَانِ لِقَطْعِ الْفِرَاشِ وَإِيجَابِ الْبَيْنُونَةِ فَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ ذَلِكَ فَلَا حُكْمَ لَهُ فَجَرَى اللِّعَانُ عِنْدَنَا فِي هَذَا الْوَجْهِ مَجْرَى الْكِنَايَاتِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْبَيْنُونَةِ فَلَا يَقَعُ بِهَا طَلَاقٌ بَعْد ارْتِفَاعِ الزَّوْجِيَّةِ مِثْلُ قَوْلِهِ أَنْتِ خَلِيَّةٌ وَبَائِنٌ وَبَتَّةٌ وَنَحْوُهَا فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلْحِقَهَا حُكْمَ هَذِهِ الْكِنَايَاتِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمُ اللِّعَانِ فِي انْتِفَاءِ حُكْمِهِ بَعْدَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ وَارْتِفَاعِ الزَّوْجِيَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُكْمُ صَرِيحِ الطَّلَاقِ إذْ لَيْسَ شَرْطُهُ ارْتِفَاعُ الْبَيْنُونَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ تَثْبُتُ مَعَهُ الرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ وَلَوْ طَلَّقَ الثَّانِيَةَ بَعْدَ الْأُولَى فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ فِي الثَّانِيَةِ تَأْثِيرٌ فِي بَيْنُونَةٍ وَلَا تَحْرِيمٍ وَإِنَّمَا أَوْجَبَ نُقْصَانَ الْعَدَدِ فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَلْحَقَهَا الطَّلَاقُ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ لَا لِإِيجَابِ تَحْرِيمٍ وَلَا لِبَيْنُونَةٍ وَأَيْضًا فَلَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ أَصْلًا لِوُجُوبِ اللِّعَانِ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ وَالْمَجْنُونَةَ يَلْحَقُهُمَا الطَّلَاقُ وَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِمَا وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ إذا أبانت مِنْهُ بَعْدَ الْقَذْفِ بِطَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ يُلَاعِنُ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ إذَا قَذَفَهَا وَهِيَ حَامِلٌ ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا قَبْلَ أَنْ يُلَاعِنَهَا فَمَاتَتْ لَزِمَهُ الولد وضرب الحد وإن لا عن الزوج ولم تلتعن الْمَرْأَةَ حَتَّى تَمُوتَ ضُرِبَ الْحَدَّ وَتَوَارَثَا وَإِنْ طَلَّقَهَا وَهِيَ حَامِلٌ وَقَدْ قَذَفَهَا فَوَضَعَتْ حَمْلَهَا قَبْلَ أَنْ يُلَاعِنَهَا لَمْ يُلَاعِنْ وَضُرِبَ الْحَدَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ بَيَّنَّا امْتِنَاعَ وُجُوبِ اللِّعَانِ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ ثُمَّ لَا يَخْلُو إذَا لَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ مِنْ أَنْ لَا يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى مَا قَالَ أَصْحَابُنَا أَوْ أَنْ يَجِبَ الْحَدُّ عَلَى مَا قَالَ الْحَسَنُ بْنُ صالح وغير جائز إيجاب الحد إذا لم يكن من الزوج إكذاب لنفسه وأينا سَقَطَ اللِّعَانُ عَنْهُ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ وَصَارَ بِمَنْزِلَتِهَا لَوْ صَدَّقَتْهُ عَلَى الْقَذْفِ لَمَا سَقَطَ اللِّعَانُ مِنْ جِهَةِ الْحُكْمِ لَا بِإِكْذَابٍ مِنْ الزَّوْجِ لِنَفْسِهِ لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ فَإِنْ قِيلَ لَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ تَنْتَقِلْ إلَى اللِّعَانِ كَذَلِكَ إذَا قَذَفَهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ ثُمَّ بَانَتْ لَمْ يَبْطُلْ اللِّعَانُ قِيلَ لَهُ حَالُ النِّكَاحِ قَدْ يَجِبُ فِيهَا اللِّعَانُ وَقَدْ يَجِبُ فِيهِ الْحَدُّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَجَبَ الْحَدُّ فِي حَالِ النِّكَاحِ وَغَيْرُ حَالِ النِّكَاحِ لَا يَجِبُ فِيهِ اللِّعَانُ بِحَالٍ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الرَّجُلِ يَنْفِي حَمْلَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا قَالَ لَيْسَ هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا لَهَا فَإِنْ وَلَدَتْ بَعْدَ يَوْمٍ لَمْ يُلَاعِنْ حَتَّى يَنْفِيَهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إنْ جَاءَتْ بِهِ بَعْدَ هَذَا
144
القول لأقل من ستة أشهر لا عن وقد روى عن أبى يوسف أن يُلَاعِنُهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يُلَاعِنُ بالحمل وذكر عنه الربيع أنه يلاعن حتى تلد وإنما يوجبه أَبُو حَنِيفَةَ اللِّعَانَ بِنَفْيِ الْحَمْلِ لِأَنَّ الْحَمْلَ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونُ رِيحًا أَوْ دَاءً وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ نَجْعَلَهُ قَذْفًا لِأَنَّ الْقَذْفَ لَا يَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ ألا نرى أَنَّ التَّعْرِيضَ الْمُحْتَمِلَ لِلْقَذْفِ وَلِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ إيجَابُ اللِّعَانِ وَلَا الْحَدِّ بِهِ فَلَمَّا كَانَ مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونَ مَا نَفَاهُ وَلَدًا وَاحْتَمَلَ غَيْرَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوجِبَ اللِّعَانَ بِهِ قَبْلَ الْوَضْعِ ثُمَّ إذَا وَضَعَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ تَيَقُّنًا أَنَّهُ كَانَ حَمْلًا فِي وَقْتِ النَّفْيِ لَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ أَيْضًا لِأَنَّهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ وَالْقَذْفُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ عَلَى شَرْطٍ ألا ترى أنه لو قال لها إذَا وَلَدْتِ فَأَنْتِ زَانِيَةٌ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا لَهَا بِالْوِلَادَةِ وَاحْتَجَّ مَنْ لَاعَنَ بِالْحَمْلِ بِمَا
رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَاعَنَ بِالْحَمْلِ
وَإِنَّمَا أَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ
مَا رَوَاهُ عِيسَى بْنُ يُونُسَ وَجَرِيرُ جَمِيعًا عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ أَرَأَيْتُمْ إنْ وجد رجلا مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَإِنْ هُوَ قَتَلَهُ قَتَلْتُمُوهُ وإن تكلم جلدتموه وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَنْ غَيْظٍ فَأُنْزِلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ فَابْتُلِيَ بِهِ فَجَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَاعَنَ امْرَأَتَهُ
فَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْحَمْلَ وَلَا أَنَّهُ لَاعَنَ بِالْحَمْلِ
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ وَقَالَ وَجَدْت مَعَ امْرَأَتِي رَجُلًا ثُمَّ لَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ إنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ قَالَ أنبأنا هشام بن حسان قال حدثني عكرمة عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم بشريك بن سَحْمَاءَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِك وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا فهو لشريك بن سَحْمَاءَ وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَبَّادُ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
فَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ قَذَفَهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يُوجِبُ اللِّعَانَ بِالْقَذْفِ وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا وَإِنَّمَا لَا يُوجِبُهُ إذَا نَفَى الْحَمْلَ مِنْ غَيْرِ قَذْفٍ فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَقَدْ تُرَدُّ الْجَارِيَةُ بِعَيْبِ الْحَمْلِ إذَا قَالَ النِّسَاءُ هِيَ حُبْلَى
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دِيَةِ شِبْهِ الْعَمْدِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ خِلْفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا
قِيلَ لَهُ أَمَّا نَفَقَةُ الْحَامِلِ فَلَا تَجِبُ لِأَجْلِ الْحَمْلِ وَإِنَّمَا وَجَبَتْ لِلْعِدَّةِ فَمَا لَمْ تُنْقَضْ عِدَّتُهَا فَنَفَقَتُهَا وَاجِبَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّ غَيْرَ الْحَامِلِ نفقتها واجبة وإنما ذكر الحمل «١٠- احكام مس»
145
لِأَنَّ وَضْعَهُ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَتَنْقَطِعُ بِهِ النَّفَقَةُ وَأَمَّا الرَّدُّ بِالْعَيْبِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ كَوْنُهُ مَعَ الشُّبْهَةِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ الَّتِي لَا تُسْقِطُهَا الشُّبْهَةُ وَالْحَدُّ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِالشُّبْهَةِ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا وَكَذَلِكَ مَنْ يُوجِبُ فِي الدِّيَةِ أَرْبَعِينَ خلقة فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا فَإِنَّهُ يُوجِبُهَا عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ وَمِثْلُهُ لَا يَجُوزُ إيجَابُ الْحَدِّ بِهِ وَهَذَا كَمَا يُحْكَمُ بِظَاهِرِ وُجُودِ الدَّمِ أَنَّهُ حَيْضَةٌ وَلَا يَجُوزُ الْقَطْعُ بِهِ حَتَّى يَتِمَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ ظَاهِرُ أَمْرِهَا الْحَبَلَ لَا تَكُونُ رُؤْيَتُهَا الدَّمَ حَيْضًا فَإِنْ تَبَيَّنَ بَعْدُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا كَانَ ذَلِكَ الدَّمُ حَيْضًا وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ إنْ جَاءَتْ بِهِ عَلَى صِفَةِ كَيْتَ وَكَيْتَ فَهُوَ لشريك بن سَحْمَاءَ فَإِنَّهُ فِيمَا أَضَافَهُ إلَى هِلَالٍ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَةِ إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَنْفِ الْوَلَدَ مِنْهُ بِلِعَانِهِ إيَّاهَا فِي حَالِ حَمْلِهَا وَقَوْلُهُ فَهُوَ لِشَرِيكِ بن سَحْمَاءَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ إلْحَاقُ النَّسَبِ بِهِ وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُ مِنْ مَائِهِ فِي غَالِبِ الرَّأْيِ لِأَنَّ الزَّانِي لَا يُلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ
لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ
فَإِنْ قِيلَ
فِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي امْرَأَةٍ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا أَنْ لَا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍ
قِيلَ لَهُ هَذَا إنَّمَا ذَكَرَهُ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَاهٍ لَا يَشُكُّ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ فِي حَدِيثِ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ هَذَا أَشْيَاءُ لَيْسَتْ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُدْرَجَةٌ فِيهِ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ غَيْرُ عَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ نَفْيُ النَّسَبِ وَلَا إثْبَاتُ للقذف بِالشُّبْهَةِ
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ إنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ وَإِنِّي أَنْكَرْته فَقَالَ لَهُ هَلْ لَك مِنْ إبِلٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ مَا أَلْوَانُهَا قَالَ حُمْرٌ قَالَ هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأَنَّى تَرَى ذَلِكَ جَاءَهَا قَالَ عِرْقٌ نَزَعَهَا قَالَ فَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ
فَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْيَهُ عَنْهُ لِبُعْدِ شَبَهِهِ مِنْهُ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَفْيُ النَّسَبِ بِالشُّبْهَةِ.
(فَصْلٌ) وَقَالَ أَصْحَابُنَا إذَا نَفَى نَسَبَ وَلَدِ زَوْجَتِهِ فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَجِبُ اللِّعَانُ حَتَّى يَقُولَ إنَّهَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ الزِّنَا
قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابن عمر أن رجلا لا عن امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَاعَنَ بَيْنَهُمَا لِنَفْيِهِ الْوَلَدَ
فَثَبَتَ أَنَّ نَفْيَ وَلَدِهَا قَذْفٌ يُوجِبُ اللعان.
146
أَرْبَعَةٌ شَهِدُوا عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَا أَحَدُهُمْ زَوْجُهَا
قَالَ أَصْحَابُنَا شَهَادَتُهُمْ جَائِزَةٌ وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَرْأَةِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يُلَاعِنُ الزَّوْجُ وَيُحَدُّ الثَّلَاثَةُ وَرُوِيَ نَحْوُ قَوْلِهِمَا عَنْ الْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الزَّوْجَ يُلَاعِنُ وَيُحَدُّ الثَّلَاثَةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ كَوْنِ الزَّوْجِ فِيهِمْ وَبَيْنَ أَنْ يَكُونُوا جَمِيعًا أَجْنَبِيِّينَ وَقَالَ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً فَإِذَا قَذَفَ الْأَجْنَبِيُّ امْرَأَةً وَجَاءَ بِأَرْبَعَةٍ أَحَدُهُمْ الزَّوْجُ اقْتَضَى الظَّاهِرُ جَوَازَ شَهَادَتِهِمْ وَسُقُوطَ الْحَدِّ عَنْ الْقَاذِفِ وَإِيجَابَهُ عَلَيْهَا وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّ شَهَادَةَ الزَّوْجِ جَائِزَةٌ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ وَفِي الْقِصَاصِ وَفِي سَائِرِ الْحُدُودِ مِنْ السَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ فِي الزِّنَا فَإِنْ قِيلَ الزَّوْجُ يَجِبُ عَلَيْهِ اللِّعَانُ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا قِيلَ لَهُ إذَا جَاءَ مجيء الشهود مع ثلاثة غيره فليس بقذف وَلَا لِعَانَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَجِبُ اللِّعَانُ عَلَيْهِ إذَا قَذَفَهَا ثُمَّ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ كَالْأَجْنَبِيِّ إذَا قَذَفَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ إلَّا أَنْ يَأْتِي بِأَرْبَعَةٍ غَيْرِهِ يَشْهَدُونَ بِالزِّنَا وَلَوْ جَاءَ مَعَ ثَلَاثَةٍ فَشَهِدُوا بِالزِّنَا لَمْ يَكُنْ قاذفا وكان شاهدا فكذلك الزوج.
فِي إبَاءِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ اللِّعَانَ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ أَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ اللِّعَانِ حُبِسَ حَتَّى يُلَاعِنَ وَقَالَ مَالِكٌ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ أَيُّهُمَا نَكَلَ حُدَّ إنْ نَكَلَ الرَّجُلُ حُدَّ لِلْقَذْفِ وَإِنْ نَكَلَتْ هِيَ حُدَّتْ لِلزِّنَا وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ عَنْ أَشْعَثَ عَنْ الْحَسَنِ فِي الرَّجُلِ يُلَاعِنُ وَتَأْبَى الْمَرْأَةُ قَالَ تُحْبَسُ وَعَنْ مَكْحُولٍ وَالضَّحَّاكِ وَالشَّعْبِيِّ إذَا لَاعَنَ وَأَبَتْ أَنْ تُلَاعِنَ رُجِمَتْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ وقال ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ بن أمية حين قذف امرأته بشريك بن سَحْمَاءَ ائْتِنِي بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك
وَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ بِالزِّنَا ثُمَّ رَجَمَهُمَا
فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إيجَابُ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِتَرْكِ اللِّعَانِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِبَيِّنَةٍ وَلَا إقْرَارٍ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ دَمُ امرى مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى
147
ثَلَاثٍ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ وَكُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ وَقَتْلِ نَفْسِ بِغَيْرِ نَفْسِ
فَنَفَى وُجُوبَ الْقَتْلَ إلَّا بِمَا ذُكِرَ وَالنُّكُولُ عَنْ اللِّعَانِ خَارِجٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ رَجْمُهَا وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الرَّجْمُ إذَا كَانَتْ مُحْصَنَةً لَمْ يَجِبْ الْجَلْدُ فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ لِأَنَّ أَحَدًا لَمْ يفرق بينهما فإن قيل امْرِئٍ مُسْلِمٍ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ الرَّجُلَ دُونَ الْمَرْأَةِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الْمَرْأَةَ مُرَادَةٌ بِذَلِكَ وَأَنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَامٌّ فِيهِمَا جَمِيعًا وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ لِلْجِنْسِ كَقَوْلِهِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وقوله يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّ الدَّمَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالنُّكُولِ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحُدُودِ فَكَانَ فِي اللِّعَانِ أَوْلَى أَنْ لَا يُسْتَحَقَّ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا قَالَ تَعَالَى وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وهو يعنى حد الزنا ثم قال وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ فَعَرَّفَهُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْعَذَابُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قِيلَ لَهُ لَيْسَتْ هَذِهِ قِصَّةً وَاحِدَةً وَلَا حكما واحدا حتى يلزمه فِيهِ مَا قُلْت لِأَنَّ أَوَّلَ السُّورَةِ إنَّمَا هِيَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الزَّانِيَيْنِ ثُمَّ حُكْمِ الْقَاذِفِ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا ثَابِتًا فِي قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ وَالْأَجْنَبِيَّاتِ جَارِيًا عَلَى عُمُومِهِ إلَى أَنْ نُسِخَ عَنْ قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ بِاللِّعَانِ وَلَيْسَ فِي ذِكْرِهِ الْعَذَابَ وَهُوَ يُرِيدُ بِهِ حَدَّ الزِّنَا فِي مَوْضِعٍ ثُمَّ ذَكَرَ الْعَذَابَ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي غَيْرِهِ مَا يُوجِبُهُ أَنَّ الْعَذَابَ الْمَذْكُورَ فِي لِعَانِ الزَّوْجَيْنِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي الزَّانِيَيْنِ إذْ لَيْسَ يَخْتَصُّ الْعَذَابُ بِالْحَدِّ دُونَ غَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَدَّ وَقَالَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ وَلَمْ يُرِدْ الْحَدَّ وَقَالَ وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَدَّ وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ الْأَبْرَصِ:
وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ فِي تَكْذِيبٍ طُولُ الْحَيَاةِ لَهُ تَعْذِيبُ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ
فَإِذَا كَانَ اسْمُ الْعَذَابِ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مِنْ الْإِيلَامِ دُونَ غَيْرِهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ جَمِيعَ سَائِرِ ضُرُوبِ الْعَذَابِ عَلَيْهِ لَمْ يَخْلِ اللَّفْظُ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْجِنْسَ فَيَكُونَ عَلَى أَدْنَى مَا يُسَمَّى عَذَابًا أَيْ ضَرْبٌ مِنْهُ كَانَ أَوْ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَعْهُودًا لِأَنَّ الْمَعْهُودَ هُوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الْخِطَابِ فَيَرْجِعُ الْكَلَامُ إلَيْهِ إذْ كَانَ مَعْنَاهُ مُتَقَرِّرًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ وَأَنَّ الْمُرَادَ عَوْدُهُ إلَيْهِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِ قَذْفِ الزَّوْجِ وَإِيجَابِ اللِّعَانِ مَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادُ بِالْعَذَابِ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَتْ الْأَيْمَانُ قَدْ تَكُونُ حَقًّا للمدعى
148
حَتَّى يُحْبَسَ مِنْ أَجْلِ النُّكُولِ عَنْهَا وَهِيَ الْقَسَامَةُ مَتَى نَكَلُوا عَنْ الْأَيْمَانِ فِيهَا حُبِسُوا كَذَلِكَ حَبْسُ النَّاكِلِ عَنْ اللِّعَانِ أَوْلَى مِنْ إيجَابِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأُصُولِ إيجَابُ الْحَدِّ بِالنُّكُولِ وَفِيهَا إيجَابُ الْحَبْسِ بِهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ النُّكُولَ يَنْقَسِمُ إلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إمَّا بَدَلٌ لِمَا اُسْتُحْلِفَ عَلَيْهِ وَإِمَّا قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ وَبَدَلُ الْحُدُودِ لَا يَصِحُّ وَمَا قَامَ مَقَامَ الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ إيجَابُ الْحَدِّ بِهِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَأَيْضًا فَإِنَّ النُّكُولَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ صَرِيحَ الْإِقْرَارِ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ الْحَدِّ بِهِ كَالتَّعْرِيضِ وَكَاللَّفْظِ الْمُحْتَمِلِ لِلزِّنَا وَلِغَيْرِهِ فَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ عَلَى الْمُقِرِّ وَلَا عَلَى الْقَاذِفِ فَإِنْ قِيلَ
فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ فِي قِصَّةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَهُمَا وَعَظَ الْمَرْأَةَ وَذَكَّرَهَا وَأَخْبَرَهَا أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَكَذَلِكَ الرَّجُلَ
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ أَرَادَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا حَدَّ الزِّنَا أَوْ الْقَذْفِ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِعَذَابِ الدُّنْيَا الْحَبْسَ أَوْ الْحَدَّ إذَا أَقَرَّ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْحَبْسَ فَهُوَ عِنْدَ النُّكُولِ وَإِنْ أَرَادَ الْحَدَّ فَهُوَ عِنْدَ إقْرَارِهَا بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِكْذَابِ الزَّوْجِ لِنَفْسِهِ فَلَا دَلَالَةَ لَهُ فِيهِ عَلَى أَنَّ النُّكُولَ يُوجِبُ الْحَدَّ دُونَ الْحَبْسِ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ بِالنُّكُولِ وَأَيْمَانِ الزَّوْجِ وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ وَأَيْمَانِ الْمَرْأَةِ قِيلَ لَهُ النُّكُولُ وَالْأَيْمَانُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِهِ الْحَدُّ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ قَذْفًا أَنَّهُ لَا يَسْتَحْلِفُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي الْحَدَّ بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا بِيَمِينِهِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْحُدُودِ وَلَا يُسْتَحْلَفُ فِيهَا وَلَا يحكم فيها بالنكول ولا يرد الْيَمِينِ.
بَابُ تَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُنْفَى الْوَلَدُ مِنْهُ إلَّا بِاللِّعَانِ وَقَالَ أَصْحَابُنَا تَصْدِيقُهَا إيَّاهُ بِأَنَّ وَلَدَهَا مِنْ الزِّنَا يُبْطِلُ اللِّعَانَ فَلَا يَنْتَفِي النَّسَبُ مِنْهُ أَبَدًا وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ إذَا تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى أَنَّهَا وَلَدَتْهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَلَدُ وَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ وَذَكَرَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ قَالَ لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا زَنَتْ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَهِيَ حَامِلٌ وَقَدْ غَابَ زَوْجُهَا مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَأَخَّرَهَا الْإِمَامُ حَتَّى وَضَعَتْ ثُمَّ رَجَمَهَا فقدم زوجها بعد ما رُجِمَتْ فَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهِ وَقَالَ قَدْ كُنْت اسْتَبْرَأْتهَا فَإِنَّهُ يَلْتَعِنُ وَيَنْتَفِي بِهِ الْوَلَدُ عَنْ نفسه ولا ينفيه هاهنا إلَّا اللِّعَانُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ
وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَنْتَفِيَ أَبَدًا عَنْ صَاحِبِ الْفِرَاشِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا وَرَدَتْ السُّنَّةُ فِي إلْحَاقِ
149
الْوَلَدِ بِالْأُمِّ وَقَطْعِ نَسَبِهِ مِنْ الْأَبِ بِاللِّعَانِ واستعمل ذلك فقهاء الأمصار سلمنا بذلك وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِمَّا لَمْ تَرِدْ بِهِ سُنَّةٌ فَهُوَ لَازِمٌ لِلزَّوْجِ بِظَاهِرِ
قَوْلِهِ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ أَبُو يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ مَوْلَى الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَنْ رَبَاحٍ قَالَ زَوَّجَنِي أَهْلِي أَمَةً لَهُمْ رُومِيَّةً فَوَقَعْت عَلَيْهَا فَوَلَدَتْ لِي غُلَامًا أَسْوَدَ مِثْلِي فَسَمَّيْته عَبْدَ اللَّهِ ثُمَّ طَبِنَ لَهَا غُلَامٌ من أهلى رومي يقال له يوحنه فراطنها بلسانه فولدت غلاما كأنه وَزَغَةً مِنْ الْوَزَغَاتِ فَقُلْت لَهَا مَا هَذَا فَقَالَتْ هَذَا لِيُوحُنَّهُ فَرَفَعْنَا إلَى عُثْمَانَ قَالَ فَسَأَلَهُمَا فَاعْتَرَفَا فَقَالَ لَهُمَا أَتَرْضَيَانِ أَنْ أَقْضِيَ بَيْنَكُمَا بِقَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ فَجَلَدَهَا وَجَلَدَهُ وكانا مملوكين.
