تفسير سورة المائدة

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿العقود﴾ أصل العقد في اللغة: الربط تقول عقدتُ الحبل بالحبل ثم استعير للمعاني قال الزمخشري: العقد العهدُ الموثّق بعقد الحبل قال الحطيئة:
قومٌ إِذا عقدوا عقداً لجارهم... شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكَرَبا
﴿بَهِيمَةُ الأنعام﴾ البهيمة ما لا نطق له لما في صوته من الإِبهام والأنعام جمع نَعَم وهي الإِبل والبقر والغنم ﴿القلائد﴾ جمع قلادة وهي ما يقلد به الهدى من لحاء الشجر ليُعلم أنه هدي ﴿يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ يكسبنكم يقال: جرم ذنباً أي كسبه وأجرم اكتسب الإِثم ﴿شَنَآنُ﴾ الشنآن: البغض ﴿الموقوذة﴾ الوقذ: ضرب الشيء حتى يسترخي ويشرف على الموت ﴿النصب﴾ صنمٌ وحجر كانت الجاهلية تنصبه وتذبح عنده وجمعه أنصاب كذا في اللسان ﴿بالأزلام﴾ القداح جمع زَلَم كان أحدهم إِذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة ضرب بالقداح وهو الاستقسام بالأزلام ﴿مَخْمَصَةٍ﴾ مجاعة لأن البطون فيها تُخمص أي تضمر والخمص ضمور البطن ﴿الجوارح﴾ الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والصقر والشاهين.
سَبَبُ النّزول: عن ابن عباس أن المشركين كانوا يحجون البيت ويهدون الهدايا ويعظّمون الشعائر وينحرون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنزلت ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله... ﴾ الآية.
التفِسير: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود﴾ الخطاب بلفظ الإِيمان للتكريم والتعظيم أي يا معشر المؤمنين أوفوا بالعقود وهو لفظ يشمل كل عقدٍ وعهد بين الإِنسان وربه وبين الإِنسان والإِنسان قال ابن عباس: العقود العهود وهي ما أحلَّ الله وما حرّم وما فرض في القرآن كله من التكاليف
300
والأحكام ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ﴾ أي أُبيح لكم أكل الأنعام وهي الإِبل والبقر والغنم بعد ذبحها إِلا ما حرّم عليكم في هذه السورة وهي الميتة والدم ولحم الخنزير الخ ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ أي أُحلت لكم هذه الأشياء من غير أن تستحلوا الصيد وأنتم محرمون ﴿إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ أي يقضي في خلقه بما يشاء لأنه الحكيم في أمره ونهيه ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ أي لا تستحلوا حُرمات الله ولا تعتدوا حدوده قال الحسن: يعني شرائعه التي حدها لعباده وقال ابن عباس: ما حرّم عليكم في حال الإِحرام ﴿وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد﴾ أي ولا يستحلوا الشهر الحرام بالقتال فيه، ولا ما أُهدي إِلى البيت أو قُلّد بقلادة ليعرف أنه هدي بالتعرض له ولأصحابه ﴿ولا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً﴾ أي ولا تستحلوا قتال القاصدين إِلى بيت الله الحرام لحج أو عمرة، نهى تعالى عن الإِغارة عليهم أو صدهم عن البيت كما كان أهل الجاهلية يفعلون ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا﴾ أي إِذا تحللتم من الإِحرام فقد أُبيح لكم الصيد ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ﴾ أي لا يحملنكم بغضُ قوم كانوا قد صدوكم عن المسجد الحرام على أن تعتدوا عليهم ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان﴾ أي تعاونوا على فعل الخيرات وترك المنكرات، وعلى كلْ ما يقرب إلى الله ﴿واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب﴾ أي خافوا عقابه فإِنه تعالى شديد العقاب لمن عصاه ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير﴾ أي حُرّم عليكم أيها المؤمنون أكل الميتة وهي ما مات حتف أنفه من غير ذكاة والدم والمسفوح ولحم الخنزير قال الزمخشري: كان أهل الجاهلية يأكون هذه المحرمات: البهيمة التي تموت حتف أنفها والفصيد وهو الدم في الأمعاء يشوونه ويقولون لم يحرم من فُزد - أي فصد - له وإِنما ذكر لحم الخنزير ليبيّن أنه حرام بعينه حتى ولو ذبح بالطريق الشرعي ﴿وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ﴾ أي ما ذكر عليه غير اسم الله أو ذبح لغير الله كقولهم باسم اللات والعزى ﴿والمنخنقة﴾ هي التي تُخنق بحبلٍ وشبهه ﴿والموقوذة﴾ هي المضروبة بعصا أو حجر ﴿والمتردية﴾ هي التي تسقط من جبل ونحوه ﴿والنطيحة﴾ هي التي نطحتها بهيمة أُخرى فماتت بالنطح ﴿وَمَآ أَكَلَ السبع﴾ أي أكل بعضَه السبع فمات ﴿إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ﴾ أي إِلا ما أدركتم فيه الروح من هذه الأشياء فذبحتموه الذبح الشرعي قبل الموت قال الطبري معناه: إِلاّ ما طهرتموه بالذبح الذي جعله الله طهوراً ﴿وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب﴾ أي وما ذبح على الأحجار المنصوبة قال قتادة: النُّصبُ حجارةٌ كان أهل الجاهلية يعبدونها ويذبحون لها فنهى الله عن ذلك قال الزمخشري: كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها، يعظمونها بذلك ويتقربون به إِليها فنهى الله المؤمنين عن هذا التصنيع ﴿وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام﴾ أي وحُرّم عليكم الاستقسام
301
بالأزلام أي طلب معرفة ما قُسم له من الخير والشر بواسطة ضرب القداح قال في الكشاف: كان أحدهم إِذا أراد سفراص أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً من معاظم الأمور ضرب بالقداح وهي مكتوب على بعضها: نهاني ربي، وعلى بعضها أمرني ربي، وبعضُها غُفْلٌ فإِن خرج الآمر مضى لغرضه وإِن خرج الناهي أمسك وإِن خرج الغفل أعاد ﴿ذلكم فِسْقٌ﴾ أي تعاطيه فسقٌ وخروجٌ عن طاعة الله لأنه دخولٌ في علم الغيب الذي استأثر الله به علام الغيوب ﴿اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ﴾ أي انقطع طمع الكافرين منكم ويئسوا أن ترجعوا عن دينكم قال ابن عباس: يئسوا أن ترجعوا إِلى دينكم أبداً ﴿فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون﴾ أي لا تخافوا المشركين ولا تهابوهم وخافون أنصركم عليهم وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ أي أكملت لكم الشريعة ببيان الحلال والحرام ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ بالهداية والتوفيق إِلى أقوم طريق ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً﴾ أي اخترت لكم الإِسلام ديناً من بين الأديان وهو الدين المرضي الذي لا يقبل الله ديناً سواه
﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥] ﴿فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي فمن ألجأته الضرورة إِلى تناول شيء من المحرمات المذكورة، في مجاعةٍ حال كونه غير مائل إِلى الإِثم ولا متعمد لذلك، فإِن الله لا يؤاخذه بأكله، لأن الضرورات تُبيح المحظورات ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ﴾ أي يسألونك يا محمد ما الذي أَحل لهم من المطاعم والمأكل؟ ﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات﴾ أي قل لهم أَبيح لكم المستلذات وما ليس منها بخبيث، وحُرّم كل مستقذر كالخنافس والفئران وأشباهها ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح﴾ أي وأَحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح وهي الكلاب ونحوها مما يُصطاد به ﴿مُكَلِّبِينَ﴾ أي مُعلمين للكلاب الاصطياد قال الزمخشري: المكلِّب مؤدبُ الجوارح ورائضها واشتقاقه من الكَلَب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلاب ﴿تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله﴾ أي تعلمونهنَّ طرق الاصطياد وكيفية تحصيل الصيد، وهذا جزءٌ مما علّمه الله للإِنسان ﴿فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ أي فكلوا مما أمسكن لكم من الصيد إِذا لم تأكل منه، فإِن أكلت فلا يحل أكله لحديث «إِذا أرسلتَ كلبَك المُعلَّم فقتل فكلْ، وإِذا أكل فلا تأكل فإِنما أمسكه على نفسه» وعلامة المعلَّم أن يسترسل إِذا أُرسل، وينزجر إِذا زُجر، وأن يُمسك الصيد فلا يأكل منه، وأن يذكر اسم الله عند إِرساله فهذه أربع شروط لصحة الأكل من صيد الكلب المعلَّم ﴿واذكروا اسم الله عَلَيْهِ﴾ أي عند إِرساله ﴿واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب﴾ أي راقبوا الله في أعمالكم فإِنه سريع المجازاة للعباد ﴿اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات﴾ أي أبيح لكم المستلذات من الذبائح وغيرها ﴿وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ﴾ أي ذبائح اليهود والنصارى حلالٌ لكم ﴿وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ﴾ أي ذبائحكم حلالٌ لهم فلا حرج أن تُطعموهم وتبيعوه لهم ﴿والمحصنات مِنَ المؤمنات﴾ أي وأُبيح لكم أيها المؤمنون زواج الحرائر العفيفات من المؤمنات {والمحصنات مِنَ
