تفسير سورة السجدة

اللباب
تفسير سورة سورة السجدة من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة السجدة
مكية١، وهي ثلاث وثلاثون آية وستمائة وثمانون كلمة، وألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفاً.
١ هذا بإجماعهم. وقد نقل ابن الجوزي في زاد المسير أن الكلبي قال: فيها من المدني ثلاث آيات.
وقال مقاتل: فيها آية مدنية، وقال غيرهما: فيها خمس آيات مدنيات، وانظر: زاد المسير ٦/٣٣٢..

مكية، وهي ثلاث وثلاثون آية وستمائة وثمانون كلمة، وألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله: ﴿الم تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾.
في «تنزيل» خمسة أوجه:
أحدها: أنه خبر «الم»، (لأن الم) يراد به السورة وبعض القرآن، و «تَنْزِيلُ» بمعنى منزل، والجملة من قوله: ﴿لاَ رَيْبَ فِيهِ﴾ حال من «الكِتَابِ». والعامل فيها «تَنْزِيلُ»
470
لأنه مصدر. و «مِنْ رَبِّ» متعلق به أيضاً. ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «فِيهِ» ؛ لوقوعه خبراً، والعامل فيه الظرف، أو الاستقرار.
الثاين: أن يكون «تَنْزِيلُ» مبتدأ و ﴿لا ريب فيه﴾ خبره. «وَمِنْ رَبِّ» حال من الضمير في «فيه» ولا يجوز حينئذ أن يتعلق ب «تنزيل» ؛ لأن المصدر قد أخبر عنه فلا يعمل. ومن يتسع في الجار لا يبالي بذلك.
الثالث: أن يكون «تنزيل» مبتدأ أيضاً و «من رب» خبره، و «لا ريب» حال من مُعْتَرِض.
الرابع: أن يكون «لا ريب» و «من رب العالمين» خبرين ل «تَنْزِلُ».
الخامس: أن يكون «تَنْزيلُ» خبر مبتدأ (مضمر)، وكذلك «لا ريب»، وكذلك «من رب» فتكون كل جملة مستقلة برأسها.
ويجوز أن يكون حالين من «تنزيل»، وأن يكون «من رب» هو الحال و «لا ريب» معترض وأول البقرة مرشد لهذا.
وجوز ابن عطية أي يكون ﴿مِن رَّبِّ العالمين﴾ متعلقاً ب «تنزيل». قال: على التقديم والتأخير. ورده أبو حيان: بأنا إذا قلنا: ﴿لاَ رَيْبَ فيه﴾ اعتراض لم يكن تقديماً وتأيخراً بل لو تأخر لم يكن اعتراضاً. وجوز أيضاً أن يكون متعلقاً بلا ريب فيه من جهة رب العالمين وإن وقع شك الكفرة فذاك لا يراعى، قال مقاتل: لا شك فيه أنه تنزيل من رب العالمين.
قوله: «أَمْ يَقُولُونَ» هي المنقطعة، والإضراب للانتقال لا للإبطال، وقيل: الميم صلة أي أَيَقُولُونَ افْتَرَاهُ.
وقيل: فيه إضمار مجازه فهل يؤمنون أم يقولون افتراه. وقوله: ﴿بَلْ هُوَ الحق﴾ إضراب ثانٍ ولو قيل: بأنه إضرابُ إبطالٍ لنفس «افتراه» وحده لكان صواباً وعلى هذا يقال: كل ما في القرآن إضراب وهو انتقال إلا هذا فإنه يجوز أن يكون إبطالاً لأنه إبطال لقولهم، أي ليس هو كما قالوا مُفْتَرى بل هو الحق. وفي كلام الزَّمَخْشَرِي ما يرشد إلى هذا فإنه قال: والضمير
471
في «فيه» راجعٌ إلى مضمون الجملة كأنه قيل لا ريبَ في ذلك أي في كونه من رب العالمين ويشهد لواجهته: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه﴾ ؛ لأن قولهم مفترىً إنكار لأن يكون من رب العالمين وكذلك قوله: ﴿بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ﴾ وما فيه من تقرير أنه من الله وهذا أسلوب صحيحٌ محكَمٌ.
قوله: «مِنْ رَبِّكَ» حال من «الحَقِّ» والعامل فيه محذوف على القاعدة وهو العامل في «لِتُنْذِرَ» ويجوز أن يكون العامل في: «لتنذر» غيره أي أنْزَلَهُ لِتُنْذِرَ.
قوله: ﴿قَوْماً مَا أَتَاهُمْ﴾ الظاهر أن المفعول الثاني للإنذار محذوف، و «قوماً» هو الأول، إذ التقدير: لتنذر قوماً العقابَ و «مَا أتَاهُمْ» جملة منفية في محل نصب صفة «لقوماً» يريد الذين في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وجعله الزمخشري كقوله: ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ﴾ [يس: ٦] فعلى هذا يكون «من نذير» هو فاعل «أَتَاهُمْ» و «من» مزيدة فيه و «مِنْ قَبْلِكَ» صفة «لِنَذير»، ويجوز أن يتعلق «مِنْ قَبْلِكَ» «بأَتَاهُمْ». وجوز أبو حيان أن تكون «ما» موصولة في الموضعين والتقدير: لتنذر قوماً العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك و «مِنْ نَذِيرٍ» متعلق «بأَتَاهُمْ» أي أتاهم على لسان نذير من قبلك وكذلك ﴿لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم﴾ أي العقاب الذي أنذرَهُ آباؤُهُمْ، «فما» مفعولة في الموضعين، و «أنذر» يتعدى إلى اثنين قال الله تعالى: ﴿فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً﴾ [فصلت: ١٣] وهذا القول جارٍ على لظواهر القرآن قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤] ﴿أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ [المائدة: ١٩] هذا الذي قال ظاهر، ويظهر أن في الآية الأخرى وجهاً آخر وهو أن تكون «ما» مصدرية تقديره لتنذر قوماً إنذَار آبائهم لأن الرسل كُلَّهُمْ متفقون على كلمة الحق.

فصل


المعنى بل هو يعني القرآن الحق من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبْلِكَ. قال قتادة: كانوا أمةً لم يأتهم نذير قبل محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال ابن عباس ومقاتل: ذاك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -) «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ».
قوله: ﴿الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ لما ذكر الرسالة، وبين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل فقال: ﴿خَلَقَ السماوات والأرض﴾، (واللَّهُ مبتدأ، وخبره «الَّذِي خَلَقَ» يعني الله هو الذي خلق
472
السموات) ولم يخلقها إلا واحد فلا إله إلا واحدٌ. وقد تقدم الكلام في معنى قوله «ستة أيام».
قوله: ﴿ثُمَّ استوى عَلَى العرش﴾ اختلف العلماء في هذه الآية ونظائرها على قولين:
أحدهما: ترك التعرض إلى بيان المراد.
والثاني: التعرض إليه. والأول أسلم؛ لأن صفة الاستواء مما لا يجب العلم بها فمن لم يتعرض إليه لم يترك وابجاً ومن تعرض إليه فقد يخطر فيعتقد خلاف ما هو عليه فالأول غاية ما يلزمه أنه لا يعلم، والثاني يكاد يقع في أن يكون جاهلاً وعدم العلم والجهل المركب كالسكوت والكذب ولا شك أن السكوتَ خيرٍ من الكذب وأيضاً فإنه أقرب إلى الحكمة لأن من يطالع كتاباً صنفه إنسانٌ وكتب له شرحاً والشارحُ دون والمصنِّف فالظاهر أنه لا يأتي على جميع ما أتى عليه المصنف ولهذا كثيراً ما نرى أن الإنسان يورد الإشكالات على المصنَّف المتقدم ثم يجيء من ينصر كلام المصنِّفِ ويقول: لم يرد المصنف هذا وإنما أراد كذا وكذا، وإذا كان حال الكتب الحادثة التي تكتب من علم قاصر هكذا فما ظنك بالكتاب العظيم الذي فيه كل حكمة كيف يجوزُ أن يدعي جاهلٌ أني علمت كل سر في هذا الكتاب؟ فلو ادعى عالم أني علمت كل سر وكل فائدة يشتمل عليها الكتاب الفُلاَنِيّ يستقبح منه ذلك فكيف من يدعي أنه علم كل ما في كتاب الله؟
(وَلَيْسَ لقائلٍ أن يقول: بأن الله بين كل ما أنزله) ؛ لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز. ولعل في القرآن ما لا يحتاج إليه أحد غيرَ نبيه فبين له لا لغيره.
وإذا ثبت هذا علم أن في القرآن ما لا يعلم، وهذا أقرب إلى ذلك (الذي) لا يعلم للتشابه البالغ الذي فيه. قوله: ﴿مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ﴾. لما ذكر أن الله خالق السموات والأرض قال بعضهم: نحن معترفون بأن خالق السموات والأرض واحد هو إله السموات والأرض وهذا الأصنام صور كواكب منها نصرتنا وقوتنا.
وقال آخرون: هذه صورة ملائكة شفعاء لنا عند الله، فقال تعالى: لاَ إله غير الله،
473
ولا نصرة من غير الله، ولا شفاعة إلا بإذْن الله فعبادتكم لهذه الأصنام باطلة ضائعة.
ثم قال: «أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ» ما علمتموه من أنه خالق السموات والأرض، وخالق لهذه الأجسام العِظَام، لا يقدر عليه مثل هذه الأصنام حتى ينصروكم وتكون لها شفاعة.
قوله: ﴿ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ﴾ لما بين الخلق بين الأمر كما قال تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ الخلق والأمر﴾ [الأعراف: ٥٤] يحكم الأمر، وينزل القضاء، والقدر من السماء إلى الأرض. وقيل: ينزل الوحي مع جبريل - عليه السلام - بالأمر.
قوله: ﴿يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض﴾ العاملة على بنائه للفاعل. وابن أبي عبلة على بنائه للمفعول. والأصل يعْرُجُ بِهِ، ثم حذف الجار فارتفع الضمير واستتر. وهو شاذ يصلح لتوجيه مثلها، والمعنى: أن أمره ينزل من السماء على عباده ويعرج إليه أعمالهم الصالحة الصادرة على موافقة ذلك الأمر.
قوله: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ (أي في يوم واحد يعني نزول وعروج العمل في مسافة ألف سنة مِمَّا تَعُدُّونَ)، وهو بين السماء والأرض فإن مسافته خمْسُمِائَةِ سنةٍ (فينزل في مسيرة خمسمائة سنة ويعرج في خمسمائة سنة فهو مقدار ألف سنة) يقول لو سار أحد من بني آدم لم يقطعه إلا في ألأف سنة والملائكة يقطعونه في يوم واحد هذا في وصف عروج الملائكة من الأرض إلى السماء وأما قوله: ﴿تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: ٤] أراد مدة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل - عليه السلام - يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرةَ خَمْسِين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا. قاله مجاهد والضحاك، وقيل: إن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر وذلك لأن من نفذ أمره غَايَةَ النَّفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنينَ متطاولةٍ، فقوله: ﴿فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾، يعني يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة فكم يكون شهر منه (وكَمْ تكونُ سنة) منه وكم يكون دهر منه، وعلى هذا فلا فرق بين هذا وبين قوله: ﴿مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ لأن ذلك (إذا كان إشارة إلى دوام إنفاذ الأمر،
474
فسواء يُعَبَّر بألفِ سنةٍ أو بخمسينَ ألفَ سنةٍ) لا يتفاوت إلا أن المبالغة بالخمسين أكثر، وسيأتي بيان فائدتها في موضعها إن شاء الله تعالى. وقيل: ألفُ سنة وخمسونَ ألفَ سنةٍ كلها في القمة يكون على بعضهم أطول، وعلى بعضهم أقصر معناه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا ثم يعرج أي يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدنيا وانقطاع أمر الأمراء أو حكم الحكماء في يوم مقداره ألأف سنة وهو يوم القيامة فأما قوله ﴿خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ فإنه أراد على الكافر يجعل ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة وعلى المؤمن دون ذلك حتى جاء في الحديث أنه يكون على المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا، وقال إبراهيم التيميّ (لا) يكون على المؤمن (إلا) كما بين الظُّهْر والعَصْر، ويجوز أن يكون هذا إخباراً عن شدته ومشقته وهوله، وقال ابْنُ أبي مليكَةِ: دخلت أنا وعبد الله بن فَيْرُوزَ علي ابن عباس فسألناه عن هذه الآية وعن قوله: ﴿خمسين ألف سنة﴾ فقال ابن عباس: أيام سماها الله لا أدري ما هي أكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم.
قوله: «مِمَّا تَعُدّونَ» العاملة على الخطاب، والحَسَنُ، والسُّلميُّ، وابْنُ وَثَّابٍ والأعْمَشُ بالغيبة، وهذا الجار صفة «لأَلْفٍ» أو «لِسَنَةٍ».
قوله: «ذَلِكَ عَالِمُ» العامة على رفع «عالم» و «العزيزُ» و «الرَّحِيمُ»، على أن يكون «ذلك» مبتدأ، و «عالم» خبره و «العَزِيزُ والرَّحِيمُ» خبران أو نعتان أو «العزيز الرحيم» مبتدأ وصفة. و «الَّذِي أَحْسَنَ» خبره، أو «العَزِيزُ الرَّحيم» خبر مبتدأ مضمر. وقرأ زيدُ (بن علي) بجر الثلاثة وتخريجها على إشكالها: أن يكون «ذَلِكَ» إشارة إلى الأمر المدبَّر، ويكون فاعلاً (ليَعْرُجُ)، والأوصاف الثلاثة بدل من الضمير في «إلَيْهِ» أيضاً. وتكون الجلمة بينهما اعتراضاً.
475
قوله: «الَّذِي أَحْسَن» يجوز أن يكون تابعاً لما قبله في قراءتي الرفع والخفض، وأن يكون خبراً آخر وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، وأن يكون منصوباً على المدح.
قوله: «خَلقَهُ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابنُ عامر: بسكون اللام، والباقون بفتحها فأما الأولى ففيها أوجه:
أحدها: أن يكون «خَلْقَهُ» بدلاً من: «كُلَّ شَيْءٍ» بدل اشتمال والضمير عائد على «كل شيء» وهذا هو المشهور.
الثاني: أنه بدل من كل. والضمير في «هذا» عائد على «الباري» تعالى، ومعنى «أحسن» حسن لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما يقتضيه الحكمة، فالمخلوقات كلها حسنة.
الثالث: أن يكون «كُلَّ شَيْءٍ» مفعولاً أول، و «خَلْقَهُ» مفعولاً ثانياً، على أن يضمن «أحسن» معنى أعْطَى وَألْهَمَ. قال مجاهد: وأعطى كل جنس شَكْلَهُ، والمعنى خلق كل شيء على شكله الذي خص به.
الرابع: أن يكون «كُلَّ شَيْءٍ» مفعولاً ثانياً قُدِّمَ و «خَلْقَهُ» مفعولاً أول أُخِّرَ على أن يضمن «أحْسَنَ» معنى ألْهَمَ وعَرَّفَ.
قال الفراء: ألهم كل شيء خلقه فيما يحتاجون إليه فيكون أعلمهم ذلك. (وقال أب البقاء: ضمن «أحْسَنَ» معنى «عَرَّف» وأعرف على نحو ما تقدم إلا أنه لا بُدَّ أن يجعل الضمير) لِلَّه تعالى، ويجعل الخلق بمعنى المخلوق أي عرف مخلوقاتهِ كُلَّ شيء يحتاجون إليه فيؤول المعنى إلى معنى قوله: ﴿أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى﴾ [طه: ٥٠].
الخامس: أن تعود الهاء على «الله» تعالى وأن يكون «خَلْقَهُ» منصوباً على المصدر المؤكد لمضمون الجملة كقوله: ﴿صُنْعَ الله﴾ [النمل: ٨٨]، وهو مذهب سيبويه
476
أي خَلَقَهُ خَلْقاً، ورُجِّحَ على بدل الاشتمال بأن فيه إضافة المَصْدَر إلى فاعله، وهو أكثر من إضافته إلى المفعول وبأنه أبلغ في الامتنان لأنه إذا قال: ﴿أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ كان أبلغ من ﴿أحسن خلق كل شيء﴾ ؛ لأنه قد يحسن الخلق وهو المحاولة ولا يكون الشيء في نفسه «حسناً» وإذا قال: ﴿أحْسَنَ كُلَّ شَىْء﴾ اقتضى أن كل (شيء) خلقه حسن بمعنى أنه وضع كل شيء في موضعه.
وأما القراءة الثانية «فخَلَقَ» فيها فعل ماض، والجملة صفة للمضاف أو أو المضاف إليه فتكون منصوبة المحل أو مجرورته.
قوله: «وَبَدَأ» العاملة على الهمز. وقرأ الزُّهْرِيُّ «بَدَأ» بألف خالصة وهو خارج عن قياس تخفيفها إذ قياسه بَيْنَ بَيْنَ على أنَّ الأخفش حَكَى قريباً. وجوز أبو حيان أن يكون من لغة الأنصار، يقولون في «بَدَا» بكسرها وبعدها ياء كقول عبد الله بن رواحة الأنصاري.
٤٠٦٢ - بِاسْمِ الإِلَهِ وَبِهِ بَدِينَا وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ شَقِينَا
قال: وطيىء تقول في تُقَى تُقَاء، قال: فاحتمل أن تكون قراءة الزهري من هذه اللغة أصله «بَدِي» ثم صار «بَدَأ»، قال شهاب الدين: فتكون القراءة مركبة من لُغَتَيْنِ.