بَابُ الْفُرْقَةِ بِاللِّعَانِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنْ اللِّعَانِ حَتَّى يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ وَقَالَ مَالِكٌ وَزُفَرُ بْنُ الْهُذَيْلِ وَاللَّيْثُ إذَا فَرَغَا مِنْ اللِّعَانِ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَإِنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا الْحَاكِمُ وَعَنْ الثَّوْرِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ لَا أَرَى مُلَاعَنَةَ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ تَنْقُصُ شَيْئًا وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُطَلِّقَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا أَكْمَلَ الزَّوْجُ الشَّهَادَةَ وَالِالْتِعَانَ فَقَدْ زَالَ فِرَاشُ امْرَأَتِهِ وَلَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا الْتَعَنَتْ أَوْ لَمْ تَلْتَعِنْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَمَّا قَوْلُ عُثْمَانَ الْبَتِّيِّ فِي أَنَّهُ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهُ قَوْلٌ تَفَرَّدَ بِهِ وَلَا نَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ بِهِ غَيْرَهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي إيقَاعِهِ الْفُرْقَةَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ سَائِرِ الْفُقَهَاءِ وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ سَلَفٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ لَا تَقَعُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ
مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سعد الساعدي أخبره أن عويمر الْعَجْلَانِيَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت رَجُلًا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أَمْ كَيْفَ يَفْعَلُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيك وَفِي صَاحِبَتِك قُرْآنًا فَاذْهَبْ فَأْتِ بِهَا قَالَ سَهْلٌ فَتَلَاعَنَا وَأَنَا مَعَ النَّاسِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا فَرَغْنَا قَالَ عُوَيْمِرٌ كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا عُوَيْمِرٌ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ فَكَانَتْ سُنَّةُ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَفِي هَذَا الْخَبَرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ لَمْ يُوجِبْ الْفُرْقَةَ
لِقَوْلِهِ كَذَبْت عَلَيْهَا إنْ أَمْسَكْتُهَا
وَذَلِكَ لِأَنَّ
150
فِيهِ إخْبَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُ مُمْسِكٌ لَهَا بَعْدَ اللِّعَانِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ النِّكَاحِ إذْ لَوْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ قَدْ وَقَعَتْ قَبْلَ ذَلِكَ لَاسْتَحَالَ قَوْلُهُ كَذَبْت عَلَيْهَا إنْ أَمْسَكْتهَا وَهُوَ غَيْرُ مُمْسِكٍ لَهَا فَلَمَّا أُخْبِرَ بَعْدَ اللِّعَانِ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مُمْسِكٌ لَهَا وَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَقَعْ بِنَفْسِ اللِّعَانِ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَارَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا عَلَى الْكَذِبِ وَلَا عَلَى اسْتِبَاحَةِ نِكَاحٍ قَدْ بَطَلَ فَثَبَتَ أَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَقَعْ بِنَفْسِ اللِّعَانِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا
مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنُ مِلْحَانِ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِكِيرٍ قَالَ حدثنا الليث عن يزيد ابن أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ كَتَبَ يَذْكُرُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عُوَيْمِرًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت إنْ وَجَدْت عِنْدَ أَهْلِي رَجُلًا أَأَقْتُلُهُ قَالَ ائْتِ بِامْرَأَتِك فَإِنَّهُ قَدْ نَزَلَ فِيكُمَا فَجَاءَ بِهَا فَلَاعَنَهَا ثُمَّ قَالَ إنِّي قَدْ افْتَرَيْت عَلَيْهَا إنْ لَمْ أُفَارِقْهَا
فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَارَقَهَا بِاللِّعَانِ وَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمَّا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَعْدَ اللِّعَانِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ وَقَعَ مَوْقِعَهُ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا قَدْ بَانَتْ مِنْهُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ وَلَا يَلْحَقُهَا طَلَاقُهُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ فَقَدْ خَالَفَ الْخَبَرَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضًا وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عمر وبن السَّرْحِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَعْنِي قِصَّةَ عُوَيْمِرٍ قَالَ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْفَذَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَا صَنَعَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَهْلٌ حَضَرْت هَذَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَتْ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا فَأَخْبَرَ فِي هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ أَنْفَذَ طَلَاقَ الْعَجْلَانِيِّ بَعْدَ اللِّعَانِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ فَمَضَتْ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَلَوْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ وَاقِعَةً بِاللِّعَانِ لَاسْتَحَالَ التَّفْرِيقُ بَعْدَهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ وَوَهْبُ بْنُ بَيَانٍ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ مُسَدَّدٌ قَالَ شَهِدْت الْمُتَلَاعِنَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأنا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا حِين تَلَاعَنَا فَقَالَ الرَّجُلُ كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا
فَأَخْبَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ اللِّعَانِ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْت لِابْنِ عُمَرَ رَجُلٌ قَذَفَ امْرَأَتَهُ قَالَ فَرَّقَ رسول
151
الله صلّى الله عليه وسلّم بنى أَخَوَيْ بَنِي الْعَجْلَانِ فَقَالَ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَأَبَيَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا
فَنَصَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ اللِّعَانِ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَانْتَفَى مِنْ وَلَدِهَا فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَأَلْحَقَ الْوَلَدَ بِالْمَرْأَةِ
وَهَذَا أَيْضًا فِيهِ نَصٌّ عَلَى أَنَّ التَّفْرِيقَ كَانَ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ وَاقِعَةً بِلِعَانِ الزَّوْجِ لَبَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا وَقَعَ بِهَا مِنْ التَّحْرِيمِ وَتَعَلَّقَ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ فَلَمَّا لَمْ يُخْبِرْ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِلِعَانِ الزَّوْجِ ثَبَتَ أَنَّهَا لَمْ تَقَعْ وَأَيْضًا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ خِلَافُ الْآيَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ثم قال فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ ثم قال وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ وَهُوَ يَعْنِي الزَّوْجَةَ فَلَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ لَلَاعَنَتْ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ وَذَلِكَ خِلَافُ ظَاهِرِ الْآيَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَوْجَبَ اللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِغَيْرِ وَلَدٍ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ أَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ أَبَانَهَا أَنَّهُ لَا يُلَاعِنُ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ لِأَنَّ اللِّعَانَ فِي هَذِهِ الْحَالِ إنَّمَا هُوَ لقطع الفراش ولا فراش بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ فَامْتَنَعَ لِعَانُهَا وَهِيَ غَيْرُ زَوْجَةٍ فَإِنْ قِيلَ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي فِيهَا ذِكْرُ تَفْرِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ إنَّمَا مَعْنَاهُ أَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِاللِّعَانِ فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا لا تحل له
بقوله لا سبيل عليها
قيل له هذا صرف الكلام عَنْ حَقِيقَتِهِ وَمَعْنَاهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا تَحِلُّ لَك لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا إنْ لَمْ تَقَعْ بِهِ فُرْقَةٌ فَلَيْسَ بِتَفْرِيقٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ بِالْحُكْمِ وَالْمُخْبِرُ بِالْحُكْمِ لَا يَكُونُ مُفَرِّقًا بَيْنَهُمَا فَإِنْ قِيلَ
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا
وَذَلِكَ إخْبَارٌ مِنْهُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَوْ كَانَ بَاقِيًا إلَى أَنْ يُفَرَّقَ لَكَانَا مُجْتَمِعَيْنِ قِيلَ لَهُ هَذَا لَا يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنما روى عن عمر
وَعَلِيٍّ قَالَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا يَجْتَمِعَانِ
فَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنَّهُمَا إذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ ماداما عَلَى حَالِ التَّلَاعُنِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَثْبُتَ الْفُرْقَةُ حَتَّى يَحْكُمَ بِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَوْ صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَعْنَاهُ مَا وَصْفنَا وَأَيْضًا يُضَمُّ إلَيْهِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ الدَّالَّةِ عَلَى بَقَاءِ النِّكَاحِ بَعْدَ اللِّعَانِ وَأَنَّ الْفُرْقَةَ إنَّمَا تَقَعُ بِتَفْرِيقِ الْحَاكِمِ فَإِذَا جَمَعْنَا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْخَبَرِ تَضَمَّنَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ بَعْدَ التَّفْرِيقِ وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ لَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا إلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ فأشبه
152
الشَّهَادَةَ الَّتِي لَا يَثْبُتُ حُكْمُهَا إلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ فَوَاجِبٌ عَلَى هَذَا أَنْ لَا تَقَعَ مُوجِبَةً لِلْفُرْقَةِ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَإِنْ قِيلَ الْأَيْمَانُ عَلَى الدَّعَاوَى لَا يَثْبُتُ بِهَا حُكْمٌ إلَّا عِنْدَ الْحَاكِمِ وَمَتَى اسْتَحْلَفَ الْحَاكِمُ رَجُلًا برىء مِنْ الْخُصُومَةِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْنَافِ حُكْمٍ آخر في برائته مِنْهَا وَهَذَا يُوجِبُ انْتِقَاضَ اعْتِلَالِك بِمَا ذَكَرْت قِيلَ لَهُ هَذَا لَا يَلْزَمُ عَلَى مَا ذكرنا وذلك لأنا قلنا اللِّعَانَ شَهَادَةٌ تَتَعَلَّقُ صِحَّتُهَا بِالْحَاكِمِ كَالشَّهَادَاتِ عَلَى الْحُقُوقِ وَلَيْسَتْ الْأَيْمَانُ عَلَى الْحُقُوقِ شَهَادَاتٍ بِذَلِكَ عَلَى هَذَا أَنَّ اللِّعَانَ لَا يَصِحُّ إلَّا بلفظ الشهادات كَالشَّهَادَاتِ عَلَى الْحُقُوقِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى الدَّعَاوَى وَأَيْضًا فَإِنَّ اللِّعَانَ تَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا كَمَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي بِبَيِّنَتِهِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمُدَّعِي مَا ادَّعَاهُ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَجَبَ حُكْمُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا بِاللِّعَانِ وَأَمَّا الِاسْتِحْلَافُ عَلَى الْحُقُوقِ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ بِهِ شَيْءٌ وَإِنَّمَا تُقْطَعُ الْخُصُومَةُ فِي الْحَالِ وَيَبْقَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ فَكَانَتْ فُرْقَةُ اللِّعَانِ بِالشَّهَادَاتِ عَلَى الْحُقُوقِ أَشْبَهَ مِنْهَا بِالِاسْتِحْلَافِ عَلَيْهَا وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ اللِّعَانُ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ مُتَعَلِّقًا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ أَشْبَهَ تَأْجِيلَ الْعِنِّينِ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ فِي تَعَلُّقِهِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَلَمَّا لَمْ تَقَع الْفُرْقَةُ بَعْدَ التَّأْجِيلِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ دُونَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ وَجَبَ مِثْلُهُ فِي فُرْقَةِ اللِّعَانِ لِمَا وَصَفْنَا وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يَكُنْ اللِّعَانُ كِنَايَةً عَنْ الْفُرْقَةِ وَلَا تَصْرِيحًا بِهَا وَجَبَ أَنْ لَا تَقَعَ بِهِ الْفُرْقَةُ كَسَائِرِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَيْسَتْ كِنَايَةً عَنْ الْفُرْقَةِ وَلَا تَصْرِيحًا بِهَا فَإِنْ قِيلَ الْإِيلَاءُ لَيْسَ بِكِنَايَةٍ عَنْ الطَّلَاقِ وَلَا صَرِيحٍ وَقَدْ أُوقِعَتْ بِهِ الْفُرْقَةُ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ قِيلَ لَهُ إن الإيلاء يصح أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْ الطَّلَاقِ إلَّا أَنَّهُ أَضْعَفُ مِنْ سَائِرِ الْكِنَايَاتِ فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ فِيهِ بِنَفْسِ الْإِيلَاءِ إلَّا بِانْضِمَامِ مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ وَهُوَ تَرْكُ الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك قَدْ يَدُلُّ عَلَى التَّحْرِيمِ إذْ كَانَ التَّحْرِيمُ يَمْنَعُ القرب وأما اللعان فليس يصح أَنْ يَكُونَ دَالًا عَلَى التَّحْرِيمِ بِحَالٍ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ صَادِقًا فِي قَذْفِهِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَحْرِيمًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهَا بِالزِّنَا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَحْرِيمًا وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا وَالْمَرْأَةُ صَادِقَةً فَذَلِكَ أَبْعَدُ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّحْرِيمِ قَالَ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ دُونَ إحْدَاثِ تَفْرِيقٍ إمَّا مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْحَاكِمِ وَأَيْضًا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ ابْتِدَاءُ اللِّعَانِ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ كَانَ كَذَلِكَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْفُرْقَةِ وَلَمَّا صَحَّ ابْتِدَاءُ الْإِيلَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاكِمٍ لَمْ يُحْتَجْ فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ فَإِنْ قِيلَ لَمَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُمَا لَوْ تَرَاضَيَا
153
على البقاء على النكاح لم يخليا وذلك وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ قَدْ أَوْجَبَ الْفُرْقَةَ فَوَاجِبٌ أَنْ تَقَعَ الْفُرْقَةُ فِيهِ بِنَفْسِ اللَّعَّانِ دُونَ سَبَبٍ آخَرَ غَيْرِهِ قِيلَ لَهُ هَذَا مُنْتَقَضٌ عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ ارْتِدَادَ الْمَرْأَةِ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ إلَّا بِحُدُوثِ سَبَبٍ آخَرَ وَهُوَ مُضِيُّ ثلاث حيض فإذا مضت ثلاثة حِيَضٍ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ وَلَوْ تَرَاضِيًا عَلَى الْبَقَاءِ عَلَى النِّكَاحِ لَمْ يُخَلَّيَا وَذَلِكَ وَلَمْ تُوجِبْ الرِّدَّةُ بِنَفْسِهَا الْفُرْقَةَ دُونَ حُدُوثِ مَعْنًى آخَرَ وَعِنْدَنَا لَوْ تَزَوَّجَتْ امْرَأَةٌ زَوْجًا غَيْرَ كُفْءٍ وَطَالَبَ الْأَوْلِيَاءُ بِالْفُرْقَةِ لَمْ يُعْمَلْ تَرَاضِي الزَّوْجَيْنِ فِي تَبْقِيَةِ النِّكَاحِ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بِخُصُومَةِ الْأَوْلِيَاءِ حَتَّى يُفَرِّقَ الْحَاكِمُ فَهَذَا الِاسْتِدْلَال فَاسِدٌ عَلَى أَصْلِ الْجَمِيعِ وَأَيْضًا فَإِنَّك لَمْ تَرُدَّهُ إلَى أَصْلٍ وَإِنَّمَا حَصَلْت عَلَى دَعْوَى عَارِيَّةٍ مِنْ الْبُرْهَانِ وَأَيْضًا جَائِزٌ عِنْدَنَا الْبَقَاءُ عَلَى النِّكَاحِ بَعْدَ اللِّعَانِ لِأَنَّهُ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ الْفُرْقَةِ لَجُلِدَ الْحَدَّ وَلَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا فَإِنْ قِيلَ هُوَ مِثْلُ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ وَالرَّضَاعِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْفُرْقَةِ بِأَنْفُسِهَا لَا يُحْتَاجُ فِي صِحَّةِ وُقُوعِهَا إلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ وَاللِّعَانُ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْفُرْقَةِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَقَعَ بِهِ الْفُرْقَةُ إذَا تَلَاعَنَا عِنْدَ غَيْرِ
الْحَاكِمِ وَأَيْضًا لَيْسَ كُلُّ سَبَبٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ فسخ يوجبه بنفسه من الْأَسْبَابِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَمِنْهَا مَا لَا يُوجِبُهُ إلَّا بِحُدُوثِ مَعْنًى آخَرَ أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ نَصِيبٍ مِنْ الدَّارِ يُوجِبُ الشُّفْعَةَ لِلشَّرِيكِ وَلَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِنَفْسِ الطَّلَبِ وَالْخُصُومَةِ دُونَ أَنْ يَحْكُمَ بِهَا الْحَاكِمُ وَكَذَلِكَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَخِيَارُ الصَّغِيرِ إذَا بَلَغَ وَنَحْوُ ذَلِكَ هَذِهِ كُلُّهَا أَسْبَابٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا فَسْخُ الْعُقُودِ ثُمَّ لَا يَقَعُ الْفَسْخُ بِوُجُودِهَا حَسْبَ دُونِ حُكْمِ الْحَاكِمِ بِهِ فَهُوَ عَلَى مَنْ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ بِاللِّعَانِ دُونَ تَفْرِيقِ الْحَاكِمِ وَأَمَّا عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ فَإِنَّهُ ذَهَبَ فِي قَوْلِهِ إنَّ اللِّعَانَ لَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ بِحَالٍ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ وَلَا كِنَايَةٍ عَنْ الْفُرْقَةِ وَلَوْ تَلَاعَنَا فِي بَيْتِهِمَا لَمْ يُوجِبْ فُرْقَةً فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ وَلِأَنَّ اللِّعَانَ فِي الْأَزْوَاجِ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَلَوْ حُدَّ الزَّوْجُ فِي قَذْفِهِ إيَّاهَا بِأَنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ أَوْ كَانَ عَبْدًا لَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ فُرْقَةً وَكَذَلِكَ إذَا لَاعَنَ وَذَهَبَ فِي تَفْرِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ فِي قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ وَكَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَعْدَ اللِّعَانِ فَلِذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا
وَرَوَى ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ فَطَلَّقَهَا الْعَجْلَانِيِّ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ بَعْدَ فَرَاغِهِمَا مِنْ اللِّعَانِ فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا إنَّمَا هُوَ فِي قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي
154
حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدِ إنَّهُ قَالَ فَحَضَرْت هَذَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي قِصَّةَ الْعَجْلَانِيِّ فَمَضَتْ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا فَأَخْبَرَ سَهْلٌ وَهُوَ رَاوِي هَذِهِ الْقِصَّة أَنَّ السُّنَّةَ مَضَتْ بِالتَّفْرِيقِ وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْ الزَّوْجُ
وَفِي حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قِصَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهِلَالٌ لَمْ يُطَلِّقْ امْرَأَتَهُ فَثَبَتَ أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ اللِّعَانِ وَاجِبٌ وَأَيْضًا
فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِ فِي قِصَّةِ الْعَجْلَانِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ طَلَّقَهَا هُوَ ثَلَاثًا فَأَنْفَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيهِ أَنَّهُ قَالَ لَا سَبِيلَ لَك عليها
. بَابُ نِكَاحِ الْمُلَاعِنِ لِلْمُلَاعَنَةِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ إذَا أَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ وَجُلِدَ الْحَدَّ أَوْ جُلِدَ حَدَّ الْقَذْفِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وصارت المرأة بحال لا يجب بينهما وَبَيْنَ زَوْجِهَا إذَا قَذَفَهَا لِعَانٌ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمِ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَالشَّافِعِيُّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُ ذَلِكَ وَهَذَا مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ ماداما عَلَى حَالِ التَّلَاعُنِ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ فُرْقَةَ اللِّعَانِ لَا تُبِينُهَا مِنْهُ وَأَنَّهُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ فِي الْعِدَّةِ رُدَّتْ إلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ وَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ بِبُطْلَانِهِ حِين فَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَالْفُرْقَةُ لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْبَيْنُونَةِ وَيُحْتَجُّ لِلْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِعُمُومِ الْآيِ الْمُبِيحَةِ لِعُقُودِ الْمُنَاكَحَاتِ نَحْوُ قَوْلِهِ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ وَقَوْلُهُ فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ وقوله وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَكُلُّ فُرْقَةٍ تَعَلَّقَتْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَإِنَّهَا لَا تُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ سَائِرَ الْفُرَقِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا مِثْلَ فُرْقَةِ الْعِنِّينِ وَخِيَارِ الصَّغِيرَيْنِ وَفُرْقَةِ الْإِيلَاءِ عِنْدَ مُخَالِفِنَا وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْفُرَقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فِي الْأُصُولِ هَذِهِ سَبِيلُهَا فَإِنْ قِيلَ سَائِرُ الْفُرَقِ الَّتِي ذَكَرْت لَا يَمْنَعُ التَّزْوِيجَ فِي الْحَالِ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَهَذِهِ الْفُرْقَةُ تَحْظُرُ تَزْوِيجَهَا فِي الْحَالِ عِنْدَ الْجَمِيعِ فَكَمَا جَازَ أَنْ يُفَارِقَ سَائِرَ الْفُرَقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ جَازَ أَنْ يُخَالِفَهَا فِي إيجَابِهَا التَّحْرِيمَ مُؤَبَّدًا قِيلَ لَهُ مِنْ الْفُرَقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ مَا يَمْنَعُ التَّزْوِيجَ فِي الْحَالِ وَلَا تُوجِبُ مَعَ ذَلِكَ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا مِثْلُ فُرْقَةِ الْعِنِّينِ
155
إذَا لَمْ تَكُنْ نَفْيٌ مِنْ طَلَاقِهَا إلَّا وَاحِدَةٌ قَدْ أَوْجَبَتْ تَحْرِيمًا حَاظِرًا لِعَقْدِ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ وَلَمْ تُوجِبْ مَعَ ذَلِكَ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ الذِّمِّيُّ إذَا أَبَى الْإِسْلَامَ وَقَدْ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ فَفَرَّقَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ نِكَاحِهَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَلَا تُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا فَلَمْ يَجِبُ مِنْ حَيْثُ حَظَرْنَا تَزْوِيجَهَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ أَنْ تُوجِبَ بِهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا وَأَيْضًا لَوْ كَانَ اللِّعَانُ يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا لَوَجَبَ أَنْ يُوجِبَهُ إذَا تَلَاعَنَا عِنْدَ غَيْرِ الْحَاكِمِ لِأَنَّا وَجَدْنَا سَائِرَ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ فَإِنَّهَا تُوجِبُهُ بِوُجُودِهَا غَيْرَ مُفْتَقِرَةٍ فِيهِ إلَى حَاكِمٍ مِثْلُ عَقْدِ النِّكَاحِ الْمُوجِبِ لِتَحْرِيمِ الْأُمِّ وَالْوَطْءِ الْمُوجِبِ لِلتَّحْرِيمِ وَالرِّضَاعِ وَالنَّسَبِ كُلُّ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِهَا تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ لَمْ تَفْتَقِرْ إلَى كَوْنِهَا عِنْدَ الْحَاكِمِ فَلَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ تَحْرِيمُ اللِّعَانِ إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَهُوَ أَنْ يَتَلَاعَنَا بِأَمْرِهِ بِحَضْرَتِهِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا وَأَيْضًا لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ قَبْلَ الْفُرْقَةِ بَعْدَ اللِّعَانِ لَجُلِدَ الْحَدَّ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا وَأَبُو يُوسُفَ لَا يُخَالِفُنَا فِي ذَلِكَ لِزَوَالِ حَالِ التَّلَاعُنِ وَبُطْلَانِ حُكْمِهِ بِالْحَدِّ الْوَاقِعِ بِهِ وَجَبَ مِثْلُهُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وَجَبَتْ الْفُرْقَةُ وَهُوَ حُكْمُ اللِّعَانِ فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنَّهُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَجُلِدَ الْحَدَّ أَنْ يَعُودَ النِّكَاحُ وَتَبْطُلُ الْفُرْقَةُ لِزَوَالِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لَهَا كَمَا لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ قِيلَ لَهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّا إنَّمَا جَعَلْنَا زَوَالَ حُكْمِ اللِّعَانِ عِلَّةً لِارْتِفَاعِ التَّحْرِيمِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ لَا لِبَقَاءِ النِّكَاحِ وَلَا لِعَوْدِ النِّكَاحِ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ بَطَلَ لَمْ يَعُدْ إلَّا بِعَقْدٍ مُسْتَقْبَلٍ إلَّا أَنَّ الْفُرْقَةَ قَدْ تَعَلَّقَ بِهَا تَحْرِيمٌ غَيْرُ الْبَيْنُونَةِ وَذَلِكَ التَّحْرِيمُ إنَّمَا يَرْتَفِعُ بِارْتِفَاعِ حُكْمِ اللِّعَانِ كَمَا أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ تُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ وَتُوجِبُ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ تَحْرِيمًا لَا يَزُولُ إلَّا بِزَوْجٍ ثَانٍ يَدْخُلُ بِهَا فَإِذَا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ الثَّانِي ارْتَفَعَ التَّحْرِيمُ الَّذِي أَوْجَبَهُ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ وَلَمْ يَعُدْ نِكَاحُ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ إلَّا بَعْدَ فِرَاقِ الزَّوْجِ الثَّانِي وَانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَإِيقَاعِ عَقْدٍ مُسْتَقْبَلٍ وَدَلِيلٌ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ التَّحْرِيمَ الْوَاقِعَ بِالْفُرْقَةِ لَمَّا كَانَ مُتَعَلِّقًا بِحُكْمِ اللِّعَانِ وَجَبَ أَنْ يَرْتَفِعَ بِزَوَالِ حُكْمِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ارْتِفَاعِ حُكْمِ اللِّعَانِ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَجُلِدَ الْحَدَّ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ اللِّعَانَ حد على ما بينا فيما سلف بمنزلة الْجَلْدِ فِي قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَمُمْتَنِعٌ أَنْ يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ حَدَّانِ فِي قَذْفٍ وَاحِدٍ فَإِيقَاعُ الْجَلْدِ لِذَلِكَ الْقَذْفِ مُخْرِجٌ لِلِّعَانِ مِنْ أَنْ يَكُونَ حَدًّا وَمُزِيلٌ لِحُكْمِهِ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ لِزَوَالِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا الَّذِي ذَكَرْت يُبْطِلُ حُكْمَ اللِّعَانِ لِامْتِنَاعِ
156
اجْتِمَاعِ
الْحَدَّيْنِ عَلَيْهِ بِقَذْفٍ وَاحِدٍ فَوَاجِبٌ إذَا جُلِدَ الزَّوْجُ حَدًّا فِي قَذْفِهِ لِغَيْرِهَا أَنْ لَا يَبْطُلَ حُكْمُ اللِّعَانِ فِيمَا بَيْنَهُمَا فَلَا يَتَزَوَّجُ بِهَا قِيلَ لَهُ إذَا صَارَ مَحْدُودًا في قذفه فَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَذَفَ امْرَأَةً لَهُ أُخْرَى لَمْ يُلَاعِنْ وَكَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَنَا فَالْعِلَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَا فِي إكْذَابِهِ نَفْسَهُ فِيمَا لَاعَنَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ فِي هَذِهِ فَجَائِزٌ قِيَاسُهَا عَلَيْهَا بِمَعْنًى آخَرَ وَهُوَ خُرُوجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ فَإِنْ احْتَجُّوا بِمَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي قِصَّةِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ قَالَ الزُّهْرِيُّ فَمَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّهُمَا إذَا تَلَاعَنَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا وَبِمَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أحمد بن عمر وبن السَّرْحِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْفِهْرِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ قَالَ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْفَذَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكَانَ مَا صنع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ سَهْلٌ حَضَرْت هَذَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَتْ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا
وَبِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا
فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ لَبَيَّنَ كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمَ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا فِي إبَاحَتِهَا بَعْدَ زَوْجٍ غَيْرِهِ قِيلَ لَهُ أَمَّا حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَقَوْلُهُ مَضَتْ السُّنَّةُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَّهَا وَلَا أَنَّهُ حَكَمَ بِهَا وَأَمَّا قَوْلُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فَمَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا لَيْسَ فِيهِ أَيْضًا أَنَّ سُنَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَضَتْ بِذَلِكَ وَالسُّنَّةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ تَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا حُجَّةَ فِي هَذَا وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَهَذَا يَصِفُهُ حُكْمٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ وَهُوَ بَقَاؤُهُمَا عَلَى حُكْمِ التَّلَاعُنِ وَكَوْنُهُمَا مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ فَمَتَى زَالَتْ الصِّفَةُ بِخُرُوجِهِمَا مِنْ أَنْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ زَالَ الْحُكْمُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وقوله لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُعَلَّقَةِ بِالصِّفَاتِ وَمَتَى زَالَتْ الصِّفَةُ زَالَ الْحُكْمُ فَإِنْ قِيلِ
قَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا
قِيلَ لَهُ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا رَوَى ذَلِكَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَإِنَّمَا رُوِيَ مَا ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ وَهُوَ أَصْلُ الْحَدِيثِ فَإِنْ صَحَّ هَذَا اللَّفْظُ فَإِنَّمَا أَخَذَهُ الرَّاوِيُّ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ وَظَنَّ أَنَّ هَذِهِ الْعِبَارَةَ مُبَيِّنَةٌ عَمَّا فِي حَدِيثِ سَهْلٍ وَلَوْ صَحَّ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُفِدْ نَفْيَ النِّكَاحِ بَعْدَ زَوَالِ حُكْمِ اللِّعَانِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي بَيَّنَّا وَأَمَّا
قَوْلُهُ لَا سبيل لك عليها
فإنه يُفِيدُ تَحْرِيمَ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا هُوَ إخْبَارٌ بِوُقُوعِ
157
الْفُرْقَةِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ وَلَا يُفِيدُ ذَلِكَ تَحْرِيمَ الْعَقْدِ فَإِنْ قِيلَ
قَوْلُهُ لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا
يَنْفِي جَوَازَ الْعَقْدِ إذْ كَانَ جَوَازُهُ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ قِيلَ لَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ نَقُولُ لَا سَبِيلَ لَك عَلَى الْأَجْنَبِيَّةِ وَلَا نُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُهَا فَيَصِيرُ لَك عَلَيْهَا سَبِيلٌ بِالتَّزْوِيجِ وَإِنَّمَا نُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بُضْعَهَا فِي الْحَالِ فَإِذَا تَزَوَّجَهَا فَإِنَّمَا صَارَ لَهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ بِرِضَاهَا وَعَقْدِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ لَمْ يَمْنَعْ أَنْ يَصِيرَ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ فِي الْعُقُودِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِثْبَاتِ الْحُقُوقِ وَالسَّبِيلُ عَلَيْهِ بِرِضَاهُ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا إنَّمَا أَفَادَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا إلَّا برضاها.