302
الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} أي وزواج الحرائر من الكتابيات (يهوديات أو نصرانيات) وهذا رأي الجمهور وقال عطاء: قد أكثر الله المسلمات وإِنما رخص لهم يومئذٍ ﴿إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ أي إِذا دفعتم لهن مهورهن ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ أي حال كونكم أعفاء بالنكاح غير مجاهرين بالزنى ﴿وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ﴾ أي وغير متخذين عشيقات وصديقات تزنون بهن سراً قال الطبري: المعنى ولا منفرداً ببغية قد خادنها وخادنته واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها ﴿وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين﴾ أي ومن يرتد عن الدين ويكفر بشرائع الإِيمان فقد بطل عمله وهو من الهالكين، ثم أمر تعالى بإِسباغ الوضوء عند الصلاة فقال ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة﴾ أي إِذا أردتم القيام إِلى الصلاة وأنتم محدثون ﴿فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق﴾ أي اغسلوا الوجوه والأيدي مع المرافق ﴿وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين﴾ أي امسحوا رءوسكم واغسلوا أرجلكم إِلى الكعبين أي معهما قال الزمخشري: وفائدة المجيء بالغاية ﴿إِلَى الكعبين﴾ لدفع ظن من يحسبها ممسوحة لأن المسح لم تُضرب له غاية في الشريعة وفي الحديث
«ويلٌ للأعقاب من النار» وهذا الحديث يردُّ على الإِمامية الذين يقولون بأن الرجلين فرضهما المسحُ لا الغسل، والآية صريحة لأنها جاءت بالنصب ﴿وَأَرْجُلَكُمْ﴾ فهي معطوفة على المغسول وجيء بالمسح بين المغسولات لإِفادة الترتيب ﴿وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا﴾ أي إِن كنتم في حالة جنابة فتطهروا بغسل جميع البدن ﴿وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ﴾ أي إِن كنتم مرضى ويضركم الماء، أو كنتم مسافرين ولم تجدوا الماء ﴿أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط﴾ أي أتى من مكان البراز ﴿أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء﴾ أي جامعتموهنَّ ﴿فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً﴾ أي ولم تجدوا الماء بعد طلبه فاقصدوا التراب الطاهر للتيمم به ﴿فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ﴾ أي امسحوا وجوهكم وأيديكم بالتراب بضربتين كما وضّحت السنة النبوية ﴿مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾ أي ما يُريد بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم تضييقاً عليكم ﴿ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي يطهركم من الذنوب وأدناس الخطايا بالوضوء والتيمم، وليتم نعمته عليكم ببيان شرائع الإِسلام لتشكروه على نعمه التي لا تحصى ﴿واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ الخطاب للمؤمنين والنعمةُ هنا للإِسلام وما صاروا إِليه من اجتماع الكلمة والعزة أي اذكروا يا أيها المؤمنون نعمة الله العظمى عليكم بالإِسلام وعهده الذي عاهدكم عليه رسوله حين بايعتموه على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره ﴿واتقوا الله إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ أي اتقوا الله فإِنه عالم بخفايا نفوسكم فيجازيكم عليها ﴿يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ﴾ أي كونوا مبالغين في الإِستقامة بشهادتكم لله وصيغة قوّام للمبالغة ﴿شُهَدَآءَ بالقسط﴾ أي تشهدون بالعدل ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ﴾ أي لا يحملنكم شدة بغضكم للأعداء على ترك العدل فيهم والاعتداء عليهم ﴿اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى﴾ أي العدل مع من تبغضونهم أقرب لتقواكم لله ﴿واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي مطلع على أعمالكم
303
ومجازيكم عليها قال الزمخشري: وفي هذا تنبيه عظيم على أن العدل إِذا كان واجباً مع الكفار الذين هم أعداء الله وكان بهذه الصفة من القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي وعد الله المؤمنين المطيعين ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ أي لهم في الآخرة مغفرة للذنوب وثواب عظيم وهو الجنة ﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم﴾ لما ذكر مآل المؤمنين المتقين وعاقبتهم ذكر مآل الكافرين المجرمين وأنهم في دركات الجحيم دائمون في العذاب قال أبو حيان: وقد جاءت الجملة فعلية بالنسبة للمؤمنين متضمنة الوعد بالماضي الذي هو الدليل على الوقوع، وفي الكافرين جاءت الجملة إِسمية دالة على ثبوت هذا الحكم لهم وأنهم أصحاب النار فهم دائمون في عذاب الجحيم.
البَلاَغَة: ١ - ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ فيه استعارة استعار الشعيرة وهي العلامة للمتعبدات التي تعبَّد الله بها العباد من الحلال والحرام.
٢ - ﴿وَلاَ القلائد﴾ أي ذوات القلائد وهي من باب عطف الخاص على العام لأنها أشرف الهدي كقوله ﴿مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: ٩٨].
٣ - ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان﴾ فيه من المحسنات البديعية ما يسمى بالمقابلة.
٤ - ﴿وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب﴾ أطلق العام وأراد به الخاص وهو الذبائح.
٥ - ﴿مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ بينهما طباق لأن معنى محصنين أي أعفاء ومسافحين أي زناة.
٦ - ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة﴾ أي إِذا أردتم القيام إِلى الصلاة فعبّر عن إِرادة الفعل بالفعل وأقام المسبّب مقام السبب للملابسة بينهما، وفي الآية إِيجاز بالحذف أيضاً إِذا قمتم إِلى الصلاة وأنتم محدثون.
الفَوائِد: الاولى: يحكى أن أصحاب الكِنْدِيّ - الفيلسوف - قال له أصحابه: أيها الحكيم إِعمل لنا مثل هذا القرآن فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياماً كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد، إِني فتحتُ المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإِذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلّل تحليلاً عامّاً، ثم استثنى استثناءً، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يقدر أحدٌ بهذا إِلا في مجلدات.
الثانية: جرت سنة الجاهلية على مبدأ العصبية العمياء الذي عبّر عنه الشاعر الجاهلي بقوله:
304
وجاء الإِسلام بهذا المبدأ الإِنساني الكريم ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان﴾ وشتّان بين المبدأين.
الثالثة: روي أن رجلاً من اليهود جاء إلى عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فقال يا أمير المؤمنين: آيةٌ في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً! قال أيَّ آية تعني؟ قال ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ الآية فقال عمر: والله إِني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيه، والساعة التي نزلت فيها، نزلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عشية عرفة في يوم جمعة.
305
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى ما شرعه لعباده المؤمنين في هذه السورة الكريمة من الأحكام، ومن أعظمها بيان الحلال والحرام، ذكر هنا نعمته عليهم بالهداية إِلى الإِسلام ودفع الشرور عنهم والآثام، ثم أعقبه ببيان نعمته تعالى على أهل الكتاب «اليهود والنصارى» وأخذه العهد والميثاق عليهم ولكنهم نقضوا العهد فألزمهم الله العداوة والبغضاء إِلى يوم القيامة، ثم دعا الفريقين إِلى الاهتداء بنور القرآن والتمسك بشريعة خاتم المرسلين، وترك ما هم عليه من ضلالات وأوهام.