فصل


﴿ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة﴾ يعني ذلك الذي صنع ما ذكر من خلق السموات والأرض عالم ما غاب عن الخلق وما حضر «العَزِيرُ الرَّحِيمُ» لما بين أنه عالم ذكر أنه «عزيز» قادر على الانتقام من الكفرة «رَحِيمٌ» واسع الرحمة على البررة ﴿الذي أحسن كل شيء خلقه﴾ أي أحسن خَلْقَ كلِّ شيء. قال ابن عباس: أتقنه وأحكمه وقال
477
مقاتل: علم كيف يخلق كل شيء من قولك: فلانُ يُحْسِنُ كذا، إذا كان يعلمه. وقيل: خلق كل حيوان على صورة لم يخلق البعض على صورة البعض فكل حيوان كامل في خلقه حسن، وكل عضو من أعضائه مقدر بما يصلح معاشه. واعلم أنه تعالى لما ذكر الدليل على الوحدانية من الآفاق بقوله: ﴿خلق السموات والأرض وما بينهما﴾ أتبعه بذكر الدليل الدال عليها من الأنفس فقال: ﴿الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين﴾ يعني آدم، ويمكن أن يقال: الطين ماء وتراب مجتمعان، والأأدمي أصله مَنِي، والمَنِي أصله غذاءٌ، والأغذية إما حيوانية وإما نباتية (والحيوانية ترجع إلى نباتية) والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو الطين ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ﴾ أي جعل ذريته من نطفة سميت سلالة؛ لأنها تَنْسَلُّ من الإنسان، هذا على التفسير الأول؛ لأن آدم كان من طين، ونسله من سلالة ﴿مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ﴾ أي ضعيف وهو نطفة الرجل «ثُمَّ سَوَّاهُ» سوى خلقه ﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾ يعني آدم؛ لأن كلمة «ثُمَّ» للتراخي فتكون التسوية بعد جعل النسل من سلالة، وذلك بعد خلق آدم، ثم عاد إلى ذريته فقال: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار﴾ (أي جعل لكم بعد أن كنتم نطفاً السمع والأبصار) والأفئدة ﴿قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ﴾ يعني لا تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه، فقوله ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السمع﴾ هذه التفات من ضمير (غائب) مفرد في قوله: «نَسْلَهُ» إلى آخره إلى خطاب جماعة.
وفي هذا الخطاب لطيفة وهي أن الخطاب يكون مع الحي فلما قال: ﴿وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾ خاطبه من بعد وقال: «وَجَعَلَ لَكُمْ».
فإن قيل: الخطاب واقع قبل ذلك كما في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ﴾ [الروم: ٢٠].
فالجواب: هناك لم يذكر الأمور المترتبة وهي كون الإنسان طيناً ثم ماء مَهِيناً، ثم خَلْقاً مسوى بأنواع القوى فخاطبه في بعض المراتب دون بعض.
فإن قيل: ما الحكم في ذكر المصدر في السمع وفي البصر والفؤاد الاسم، ولهذا جَمَعَ الأبْصَارَ، والأفئدةَ ولم يجمع السمعَ؛ لأن المصدر لا يجمع؟
فالجواب: أن السمع قوةٌ واحدة ولها مَحِلٌّ واحد وهو الأذن ولا اختيار لها فيه فإن الصوت من أي جانب كان يصل إليه ولا قدرة للأذن على تخصيص السمع بإدراك البعض دُونَ البعض، وأمَّا الإبصار فَمَحِلّهُ العين ولها فيه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب المَرْئِيّ
478
دون غيره، وكذلك الفؤاد محل الإدراك وله نوعُ اختيار يلتف إلى ما يريد دون غيره، وإذا كان كذلك فلم يكن للمحل في السمع تأثير، والقوة مستبدة فذكر القوة في العين والفؤاد؛ (لأن للمحل نوع اختيار، فذكر المحل لأن الفعل مسند إلى المختار ألا ترى أنك) تقول: سَمِعَ زَيْدٌ، ورأى عمرو، ولا تقول: «سَمِعَ أذنُ زَيْدٍ» ولا «رأى عَيْنُ عَمْرو» إلا نادراً لأن المختار هو الأصل وغيره آلته، فالسمع أصل دون محله لعدم له لاختيار له والعين كالأصل وقوة الإبصار آلتها والفؤاد كذلك وقوة الفهم آلته فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة، وفي الإبصار والأفئدة الاسم الذي هو مَحِلّ القوة ولأن السمع قوة واحدة لها محل واحد ولهذا لا يسمع الإنسان في زمان واحد كلامين على وجه يضبطها ويرى في زمان واحد صورتين فأكثر ويُتْقِنُهُمَا.
قوله تعالى: «أَئِذَا ضَلَلْنَا» تقدم خلاف القراء في الاستفهامين، والواو للعطف على ما سبق فإنهم قالوا محمد ليس برسول، والله ليس بواحد وقالوا: الحشر ليس بممكن، فالعامل في «إذا» محل تقديره «نُبْعَثُ أو نَخْرُجُ» لِدَلاَلَةِ: «خَلْقِ جَدِيدٍ» عليه ولا يعمل فيه «خَلْقٍ جَدِيدٍ» ؛ لأن ما بعد «إنَّ» والاستفهام لا يعمل فيما قبلهما، وجواب «إذاً» محذوف إذا جعلتها شرطية. وقرأ العامة «ضَلَلْنَا» بضاد معجمة، ولام مفتوحة بمعنى ذَهَبْنَا، وضِعْنَا من قولهم: ضَلَّ اللبنُ في الضرع وقيل: غُيِّبْنَا، قال النابغة:
٤٠٦٣ - فآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنِ جَلِيَّة وَغُودِرُ بالجُولاَنِ حَزمٌ وَنَائِلُ
والمضارع منهذا: يَضِل بكسر العين وهو كثير، وقرأ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وابنُ
479
مُحَيْصنٍ وأَبُو رَجَاءٍ: بكسر اللام وهي لغة العالية، والمضارع من هذا يَضَلُّ بالفتح، وقرأ علي وأبو حَيْ (وَة) «ضُلِّلْنَا» بضم الضاد وكسر اللام المشددة من «ضَلَّلَهُ» بالتشديد، وقرأ عَلِيٌّ أيضاً وابن عباس والحسن والأعمش وأبان بن سعيد: «صَلَلْنَا» بصاد مهملة، ولام مفتوحة، وعن الحسن أيضاً صَلِلْنَا بكسر اللام.
وهما لغتان، يقال: صَلَّ اللحمُ بفتح الصاد وكسرها لمجيء الماضي مَفْتُوحَ العين ومَكْسُورَها، ومعنى صَلَّ اللَّحْمُ أنْتَنَ وتَغيَّرتَ رَائِحَتُهُ ويقال أيضاً: أَصَلَّ بالألف قال:
٤٠٦٤ - تُلَجْلِجُ مُضْغَةً فِيهَا أنِيضُ أَصَلَّتْ فَهيَ تَحْتَ الكَشْحِ دَاءُ
وقال النحاس: لا يعرف في اللغة «صَلَلْنَا» ولكن يقال: صَلَّ اللَّحْمُ وأَصَلَّ، وخَمَّ وأَخَمَّ وقد عَرَفَها غَيْرُ أَبِي جَعْفَر.

فصل


قال في تكذيبهم بالرسالة: «أَمْ يَقُولُونَ» بلفظ المستقبل وقال في تكذيبهم بالحشر: «وَقَالُوا» بلفظ الماضي؛ لأن تكذيبهم بالرسالة لم يكن قبل وجوده، وإنما كان حال وجوده فقال: «يَقُولُونَ» يعني هم فيه. وأما إنكار الحشر فكان سابقاً صادراً منهم ومن آبائهم فقال: «وَقَالُوا» وصرح بقولهم في الرسالة فقال: «أَمْ يَقُولُونَ» وفي الحشر فقال: ﴿وقالوا أَإِذَا ضَلَلْنَا﴾ ولم يصرح بقولهم في الوحدانية؛ لأنهم كانوا مصرين في جميع الأحوال على إنكار الحشر والرسالة وأما الوحدانية فكانوا يعترفون بها في بعض الأحوال في قوله: ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ [لقمان: ٢٥] فلم يقل: قالوا إن الله ليس بواحد وإن كانوا قالوه في الظاهر.
480
فإن قيل: إنه ذكر الرسالة من قبل وذكر دليلها (وهو التنزيل الذي لا ريب فيه وذكر الوحدانية وذكر دليلها وهو) خَلْقُ السماوات والأرض وخَلْقُ الإنسان من طين، ولما ذكر إنكارهم الحشرَ لم يذكر الدليل؟
فالجواب: أنه ذكر دليله أيضاً وهو أن خلق الإنسان ابتداءً دليل على قدرته على الإعادة ولهذا استدل (تعالى) على إمكان الحشر بالخلق الأول كما قال: ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ [الروم: ٢٧] وقوله: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [يس: ٧٩] وأيضاً خلق السماوات والأرض كما قال: ﴿أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى﴾ [يس: ٨١].
قوله: ﴿أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ استفهام إنكاري أي إننا كائنونَ في خلق جديد أو واقعون فيه ﴿بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ﴾ إضراب عن الأول يعني ليس إنكارهم لمجرد الخلق ثانياً بل يكفرون بجميع أحوال الآخرة حتى لو صدقوا بالخلق الثاني لما اعترفوا بالعذاب والثواب. أو يكون المعنى لم ينكروا البعث لنفسه بل لكفرهم بلقاء الله فإنهم كَرِهُوهُ فأنكروا المُفْضي إلَيْهِ، ثم بين لهم ما يكون (من الموت إلى العذاب) فقال: «قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ» يقبض أرواحكم ﴿مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ أي وكل بقبض أرواحكم وهو عزرائيلُ، (والتَّوَفِّي) استيفاء العدد معناه أنه يقبض أرواحهم حتى لا يبقى أحد من العدد الذي كُتِبَ عليه الموت.

فصل


روي أن ملك الموت جعلت له الدنيا مثل راحة اليد يأخي منها صاحبها، ما أحب من غير مشقة فهو يقبض أنفُسَ الخَلْقِ من مشارق الأرض ومغربها، وله أعوان من ملائكة الرحمة وأعوان من ملائكة العذاب، وقال ابن عباس: خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب، وقال مجاهد: جعلت الأرض مثل طِسْتٍ يتناول منها حيث شاء.
قوله: ﴿ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ أي تصيرون إليه أحياء فيجزيكم بأعمالكم، وقرأ العامة: تُرْجَعُونَ ببنائه للمفعول، وزيد بن علي: ببنائه للفاعل.
قوله: «وَلَوْ تَرَى» في «لو» هذه وجهان:
481
أحدهما: أنها لِمَا كان سَيَقَعُ لوقوعه غيره. وعبَّر عنها الزمخشري بامتناعٍ لامْتِنَاع، وناقشه أبو حيان في ذلك. وقد تقم تحقيقه أول البقرة، وعلى هذا جوابها محذوف أي لرأيت أمر فظيعاً.
والثاني: أنها للتمني. قال الزمخشري كأنه قيل: وليتك ترى. وفيها إذا كانت للتمنِّي خلافٌ على تقتضي جواباً أم لا، وظاهر تقدير الزمخشري هنا أنه لا جواب لها.
قال أبو حيان: والصحيح أن لها جواباً وأنشد:
٤٠٦٥ - فَلأَوْ نُبِشَ المِقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ فَيُخْبِرَ بالذَّنَائِبِ أَيُّ زِيرِ
بِيَوْمِ الشَّعْثَمَيْنِ لقَرَّ عيْناً وَكِيْفَ لِقَاءُ مَنْ تَحْتَ القُبُورِ
قال الزمخشري: ولو تجيء في معنى التمني كقولن: «لو تأتيني فتحدثني» (كما تقول) :«لَيْتَكَ تَأتِيني فَتُحَدِّثَنِي» قال ابن مالك: أن أراد به الحذف أي وَدِدْتُ لو تأتني فتحدثني فصحِيح وإن أراد أنها موضوعة له فليس بصحيح، إل لو كانت موضوعة له لم يجمع بينها وبينه كما لم يجمع من «ليت» والتمني، ولا «لعل وأترجّى»، ولا «إلا» وأستثني، ويجوز أن يجمع بين «لو» وأتمنى تقول (تَمَنَّيتُ لَوْ فَعَلْتُ كذا)، والمخاطب يحتمل أن يكون - النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شفاء لصدره، فإنهم كانوا يؤذونه بالتكذيب، ويحتمل أن يكون عاماً، و «إذْ» على بابها من المضي؛ لأن «لو» تصرف المضارع للمضي، وإنما جيء هنا ماضياً لتحقق وقوعه نحو: ﴿أتى أَمْرُ الله﴾ [النحل: ١]. وجعله أبو البقاء مما وقع فيه «إذ» مَوْقع «إذَا». ولا حاجة إليه. والمراد بالمجرمين المشركين.
482
قوله: «نَاكِسُوا» العامة على أنه اسم فاعل مضاف لمفعوله تخفيفاً، وزيدُ بن علي «نَكِسُوا» فعلاً ماضياً «رُؤُوسَهُمْ» مفعول به، والمعنى مُطَأطِئُون رُؤُوسِهِمْ.
قوله: «رَبَّنا» على إضمار القول، وهو حال أي قائلينَ ذلك، وقدره الزمخشري يَسْتَغيثُونَ بقولهم، وإضمار القول أكْثَرُ.
قوله: «أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا» يجوز أن يكون المفعول مقدراً أي أ [صرنا ما كنّا نكذب وسمعنا ما كنا ننكر. ويجوز أن لا يقدر أي صِرْنَا بُصَرَاءَ سَمِيعِينَ فارْجِعْنَا (إلى الدنيا) نَعْمَل صِالِحاً «يجوز أن يكون» صالحاً «مفعولاً به، وأن يكون نعت مصدر، وقولهم» إنَّا مُوقِنُونَ «أي إنا آمنا في الحال، ويحتمل أن يكون المراد أنهم ينكرون الشرك كقولهم: ﴿والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ٢٣].
483
قوله :﴿ أَمْ يَقُولُونَ ﴾ هي المنقطعة، والإضراب للانتقال لا للإبطال، وقيل : الميم صلة أي أَيَقُولُونَ افْتَرَاهُ.
وقيل : فيه إضمار مجازه فهل يؤمنون أم يقولون افتراه. وقوله :﴿ بَلْ هُوَ الحق ﴾ إضراب ثانٍ ولو قيل : بأنه إضرابُ إبطالٍ لنفس «افتراه » وحده لكان صواباً وعلى هذا يقال : كل ما في القرآن إضراب وهو انتقال إلا هذا فإنه يجوز أن يكون إبطالاً لأنه إبطال لقولهم، أي ليس هو كما قالوا مُفْتَرى بل هو الحق. وفي كلام الزَّمَخْشَرِي ما يرشد إلى١ هذا فإنه قال : والضمير في «فيه » راجعٌ إلى مضمون الجملة٢ كأنه قيل لا ريبَ في ذلك أي في كونه من رب العالمين ويشهد لواجهته٣ :﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه ﴾ ؛ لأن قولهم مفترىً إنكار لأن يكون من رب العالمين وكذلك قوله :﴿ بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ ﴾ وما فيه من تقرير أنه من الله وهذا أسلوب صحيحٌ محكَمٌ٤.
قوله :«مِنْ رَبِّكَ » حال من «الحَقِّ » والعامل فيه محذوف على القاعدة وهو العامل في «لِتُنْذِرَ » ويجوز أن يكون العامل في :«لتنذر » غيره أي أنْزَلَهُ لِتُنْذِرَ.
قوله :﴿ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ ﴾ الظاهر أن المفعول الثاني للإنذار محذوف، و «قوماً » هو الأول، إذ التقدير : لتنذر قوماً العقابَ و «مَا أتَاهُمْ » جملة منفية في محل نصب صفة «لقوماً » يريد الذين في الفترة٥ بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وجعله الزمخشري٦ كقوله :﴿ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ ﴾ [ يس : ٦ ] فعلى هذا يكون «من نذير » هو فاعل «أَتَاهُمْ » و «من » مزيدة فيه و «مِنْ قَبْلِكَ » صفة «لِنَذير »، ويجوز أن يتعلق «مِنْ قَبْلِكَ » «بأَتَاهُمْ ». وجوز أبو حيان٧ أن تكون «ما » موصولة في الموضعين والتقدير : لتنذر قوماً العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك و «مِنْ نَذِيرٍ » متعلق «بأَتَاهُمْ » أي أتاهم على لسان نذير من قبلك وكذلك ﴿ لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم ﴾ أي العقاب الذي أنذرَهُ آباؤُهُمْ، «فما » مفعولة في الموضعين، و «أنذر » يتعدى إلى اثنين قال الله تعالى :﴿ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً ﴾ [ فصلت : ١٣ ] وهذا القول جارٍ على ظواهر القرآن قَالَ تَعَالَى :﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [ فاطر : ٢٤ ] ﴿ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ﴾ [ المائدة : ١٩ ] هذا الذي قال ظاهر، ويظهر أن في الآية الأخرى وجهاً آخر وهو أن تكون «ما » مصدرية تقديره لتنذر قوماً إنذَار آبائهم لأن الرسل كُلَّهُمْ متفقون٨ على كلمة الحق.