(فَصْلٌ) قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ الْوَلَدَ قَدْ يُنْفَى مِنْ الزَّوْجِ بِاللِّعَانِ وَقَدْ ذَكَرْنَا حَدِيثَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فِي إلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالْأُمِّ وَقَطْعِ نَسَبِهِ مِنْ الأب باللعان نصاعن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِ مَنْ شَذَّ أَنَّهُ لِلزَّوْجِ وَلَا يَنْتَفِي نَسَبُهُ بِاللِّعَانِ وَاحْتَجَّ
بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ
وَاَلَّذِي قَالَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ هُوَ الَّذِي حَكَمَ بِقَطْعِ النَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ بِاللِّعَانِ وَلَيْسَتْ الْأَخْبَارُ الْمَرْوِيَّةُ فِي ذَلِكَ بِدُونِ ما روى في أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ فَثَبَتَ أَنَّ مَعْنَى
قَوْلِهِ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ
أَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِ بِاللِّعَانِ وَأَيْضًا فَلَمَّا بَطَلَ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ عَلَيْهِ مِنْ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ بِالزِّنَا كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ أخبرنى عروة ابن الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَنْحَاءٍ فَنِكَاحٌ مِنْهَا نِكَاحُ النَّاسِ الْيَوْمَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ وَلِيَّتَهُ فَيُصَدِّقُهَا ثُمَّ يَنْكِحُهَا وَنِكَاحٌ آخَرُ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ لَامْرَأَتِهِ إذَا طَهُرَتْ مِنْ طَمْثِهَا أَرْسِلِي إلَى فُلَانٍ فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ ويعتز لها زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا أَبَدًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي يُسْتَبْضَعُ مِنْهُ فَإِذَا تبين حملها أصابها وجها إنْ أَحَبَّ وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي نَجَابَةِ الْوَلَدِ فَكَانَ هَذَا النِّكَاحُ يُسَمَّى نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ وَنِكَاحٌ آخَرُ يَجْتَمِعُ الرَّهْطُ دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ كُلُّهُمْ يُصِيبُهَا فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ وَمَرَّ لَيَالٍ بَعْدَ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا أرسلت إليهم فلم يستطع الرجل مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عِنْدَهَا فَتَقُولُ لَهُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِكُمْ وَقَدْ وَلَدْتُ وَهُوَ ابْنُك يَا فُلَانُ فَتُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ مِنْهُمْ بِاسْمِهِ فَيُلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا ونكاح
158
رَابِعٌ يَجْتَمِعُ النَّاسُ الْكَثِيرُ فَيَدْخُلُونَ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا تَمْنَعُ مَنْ جَاءَهَا وَهُنَّ الْبَغَايَا كُنَّ يَنْصِبْنَ رَايَاتٍ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ يَكُنَّ عَلَمًا فَمَنْ أَرَادَهُنَّ دَخَلَ عَلَيْهِنَّ فَإِذَا حَمَلَتْ فَوَضَعَتْ حَمْلَهَا جُمِعُوا لَهَا وَدَعَوْا لَهُمْ الْقَافَةَ ثُمَّ أَلْحَقُوا ولدها بالذي يرون فالتقطه ودعاه ابْنَهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدَمَ نِكَاحَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كُلَّهُ إلَّا نِكَاحَ أهل الإسلام اليوم فمعنى
قوله صلّى الله عليه وسلّم الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ
أَنَّ الْأَنْسَابَ قَدْ كَانَتْ تُلْحَقُ بِالنُّطَفِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِغَيْرِ فِرَاشٍ فَأَلْحَقَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفِرَاشِ وَكَذَلِكَ مَا
رُوِيَ فِي قِصَّةِ زَمَعَةَ حِينَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ
فَلَمْ يُلْحِقُهُ بِالزَّانِي وَقَالَ هُوَ لِلْفِرَاشِ إخْبَارًا مِنْهُ أَنَّهُ لَا وَلَدَ لِلزَّانِي وَرَدَّهُ إلَى عَبْدٍ إذْ كَانَ ابْنُ أَمَةِ أَبِيهِ ثُمَّ قَالَ لَسَوْدَةَ احْتَجِبِي مِنْهُ إذْ كَانَ سَبَبَهَا بِالْمُدَّعَى لَهُ لِأَنَّهُ فِي ظَاهِرِهِ مِنْ مَاءِ أَخِي سَعْدٍ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِي نَسَبِهِ بِشَيْءٍ وَلَوْ كَانَ قَضَى بِالنَّسَبِ لَمَا أَمَرَهَا بِالِاحْتِجَابِ بَلْ كَانَ أَمَرَهَا بِصِلَتِهِ وَنَهَاهَا عَنْ الِاحْتِجَابِ عَنْهُ كَمَا نَهَى عَائِشَةَ عَنْ الِاحْتِجَابِ عَنْ عَمِّهَا مِنْ الرِّضَاعَةِ وَهُوَ أَفْلَحُ أَخُو أَبِي الْقُعَيْسِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْضِ فِي نَسَبِهِ بِشَيْءٍ
مَا رَوَاهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيِّ وَجَرِيرُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ كَانَتْ لِزَمْعَةَ جَارِيَةٌ تُبْطِنُهَا وَكَانَتْ تَظُنُّ بِرَجُلٍ آخَرَ فَمَاتَ زَمَعَةٌ وَهِيَ حُبْلَى فَوَلَدَتْ غُلَامًا كَانَ يُشْبِهُ الرَّجُلَ الَّذِي يُظَنُّ بِهَا فَذَكَرَتْهُ سَوْدَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَمَّا الْمِيرَاثُ لَهُ وَأَمَّا أَنْتِ فَاحْتَجِبِي مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَك بِأَخٍ
فَصَرَّحَ فِي هَذَا الْخَبَرِ بنفي نسبه من زمعة وإعطاء الْمِيرَاثَ بِإِقْرَارِ عَبْدٍ أَنَّهُ أَخُوهُ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ
مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ مَنْصُورٍ وَمُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ قَالَا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ اخْتَصَمَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَعَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ فَقَالَ سَعْدٌ أَوْصَانِي أَخِي عُتْبَةُ إذَا قَدِمْت مَكَّةَ أَنْ أَنْظُرَ إلَى ابْنِ أَمَةِ زَمْعَةَ فَأَقْبِضُهُ فَإِنَّهُ ابْنُهُ وَقَالَ عَبْدُ بْنُ زُمْعَةَ أَخِي ابْنُ أَمَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَهًا بَيِّنًا بِعُتْبَةَ فَقَالَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَاحْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَةُ زَادَ مُسَدَّدٌ فَقَالَ هُوَ أَخُوك يَا عَبْدُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّحِيحُ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالزِّيَادَةُ الَّتِي زَادَهَا مُسَدَّدٌ مَا نَعْلَمُ أَحَدًا وَافَقَهُ عَلَيْهَا وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ أَنَّهُ قَالَ هُوَ لَك يَا عَبْدُ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ أَثْبَتَ النَّسَبَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ إثْبَاتَ الْيَدِ لَهُ إذْ كَانَ مَنْ يَسْتَحِقُّ يَدًا فِي شَيْءٍ جَازَ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ فَيُقَالُ هُوَ لَهُ وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رواحة
159
لِلْيَهُودِ حِين خَرَصَ عَلَيْهِمْ تَمْرَ خَيْبَرَ إنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْمِلْكَ وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ
بِقَوْلِهِ هُوَ لَك يَا عَبْدُ
إثْبَاتَ الْمِلْكِ فَادَّعَى خَصْمُنَا أَنَّهُ أَرَادَ إثْبَاتَ النَّسَبِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ إضَافَتَهُ إلَيْهِ فِي الْحَقِيقَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ هُوَ لَك إضَافَةُ الْمِلْكِ وَالْأَخُ لَيْسَ بِمِلْكٍ فَإِذْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْحَقِيقَةَ فَلَيْسَ حَمْلُهُ عَلَى إثْبَاتِ النَّسَبِ بِأَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى إثْبَاتِ الْيَدِ وَيُحْتَمَلُ لَوْ صَحَّتْ الرواية أنه قال هو أخوك أن يُرِيدُ بِهِ أُخُوَّةَ الدِّينِ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِعَبْدٍ لِإِقْرَارِهِ بِأَنَّهُ حَرٌّ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْحَدِيثِ مَا ذَكَرَ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّهُ قَالَ هُوَ لَك وَظَنَّ الرَّاوِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَخُوهُ فِي النَّسَبِ فَحَمَلَهُ عَلَى الْمَعْنَى عِنْدَهُ فِي خَبَرِ سُفْيَانَ وَجَرِيرٍ الَّذِي يَرْوِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ قَالَ لَيْسَ لَك بِأَخٍ وَهَذَا لَا احْتِمَالَ فِيهِ فَوَجَبَ حَمْلُ خَبَرِ الزُّهْرِيِّ الَّذِي رَوَيْنَا عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَقَوْلُهُ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ قَدْ اقْتَضَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا إثْبَاتُ النَّسَبِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ وَالثَّانِي أَنَّ مَنْ لَا فِرَاشَ لَهُ فَلَا نَسَبَ لَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ الْوَلَدُ اسْمٌ لِلْجِنْسِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ الْفِرَاشُ لِلْجِنْسِ لِدُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ وَلَدٌ إلَّا وَهُوَ مُرَادٌ بِهَذَا الْخَبَرِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا وَلَدَ إلَّا لِلْفِرَاشِ وَفِيمَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ آيَةِ اللِّعَانِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الزِّنَا وَالْقَذْفَ لَيْسَا بِكُفْرٍ مِنْ فَاعِلِهِمَا لِأَنَّهُمَا لَوْ كَانَا كُفْرًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مُرْتَدًّا لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الزَّوْجُ كَاذِبًا فِي قَذْفِهَا فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا وَإِنْ كَانَ صَادِقًا فَوَاجِبٌ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ كَافِرَةً بِزِنَاهَا وَكَانَ يَجِبُ أَنْ تَبِينَ مِنْهُ امْرَأَتُهُ قَبْلَ اللِّعَانِ فَلَمَّا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمَا بِاللِّعَانِ وَلَمْ يَحْكُمْ بِبَيْنُونَتِهَا مِنْهُ قَبْلَ اللِّعَانِ ثَبَتَ أَنَّ الزِّنَا وَالْقَذْفَ لَيْسَا بِكُفْرٍ وَدَلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَذْهَبِ الْخَوَارِجِ فِي قَوْلِهِمْ إنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ وَتَدُلُّ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْقَاذِفَ مُسْتَحِقٌّ لِلَّعْنِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إذَا كَانَ فِي قَذْفِهِ كَاذِبًا وَأَنَّ الزِّنَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْغَضَبَ مِنْ اللَّهِ لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا جَازَ أن يأمر هما الله بذلك إذ غير جائز أن يأمرا بِأَنْ يَدْعُوَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِمَا لَا يَسْتَحِقَّانِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ يَظْلِمَهُ اللَّهُ وَيُعَاقِبَهُ بِمَا لا يستحقه وقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ وَالْإِفْكُ هُوَ الْكَذِبُ وَنَالَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ وَجَمَاعَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ غَمٌّ شَدِيدٌ وَأَذًى وَحُزْنٌ فَصَبَرُوا عَلَى ذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ صَبْرُهُمْ وَاغْتِمَامُهُمْ بِذَلِكَ شَرًّا لَهُمْ بَلْ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ لِمَا نَالُوا بِهِ مِنْ الثَّوَابِ وَلِمَا لَحِقَهُمْ أيضا من
160
السُّرُورِ بِبَيَانِ اللَّهِ بَرَاءَةَ عَائِشَةَ وَطَهَارَتَهَا وَلِمَا عَرَفُوا مِنْ الْحُكْمِ فِي الْقَاذِفِ وقَوْله تَعَالَى لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ عِقَابَ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الْإِثْمِ عَلَى قَدْرِ مَا اكْتَسَبَهُ وقَوْله تَعَالَى وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ روى أنه عبد الله بن أبى بن سلول وَكَانَ مُنَافِقًا وَكِبَرُهُ هُوَ عِظَمَهُ وَإِنَّ عِظَم مَا كَانَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ عِنْدَهُ وَبِرَأْيِهِ وَأَمْرِهِ كَانُوا يُشِيعُونَ ذَلِكَ وَيُظْهِرُونَهُ وَكَانَ هُوَ يَقْصِدُ بِذَلِكَ أَذَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَذَى أَبِي بَكْرٍ وَالطَّعْنَ عَلَيْهِمَا قَوْله تَعَالَى لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ هو أمر المؤمنين بِأَنْ يَظُنُّوا خَيْرًا بِمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةَ وَبَرَاءَةَ السَّاحَةِ وَأَنْ لَا يَقْضُوا عَلَيْهِمْ بِالظَّنِّ وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ قَذَفُوا عَائِشَةَ لَمْ يُخْبِرُوا عَنْ مُعَايَنَةٍ وَإِنَّمَا قَذَفُوهَا تَظَنُّنًا وَحُسْبَانًا لِمَا رَأَوْهَا مُتَخَلِّفَةً عَنْ الْجَيْشِ قَدْ رَكِبَتْ جَمَلَ صفوان ابن الْمُعَطِّلِ يَقُودُهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ لِمَنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةَ أَنْ يُظَنَّ بِهِ خيرا ولا يقوم مستبشرا وَهُوَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ فِي عُقُودِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَسَائِرِ تَصَرُّفِهِمْ مَحْمُولَةً عَلَى الصِّحَّةِ وَالْجَوَازِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهَا عَلَى الْفَسَادِ وَعَلَى مَا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ بِالظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ وَلِذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ وَجَدَ مَعَ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ رَجُلًا فَاعْتَرَفَا بِالتَّزْوِيجِ إنَّهُ لَا يَجُوزُ تَكْذِيبُهُمَا بَلْ يَجِبُ تَصْدِيقُهُمَا وَزَعَمَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ يَحُدَّهُمَا إنْ لَمْ يُقِيمَا بَيِّنَةً عَلَى النِّكَاحِ وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ بَاعَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا بِدِرْهَمَيْنِ وَدِينَارَيْنِ إنَّا نُخَالِفُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّا قَدْ أُمِرْنَا بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُؤْمِنِينَ وَحَمْلِ أُمُورِهِمْ عَلَى مَا يَجُوزُ فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مَا يَجُوزُ
وَهُوَ الْمُخَالَفَةُ بينهما كذلك إذَا بَاعَهُ سَيْفًا مُحَلَّى فِيهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ أَنَّا نَجْعَلُ الْمِائَةَ بِالْمِائَةِ وَالْفَضْلَ بِالسَّيْفِ فَنَحْمِلُ أَمْرَهُمَا عَلَى أَنَّهُمَا تَعَاقَدَا عَقْدًا جَائِزًا وَلَا نَحْمِلُهُ عَلَى الْفَسَادِ وَمَا لَا يَجُوزُ وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ مَا لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمْ رِيبَةٌ لِأَنَّا إذَا كُنَّا مَأْمُورِينَ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ وَتَكْذِيبِ مَنْ قَذَفَهُمْ عَلَى جِهَةِ الظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ بِمَا يُسْقِطُ الْعَدَالَةَ فَقَدْ أُمِرْنَا بِمُوَالَاتِهِمْ وَالْحُكْمِ لَهُمْ بِالْعَدَالَةِ بِظَاهِرِ حالهم وذلك يوجب التزكية وَقَبُولَ الشَّهَادَةِ مَا لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمْ رِيبَةٌ توجب التوقف عنها أوردها وَقَالَ تَعَالَى إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّهُ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ
وَقَوْلُهُ [ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ والمؤمنات بأنفسهن خيرا]
فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَظُنَّ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ خَيْرًا كَقَوْلِهِ فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ والمعنى «١١- احكام مس»
161
فليسلم بعضكم على بعض وكقوله لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يَعْنِي لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَالثَّانِي أَنَّهُ جَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ كَالنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ فِيمَا يَجْرِي عَلَيْهَا مِنْ الْأُمُورِ فَإِذَا جَرَى عَلَى أَحَدِهِمْ مَكْرُوهٌ فَكَأَنَّهُ قَدْ جَرَى عَلَى جَمِيعِهِمْ كَمَا
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ دَوَّسَتْ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ أَبِي ثَوْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَوَاصُلِهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَاَلَّذِي جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا وَجِعَ بَعْضُهُ وَجِعَ كُلُّهُ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن محمد بن نَاجِيَةٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ زَنْجُوَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَاصِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو مُسْلِمٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِك بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بعضه بعضا
قوله تعالى لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ قَدْ أَبَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَنْ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحَدَّ وَاجِبٌ عَلَى الْقَاذِفِ مَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي إثْبَاتِ الزِّنَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وقوله فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ حَوَى ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ مَتَى لَمْ يُقِيمُوا أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ فَهُمْ مَحْكُومُونَ بِكَذِبِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ فِي إيجَابِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ فَأُولَئِكَ فِي حُكْمِ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ فَيَقْتَضِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْحُكْمِ بِكَذِبِهِمْ فَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ فِي الْمُغَيَّبِ عِنْدَ اللَّهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ سَائِغٌ كَمَا قَدْ تَعَبَّدَنَا بِأَنْ نَحْكُمَ لِمَنْ ظَهَرَ مِنْهُ عَمَلُ الْخَيْرَاتِ وَتَجَنُّبُ السَّيِّئَاتِ بِالْعَدَالَةِ وَإِنْ كَانَ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا فِي الْمُغَيَّبِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَفِي قَذَفَتِهَا فَأَخْبَرَ بِقَوْلِهِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ بِمُغَيَّبِ خَبَرِهِمْ وَأَنَّهُ كَذِبٌ فِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يَرْجِعُوا فِيهِ إلَى صِحَّةٍ فَمَنْ جَوَّزَ صِدْقَ هَؤُلَاءِ فَهُوَ رَادٌّ لِخَبَرِ اللَّهِ
قَوْله تَعَالَى إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ قُرِئَ تَلَقَّوْنَهُ بِالتَّشْدِيدِ قَالَ مُجَاهِدٌ يَرْوِيهِ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ لِيُشِيعَهُ وَعَنْ عَائِشَةَ تَلِقُونَهُ مِنْ وَلِقْ الْكَذِبِ وَهُوَ الِاسْتِمْرَارُ عَلَيْهِ وَمِنْهُ وَلَقَ فُلَانٌ فِي السَّيْرِ إذَا اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ فَذَمَّهُمْ تَعَالَى عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَوْلِ بِمَا لَا علم لهم به وذلك قوله تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا فَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ
وَإِنْ كَانَ يَقِينًا فِي ظَنِّهِمْ وَحُسْبَانِهِمْ فَهُوَ عَظِيمُ الْإِثْمِ عِنْدَهُ لِيَرْتَدِعُوا عَنْ مِثْلِهِ عِنْدَ عِلْمِهِمْ بِمَوْقِعِ الْمَأْثَمِ فِيهِ ثُمَّ
قَالَ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ تَعْلِيمًا لَنَا بِمَا نَقُولُهُ عِنْدَ سَمَاعِ مِثْلِهِ فِيمَنْ كَانَ ظَاهِرُ حَالِهِ الْعَدَالَةَ وَبَرَاءَةَ السَّاحَةِ قوله تعالى سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ أَيْ تَنْزِيهًا لَك مِنْ أَنْ نُغْضِبَكَ بِسَمَاعِ مِثْلِ هَذَا الْقَوْلِ فِي تَصْدِيقِ قَائِلِهِ وَهُوَ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ
وقَوْله تَعَالَى يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً فَإِنَّهُ تَعَالَى يَعِظُنَا وَيَزْجُرُنَا بِهَذِهِ الزَّوَاجِرِ وَعِقَابِ الدُّنْيَا بِالْحَدِّ مَعَ مَا نَسْتَحِقُّ مِنْ عِقَابِ الْآخِرَةِ لِئَلَّا نَعُودَ إلَى مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ أبدا إن كنتم مؤمنين بِاَللَّهِ مُصَدِّقِينَ لِرَسُولِهِ
قَوْله تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا أَبَانَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ وُجُوبَ حُسْنِ الِاعْتِقَادِ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ لَهُمْ فَأَخْبَرَ فِيهَا بِوَعِيدِ مَنْ أَحَبَّ إظْهَارَ الْفَاحِشَةِ وَالْقَذْفِ وَالْقَوْلِ الْقَبِيحِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْعِقَابَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ سَلَامَةِ الْقَلْبِ لِلْمُؤْمِنِينَ كَوُجُوبِ كَفِّ الْجَوَارِحِ والقول عما يضربهم
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ الْمُؤْمِنُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ
وَقَالَ ليس بمؤمن من لا يؤمن جَارُهُ بَوَائِقَهُ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الْعَبَّاسِ الرَّازِيّ قَالَ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُحِبُّ أَنْ يَأْتِيَ إلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يَأْتُوا إلَيْهِ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ هَاشِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا هُدْبَةُ قَالَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَا يُؤْمِنُ الْعَبْدُ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنْ الْخَيْرِ
قَوْله تَعَالَى وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَتِيمَيْنِ كَانَا فِي حِجْرِهِ يُنْفِقُ عَلَيْهِمَا أَحَدُهُمَا مسطح بن أثاثة وكان ممن خاض فِي أَمْرِ عَائِشَةَ فَلَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَتُهَا حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يَنْفَعَهُمَا بِنَفْعٍ أَبَدًا فلما نزلت هذه الآية عادله وَقَالَ بَلَى وَاَللَّهِ إنِّي لِأُحِبّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي وَاَللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا عَنْهُمَا أَبَدًا وكان مسطح ابن خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ مِسْكِينًا وَمُهَاجِرًا مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ الْبَدْرِيِّينَ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ يَأْتِي الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ
وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا فِي حَدِيثٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَحْتَجُّ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ بِالْحِنْثِ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرُوا دَلَالَةٌ عَلَى سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ بَيَّنَ إيجَابَ الْكَفَّارَةِ فِي قوله وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ وقوله ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَذَلِكَ عُمُومٌ فِيمَنْ حَنِثَ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ وَفِي غَيْرِهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَأْنِ أَيُّوبَ حِينَ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنْ يَضْرِبَهَا وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْحِنْثَ كَانَ خَيْرًا مِنْ تَرْكِهِ وَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِضَرْبٍ لَا يَبْلُغُ مِنْهَا وَلَوْ كَانَ الْحِنْثُ فِيهَا كَفَّارَتهَا لَمَا أُمِرَ بِضَرْبِهَا بَلْ كَانَ يَحْنَثُ بِلَا كَفَّارَةٍ وَأَمَّا مَا
رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خيرا منها فليأت الذي هُوَ خَيْرٌ وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ
فَإِنَّ مَعْنَاهُ تَكْفِيرُ الذَّنْبِ لَا الْكَفَّارَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَرْكِ طَاعَةِ اللَّهِ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِنْثِ وَالتَّوْبَةِ وَأَخْبَرَ أَنَّ ذَلِكَ يُكَفِّرُ ذَنْبَهُ الَّذِي اقْتَرَفَهُ بِالْحَلِفِ
قَوْله تَعَالَى الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ قَالُوا الْخَبِيثَاتُ مِنْ الْكَلَامِ لِلْخَبِيثِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ الْخَبِيثَاتُ مِنْ السَّيِّئَاتِ لِلْخَبِيثِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ وَهُوَ نَحْوُ قَوْلِهِ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ وَقِيلَ الْخَبِيثَاتُ مِنْ النِّسَاءِ لِلْخَبِيثِينَ مِنْ الرِّجَالِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِمَا ثَبَتَ فِي مَوْضِعِهِ.
بَابُ الِاسْتِئْذَانِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَإِبْرَاهِيمَ وقتادة قالوا الاستيناس الِاسْتِئْذَانُ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا بِالْإِذْنِ وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ هذا الحرف حتى تستأذنوا وَقَالَ غَلِطَ الْكَاتِبُ وَرَوَى الْقَاسِمُ بْنُ نَافِعٍ عن مجاهد حتى تستأنسوا قَالَ هُوَ التَّنَحْنُحُ وَالتَّنَخُّعُ وَفِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ ما دل
164
عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ الِاسْتِئْذَانَ وَهُوَ قَوْلُهُ وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الاستيناس قَدْ يَكُونُ لِلْحَدِيثِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ وَكَمَا
رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْفَرَدَ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ حِينَ هَجَرَ نِسَاءَهُ فَاسْتَأْذَنْت عَلَيْهِ فَقَالَ الْآذِنُ قَدْ سَمِعَ كَلَامَك ثُمَّ أُذِنَ لَهُ فَذَكَرَ أَشْيَاءَ وَفِيهِ قال فقلت استأنس يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ نعم
وإنما أراد به الاستيناس للحديث وذلك كان بعد الدخول والاستيناس المذكور في قوله حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْحَدِيثَ لِأَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْحَدِيثِ إلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الِاسْتِئْذَانُ لِلدُّخُولِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ الاستئذان استيناسا لِأَنَّهُمْ إذَا اسْتَأْذَنُوا أَوْ سَلَّمُوا أَنِسَ أَهْلُ الْبُيُوتِ بِذَلِكَ وَلَوْ دَخَلُوا عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ إذْنٍ لا ستوحشوا وَشَقَّ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ مَعَ الِاسْتِئْذَانِ بِالسَّلَامِ إذْ هُوَ مِنْ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أُمِرُوا بِهَا وَلِأَنَّ السَّلَامَ أَمَانٌ مِنْهُ لَهُمْ وَهُوَ تَحِيَّةُ أهل الجنة ومجلبة للمودة وناف للحقد والضغنة
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى قَالَ حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنُ أبى رباب عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ فَنَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ عَطَسَ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَحَمِدَ اللَّهَ بِإِذْنِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ رَحِمَكَ رَبُّك يا آدم اذهب إلى هؤلاء الملائكة وملأ مِنْهُمْ جُلُوسٍ فَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ فَقَالَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى رَبِّهِ فَقَالَ هَذِهِ تَحِيَّتُك وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِك بَيْنَهُمْ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بن إسحاق بن راطية قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ نَصْرِ بْنِ حَاجِبٍ قَالَ حَدَّثَنَا هلال بن حماد عن ذادان عَنْ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ وَيُجِيبُهُ إذَا دَعَاهُ وَيَنْصَحُ لَهُ بِالْغَيْبِ وَيُشَمِّتُهُ إذَا عَطَسَ وَيَعُودُهُ إذَا مَرِضَ وَيَشْهَدُ جِنَازَتَهُ إذَا مَاتَ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلَا تُؤْمِنُونَ حَتَّى تَحَابُّوا أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُعَلَّى قَالَ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال
165
إن سركم أن يخرج الغل من صدور كم فافشوا السلام بينكم
. باب فِي عَدَدِ الِاسْتِئْذَانِ وَكَيْفِيَّتِهِ
رَوَى دُهَيْمُ بْنُ قران عن يحيى بن أبى كشير عن عمر وبن عُثْمَانَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ فَالْأُولَى يَسْتَنْصِتُونَ وَالثَّانِيَةُ يَسْتَصْلِحُونَ وَالثَّالِثَةُ يَأْذَنُونَ أَوْ يَرُدُّونَ
وَرَوَى يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ كُنْت جَالِسًا فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ فَجَاءَ أَبُو مُوسَى فَزِعًا فَقُلْنَا لَهُ مَا أَفْزَعَك قَالَ أَمَرَنِي عُمَرُ أَنْ آتِيَهُ فَأَتَيْته فَاسْتَأْذَنْت ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْت فَقَالَ مَا مَنَعَك أَنْ تَأْتِيَنِي قُلْت قَدْ جِئْت فَاسْتَأْذَنْت ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ
قَالَ لَتَأْتِيَنَّ عَلَى هَذَا بِالْبَيِّنَةِ قَالَ فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ لَا يَقُومُ مَعَك إلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ قَالَ فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ مَعَهُ فَشَهِدَ لَهُ وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأَبِي مُوسَى إنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدٌ وَفِي بَعْضِهَا وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَتَقَوَّلَ النَّاسُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ إنَّمَا لَمْ يَقْبَلْ عُمَرُ خَبَرَهُ حَتَّى اسْتَفَاضَ عِنْدَهُ لِأَنَّ أَمْرَ الِاسْتِئْذَانِ مِمَّا بِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ فَاسْتَنْكَرَ أَنْ تَكُونَ سُنَّةُ الِاسْتِئْذَانِ ثَلَاثًا مَعَ عُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا ثُمَّ لَا يَنْقُلُهَا إلَّا الْأَفْرَادُ وَهَذَا أَصْلٌ فِي أَنَّ مَا بِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ لَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا خَبَرُ الِاسْتِفَاضَةِ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد الْحَفْرِيِّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ سَعْدٍ قَالَ وَقَفَ رَجُلٌ عَلَى بَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْذِنُ فَقَامَ مُسْتَقْبِلَ الْبَابِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا عَنْك أَوْ هَكَذَا
فَإِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ النَّظَرِ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عمر وبن أَبِي سُفْيَانَ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ أُخْبَرَهُ عَنْ كَلْدَةَ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَبَنٍ وَجَدَايَةٍ وَضَغَابِيسَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فَدَخَلْت وَلَمْ أُسَلِّمْ فَقَالَ ارْجِعْ فَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ
وذاك بعد ما أَسْلَمَ صَفْوَانُ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ
166
ابن أَبِي شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيٍّ قَالَ حَدَّثَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ أَلِجُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَادِمِهِ أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقال لَهُ قُلْ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حدثنا مؤمل ابن فَضْلٍ الْحَرَّانِيِّ فِي آخَرَيْنِ قَالُوا حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عبد الله ابن بُسْرٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَا يَسْتَقْبِلُ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ فَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ
وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ تَكُنْ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا سُتُورٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُ قَوْلِهِ لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا يَقْتَضِي جَوَازَ الدُّخُولِ بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ صَاحِبِ الْبَيْتِ إذْنٌ وَلِذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ الِاسْتِئْنَاسُ التَّنَحْنُحُ وَالتَّنَخُّعُ فَكَأَنَّهُ إنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِدُخُولِهِ وَهَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِيمَنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِالدُّخُولِ بِغَيْرِ إذْنٍ إلَّا أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ بِهِ الْإِذْنُ فِي الدُّخُولِ فَحَذَفَهُ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْمُرَادِ
وَقَدْ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ حَبِيبٍ وَهِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ رَسُولُ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ إذْنُهُ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال إذا دعى أحدكم مع الطعام فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إذْنٌ
فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الإذن محذوف من قوله حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَهُوَ مُرَادٌ بِهِ وَالثَّانِي أَنَّ الدُّعَاءَ إذْنٌ إذَا جَاءَ مَعَ الرَّسُولِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْذَانٍ ثَانٍ وَهُوَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أن من قد جرت العادة بِإِبَاحَةِ الدُّخُولِ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى الِاسْتِئْذَانِ فَإِنْ قِيلَ
قَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ عمر بن زرعة مُجَاهِدٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ وَاَللَّهِ إنِّي كُنْت لِأَعْتَمِد بِكَبِدِي عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْجُوعِ إنِّي كُنْت لَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنْ الْجُوعِ وَلَقَدْ قَعَدْت يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمْ الَّذِي يَخْرُجُونَ مِنْهُ فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْته إلَّا لِيُشْبِعَنِي فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ فَمَرَّ بِي عُمَرُ فَفَعَلْت مِثْلَ ذَلِكَ فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ فَمَرَّ بِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي وَعَرَفَ مَا فِي نَفْسِي ثم قال يا أبا هريرة قُلْت لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْحَقْ بي وَمَضَى وَاتَّبَعْته فَدَخَلَ وَاسْتَأْذَنْت فَأَذِنَ لِي فَدَخَلْت فَوَجَدْت لَبَنًا فِي قَدَحٍ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ هَذَا قَالُوا أَهْدَى
167
لَك فُلَانٌ أَوْ فُلَانَةُ قَالَ يَا أَبَا هريرة قُلْت لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي قَالَ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا يَلْوُونَ عَلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ إذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إلَيْهِمْ لَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ فَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا فَسَاءَنِي ذَلِكَ فَقُلْت وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْت أَرْجُو أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا جَاءُوا فَأَمَرَنِي فَكُنْت أَنَا أُعْطِيهِمْ فَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَ منى هَذَا اللَّبَنِ فَأَتَيْتهمْ فَدَعَوْتهمْ فَأَقْبَلُوا حَتَّى اسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنْ الْبَيْتِ فَقَالَ يا أبا هريرة قُلْت لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ خُذْ فَأَعْطِهِمْ فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْت أُعْطِي الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يُرْوَى ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَأُعْطِيهِ آخر فيشرب حتى يروى ثم برد عَلَيَّ الْقَدَحَ حَتَّى انْتَهَيْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رُوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ وَنَظَرَ إلى فتبسم وقال يا أبا هريرة قُلْت لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ بِقِيتِ أَنَا وَأَنْتَ قُلْت صَدَقْت يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ فَاقْعُدْ وَاشْرَبْ فَشَرِبْت فَمَا زَالَ يَقُولُ اشْرَبْ فَأَشْرَبُ حَتَّى قُلْت وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا قَالَ فَأَرِنِي فَأَعْطَيْته القدح فحمد الله وشرب الفضل
قال فَقَدْ اسْتَأْذَنَ أَهْلُ الصُّفَّةِ وَقَدْ جَاءُوا مَعَ الرَّسُولِ وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا مُخَالِفٌ
لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ إذْنُهُ
قيل له ليسا مختلفين لأن قوله صلّى الله عليه وسلّم إبَاحَةٌ لِلدُّخُولِ مَعَ الرَّسُولِ وَلَيْسَ فِيهِ كَرَاهِيَةُ الِاسْتِئْذَانِ بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ حِينَئِذٍ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَ الرَّسُولِ وَجَبَ حِينَئِذٍ الِاسْتِئْذَانُ وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ مَشْرُوطٌ فِي قَوْلِهِ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
قَوْلُهُ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ فَحَظَرَ الدُّخُولَ إلَّا بِالْإِذْنِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِذْنَ مَشْرُوطٌ فِي إبَاحَةِ الدُّخُولِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى وَأَيْضًا
فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْأَخْبَارِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا إنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ النَّظَرِ
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ النَّظَرُ فِي دَارِ أَحَدٍ إلَّا بِإِذْنِهِ وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ ضُرُوبٌ مِنْ التَّغْلِيظِ وَهُوَ مَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ أَوْ بِمَشَاقِصَ قَالَ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ يَخْتَلِهِ لِيَطْعَنَهُ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْمُؤَذِّنُ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عَنْ كَثِيرٍ عَنْ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال إذا دخل البصر
168
فَلَا إذْنَ
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يقول مَنْ اطَّلَعَ فِي دَارِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ففقؤوا عَيْنَهُ فَقَدْ هُدِرَتْ عَيْنُهُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَالْفُقَهَاءُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّهُ ضَامِنٌ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَهَذَا مِنْ أَحَادِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ الَّتِي تُرَدُّ لِمُخَالَفَتِهَا الْأُصُولَ مِثْلُ مَا
رُوِيَ أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ
وَأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَمَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ
هَذِهِ كُلُّهَا أَخْبَارٌ شَاذَّةٌ قَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى خِلَافِ ظَوَاهِرِهَا وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ مَنْ اطلع في دار غيره ففقأ عينه وهو هدر وذهب إلى ظاهر هذا الخبر ولا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه فَفَقَأَ عَيْنَهُ كَانَ ضَامِنًا وَكَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إنْ كَانَ عَامِدًا وَالْأَرْشُ إنْ كَانَ مُخْطِئًا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الدَّاخِلَ قَدْ اطَّلَعَ وَزَادَ عَلَى الِاطِّلَاعِ الدُّخُولَ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ مُخَالِفٌ لِمَا حَصَلَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ فَإِنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فَمَعْنَاهُ عِنْدَنَا فَيَمَنِ اطَّلَعَ فِي دَارِ قَوْمٍ نَاظِرًا إلَى حرمهم ونسائهم فمونع فلم يمتنع فذهبت عنه فِي حَالِ الْمُمَانَعَةِ فَهَذَا هَدَرٌ وَكَذَلِكَ مَنْ دَخَلَ دَارَ قَوْمٍ أَوْ أَرَادَ دُخُولَهَا فَمَانَعُوهُ فَذَهَبَتْ عَيْنُهُ أَوْ شَيْءٌ مِنْ أَعْضَائِهِ فَهُوَ هَدَرٌ وَلَا يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ الدَّاخِلِ وَالْمُطَّلِعِ فِيهَا مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا النَّظَرُ وَلَمْ تَقَعْ فِيهِ مُمَانَعَةٌ وَلَا نَهْيٌ ثُمَّ جَاءَ إنْسَانٌ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَهَذَا جَانٍ يَلْزَمُهُ حُكْمُ جِنَايَتِهِ بِظَاهِرِ قَوْله تعالى الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ- إلى قوله- وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ قَوْله تَعَالَى فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ قَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا ندخل بيوتا غَيْرِنَا إلَّا بِإِذْنِهِ وَالثَّانِي أَنَّهُ إذَا أُذِنَ لَنَا جَازَ لَنَا الدُّخُولُ وَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازُ قَبُولِ الْإِذْنِ مِمَّنْ أَذِنَ صَبِيًّا كَانَ أَوْ امْرَأَةً أَوْ عَبْدًا أَوْ ذِمِّيًّا إذْ لَمْ تُفَرِّقْ الْآيَةُ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا أَصْلٌ فِي قَبُولِ أَخْبَارِ الْمُعَامَلَاتِ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَنَّهُ لَا تُعْتَبَرُ فِيهَا الْعَدَالَةُ وَلَا تُسْتَوْفَى فِيهَا صِفَاتُ الشَّهَادَةِ وَلِذَلِكَ قَبِلُوا أَخْبَارَ هَؤُلَاءِ في الهدايا والوكالات ونحوهما.

باب فِي الِاسْتِئْذَانِ عَلَى الْمَحَارِمِ


رَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ سأل رجل حذيفة أستأذن عَلَى أُخْتِي قَالَ إنْ لَمْ تَسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا رَأَيْت مَا يَسُوءُك وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ قَالَ سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي قَالَ نَعَمْ قَالَ قُلْت إنَّهَا مَعِي فِي الْبَيْتِ وَأَنَا أُنْفِقُ عليها
169
قَالَ اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مخارق عَنْ طَارِقٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ مَسْعُودٍ أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي قَالَ نَعَمْ
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي قَالَ نعم أتحب أن تراها عريانة
وقال عمر وعن عَطَاءٍ سَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي وَأَنَا أُنْفِقُ عَلَيْهَا قَالَ نَعَمْ أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً إنَّ اللَّهَ يَقُولُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَلَمْ يُؤْمَرْ هَؤُلَاءِ بِالِاسْتِئْذَانِ إلَّا فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ ثُمَّ قَالَ وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَجْنَبِيًّا أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ إلَّا أَنَّ أَمْرَ ذَوِي الْمَحَارِمِ أَيْسَرُ لِجَوَازِ النَّظَرِ إلَى شَعْرِهَا وصدرها وساقها ونحوهما مِنْ الْأَعْضَاءِ وقَوْله تَعَالَى وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ بَعْدَ قَوْلِهِ فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْهَى مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ دَارِهِ عَنْ الْوُقُوفِ عَلَى بَابِ دَارِهِ أَوْ الْقُعُودِ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِذَلِكَ حَظْرَ الدُّخُولِ إلَّا بَعْدَ الْإِذْنِ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مُصَرَّحًا بِهِ فِي الْآيَةِ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ لِقَوْلِهِ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا فَائِدَةٌ مُجَدِّدَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ مَتَى أَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ عَنْ بَابِ دَارِهِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ التَّنَحِّي عَنْهُ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِهِ صَاحِبُ الدَّارِ فِي دُخُولِ حَرَمِهِ وَخُرُوجِهِمْ وَفِيمَا يَنْصَرِفُ عَلَيْهِ أُمُورُهُ فِي داره مما لا يجب أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ
قَوْله تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ قال محمد بن الْحَنَفِيَّةِ هِيَ بُيُوتُ الْخَانَاتِ الَّتِي تَكُونُ فِي الطرق وبيوت الأسواق وعن الضحاك وَقَالَ الْحَسَنُ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ كَانُوا يَأْتُونَ حَوَانِيتَ السُّوقِ لَا يَسْتَأْذِنُونَ وَقَالَ مُجَاهِدٌ كَانَتْ بُيُوتًا يَضَعُونَ فِيهَا أَمْتِعَتَهُمْ فَأُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا بِغَيْرِ إذْنٍ وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ هِيَ الْبُيُوتُ الَّتِي تَنْزِلُهَا السَّفْرُ
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عبيد المحاربي قال رأيت عليا رضى الله عنه أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ وَهُوَ فِي السُّوقِ فَاسْتَظَلَّ بِخَيْمَةِ فَارِسِيٍّ فَجَعَلَ الْفَارِسِيُّ يَدْفَعُهُ عَنْ خَيْمَتِهِ وَعَلِيٌّ يَقُولُ إنَّمَا أَسْتَظِلُّ مِنْ الْمَطَرِ فَجَعَلَ الْفَارِسِيُّ يَدْفَعُهُ ثُمَّ أُخْبِرَ الْفَارِسِيُّ أَنَّهُ عَلِيٌّ فَضَرَبَ بصدره
وقال عكرمة بيوتا غير مسكونة هِيَ الْبُيُوتُ الْخَرِبَةُ لَكُمْ فِيهَا حَاجَةٌ وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ الْخَلَاءُ وَالْبَوْلُ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ جَمِيعَ ذَلِكَ إذْ كَانَ الِاسْتِئْذَانُ فِي الْبُيُوتِ الْمَسْكُونَةِ لئلا يهجم على ما لا يجب مِنْ الْعَوْرَةِ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ قَدْ جَرَتْ فِي مثله
بإطلاق الدخول فصار المعتاد المعارف كَالْمَنْطُوقِ بِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَعْنَى إطْلَاقِ ذلك لجريان العادة في الإذن أن أصحابها لَوْ مَنَعُوا النَّاسَ مِنْ دُخُولِ هَذِهِ الْبُيُوتِ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ إذْنٍ وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِيمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِإِبَاحَتِهِ وَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الْإِذْنِ فِيهِ مَا يَطْرَحُهُ النَّاسُ مِنْ النَّوَى وَقُمَامَاتِ الْبُيُوتِ وَالْخِرَقِ فِي الطُّرُقِ أَنَّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ وَيَنْتَفِعَ بِهِ وَهُوَ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ اعْتِبَارِ أَصْحَابِنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي سَائِرِ مَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ مِمَّا قَدْ جرت العادة به وتعارفوه أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النُّطْقِ كَنَحْوِ قَوْلِهِمْ فِيمَا يُلْحِقُونَهُ بِرَأْسِ الْمَالِ مِنْ طَعَامِ الرَّقِيقِ وَكُسْوَتِهِمْ وَفِي حُمُولَةِ الْمَتَاعِ أَنَّهُ يُلْحِقُهُ بِرَأْسِ الْمَالِ وَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً فَيَقُولُ قَامَ عَلَيَّ بِكَذَا وَمَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِهِ لَا يُلْحِقُهُ بِرَأْسِ الْمَالِ فَقَامَتْ الْعَادَةُ فِي ذَلِكَ مَقَامَ النُّطْقِ وَفِي نَحْوِهِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ أَسْلَمَ إلَى خَيَّاطٍ أو قصار ثوبا ليخيطه ويقصره وَلَمْ يَشْرِطْ لَهُ أَجْرًا إنَّ الْأَجْرَ قَدْ وَجَبَ لَهُ إذَا كَانَ قَدْ نَصَّبَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ وَقَامَتْ الْعَادَةُ فِي مِثْلِهِ مَقَامَ النُّطْقِ فِي أَنَّهُ فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ وَقَدْ رَوَى سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَأْذِنُ فِي حَوَانِيتِ السُّوقِ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعِكْرِمَةَ فَقَالَ وَمَنْ يُطِيقُ مَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُطِيقُ وَلَيْسَ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ رَأَى دُخُولَهَا بِغَيْرِ إذْنٍ مَحْظُورًا وَلَكِنَّهُ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ وَذَلِكَ مُبَاحٌ لِكُلِّ أَحَدٍ.