اللغَة: ﴿نَقِيباً﴾ النقيب: كبير القوم الذي يبحث عن أحوالهم ومصالحهم فهو كالكفيل عن الجماعة ﴿وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ التعزير: التعظيم والتوقيرْ ﴿سَوَآءَ السبيل﴾ قصد الطريق ووسطه ﴿قَاسِيَةً﴾ صلبة لا تعي خيراً والقاسية والعاتية بمعنى واحد ﴿خَآئِنَةٍ﴾ خيانة ويجوز أن يكون صفة للخائن كما يقال: رجل طاغية وراوية للحديث ﴿فَأَغْرَيْنَا﴾ هيجنا وألزمنا مأخوذٌ من الغِراء، وغَري بالشيء إِذا لصق به ﴿فَتْرَةٍ﴾ انقطاع ﴿يَتِيهُونَ﴾ التيه: الحيرة والضياع.
سَبَبُ النّزول: أراد بنو النضير أن يلقوا على رأس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الرحى وأن يغدروا به وبأصحابه فأنزل الله ﴿يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ..﴾ الآية.
التفِسير: ﴿يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ﴾ أي اذكروا فضل الله عليكم بحفظه إِياكم من أعدائكم ﴿إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾ أي يبطشوا بكم بالقتل والإِهلاك ﴿فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ﴾ أي عصمكم من شرهم وردَّ أذاهم عنكم ﴿واتقوا الله﴾ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾ أي فليثق المؤمنون بالله فإِنه كافيهم وناصرهم، ثم ذكر تعالى أحوال اليهود وما تنطوي عليه نفوسهم من الخيانة ونقض الميثاق فقال ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ﴾
306
أي عهدهم المؤكد باليمين ﴿وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً﴾ أي وأمرنا موسى بأن يأخذ اثني عشر نقيباً - والنقيبُ كبير القائم بأمورهم - من كل سبطٍ نقيبٌ يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بالعهد توثقةً عليهم قال الزمخشري: لما استقر بنو إِسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله تعالى بالسير إِلى «أريحاء» بأرض الشام كان يسكنها الكنعانيون الجبابرة وقال لهم: إِني كتبتها لكم داراً وقراراً فجاهدوا من فيها فإِني ناصركم، وأمر موسى بأن يأخذ من كل سِبْطٍ نقيباً فاختار النقباء وسار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعثهم يتجسّسون الأخبار فرأوا قوماً أجسامهم عظيمة ولهم قوةٌ وشوكة فهابوهم ورجعوا وحدثوا قومهم وكان موسى قد نهاهم أن يتحدثوا بما يرون فنكثوا الميثاق وتحدثوا إِلا إِثنين منهم ﴿وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ﴾ أي ناصركم ومعينكم ﴿لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمُ الزكاة﴾ اللام للقسم أي وأقسم لكم يا بني إِسرائيل لئن أردتم ما فرضتُ عليكم من إِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة ﴿وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ﴾ أي وصدقتم برسلي ونصرتموهم ومنعتموهم من الأعداء ﴿وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً﴾ أي بالإِتفاق في سبيل الخير ابتغاء مرضاة الله ﴿لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ أي لأمحونَّ عنكم ذنوبكم، وهذا جواب القسم قال البيضاوي: وقد سدَّ مسدَّ جواب الشرط ﴿وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي تجري من تحت غرفها، وأشجارها أنهار الماء واللبن والخمر والعسل ﴿فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل﴾ أي من كفر بعد ذلك الميثاق، فقد أخطأ الطريق السويّ وضلّ ضلالاً لا شبهة فيه ﴿فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ﴾ أي بسبب نقضهم الميثاق طردناهم من رحمتنا ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ أي جافة جافية لا تلين لقبول الإِيمان ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ قال ابن كثير: تأولوا كتابه - التوراة - على غير ما أنزله وحملوه على غير مراده وقالوا على الله ما لم يقل، ولا جُرْم أعظمُ من الاجتراء على تغيير كلام الله عَزَّ وَجَلَّ ﴿وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ﴾ أي تركوا نصيباً وافيا مما أمروا به في التوراة ﴿وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ﴾ أي لا تزال يا محمد تطهر على خيانةٍ منهم بنقض العهود وتدبير المكايد، فالغدرُ والخيانة عادتُهم وعادةُ أسلافهم إلا قليلاً منهم ممن أسلم ﴿فاعف عَنْهُمْ واصفح إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين﴾ أي لا تعاقبهم واصفح عمن أساء منهم، وهذا منسوخ بآية السيف والجزية كما قال الجمهور ﴿وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ﴾ أي ومن الذين ادعوا أنهم أنصار الله وسمّوا أنفسهم بذلك أخذنا منهم أيضاً الميثاق على توحيد الله والإِيمان بمحمد رسول الله ﴿فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ﴾ أي فتركوا ما أمروا به في الإِنجيل من الإِيمان بالأنبياء ونقضوا الميثاق ﴿فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة﴾ أي ألزمنا وألصقنا بين فرّق النصارى العداوة والبغضاء إِلى قيام الساعة قال ابن كثير: ولا يزالون متباغضين متعادين، يكفِّر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، وكل فرقةٍ تمنع الأخرى دخول معبدها.
307
وهكذا نجد الأمم الغربية - وهم أبناء دين واحد - يتفنّن بعضهم في إِهلاك بعض، فمن مخترج للقنبلة الذرية إلى مخترع للقنبلة الهيدروجينية وهي مواد مدمّرة لا يمكن أن يتصور العقل ما تحدثه من تلفٍ بالغ وهلاك شامل ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: ٨٥] ثم قال تعالى ﴿وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ تهديد لهم أي سيلقون جزاء عملهم القبيح ﴿يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب﴾ الخطاب لليهود والنصارى أي ما معشر أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالدين الحق يبيّن لكم الكثير مما كنتم تكتمونه في كتابكم من الإِيمان به، ومن آية الرجم، ومن قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة وغير ذلك مما كنتم تخفونه ﴿وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ﴾ أي يتركه ولا يبيّنه وإِنما يبيّن لكم ما فيه حجة على نبوته وشهادة على صدقه، ولو ذكر كل شيء لفضحكم قال في التسهيل: وفي الآية دلي على صحة نبوته بيّن ما أخفوه في كتبهم وهو أميٌّ لم يقرأ كتبهم ﴿قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ أي جاءكم نور هو القرآن لأنه مزيل لظلمات الشرك والشك وهو كتاب مبين ظاهر الإِعجاز ﴿يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام﴾ أي يهدي بالقرآن من اتبع رضا الله طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة ﴿وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ﴾ أي يخرجهم من ظلمات الكفر إِلى نور الإِيمان بتوفيقه وإرادته ﴿وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ هو دين الإِسلام، ثم ذكر تعالى إِفراط النصارى حق عيسى حيث اعتقدوا ألوهيته فقال ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الذين قآلوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ﴾ أي جعلوه إلهاً وهم فرقةٌ من النصارى زعموا أن الله حلَّ في عيسى ولهذا نجد في كتبهم «وجاء الرب يسوع» وأمثاله، ويسوع عندهم هو عيسى ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً﴾ أي قل لهم يا محمد لقد كذبتم فمن الذي يستطيع أن يدفع عذاب الله لو أراد أن يهلك المسيح وأمه وأهل الأرض جميعاً؟ فعيسى عبد مقهور قابلٌ للفناء كسائر المخلوقات ومن كان كذلك فهو بمعزل عن الألوهية ولو كان إِلهاً لقدر على تخليص نفسه من الموت ﴿وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أي من الخلق والعجائب ﴿يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ أي هو قادر على أن يخلق ما يريد ولذلك خلق عيسى من غير أب ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي لا يعجزه شيء، ثم حكى عن اليهود والنصارى افتراءهم فقال ﴿وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ أي نحن من الله بمنزلة الأبناء من الآباء ونحن أحباؤه لأننا على دينه قال ابن كثير: أي نحن منتسبون إِلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية وهو يحبنا ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم﴾ أي لو كنتم كما تدَّهون