فصل :


المعنى بل هو يعني القرآن الحق من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبْلِكَ. قال قتادة : كانوا أمةً لم يأتهم نذير قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - ( قال ابن عباس٩ ومقاتل : ذاك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد - صلى الله عليه وسلم - ) «لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ».
١ نقله في الدر المصون ٤/٣٥٣ و ٣٥٤..
٢ الكشاف ٣/٢٤٠..
٣ في الكشاف: ويشهد لوجاهته قوله. وهو الأصح..
٤ المرجع السابق..
٥ القرطبي ١٤/١٥..
٦ الكشاف ٣/٢٤٠..
٧ البحر المحيط ٧/١٩٧..
٨ في "ب" كلهم متفقة..
٩ ساقط من "ب" وانظر: القرطبي ١٤/٨٥..
قوله :﴿ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ﴾ لما ذكر الرسالة، وبين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل فقال :﴿ خَلَقَ السماوات والأرض ﴾، ( واللَّهُ١ مبتدأ، وخبره «الَّذِي خَلَقَ » يعني الله هو الذي خلق السموات ) ولم يخلقها إلا واحد فلا إله إلا واحدٌ. وقد تقدم الكلام في معنى قوله «ستة٢ أيام ».
قوله :﴿ ثُمَّ استوى عَلَى العرش ﴾ اختلف٣ العلماء في هذه الآية ونظائرها على قولين :
أحدهما : ترك التعرض إلى بيان المراد.
والثاني : التعرض إليه. والأول أسلم ؛ لأن صفة الاستواء مما لا يجب العلم بها فمن لم يتعرض إليه لم يترك واجباً ومن تعرض إليه فقد يخطر فيعتقد خلاف ما هو عليه فالأول غاية ما يلزمه أنه لا يعلم، والثاني يكاد يقع في أن يكون جاهلاً وعدم العلم والجهل المركب كالسكوت والكذب ولا شك أن السكوتَ خيرٍ من الكذب وأيضاً فإنه أقرب إلى الحكمة لأن من يطالع كتاباً صنفه إنسانٌ وكتب له شرحاً والشارحُ دون المصنِّف فالظاهر أنه لا يأتي على جميع ما أتى عليه المصنف ولهذا كثيراً ما نرى أن الإنسان يورد الإشكالات على المصنِّف المتقدم ثم يجيء من ينصر كلام المصنِّفِ ويقول : لم يرد المصنف هذا وإنما أراد كذا وكذا، وإذا كان حال الكتب الحادثة التي تكتب من علم قاصر هكذا فما ظنك بالكتاب العظيم الذي فيه كل حكمة كيف يجوزُ أن يدعي جاهلٌ أني علمت كل سر في هذا الكتاب ؟ فلو ادعى عالم أني علمت كل سر وكل فائدة يشتمل عليها الكتاب الفُلاَنِيّ يستقبح منه ذلك فكيف من يدعي أنه علم كل ما في كتاب الله٤ ؟.
( وَلَيْسَ لقائلٍ أن يقول : بأن الله بين كل٥ ما أنزله ) ؛ لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز. ولعل في القرآن ما لا يحتاج إليه أحد غيرَ نبيه فبين٦ له لا لغيره.
وإذا ثبت هذا علم أن في القرآن ما لا يعلم، وهذا أقرب إلى ذلك ( الذي )٧ لا يعلم للتشابه البالغ الذي فيه٨. قوله :﴿ مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ﴾. لما ذكر أن الله خالق السموات والأرض قال بعضهم : نحن معترفون بأن خالق السموات والأرض واحد هو إله السموات والأرض وهذا الأصنام صور كواكب منها نصرتنا وقوتنا.
وقال آخرون : هذه صورة ملائكة شفعاء لنا عند الله، فقال تعالى : لاَ إله غير٩ الله، ولا نصرة من غير الله، ولا شفاعة١٠ إلا بإذْن الله فعبادتكم لهذه الأصنام باطلة ضائعة.
ثم قال :«أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ » ما علمتموه من أنه خالق السموات والأرض، وخالق لهذه الأجسام العِظَام، لا يقدر١١ عليه مثل هذه الأصنام حتى ينصروكم وتكون لها١٢ شفاعة.
١ ساقط من "ب"..
٢ أي إلى ستة أحوال في نظر الناظرين وذلك لأن السموات والأرض وما بينهما ثلاثة أشياء ولكل واحد منها ذات وصفة ونظراً إلى خلقه ذات السموات حالة، ونظراً إلى خلقه صفاتها أخرى، ونظراً إلى ذات الأرض وإلى صفاتها كذلك، ونظراً إلى ذوات ما بينهما وإلى صفاتها كذلك فهي ستة أشياء على ستة أحوال. وانظر: اللباب ٣/١٢٧ ب، وسورة الأعراف الآية ٥٤..
٣ انظر: التفسير الكبير للإمام الفخر ٢٥/١٦٧ و ١٦٨..
٤ المرجع السابق..
٥ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
٦ في "ب" فبين بالمضارع..
٧ ساقط من "ب"..
٨ تفسير الرازي ٢٥/١٦٩..
٩ في "ب" إلا الله..
١٠ وفيها: إذ لا شفاعة..
١١ في "ب": لا قدرة لهذه الأصنام..
١٢ في "ب": فكيف ينصرونكم ويكونون لكم شفعاء..
قوله :﴿ يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ﴾ لما بين الخلق بين الأمر كما قال تعالى :﴿ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ] يحكم الأمر، وينزل القضاء، والقدر من السماء إلى الأرض. وقيل : ينزل الوحي مع جبريل - عليه السلام - بالأمر١.
قوله :﴿ ثم يعرج إليه ﴾ العامة على بنائه للفاعل. وابن أبي عبلة على بنائه للمفعول٢. والأصل يعْرُجُ بِهِ، ثم حذف الجار فارتفع الضمير واستتر. وهو شاذ٣ يصلح لتوجيه مثلها، والمعنى : أن أمره ينزل من السماء على عباده ويعرج إليه أعمالهم الصالحة الصادرة على موافقة ذلك الأمر٤.
قوله :﴿ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ ( أي في يوم٥ واحد يعني نزول وعروج العمل في مسافة ألف سنة مِمَّا تَعُدُّونَ )، وهو بين السماء والأرض فإن مسافته خمْسُمِائَةِ سنةٍ ( فينزل٦ في مسيرة خمسمائة سنة ويعرج في خمسمائة سنة فهو مقدار ألف سنة ) يقول لو سار أحد من بني آدم لم يقطعه إلا في ألف سنة والملائكة يقطعونه في يوم واحد هذا في وصف عروج الملائكة٧ من الأرض إلى السماء وأما قوله :﴿ تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ [ المعارج : ٤ ] أراد مدة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل - عليه السلام - يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرةَ خَمْسِين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا. قاله مجاهد٨ والضحاك، وقيل : إن ذلك٩ إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر وذلك لأن من نفذ أمره غَايَةَ النَّفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنينَ متطاولةٍ، فقوله :﴿ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾، يعني يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة فكم يكون شهر منه ( وكَمْ تكونُ سنة )١٠ منه وكم يكون دهر منه، وعلى هذا فلا فرق بين هذا وبين قوله :﴿ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ لأن ذلك ( إذا كان إشارة١١ إلى دوام إنفاذ الأمر، فسواء يُعَبَّر بألفِ سنةٍ أو بخمسينَ ألفَ سنةٍ ) لا يتفاوت إلا أن المبالغة بالخمسين أكثر، وسيأتي بيان فائدتها في موضعها إن شاء الله تعالى. وقيل : ألفُ سنة وخمسونَ ألفَ سنةٍ كلها في القمة١٢ يكون على بعضهم أطول١٣، وعلى بعضهم أقصر معناه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض مدة أيام الدنيا ثم يعرج أي يرجع الأمر والتدبير إليه بعد فناء الدنيا وانقطاع أمر الأمراء أو حكم الحكماء في يوم مقداره ألف سنة وهو يوم القيامة فأما قوله ﴿ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ فإنه أراد على الكافر يجعل ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة وعلى المؤمن دون ذلك حتى جاء في الحديث أنه يكون على المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا، وقال إبراهيم التيميّ ( لا )١٤ يكون على المؤمن ( إلا )١٥ كما بين الظُّهْر والعَصْر، ويجوز أن يكون هذا إخباراً عن شدته ومشقته وهوله١٦، وقال ابْنُ أبي مليكَةِ :١٧ دخلت أنا وعبد الله بن فَيْرُوزَ١٨ علي ابن عباس فسألناه عن هذه الآية وعن قوله :﴿ خمسين ألف سنة ﴾ فقال ابن عباس : أيام سماها الله لا أدري ما هي أكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم١٩.
قوله :«مِمَّا تَعُدّونَ » العامة على الخطاب، والحَسَنُ، والسُّلميُّ، وابْنُ وَثَّابٍ والأعْمَشُ بالغيبة٢٠، وهذا الجار صفة «لأَلْفٍ » أو «لِسَنَةٍ ».
١ وانظر في هذا كله الرازي ٢٥/١٦٩ و ١٧١ و ١٧٢..
٢ وهي قراءة معاذ القارئ وابن السميقع أيضاً. وانظر: زاد المسير ٦/٣٣٤ والكشاف ٣/٢٤٠..
٣ نقله صاحب الدر المصون ٤/٣٥٥..
٤ وانظر: الرازي السابق ٢٥/١٧٢..
٥ ساقط من "ب"..
٦ ساقط من "ب" كذلك..
٧ في "ب" الملك بصيغة الإفراد..
٨ القرطبي ١٤/٨٩..
٩ التفسير الكبير ٢٥/١٧٢..
١٠ ساقط من "ب"..
١١ ساقط من "ب"..
١٢ في القيامة وهو أقرب للمراد..
١٣ في "ب" كالحول..
١٤ ساقط من "ب"..
١٥ كذلك..
١٦ فيكون نسبة مفترضة..
١٧ هو أبو بكر وأبو محمد عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان القرشي التيمي المكي الأصولي روى عن جده وعائشة وعنه عمرو بن دينار، وابن عباس وغيرهما، مات سنة ١١٧ هـ. انظر: تذكرة الحفاظ ١/١٠٢..
١٨ محمد بن محمد بن فيروز أبو عبد الله الكرجي شيخ جليل مقرئ، قرأ على أحمد بن عبد الله الهاشمي، ومحمد بن الحسين الكوفي مات سنة ٣٨٦ هت. انظر: غاية النهاية ٢/٢٤٧..
١٩ القرطبي ١٤/٨٨..
٢٠ البحر المحيط ٧/١٩٩ والإتحاف ٣٥١ ومختصر ابن خالويه ١١٧..
قوله :«ذَلِكَ عَالِمُ » العامة على رفع «عالم » و «العزيزُ » و «الرَّحِيمُ »، على أن يكون «ذلك » مبتدأ، و «عالم » خبره و «العَزِيزُ والرَّحِيمُ » خبران أو نعتان١ أو «العزيز الرحيم » مبتدأ وصفة. و «الَّذِي أَحْسَنَ » خبره، أو «العَزِيزُ الرَّحيم » خبر مبتدأ مضمر. وقرأ زيدُ ( بن علي )٢ بجر الثلاثة وتخريجها على إشكالها : أن يكون «ذَلِكَ » إشارة إلى الأمر المدبَّر، ويكون فاعلاً ( ليَعْرُجُ )، والأوصاف الثلاثة بدل من الضمير في «إلَيْهِ »٣ أيضاً. وتكون الجملة بينهما اعتراضاً.
١ في "ب" صفتان..
٢ سقطت من "ب" وانظر هذه الإعرابات في الدر المصون ٤/٣٥٥ والقراءة في البحر ٧/١٩٩..
٣ في الدر المصون بعد هذه العبارة: كأنه قيل: ثم يعرج الأمر المدبر إليه عالم الغيب أي إلى عالم الغيب وأبو زيد برفع "عالم" وخفض "العزيز الرحيم" على أن يكون ذلك عالم مبتدأ وخبر، و"العزيز الرحيم" بدلان من الهاء في "إليه"..
قوله :«الَّذِي أَحْسَن » يجوز أن يكون تابعاً لما قبله في قراءتي الرفع والخفض، وأن يكون خبراً آخر وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، وأن يكون منصوباً على المدح.
قوله :«خَلقَهُ » قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابنُ عامر١ : بسكون اللام، والباقون بفتحها٢ فأما الأولى ففيها أوجه :
أحدها : أن يكون «خَلْقَهُ » بدلاً من :«كُلَّ شَيْءٍ »٣ بدل اشتمال والضمير عائد على «كل شيء » وهذا هو المشهور.
الثاني : أنه بدل كل من كل. والضمير في٤ «هذا » عائد على «الباري » تعالى، ومعنى «أحسن » حسن لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما يقتضيه الحكمة، فالمخلوقات كلها حسنة٥.
الثالث : أن يكون «كُلَّ شَيْءٍ » مفعولاً أول، و «خَلْقَهُ » مفعولاً ثانياً، على أن يضمن «أحسن » معنى أعْطَى وَألْهَمَ. قال مجاهد : وأعطى كل جنس شَكْلَهُ، والمعنى خلق كل شيء على شكله الذي خص به٦.
الرابع : أن يكون «كُلَّ شَيْءٍ » مفعولاً ثانياً قُدِّمَ و «خَلْقَهُ » مفعولاً أول أُخِّرَ على أن يضمن «أحْسَنَ »٧ معنى ألْهَمَ وعَرَّفَ.
قال الفراء : ألهم كل شيء خلقه٨ فيما يحتاجون إليه فيكون أعلمهم ذلك. ( وقال أبو البقاء : ضمن٩ «أحْسَنَ » معنى «عَرَّف » وأعرف على نحو ما تقدم إلا أنه لا بُدَّ أن يجعل الضمير ) لِلَّه تعالى، ويجعل الخلق بمعنى المخلوق أي عرف مخلوقاتهِ كُلَّ شيء يحتاجون إليه فيؤول المعنى إلى معنى قوله :﴿ أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى ﴾ [ طه : ٥٠ ].
الخامس : أن تعود الهاء على «الله » تعالى وأن يكون «خَلْقَهُ » منصوباً على المصدر المؤكد لمضمون الجملة١٠ كقوله :﴿ صُنْعَ الله ﴾ [ النمل : ٨٨ ]، وهو مذهب سيبويه أي١١ خَلَقَهُ خَلْقاً، ورُجِّحَ على١٢ بدل الاشتمال بأن فيه إضافة المَصْدَر إلى فاعله، وهو أكثر من إضافته إلى المفعول وبأنه أبلغ في الامتنان١٣ لأنه إذا قال :﴿ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ كان أبلغ من ﴿ أحسن خلق كل شيء ﴾ ؛ لأنه قد يحسن الخلق وهو المحاولة ولا يكون الشيء في نفسه «حسناً » وإذا قال :﴿ أحْسَنَ كُلَّ شيء ﴾ اقتضى أن كل ( شيء ) خلقه حسن بمعنى أنه وضع كل شيء في موضعه١٤.
وأما القراءة الثانية «فخَلَقَ » فيها فعل ماض، والجملة صفة للمضاف أو أو المضاف إليه فتكون منصوبة المحل أو مجرورته١٥.
قوله :«وَبَدَأ » العامة على الهمز. وقرأ الزُّهْرِيُّ١٦ «بَدَأ » بألف خالصة وهو خارج عن قياس تخفيفها إذ قياسه١٧ بَيْنَ بَيْنَ على أنَّ الأخفش حَكَى قريباً١٨. وجوز أبو حيان أن يكون من١٩ لغة الأنصار، يقولون في «بَدَا » بكسر وبعدها ياء كقول عبد الله بن رواحة الأنصاري.
٤٠٦٢ - بِاسْمِ الإِلَهِ وَبِهِ بَدِينَا وَلَوْ عَبَدْنَا غَيْرَهُ شَقِينَا٢٠
قال : وطيىء تقول في تُقَى تُقَاء٢١، قال : فاحتمل أن تكون قراءة الزهري من هذه اللغة أصله «بَدِي » ثم صار٢٢ «بَدَأ »، قال شهاب الدين : فتكون القراءة مركبة من٢٣ لُغَتَيْنِ.