بَابُ مَا يَجِبُ مِنْ غَضِّ الْبَصَرِ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَعْقُولٌ مِنْ ظَاهِرِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ بِغَضِّ الْبَصَرِ عَمَّا حَرُمَ عَلَيْنَا النَّظَرُ إلَيْهِ فَحُذِفَ ذِكْرُ ذَلِكَ اكْتِفَاءً بِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْمُرَادِ
وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ أَبِي الطُّفَيْلِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَلِيُّ إنَّ لَك كَنْزًا فِي الْجَنَّةِ وَإِنَّك ذُو وَفْرٍ مِنْهَا فَلَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الثَّانِيَةَ
وَرَوَى الرَّبِيعُ بْنُ صَبِيحٍ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم ابن آدَمَ لَك أَوَّلُ نَظْرَةٍ وَإِيَّاكَ وَالثَّانِيَةَ
وَرَوَى أَبُو زُرْعَةَ عَنْ جَرِيرٍ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفُجَاءَةِ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي
قَالَ أَبُو بَكْرٍ إنَّمَا أَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِقَوْلِهِ لَك النَّظْرَةُ الْأُولَى
إذَا لَمْ تَكُنْ عَنْ قَصْدٍ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ عَنْ قَصْدٍ فَهِيَ وَالثَّانِيَةُ سَوَاءٌ وَهُوَ عَلَى مَا سَأَلَ عَنْهُ جَرِيرٌ مِنْ نَظْرَةِ الْفُجَاءَةِ وَهُوَ مِثْلُ
قَوْلِهِ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا وقوله وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ
171
يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ
هو على معنى ما نهى الرجال عَنْهُ مِنْ النَّظَرِ إلَى مَا حَرُمَ عَلَيْهِ النظر إليه وقوله تعالى وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ وقوله وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ قَالَ كُلُّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ مِنْ الزِّنَا إلَّا الَّتِي فِي النُّورِ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أَنْ لَا يَنْظُرَ إلَيْهَا أَحَدٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا تَخْصِيصٌ بِلَا دَلَالَةٍ وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ الظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى حِفْظَهَا عَنْ سَائِرِ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ مِنْ الزِّنَا وَاللَّمْسِ وَالنَّظَرِ وكذلك سائر الآي المذكورة في هَذَا الْمَوْضِعِ فِي حِفْظِ الْفُرُوجِ هِيَ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ مَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بَعْضُ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ أَبُو الْعَالِيَةِ ذَهَبَ فِي إيجَابِ التَّخْصِيصِ فِي النَّظَرِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَمْرِ بِغَضِّ الْبَصَرِ وَمَا ذَكَرَهُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِغَضِّ الْبَصَرِ وَحِفْظِ الْفَرْجِ مِنْ النَّظَرِ وَمِنْ الزِّنَا وَغَيْرِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمَحْظُورَةِ وَعَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ حَظْرَ النَّظَرِ فَلَا مَحَالَةَ أَنَّ اللَّمْسَ وَالْوَطْءَ مُرَادَانِ بِالْآيَةِ إذْ هُمَا أَغْلَظُ مِنْ النَّظَرِ فَلَوْ نَصَّ اللَّهُ عَلَى النَّظَرِ لَكَانَ فِي مَفْهُومِ الْخِطَابِ مَا يُوجِبُ حَظْرَ الْوَطْءِ وَاللَّمْسِ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما قَدْ اقْتَضَى حَظْرَ مَا فَوْقَ ذَلِكَ مِنْ السَّبِّ وَالضَّرْبِ قَوْله تَعَالَى وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ فِي قوله إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها قَالَ مَا كَانَ فِي الْوَجْهِ وَالْكَفِّ الْخِضَابُ وَالْكُحْلُ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مِثْلُهُ وَكَذَلِكَ عَنْ أَنَسٍ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهَا الْكَفُّ وَالْوَجْهُ وَالْخَاتَمُ وَقَالَتْ عَائِشَةُ الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ الْقُلْبُ وَالْفَتْخَةُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْفَتْخَةُ الْخَاتَمُ وَقَالَ الْحَسَنُ وَجْهُهَا وَمَا ظَهَرَ مِنْ ثِيَابِهَا وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَجْهُهَا مِمَّا ظَهَرَ مِنْهَا وَرَوَى أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ الزِّينَةُ زِينَتَانِ زِينَةٌ بَاطِنَةٌ لَا يَرَاهَا إلَّا الزَّوْجُ الْإِكْلِيلُ وَالسِّوَارُ وَالْخَاتَمُ وَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالثِّيَابُ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ الثِّيَابُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْله تَعَالَى وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْأَجْنَبِيِّينَ دُونَ الزَّوْجِ وَذَوِي الْمَحَارِمِ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ حُكْمَ ذَوِي الْمَحَارِمِ فِي ذَلِكَ وَقَالَ أَصْحَابُنَا الْمُرَادُ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ لِأَنَّ الْكُحْلَ زِينَةُ الْوَجْهِ وَالْخِضَابَ وَالْخَاتَمَ زِينَةُ الْكَفِّ فَإِذْ قَدْ أَبَاحَ النَّظَرَ إلَى زِينَةِ الْوَجْهِ وَالْكَفِّ فَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ إبَاحَةَ النَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ مِنْ الْمَرْأَةِ لَيْسَا بِعَوْرَةٍ أَيْضًا أَنَّهَا تُصَلِّي مَكْشُوفَةَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ فَلَوْ كَانَا عَوْرَةً لَكَانَ عَلَيْهَا سَتْرُهُمَا كَمَا عَلَيْهَا سَتْرُ مَا هُوَ عَوْرَةٌ وإذا كان
172
ذلك جَازَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى وَجْهِهَا وَيَدَيْهَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَإِنْ كَانَ يَشْتَهِيهَا إذَا نَظَرَ إلَيْهَا جَازَ أَنْ يَنْظُرَ لِعُذْرٍ مِثْلَ أَنْ يُرِيدَ تَزْوِيجَهَا أَوْ الشَّهَادَةَ عَلَيْهَا أَوْ حَاكِمٌ يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَ إقْرَارَهَا وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إلَى الْوَجْهِ لِشَهْوَةٍ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ لَك الْأُولَى وَلَيْسَ لَك الْآخِرَةَ
وَسَأَلَ جَرِيرٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفُجَاءَةِ فَقَالَ اصْرِفْ بَصَرَك
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْوَجْهِ وَغَيْرِهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ النَّظْرَةَ بِشَهْوَةٍ وَإِنَّمَا قَالَ لَك الْأُولَى لِأَنَّهَا ضَرُورَةٌ وَلَيْسَ لَك الْآخِرَةُ لِأَنَّهَا اخْتِيَارٌ وَإِنَّمَا أَبَاحُوا النَّظَرَ إلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ وَإِنْ خَافَ أَنْ يَشْتَهِيَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَعْذَارِ لِلْآثَارِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ مِنْهَا مَا
رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُنْظُرْ إلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا يَعْنِي الصِّغَرَ
وَرَوَى جَابِرٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا خطب أَحَدُكُمْ فَقَدِرَ عَلَى أَنْ يَرَى مِنْهَا مَا يُعْجِبُهُ وَيَدْعُوهُ إلَيْهَا فَلْيَفْعَلْ
وَرَوَى مُوسَى بْنُ عبد الله ابن يَزِيدَ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ وَقَدْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ الْمَرْأَةَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا إذَا كَانَ إنَّمَا يَنْظُرُ إلَيْهَا لِلْخِطْبَةِ
وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ
وَرَوَى عَاصِمُ الْأَحْوَلُ عَنْ بُكَيْر بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ خَطَبْنَا امْرَأَةً فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرْت إلَيْهَا فَقُلْت لَا فَقَالَ اُنْظُرْ فَإِنَّهُ لَأَجْدَرُ أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا
فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهَا وكفيها بِشَهْوَةٍ إذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ وَلَا يُعْجِبُهُ حُسْنُهُنَّ إلَّا بَعْدَ رُؤْيَةِ وُجُوهِهِنَّ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِهَا بِشَهْوَةٍ مَحْظُورٌ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ
وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي أَنَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا هُوَ الثِّيَابُ لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ ذَكَرَ الزِّينَةَ وَالْمُرَادُ الْعُضْوُ الَّذِي عَلَيْهِ الزِّينَةُ أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ مَا تَتَزَيَّنُ بِهِ مِنْ الْحُلِيِّ وَالْقُلْبِ وَالْخَلْخَالِ وَالْقِلَادَةِ يَجُوزُ أَنْ تُظْهِرَهَا للرجال إذا لم تكن هي لا بستها فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مَوْضِعُ الزِّينَةِ كَمَا قَالَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ بَعْدَ هَذَا وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ وَالْمُرَادُ مَوْضِعُ الزِّينَةِ فَتَأْوِيلُهَا عَلَى الثِّيَابِ لَا مَعْنَى لَهُ إذْ كَانَ مَا يَرَى الثِّيَابَ عَلَيْهَا دُونَ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا كَمَا يَرَاهَا إذا لم تكن لا بستها قوله تعالى وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ رَوَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ لَمْ يَكُنْ
173
يَمْنَعُهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ وَأَنْ يسئلن عَنْهُ لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ النُّورِ عَمَدْنَ إلَى حجوز مَنَاطِقِهِنَّ فَشَقَقْنَهُ فَاخْتَمَرْنَ بِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ قِيلَ إنَّهُ أَرَادَ جَيْبَ الدُّرُوعِ لِأَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَلْبَسْنَ الدُّرُوعَ وَلَهَا جَيْبٌ مِثْلُ جَيْبِ الدُّرَّاعَةِ فَتَكُونُ الْمَرْأَةُ مَكْشُوفَةَ الصَّدْرِ وَالنَّحْرِ إذَا لَبِسَتْهَا فَأَمَرَهُنَّ اللَّهُ بِسَتْرِ ذَلِكَ الموضع بقوله وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَدْرَ الْمَرْأَةِ ونحرها عورة لا يجوز للأجنبى النظر إليهما مِنْهَا قَوْله تَعَالَى وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي إبَاحَةَ إبْدَاءِ الزِّينَةِ لِلزَّوْجِ وَلِمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ مِنْ الْآبَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ مَوْضِعُ الزِّينَةِ وَهُوَ الْوَجْهُ وَالْيَدُ وَالذِّرَاعُ لِأَنَّ فِيهَا السِّوَارَ وَالْقُلْبَ وَالْعَضُدُ وَهُوَ مَوْضِعُ الدُّمْلُجِ وَالنَّحْرُ وَالصَّدْرُ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ وَالسَّاقُ مَوْضِعُ الْخَلْخَالِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ إبَاحَةَ النَّظَرِ لِلْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَهِيَ مَوَاضِعُ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ لِأَنَّهُ خَصَّ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ إبَاحَةَ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ لِلْأَجْنَبِيَّيْنِ وَأَبَاحَ لِلزَّوْجِ وَذَوِي الْمَحَارِمِ النَّظَرَ إلَى الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالزُّبَيْرِ الْقُرْطُ وَالْقِلَادَةُ وَالسِّوَارُ وَالْخَلْخَالُ وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عن إبراهيم أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ قَالَ يَنْظُرُ إلَى مَا فَوْقِ الذِّرَاعِ مِنْ الأذن والرأس قل أَبُو بَكْرٍ لَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ الْأُذُنِ وَالرَّأْسِ بِذَلِكَ إذْ لَمْ يُخَصِّصْ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ مَوَاضِعِ الزِّينَةِ دُونَ شَيْءٍ وَقَدْ سَوَّى فِي ذَلِكَ بَيْنَ الزَّوْجِ وَبَيْنَ مَنْ ذُكِرَ مَعَهُ فَاقْتَضَى عُمُومُهُ إبَاحَةَ النَّظَرِ إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ لِهَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ كَمَا اقْتَضَى إبَاحَتَهَا لِلزَّوْجِ وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ الْآبَاءِ ذَوِي الْمَحَارِمِ الَّذِينَ يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ نِكَاحُهُنَّ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ فِي التَّحْرِيمِ بمثابتهم فحكمه حكمهم مثل زواج الِابْنَةِ وَأُمِّ الْمَرْأَةِ وَالْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الرَّضَاعِ وَنَحْوِهِنَّ وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إلَى شَعْرِ أَجْنَبِيَّةٍ فَكَرِهَهُ وَقَالَ لَيْسَ فِي الْآيَةِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ إنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ فَهُوَ فِي مَعْنَى مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَهَذَا الَّذِي ذُكِرَ مِنْ تَحْرِيمِ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إلَّا مَا خُصَّ مِنْهُ إنَّمَا هُوَ مَقْصُورٌ عَلَى الْحَرَائِرِ دُونَ الْإِمَاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِمَاءَ لِسَائِرِ الْأَجْنَبِيِّينَ بِمَنْزِلَةِ الْحَرَائِرِ لِذَوِي مَحَارِمِهِنَّ فِيمَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ فَيَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ النَّظَرُ إلَى شَعْرِ الْأَمَةِ وَذِرَاعِهَا وَسَاقِهَا وَصَدْرِهَا وَثَدْيِهَا كَمَا يَجُوزُ لِذَوِي الْمَحْرَمِ النَّظَرُ إلَى ذَاتِ مَحْرَمِهِ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ لِلْأَجْنَبِيِّ النَّظَرَ إلَى شَعْرِ الْأَمَةِ وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَضْرِبُ الْإِمَاءَ وَيَقُولُ اكْشِفْنَ رؤسكن وَلَا تَتَشَبَّهْنَ بِالْحَرَائِرِ
174
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُنَّ بِمَنْزِلَةِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَمَةِ أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ فَكَانَ سَائِرُ النَّاسِ لَهَا كَذَوِي الْمَحَارِمِ لِلْحَرَائِرِ حِينَ جَازَ لَهُمْ السَّفَرُ بِهِنَّ أَلَا تَرَى إلَى
قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ
فَلَمَّا جَازَ لِلْأَمَةِ أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ عَلِمْنَا أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ لِذَوِي مَحْرَمِهَا فِيمَا يُسْتَبَاحُ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْهَا وَقَوْلُهُ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ سَفَرًا فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ أَوْ زَوْجٍ دَالٌّ عَلَى اخْتِصَاصِ ذِي الْمَحْرَمِ بِاسْتِبَاحَةِ النَّظَرِ مِنْهَا إلَى كُلِّ مَا لَا يَحِلُّ لِلْأَجْنَبِيِّ وَهُوَ مَا وَصَفْنَا بَدِيًّا وَرَوَى مُنْذَرٌ الثَّوْرِيُّ أن محمد ابن الْحَنَفِيَّةِ كَانَ يُمَشِّطُ أُمَّهُ وَرَوَى أَبُو البختري أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ كَانَا يَدْخُلَانِ عَلَى أُخْتِهِمَا أم كلثوم وهي تمشط وَعَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلُهُ فِي ذَاتِ مَحْرَمٍ مِنْهُ وَرُوِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ الرَّجُلُ إلَى شَعْرِ أُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَخَالَتِهِ وَعَمَّتِهِ وَكَرِهَ السَّاقَيْنِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي مُقْتَضَى الْآيَةِ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ الْحَسَنِ فِي الْمَرْأَةِ تَضَعُ خِمَارَهَا عِنْدَ أَخِيهَا قَالَ وَاَللَّهِ مَا لَهَا ذَلِكَ وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى شَعْرِ ابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَرَوَى جَرِيرٌ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُسَدِّدَ الرَّجُلُ النَّظَرَ إلَى شَعْرِ ابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا عِنْدَنَا مَحْمُولٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي يَخَافُ فِيهَا أَنْ تُشْتَهَى لِأَنَّهُ لَوْ حُمِلَ عَلَى الْحَالِ الَّتِي يَأْمَنُ فِيهَا الشَّهْوَةُ لَكَانَ خِلَافَ الْآيَةِ وَالسُّنَّةِ وَلَكَانَ ذُو مَحْرَمِهَا والأجنبيون سَوَاءً وَالْآيَةُ أَيْضًا مَخْصُوصَةٌ فِي نَظَرِ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ مِنْ الْمَرْأَةِ إلى ما يجوز لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ الرَّجُلِ وَهُوَ السُّرَّةُ فَمَا فَوْقَهَا وَمَا تَحْتَ الرُّكْبَةِ وَالْمَحْظُورُ عَلَيْهِنَّ مِنْ بَعْضِهِنَّ لِبَعْضٍ مَا تَحْتَ السُّرَّةِ إلَى الركبة وقوله تعالى أَوْ نِسائِهِنَّ رُوِيَ أَنَّهُ أَرَادَ نِسَاءَ الْمُؤْمِنَاتِ وَقَوْلُهُ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ تَأَوَّلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأُمُّ سَلَمَةِ وَعَائِشَةُ أَنَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى شَعْرِ مَوْلَاتِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ وَإِلَى شَعْرِ غَيْرِ مَوْلَاتِهِ رُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تَمْتَشِطُ وَالْعَبْدُ يَنْظُرُ إلَيْهَا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ الْمُسَيِّبِ إنَّ الْعَبْدَ لَا يَنْظُرُ إلَى شَعْرِ مَوْلَاتِهِ وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَا مَحْرَمٍ وَتَأَوَّلُوا قَوْلَهُ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ عَلَى الْإِمَاءِ لِأَنَّ الْعَبْدَ وَالْحُرَّ فِي التَّحْرِيمِ سَوَاءٌ فَهِيَ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَهُ وَهُوَ عَبْدُهَا فَإِنَّ ذَلِكَ تَحْرِيمٌ عَارِضٌ كَمَنْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ أُخْتُهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَلَا يُبِيحُ لَهُ ذَلِكَ النَّظَرَ إلَى شَعْرِ أُخْتِهَا وَكَمَنْ عِنْدَهُ أَرْبَعُ
175
نِسْوَةٍ سَائِرُ النِّسَاءِ مُحَرَّمَاتٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَبِيحَ النَّظَرَ إلَى شُعُورِهِنَّ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُهَا عَلَى عَبْدِهَا فِي الْحَالِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا كَانَ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَجْنَبِيِّينَ وَأَيْضًا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا تحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن يسافر سَفَرًا فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ
وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ أن تسافر بِهَا وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ السَّفَرُ بِهَا لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّظَرُ إلَى شَعْرِهَا كَالْحُرِّ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ قِيلَ هَذَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ فَائِدَةِ ذِكْرِ مِلْكِ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ قِيلَ لَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ النساء في الآية بقوله أَوْ نِسائِهِنَّ وَأَرَادَ بِهِنَّ الْحَرَائِرَ الْمُسْلِمَاتِ فَجَازَ أَنْ يُظَنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْإِمَاءَ لَا يَجُوزُ لَهُنَّ النَّظَرُ إلَى شَعْرِ مَوْلَاتِهِنَّ وَإِلَى مَا يَجُوزُ لِلْحُرَّةِ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْهَا فَأَبَانَ تَعَالَى أَنَّ الْأَمَةَ وَالْحُرَّةَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَإِنَّمَا خَصَّ نِسَاءَهُنَّ بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِأَنَّ جَمِيعَ مَنْ ذُكِرَ قَبْلَهُنَّ هُمْ الرِّجَالُ بِقَوْلِهِ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ فَكَانَ جَائِزًا أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الرِّجَالَ مَخْصُوصُونَ بِذَلِكَ إذَا كَانُوا ذَوِي مَحَارِمَ فَأَبَانَ تَعَالَى إبَاحَةَ النَّظَرِ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ مِنْ نِسَائِهِنَّ سَوَاءٌ كُنَّ ذَوَاتَ مَحَارِمَ أَوْ غَيْرَ ذَوَاتِ مَحَارِمَ ثُمَّ عَطَفَ عَلَى ذَلِكَ الْإِمَاءَ بِقَوْلِهِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ لِئَلَّا يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّ الْإِبَاحَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْحَرَائِرِ مِنْ النِّسَاءِ إذْ كَانَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ أَوْ نِسائِهِنَّ يَقْتَضِي الْحَرَائِرَ دُونَ الْإِمَاءِ كَمَا كَانَ قَوْلُهُ وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ عَلَى الْحَرَائِرِ دُونَ الْمَمَالِيكِ وَقَوْلُهُ شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ الْأَحْرَارُ لِإِضَافَتِهِمْ إلَيْنَا كَذَلِكَ قَوْلُهُ أَوْ نِسائِهِنَّ عَلَى الْحَرَائِرِ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِنَّ الْإِمَاءَ فَأَبَاحَ لَهُنَّ مِثْلَ مَا أَبَاحَ فِي الْحَرَائِرِ وقَوْله تَعَالَى أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ قَالُوا الَّذِي يَتْبَعُك لِيُصِيبَ مِنْ طَعَامِك وَلَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ وَقَالَ عِكْرِمَةُ هُوَ الْعِنِّينُ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ هُوَ الْأَبْلَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ الْأَحْمَقُ الَّذِي لَا أَرَبَ لَهُ فِي النِّسَاءِ
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَنَّثٌ فَكَانُوا يُعِدُّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ قَالَتْ فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأَةً فَقَالَ لَا أَرَى هذا يعلم ما هاهنا لا يدخلن عليكن فحجبوه
وروى هشام ابن عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا مُخَنَّثٌ فَأَقْبَلَ عَلَى أَخِي أُمِّ سَلَمَةَ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ لَوْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمْ غَدًا الطَّائِفَ دَلَلْتُك عَلَى بِنْتِ غَيْلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ
176
فقال لا أرى هذا يعرف ما هاهنا لا يدخل عليكم
فأباح النبي صلّى الله عليه وسلّم دُخُولَ الْمُخَنَّثِ عَلَيْهِنَّ حِينَ ظَنَّ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ يَعْرِفُ أَحْوَالَ النِّسَاءِ وَأَوْصَافَهُنَّ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أُولِي الْإِرْبَةِ فَحَجَبَهُ وقَوْله تَعَالَى أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ قال مجاهدهم الَّذِينَ لَا يَدْرُونَ مَا هُنَّ مِنْ الصِّغَرِ وَقَالَ قَتَادَةَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْلُ مُجَاهِدٍ أَظْهَرُ لِأَنَّ مَعْنَى أَنَّهُمْ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ أَنَّهُمْ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ لِصِغَرِهِمْ وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِذَلِكَ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطِّفْلَ الَّذِي قَدْ عَرَفَ عَوْرَاتِ النِّسَاءِ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ وَأَرَادَ بِهِ الَّذِي عَرَفَ ذَلِكَ وَاطَّلَعَ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَاَلَّذِي لَا يُؤْمَرُ بِالِاسْتِئْذَانِ أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ
فَلَمْ يَأْمُرْ بِالتَّفْرِقَةِ قَبْلَ الْعَشْرِ وَأَمَرَ بِهَا فِي الْعَشْرِ لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ ذَلِكَ فِي الْأَكْثَرِ الْأَعَمِّ وَلَا يَعْرِفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْأَغْلَبِ وقَوْله تَعَالَى وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ رَوَى أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ هُوَ الْخَلْخَالُ وَكَذَلِكَ قَالَ مُجَاهِدٌ إنَّمَا نُهِيت أن تضرب برجلها لِيُسْمَعَ صَوْتُ الْخَلْخَالِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ عُقِلَ مِنْ مَعْنَى اللَّفْظِ النَّهْيُ عَنْ إبْدَاءِ الزِّينَةِ وَإِظْهَارِهَا لِوُرُودِ النص في النهى عن سماع صَوْتِهَا إذْ كَانَ إظْهَارُ الزِّينَةِ أَوْلَى بِالنَّهْيِ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ الزِّينَةُ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ بأخفى الوجهين لم يجز بأظهر هما وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمَعَانِي الَّتِي قَدْ عَلَّقَ الْأَحْكَامَ بِهَا وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْمَعَانِي تَارَةً جَلِيَّةً بِدَلَالَةِ فَحْوَى الْخِطَابِ عَلَيْهَا وَتَارَةً خَفِيَّةً يُحْتَاجُ إلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا بِأُصُولٍ أُخَرَ سِوَاهَا وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ مَنْهِيَّةٌ عَنْ رَفْعِ صَوْتِهَا بِالْكَلَامِ بِحَيْثُ يَسْمَعُ ذَلِكَ الْأَجَانِبُ إذْ كَانَ صَوْتُهَا أَقْرَبَ إلَى الْفِتْنَةِ مِنْ صَوْتِ خَلْخَالِهَا وَلِذَلِكَ كَرِهَ أَصْحَابُنَا أَذَانَ النِّسَاءِ لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى رَفْعِ الصَّوْتِ وَالْمَرْأَةُ مَنْهِيَّةٌ عَنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى حَظْرِ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهَا لِلشَّهْوَةِ إذْ كَانَ ذَلِكَ أَقْرَبَ إلَى الرِّيبَةِ وَأَوْلَى بِالْفِتْنَةِ.
بَابُ التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ الآية قال «١٢- أحكام مس»
177
أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ مِنْ إجْمَاعِ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهَا الْإِيجَابَ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْبَابٌ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لورد النَّقْلِ بِفِعْلِهِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ السَّلَفِ مُسْتَفِيضًا شَائِعًا لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَلَمَّا وَجَدْنَا عَصْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرَ الْأَعْصَارِ بَعْدَهُ قَدْ كَانَ في الناس أيامى من الرجال والنساء فلم ينكروا ترك تَزْوِيجُهُمْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ الْإِيجَابُ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ الْإِيجَابُ أَنَّ الْأَيِّمَ الثَّيِّبَ لَوْ أَبَتْ التَّزْوِيجَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلِيِّ إجْبَارُهَا عَلَيْهِ وَلَا تَزْوِيجُهَا بِغَيْرِ أَمْرِهَا وَأَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَلَى النَّدْبِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَزْوِيجِ عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَيَامَى فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ فِي الْجَمِيعِ وَلَكِنَّ دَلَالَةَ الْآيَةِ وَاضِحَةٌ فِي وُقُوعِ الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ إذْ لَمْ يُخَصِّصْ بِذَلِكَ الْأَوْلِيَاءَ دُونَ غَيْرِهِمْ وَكُلُّ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ مَنْدُوبٌ إلَى تَزْوِيجِ الْأَيَامَى الْمُحْتَاجِينَ إلَى النِّكَاحِ فَإِنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ فَهُوَ نَافِذٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا مِمَّنْ يَجُوزُ عَقْدُهُمْ عَلَيْهِمْ مِثْلُ الْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ فَهُوَ نَافِذٌ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةٌ وَلَا أَمْرٌ فَعَقْدُهُمْ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ مَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ الْعَقْدَ فَقَدْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ جَوَازَ النِّكَاحِ عَلَى إجَازَةِ مَنْ يَمْلِكُهَا فَإِنْ قِيلَ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ إنَّمَا يَلِيهِ الْأَوْلِيَاءُ دُونَ النِّسَاءِ وَأَنَّ عُقُودَهُنَّ على أنفسهن غير جائزة قيل له كَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَخُصَّ الْأَوْلِيَاءَ بِهَذَا الْأَمْرِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَعُمُومُهُ يَقْتَضِي تَرْغِيبَ سَائِرِ النَّاسِ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْأَيَامَى أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ الْأَيَامَى يَنْتَظِمُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ وَهُوَ فِي الرِّجَالِ لَمْ يَرِدْ بِهِ الْأَوْلِيَاءُ دُونَ غَيْرِهِمْ كَذَلِكَ فِي النِّسَاءِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ فِي التَّرْغِيبِ فِي النِّكَاحِ مِنْهَا
مَا رَوَاهُ ابْنُ عَجْلَانَ عَنْ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الْأَدَاءَ وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ
وَرَوَى إبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ
وَقَالَ إذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ
وَعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ أَنَّهُ قَالَ لِأَهْلِهِ زَوِّجُونِي فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْصَانِي أَنْ لَا أَلْقَى اللَّهَ أَعْزَبَ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا خلاد عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ حدثنا
178
سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَحَبَّ فِطْرَتِي فَلْيَسْتَنَّ بِسُنَّتِي وَمِنْ سُنَّتِي النِّكَاحُ
قَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ مُيَسَّرَةَ وَلَا أَقُولُ لَك إلَّا مَا قَالَ عُمَرُ لِأَبِي الزَّوَائِدِ مَا يَمْنَعُك مِنْ النِّكَاحِ إلَّا عَجْزٌ أَوْ فُجُورٌ فَإِنْ قِيلَ قَوْله تَعَالَى وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ عُمُومُهُ يَقْتَضِي تَزْوِيجَ الْأَبِ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ الْكَبِيرَةَ وَلَوْلَا قِيَامُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُزَوِّجُ الْبِنْتَ الْكَبِيرَةَ بِغَيْرِ رِضَاهَا لَكَانَ جَائِزًا لَهُ تزويجها بغير رضاها لعموم الْآيَةِ قِيلَ لَهُ مَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ لَا يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ لِأَنَّ الرَّجُلَ يُقَالُ لَهُ أَيِّمٌ وَالْمَرْأَةُ يُقَالُ لَهَا أَيِّمَةٌ وَهُوَ اسْمٌ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا وَالرَّجُلِ الَّذِي لَا امْرَأَةَ لَهُ قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكِحْ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي وَإِنْ كُنْت أَفْتَى مِنْكُمْ أَتَأَيَّمُ
وَقَالَ آخَرُ:
ذَرِينِي عَلَى أَيِّمٍ مِنْكُمْ وَنَاكِحٍ وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مَا رَأَيْت مِثْلَ مَنْ يَجْلِسُ أَيِّمًا بَعْدَ هذه الآية وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ التمسوا الغنا فِي الْبَاهِ فَلَمَّا كَانَ هَذَا الِاسْمُ شَامِلًا لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَقَدْ أُضْمِرَ فِي الرِّجَالِ تَزْوِيجُهُمْ بِإِذْنِهِمْ فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ الضَّمِيرِ فِي النِّسَاءِ أَيْضًا وَأَيْضًا فَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم باستثمار الْبِكْرِ
بِقَوْلِهِ الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا
وَذَلِكَ أَمْرٌ وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ وَذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ فَلَا يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا إلَّا بِإِذْنِهَا وَأَيْضًا فَإِنَّ
حَدِيثَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُنْكَحُ الْيَتِيمَةُ إلَّا بِإِذْنِهَا فَإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إذْنُهَا وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْبِكْرَ لِأَنَّ الْبِكْرَ هِيَ الَّتِي يَكُونُ سُكُوتُهَا رِضًا وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي فَتَاةٍ بِكْرٍ زَوَّجَهَا أَبُوهَا بِغَيْرِ أَمْرِهَا فَاخْتَصَمُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجِيزِي مَا صَنَعَ أَبُوك
وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا سَلَفَ قَوْله تَعَالَى وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يُزَوِّجَ عَبْدَهُ وَأَمَتَةَ بِغَيْرِ رِضَاهُمَا وَأَيْضًا لَا خِلَافَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِلْعَبْدِ وَالْأَمَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَا بِغَيْرِ إذْنٍ
وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَهُوَ عَاهِرٌ
فَثَبَتَ أَنَّ الْعَبْدَ وَالْأَمَةَ لَا يَمْلِكَانِ ذَلِكَ فَوَجَبَ أَنْ يَمْلِكَ الْمَوْلَى مِنْهُمَا ذَلِكَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الَّتِي لَا يَمْلِكَانِهَا وَيَمْلِكُهَا الْمَوْلَى عَلَيْهِمَا وقَوْله تَعَالَى إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ خبر والمخبر الله تعالى ولا مَحَالَةَ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ فَلَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ خَاصًّا فِي بَعْضِ الْمَذْكُورِينَ دُونَ بَعْضٍ إذْ قَدْ وَجَدْنَا مَنْ
179
يَتَزَوَّجُ وَلَا يَسْتَغْنِي بِالْمَالِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ المراد بالغنى العفاف فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ خَاصًّا فَهُوَ فِي الْأَيَامَى الْأَحْرَارِ الَّذِينَ يَمْلِكُونَ فَيَسْتَغْنُونَ بِمَا يَمْلِكُونَ أَوْ يَكُونُ عَامًّا فَيَكُونُ الْمَعْنَى وُقُوعَ الْغِنَى بِمِلْكِ الْبُضْعِ وَالِاسْتِغْنَاءِ بِهِ عَنْ تَعَدِّيهِ إلَى الْمَحْظُورِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ إذًا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ يَمْلِكُ وَقَدْ بَيَّنَّا مَسْأَلَةَ مِلْكِ الْعَبْدِ فِي سورة النحل.