308
أبناءه وأحباءه فلم أعدَّ لكم نار جهنم على كفركم وافترائكم ﴿بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾ أي أنتم بشر كسائر الناس وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده ﴿يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ﴾ أي يغفر لمن شاء من عباده ويعذب من شاء لا اعتراض لحكمه ولا رادَّ لأمره ﴿وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ المصير﴾ أي الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه وإِليه المرجع والمآب، ثم دعاهم إِلى الإِيمان بخاتم المرسلين فقال ﴿يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مِّنَ الرسل﴾ أي يا معشر اليهود والنصارى لقد جاءكم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوضّح لكم شرائع الدين على انقطاع من الرسل ودروسٍ من الدين، وكانت الفترة بين عيسى ومحمد ومدتها خمسمائة وستون سنة لم يُبعث فيها رسول ﴿أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ﴾ أي لئلا تحتجوا وتقولوا: ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر ﴿فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ﴾ هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قال ابن جرير: أي قادرٌ على عقاب من عصاه وثواب من أطاعه، ثم ذكر تعالى ما عليه اليهود من العناد والجحود فقال ﴿وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ﴾ أي اذكر يا محمد حين قال موسى لبني إِسرائيل يا قوم تذكّروا نعمة الله العظمى عليكم واشكروه عليها ﴿إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً﴾ أي حين بعث فيكم الأنبياء يرشدونكم إِلى معالم الدين وجعلكم تعيشون كالملوك لا يغلبكم غالب بعد أن كنتم مملوكين لفرعون مقهورين فأنقذكم منه بإِغراقه قال البيضاوي: لم يُبعث في أمةٍ ما بعث في بني إِسرائيل من الأنبياء ﴿وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين﴾ أي من أنواع الإِنعام والإِكرام من فلق البحر وتظليل الغمام وإِنزال المنّ والسلوى ونحوها ﴿يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ﴾ قال البيضاوي: هي أرض بيت المقدس سميت بذلك لأنها كانت قرار الأنبياء ومسكن المؤمنين ومعنى ﴿الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أي التي وعدكموها على لسان أبيكم اسرائيل وقضى أن تكون لكم ﴿وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ أي ولا ترجعوا مدبرين خوفاً من الجبابرة قال في التسهيل: روي أنه لما أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة خافوا من الجبارين الذين فيها وهمّوا أن يرجعوا إِلى مصر ﴿قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ﴾ أي عظام الأجسام طوال القامة لا قدرة لنا على قتالهم وهم العمالقة من بقايا عاد ﴿وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا﴾ أي لن ندخلها حتى يسلّموها لنا من غير قتال ﴿فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ﴾ أي لا يمكننا الدخول ما داموا فيها فإِن خرجوا منها دخلناها ﴿قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا﴾ أي فلما جبنوا حرضهم رجلان من النقباء ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه وفيهما الصلاح واليقين ﴿ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾ أي قالا لهم لا يهولنكم عِظَم أجسامهم، فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة فإِذا دخلتم عليهم باب المدينة غلبتموهم بإِذن الله ﴿وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي اعتمدوا على الله فإِنه ناصركم إِن كنتم حقاً مؤمنين ﴿قَالُواْ ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ وهذا إِفراط في العصيان ومع
309
سوء الأدب بعبارةٍ تقتضي الكفر والاستهانة بالله ورسوله، وأين هؤلاء من الصحابة الأبرار الذين قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لسنا نقول لك كما قالت بنو إِسرائيل ولكن نقول لك اذهب أنت وربك فقاتلا إِنّا معكما مقاتلون؟! ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين﴾ أي قال موسى حينذاك معتذراً إِلى الله متبرءاً من مقالة السفهاء: يا ربّ لا أملك قومي، لا أملك إلا نفسي وأخي هارون فافصل بيننا وبين الخارجين عن طاعتك بحكمك العادل ﴿قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض﴾ استجاب الله دعاءه وعاقبهم في التّيه أربعين سنة والمعنى: قال الله لموسى إِن الأرض المقدسة محرم عليهم دخولها مدة أربعين سنة يتيهون في الأرض ولا يهتدون إِلى الخروج ﴿فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين﴾ أي لا تحزن عليهم فإِنهم فاسقون مستحقون للعقاب قال في التسهيل: روي أنهم كانوا يسيرون الليل كله فإِذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في الموضع الذي كانوا فيه.
البَلاَغَة: ١ - ﴿أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ﴾ بسط الأيدي كناية عن البطش والفتك، وكف الأيدي كناية عن المنع والحبس.
٢ - ﴿وَبَعَثْنَا مِنهُمُ﴾ فيه التفات عن الغيبة إِلى المتكلم ومقتضى الظاهر وبعث وإِنما التفت اعتناءً بشأنه.
٣ - ﴿وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور﴾ فيه استعارة استعار الظلمات للكفر والنور للإِيمان.
٤ - ﴿وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً﴾ فيه تشبيه بليغ أي كالملوك في رغد العيش وراحة البال فحذف أداة الشبه ووجه الشبه فأصبح بليغاً.
٥ - الطباق بين ﴿يَغْفِرُ... وَيُعَذِّبُ﴾.
٦ - ﴿أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا﴾ جملة اعتراضية لبيان فضل الله على عباده الصالحين.
الفوَائِد: الأولى: إِنما سميت الأرض المقدسة أي المطهرة لسكنى الأنبياء المطهرين فيها فشرفت وطهرت بهم فالظرف طاب بالمظروف.
الثانية: قال بعض العارفين لبعض الفقهاء: أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فسكت ولم يردّ عليه فتلا عليه هذه الآية ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم﴾ ففي الآية دليل على أن المحب لا يعذب حبيبه ذكره ابن كثير.
310
المنَاسَبَة: لّما ذكر تعالى تمرد بني إِسرائيل وعصيانهم لأمر الله في قتال الجبارين، ذكر قصة ابني آدم وعصيان «قابيل» أمر الله وإِقدامه على قتل النفس البريئة التي حرمها الله، فاليهود اقتفوا في العصيان أوَّل عاصٍ لله في الأرض، فطبيعةُ الشر فيهم مستقاةٌ من ولد آدم الأول، فاشتبهت القصتان من حيث التمرد والعصيان، ثم ذكر تعالى عقوبة قُطّاع الطريق والسُرَّاق الخارجين على أمن الدولة والمفسدين في الأرض.
اللغَة: ﴿قُرْبَاناً﴾ القُربان ما يُتقرب به إِلى الله ﴿تَبُوءَ﴾ ترجع يقال: باء إِذا رجع إِلى المباءة وهي المنزل ﴿فَطَوَّعَتْ﴾ سوَّلت وسهَّلت يقال: طاع الشيءُ إِذا سهل وانقاد وطوَّعه له أي سهّله ﴿يَبْحَثُ﴾ يفتش وينقب ﴿سَوْءَةَ﴾ السوأة: العورة ﴿يَاوَيْلَتَا﴾ كلمة تحسر وتلهف قال سيبويه: كلمةً تقال عند الهلكة ﴿يُنفَوْاْ﴾ نفاه: طرده وأصله الإِهلاك ومنه النقابة لرديء المتاع ﴿خِزْيٌ﴾ الخزي الفضيحة والذل يقال أخزاه الله أي فضحه وأذله ﴿الوسيلة﴾ كل ما يتوسل به إِلى الله ﴿نَكَالاً﴾ عقوبة.