فصل :


﴿ ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة ﴾ يعني ذلك الذي صنع ما ذكر من خلق السموات والأرض عالم ما غاب عن الخلق وما حضر «العَزِيزُ الرَّحِيمُ » لما بين أنه عالم ذكر أنه «عزيز » قادر على الانتقام من الكفرة «رَحِيمٌ » واسع الرحمة على البررة ﴿ الذي أحسن كل شيء خلقه ﴾ أي أحسن خَلْقَ كلِّ شيء٢٤. قال ابن عباس : أتقنه٢٥ وأحكمه وقال مقاتل٢٦ : علم كيف يخلق كل شيء من قولك : فلانُ يُحْسِنُ كذا، إذا كان يعلمه. وقيل : خلق كل حيوان على صورة لم يخلق البعض على صورة البعض فكل حيوان كامل في خلقه حسن، وكل عضو من أعضائه مقدر بما يصلح معاشه. واعلم أنه تعالى لما ذكر الدليل على الوحدانية من الآفاق بقوله :﴿ خلق السموات والأرض وما بينهما ﴾ أتبعه بذكر الدليل الدال عليها من الأنفس فقال :﴿ الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ﴾ يعني آدم، ويمكن أن يقال : الطين ماء وتراب مجتمعان، والآدمي٢٧ أصله مَنِي، والمَنِي أصله غذاءٌ، والأغذية إما حيوانية وإما نباتية ( والحيوانية٢٨ ترجع إلى نباتية ) والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو الطين
١ مشكل إعراب القرآن لمكي ٢/١٨٦، وإعراب القرآن للنحاس ٢/٢٩٢ والسبعة ٥١٦ والإتحاف ٣٥١ والنشر ٢/٣٤٧ وحجة ابن خالويه ٢٨٧..
٢ وهم نافع وعاصم وحمزة والكسائي وخلف وانظر المراجع السابقة..
٣ البيان ٢/٢٥٩ ومشكل إعراب القرآن ٢/١٨٦ و ١٨٧ والتبيان ١٠٤٨..
٤ المشكل ٢/١٨٦..
٥ البحر المحيط ٧/١٩٩..
٦ المرجع السابق..
٧ الدر المصون ٤/٣٥٦..
٨ انظر: معاني القرآن للفراء ٢/٢٣٠ و ٢٣١..
٩ ما بين القوسين ساقط من "ب" وانظر: التبيان ١٠٤٨..
١٠ انظر: مشكل إعراب القرآن لمكي ٢/١٨٦..
١١ انظر: الكتاب ١/٣٨١..
١٢ في "ب" ورجع الأمر على بدل الاشتمال..
١٣ في "ب" في الإضافة..
١٤ انظر: البحر المحيط ٧/١٩٩..
١٥ انظر: مشكل إعراب القرآن ٢/١٨٧ والبيان ٢/٢٥٨ والتبيان ١٠٤٨ وتفسير القرطبي ١٤/٩٠ والدر المصون ٤/٣٥٦..
١٦ ذكرها ابن جني في المحتسب ٢/١٧٣ وانظر البحر ٧/١٩٩..
١٧ ذكره في المرجع السابق..
١٨ عبارة البحر: "على أن الأخفش حكى في قرأت: قريت"، انظر: البحر ٧/١٩٩..
١٩ المرجع السابق..
٢٠ رجز لعبد الله بن رواحة والشاهد: "بدينا" والأصل: "بدأنا" فقلبت الهمزة ياء على لغة الأنصار وانظر: بحر أبي حيان ٧/١٩٩، والأشموني ٣/٤٢ واللسان (بدا) والبداية والنهاية لابن كثير ٤/٩٧ وإعراب ثلاثين سورة ١١، وتاج اللغة "بدي" وتاج العروس للزبيدي ١/١٣٩..
٢١ في البحر بقي - بقاء..
٢٢ المرجع السابق..
٢٣ الدر المصون ٤/١٣٩..
٢٤ انظر: التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٥/١٧٣..
٢٥ القرطبي ١٤/٩٠..
٢٦ وهو رأى السدي أيضاً وانظر: زاد المسير لابن الجوزي ٦/٣٣٤..
٢٧ في "ب" وآدم..
٢٨ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
﴿ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ ﴾ أي جعل ذريته من نطفة سميت سلالة ؛ لأنها تَنْسَلُّ من الإنسان، هذا على التفسير الأول ؛ لأن آدم كان من طين، ونسله من سلالة ﴿ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ﴾ أي ضعيف وهو نطفة الرجل
«ثُمَّ سَوَّاهُ » سوى خلقه ﴿ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ﴾ يعني آدم ؛ لأن كلمة «ثُمَّ » للتراخي فتكون التسوية بعد جعل النسل من سلالة، وذلك بعد خلق آدم، ثم عاد إلى ذريته فقال :﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار ﴾ ( أي١ جعل لكم بعد أن كنتم نطفاً السمع والأبصار ) والأفئدة ﴿ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ يعني لا تشكرون رب هذه النعم فتوحدونه، فقوله ﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع ﴾ هذه التفات من ضمير ( غائب )٢ مفرد في قوله :«نَسْلَهُ » إلى آخره إلى خطاب جماعة.
وفي هذا الخطاب لطيفة وهي أن الخطاب يكون مع الحي فلما قال :﴿ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ﴾ خاطبه من بعد وقال :«وَجَعَلَ لَكُمْ ».
فإن قيل : الخطاب واقع قبل ذلك كما في قوله تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ [ الروم : ٢٠ ].
فالجواب : هناك لم يذكر الأمور المترتبة وهي كون الإنسان طيناً ثم ماء مَهِيناً، ثم خَلْقاً مسوى٣ بأنواع القوى فخاطبه في بعض المراتب دون بعض.
فإن قيل : ما الحكم في ذكر المصدر في السمع وفي البصر والفؤاد الاسم، ولهذا جَمَعَ الأبْصَارَ، والأفئدةَ ولم يجمع السمعَ ؛ لأن المصدر لا يجمع ؟.
فالجواب : أن السمع قوةٌ واحدة ولها مَحِلٌّ واحد وهو الأذن ولا اختيار لها فيه فإن الصوت من أي جانب كان يصل إليه ولا قدرة للأذن على تخصيص السمع بإدراك البعض دُونَ البعض، وأمَّا الإبصار فَمَحِلّهُ العين ولها فيه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب٤ المَرْئِيّ دون غيره، وكذلك الفؤاد محل الإدراك وله نوعُ اختيار يلتفت إلى ما يريد دون غيره، وإذا كان كذلك فلم يكن للمحل في السمع تأثير، والقوة مستبدة٥ فذكر القوة في العين والفؤاد ؛ ( لأن للمحل نوع٦ اختيار، فذكر المحل لأن الفعل مسند إلى المختار ألا ترى أنك ) تقول : سَمِعَ زَيْدٌ، ورأى عمرو، ولا تقول :«سَمِعَ أذنُ زَيْدٍ » ولا «رأى عَيْنُ عَمْرو » إلا نادراً لأن المختار هو الأصل وغيره آلته٧، فالسمع أصل دون محله لعدم له لاختيار له والعين كالأصل وقوة الإبصار آلتها والفؤاد كذلك وقوة الفهم آلته فذكر في السمع المصدر الذي هو القوة، وفي الإبصار والأفئدة الاسم الذي هو مَحِلّ القوة ولأن السمع قوة واحدة لها محل واحد ولهذا لا يسمع الإنسان في زمان واحد كلامين على وجه يضبطهما ويرى في زمان واحد صورتين فأكثر ويُتْقِنُهُمَا٨.
١ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
٢ ساقط من "ب"..
٣ هكذا هي في تفسير الفخر الرازي ٢٥/١٧٤..
٤ انظر في هذا كله الإمام الفخر الرازي ٢٥/١٧٣: ١٧٥..
٥ في "ب" مستندة..
٦ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
٧ في "ب" مانع إليه..
٨ انظر: تفسير الفخر الرازي ٢٥/١٧٥..
قوله تعالى :«أَئِذَا ضَلَلْنَا » تقدم خلاف القراء في الاستفهامين١، والواو للعطف على ما سبق فإنهم قالوا محمد ليس برسول، والله ليس بواحد وقالوا : الحشر ليس بممكن، فالعامل في «إذا » محل تقديره٢ «نُبْعَثُ أو نَخْرُجُ » لِدَلاَلَةِ :«خَلْقِ جَدِيدٍ » عليه ولا يعمل فيه «خَلْقٍ جَدِيدٍ » ؛ لأن ما بعد «إنَّ » والاستفهام لا يعمل فيما قبلهما، وجواب «إذاً » محذوف إذا جعلتها شرطية٣. وقرأ العامة «ضَلَلْنَا » بضاد معجمة، ولام مفتوحة بمعنى ذَهَبْنَا٤، وضِعْنَا من قولهم : ضَلَّ اللبنُ في الضرع وقيل : غُيِّبْنَا، قال النابغة :
٤٠٦٣ - فآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنِ جَلِيَّة وَغُودِرُ بالجُولاَنِ حَزمٌ وَنَائِلُ٥
والمضارع من هذا : يَضِل بكسر العين وهو كثير، وقرأ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وابنُ مُحَيْصنٍ وأَبُو رَجَاءٍ : بكسر اللام٦ وهي لغة العالية، والمضارع من هذا يَضَلُّ بالفتح، وقرأ علي وأبو حَيْ( وَة )٧ «ضُلِّلْنَا » بضم الضاد وكسر اللام المشددة من «ضَلَّلَهُ » بالتشديد٨، وقرأ عَلِيٌّ أيضاً وابن عباس والحسن والأعمش وأبان بن سعيد :«صَلَلْنَا » بصاد مهملة، ولام مفتوحة، وعن الحسن أيضاً صَلِلْنَا بكسر اللام.
وهما لغتان٩، يقال : صَلَّ اللحمُ بفتح الصاد وكسرها لمجيء الماضي مَفْتُوحَ العين ومَكْسُورَها، ومعنى صَلَّ اللَّحْمُ أنْتَنَ وتَغيَّرتَ رَائِحَتُهُ ويقال أيضاً : أَصَلَّ بالألف قال :
٤٠٦٤ - تُلَجْلِجُ مُضْغَةً فِيهَا أنِيضُ أَصَلَّتْ فَهيَ تَحْتَ الكَشْحِ دَاءُ١٠
وقال النحاس : لا يعرف في١١ اللغة «صَلَلْنَا » ولكن يقال : صَلَّ اللَّحْمُ وأَصَلَّ، وخَمَّ وأَخَمَّ وقد عَرَفَها غَيْرُ أَبِي جَعْفَر١٢.