بَابُ الْمُكَاتَبَةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ مَا أَرَاهُ إلَّا واجبا وهو قول عمر وبن دِينَارٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَمَرَ أَنَسًا بِأَنْ يُكَاتِبَ سِيرِينَ أَبَا مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ فَأَبَى فَرَفَعَ عَلَيْهِ الدِّرَّةَ وَضَرَبَهُ وَقَالَ فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَحَلَفَ عَلَيْهِ لِيُكَاتِبَنَّهُ وَقَالَ الضَّحَّاكُ إنْ كَانَ لِلْمَمْلُوكِ مَالٌ فَعَزِيمَةٌ عَلَى مَوْلَاهُ أَنْ يُكَاتِبَهُ وَرَوَى الْحَجَّاجُ عَنْ عطاء قال إنشاء كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُكَاتِبْ إنَّمَا هُوَ تعليم وكذلك قوله الشُّعَبِيِّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا تَرْغِيبٌ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَيْسَ بِإِيجَابٍ
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ
وَمَا روى عن عمر في قصة سيرين يدل عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَحَكَمَ بِهَا عُمَرُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَنَسٍ لِمُكَاتَبَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ أَنَسٌ أَيْضًا يَمْتَنِعُ مِنْ شَيْءٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يَرَاهَا وَاجِبَةً لَمَا رَفَعَ عَلَيْهِ الدِّرَّةَ وَلَمْ يَضْرِبْهُ قِيلَ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ كَالْوَالِدِ الْمُشْفِقِ لِلرَّعِيَّةِ فَكَانَ يَأْمُرُهُمْ بِمَا لَهُمْ فِيهِ الْحَظُّ فِي الدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ وَالْمَصْلَحَةِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الْوُجُوبِ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى غَالِبِ ظَنِّ الْمَوْلَى أَنَّ فِيهِمْ خَيْرًا فَلَمَّا كَانَ الْمَرْجِعُ فِيهِ لِلْمَوْلَى لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِجْبَارُ عَلَيْهِ وقوله إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً
رَوَى عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا إنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ حِرْفَةً وَلَا تَدَعُوهُمْ كَلًّا على الناس وذكر ابن جريح عن عطاء إن علمتم فيهم خيرا قَالَ مَا نَرَاهُ إلَّا الْمَالَ ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً قَالَ الْخَيْرُ الْمَالُ
فِيمَا نَرَى قَالَ وَبَلَغَنِي عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْنِي بِالْخَيْرِ الْمَالَ وَرَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خيرا قَالَ إذَا صَلَّى وَعَنْ إبْرَاهِيمَ وَفَاءً وَصِدْقًا وَقَالَ مُجَاهِدٌ مَالًا وَقَالَ الْحَسَنُ صَلَاحًا فِي الدِّينِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَرَادَ الصَّلَاحَ فَيَنْتَظِمُ ذَلِكَ الْوَفَاءَ وَالصِّدْقَ وَأَدَاءَ الْأَمَانَةِ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ إذَا قَالُوا فُلَانٌ فِيهِ خَيْرٌ إنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الصَّلَاحَ في
180
الدِّينِ وَلَوْ أَرَادَ الْمَالَ لَقَالَ إنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ خَيْرًا لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقَالُ لِفُلَانٍ مَالٌ وَلَا يُقَالُ فِيهِ مَالٌ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا مَالَ لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَوَّلَ عَلَيْهِ وَمَا رُوِيَ عَنْ عُبَيْدَةَ إذَا صَلَّى فَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ جَائِزٌ مُكَاتَبَةُ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ بِالْآيَةِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ صَلَاةٌ وقَوْله تَعَالَى وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُكَاتَبِ هَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَى مَوْلَاهُ أَنْ يَضَعَ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ كِتَابَتِهِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ إنْ وَضَعَ عَنْهُ شَيْئًا فَهُوَ حَسَنٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ هُوَ عَلَى الْوُجُوبِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ فِي قَوْلِهِ وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ قال كان يعجبهم أن تدعو لَهُ طَائِفَةً مِنْ مُكَاتَبَتِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ ظَاهِرُ قَوْلِهِ كَانَ يُعْجِبُهُمْ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصَّحَابَةَ وَكَذَلِكَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ كَانُوا يَكْرَهُونَ وَكَانُوا يَقُولُونَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ التَّابِعِيِّ إذَا قَالَ ذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الصَّحَابَةَ فَقَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ عَلَى النَّدْبِ لَا عَلَى الْإِيجَابِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْإِيجَابِ كَانَ يُعْجِبُهُمْ وَرَوَى يُونُسُ عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ وَآتُوهُمْ من مال الله الذي آتاكم قَالَ حَثَّ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ وَغَيْرَهُ وَرَوَى مُسْلِمُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ غُلَامِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ كَاتَبَنِي عُثْمَانُ وَلَمْ يَحُطَّ عَنِّي شَيْئًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ مَا ذَكَرَهُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ مِنْ قَوْلِهِ وَفِي الرِّقابِ
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ قَالَ أَعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ قَالَ أَلَيْسَا وَاحِدًا قَالَ عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا
وَهَذَا يدل على أن قوله وَفِي الرِّقابِ قَدْ اقْتَضَى إعْطَاءَ الْمُكَاتَبِ فَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ قوله وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ دَفْعَ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَاتِ وَأَفَادَ بِذَلِكَ جَوَازَ دَفْعِ الصَّدَقَةِ إلَى الْمُكَاتَبِ وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ غَنِيًّا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ أُمِرَ بِإِعْطَائِهِ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَمَا أُطْلِقَ عَلَيْهِ هَذِهِ الْإِضَافَةُ فَهُوَ مَا كَانَ سَبِيلُهُ الصَّدَقَةَ وَصَرْفَهُ فِي وُجُوهِ الْقُرْبِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ مَالًا هُوَ مِلْكٌ لِمَنْ أَمَرَ بِإِيتَائِهِ وَأَنَّ سَبِيلَهُ الصَّدَقَةُ وَذَلِكَ الصَّدَقَاتُ الْوَاجِبَةُ فِي الْأَمْوَالِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَهُوَ الَّذِي قَدْ صَحَّ مِلْكُهُ لِلْمَالِكِ وَأُمِرَ بِإِخْرَاجِ بَعْضِهِ وَمَالُ الْكِتَابَةِ لَيْسَ بِدَيْنٍ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ عَلَى عَبْدِهِ وَالْمَوْلَى لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ صَحِيحٌ وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يُوجِبُ حَطَّ بَعْضِ الْكِتَابَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ بَعْدَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ وَذَلِكَ خِلَافُ مُوجِبِ الْآيَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّهُ إذَا سَقَطَ لَمْ يُحَصِّلْ مَالًا لِلَّهِ قَدْ آتَاهُ الْمَوْلَى
181
وَالثَّانِي أَنَّ مَا آتَاهُ فَهُوَ الَّذِي يُحَصَّلُ فِي يَدِهِ وَيُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ وَمَا سَقَطَ عَقِيبَ الْعَقْدِ لَا يُمْكِنُهُ التَّصَرُّفُ فِيهِ وَلَمْ يُحَصَّلْ لَهُ عَلَيْهِ بَلْ لَا يَسْتَحِقَّ الصِّفَةَ بِأَنَّهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاهُ إيَّاهُ وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْإِيتَاءُ وَاجِبًا لَكَانَ وُجُوبُهُ مُتَعَلِّقًا بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ هُوَ الْمُوجِبُ لَهُ وَهُوَ الْمُسْقِطُ وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْعَقْدُ يُوجِبُهُ وَهُوَ بِعَيْنِهِ مُسْقِطٌ اسْتَحَالَ وُجُوبُهُ لِتَنَافِي الْإِيجَابِ وَالْإِسْقَاطِ فَإِنْ قِيلَ لَيْسَ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي الْأُصُولِ لِأَنَّ الرَّجُلَ إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ مِنْ عَبْدِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ بِالْعَقْدِ ثُمَّ يَسْقُطُ فِي الثَّانِي قِيلَ لَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُوجِبُ لَهُ هُوَ الْمُسْقِطُ له إذا كَانَ الَّذِي يُوجِبُهُ هُوَ الْعَقْدُ وَاَلَّذِي يُسْقِطُهُ هُوَ حُصُولُ مِلْكِهِ لِلْمَوْلَى فِي الثَّانِي فَالْمُوجِبُ لَهُ غَيْرُ الْمُسْقِطِ وَكَذَلِكَ مَنْ اشْتَرَى أَبَاهُ فَعَتَقَ عَلَيْهِ فَالْمُوجِبُ لِلْمِلْكِ هُوَ الشِّرَى وَالْمُوجِبُ لِلْعَتَاقِ حُصُولُ الْمِلْكِ مَعَ النَّسَبِ وَلَمْ يَكُنْ الْمُوجِبُ لَهُ هُوَ الْمُسْقِطُ وَقَدْ حُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَأَنْ يَضَعَ عنه بعد الكتابة وَاجِبٌ أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ شَيْءٍ وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يَضَعَ عَنْهُ وَضَعَ الْحَاكِمُ عَنْهُ أَقَلَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ شَيْءٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَلَوْ كَانَ الْحَطُّ وَاجِبًا لَمَا احْتَاجَ أَنْ يَضَعَ عَنْهُ بَلْ يَسْقُطُ الْقَدْرُ الْمُسْتَحَقُّ كَمَنْ لَهُ عَلَى إنْسَانٍ دَيْنٌ ثُمَّ صَارَ لِلْمَدِينِ عَلَيْهِ مِثْلُهُ أَنَّهُ يَصِيرُ قِصَاصًا وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَحَصَلَتْ الْكِتَابَةُ مَجْهُولَةً لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ مَجْهُولٌ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا شَيْءٌ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِيتَاءَ لَوْ كَانَ فَرْضًا لَسَقَطَ ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا فَالْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ الْكِتَابَةُ بِمَا بَقِيَ فَيُعْتَقُ إذَا أَدَّى ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَالْكِتَابَةُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِشْهَادُ عَلَى الْكِتَابَةِ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِ شَيْءٍ لَا يَثْبُتُ وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يُعْتَقُ بِأَقَلَّ مِمَّا شُرِطَ وَهَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّ أَدَاءَ جَمِيعِهَا مَشْرُوطٌ فَلَا يُعْتَقُ بِأَدَاءِ بَعْضِهَا وَأَيْضًا فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ فَالْوَاجِبُ إذًا أَنْ لَا يَسْقُطَ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ الْإِيتَاءُ مُسْتَحَقًّا لَسَقَطَ وَإِنْ كَانَ الْإِيتَاءُ مَجْهُولًا فَالْوَاجِبُ أَنْ يَسْقُطَ ذَلِكَ الْقَدْرُ فَتَبْقَى الْكِتَابَةُ عَلَى مَالٍ مَجْهُولٍ فَإِنْ قِيلَ
رَوَى عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ كَاتَبَ غُلَامًا لَهُ فَتَرَكَ لَهُ رُبُعَ مُكَاتَبَتِهِ وَقَالَ إنَّ عَلِيًّا كَانَ يَأْمُرُنَا بِذَلِكَ وَيَقُولُ هُوَ قَوْلُ اللَّهِ وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ
وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ تُعْطِيهِ رُبُعًا مِنْ جَمِيعِ مُكَاتَبَتِهِ تُعَجِّلُهُ مِنْ مَالِكَ قِيلَ لَهُ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا ذلك
182
وَاجِبًا وَأَنَّهُ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا عِنْدَهُمْ لَسَقَطَ بَعْدَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ هَذَا الْقَدْرُ إذْ كَانَ الْمُكَاتَبُ مُسْتَحِقًّا لَهُ وَلَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُعْطِيَهُ شَيْئًا فَإِنْ قِيلَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ مَالُ الْكِتَابَةِ مُؤَجَّلًا وَيَسْتَحِقُّ هُوَ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ مَالِهِ مِقْدَارَ الرُّبُعِ فَلَا يَصِيرُ قِصَاصًا بَلْ يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمَوْلَى تَعْجِيلَهُ فَيَكُونُ مَالُ الْكِتَابَةِ إلَى أَجَلِهِ كَمَنْ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ فَيَصِيرُ لِلْمَدِينِ عَلَى الطَّالِبِ دَيْنٌ حَالٌّ فَلَا يَصِيرُ قِصَاصًا لَهُ قِيلَ لَهُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْكِتَابَةِ الْحَالَّةِ وَالْمُؤَجَّلَةِ وَكَذَلِكَ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ مِنْ السَّلَفِ الْحَطُّ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْحَالَّةِ وَالْمُؤَجَّلَةِ وَلَمْ يُفَرِّقْ أَيْضًا بَيْنَ أَنْ يَحِلَّ مَالُ الْكِتَابَةِ الْمُؤَجَّلُ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَحِلَّ فِيمَا ذَكَرُوا مِنْ الْحَطِّ وَالْإِيتَاءِ فعلمنا أنه لم يرد به الإيجاب إذا لم يجعله قصاصا إذا كانت حالة أو كانت مُؤَجَّلَةً فَحَلَّتْ وَأَوْجَبَ الْإِيتَاءَ فِي الْحَالِّينَ وَالْإِيتَاءُ هُوَ الْإِعْطَاءُ وَمَا يَصِيرُ قِصَاصًا لَا يُطْلَقُ فِيهِ الْإِعْطَاءُ وَمِمَّا يَدُلُّ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ عَلَى مَا وَصَفْنَا مَا
رَوَى يُونُسُ وَاللَّيْثُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ جَاءَتْنِي بَرِيرَةُ فَقَالَتْ يَا عَائِشَةُ إنِّي قَدْ كَاتَبْت أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُوقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ ارْجِعِي إلَى أَهْلِك فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أُعْطِيَهُمْ ذَلِكَ جَمِيعًا وَيَكُونُ وَلَاؤُك لِي فَعَلْت فَأَبَوْا وَقَالُوا إنْ شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون وولاؤك لَنَا فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَا يَمْنَعُك مِنْهَا ابْتَاعِي وَأَعْتِقِي فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ بِنَحْوِهِ فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ قَضَتْ مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا وَأَرَادَتْ عَائِشَةُ أَنْ تُؤَدِّيَ عَنْهَا كِتَابَتَهَا كُلَّهَا وَذَكَرَتْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّكِيرَ عَلَيْهَا
وَلَمْ يقل أنها تستحق أَنْ يُحَطَّ عَنْهَا بَعْضُ كِتَابَتِهَا أَوْ أَنْ يُعْطِيَهَا الْمَوْلَى شَيْئًا مِنْ مَالِهِ ثَبَتَ أَنَّ الْحَطَّ مِنْ الْكِتَابَةِ عَلَى النَّدْبِ لَا عَلَى الْإِيجَابِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَأَنْكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَقَالَ لَهَا وَلِمَ تدفعي إليهم مالا يَجِبُ لَهُمْ عَلَيْهَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا
مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ جُوَيْرِيَةَ جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إنِّي وَقَعْت فِي سَهْمِ ثابت بن قيس بن شماس أولا بن عَمٍّ لَهُ فَكَاتَبْته فَجِئْت إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى كِتَابَتِي فَقَالَ فَهَلْ لَك فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ أَقْضِي عَنْك كِتَابَتَك وَأَتَزَوَّجُك قَالَتْ نَعَمْ قَالَ قَدْ فَعَلْت
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ بَذَلَ لِجُوَيْرِيَةَ أَدَاءَ جَمِيعِ كِتَابَتِهَا عَنْهَا إلَى مَوْلَاهَا وَلَوْ كَانَ الْحَطُّ وَاجِبًا لَكَانَ الَّذِي يَقْصِدُ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأداء
183
عَنْهَا بَاقِيَ كِتَابَتِهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَالزُّبَيْرِ وَمَنْ قَدَّمْنَا قَوْلَهُمْ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ الْحَطَّ وَاجِبًا وَلَا يرى عَنْ نُظَرَائِهِمْ خِلَافُهُ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ فِيهِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ رَآهُ نَدْبًا لَا إيجَابًا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دواد قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الصَّمَدِ قَالَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ الْجَرِيرِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا إلَّا عَشْرَ أَوَاقٍ فَهُوَ عَبْدٌ وَأَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَأَدَّاهَا إلَّا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ عَبْدٌ
فَلَوْ كَانَ الْحَطُّ وَاجِبًا لَأُسْقِطَ عَنْهُ بِقَدْرِهِ وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ وَاَللَّهُ أعلم.
بَابُ الْكِتَابَةِ الْحَالَّةِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فَاقْتَضَى ذَلِكَ جَوَازَهَا حَالَّةً وَمُؤَجَّلَةً لِإِطْلَاقِهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْأَجَلِ وَالِاسْمُ يَتَنَاوَلُهَا فِي حَالِ التَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ الْعُقُودِ فَوَاجِبٌ جَوَازُهَا حَالَّةً لِعُمُومِ اللَّفْظِ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ تَجُوزُ الْكِتَابَةُ الْحَالَّةُ فَإِنْ أَدَّاهَا حِينَ طَلَبَهَا الْمَوْلَى مِنْهُ وَإِلَّا رُدَّ فِي الرِّقِّ وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ فِي رَجُلٍ قَالَ كَاتِبُوا عَبْدِي عَلَى أَلْفٍ وَلَمْ يَضْرِبْ لَهَا أَجَلًا إنَّهَا تُنَجَّمُ عَلَى الْمُكَاتَبِ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى مِنْ كِتَابَةِ مِثْلِهِ وَقَدْرِ قُوَّتِهِ قَالَ فَالْكِتَابَةُ عِنْدَ النَّاسِ مُنَجَّمَةٌ وَلَا تَكُونُ حَالَّةً إنْ أَبَى ذَلِكَ السَّيِّدُ وَقَالَ اللَّيْثُ إنَّمَا جُعِلَ التَّنْجِيمُ عَلَى الْمُكَاتَبِ رِفْقًا بِالْمُكَاتَبِ وَلَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ رِفْقًا بِالسَّيِّدِ وَقَالَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ لَا تَجُوزُ الْكِتَابَةُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ نَجْمَيْنِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ ذَكَرْنَا دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِهَا حَالَّةً وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مَالُ الْكِتَابَةِ بَدَلًا عَنْ الرَّقَبَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَثْمَانِ الْأَعْيَانِ الْمَبِيعَةِ فَتَجُوزُ عَاجِلَةً وَآجِلَةً وَأَيْضًا لَا يَخْتَلِفُونَ فِي جَوَازِ الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ حَالٍّ فَوَجَبَ أَنْ تكون الكتابة مثله لأنه يدل على الْعِتْقِ فِي الْحَالِّينَ إلَّا أَنَّ فِي أَحَدِهِمَا الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ عَلَى شَرْطِ الْأَدَاءِ وَفِي الْآخَرِ مُعَجَّلٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ حُكْمُهُمَا فِي جَوَازِهِمَا عَلَى بَدَلٍ عَاجِلٍ فَإِنْ قِيلَ الْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ فَيَحْتَاجُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ إلَى مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ الْكَسْبُ فِيهَا فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجُوزَ إلَّا مُؤَجَّلَةً إذْ كَانَتْ تَقْتَضِي الْأَدَاءَ وَمَتَى امْتَنَعَ الْأَدَاءُ لَمْ تَصِحَّ الْكِتَابَةُ قِيلَ لَهُ هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ لِلْمَوْلَى وَيَصِيرُ بِهَا الْمُكَاتَبُ في يد نفسه ويملك اكتسابه وَتَصَرُّفَهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدُّيُونِ الثَّابِتَةِ فِي الذِّمَمِ الَّتِي يَجُوزُ الْعَقْدُ
184
عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ عِلَّةً صَحِيحَةً لَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ حَالٍّ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِشَيْءٍ قَبْلَ الْعَقْدِ وَإِنْ جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ يَمْلِكُ أَكْسَابَهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَلَوَجَبَ أَيْضًا أَنْ لَا يَجُوزَ شِرَى الْفَقِيرِ لِابْنِهِ بِثَمَنٍ حَالٍّ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا وَأَنْ يُعْتَقَ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ فَإِنْ قُلْت إنَّهُ يَمْلِكُ أَنْ يَسْتَقْرِضَ قُلْنَا فِي الْمُكَاتَبِ مِثْلُهُ.
بَابُ الْكِتَابَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْحُرِّيَّةِ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَمُحَمَّدٌ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ إذَا كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ إنْ أَدَّيْت فَأَنْتَ حُرٌّ فَهُوَ جَائِزٌ ويعتق بِالْأَدَاءِ وَقَالَ الْمَزْنِيُّ عَنْ الشَّافِعِيِّ إذَا كَاتَبَهُ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ إلَى عَشْرِ سِنِينَ كَذَا كَذَا نَجْمًا فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا يُعْتَقُ حَتَّى يَقُولَ فِي الْكِتَابَةِ إذَا أَدَّيْت هَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ وَيَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّ قَوْلِي قَدْ كَاتَبْتُك كَانَ مَعْقُودًا عَلَى أَنَّك إذَا أَدَّيْت فَأَنْتَ حُرٌّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَوْله تَعَالَى فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً يَقْتَضِي جَوَازَهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْحُرِّيَّةِ وَيَتَضَمَّنُ الْحُرِّيَّةَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ فَكَاتِبُوهُمْ عَلَى شَرْطِ الْحُرِّيَّةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ يَتَضَمَّنُهَا كَلَفْظِ الْخُلْعِ فِي تَضَمُّنِهِ لِلطَّلَاقِ وَلَفْظِ الْبَيْعِ فِيمَا يَتَضَمَّنُ مِنْ التَّمْلِيكِ وَالْإِجَارَةِ فِيمَا يَقْتَضِيهِ مِنْ تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ وَالنِّكَاحِ فِي اقْتِضَائِهِ تَمْلِيكَ مَنَافِعِ الْبُضْعِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا
حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ أَيُّمَا عَبْدٍ كَاتَبَ عَلَى مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فأداها إلا عشر أواقى فَهُوَ رَقِيقٌ
فَأَجَازَ الْكِتَابَةَ مُطْلَقَةً عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ حُرِّيَّةٍ فِيهَا وَإِذَا صَحَّتْ الْكِتَابَةُ مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطِ حُرِّيَّةٍ وَجَبَ أَنْ يُعْتَقَ بِالْأَدَاءِ لِأَنَّ صِحَّةَ الْكِتَابَةِ تَقْتَضِي وُقُوعَ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ.