311
التفِسير: ﴿واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابنيءَادَمَ بالحق﴾ أي اقرأ يا محمد على هؤلاء الحسدة من اليهود وأشباههم خبر «قابيل وهابيل» ابنيْ آدم ملتبسةً بالحق والصِّدق وذكّرهم بهذه القصة فهي قصة حق ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر﴾ أي حين قرَّب كلٌ منهما قرباناً فتُقبل من هابيل ولم يُتقبل من قابيل قال المفسرون: سبب هذ القربان أن حوّاء كانت تلد في كل بطنٍ ذكراً وأنثى وكان يزوّج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر فلما أراد آدم أن يزوّج قابيلَ أخت هابيل ويزوّج هابيل أخت قابيل رضي هابيل وأبى قابيل لأن توأمته كانت أجمل فقال لهما آدم: قرّبا قرباناً فمن أيكما تُقبل تزوجها، وكان قابيل صاحب زرع فقرّب أرذل زرعه وكان هابيل صاحب غنم فقرّب أحسن كبشٍ عنده فقبل قربانُ هابيل بأن نزلت نارٌ فأكلته فازداد قابيل حسداً وسخطاً وتوعّده بالقتل ﴿قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ﴾ أي قال قابيل لأخيه هابيل لأقتلنك قال: لمَ؟ قال لأنه تقبل قربانك ولم يتقبل قرباني قال: وما ذنبي؟ ﴿قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين﴾ أي إِنما يتقبل ممن اتقى ربه وأخلص نيته قال البيضاوي: توعّده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه فأجابه بأنك أتيت من قِبل نفسك بترك التقوى لا من قِبَلي وفيه إِشارة إِلى أن الطاعة لا تُقبل إِلا من مؤمن متّقٍ لله ﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ﴾ أي لئن مددتَ إِليَّ يدك ظلماً لأجل قتلي ما كنتُ لأقابلك بالمثل قال ابن عباس المعنى: ما أنا بمنتصر لنفسي ﴿إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين﴾ أي لا أمدُّ يدي إِليك لأني أخاف ربَّ العالمين قال الزمخشري: قيل: كان هابيل أقوى من القاتل ولكنه تحرّج عن قتل أخيه خوفاً من الله ﴿إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النار﴾ أي إِن قتلتني فذاك أحبُّ إِليَّ من أن أقتلك قال أبو حيان: المعنى إِن سبق بذلك قَدَرٌ فاختياري أن أكون مظلوماً ينتصر الله لي لا ظالماً وقال ابن عباس: المعن لا أبدؤك بالقتل لترجع بإِثم قتلي إِن قتلتني، وإِثمك الذي كان منك قبل قتلي فتصير من أهل النار ﴿وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين﴾ أي عقاب من تعدّى وعصى أمر الله ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين﴾ أي زيّنت له نفسه وسهّلت له قتل أخيه فقتله فخسر وشقي قال ابن عباس: خوّفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر ﴿فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ﴾ أي أرسل الله غراباً يحفر بمنقاره ورجله الأرض ليُرى القاتل كيف يستر جسد أخيه قال مجاهد: بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما صاحبه ثم
312
حفر له فدفنه، وكان ابن آدم هذا أول من قُتِل، وروي أنه لما قتله تركه بالعراء ولم يدر كيف يدفنه حتى رأى الغراب يدفن صاحبه فلما رآه ﴿قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي﴾ أي قال قابيل متحسراً يا ويلي ويا هلاكي أضعفتُ أن أكون مثل هذا الطير فأستر جسد أخي في التراب كما فعل هذا الغراب؟ ﴿فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين﴾ أي صار نادماً على عدم الاهتداء إِلى دفن أخيه لا على قتله قال ابن عباس: ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبةً له ﴿مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض﴾ أي من أجل حادثة «قابيل وهابيل» وبسبب قتله لأخيه ظلماً فرضنا وحكمنا على بني إِسرائيل أن من قتل منهم نفساً ظلماً بغير أن يقتل نفساً فيستحق القصاص وبغير فسادٍ يوجب إِهدار الدم كالردّة وقطع الطريق ﴿فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً﴾ أي فكأنه قتل جميع الناس قال البيضاوي: من حيث أنه هتك حرمة الدماء وسنَّ القتل وجرأ الناس عليه، والمقصود منه تعظيم قتل النفس وإِحيائها في القلوب ترهيباً عن التعرض لها وترغيباً في المحاماة عليها ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً﴾ أي ومن تسبَّب لبقاء حياتها واستنقذها من الهَلَكة فكأنه أحيا جميع الناس قال ابن عباس في تفسير الآية: من قتل نفساً واحدةً حرّمها الله فهو مثلُ من قتل الناس جميعاً ومن امتنع عن قتل نفسٍ حرمها الله وصان حرمتها خوفاً من الله فهو كمن أحيا الناس جميعاً ﴿وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات﴾ أي بعدما كتبنا على بني إِسرائيل هذا التشديد العظيم وجاءتهم رسلنا بالمعجزات الساطعات والآيات الواضحات ﴿ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِي الأرض لَمُسْرِفُونَ﴾ أي ثم إنهم بعد تلك الزواجر كلها يسرفون في القتل ولا يبالون بعظمته قال ابن كثير: هذا تقريعٌ لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها وقال الرازي: إِن اليهود مع علمهم بهذه المبالغة العظيمة أقدموا على قتل الأنبياء والرسل وذلك يدل على غاية قساوة قلوبهم ونهاية بعدهم عن طاعة الله تعالى، ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص تسلية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنهم عزموا على الفتك به وبأصحابه كان تخصيص بني إِسرائيل بهذه المبالغة العظيمة مناسباً للكلام ومؤكداً للمقصود، ثم ذكر تعالى عقوبة قُطّاع الطريق فقال ﴿إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي يحاربون شريعة الله ودينه وأولياءه ويحاربون رسوله ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً﴾ أي يفسدون في الأرض بالمعاصي وسفك الدماء ﴿أَن يقتلوا﴾ أي يُقتلوا جزاء بغيهم ﴿أَوْ يصلبوا﴾ أي يُقتلوا ويُصلبوا زجراً لغيرهم، والصيغةُ للتكثير ﴿أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ﴾ معناه أن تُقطع أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى ﴿أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض﴾ أي يُطردوا ويُبعدوا من بلدٍ إِلى بلد آخر ﴿ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا﴾ أي ذلك الجزاء المذكور ذلٌ لهم وفضيحة في الدنيا ﴿وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ هو عذاب النار، قال بعض العلماء: الإِمام بالخياران إِن شاء قتل، وإِن شاء صلب، وإِن شاء قطع الأيدي والأرجل، وإِن شاء نفى وهو مذهب مالك وقال ابن عباس: لكلّ
313
ربتةٌ من العقاب فمن قَتَل قُتل، ومن قتل وأخذ المال قُتل وصُلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، ومن أخاف فقط نُفي من الأرض، وهذا قول الجمهور ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ﴾ أي لكن الذين تابوا من المحاربين وقُطّأع الطريق قبل القدرة على أخذهم وعقوبتهم ﴿فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي واسع المغفرة والرحمة لمن تاب وأناب يقبل توبته ويغفر زلّته، ثم أمر تعالى المؤمنين بالتقوى والعمل الصالح فقال ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة﴾ أي خافوا عقابه واطلبوا ما يقربكم إِليه من طاعته وعبادته قال قتادة: تقربوا إِليه بطاعته والعمل بما يرضيه ﴿وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي جاهدوا لإِعلاء دينه لتفوزوا بنعيم الأبد ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ﴾ أي لو كان لكل كافر جميع ما في الأرض من خيرات وأموال ومثله معه ﴿لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي وارد أن يفتدي بها نفسه من عذاب الله ما نفعه ذلك وله عذاب مؤلم موجع ﴿يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ أي دائم لا ينقطع وفي الحديث
«يُجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيتَ لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنتَ تفتدي به؟ فيقول نعم فيقال له: قد كنتَ سُئلتَ ما هو أيسرُ من ذلك ألاّ تشرك بي فأبيت فيؤمر به إِلى النار»
ثم كذر تعالى عقوبة السارق فقال ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا﴾ أي كل من سرق رجلاً كان أو امرأة فاقطعوا يده ﴿جَزَآءً بِمَا كَسَبَا﴾ أي مجازاة لهما على فعلهما القبيح ﴿نَكَالاً مِّنَ الله﴾ أي عقوبة من الله ﴿والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي حكيم في شرعه فلا يأمر بقطع اليد ظلماً ﴿فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ﴾ أي رجع عن السرقة ﴿وَأَصْلَحَ﴾ أي أصلح سيرته وعمله ﴿فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ﴾ أي يقبل توبته فلا يعذبه في الآخرة ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي مبالغ في المغفرة والرحمة، ثم نبّه تعالى على واسع ملكه وأنه لا معقّب لحكمه فقال ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ أي ألم تعلم أيها المخاطب أن الله تعالى له السلطان القاهر والملك الباهر وبيده ملكوت السماوات والأرض والاستفهام للتقرير ﴿يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي يعذّب من يشاء تعذيبه ويغفر لمن يشاء غفران ذنبه وهو القادر على كل شيء الذي لا يعجزه شيء.