فصل :


قال في تكذيبهم بالرسالة :«أَمْ يَقُولُونَ » بلفظ المستقبل وقال في تكذيبهم بالحشر :«وَقَالُوا » بلفظ الماضي ؛ لأن تكذيبهم بالرسالة لم يكن قبل وجوده، وإنما كان حال وجوده فقال :«يَقُولُونَ » يعني هم فيه. وأما إنكار الحشر فكان سابقاً صادراً منهم ومن آبائهم فقال :«وَقَالُوا » وصرح بقولهم في الرسالة فقال :«أَمْ يَقُولُونَ » وفي الحشر فقال :﴿ وقالوا أَئِذَا ضَلَلْنَا ﴾ ولم يصرح بقولهم في الوحدانية ؛ لأنهم كانوا مصرين في جميع الأحوال على إنكار الحشر والرسالة وأما الوحدانية فكانوا يعترفون بها في بعض الأحوال في قوله :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله ﴾ [ لقمان : ٢٥ ] فلم يقل : قالوا إن الله ليس بواحد وإن كانوا قالوه في الظاهر.
فإن قيل : إنه ذكر الرسالة من قبل وذكر دليلها ( وهو التنزيل الذي لا ريب١٣ فيه وذكر الوحدانية وذكر دليلها وهو ) خَلْقُ السماوات والأرض وخَلْقُ الإنسان من طين، ولما ذكر إنكارهم الحشرَ لم يذكر الدليل ؟.
فالجواب : أنه ذكر دليله أيضاً وهو أن خلق الإنسان ابتداءً دليل على قدرته على الإعادة ولهذا استدل ( تعالى )١٤ على إمكان الحشر بالخلق الأول كما قال :﴿ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ] وقوله :﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ يس : ٧٩ ] وأيضاً خلق السماوات والأرض كما قال :﴿ أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى ﴾ [ يس : ٨١ ].
قوله :﴿ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ استفهام إنكاري أي إننا كائنونَ في خلق جديد أو واقعون فيه ﴿ بَلْ هُم بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ﴾ إضراب عن الأول يعني ليس إنكارهم لمجرد الخلق ثانياً بل يكفرون بجميع أحوال الآخرة حتى لو صدقوا بالخلق الثاني لما اعترفوا بالعذاب والثواب. أو يكون المعنى لم ينكروا البعث لنفسه بل لكفرهم بلقاء الله فإنهم كَرِهُوهُ فأنكروا المُفْضي إلَيْهِ،
١ يشير إلى الآية (٥) من سورة الرعد وهي قوله: "أئذا كنا تراباً أئنا لفي خلق جديد"..
٢ انظر: مشكل إعراب القرآن ٢/١٨٧..
٣ بخلاف لو كانت غير شرطية كالظرفية فتكون في موضع نصب "بضللنا" ويؤيد هذا قراءة "أئنا" على الإخبار. والمعنى: أنبعث إذا ضللنا في الأرض..
٤ غريب القرآن لابن قتيبة ٣٤٦ والقرطبي ١٤/١١٠..
٥ له من بحر الطويل وقبله:
فإن تحي لا أملك حياتي وإن تمت فما في حياة بعد موتك طائل
وهو يرثي بهما النعمان بن الحارث الغساني. والشاهد فيه كلمة: "مضلوه" أي دافنوه وهذه الكلمة تؤكد معنى ضللنا فعلى هذا الرأي وهو التغيب كما يغيّب المدفون في التراب. وانظر: ديوان النابغة ١٢١ و ٢٥٤ و"الجولان" موضع معروف بسوريا، وبعين جلية: أي بخبر صادق فالكرم والجود ذهبا بذهابه. انظر: القرطبي ١٤/٩١ واللسان: " ض ل ل" ٢٦٠٤ والكشاف ٣/٢٤٢ ورواية الكشاف: "وآب" بالواو..

٦ ذكرها ابن خالويه في مختصره ١١٧، وانظر أيضاً إعراب القرآن للنحّاس ٤/٢٩٣ والبحر ٧/٢٠٠ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٢٠٥ ومعاني القرآن للفراء ٢/٣٢١..
٧ تصحيح أبي حيوة فكانت في كلتا النسختين "حياة"..
٨ مختصر ابن خالويه أيضاً وهي قراءة شاذة ١١٧ وانظر أيضاً معاني الفراء ٢/٢٣١ ومعاني الزجاج ٤/٢٠٥ وإعراب القرآن للنحاس ٣/٢٩٣ والمحتسب ٢/١٧٤..
٩ انظر: إعراب القرآن للنحاس ٤/٢٩٣ ومعاني الفراء ٢/٢٣١ ومعاني الزجاج ٤/٢٠٥..
١٠ من تمام الوافر لزهير بن أبي سلمى، والشاهد فيه" أَصَلَّ" حيث جاء الفعل بهمزة وهو معنى الفعل الثلاثي "صَلَّ" فالمعنى واحد وهو التغير والتنتُّنُ. وانظر: اللسان مادة:" صَ. لَ. لَ" ٢٤٨٧ والمحتسب ٢/١٧٤ وكامل المبرد ١/١٤ وديوانه ٨٣، والأنيض مصدر لقولنا: أَنَضَ اللحمُ يأنِضُ إذا تغير..
١١ انظر: إعراب القرآن للنحاس ٣/٢٩٣..
١٢ هذا كلام الشارح أي إنها عرفت لدى العلماء على خلاف زعم أبي جعفر النحاس ووجهة نظر النحاس أن السماع هو المعول عليه ولذلك قال: سمع صَلَلْنَا بالفتح، وانظر: الدر المصون ٤/٣٥٨ والبحر المحيط ٧/٢٠٠..
١٣ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
١٤ ساقط من "ب"..
ثم بين لهم ما يكون ( من الموت١٥ إلى العذاب ) فقال :﴿ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ ﴾ يقبض أرواحكم ﴿ مَلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ ﴾ أي وكل بقبض أرواحكم وهو عزرائيلُ، ( والتَّوَفِّي )١ استيفاء العدد معناه أنه يقبض أرواحهم حتى لا يبقى أحد من العدد الذي كُتِبَ عليه الموت٢.

فصل :