بَابُ الْمُكَاتَبِ مَتَى يُعْتَقُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَكَى أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمُكَاتَبَ يُعْتَقُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَتَكُونُ الْكِتَابَةُ دَيْنًا عَلَيْهِ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ لَمْ نَجِدْ لِذَلِكَ إسْنَادًا وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ نَعْلَمُهُ قَالَ
وَقَدْ رَوَى أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يُؤَدِّي الْمُكَاتَبُ بِحِصَّةِ مَا أَدَّى دِيَةَ حُرٍّ وَمَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِيَةُ عَبْدٍ
وَرَوَاهُ أَيْضًا يَحْيَى ابن أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَعَائِشَةُ وأم سلمة
185
وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ إنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ إذَا أَدَّى النِّصْفَ فَهُوَ غَرِيمٌ وَلَا رِقَّ عَلَيْهِ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ إذَا أَدَّى ثُلُثًا أَوْ رُبُعًا فَهُوَ غَرِيمٌ وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَرَوَى إبْرَاهِيمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ إذَا أَدَّى قِيمَةَ رَقَبَتِهِ فَهُوَ غَرِيمٌ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو بَدْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سُلَيْمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ مُكَاتَبَتِهِ دِرْهَمٌ
وَمِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنَّ الْأَدَاءَ لَمَّا كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْعِتْقِ وَجَبَ أَنْ لَا يُعْتَقَ إلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ كَالْعِتْقِ الْمُعَلَّقِ عَلَى شَرْطٍ لَا يَقَعُ إلَّا بِوُجُودِ كَمَالِ الشَّرْطِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قَالَ إذَا كَلَّمْت فُلَانًا وَفُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقَعُ إلَّا بِكَلَامِهِمَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَالُ الْكِتَابَةِ بَدَلًا مِنْ الْعِتْقِ لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يُوقِعَ الْعِتْقَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ خِلَافُ السُّنَّةِ وَالنَّظَرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَوْ أَنْ يُوقِعَهُ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَيَكُونَ بِمَنْزِلَةِ الْبِيَاعَاتِ الَّتِي لَا يُسْتَحَقُّ تَسْلِيمُهَا إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الثَّمَنِ فَثَبَتَ حِينَ لَمْ يَقَعْ بِالْعَقْدِ أَنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ وفاء
فقال على ابن أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ تُؤَدَّى كِتَابَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَيُعْتِقُ
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ وَالثَّوْرِيِّ والحسن ابن صَالِحٍ وَقَالُوا إنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً وَتَرَكَ وَلَدًا وافى كِتَابَتِهِ سَعَوْا فِيمَا عَلَى أَبِيهِمْ مِنْ النُّجُومِ وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ إنْ تَرَكَ وَلَدًا قَدْ دَخَلُوا فِي كِتَابَتِهِ سَعَوْا فِيهَا عَلَى النُّجُومِ وَعَتَقَ الْمُكَاتَبُ وَوَلَدُهُ وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ مَنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ فَقَدْ مَاتَ عَبْدًا لَا تُؤَدَّى كِتَابَتُهُ مِنْ مَالِهِ وَجَمِيعُ مَالِهِ لِلْمَوْلَى وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إذَا مَاتَ وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ فَقَدْ مَاتَ عَبْدًا لَا يَلْحَقُهُ عِتْقٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ جَمِيعَ مَالِهِ لِسَيِّدِهِ وَلَا تُؤَدَّى مِنْهُ كِتَابَتُهُ قال أبو بكر لا تخلوا الْكِتَابَةُ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي مَعْنَى الْأَيْمَانِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى شُرُوطٍ يُبْطِلُهَا مَوْتُ الْمَوْلَى أَوْ الْعَبْدِ أَيُّهُمَا كَانَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ يَمُوتُ الْمَوْلَى أَوْ الْعَبْدُ فَيَبْطُلُ الْيَمِينُ وَلَا يُعْتَقُ بِالشَّرْطِ أَوْ أَنْ تَكُونَ فِي مَعْنَى عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ الَّتِي لَا تُبْطِلُهَا الشُّرُوطُ فَلَمَّا كَانَ مَوْتُ الْمَوْلَى لَا يُبْطِلُ الْكِتَابَةَ وَيُعْتَقُ بِالْأَدَاءِ إلَى الْوَرَثَةِ وَجَبَ أَنْ لَا يُبْطِلَهُ مَوْتُ الْعَبْدِ أيضا مادام الْأَدَاءُ مُمْكِنًا وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ وَفَاءً فَتُؤَدَّى كِتَابَتُهُ مِنْ مَالِهِ وَيُحْكَمَ بِعِتْقِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ بِلَا فَصْلٍ فَإِنْ قِيلَ لَا يَصِحُّ
186
عِتْقُ الْمَيِّتِ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ قِيلَ لَهُ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً فَحُكْمُهُ مَوْقُوفٌ مُرَاعًى فَإِنْ أُدِّيَتْ كِتَابَتُهُ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ كَانَ حُرًّا قَبْلَ الْمَوْتِ بِلَا فَصْلٍ كَمَا أَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَصِحُّ مِنْهُ إيقَاعُ عِتْقٍ بَعْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ إذَا مَاتَ الْمَوْلَى فَأَدَّى الْمُكَاتَبُ الْكِتَابَةَ حَكَمْنَا بِعِتْقٍ مُوقَعٍ مِنْ جِهَةِ الْمَيِّتِ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لَهُ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي الْأُصُولِ نَظَائِرُ ذَلِكَ مِنْ كَوْنِ الشَّيْءِ مُرَاعًى عَلَى مَعْنَى مَتَى وُجِدَ حُكِمَ بِوُقُوعِهِ بِحَالٍ مُتَقَدِّمَةٍ مِثْلُ مَنْ جَرَحَ رَجُلًا فَيَكُونُ حُكْمُ جِرَاحَتِهِ مُرَاعًى فَلَوْ مَاتَ الْجَارِحُ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ مِنْ الْجِرَاحَةِ حَكَمْنَا بِأَنَّهُ كَانَ قَاتِلًا يَوْمَ الْجِرَاحَةِ مَعَ اسْتِحَالَةِ وُقُوعِ الْقَتْلِ مِنْهُ بعد موته وكما أن رَجُلًا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ ثم مات فوقعت فيها دابة لَحِقَهُ ضَمَانُهَا وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ فَلَوْ كَانَ تَرَكَ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ الْوَارِثُ ثُمَّ وَقَعَتْ فِيهَا دَابَّةٌ ضَمِنَ الْوَارِثُ قِيمَةَ الْعَبْدِ وَحَكَمْنَا فِي بَابِ الضَّمَانِ بِأَنَّ الْجِنَايَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً يَوْمَ الْمَوْتِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَتَرَكَ حَمْلًا فَوَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ وَرِثَهُ وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ كَانَ نُطْفَةً وَقْتَ مَوْتِهِ وَلَمْ يَكُنْ وَلَدًا ثُمَّ قَدْ حَكَمْنَا لَهُ بِحُكْمِ الْوَلَدِ حِينَ وَضَعَتْهُ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَأَلْفَ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَنَّهُمَا لَا يَرِثَانِهِ فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ عَنْ ابْنٍ ثُمَّ أَبْرَأَ الْغَرِيمَ مِنْ الدَّيْنِ أَخَذَ ابْنُ الْمَيِّتِ مِنْهَا حِصَّتَهُ مِيرَاثًا عَنْ أَبِيهِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِابْنَ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُ يَوْمَ الْمَوْتِ وَلَكِنَّهُ جُعِلَ فِي حُكْمِ الْمَالِكِ لِتَقَدُّمِ سَبَبِهِ كَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْمَوْتِ بِلَا فَصْلٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَقْتُولَ خَطَأً لَا تَجِبُ دِيَتُهُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ بَعْدَ الْمَوْتِ شَيْئًا فَجُعِلَتْ الدِّيَةُ فِي حُكْمِ مَا هُوَ مَالِكُهُ فِي بَابِ كَوْنِهَا مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ وأنه يقضى منها دينه وَتُنَفَّذُ مِنْهَا وَصَايَاهُ قَوْله تَعَالَى وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يَقُولُ لِجَارِيَتِهِ اذْهَبِي فَابْغِينَا شَيْئًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ الْآيَةَ وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ الْآيَةَ قَالَ لَهُنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الْمُكْرَهَةَ عَلَى الزِّنَا مَغْفُورٌ لَهَا مَا فَعَلَتْهُ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ كَمَا بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْكُفْرِ يُزِيلُ حُكْمَهُ إذَا أَظْهَرَهُ الْمُكْرَهُ عَلَيْهِ بِلِسَانِهِ وَإِنَّمَا قَالَ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لَوْ أَرَادَتْ الزِّنَا وَلَمْ تُرِدْ التَّحَصُّنَ ثُمَّ فَعَلَتْهُ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ الْإِكْرَاهِ وَهِيَ مُرِيدَةٌ لَهُ كَانَتْ آثِمَةً بِهَذِهِ الْإِرَادَةِ وَكَانَ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ زَائِلًا عَنْهَا فِي
187
الْبَاطِنِ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي الظَّاهِرِ وَكَذَلِكَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ وَهُوَ يَأْبَاهُ فِي الظَّاهِرِ إلَّا أَنَّهُ فَعَلَهُ مُرِيدًا لَهُ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَاهِ كَانَ كَافِرًا وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ أُكْرِهَ عَلَى أَنْ يَقُولَ اللَّهُ ثالث ثلاثة عَلَى أَنْ يَشْتُمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم فخطر بباله أن يقوله عَلَى وَجْهِ الْحِكَايَةِ
عَنْ الْكُفَّارِ أَوْ أَنْ يَعْتَقِدَ شَتْمَ مُحَمَّدٍ آخَرَ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَصْرِفْ قَصْدَهُ وَنِيَّتَهُ إلَى ذَلِكَ وَاعْتَقَدَ أَنْ يَقُولَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَانَ كَافِرًا
قَوْله تَعَالَى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَعَنْ أَنَسٍ هَادِي أَهْلِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنِ مُنَوِّرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِنُجُومِهَا وَشَمْسِهَا وَقَمَرِهَا وقَوْله تَعَالَى مَثَلُ نُورِهِ قَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَالضَّحَّاكُ الضَّمِيرُ عَائِدٌ على المؤمن في قوله نُورِهِ بِمَعْنَى مَثَلُ النُّورِ الَّذِي فِي قَلْبِهِ بِهِدَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَائِدٌ عَلَى اسْمِ اللَّهِ بِمَعْنَى مَثَلُ نُورِ اللَّهِ الَّذِي هَدَى بِهِ الْمُؤْمِنَ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا مَثَلُ نُورِهِ وَهُوَ طَاعَتُهُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وابن جريح الْمِشْكَاةُ الْكُوَّةُ الَّتِي لَا مَنْفَذَ لَهَا وَقِيلَ إنَّ الْمِشْكَاةَ عَمُودُ الْقِنْدِيلِ الَّذِي فِيهِ الْفَتِيلَةُ وَهُوَ مِثْلُ الْكُوَّةِ وَعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِقَلْبِ الْمُؤْمِنِ فَالْمِشْكَاةُ صَدْرُهُ وَالْمِصْبَاحُ الْقُرْآنُ وَالزُّجَاجَةُ قَلْبُهُ قَالَ فَهُوَ بَيْنَ أَرْبَعِ خِلَالٍ إنْ أُعْطِيَ شَكَرَ وَإِنْ اُبْتُلِيَ صَبَرَ وَإِنْ حَكَمَ عَدَلَ وَإِنْ قَالَ صَدَقَ وَقَالَ نُورٌ عَلى نُورٍ فَهُوَ يَنْقَلِبُ عَلَى خَمْسَةِ أَنْوَارٍ فَكَلَامُهُ نُورٌ وَعَمَلُهُ نُورٌ وَمَدْخَلُهُ نُورٌ وَمَخْرَجُهُ نُورٌ وَمَصِيرُهُ إلَى النُّورِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الْجَنَّةِ وَقِيلَ نُورٌ عَلى نُورٍ أَيْ نُورُ الْهُدَى إلَى تَوْحِيدِهِ عَلَى نُورِ الْهُدَى بِالْقُرْآنِ الَّذِي أَتَى بِهِ مِنْ عِنْدِهِ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ نُورٌ عَلى نُورٍ يُضِيءُ بَعْضُهُ بَعْضًا
قَوْله تَعَالَى فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها الْآيَةَ قِيلَ إنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَصَابِيحَ الْمُقَدَّمَ ذِكْرُهَا فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَقِيلَ تُوقَدُ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْبُيُوتُ هِيَ الْمَسَاجِدُ وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَالَ مُجَاهِدٌ أَنْ تُرْفَعَ مَعْنَاهُ تُرْفَعُ بِالْبِنَاءِ كَمَا قَالَ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وقال أن ترفع أن تعظم يذكره لِأَنَّهَا مَوَاضِعُ الصَّلَوَاتِ وَالذِّكْرِ وَرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَلَاةِ الضُّحَى فَقَالَ إنَّهَا لَفِي كِتَابِ اللَّهِ وَمَا يَغُوصُ عَلَيْهَا إلَّا غَوَّاصٌ ثُمَّ قَرَأَ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا مِنْ رَفْعِهَا بِالْبِنَاءِ وَمِنْ تَعْظِيمِهَا جَمِيعًا لِأَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ لِذِكْرِ اللَّهِ وَالصَّلَاةِ وَهَذَا
يدل على أنه يجب تنزيهها من العقود فِيهَا لِأُمُورِ الدُّنْيَا مِثْلُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَعَمَلِ الصِّنَاعَاتِ وَلَغْوِ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَالسَّفَهِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ
وَقَدْ وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَجَمِّرُوهَا فِي جُمَعِكُمْ وَضَعُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ
وقَوْله تَعَالَى يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ يُصَلَّى لَهُ فِيهَا بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُلُّ تَسْبِيحٍ فِي الْقُرْآنِ صَلَاةٌ
وقَوْله تَعَالَى رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَاَللَّهِ لقد كَانُوا يَتَبَايَعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ فَإِذَا حَضَرَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ بَدَءُوا بِحَقِّ اللَّهِ حَتَّى يَقْضُوهُ ثُمَّ عَادُوا إلَى تِجَارَتِهِمْ وَعَنْ عَطَاءٍ قَالَ شُهُودُ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ قَالَ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ وَرَأَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَقْوَامًا يَتَّجِرُونَ فَلَمَّا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ قَامُوا إلَيْهَا قَالَ هَذَا مِنْ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ
وقَوْله تَعَالَى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فإن التسبيح هو التنزيه لله تعالى عمالا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنْ الصِّفَاتِ فَجَمِيعُ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مُنَزَّهٌ لَهُ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ وَالْعُقَلَاءُ الْمُطِيعُونَ يُنَزِّهُونَهُ مِنْ جِهَةِ الِاعْتِقَادِ وَالْوَصْفِ لَهُ بِمَا يَلِيقُ بِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وقَوْله تَعَالَى كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ يَعْنِي صَلَاةَ مَنْ يُصَلِّي مِنْهُمْ فَاَللَّهُ يَعْلَمُهَا وَقَالَ مُجَاهِدٌ الصَّلَاةُ لِلْإِنْسَانِ وَالتَّسْبِيحُ لِكُلِّ شَيْءٍ
وقَوْله تَعَالَى وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ قِيلَ إنَّ مِنْ الْأُولَى لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِنْزَالِ مِنْ السَّمَاءِ وَالثَّانِيَةِ لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْبَرَدَ بَعْضُ الْجِبَالِ الَّتِي فِي السَّمَاءِ وَالثَّالِثَةِ لِتَبْيِينِ الْجِنْسِ إذْ كَانَ جِنْسُ تِلْكَ الْجِبَالِ جِنْسَ الْبَرَدِ
وقَوْله تَعَالَى وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ قِيلَ إنَّ أَصْلَ الْخَلْقِ مِنْ مَاءٍ ثُمَّ قُلِبَ إلَى النَّارِ فَخُلِقَ مِنْهُ الْجِنُّ ثُمَّ إلَى الرِّيحِ فَخُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْهَا ثُمَّ إلَى الطِّينِ فَخُلِقَ آدَم مِنْهُ وَذَكَرَ الَّذِي يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَاَلَّذِي يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَمْشِي عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ لِأَنَّهُ كَاَلَّذِي يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ فَتَرَكَ ذِكْرَهُ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ تَكْفِي بِذِكْرِ الْأَرْبَعِ.
بَابُ لُزُومِ الْإِجَابَةِ لِمَنْ دُعِيَ إلَى الْحَاكِمِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَلَى غيره حقا ودعاء إلَى الْحَاكِمِ فَعَلَيْهِ إجَابَتُهُ وَالْمَصِيرُ مَعَهُ إلَيْهِ لأن قوله
تعالى وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ مَعْنَاهُ إلَى حُكْمِ اللَّهِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَى الْحَاكِمَ فَادَّعَى عَلَى غَيْرِهِ حَقًّا أن على الحاكم أن يعدبه وَيُحْضِرُهُ وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَصَرُّفِهِ وَأَشْغَالِهِ
وَقَدْ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ حَدَّثَنَا إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شبيب قال حدثنا أبو بكر ابن شَيْبَةَ قَالَ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ الْأَغَرَّ الْجُهَنِيَّ قَالَ جِئْت أَسْتَعْدِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ لِي عَلَيْهِ شَطْرُ تَمْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَكْر اذْهَبْ مَعَهُ فَخُذْ لَهُ حَقَّهُ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا رَجَاءُ الْحَافِظُ قَالَ حَدَّثَنَا شَاهِينُ قَالَ حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ عن الحسن عن سمرة قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ دُعِيَ إلَى سُلْطَانٍ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لَا حَقَّ لَهُ
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدُوسٍ بْنُ كَامِلٍ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من دُعِيَ إلَى حَاكِمٍ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُجِبْ فَهُوَ ظَالِمٌ لَا حَقَّ لَهُ
وَحَدَّثَنَا عبد الباقي قال حدثنا محمد ابن بِشْرٍ أَخُو خَطَّابٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سِجِلٍّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حدرد قَالَ كَانَ لَيَهُودِيٍّ عَلَيَّ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ فَاسْتَعْدَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ إنَّ لِي عَلَى هَذَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَيْهَا فَقَالَ أَعْطِهِ حَقَّهُ قُلْت وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ نَبِيًّا مَا أَصْبَحْت أَقْدِرُ عَلَيْهَا قَالَ أَعْطِهِ حَقَّهُ فَأَعَدْت عليه فقال أعطه حقه فخرجت معه السُّوقِ فَكَانَتْ عَلَى رَأْسِي عِمَامَةٌ وَعَلَيَّ بُرْدَةٌ متزر بها فاتزرت بالعمامة وقال اشْتَرِ الْبُرْدَ فَاشْتَرَاهُ بِأَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ
فَهَذِهِ الْأَخْبَارُ مُوَاطِئَةٌ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ
وقَوْله تَعَالَى إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا تَأْكِيدٌ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ وُجُوبِ الْإِجَابَةِ إلَى الْحَكَمِ إذَا دُعُوا إلَيْهِ وَجُعِلَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَنْ دُعِيَ إلَى ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْإِجَابَةُ بِالْقَوْلِ بَدِيًّا بِأَنْ يَقُولَ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَصِيرُ مَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ
وقَوْله تَعَالَى وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ هَذِهِ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنْكُمْ بِالْقَوْلِ لَا بِالِاعْتِقَادِ يُخْبِرُ عَنْ كَذِبِهِمْ فِيمَا أَقْسَمُوا عَلَيْهِ وَقِيلَ إنَّ الْمَعْنَى طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ أَمْثَلُ مِنْ هَذَا الْقَسَمِ
وقَوْله تَعَالَى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ قَصَرَ ذَلِكَ عَلَى قوم بأعيانهم بقوله
مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ فَوُجِدَ مُخْبِرَهُ عَلَى مَا أُخْبِرَ بِهِ فِيهِمْ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَيْضًا لِأَنَّ اللَّهَ اسْتَخْلَفَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَمَكَّنَ لَهُمْ كَمَا جَاءَ الْوَعْدُ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِمْ مُعَاوِيَةُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا فِي ذَلِكَ الوقت.

باب اسْتِئْذَانُ الْمَمَالِيكِ وَالصِّبْيَانِ


قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ الآية وَرَوَى لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسُفْيَانَ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قالا هو في النساء خاصة وفي الرجال يَسْتَأْذِنُونَ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ هَذَا التَّأْوِيلَ قَالَ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يُطْلَقُ فِيهِنَّ الَّذِينَ إذَا انفردن وإنما يقال اللاتي كَمَا قَالَ تَعَالَى وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا يَجُوزُ إذَا عُبِّرَ بِلَفْظِ الْمَمَالِيكِ كَمَا أَنَّ النِّسَاءَ إذَا عُبِّرَ عَنْهُنَّ بِالْأَشْخَاصِ وَكَذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ تُذْكَرَ الْإِنَاثُ إذا عبرت عَنْهُنَّ بِلَفْظِ الْمَمَالِيكِ دُونَ النِّسَاءِ وَدُونَ الْإِمَاءِ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ وَالتَّأْنِيثَ يَتْبَعَانِ اللَّفْظِ كَمَا تَقُولُ ثَلَاثُ مَلَاحِفَ فَإِذَا عَبَّرْت بِالْأُزُرِ ذَكَّرْت فَقُلْت ثَلَاثَةُ أُزُرٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ من المماليك وليس العبيد لأن العبيد مأمورين بِالِاسْتِئْذَانِ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِالْأَمْرِ فِي الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى الْإِمَاءِ دُونَهُمْ إذْ كَانُوا مَأْمُورِينَ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ فَفِي هذه الأوقات الثلاثة أولى أن يكونوا مأمورون بِهِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ السَّرْحِ وَالصَّبَّاحُ بْنُ سُفْيَانَ وَابْنُ عَبْدَةَ وَهَذَا حَدِيثُهُ قَالَ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ سَمِعْته يَقُولُ لم يأمر بِهَا أَكْثَرُ النَّاسِ آيَةَ الْإِذْنِ وَإِنِّي لَآمُرُ جَارِيَتِي هَذِهِ تَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ عن عمر وبن أبى عمر وعن عِكْرِمَةَ أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ قَالُوا يَا ابْنَ عَبَّاسٍ كَيْفَ تَرَى هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي أُمِرْنَا فِيهَا بِمَا أُمِرْنَا وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ الآية إلى قوله عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسِ إنَّ اللَّهَ حَلِيمٌ رَحِيمٌ بِالْمُؤْمِنِينَ يُحِبُّ السَّتْرَ وَكَانَ النَّاسُ لَيْسَ لِبُيُوتِهِمْ سِتْرٌ وَلَا حِجَابٌ فَرُبَّمَا دَخَلَ الْخَادِمُ أَوْ الولد أو يتيمة الرجل على الرجل وأهله فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي تِلْكَ الْعَوْرَاتِ فَجَاءَهُمْ
191
الله بالستور والخير فلم أر أحد يَعْمَلُ بِذَلِكَ بَعْدُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَفِي بعض ألفاظ حديث ابن عَبَّاسٍ هَذَا وَهُوَ حَدِيثُ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ عن عمرو بن أبى عمر وفلما أَتَى اللَّهُ بِالْخَيْرِ وَاِتَّخَذُوا السُّتُورَ وَالْحِجَابَ رَأَى النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ كَفَاهُمْ مِنْ الِاسْتِئْذَانِ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ فَأَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ الْأَمْرَ بِالِاسْتِئْذَانِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِسَبَبٍ فَلَمَّا زَالَ السَّبَبُ زَالَ الْحُكْمُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرَ الْآيَةَ مَنْسُوخَةً وَأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ السَّبَبِ لَوْ عَادَ لَعَادَ الْحُكْمُ وَقَالَ الشُّعَبِيُّ أَيْضًا إنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ وَهَذَا نَحْوُ مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْمِيرَاثِ بِالْمُوَالَاةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ فَلَمَّا أَوْجَبَ التَّوَارُثَ بِالنَّسَبِ جَعَلَ ذَوِي الْأَنْسَابِ أَوْلَى مِنْ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ وَمَتَى فُقِدَ النَّسَبُ عَادَ مِيرَاثُ الْمُعَاقَدَةِ وَالْوَلَاءِ وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ أبناءهم الَّذِينَ عَقَلُوا وَلَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْ الْغِلْمَانِ وَالْجَوَارِي يَسْتَأْذِنُونَ عَلَى آبَائِهِمْ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ يَقِيلُونَ وَيَخْلُونَ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَهِيَ الْعَتَمَةُ فَإِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ اسْتَأْذَنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ إخْوَانُهُمْ إذَا كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً لَا يَدْخُلُونَ عَلَى آبَائِهِمْ إلَّا بِإِذْنٍ سَاعَةَ يَدْخُلُونَ أَيُّ سَاعَةٍ كَانَتْ وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قَالَ عَبِيدُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ قَالَ مِنْ أَحْرَارِكُمْ وَرُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ مِثْلُهُ وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ هَذَا التَّأْوِيلَ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْبَالِغَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ الْبَالِغِ فِي تَحْرِيمِ النَّظَرِ إلَى مَوْلَاتِهِ فَكَيْفَ يُجْمَعُ إلَى الصِّبْيَانِ الَّذِينَ هُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ قَالَ فَالْأَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعَبِيدَ الصِّغَارَ وَالْإِمَاءَ وَصِغَارَنَا الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مما ملكت أيمانكم وقال سعيد ابن جُبَيْرٍ وَالشُّعَبِيُّ هَذَا مِمَّا تَهَاوَنَ بِهِ النَّاسُ وَمَا نُسِخَتْ وَقَالَ أَبُو قلابة لَيْسَ بِوَاجِبٍ وهو كقوله تعالى وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ يَسْتَأْذِنُ عِنْدَ كُلِّ عَوْرَةٍ ثُمَّ هُوَ طَوَّافٌ بَعْدَهَا يَعْنِي أَنَّهُ يَسْتَأْذِنُ عِنْدَ أَوْقَاتِ الْخَلْوَةِ وَالتَّفَضُّلِ فِي الثِّيَابِ وَطَرْحِهَا وَهُوَ طَوَّافٌ بَعْدَهَا لِأَنَّهَا أَوْقَاتُ السَّتْرِ وَلَا يَسْتَطِيعُ الْخَادِمُ وَالْغُلَامُ
وَالصَّبِيُّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الدخول كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْهِرَّةِ إنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ
وَالطَّوَّافَاتِ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهَا وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعُمَرَ أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي قَالَ نَعَمْ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مسعود.