البَلاَغَة:
وهل أنا إِلا من غُزيّة إِن غوتْ غويتُ وأن ترشد غُزية أرشد
١ - الطباق بين كلمة ﴿قَتَلَ أَحْيَا﴾ وهو من المحسنات البديعية وكذلك بين.
٢ - ﴿يُحَارِبُونَ الله﴾ هو على حذف مضاف أي يحاربون أولياء الله لأن الله لا يُحارب ولا يٌغالب فالكلام على سبيل المجاز.
٣ - الاستعارة ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا﴾ لأن المراد استبقاها ولم يتعرض لقتلها، وإِحياء النفس بعد موتها لا يقدر عليه إِلا الله تعالى.
٤ - ﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ﴾ قال الزمخشري: هذا تمثيلٌ للزوم
314
العذاب لهم وأه لا سبيل لهم إِلى النجاةمنه بوجهٍ من الوجوه.
٥ - طباق السلب ﴿لَئِن بَسَطتَ مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ﴾.
الفوَائد: الأولى: النفي من الأرض كما يكون بالطرد والإِبعاد يكون بالحبس ولهذا قال مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: النفيُ: السجنُ ينفى من سعة الدنيا إِلى ضيقها قال الشاعر وهو في السجن: إِذا جاءنا السّجان يوماً لحاجةٍ... عجبنا وقلنا: جاء هذا من الدنيا
خرجنا عن الدنيا وعن وصل أهلها فلسنا من الأحياء ولسنا من الموتى
الثانية: السرُّ في تقديم السارق على السارقة هنا وتقديم الزانية على الزاني في قوله ﴿الزانية والزاني فاجلدو﴾ [النور: ٢] أن الرجل على السرقة أجرأ، والزنى من المرأة أشنع وأقبح فناسب ذكر كل منهما المنام.
الثالثة: قال الأصمعي: قرأتُ يوماً هذه الآية ﴿والسارق والسارقة﴾ وإِلى جنبي أعرابي فقلت ﴿الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ سهواً فقال الأعرابي: كلامُ من هذا؟ قلت: كلام الله قال: ليس هذا بكلام الله أعِدْ فأعدت وتنبهتُ فقلت ﴿والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ فقال: نعم هذا كلام الله فقلت: أتقرأ القرآن؟ قال: لا قلت: فمن أين علمت أني أخطأتُ؟ فقال يا هذا: عزّ َفحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع.
الرابعة: اعترض بعض الملحدين على الشريعة الغراء في قطع يد السارق بالقليل من المال ونظم ذلك شعراً فقال:
يدٌ بخمسِ مثين عسجدٍ وُديتْ ما بالُها قُطعتْ في رُبْع دينار؟
تحكّمٌ مالنا إلا السكوتُ له وأن نعوذَ بمولانا من النّار
فأجابه بعض العلماء بقوله:
عزُّ الامانة أغلاها وأرخصَها ذلُّ الخيانةِ فافهم حكمةَ الباري
أي لّما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما خانت هانت، ويا له من قول سديد.
«كلمة وجيزة حول قطع يد السارق»
يعيب بعض الغربيين على الشريعة الإِسلامية قطع يد السارق ويزعمون أن هذه العقوبة صارمة لا تليق بمجتمع متحضر ويقولون: يكفي في عقوبته السجن ردعاً له، وكان من أثر هذه الفلسفة التي لا تستند على منطقٍ سليم أن زادت الجرائم وكثرت العصابات وأصبحت السجون ممتلئة بالمجرمين وقطاع الطريق الذين يهدّدون الأمن والاستقرار، يسرق السارق وهو آمن مطمئن لا يخشى شيئاً اللهم إلا ذلك السجن يُطعم ويُكسى فيه فيقضي مدة العقوبة التي فرضها عليه القانون الوضعي ثم يخرج منه وهو إِلى الإِجرام أميل وعلى الشر أقدر، يؤكد هذا ما نقرؤه ونسمعه عن تعداد الجرائم وزيادتها يوماً بعد يوم، وذلك لقصور العقل البشري عن الوصول إلى الدواء الناجع والشفاء النافع
315
لمعالجة مثل هذه الأمراض الخطيرة، أما الإِسلام فقد استطاع أن يقتلع الشر من جذوره ويدٌ واحدة تقطع كافية لردع المجرمين فيا له من تشريع حكيم!!
316
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى قصة ابني آدم وإِقدام الأخ على قتل أخيه بسبب البغي والحسد وذكر أحكام الحرابة والسرقة، أعقبه بذكر أمر المنافقين وأمر اليهود في حسدهم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتربصهم به
316
وبأصحابه الدوائر، وأمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألا يحزن لما يناله من أذى من أعداء الإِنسانية فالله سيعصمه من شرهم، وينجيه من مكرهم، ثم يذكر ما أنزل الله من أحكام نورانية في شريعة التوراة.
اللغَة: ﴿يَحْزُنكَ﴾ الحُزْن والحَزَن خلاف السرور ﴿السُّحْتِ﴾ الحرام: سمي بذلك لأنه يسحتُ الطاعات أي يذهبها ويستأصلها وأصل السحت: الهلاك قال تعالى ﴿فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ﴾ [طه: ٦١] أي يستأصلكم ويهلككم ﴿الأحبار﴾ جمع حَبْر وهو العالم مأخوذ من التحبير وهو التحسين ﴿وَقَفَّيْنَا﴾ أتبعنا ﴿مُهَيْمِناً﴾ المهيمين: الرقيب على الشيء الحافظ له، من هيمن عليه أي راقبه ويأتي بمعنى العالي والمرتفع على الشيء ﴿شِرْعَةً﴾ الشِّرعة: السُّنَّة والطريقة يقال: شرع لهم أي سنَّ لهم ﴿مِنْهَاجاً﴾ المنهاج: الطريق الواضح
سَبَبُ النّزول: عن البراء بن عازب قال: «مُرَّ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيهودي محمّماً مجلوداً فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا نعم فدعا رجلاً من علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إِذا أخذنا الشريف تركناه، وإِذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اللهم إِني أول من أحيا أمرك إِذ أماتوه فأمر به فرجم» فأنزل الله ﴿ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر﴾ إِلى قوله ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ﴾ يقولون: ائتوا محمداً فإِن أمركم فالتحميم والجلد فخذوه وإِن أفتاكم بالرجم فاحذروا.