روي أن ملك الموت جعلت له الدنيا مثل راحة اليد يأخذ منها صاحبها، ما أحب من غير مشقة فهو يقبض أنفُسَ الخَلْقِ من مشارق الأرض ومغاربها٣، وله أعوان من ملائكة الرحمة وأعوان من ملائكة العذاب، وقال ابن عباس : خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب، وقال مجاهد : جعلت الأرض مثل طِسْتٍ٤ يتناول منها حيث شاء.
قوله :﴿ ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ﴾ أي تصيرون إليه أحياء فيجزيكم بأعمالكم، وقرأ العامة : تُرْجَعُونَ ببنائه للمفعول، وزيد بن علي٥ : ببنائه للفاعل.
١ ساقط من "ب"..
٢ انظر تفسير الفخر الرازي ٢٥/١٧٦..
٣ انظر: القرطبي ١٤/٩٣ وفي "ب" إلى مغاربها..
٤ المرجع السابق..
٥ ذكرها أبو حيان في بحره ٧/٢٠٠ والإتحاف ٣٥١..
قوله :﴿ وَلَوْ تَرَى ﴾ في «لو » هذه وجهان :
أحدهما : أنها لِمَا كان سَيَقَعُ لوقوعه غيره. وعبَّر١ عنها الزمخشري بامتناعٍ لامْتِنَاع٢، وناقشه أبو حيان في ذلك. وقد تقدم تحقيقه أول البقرة٣، وعلى هذا جوابها محذوف أي لرأيت أمر فظيعاً٤.
والثاني : أنها للتمني. قال الزمخشري كأنه قيل : وليتك٥ ترى. وفيها إذا كانت للتمنِّي خلافٌ على تقتضي جواباً أم لا٦، وظاهر تقدير الزمخشري هنا أنه لا جواب لها.
قال أبو حيان : والصحيح أن لها جواباً٧ وأنشد :
٤٠٦٥- فَلوْ نُبِشَ المِقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ فَيُخْبِرَ بالذَّنَائِبِ أَيُّ زِيرِ
بِيَوْمِ الشَّعْثَمَيْنِ لقَرَّ عيْناً وَكَيْْفَ لِقَاءُ مَنْ تَحْتَ القُبُورِ٨
قال الزمخشري : ولو تجيء في معنى التمني كقولك :«لو تأتيني فتحدثني » ( كما تقول )٩ :«لَيْتَكَ تَأتِيني فَتُحَدِّثَنِي »١٠ قال ابن مالك : أن أراد به الحذف أي وَدِدْتُ لو تأتيني١١ فتحدثني فصحِيح وإن أراد أنها موضوعة له فليس بصحيح، إل لو كانت موضوعة له لم يجمع بينها وبينه كما لم يجمع بين «ليت » والتمني، ولا «لعل وأترجّى »، ولا «إلا » وأستثني، ويجوز أن يجمع بين «لو » وأتمنى تقول ( تَمَنَّيتُ١٢ لَوْ فَعَلْتُ كذا )، والمخاطب يحتمل أن يكون - النبي صلى الله عليه وسلم - شفاء لصدره، فإنهم١٣ كانوا يؤذونه بالتكذيب، ويحتمل أن يكون عاماً، و «إذْ » على بابها من المضي ؛ لأن «لو »١٤ تصرف المضارع للمضي، وإنما جيء هنا ماضياً لتحقق وقوعه نحو :﴿ أتى أَمْرُ الله ﴾ [ النحل : ١ ]. وجعله أبو البقاء١٥ مما وقع فيه «إذ » مَوْقع «إذَا ». ولا حاجة إليه. والمراد بالمجرمين المشركين.
قوله :«نَاكِسُوا » العامة على أنه اسم فاعل مضاف لمفعوله تخفيفاً، وزيدُ بن علي «نَكِسُوا »١٦ فعلاً ماضياً «رُؤُوسَهُمْ » مفعول به، والمعنى مُطَأطِئُو رُؤُوسِهِمْ.
قوله :«رَبَّنا » على إضمار القول، وهو حال أي قائلينَ ذلك، وقدره الزمخشري يَسْتَغيثُونَ١٧ بقولهم، وإضمار القول١٨ أكْثَرُ١٩.
قوله :«أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا » يجوز أن يكون المفعول مقدراً أي أبصرنا ما كنّا نكذب وسمعنا ما كنا ننكر. ويجوز أن لا يقدر أي صِرْنَا بُصَرَاءَ سَمِيعِينَ فارْجِعْنَا «( إلى الدنيا ) نَعْمَل صِالِحاً » يجوز أن يكون «صالحاً » مفعولاً به، وأن يكون نعت مصدر، وقولهم :«إنَّا مُوقِنُونَ » أي إنا آمنا في الحال، ويحتمل أن يكون المراد أنهم ينكرون الشرك كقولهم :﴿ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٣ ].
١ في "ب" وعرفها..
٢ قال: "وأن تكون "لو" الامتناعية قد حذف جوابها وهو لرأيت أمراً فظيعاً" الكشاف ٣/٢٤٢..
٣ يقصد الآية ٢٠ من سورة "البقرة" وهي قوله تعالى: ﴿ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير﴾..
٤ ذكره الكشاف في المرجع السابق..
٥ المرجع السابق..
٦ ذكره ابن هشام في المغني ٢٦٧..
٧ البحر المحيط لأبي حيان ٧/٢٠١..
٨ بيتان من تمام الوافر من قصيدة لامرئ القيس بن ربيعة الملقب بمهلهل يذكر فيها ما وقع من أخذه بثأر أخيه و"الذنائب" موضع وكذا "الشعثمان" "وكليب" أخوه والشاهد حصول الجواب "للو" التي لتمني حصول شيء مستحيل. "فلو" هنا للتمني وجوابها "لقرّ عيناً" وانظر: الأمالي للقالي ١/٤ و ٢/١٣١ والبحر المحيط ٧/٢١٠، والمغني ٢٦٧، ويس ٢/٢٥٩ والأصمعيات ١٥٤ و ١٥٥، والحماسة البصرية ١/٨٤، والأشموني ٤/٣٢ وتوضيح المقاصد ٤/٢٧٠ وشرح شواهد المغني للسيوطي ٦٥٤..
٩ ساقط من "ب"..
١٠ انظر: شرح المفصل لابن يعيش ٩/١١..
١١ نقله في شرح الكافية الشافية ٦٥ وكذلك نقله عنه في بحره أبو حيان ٧/٢٠١..
١٢ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
١٣ في "ب" لأنهم..
١٤ في "ب" "لم" وهو تحريف..
١٥ قال: و"إذْ" هنا يراد بها المستقبل، وقد ذكرنا مثل ذلك في البقرة والتقدير: يقولون ربنا، انظر: التبيان ١٠٤٨..
١٦ ذكرها أبو حيان ٧/٢٠١..
١٧ الكشاف ٣/٢٤٢..
١٨ ما بين القوسين كله ساقط من "ب"..
١٩ ذكره ابن الأنباري في غريبه ٢/٢٥٩ فقال: "تقديره: يقولون ربنا أبصرنا وسمعنا" فحذف القول وحذف القول كثير في كلامهم..
قوله: ﴿وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا﴾ رشدها وتوفيقها للإيمان، وهذا جواب عن قولهم: ربنا أبَصْرنَا وَسَمِعْنَا وذلك أن الله تعالى قال: إني لو رجعتكم إلى الإيمان لهديتكم في الدنيا، ولما لم أهدكم في الدنيا تبين أني ما أردتُ وما شئت إيمانكم فلا أردكم، وهذا صريح في الدلالة على صحة مذهب أهل السنة حيث قالوا إن الله تعالى ما أراد الإيمان من الكافر، وما شاء منه إلا الكُفْرَ.
483
قوله: ﴿ولكن حَقَّ القول مِنِّي﴾ وجب القول (مني) وهو قوله تعالى: ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾. ﴿فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ﴾ قال مقاتل: إذا دخلوا النار قال لهم الخزنة: ﴿فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذآ﴾ أي تركتم الإيمان به في الدنيا. «لِقَاءَ يَوْمِكُمْ» (يجوز فيه أوجه:
أحدها: أنها من التنازع لأن «ذُوقُوا» يطلب «لِقَاء يَوْمِكُمْ» و «نَسِيتُمْ» يطلبه أيضاً أي ذُوقُوا عَذَابَ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ) هذا بما نَسِيتُمْ عذاب لقاء يومكم هذا ويكون من إعمال الثاني عند البصريين ومن إعمال الأول عند الكوفيين، والأول أصح لللحذف من الأول؛ إذ لو عمل الأول لأضمر في (الثاني).
الثاني: أن مفعول «ذُوقُوا» محذوف أي ذُوقُوا العذاب بسبب نِسْيَانِكم لقاءَ يومكم، (و «هذا» على هذين الإعرابين صفة «ليَوْمِكُمْ».
الثالث: أن يكون مفعول «ذُوقُوا» «هَذَا» والإشارة به إلى العذاب، والباء سببية أيضاً أي فذوقها هذا العذاب بسبب نِسْيَانكم لقاء يومكم)، وهذا ينبو عنه الظاهر، قال ابن الخطيب «هذا» يحتمل ثلاثة أوجه: أن يكون إشارة إلى اللقاء (وأن يكون إشارة إلى اليوم)، وأن يكون إشارة إلى العذاب، ثم قال: «إنَّا نَسِينَاكُمْ» تركناكم غيرَ ملتفت إليكم ﴿وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ من الكفر والتكذيب.
قوله: ﴿إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الذين إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً﴾ سقطوا على وجوههم ساجدين ﴿وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾، قيل: سلموا بأمر ربهم. وقيل: قالوا سُبْحَانَ الله وبحمده ﴿وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ عن الإيمان به والسجود له.
قوله: ﴿تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع﴾ يجوز في «تَتَجَافَى» أنْ يكون مستأنفاً،
484
وأن يكون حالاً وكذلك «يَدْعُونَ» إذا جعل «يَدْعُون» حالاً احتمل أن يكون حالا ثانية، وأن يكون حالاً من الضمير في «جنوبهم» ؛ لأن المضارع خبرٌ، والتجافي الارتفاع، وعبر به عن ترك النوم، قال ابن رواحة:
٤٠٦٦ - نَبِيٌّ تَجَافَى جَنْبُهُ عَنْ فِرَاشِهِ إذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ
والمعنى يرتفع (وينبو) جنوبهم عن المضاجع جمع المضْجَع وهو المَوْضِع الذي يَضْطَجِعُ عليه يعني الفراش وهم المتهجدون بالليل الذين يقيمون الصلاة، قال أنس: نزلت فينا مَعْشَرَ الأنصار، كنا نصلي المغرب الصلاة فلا نرجع إلى رحالنا حتى نُصَلِّيَ العشاءَ مع - النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
(وعن أنس: أيضاً قال: نَزَلَتْ في أناسٍ من أصحابِ النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) كانوا يُصَلُّونَ من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء وهو قول أبي حَازِمٍ، ومُحَمَّد بْنِ المُنْكَدِر، وقال في صلاة الأوابين وهو مروي عن ابن عباس. وقال عطاء: هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخر والفجر في جماعة، (وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ صَلَّى العِشَاء في جماعة) (كَانَ كَقِيَام نِصْفِ لَيْلَةٍ ومن صلى الفجر في جماعة) كان كقيام ليلة»، والمشهور أن المراد منه صلاة الليل، وهو قول الحَسَنِ
485
وجماعة ومجاهد، ومَالِك والأوْزَاعِي وجماعة لقوله عليه (الصلاة و) السلام: «أفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمضَانَ شِهْرُ اللَّهِ المُحَرَّمُ، وأفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الفَرِيضَةٍ صَلاَةُ اللَّيْلِ، وقال عليه (الصلاة و) السلام -:» إن فِي الجَنَّةِ غُرَفاً يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنها وباطنُها من ظاهِرها أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَلاَنَ الكَلاَمَ، وأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى باللَّيْلِ والنَّاسُ نِيَامٌ «
(قوله) :»
خَوْفاً وَطَمعاً «إام مفعول من أجله وإمّا حالان، (وإما) مصدران لعامل مقدر.
قال ابن عباس: خَوْفاً من النار وطمعاً في الجنة، ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾. قيل: أراد به الصدقة المفروضة وقيل: عام في الواجب والتطوع.
قوله: ﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ قرأ حمزة»
أُخْفِي «فعلاً مضارعاً مسنداً لضمير المتكلم فلذلك سكنت ياؤه (لأنه) مرفوع، ويؤيده قراءة ابن مسعود:» مَا نُخْفِي «بنون العظمة، والباقون» أُخِفِيَ «ماضياً مبنياً للمفعول، (فَمِن) ثمَّ فُتِحَتْ ياؤه، وقرأ محمد بن كعب» أَخْفَى «ماضياً مبنياً للفاعل، وهو اللَّهُ تعالى، يؤيدها قراءة الأعمش و [» مَا] أَخْفَيْتُ مسنداً للمتكلم. و «ما» يجوز أن تكون موصولة أي لا يعلم الذي أخفاه الله، وفي الحديث: «مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» وأن تكون
486
استفهامية معلقة «لتَعْلَمَ» فإن كانت متعدية لاثنين سدت مسدهما أو لواحد سدت مسده.
قوله: ﴿مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ قرأ عبد الله، وأبو الدرداء وأبو هريرةَ «من قُراتِ أَعْيُنٍ» جمعاً بالألف والتاء، و «جزاءً» مفعولٌ له، أو مصدر مؤكد لمعنى الجملة قبله، إذا كانت «ما» استفهامية فعلى قراءة (مَنْ قرأ ما) بعدها فعلاً ماضياً يكون في محل رفع بالابتداء، والفعل بعدها الخبر، وعلى قراءة من قرأ مضارعاً يكون مفعولاً مقدماً و «مِنْ قُرَّةِ» حال من «ما» والمعنى مَا يُقِرُّ الله به أعينهم ﴿جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ قال ابن عباس: هذا مما لا تفسير له.
قال بعضهم: أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم.
قوله: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً﴾ نزلت في عليِّ بْن أبي طالب، والوليدِ بن عقبة بن أبي معيط أخِي عثمان لأمه وذلك أنه كان بينهما تنازع فقال الوليد بن عقبة لِعَلِيٍّ: اسْكُتْ فإنك فاسق فأنزل الله عزّ وجلّ: ﴿أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يَسْتَوونَ﴾ ولم يقل لا يستويان لأنه لم يرد مؤمناً واحداً ولا فاسقاً واحداً بل أراد جميع المؤمنين وجميع الفاسقين. قوله: «لا يستوون» مستأنف؛ روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يعتمد الوقف على قوله «فاسقاً» ثم يبتدىء: «لا يَسْتَوونَ».
قوله: ﴿أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ لما ذكر أن المؤمن والفاسق لا يستويان بطريق الإجمال بين عدم استوائهما على سبيل التفصيل فقال: ﴿أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى﴾ قرأ طلحةُ «جنة المأوى» بالإفراد، والعامة بالجمع، أي التي يأوي إليها المؤمنون. وقرأ أبو حيوة نُزْلاً - بضم وسكون - وتقدم تحقيقه آخر آل عمران، ﴿وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار﴾ وهذا إشارة إلى حال الكافر، واعلم أن العمل الصالح له مع الإيمان تأثير فلذلك قال: ﴿آمنوا وعملوا الصالحات﴾، وأما الكافر فلا التفات إلى الأعمال معه فلهذا لم يقل: «وأما الذين فسقوا
487
وعملوا السيئات» ؛ لأن المراد من «فَسَقُوا» كفروا، ولو جعل العقاب في مقابلة الكفر والعمل لظن (أن) مجرد الكفر (لا) عقاب عليه.
قوله: ﴿الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ﴾ صفة لعذاب، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة للنار قال: وذكر على معنى الجَحِيم والحَريق.
قوله: ﴿وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى دُونَ العذاب الأكبر﴾ قال أبيُّ بنُ كَعْبٍ والضَّحَّاكُ والحَسَنُ وإبْرَاهيمُ: العذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وهو رواية الوَالبِيِّ عن ابن عباسٍ، وقال عكرمة عنه: الحدود، وقال مقاتل: الجوع سبع سنين بمكة حتى أكلوا الجيف والعظام والكلاب. وقال ابن مسعود: هو القتل بالسيف يوم بدر وهو قول قتادة والسدي. وأما العذاب الأكبر وهو عذاب الآخرة فإن عذاب الدنيا لا نسبة له إلى عذاب الآخرة.
فإن قيل: ما الحكمة في مقابلته «الأدنى» «بالأكبر»، «والأدنى» إنما هو في مقابلة «الأقصى» «والأكبر» إنما هو مقابله «الأصغر» ؟
فالجواب: أنه حصل في عذاب الدنيا أمران: أحدهما: أنه قريب والآخر: أنه قليل صغير، وحصل في عذاب الآخرة أيضاً أمران، أحدهما: انه بعيد والأآخر أنه عظيم كبيرٌ لكن العرف في عذاب الدنيا هو أنه الذي يصلح التخويف به فإن العذاب العاجل وإن كان قليلاً فلا يَحْتَرِزُ عنه بعض الناس أكثر مما يَحْتَرِزُ من العذاب الشديد إذا كان آجلاً، وكذا الثواب العاجل قد يَرْعَبُ فيه بعض الناس ويستبعد الثوابَ العظيم الآجل.
وأما في عذاب الآخرة فالذي يصلح للتخويف هو العظيم والكبير (لا) البعيد لِمَا بينا فقال في عذاب الدنيا الأدنى ليحترز العاقل عنه ولو قال: «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ
488
من العذاب الأصغر» ما كان يحترز عنه لصغره وعدم فَهْم كونه عاجلاً، وقال في عذاب الآخرة الأكبر لذلك المعنى ولو قال: مِنَ العَذَابِ الأبعد الأقْصَى (لما حصل) التخويف به مثل ما يحصل بوصفه بالكِبَر.
قوله: «لعلهم يرجعون» إلى الإيمان يعني مَنْ بَقِي منهم بعد «بدر».
فإن قيل: ما الحكمة في هذا الترجي وهو على الله تعالى محال؟
فالجواب: فيه وجهان:
أحدهما: معناه لنذيقنهم إذاقة الراجين كقوله: «إنَّا نَسِنَاكُمْ» يعني تركناكم كما يترك الناس (حيث لا يلتفت إليه) أَصْلاً كَذلِكَ ههنا.
والثاني: نذيقهم العذاب إذاقة يقول القائل: لعلهم يرجعون بسببه.
والثاني: نذيقهم العذاب إذاقة يقول القائل: لعلهم يرجعون بسببه.
قوله: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ﴾ (أي من ذكر بآيات الله) من النعم أولاً، والنِّقَم ثانياً ولم يؤمنوا، فلا أظلَمُ منهم أَحدٌ.
قوله: ﴿ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ﴾ هذه أبعد ما بين الرُّتْبَتَيْنِ معنىً، وشبهها الزمخشري بقوله:
٤٠٦٧ - وَمَا يَكْشِفُ الغَمَّاء إلاَّ ابْنُ حُرَّةٍ يَرَى غَمَرَاتِ المَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا
قال: استبعد (أن يزور) غمرات الموت بعد أن رآها وعرفها، واطلع على شدتها.
قوله: ﴿إِنَّا مِنَ المجرمين﴾ (يعني المشركين) «مُنْتَقِمُونَ».
489
﴿ فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ ﴾ قال مقاتل١ : إذا دخلوا النار قال لهم الخزنة :﴿ فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ ﴾ أي تركتم الإيمان به في الدنيا. «لِقَاءَ يَوْمِكُمْ » ( يجوز٢ فيه أوجه :
أحدها : أنها من التنازع لأن٣ «ذُوقُوا » يطلب «لِقَاء يَوْمِكُمْ » و «نَسِيتُمْ » يطلبه أيضاً أي ذُوقُوا عَذَابَ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ ) هذا بما نَسِيتُمْ عذاب لقاء يومكم هذا ويكون من إعمال الثاني عند البصريين ومن إعمال الأول عند الكوفيين٤، والأول أصح للحذف من الأول ؛ إذ لو عمل الأول لأضمر في ( الثاني )٥.
الثاني : أن مفعول «ذُوقُوا » محذوف أي ذُوقُوا العذاب بسبب نِسْيَانِكم لقاءَ يومكم٦، ( و «هذا »٧ على هذين الإعرابين صفة «ليَوْمِكُمْ ».
الثالث : أن يكون مفعول٨ «ذُوقُوا » «هَذَا » والإشارة به إلى العذاب، والباء سببية أيضاً أي فذوقوا هذا العذاب بسبب نِسْيَانكم لقاء يومكم )٩، وهذا ينبو عنه الظاهر، قال ابن الخطيب «هذا » يحتمل ثلاثة أوجه :١٠ أن يكون إشارة إلى اللقاء ( وأن١١ يكون إشارة إلى اليوم )، وأن يكون إشارة إلى العذاب، ثم قال :«إنَّا نَسِينَاكُمْ » تركناكم غيرَ ملتفت إليكم ﴿ وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ من الكفر والتكذيب.
١ نقله في زاد المسير ٦/٣٣٧..
٢ ما بين المعقوفين كله ساقط من "ب"..
٣ حكاه أبو البقاء في التبيان ٤٩. والبحر ٧/٢٠٢ والدر المصون ٤/٣٥٩..
٤ التبيان ١٠٤٩ والدر المصون ٤/٣٦٠..
٥ زيادة عن النسختين يقتضيها سياق الكلام..
٦ ذكره في البحر المحيط ٧/٢٠٢..
٧ المرجع السابق..
٨ ذكره أبو البقاء في التبيان ١٠٤٩..
٩ ما بين القوسين كله ساقط من "ب"..