192
(فَصْلُ) قَوْله تَعَالَى وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ حَدَّ البلوغ خمس عشرة سنة إذا لَمْ يَحْتَلِمْ قَبْلَ ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ بَلَغَهَا وَبَيْنَ مَنْ قَصُرَ عَنْهَا بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ قَدْ بَلَغَ الْحُلُمَ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ
وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ بَلَغَ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهَا وَأَمَّا
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عُرِضَ عَلَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَلَهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمْ يُجَزْ وَعُرِضَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَلَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَهُ
فَإِنَّهُ مُضْطَرِبٌ لِأَنَّ الْخَنْدَقَ كَانَ فِي سَنَةِ خَمْسٍ وَأُحُدٌ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ فَكَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا سَنَةٌ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِجَازَةَ فِي الْقِتَالِ لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِالْبُلُوغِ لِأَنَّهُ قَدْ يُرَدُّ الْبَالِغُ لِضَعْفِهِ وَيُجَازُ غَيْرُ الْبَالِغِ لِقُوَّتِهِ عَلَى الْقِتَالِ وَطَاقَتِهِ لِحَمْلِ السِّلَاحِ كَمَا أَجَازَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ وَرَدَّ سَمُرَةَ بْنَ جندب فلما قيل له إنه يصرعه أمر هما فَتَصَارَعَا فَصَرَعَهُ سَمُرَةَ فَأَجَازَهُ وَلَمْ يَسْأَلْهُ عَنْ سِنِّهِ وَأَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَسْأَلْ ابْنَ عُمَرَ عَنْ مَبْلَغِ سِنِّهِ فِي الْأَوَّلِ وَلَا فِي الثَّانِي وَإِنَّمَا اعتبر حاله فِي قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ فَاعْتِبَارُ السِّنِّ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَهُ فِي وَقْتٍ وَرَدَّهُ فِي وَقْتٍ سَاقِطٌ وَقَدْ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الِاحْتِلَامَ بُلُوغٌ وَاخْتَلَفُوا إذَا بَلَغَ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً وَلَمْ يَحْتَلِمْ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَكُونُ الْغُلَامُ بَالِغًا حَتَّى يَبْلُغَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَيَسْتَكْمِلَهَا وَفِي الْجَارِيَةِ سَبْعَ عَشَرَةَ سَنَةً وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَذَهَبُوا فيه إلى حديث ابن عمر وقد بينا أنه لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهَا حَدُّ الْبُلُوغِ ويدل عليه أنه لم يسئله عَنْ الِاحْتِلَامِ وَلَا عَنْ السِّنِّ وَلَمَّا ثَبَتَ بِمَا وَصَفْنَا أَنَّ الْخَمْسَ عَشَرَةَ لَيْسَتْ بِبُلُوغٍ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ يَنْفِي أَيْضًا أَنْ تَكُونَ الْخَمْسَ عَشَرَةَ بُلُوغًا عَلَى الْحَدِّ الَّذِي بَيَّنَّا صَارَ طَرِيقُ إثْبَاتِ حَدِّ الْبُلُوغِ بَعْدَ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ لِأَنَّهُ حَدٌّ بَيْنَ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ الَّذِينَ قَدْ عَرَفْنَا طَرِيقَهُمَا وَهُوَ وَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ وَلَيْسَ يَتَوَجَّهُ عَلَى الْقَائِلِ بِمَا وَصَفْنَا سُؤَالٌ كَالْمُجْتَهِدِ فِي تَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَا تَوْقِيفَ فِي مَقَادِيرِهَا وَمُهُورِ الْأَمْثَالِ وَنَحْوِهَا فَإِنْ قِيلَ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُهُ لِهَذَا الْمِقْدَارِ دُونَ غَيْرِهِ لِضَرْبٍ مِنْ التَّرْجِيحِ عَلَى غَيْرِهِ يُوجِبُ تَغْلِيبَ ذَلِكَ فِي رَأْيِهِ دُونَ مَا عَدَاهُ مِنْ الْمَقَادِيرِ قِيلَ لَهُ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْعَادَةَ فِي الْبُلُوغِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَكُلُّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الْعَادَاتِ فَقَدْ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِيهِ وَالنُّقْصَانُ مِنْهُ وَقَدْ وَجَدْنَا مَنْ بَلَغَ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وقد بينا «١٣- أحكام مس»
193
أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ الْخَمْسَ عَشْرَةَ جَائِزَةٌ كَالنُّقْصَانِ عَنْهُ فَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمُعْتَادِ كَالنُّقْصَانِ عَنْهُ وَهِيَ ثَلَاثُ سِنِينَ كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَعَلَ الْمُعْتَادَ مِنْ حَيْضِ النِّسَاءِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا
بِقَوْلِهِ لحمنة بِنْتَ جَحْشٍ تَحِيضِينَ فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ فِي كُلِّ شَهْرٍ
اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْعَادَةُ سِتًّا وَنِصْفًا لِأَنَّهُ جَعَلَ السَّابِعَ مَشْكُوكًا فِيهِ بِقَوْلِهِ سِتًّا أَوْ سَبْعًا ثُمَّ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ النُّقْصَانَ عَنْ الْمُعْتَادِ ثَلَاثٌ وَنِصْفٌ لِأَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ عِنْدَنَا ثَلَاثٌ وَأَكْثَرَهُ عَشْرَةٌ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْمُعْتَادِ بِإِزَاءِ النُّقْصَانِ مِنْهُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ اعْتِبَارُ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُعْتَادِ فِيمَا وَصَفْنَا وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً لِلْغُلَامِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى اسْتِكْمَالِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ والدخول في التاسع عشرة واختلف في الإنبات هَلْ يَكُونُ بُلُوغًا فَلَمْ يَجْعَلْهُ أَصْحَابُنَا بُلُوغًا وَالشَّافِعِيُّ يَجْعَلُهُ بُلُوغًا وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ينفى أن يكون الإنبات بُلُوغًا إذَا لَمْ يَحْتَلِمْ كَمَا نَفَى كَوْنَ خَمْسَ عَشْرَةَ بُلُوغًا وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ
وَهَذَا خَبَرٌ مَنْقُولٌ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِفَاضَةِ قَدْ اسْتَعْمَلَهُ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ فِي رَفْعِ حُكْمِ الْقَلَمِ عَنْ الْمَجْنُونِ وَالنَّائِمِ وَالصَّبِيِّ وَاحْتَجَّ مَنْ جَعَلَهُ بُلُوغًا
بِحَدِيثِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَطِيَّةَ الْقُرَظِيّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِقَتْلِ مَنْ أَنْبَتَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَاسْتَحْيَا مَنْ لَمْ يُنْبِتْ قَالَ فَنَظَرُوا إلَيَّ فَلَمْ أَكُنْ أَنْبَتُّ فَاسْتَبْقَانِي
وَهَذَا حَدِيثٌ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الشَّرْعِ بِمِثْلِهِ إذْ كَانَ عَطِيَّةُ هَذَا مَجْهُولًا لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ هَذَا الْخَبَرِ لَا سِيَّمَا مَعَ اعْتِرَاضِهِ عَلَى الْآيَةِ وَالْخَبَرِ فِي نَفْيِ الْبُلُوغِ إلَّا بِالِاحْتِلَامِ وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ مُخْتَلِفُ الْأَلْفَاظِ فَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِيُ وَفِي بعضها من اخضر أزره ومعلوم أن لَا يَبْلُغُ هَذِهِ الْحَالَ إلَّا وَقَدْ تَقَدَّمَ بُلُوغِهِ وَلَا يَكُونُ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِيُ إلا وهو رجل كبير فجعل الإنبات وَجَرْيَ الْمَوَاسِيِ عَلَيْهِ كِنَايَةً عَنْ بُلُوغِ الْقَدْرِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي السِّنِّ وَهِيَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ وَأَكْثَرُ وَرُوِيَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ أَنَّهُمَا قَسَمَا فِي الْغَنِيمَةِ لِمَنْ نبت وَهَذَا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمَا رَأَيَا الْإِنْبَاتَ بُلُوغًا لِأَنَّ الْقِسْمَةَ جَائِزَةٌ لِلصِّبْيَانِ عَلَى وَجْهِ الرَّضْخِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ السلف شيء في اعتبار طول الإنسان ولم يَأْخُذْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ أَتَى أَبُو بَكْرٍ بِغُلَامٍ قَدْ سَرَقَ فَأَمَرَهُ فَشُبِرَ فَنَقَصَ أُنْمُلَةً فَخَلَّى عَنْهُ
وَرَوَى قَتَادَةَ عَنْ خِلَاسٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ إذَا بَلَغَ الْغُلَامُ خَمْسَةَ أَشْبَارٍ فَقَدْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ الْحُدُودُ وَيُقْتَصُّ لَهُ وَيُقْتَصُّ مِنْهُ وَإِذَا اسْتَعَانَهُ رِجْلٌ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهِ لَمْ يَبْلُغْ خَمْسَةَ أَشْبَارٍ
194
فَهُوَ ضَامِنٌ
وَرَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَتَى بِوَصِيفٍ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ قَدْ سَرَقَ فَقَطَعَهُ ثُمَّ حَدَثَ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إلَيْهِ فِي غُلَامٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ اشْبِرْهُ فَشَبَرَهُ فَنَقَصَ أُنْمُلَةً فَسُمِّيَ نُمَيْلَةُ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذِهِ أَقَاوِيلُ شَاذَّةٌ بِأَسَانِيدَ ضَعِيفَةٍ تَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ إذْ الطُّولُ وَالْقِصَرُ لَا يَدُلَّانِ عَلَى بُلُوغٍ وَلَا نَفْيِهِ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ قَصِيرًا وَلَهُ عِشْرُونَ سنة وقد يكون طويلا ولم يَبْلُغُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَمْ يَحْتَلِمْ وَقَوْلُهُ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ وَقَدْ عَقَلَ يُؤْمَرُ بِفِعْلِ الشَّرَائِعِ وَيُنْهَى عَنْ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ عَلَى جِهَةِ التَّعْلِيمِ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاسْتِئْذَانِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ الْجُهَنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَلَغَ الْغُلَامُ سَبْعَ سِنِينَ فَمُرُوهُ بِالصَّلَاةِ وَإِذَا بَلَغَ عشرا فاضربوه عليها
وروى عمر وبن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا إذَا بَلَغُوا عَشْرًا وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ حَافِظُوا عَلَى أَبْنَائِكُمْ فِي الصَّلَاةِ وَرَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ يُعَلَّمُ الصَّبِيُّ الصَّلَاةَ إذَا عَرَفَ يَمِينَهُ مِنْ شِمَالِهِ
وَرَوَى حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ يَأْمُرُ الصِّبْيَانَ أَنْ يُصَلُّوا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعًا فَيُقَالُ لَهُ يُصَلُّونَ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ وَقْتِهَا فَيَقُولُ هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَنَاهَوْا عَنْهَا
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بَنِيهِ بِالصَّلَاةِ إذا عقلوها وبالصوم إذا طاقوه وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ عَشْرَ سِنِينَ كُتِبَتْ لَهُ الْحَسَنَاتُ وَلَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ حَتَّى يَحْتَلِمَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ إنَّمَا يُؤْمَرُ بِذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ وَلِيَعْتَادَهُ وَيَتَمَرَّنَ عَلَيْهِ فَيَكُونَ أَسْهَلَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَأَقَلَّ نُفُورًا مِنْهُ وَكَذَلِكَ يُجَنَّبُ شُرْبَ الْخَمْرِ وَأَكْلَ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَيُنْهَى عَنْ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُؤْمَرْ بِذَلِكَ فِي الصِّغَرِ وَخُلِّيَ وَسَائِرُ شَهَوَاتِهِ وَمَا يُؤْثِرُهُ وَيَخْتَارُهُ يَصْعُبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ الْإِقْلَاعُ عَنْهُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَكَمَا يُنْهَى عَنْ اعْتِقَادِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَإِظْهَارِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا كَذَلِكَ حُكْمُ الشَّرَائِعِ
وقَوْله تَعَالَى وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ الْآيَةَ يَعْنِي أَنَّ الْأَطْفَالَ إذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ فَعَلَيْهِمْ الِاسْتِئْذَانُ فِي سَائِرَ الْأَوْقَاتِ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَهُمْ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْله تَعَالَى لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها وفيه
دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الِاحْتِلَامَ بُلُوغٌ وَقَوْلُهُ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ يَعْنِي بَعْدَ هَذِهِ الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ جَائِزٌ لِلْإِمَاءِ وَاَلَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ أَنْ يَدْخُلُوا بِغَيْرِ استئذان إذ كانت الأوقات الثلاث هي حَالُ التَّكَشُّفِ وَالْخَلْوَةِ وَمَا بَعْدَهَا حَالُ السِّتْرِ وَالتَّأَهُّبِ لِدُخُولِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الِاسْتِئْذَانُ فِي كُلِّ وَقْتٍ لِكَثْرَةِ دُخُولِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ وَهُوَ معنى طوافون عليكم بعضكم على بعض.
فِي اسْمِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ
قَوْله تَعَالَى وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ
روى عن عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَا تَغْلِبَنَّكُمْ الْأَعْرَابُ عَلَى اسْمِ صَلَاتِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قال وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ
وَإِنَّ الْأَعْرَابَ يُسَمُّونَهَا الْعَتَمَةَ وَإِنَّمَا الْعَتَمَةُ عَتَمَةُ الْإِبِلِ لِلْحِلَابِ
وقَوْله تَعَالَى وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً الْآيَةَ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْقَوَاعِدُ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا هُنَّ اللَّاتِي لَا يُرِدْنَهُ وَثِيَابُهُنَّ جَلَابِيبُهُنَّ وَقَالَ إبْرَاهِيمُ وَابْنُ جُبَيْرٍ الرِّدَاءُ وَقَالَ الْحَسَنُ الْجِلْبَابُ وَالْمِنْطَقُ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ يَضَعْنَ الْخِمَارَ وَالرِّدَاءَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ شَعْرَ الْعَجُوزِ عَوْرَةٌ لَا يَجُوزُ لِلْأَجْنَبِيِّ النَّظَرُ إلَيْهِ كَشَعْرِ الشَّابَّةِ وَأَنَّهَا إنْ صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ كَانَتْ كَالشَّابَّةِ فِي فَسَادِ صَلَاتِهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَضْعَ الْخِمَارِ بِحَضْرَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ تَضَعَ خِمَارَهَا فِي الْخَلْوَةِ بِحَيْثُ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ قِيلَ لَهُ فَإِذًا لَا مَعْنَى لِتَخْصِيصِ الْقَوَاعِدِ بِذَلِكَ إذْ كَانَ لِلشَّابَّةِ أَنْ تَفْعَلَ ذَلِكَ فِي خَلْوَةٍ وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا أَبَاحَ لِلْعَجُوزِ وَضْعَ رِدَائِهَا بَيْنَ يَدَيْ الرِّجَالِ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ مُغَطَّاةَ الرَّأْسِ وَأَبَاحَ لَهَا بِذَلِكَ كَشْفَ وَجْهِهَا وَيَدِهَا لِأَنَّهَا لَا تُشْتَهَى وَقَالَ تَعَالَى وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ فَأَبَاحَ لَهَا وَضْعَ الْجِلْبَابِ وَأَخْبَرَ أَنَّ الِاسْتِعْفَافَ بِأَنْ لَا تَضَعَ ثِيَابَهَا أَيْضًا بَيْنَ يَدَيْ الرِّجَالِ خَيْرٌ لَهَا
وقَوْله تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ الْآيَةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي تَأْوِيلِهِ وَسَبَبِ نُزُولِهِ فَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ محمد بن الحكم قال حدثنا جعفر بن محمد ابْنُ الْيَمَانِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن على ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ قَالَ الْمُسْلِمُونَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ
196
وَإِنَّ الطَّعَامَ مِنْ أَفْضَلِ أَمْوَالِنَا وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ فَكَفَّ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ الْآيَةَ فَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَاتِ وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ كَانَ رِجَالٌ زَمْنَى وَعُمْيَانٌ وَعُرْجَانٌ وَأُولُو حَاجَةٍ يَسْتَتْبِعُهُمْ رِجَالٌ إلَى بُيُوتِهِمْ فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا لَهُمْ طَعَامًا ذَهَبُوا بِهِمْ إلَى بُيُوتِ آبَائِهِمْ وَمَنْ مَعَهُمْ فَكَرِهَ الْمُسْتَتْبِعُونَ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ الْآيَةَ وَأُحِلَّ لَهُمْ الطَّعَامُ حَيْثُ وَجَدُوهُ مِنْ ذلك فهذا تأويل ثان وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عُبَيْدٍ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ قُلْت لِلزُّهْرِيِّ مَا بال الأعمى والأعرج والمريض ذكروا هاهنا فَقَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إذَا غَزَوْا خلفوا زمناهم في بيوتهم ودفعوا إلَيْهِمْ الْمَفَاتِيحَ وَقَالُوا قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْهَا فَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ لَا نَدْخُلُهَا وَهُمْ غُيَّبٌ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لَهُمْ فَهَذَا تَأْوِيلٌ ثَالِثٌ وَرُوِيَ فِيهِ تَأْوِيلٌ رَابِعٌ وَهُوَ مَا رَوَى سُفْيَانُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ مِقْسَمٍ قَالَ كَانُوا يَمْتَنِعُونَ أَنْ يَأْكُلُوا مَعَ الْأَعْمَى وَالْمَرِيضِ وَالْأَعْرَجِ لِأَنَّهُ لَا يَنَالُ مَا يَنَالُ الصَّحِيحُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ هَذَا التَّأْوِيلَ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ حَرَجٌ فِي مُؤَاكَلَةِ الْأَعْمَى وَإِنَّمَا أَزَالَ الْحَرَجَ عَنْ الْأَعْمَى وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ فِي الْأَكْلِ فَهَذَا فِي الْأَعْمَى إذَا أَكَلَ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ السَّلَفِ وَإِنْ كَانَ تَأْوِيلُ مِقْسَمٍ مُحْتَمَلًا عَلَى بُعْدٍ في الكلام وتأويل ابن عباس ظاهره لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا تِجَارَةً وَامْتَنَعُوا مِنْ الْأَكْلِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ إبَاحَةَ ذَلِكَ وَأَمَّا تَأْوِيلُ مُجَاهِدٍ فَهُوَ سَائِغٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَدْ كَانَتْ الْعَادَةُ عِنْدَهُمْ بَذْلَ الطَّعَامِ لِأَقْرِبَائِهِمْ وَمَنْ مَعَهُمْ فَكَانَ جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِهِ كَالنُّطْقِ بِهِ فَأَبَاحَ اللَّهُ لِلْأَعْمَى وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ إذَا اسْتَتْبَعُوا أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ مَنْ اتَّبَعُوهُمْ وَبُيُوتِ آبَائِهِمْ وَالثَّانِي أَنَّ ذَلِكَ فِيمَنْ كَانَ بِهِ ضَرُورَةٌ إلَى الطَّعَامِ وَقَدْ كَانَتْ الضِّيَافَةُ وَاجِبَةً فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ لِأَمْثَالِهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ القدر مستحقا من ما لهم لِهَؤُلَاءِ فَلِذَلِكَ أُبِيحَ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْهُ مقدار الحاجة بغير إن وَقَالَ قَتَادَةُ إنْ أَكَلْت مِنْ بَيْتِ صَدِيقِك بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا بَأْسَ لِقَوْلِهِ أَوْ صَدِيقِكُمْ وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا دَخَلَ عَلَى الْحَسَنِ فَرَأَى سُفْرَةً مُعَلَّقَةً فَأَخَذَهَا وَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهَا فَبَكَى
197
الْحَسَنُ فَقِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيك فَقَالَ ذَكَرْت بِمَا صَنَعَ هَذَا إخْوَانًا لِي مَضَوْا يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْبَسِطُونَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَلَا يَسْتَأْذِنُونَ وَهَذَا أَيْضًا عَلَى مَا كَانَتْ الْعَادَةُ قَدْ جَرَتْ بِهِ مِنْهُمْ فِي مِثْلِهِ وقَوْله تَعَالَى وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ مِنْ الْبُيُوتِ الَّتِي هُمْ سُكَّانُهَا وَهُمْ عِيَالُ غَيْرِهِمْ فِيهَا مِثْلُ أَهْلِ الرَّجُلِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ وَمَنْ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مَنْزِلُهُ فَيَأْكُلُ مِنْ بَيْتِهِ وَنَسَبَهَا إلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ سُكَّانُهَا وَإِنْ كَانُوا فِي عِيَالِ غَيْرِهِمْ وَهُوَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْإِبَاحَةَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إذْ كَانَ ظَاهِرُ الْخِطَابِ وَابْتِدَاؤُهُ فِي إبَاحَةِ الْأَكْلِ لِلْإِنْسَانِ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ وَقَالَ اللَّهُ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ فَأَبَاحَ الْأَكْلَ مِنْ بُيُوتِ هَؤُلَاءِ الْأَقْرِبَاءِ ذَوِي الْمَحَارِمِ بِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِبَذْلِ الطَّعَامِ لِأَمْثَالِهِمْ وَفَقْدِ التَّمَانُعِ فِي أَمْثَالِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَكْلَ فِي بُيُوتِ الْأَوْلَادِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ قَدْ أَفَادَهُ لِأَنَّ مَالَ الرَّجُلِ مَنْسُوبٌ إلَى أَبِيهِ
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك
وَقَالَ إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ
فَاكْتَفَى بِذِكْرِ بُيُوتِ أَنْفُسِكُمْ عَنْ ذِكْرِ بُيُوتِ الْأَوْلَادِ إذْ كَانَتْ مَنْسُوبَةً إلَى الْآبَاءِ وقَوْله تَعَالَى أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أو ما ملكتم مفاتحه قال هو الرجل يؤكل الرَّجُلَ بِصَنْعَتِهِ يُرَخَّصُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامِ وَالثَّمَرِ وَيَشْرَبَ مِنْ ذَلِكَ اللَّبَنِ وَعَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ قَالَ إذَا مَلَكَ الْمِفْتَاحَ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَطْعَمَ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ وَرَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ قال كان الرَّجُلُ لَا يُضَيِّفُ أَحَدًا وَلَا يَأْكُلُ مِنْ بَيْتِ غَيْرِهِ تَأَثُّمًا مِنْ ذَلِكَ وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ رَخَّصَ اللَّهُ لَهُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ رَخَّصَ لِلنَّاسِ عَامَّةً فَقَالَ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ- إلى قوله- أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ مِمَّا عِنْدَك يَا ابْنَ آدَمَ أَوْ صَدِيقِكُمْ وَلَوْ دَخَلْت عَلَى صَدِيقٍ فَأَكَلْت مِنْ طَعَامِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ ذَلِكَ حَلَالًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا أَيْضًا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْإِذْنِ فِيهِ فَيَكُونُ الْمُعْتَادُ مِنْ ذَلِكَ كَالْمَنْطُوقِ بِهِ وَهُوَ مِثْلُ مَا تَتَصَدَّقُ بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا بِالْكِسْرَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانِهَا إيَّاهُ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ أَنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ مِثْلِهِ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ يَدْعُوَانِ إلَى طَعَامِهِمَا وَيَتَصَدَّقَانِ بِالْيَسِيرِ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمَا فَيَجُوزُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى وَقَوْلُهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ
198
رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا الرَّجُلُ الْمُسْلِمُ بِأَحَقَّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ الرصافي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ مِنْ أَخِيهِ وَرَوَى إِسْحَاقُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنَا الرصافي قَالَ كُنَّا عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ يَوْمًا فَقَالَ هَلْ يُدْخِلُ أَحَدُكُمْ يَدَهُ في كم أخيه أو كيسه فَيَأْخُذُ مَالَهُ قُلْنَا لَا قَالَ مَا أَنْتُمْ بِإِخْوَانٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ قَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ سَرَقَ مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِإِبَاحَةِ اللَّهِ لَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأَكْلَ مِنْ بُيُوتِهِمْ وَدُخُولِهَا مِنْ غَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَا يَكُونُ مَالُهُ مُحَرَّزًا مِنْهُمْ فَإِنْ قِيلَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقْطَعَ إذا سرق من صديقه لأن في الْآيَةِ إبَاحَةَ الْأَكْلِ مِنْ طَعَامِهِ قِيلَ لَهُ مَنْ أَرَادَ سَرِقَةَ مَالِهِ لَا يَكُونُ صَدِيقًا لَهُ وَقَدْ قِيلَ إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَيْسَ فِي ذَلِكَ مَا يُوجِبُ نَسْخَهُ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِيمَنْ ذُكِرَ فِيهَا وَقَوْلُهُ لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ فِي سَائِرِ النَّاسِ غَيْرِهِمْ وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ
وقَوْله تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً رَوَى سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كِنَانَةَ بَنِي خُزَيْمَةَ يَرَى أَحَدُهُمْ أنه محرم عليه أن لا يَأْكُلَ وَحْدَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ لَيَسُوقُ الذَّوْدَ الْحُفَّلَ وَهُوَ جَائِعٌ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُؤَاكِلُهُ وَيُشَارِبُهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً
وَرَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَحْشِيٍّ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا إنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ قَالَ فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُبَارِكْ لَكُمْ فِيهِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً الْمَعْنَى يَأْكُلُ مَعَ الْفَقِيرِ فِي بَيْتِهِ وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ كَانَ إذَا نَزَلَ بِهِمْ ضَيْفٌ تَحَرَّجُوا أَنْ يَأْكُلُوا إلَّا مَعَهُ وَقِيلَ إنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَخَافُ إنْ أَكَلَ مَعَ غَيْرِهِ أَنْ يَزِيدَ أَكْلُهُ عَلَى أَكْلِ صَاحِبِهِ فَامْتَنَعُوا لِأَجْلِ ذَلِكَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الطَّعَامِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَذَا تَأْوِيلٌ مُحْتَمَلٌ وَقَدْ دَلَّ على هذا المعنى قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فَأَبَاحَ لَهُمْ أَنْ يَخْلِطُوا طَعَامَ الْيَتِيمِ بِطَعَامِهِمْ فَيَأْكُلُوهُ جَمِيعًا وَنَحْوُهُ قَوْلُهُ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ فَكَانَ الْوَرِقُ لَهُمْ جَمِيعًا وَالطَّعَامُ بَيْنَهُمْ فاستجازوا أَكْلَهُ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
199
مُرَادُهُ أَنْ يَأْكُلُوا جَمِيعًا طَعَامًا بَيْنَهُمْ وَهِيَ الْمُنَاهَدَةُ الَّتِي يَفْعَلُهَا النَّاسُ فِي الْأَسْفَارِ وقَوْله تَعَالَى فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الْحَسَنِ فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ يُسَلِّمُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ وروى معمر عن عمرو ابن دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ هُوَ الْمَسْجِدُ إذَا دَخَلْته فَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّه الصَّالِحِينَ وَقَالَ نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَ بَيْتًا لَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَإِذَا كَانَ فِيهِ أَحَدٌ قَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ بِسْمِ اللَّهِ السلام عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال الزهري فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ إذَا دَخَلْت بَيْتَك فَسَلِّمْ عَلَى أَهْلِك فَهُمْ أَحَقُّ مَنْ سَلَّمْت عَلَيْهِ وَإِذَا دَخَلْت بَيْتًا لَا أَحَدَ فِيهِ فَقُلْ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عباد الله الصالحين فإنه كان يأمر بِذَلِكَ حَدَّثَنَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَرُدُّ عَلَيْهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِسَائِرِ الوجوه تَأَوَّلَهُ السَّلَفُ عَلَيْهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُرَادًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ وقَوْله تَعَالَى تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً يَعْنِي أَنَّ السَّلَامَ تَحِيَّةٌ مِنْ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ وَهِيَ مُبَارَكَةٌ طَيِّبَةٌ لِأَنَّهُ دعاء بالسلام فَيَبْقَى أَثَرُهُ وَمَنْفَعَتُهُ وَفِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها قَدْ أُرِيدَ بِهِ السَّلَامُ
وقَوْله تَعَالَى وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ قَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي الْجِهَادِ وَقَالَ عَطَاءٌ فِي كُلِّ أَمْرٍ جَامِعٍ وَقَالَ مَكْحُولٌ فِي الْجُمُعَةِ وَالْقِتَالِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ الْجُمُعَةُ وَقَالَ قَتَادَةُ كُلُّ أَمْرٍ هُوَ طَاعَةٌ لِلَّهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لعموم اللفظ وقال سعيد عن قتادة إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ الْآيَةَ قَالَ كَانَ اللَّهُ أَنْزَلَ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فَرَخَّصَ لَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فَنُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ وَقَدْ قِيلَ إنَّهُ لَا مَعْنَى لِلِاسْتِئْذَانِ لِلْمُحْدِثِ فِي الْجُمُعَةِ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِمُقَامِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ مَنْعُهُ فَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِئْذَانِ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَحْتَاجُ الْإِمَامُ فِيهِ إلَى مَعُونَتِهِمْ فِي الْقِتَالِ أَوْ الرَّأْيِ
وقَوْله تَعَالَى لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ يَعْنِي احْذَرُوا إذَا أَسْخَطْتُمُوهُ دُعَاءَهُ عَلَيْكُمْ فَإِنَّ دُعَاءَهُ مُجَابٌ لَيْسَ كَدُعَاءِ غَيْرِهِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ اُدْعُوهُ بِالْخُضُوعِ وَالتَّعْظِيمِ نَحْوِ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَلَا تَقُولُوا يَا مُحَمَّدُ كَمَا يَقُولُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهُمَا وقَوْله تَعَالَى قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً يَعْنِي بِهِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا
Icon