التفِسير: ﴿ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر﴾ الخطاب للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على وجه التسلية أي لا تتأثر يا محمد ولا تحزن لصنيع الذين يتسابقون نحو الكفر ويقعون فيه بسرعة ﴿مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ﴾ أي من المنافقين الذين لا يُجاوز الإِيمان أفواههم يقولون بألسنتهم آمنا وقلوبهم كافرة ﴿وَمِنَ الذين هَادُواْ﴾ أي ومن اليهود ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ أي هم مبالغون في سماع الأكاذيب والأباطيل وفي قبول ما يفتريه أحبارهم من الكذب على الله وتحريف كتابه ﴿سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ﴾ أي مبالغون في قبول كلام قومٍ آخرين لم يحضروا مجلسك تكبراً وإِفراطاً في العداوة والبغضاء وهم يهود خيبر، والسماعون للكذب بنو قريظة ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ أي يُزيلونه ويُميلونه عن مواضعه بعد أن وضعه الله تعالى فيها والمراد تحريف أحكام الله وتغييرها بأحكام أخرى قال ابن عباس: هي حدود الله في التوراة غيروا الرجم بالجلد والتحميم - يعني تسويد الوجه - ﴿يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا﴾ أي إِن أمركم محمد بالجلد فأقبلوا وإِن أمركم بالرجم فلا تقبلوا قال تعالى ردّاً عليهم ﴿وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً﴾ أي ومن يرد الله كفره وضلالته فلن يقدر أحدٌ على دفع ذلك عنه ﴿أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ﴾ أي لم يرد الله أن يطهرّ قلوبهم من رجس الكفر وخبث الضلالة لقبح
317
صنيعهم وسوء اختيارهم ﴿لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ﴾ أي ذلٌ وفضيحة ﴿وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ هو الخلود في نار جهنم قال أبو حيان: والآية جاءت تسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتخفيفاً عنه من ثقل حزنه على مسارعتهم في الكفر وقطعاً لرجائه من فلاحهم ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ أي الباطل كرره تأكيداً وتفخيماً ﴿أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ أي الحرام من الرشوة والربا وشبه ذلك ﴿فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ أي إِن تحاكموا إِليك يا محمد فيما شجر بينهم من الخصومات فأنت مخير بين أن تحكم بينهم وبين أن تُعرض عنهم قال ابن كثير: أي إِن جاءك يتحاكمون إِليك فلا عليك ألا تحكم بينهم لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إِليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم ﴿وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً﴾ أي لأن الله عاصمك وحافظك من الناس ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين﴾ أي فاحكم بينهم بالعدل والحق وإِن كانا ظلمةً خارجين عن طريق العدل لأن الله يحب العادلين، ثم قال تعالى منكراً عليهم مخالفتهم لأحكام التوراة ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله﴾ أي كيف يحكّمك يا محمد هؤلاء اليهود ويرضون بحكمك وعندهم التوراة فيها حكم الله يرونه ولا يعملون به؟ قال الرازي: هذا تعجيبٌ من الله تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتحكيم اليهود إِيّاه بعد علمهم بما في التوراة من حد الزاني ثم تركهم قبول ذلك الحكم، فعدلوا عما يعتقدونه حكماً حقاً إِلى ما يعتقدونه باطلاً طلباً للرخصة فظهر بذلك جهلهم وعنادهم ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك﴾ أي يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم بعد أن وضح لهم الحق وبان ﴿وَمَآ أولئك بالمؤمنين﴾ أي ليسوا بمؤمنين لأنهم لا يؤمنون بكتابهم «التوراة» لإِعراضهم عنه وعن حكمك الموافق لما فيه قال في التسهيل: وهذا إِلزامٌ لهم لأن من خالف كتاب الله وبدّله فدعواه الإِيمان باطلة، ثم مدح تعالى التوراة بأنها نور وضياء فقال ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ أي أنزلنا التوراة على موسى فيها بيانٌ واضح ونور ساطع يكشف ما اشتبه من الأحكام ﴿يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ﴾ أي يحكم بالتوراة أنبياء بني إِسرائيل الذين انقادوا لحكم الله ﴿لِلَّذِينَ هَادُواْ﴾ أي يحكمون بالتوراة لليهود لا يخرجون عن حكمها ولا يُبدّلونها ولا يُحرّفونها ﴿والربانيون والأحبار﴾ أي العلماء منهم والفقهاء ﴿بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله﴾ أي بسبب أمر الله إِياهم بحفظ كتابه من التحريف والتضييع ﴿وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ﴾ أي رقباء لئلا يُبدّل ويُغيرّ ﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون﴾ أي لا تخافوا يا علماء اليهود الناس في إِظهار ما عندكم من نعت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والرجم بل خافوا مني في كتمان ذلك ﴿وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً﴾ أي ولا تستبدلوا بآياتي حطام الدنيا الفاني من الرشوة والجاه والعَرَض الخسيس ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون﴾ أي من لم يحكم بشرع الله كائناً من كان فقد كفر وقال الزمخشري: ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهيناً به فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون وصفٌ لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهزاء والاستهانة وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها قال أبو حيان: والآية وإِن كان الظاهر من سياقها أن الخطاب فيها لليهود إِلا أنها عامة في
318
اليهود وغيرهم.
. وكل آية وردت في الكفار تجرُّ بذيلها على عصاة المؤمنين ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس﴾ أي فرضنا على اليهود في التوراة أن النفس تُقتل بالنفس ﴿والعين بالعين﴾ أي تُفقأ بالعين إِذا فقئت بدون حق ﴿والأنف بالأنف﴾ أي يجُدع بالأنف إِذا قطع ظلماً ﴿والأذن بالأذن﴾ أي تقطع بالأذن ﴿والسن بالسن﴾ أي يقلع بالسنِّ ﴿والجروح قِصَاصٌ﴾ أي يُقتص من جانبها بأن يُفعل به مثل ما فعله بالمجني عليه وهذا في الجراح التي يمكن فيها المماثلة ولا يُخاف على النفس منها ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ﴾ قال ابن عباس: أي فمن عفا عن الجاني وتصدَّق عليه فهو كفارة للمطلوب وأجرٌ للطالب وقال الطبري: من تصدَّق من أصحاب الحق وعفا فهو كفارة له أي للمصدِّق ويكفّر الله ذنوبه لعفوه وإِسقاطه حقه ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون﴾ أي المبالغون في الظلم لمخالفة شرع الله ﴿وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ أي أتبعنا على آثار النبيّين بعيسى بن مريم وأرسلناه عقيبهم مصدقاً لما تقدّمه من التوراة ﴿وَآتَيْنَاهُ الإنجيل فِيهِ هُدًى وَنُورٌ﴾ أي أنزلنا عليه الإِنجيل فيه هدى إِلى الحق ونور يُستضاء به في إِزالة الشبهات ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة﴾ أي مُعترفاً بأنها من عند الله، والتكرير لزيادة التقرير ﴿وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ أي وهادياً وواعظاً للمتقين ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله﴾ أي وآتينا عيسى بن مريم الإِنجيل وأمرناه وأتباعه بالحكم به ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون﴾ أي المتمردون الخارجون عن الإِيمان وطاعة الله ﴿وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق﴾ أي وأنزلنا إِليك يا محمد القرآن بالعدل والصدق الذي لا ريب فيه ﴿مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب﴾ أي مصدّقاً للكتب السماوية التي سبقته ﴿وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ أي مؤتمناً عليه وحاكماً على ما قبله من الكتب قال الزمخشري: أي رقيباً على سائر الكتب لأنه يشهد لها بالصحة والثبات قال ابن كثير: اسم المهيمن يتضمن ذلك فهو أمينٌ وشاهد وحاكم على كل كتابٍ قبله جمع الله فيه محاسن من قبله وزاده من الكمالات ما ليس في غيره ﴿فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله﴾ أي فاحكم يا محمد بين الناس بما أنزل الله إِليك في هذا الكتاب العظيم ﴿وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحق﴾ أي لا توافقهم على أغراضهم الفاسدة عادلاً عمّا جاءك في هذا القرآن قال ابن كثير: أي لا تنصرفْ عن الحق الذي أمرك الله به إِلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ أي لكل أمةٍ جعلنا شريعة وطريقاً بيناً واضحاً خاصاً بتلك الأمة قال أبو حيان: لليهود شرعةٌ ومنهاج وللنصارى كذلك والمراد في الأحكام وأما المعتقد فواحدٌ لجميع الناس توحيدٌ وإِيمان بالرسل وجميع الكتب وما تضمنته من المعاد والجزاء ﴿وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي لو أراد الله لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيءٌ منها الآخر ﴿ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم﴾ أي شرع الشرائع مختلفة ليختبر العباد هل يذعنون لحكم الله أم يُعرضون، فخالف بين الشرائع لينظر المطيع
319
من العاصي ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ﴾ أي فسارعوا إِلى ما هو خيرٌ لكم من طاعة الله واتباع شرعه ﴿إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ أي معادكم ومصيركم أيها الناس إِلى الله يوم القيامة فيخبركم بما اختلفتم فيه من أمر الدين ويجازيكم بأعمالكم ﴿وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ﴾ أي أُحكم بين أهل الكتاب بهذا القرآن ولا تتّبع أهواءهم الزائفة ﴿واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ﴾ أي احذر هؤلاء الأعداء أن يصرفوك عن شريعة الله فإِنهم كذَبةٌ كفرةٌ خونة ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ أي فإِن أعرضوا عن الحكم بما أنزل الله وأرادوا غيره فاعلم يا محمد أنما يريد الله يعاقبهم ببعض إِجرامهم ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ﴾ أي أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق منهمكون في المعاصي ﴿أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ﴾ الاستفهام للإِنكار والتوبيخ والمعنى أيتولون عن حكمك ويبتغون غير حكم الله وهو حكم الجاهلية؟ ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ أي ومن أعدل من الله في حكمه، وأصدقُ في بيانه، وأحكم في تشريعه لقومٍ يصدّقون بالعليّ الحكيم!!