١٠ انظر: التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي ٢٥/١٨٠..
١١ ساقط من "ب" وهي في تفسير الفخر الرازي..
قوله :﴿ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الذين إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً ﴾ سقطوا على وجوههم ساجدين ﴿ وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ﴾، قيل : سلموا بأمر ربهم١. وقيل : قالوا سُبْحَانَ الله وبحمده ﴿ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ عن الإيمان به والسجود له.
١ تفسير القرطبي ١٤/٩٩..
قوله :﴿ تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع ﴾ يجوز في «تَتَجَافَى » أنْ يكون مستأنفاً١، وأن يكون٢ حالاً وكذلك «يَدْعُونَ »٣ إذا جعل «يَدْعُون » حالاً احتمل أن يكون حالا ثانية، وأن يكون حالاً من الضمير في «جنوبهم » ؛ لأن المضارع خبرٌ٤، والتجافي الارتفاع٥، وعبر به عن ترك النوم، قال ابن رواحة :
٤٠٦٦ - نَبِيٌّ تَجَافَى جَنْبُهُ عَنْ فِرَاشِهِ إذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ٦
والمعنى يرتفع ( وينبو )٧ جنوبهم عن المضاجع جمع المضْجَع وهو المَوْضِع الذي يَضْطَجِعُ عليه يعني الفراش وهم المتهجدون بالليل الذين يقيمون الصلاة، قال أنس : نزلت فينا مَعْشَرَ الأنصار، كنا نصلي المغرب الصلاة فلا نرجع إلى رحالنا حتى نُصَلِّيَ العشاءَ مع - النبي صلى الله عليه وسلم٨ -.
( وعن أنس٩ : أيضاً قال : نَزَلَتْ في أناسٍ من أصحابِ النّبي صلى الله عليه وسلم )١٠ كانوا يُصَلُّونَ من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء وهو قول أبي حَازِمٍ١١، ومُحَمَّد بْنِ١٢ المُنْكَدِر، وقال في صلاة الأوابين وهو مروي عن ابن عباس. وقال عطاء : هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخر والفجر في جماعة١٣، ( وقال١٤ صلى الله عليه وسلم :«مَنْ صَلَّى العِشَاء في جماعة ) ( كَانَ١٥ كَقِيَام نِصْفِ لَيْلَةٍ ومن صلى الفجر في جماعة ) كان كقيام ليلة »١٦، والمشهور أن المراد منه صلاة الليل، وهو قول١٧ الحَسَنِ وجماعة ومجاهد، ومَالِك والأوْزَاعِي١٨ وجماعة لقوله عليه ( الصلاة١٩ و ) السلام :«أفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمضَانَ شَهْرُ اللَّهِ المُحَرَّمُ، وأفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الفَرِيضَةٍ صَلاَةُ اللَّيْلِ٢٠، وقال عليه ( الصلاة٢١ و ) السلام- :«إن٢٢ فِي الجَنَّةِ غُرَفاً يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنها وباطنُها من ظاهِرها أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَلاَنَ الكَلاَمَ، وأَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى باللَّيْلِ والنَّاسُ نِيَامٌ ».
( قوله )٢٣ :﴿ خَوْفاً وَطَمعاً ﴾ إما مفعول من أجله وإمّا حالان٢٤، ( وإما ) مصدران لعامل مقدر.
قال ابن عباس : خَوْفاً من النار٢٥ وطمعاً في الجنة، ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾. قيل : أراد به الصدقة المفروضة وقيل : عام في الواجب٢٦ والتطوع.
١ انظر: البيان ٢/٢٥٩..
٢ البيان ٢/٢٥٩ والتبيان ١٠٤٩ ومشكل الإعراب ٢/١٨٧..
٣ المراجع السابقة..
٤ هكذا تلك العبارة هنا وما في السمين: "لأن المضاف جر ويظهر- كما في التصريح- أن المراد أن المضاف جزء من المضاف إليه وهو أحد شروط مجيء الحال من المضاف". التصريح ١/٣٠٨..
٥ ذكره في زاد المسير ٦/٣٣٩ ومجاز القرآن ٢/١٣٢..
٦ بيت من بحر الطويل لعبد الله بن رواحة أحد أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وشاهده في "تجافى" فإن معناه الارتفاع بجسم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن الفراش. وانظر: تفسير ابن كثير ٣/٤٥٩ والطبري ٢١/٦٤ والبحر المحيط ٧/٢٠٢ و ٣٤٥ ومجمع البيان للطبرسي ٧/١٧ والسراج المنير ٣/٢٠٨ والقرطبي ١٤/١٠٠..
٧ تصحيح يقتضيه الكلام..
٨ ذكره ابن الجوزي في زاد المسير ٦/٣٣٩ والقرطبي ١٤/١٠١..
٩ المرجعان السابقان..
١٠ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
١١ هو سلمة بن دينار مولى الأسود بن سفيان أبو حازم الأعرج التمَّار المدني القاصُّ الزاهد، أحد الأعلام عن ابن عمر، وابن عمرو، وسهل بن سعد، وابن المسيب وعنه ابنه عبد العزيز ومالك والسفيانان؛ كان ثقة مات سنة ١٣٥. انظر: الخلاصة ١٤٨..
١٢ ابن عبد الله أبو عبد الله المدني أحد الأئمة الأعلام عن عائشة وأبي هريرة، وأبي قتادة، وجابر، وعنه زيد بن أسلم ويحيى الأنصاري وخلق. مات سنة ١٣٠ هـ: المرجع السابق ٣٦٠ وانظر رأيهما في القرطبي ١٤/١٠١..
١٣ نقله الشوكاني في فتح القدير ٤/٢٥٣..
١٤ ساقط من "ب"..
١٥ ساقط كذلك..
١٦ نقله القرطبي في تفسيره ١٤/١٠١ مروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه..
١٧ الجامع لأحكام القرآن ١٤/١٠٠..
١٨ هو أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي الإمام الفقيه الحجة الورع سمع من الزهري وعطاء. وعنه أخذ الثوري وابن المبارك وخلق مات سنة ١٥٧ هـ انظر: الخلاصة ٢٣٢..
١٩ زيادة من "ب"..
٢٠ الحديث رواه الإمام أحمد ٢/٣٤٢ و ٣٤٤..
٢١ ساقط من "ب"..
٢٢ رواه الإمام أحمد في مسنده في ٢/١٧٣ و ٥/٣٤٣..
٢٣ ساقط من "ب"..
٢٤ معاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٢٠٧، والبيان ٢/٢٩٠..
٢٥ ذكره الزجاج في : ٤/٢٠٧..
٢٦ المرجع السابق..
قوله :﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ قرأ حمزة «أُخْفِي » فعلاً مضارعاً١ مسنداً لضمير المتكلم فلذلك سكنت ياؤه ( لأنه )٢ مرفوع، ويؤيده٣ قراءة ابن مسعود :«مَا نُخْفِي » بنون العظمة٤، والباقون «أُخِفِيَ » ماضياً مبنياً٥ للمفعول، ( فَمِن )٦ ثمَّ فُتِحَتْ ياؤه، وقرأ محمد بن كعب٧ «أَخْفَى » ماضياً مبنياً٨ للفاعل، وهو اللَّهُ تعالى، يؤيدها قراءة الأعمش و [ «مَا ]٩ أَخْفَيْتُ »١٠ مسنداً للمتكلم. و «ما » يجوز أن تكون موصولة أي لا يعلم الذي أخفاه الله، وفي الحديث :«مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ »١١ وأن تكون استفهامية١٢ معلقة «لتَعْلَمَ » فإن كانت متعدية لاثنين سدت مسدهما أو لواحد سدت مسده.
قوله :﴿ مِّنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ قرأ عبد الله، وأبو الدرداء وأبو هريرةَ «من قُراتِ أَعْيُنٍ » جمعاً١٣ بالألف والتاء، و «جزاءً » مفعولٌ له، أو مصدر١٤ مؤكد لمعنى الجملة قبله، إذا كانت «ما » استفهامية فعلى قراءة ( مَنْ١٥ قرأ ما ) بعدها فعلاً ماضياً يكون في محل رفع بالابتداء، والفعل بعدها الخبر، وعلى قراءة من قرأ مضارعاً يكون مفعولاً مقدماً١٦ و «مِنْ قُرَّةِ » حال١٧ من «ما » والمعنى مَا يُقِرُّ الله به أعينهم ﴿ جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ قال ابن عباس١٨ : هذا مما لا تفسير له.
قال بعضهم١٩ : أخفوا أعمالهم فأخفى الله ثوابهم.
١ الإتحاف ٣٥٣ والسبعة ٥١٦ والنشر ٢/٣٤٧ وحجة ابن خالويه ٢٨٧ ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٤/٢٠٧ وإعراب القرآن للنحاس ٤/٢٩٥..
٢ في "أ" هنا وساقط من "ب"..
٣ في "ب" ويؤيدها وهو الأقرب أي يؤيد القراءة..
٤ وهي قراءة شاذة ذكرها ابن خالويه في مختصره..
٥ المراجع السابقة..
٦ سقطت من "ب"..
٧ هو: محمد بن كعب بن سليم أبو حمزة ويقال أبو عبد الله القرظي تابعي جليل روى عن فضالة بن عبيد وعائشة وأبي هريرة وغيرهم مات سنة ١٠٨ هـ انظر: طبقات القراء ٢/٢٣٣..
٨ الإتحاف ٣٥٢..
٩ زيادة من "أ"..
١٠ من القراءة الشاذة. انظرها في ابن خالويه ١١٧ و ١١٨..
١١ رواه أبو هريرة انظر البخاري ٣/١٧٤..
١٢ المراجع السابقة..
١٣ من الشواذ وانظر المختصر ١١٨ والمحتسب ٢/١٧٤ ومعاني الفراء ٢/٣٣٢..
١٤ ذكره أبو البقاء في التبيان ١٠٤٩..
١٥ ساقط من "ب"..
١٦ الدر المصون ٤/٣٦١..
١٧ السابق..
١٨ القرطبي ١٤/١٠٤..
١٩ وهو الحسن ذكر الطبري في تفسيره ٢١/٦٨..
قوله :﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً ﴾ نزلت في عليِّ بْن أبي طالب، والوليدِ بن عقبة بن أبي معيط أخِي عثمان لأمه وذلك أنه كان بينهما تنازع فقال الوليد بن عقبة لِعَلِيٍّ : اسْكُتْ فإنك فاسق فأنزل الله عزّ وجلّ :﴿ أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يَسْتَوونَ ﴾ ولم يقل لا يستويان لأنه لم يرد مؤمناً واحداً ولا فاسقاً واحداً بل أراد جميع المؤمنين وجميع الفاسقين. وقوله :«لا يستوون » مستأنف ؛ روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتمد الوقف على قوله «فاسقاً » ثم يبتدئ :«لا يَسْتَوونَ ».
قوله :﴿ أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ لما ذكر أن المؤمن١ والفاسق لا يستويان بطريق الإجمال بين عدم استوائهما على سبيل التفصيل فقال :﴿ أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى ﴾ قرأ٢ طلحةُ «جنة المأوى » بالإفراد٣، والعامة بالجمع، أي التي يأوي إليها المؤمنون. وقرأ أبو حيوة٤ نُزْلاً - بضم وسكون - وتقدم تحقيقه آخر آل عمران٥،
١ في "ب" الفاسق والمؤمن..
٢ طلحة هنا هو طلحة بن مصرف وقد تقدمت ترجمته..
٣ انظر: مختصر ابن خالويه ١١٨ وهي من الشواذ غير المتواترة..
٤ ذكرها أبو حيان ٧/٢٠٣..
٥ يقصد قوله تعالى: ﴿نزلاً من عند الله﴾ وهي الآية ٩٨ من سورة "آل عمران" وقد بين هناك أن الإسكان للتخفيف وأن النزل والنزل هو إعداد الضيف انظر اللباب ٢/٦٥٠ ب..
﴿ وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَا أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار ﴾ وهذا إشارة إلى حال الكافر، واعلم أن العمل الصالح له مع الإيمان تأثير فلذلك قال :﴿ آمنوا وعملوا الصالحات ﴾، وأما الكفر فلا التفات إلى الأعمال معه فلهذا لم يقل :«وأما الذين فسقوا وعملوا السيئات » ؛ لأن المراد من «فَسَقُوا » كفروا، ولو جعل العقاب في مقابلة الكفر والعمل لظن ( أن )١ مجرد الكفر ( لا )٢ عقاب عليه٣.
قوله :﴿ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ ﴾ صفة لعذاب٤، وجوز أبو البقاء أن يكون صفة للنار قال : وذكر على معنى الجَحِيم والحَريق٥.
١ ساقط من "ب"..
٢ ساقط من "ب"..
٣ انظر تفسير الفخر الرازي ٢٥/١٨٢..
٤ الدر المصون ٤/٣٦١ والتبيان ١٠٥٠..
٥ المرجع السابق الأخير..
قوله :﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العذاب الأدنى دُونَ العذاب الأكبر ﴾ قال أبيُّ بنُ كَعْبٍ والضَّحَّاكُ والحَسَنُ وإبْرَاهيمُ١ : العذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها٢ وهو٣ رواية الوَالبِيِّ٤ عن ابن عباسٍ، وقال عكرمة عنه : الحدود٥، وقال مقاتل : الجوع٦ سبع سنين بمكة حتى أكلوا الجيف والعظام والكلاب. وقال ابن مسعود٧ : هو القتل بالسيف يوم بدر وهو قول قتادة والسدي. وأما العذاب الأكبر وهو عذاب الآخرة فإن عذاب الدنيا لا نسبة له إلى عذاب الآخرة٨.
فإن قيل : ما الحكمة في مقابلته «الأدنى » «بالأكبر »، «والأدنى » إنما هو في مقابلة «الأقصى » «والأكبر » إنما هو مقابلة «الأصغر » ؟.
فالجواب : أنه حصل٩ في عذاب الدنيا أمران : أحدهما : أنه قريب والآخر : أنه قليل صغير، وحصل١٠ في عذاب الآخرة أيضاً أمران، أحدهما : أنه بعيد والآخر أنه عظيم كبيرٌ لكن العرف١١ في عذاب الدنيا هو١٢ أنه الذي يصلح التخويف به فإن العذاب العاجل وإن كان قليلاً فلا يَحْتَرِزُ عنه بعض الناس أكثر مما يَحْتَرِزُ من١٣ العذاب الشديد إذا كان آجلاً، وكذا الثواب العاجل قد يَرْغَبُ فيه بعض الناس ويستبعد الثوابَ العظيم الآجل.
وأما في عذاب الآخرة فالذي يصلح للتخويف هو العظيم والكبير ( لا )١٤ البعيد لِمَا بينا فقال في عذاب الدنيا الأدنى ليحترز العاقل١٥ عنه ولو قال :«وَلَنُذِيقَنَّهُمْ من العذاب الأصغر » ما كان يحترز عنه لصغره وعدم فَهْم كونه عاجلاً، وقال في عذاب الآخرة الأكبر لذلك المعنى ولو قال : مِنَ العَذَابِ الأبعد الأقْصَى ( لما حصل )١٦ التخويف به مثل ما يحصل١٧ بوصفه بالكِبَر.
قوله :«لعلهم يرجعون » إلى الإيمان يعني مَنْ بَقِي منهم بعد «بدر ».
فإن قيل : ما الحكمة في هذا الترجي وهو على الله تعالى محال ؟.
فالجواب : فيه وجهان :
أحدهما : معناه لنذيقنهم إذاقة الراجين كقوله :«إنَّا نَسِينَاكُمْ » يعني تركناكم كما يترك الناس ( حيث لا يلتفت١٨ إليه ) أَصْلاً كَذلِكَ ههنا.
والثاني : نذيقهم العذاب إذاقة يقول القائل : لعلهم يرجعون بسببه.
١ هو النخعي وقد سبق ترجمته..
٢ القرطبي ١٤/١٠٧..
٣ في "ب" وهي..
٤ الوالبي: علي بن ربيعة بن نضلة الوالبي أبو المغيرة الكوفي عن علي وسلمان، وعنه الحكم وأبو إسحاق له في البخاري ومسلم حديث. انظر: خلاصة الكمال ٢٧٤..
٥ المرجع السابق..
٦ فتح القدير ٤/٢٥٦ والمرجع السابق أيضاً..
٧ زاد المسير ٦/٣٤١..
٨ المرجع السابق..
٩ في "ب" جعل بدلاً من حصل..
١٠ في "ب" جعل بدلاً من حصل..
١١ في "ب" لكن الفرق وفي تفسير الفخر الرازي "لكن القرب" وهو الأقرب..
١٢ في "ب" وهو بزيادة واو..
١٣ في "ب" عن..
١٤ هكذا هي هنا وفي تفسير الفخر الرازي ولكنها ساقطة من "ب"..
١٥ في "ب" العاجل..
١٦ ساقط من "ب"..
١٧ في "ب" ما يحترز..
١٨ ساقط من "ب"..
قوله :﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ﴾ ( أي من١ ذكر بآيات الله ) من النعم أولاً، والنِّقَم ثانياً ولم يؤمنوا، فلا أظلَمُ منهم أَحدٌ.
قوله :﴿ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ﴾ هذه أبعد٢ ما بين الرُّتْبَتَيْنِ معنىً٣، وشبهها الزمخشري بقوله :
٤٠٦٧ - وَمَا يَكْشِفُ الغَمَّاء إلاَّ ابْنُ حُرَّةٍ يَرَى غَمَرَاتِ المَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا٤
قال : استبعد ( أن يزور )٥ غمرات الموت بعد أن رآها وعرفها، واطلع على شدتها٦.
قوله :﴿ إِنَّا مِنَ المجرمين ﴾ ( يعني المشركين )٧ «مُنْتَقِمُونَ ».
١ كذلك..
٢ في "ب" لبعد..
٣ الدر المصون ٤/٣٦١..
٤ وفي الكشاف: "لا يكشف" وفي البحر "ولا يكشف" والغمَّاء: الشدة المظلمة والبيت من بحر الطويل وهو لجعفر بن علبة الحارثيّ ومعناه: أن تلك الغمة لا يزيلها إلا إنسان شجاع ابن حرة يجيد الهلاك في الإقدام ومع ذلك يقدم عليه وشاهده أن ثم هنا تفيد التراخي بين رتبتين متباينتين رتبة النكوص ورتبة الإقدام وعلى ذلك صح التنظير بالآية. وانظر: البحر المحيط ٧/٢٠٤ والحماسة البصرية ١/١٥٠ والكشاف ٣/٢٤٦ وشرح شواهده ٤/٤١٧ والسراج المنير ٣/٢١٣ والبيضاوي ٢/١٢٦..
٥ ساقط من "ب"..
٦ الكشاف ٣/٢٤٦..
٧ ساقط من "ب"..
قوله: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب﴾ لما قرر الأصول الثلاثة عاد إلى الأمثل الذي بدأ به وهو الرسالة المذكورة في قوله: ﴿لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ﴾ [السجدة: ٣] وقال: إنَّكَ لَسْتَ بدْعاً مِنَ الرُّسُلِ بل كان قبلك رسلٌ مثلُك، وذكر موسى لقربه (من) النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ووجود من كان على دينه إلزاماً لهم، وإنما لم يختر عيسى - عليه (الصلاة و) السلام (للذكر) والاستدلال لأن اليهود ما كانوا يوافقون على نبوّته، وأما النصارى فكانوا يعترفون بنُبُوَّة عيسى عليه السلام فتمسك بالمجمع عليه.
قوله: ﴿فَلاَ تَكُنْ فِي مَرْيَةٍ﴾ قرأ الحسن بالضم وهي لُغَةٌ، وقوله: «مِنْ لِقَائِهِ» في الهاء أقوال:
أحدها: أنها عائدة على «مُوسَى» والمصدر مضاف لمفعوله أي من لقائِكَ مُوسى ليلةَ الإسراء. وامْتَحَنَ المبردُ الزجاجَ في هذه المسألة فأجاب بما ذكر، قال ابن عباس وغيره: المعنى فلا تكن في شَكٍّ من لقاء موسى فإنك تراه وتلقاه، روى ابن عباس «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسري بي مُوسىَ رَحُلاً آدَمَ طُوالاً جَعْداً كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى رَجُلاً مَرْبُوعاً إلى الحُمرةِ والبَيَاض سَبْطي الرأس، ورأيتَ مالِكاً خَازِنَ النَّارِ والدَّجَّال في آيات أَراهَنَي اللَّهُ إيَّاهُ»
والثاني: أن المضير يعود على «الكتاب» وحينئذ يجوز أن تكون الإضافة للفاعل أي من لقاء الكتاب لموسى أو للمفعول أي من لقاء موسى الكتاب لأن اللقاءَ يصح نسبته إلى كل منهما، لأن من لقيك فقد لقيته.
490
قال السدي المعنى فلا تكن في مِرْيَةٍ من لقائه أي تلقى موسى كتاب الله بالرضا والقبول.
الثالث: أي يعود على الكتاب على حذف مضاف أي من لقاء مثل كتاب موسى.
الرابع: أنه عائد على ملك الموت لتقدم ذكره.
الخامس: عوده على الرجوع المفهوم من قوله: ﴿إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ [السجدة: ١١] أي لأنك في مرية من لقاء الرجوع.
السادس: أنه يعود على ما يفهم من سياق الكلام مِمَّا ابتلي ب موسى من البلاء والامْتِحَان، قاله الحسن. أي لا بدّ ان يلقى ما لقي موسى من قومه فاختار موسى عليه السلام لحكمة وهي أن أحداً من الأنبياء لم يؤذِهِ من قومه إلا الذين لم يؤمنوا، وأما الذين آمنوا به فلم يخالفوه غير قوم موسى عليه السلام فإن من لا آمن به آذاه كفرعون (وغيره) ومن آمن به من بني إسرائيل أيضاً (آذاه) بالمخالفة وطلب أِياء مثل رؤية الله جهرة وكقولهم: ﴿فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلاا﴾ [المائدة: ٢٤]. وأظهر هذه الأقوال أن الضمير إما لموسى وإما للكتاب، ثم بين (أن له هداية غير عادية عن المنفعة كما أنه لم تحل هداية موسى حيث جعل الله كتاب موسى هدى) وجعل منهم أئمة يهدون كذلك يجعل كتابك هدى ويجعل من أمتك صاحبة يهدون كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:
«أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُم اهْتَدَيْتُمْ»، ثم بين أن ذلك يحصل بالصبر فقال: ﴿ولَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾.

فصل


«لَمَّا صَبَرُوا» قرأ الأخوان بكسر اللام وتخفيف الميم، على أنها لام الجر و ( «ما» ) مصدرية، والجار متعلق بالجعل أي جعلناهم كذلك لصبرهم ولإيقانهم، والباقون بفتحها وتشديد الميم. وهي «لمَّا» التي تقتضي جواباً وتقدم فيها
491
قولا سيبويه والفارسي، والمعنى حين صبروا على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بمضّرَ.
قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ هذا يصلح أن يكون جواباً لسؤال وهو أنه تعالى لما قال: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ﴾ فكان لقائل أن يقول: كيف يَهْدُونَ وهم اختلفوا وصاروا فِرَقاً والحق واحد؟ فقال (الله) يبين المبتدع من المتبع كما يبين المؤمن من الكافر يوم القيامة.
قوله: ﴿أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾ بتبين لهم ﴿أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ لما أعاد ذكر الرسالة أعاد ذكر التوحيد وقال: ﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ﴾ وقوله ﴿يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ﴾ أي مساكن المُهْلَكِينَ (لدلالة على حالتهم) وأنتم تمشون فيها وتبصرونها ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ﴾ آيات الله وعِظَاته واعتبر السمع لأنهم ما كان لهم قوة الإدراك بأنفسهم والاستنباط بعقولهم فقال: «أفلا يسمعون» (يعني) ليس لكم درجة المتعلم الذي يسمع الشيء ويفهمه.
قوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز﴾ قرىء الجُرْز - بسكون الراء - وتقدم أول الكهف. وهي الأرض اليابسة الغليظة التي لا نبات فيها، قال ابن عباس: هي أرض باليمن، وقال مجاهد: هي أرض بأنين. والجرز هو القطع فكأنها المقطوع عنها الماء والنبات. لما بين الإهلاك وهو الإماتة بين الإحياء ليكون إشارة إلى أن الضرر والنفع بيد الله ثم قال: ﴿فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ﴾ من العشب والتبن «وأَنْفُسُهُمْ» من الحبوب والأقوات، وقدم الأنعام على الأنفس في الأكل لوجوه:
الأول: أن الزرع أول ما ينبت للدوابِّ ولا يصلح للإنسان.
الثاني: أن الزرع غذاء للدواب لا بدّ منه وأما غذاء الإنسان فقد يصلح للحيوان فكان الحيوان يأكل الزرع ثم الإنسان يأكل من الحيوان.
قوله: «أَفَلاَ يُبْصِرُونَ» قرأ العامة بالغيبة، (وابن مسعود) بالخطاب التفاتاً.
492
وقال تبصرون لأن الأمر (يرى) بخلاف حال الماضي فإنها كانت مسموعة. ثم لما بين الرسالة والتوحيد بّن الحشر فقال: ﴿وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ قيل: أراد بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الحكم بين العابد قال قتادة: قال أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للكفار: إنّ لنا يوماً ننعم فيه ونستريح ويحكم الله بيننا وبينكم فقالوا استهزاء: ﴿متى هذا الفتح﴾ أي القضاء والحكم.
وقال الكلبي: يعني فتح مكة، وقال السدي: يوم بدر لأن أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كانوا يقولون لهم إن الله ناصرنا ومظهرنا عليكم فيقولون متى هذا الفتح.

فصل


«يوم الفتح» منصوب «لاَ يَنْفَعُ» و «لا» غير مانعة من ذلك. وقد تقدم فيها مذاهب والمعنى يوم الفتح يوم القيامة لا ينفع الذين كفروا إيمانُهُمْ. ومن حمل الفتح على فتح مكةوالقتل يوم بدر قال معناه لا ينفع الذين كفروا إيمانهم إذا جاءهم من العذاب وقُتِلُوا ﴿وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ أي لا يُمْهِلُونَ بالإعادة إلى الدنيا ليؤمنوا، ثم لما بين أن الدلالة لم تنفعهم قال: «فَأَعْرَضْ عَنْهُمْ» قال ابن عباس: نسختها آية القتال.
قوله: ﴿وانتظر إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ﴾ العامة على كسر الظاء من «مُنْتَظِرٍ» اسم فاعل، والمفعولُ من «انْتَظَر» ومن «مُنَْظِرُونَ» محذوف أي انتظر ما يَحُلُّ بهم إنهم منتظرون (على زَعْمِهمْ ما يحل بك. وقرا اليَمَانِيُّ: «مُنْتَظَرُونَ» اسم مفعول.
قيل: المعنى انتظر موعدي لك بالنصر إنهم منتظرون بك حوادث الزمان.
493
وقيل: انتظر عذابنا فيهم إنهم منتظرون ذلك وعلى هذا فلا فرق بين الانتظار. وقيل: انتظر عذابهم بنفسك إنهم منتظرونه بلفظهم استهزاءاً كما قالوا: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ﴾ [الأعراف: ٧٠].

فصل


روى أبو هريرة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقرأ في الفجر يوم الجمعة ﴿الم. تَنْزِيل﴾ و ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ﴾ »
وعن جابر قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لا ينام حتى يقرأ تَبَارَكَ. والم. تنزيل، ويقول: هما يَفْضُلاَن عَلَى كُلِّ سُورةٍ في القرآن سبعينَ سَنَةً، ومن قرأهما كُتِبَ له سَبْعُونَ حَسَنَةً، ومُحِيَ عنه سَبْعُونَ سَيِّئَةً، ورُفِعَ له سَبْعُونَ دَرَجَةً»
وروى الثعلبي عن ابن عباس عن أُبَيٍّ بن كعب «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: مَنْ قَرَأَ سورة ﴿الم. تَنْزِيلُ﴾ أَعْطِيَ من الأجْرِ كَمَنْ أَحْيَا لَيْلَةَ القَدْرِ»
والله أعلم.
494
سورة الأحزاب
495
ثم بين ( أن١ له هداية غير عادية عن المنفعة كما أنه لم تحل هداية موسى حيث جعل الله كتاب موسى هدى ) وجعل منهم أئمة يهدون كذلك يجعل٢ كتابك هدى ويجعل٣ من أمتك صحابة٤ يهدون كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - :
«أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُم٥ اهْتَدَيْتُمْ »، ثم بين أن ذلك يحصل بالصبر فقال :﴿ لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾.

فصل :


«لَمَّا صَبَرُوا » قرأ الأخوان٦ بكسر اللام وتخفيف الميم، على أنها لام الجر و ( «ما » )٧ مصدرية، والجار متعلق بالجعل أي جعلناهم كذلك لصبرهم ولإيقانهم٨، والباقون بفتحها وتشديد الميم. وهي «لمَّا » التي تقتضي جواباً وتقدم فيها قولا سيبويه٩ والفارسي، والمعنى حين صبروا على دينهم وعلى البلاء من عدوهم بِمصْرَ.
١ ما بين الأقواس ساقط من "ب"..
٢ في "ب" جعل..
٣ في "ب" جعل..
٤ في "ب" أصحاباً..
٥ الحديث في الفخر الرازي ٢٥/١٨٦..
٦ وهي قراءة رويس أيضاً النشر ٢/٣٤٧ وتقريبه ١٦٠ والسبعة ٥١٦..
٧ ساقط من "ب"..
٨ في "ب" وليقينهم وانظر: الدر المصون ٤/٣٦٢..
٩ انظر الكتاب ٤/٢٣٤..
قوله :﴿ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ هذا يصلح أن يكون جواباً لسؤال وهو أنه تعالى لما قال :﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ ﴾ فكان لقائل أن يقول : كيف يَهْدُونَ وهم اختلفوا وصاروا فِرَقاً والحق واحد ؟ فقال ( الله )١ يبين المبتدع من المتبع كما يبين المؤمن من الكافر يوم القيامة.
١ ساقط من "ب"..
قوله :﴿ أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ ﴾ يتبين لهم ﴿ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ﴾ لما أعاد ذكر الرسالة أعاد ذكر التوحيد وقال :﴿ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ ﴾ وقوله ﴿ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ﴾ أي مساكن المُهْلَكِينَ ( دلالة على١ حالتهم ) وأنتم تمشون فيها وتبصرونها ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ ﴾ آيات الله وعِظَاته واعتبر السمع لأنهم ما كان لهم قوة الإدراك بأنفسهم والاستنباط بعقولهم فقال :«أفلا يسمعون » ( يعني )٢ ليس لكم درجة المتعلم الذي يسمع الشيء ويفهمه.
١ سقط كذلك من "ب"..
٢ ساقط من "ب"..
قوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الماء إِلَى الأرض الجرز ﴾ قرئ١ الجُرْز - بسكون الراء - وتقدم أول الكهف٢. وهي الأرض اليابسة٣ الغليظة التي لا نبات فيها، قال ابن عباس : هي أرض باليمن٤، وقال مجاهد : هي أرض بأنين٥. و الجرز هو القطع فكأنها المقطوع عنها الماء والنبات. لما بين الإهلاك وهو الإماتة بين الإحياء ليكون إشارة إلى أن الضرر والنفع بيد الله ثم قال :﴿ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ ﴾ من العشب والتبن «وأَنْفُسُهُمْ » من الحبوب والأقوات، وقدم الأنعام على الأنفس في الأكل لوجوه :
الأول : أن الزرع أول ما ينبت للدوابِّ ولا يصلح للإنسان.
الثاني : أن الزرع غذاء للدواب لا بدّ منه وأما غذاء الإنسان فقد يصلح للحيوان فكان الحيوان يأكل الزرع ثم الإنسان يأكل من الحيوان٦.
قوله :﴿ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ ﴾ قرأ العامة بالغيبة، ( وابن مسعود )٧ بالخطاب٨ التفاتاً.
وقال تبصرون لأن الأمر ( يرى )٩ بخلاف حال الماضي١٠ فإنها١١ كانت مسموعة.
١ ذكرت في البحر المحيط ٧/٢٠٥ وهي من الشواذ..
٢ يقصد قول الله: ﴿وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً جرزاً﴾ وهي الآية (٨)..
٣ انظر: مجاز القرآن ٢/١٣٢ وغريب القرآن ٣٤٧ ومعاني القرآن للفراء ٢/٣٣٣ واللسان جرز..
٤ تفسير القرطبي ١٤/١١٠..
٥ تفسير القرطبي ١٤/١١٠ وقال عكرمة: هي الأرض الظمأى. وقال الضحاك: هي الأرض الميتة العطشى..
٦ تفسير الفخر الرازي ٢٥/١٨٧..
٧ ساقط من "ب"..
٨ ذكرها أبو حيان في البحر ٧/٢٠٥ والدر المصون ٤/٣٦٢..
٩ زيادة يقتضيها السياق من الفخر الرازي ٢٥/١٨٧..
١٠ وفيه الماضين..
١١ في "ب" كأنها..
ثم لما بين الرسالة والتوحيد بيَّن الحشر فقال :﴿ وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ قيل : أراد بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الحكم بين العباد١ قال قتادة : قال أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - للكفار : إنّ لنا يوماً ننعم٢ فيه ونستريح ويحكم الله بيننا وبينكم فقالوا استهزاء٣ :﴿ متى هذا الفتح ﴾ أي القضاء والحكم.
وقال الكلبي : يعني فتح مكة٤، وقال السدي : يوم بدر لأن٥ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون لهم إن الله ناصرنا ومظهرنا عليكم فيقولون متى هذا الفتح.
١ وهو رأي مجاهد أيضاً نقله في زاد المسير ٦/٣٤٤..
٢ في "ب" نتنعم..
٣ نقله القرطبي في ١٤/١١١..
٤ وهو رأي ابن السائب والفراء وابن قتيبة. نقله الإمام ابن الجوزي في الزاد ٦/٣٤٤..
٥ المرجع السابق..

فصل :


«يوم الفتح » منصوب «بلاَ يَنْفَعُ » و «لا » غير مانعة من ذلك١. وقد تقدم فيها مذاهب والمعنى يوم الفتح يوم القيامة لا ينفع الذين كفروا إيمانُهُمْ. ومن حمل الفتح على فتح مكة والقتل يوم بدر قال معناه لا ينفع الذين كفروا إيمانهم إذا جاءهم العذاب وقُتِلُوا ﴿ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ ﴾ أي لا يُمْهَلُونَ٢ بالإعادة إلى الدنيا ليؤمنوا،
١ نقله في البحر المحيط ٧/٢٠٦ والدر المصون ٤/٣٦٢..
٢ نقله الفخر الرازي ٢٥/١٨٨..
ثم لما بين أن الدلائل لم تنفعهم قال :﴿ فَأَعْرَضْ عَنْهُمْ ﴾ قال ابن عباس : نسختها آية القتال١.
قوله :﴿ وانتظر إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ ﴾ العامة على كسر الظاء من «مُنْتَظِرٍ » اسم فاعل، والمفعولُ من «انْتَظَر » ومن «مُنَْتَظِرُونَ »٢ محذوف أي انتظر ما يَحُلُّ بهم إنهم منتظرون ( على زَعْمِهمْ٣ ما يحل بك. وقرا اليَمَانِيُّ٤ :«مُنْتَظَرُونَ » اسم٥ مفعول.
قيل : المعنى انتظر موعدي٦ لك بالنصر إنهم منتظرون بك حوادث الزمان.
وقيل : انتظر٧ عذابنا فيهم إنهم منتظرون ذلك وعلى هذا فلا فرق بين الانتظار. وقيل : انتظر عذابهم٨ بنفسك إنهم منتظرونه بلفظهم استهزاءاً كما قالوا :﴿ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا ﴾ [ الأعراف : ٧٠ ].
١ ذكره الإمام أبو الفرج بن الجوزي في الزاد ٦/٣٤٦ وقيل: الآية غير منسوخة. انظر: القرطبي ١٤/١١٢..
٢ ذكره أبو حيان في البحر ٧/٢٠٦ والدر المصون ٤/٣٦٢..
٣ ما بين القوسين ساقط من "ب"..
٤ هو ابن السميقع وقد عرفته..
٥ وهي قراءة شاذة انظر: المحتسب ٢/١٧٥ وابن خالويه ١١٨ والبحر المحيط ٧/٢٠٦، والقرطبي ١٤/١١٢..
٦ المرجع الأخير السابق..
٧ انظر الفخر الرازي ٢٥/١٨٨..
٨ انظر الفخر الرازي ٢٥/١٨٨..
Icon