البَلاَغَة: ١ - ﴿ياأيها الرسول﴾ الخطاب بلفظ الرسالة للتشريف والتعظيم.
٢ - ﴿يُسَارِعُونَ فِي الكفر﴾ إيثار كلمة «في» على كلمة «إِلى» للإِيماء إِلى أنهم مستقرون في الكفر لا يبرحونه وإِنما ينتقلون بالمسارعة عن بعض فنونه إِلى بعض آخر.
٣ - ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ﴾ صيغة فعّال للمبالغة أي مبالغون في سماع الكذب.
٤ - ﴿لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ﴾ تنكير الخزي للتفخيم وتكرير لهم ﴿وَلَهُمْ فِي الآخرة﴾ لزيادة التقرير والتأكيد وبين كلمتي «الدنيا والآخرة» طباقٌ.
٥ - ﴿وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ﴾ تعجيبٌ من تحكيمهم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم لا يؤمنون به ولا بكتابه.
٦ - ﴿وَمَآ أولئك بالمؤمنين﴾ الإِشارة بالبعيد للإِيذان ببعد درجتهم في العتو والمكابرة.
٧ - ﴿فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس﴾ خطابٌ لرؤساء اليهود وعلمائهم بطريق الإٍلتفات والأصل «فلا يخشوا».
٨ - ﴿فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ﴾ أي بادروا فعل الخيرات وفيه استعارة حيث شبهه بالمتسابقين على ظهور الخيل إِذ كل واحد ينافس صاحبه في السبق لبلوغ الغاية المقصودة.
الفَوَائِد: قال الفخر الرازي: خاطب الله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله ﴿ياأيها النبي﴾ [الأحزاب: ١] في مواضع كثيرة وما خاطبه بقوله ﴿ياأيها الرسول﴾ إِلا في موضعين أحدهما ﴿ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر﴾ والثاني في هذه السورة أيضاً وهو قوله ﴿ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: ٦٧] وهذا الخطاب لا شك أنه خطاب تشريف وتعظيم.
تنبيه: يقول شهيد الإِسلام «سيد قطب» طيَّب الله ثراه في تفسير الظلال ما نصه «إِن الجاهلية
320
في ضوء هذا النص القرآني البليغ ﴿أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ﴾ هي حكم البشر للبشر وعبودية البشر للبشر ورفض أُلوهية الله والخروج من عبوديته إلى عبودية غير الله، إنه مفرق الطريق فإما حكم الله، وإما حكم الجاهلية وشريعة الهوى ومنهج العبودية لغير الله، والجاهلية ليست فترة من الزمان ولكنها وضع من الأوضاع يوجد بالأمس واليوم وغداً والناسُ إما أنهم يحكمون بشريعة الله ويقبلونها ويسلمون بها تسليماً فهم إذاً مسلمون وإما أنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر فهم في الجاهلية وهم خارجون عن شريعة الله».
321
المنَاسَبَة: لما حكى تعالى عن أهل الكتاب أنهم تركوا العمل بالتوارة والإِنجيل وحكم عليهم بالكفر والظلم والفسوق، حذّر تعالى في هذه الآيات من موالاة اليهود والنصارى، ثم عدّد جرائم اليهود وما اتهموا به الذات الإِلهية المقدسة من شنيع الأقوال وقبيح الفعال.
اللغَة: ﴿دَآئِرَةٌ﴾ واحدة الدوائر وهي صروف الدهر ونوازله قال الراجز:
تردُّ عنكَ القَدرَ المَقْدُورَا... ودائرتِ الدَّهر أنْ تَدُورا
﴿حَبِطَتْ﴾ بطلت وذهبت ﴿تَنقِمُونَ﴾ تنكرون وتعيبون ﴿السحت﴾ الحرام وقد تقدم ﴿مَغْلُولَةٌ﴾ مقبوضة والغلُّ: القيد يوضع في اليد وهو كناية عن البخل، وغلّة وضع القيد في يده ﴿أَطْفَأَهَا﴾ الإِطفاء: الإِخماد حتى لا يبقى هناك أثر ﴿مُّقْتَصِدَةٌ﴾ أي عادلة غير متغالية من القصد وهو الاعتدال.
سَبَبُ النّزول: ١ - عن ابن عباس قال: كان «رفاعةُ بن زيد» و «سُوَيْد بن الحارث» قد أظهرا الإِسلام ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما فأنزل الله ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً... ﴾ الآية.
ب - عن ابن عباس قال: جاء نفرٌ من اليهود إِلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسألوه عمن يؤمن به من الرسل عليهم السلام، فقال: أومن بالله وما أُنزل إِلينا وما أُنزل إِلى إِبراهيم وإِسماعيل إِلى قوله «ونحن له مسلمون» فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: والله ما نعلم أهل دينٍ أقلَّ حظاً في الدنيا والآخرة منكم، ولا ديناً شراً من دينكم فأنزل الله ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله﴾ الآية.
التفِسير: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ﴾ نهى تعالى المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ينصرونهم ويستنصرون بهم ويصافونهم ويعاشرونهم معاشرة المؤمنين ﴿بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ﴾ أي هم يدٌ واحدة على المسلمين لاتحادهم في الكفر والضلال، وملةُ الكفر واحدة ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ أي من جملتهم وحكمهُ حكمهمُ قال الزمخشري: وهذا تغليظٌ من الله وتشديدٌ في مجانبة المخالف في الدين واعتزاله كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لا تراءى نارهما» ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين﴾ أي لا يهديهم إِلى الإِيمان ﴿فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ﴾ أي شك ونفاق كعبد الله بن أُبيّ وأصحابه يسارعون في مُوالاتهم ومُعاونتهم ﴿يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ﴾ أي يقولون معتذرين عن موالاة الكافرين نخاف حوادث الدهر وشروره أن يظفر اليهود بالمسلمين فلا يتم الأمر لمحمد قال تعالى رداً على مزاعمهم الفاسدة {
322
فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح} يعني فتح مكة وهذه بشارة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين بوعده تعالى بالفتح والنصرة ﴿أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ﴾ أي يُهلكهم بأمرٍ من عنده لا يكون فيه تسبّبٌ لمخلوق كإِلقاء الرعب في قلوبهم كما فعل ببني النضير ﴿فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ﴾ أي يصير المنافقون نادمين على ما كان منهم من موالاة أعداء الله من اليهود والنصارى ﴿وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ﴾ أي يقول المؤمنون تعجباً من حال المنافقين إِذا هتك الله سترهم ﴿أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ﴾ أي حلفوا لكم يا معشر اليهود بأغلظ الإِيمان إِنهم لمعكم بالنصرة والمعونة كما حكى تعالى عنهم
﴿قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ﴾ [الحشر: ١١] ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ﴾ أي بطلت أعمالهم بنفاقهم فصاروا خاسرين في الدنيا والآخرة ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ﴾ خطابٌ على وجه التحذير والوعيد والمعنى: يا معشر المؤمنين من يرجع منكم عن دينه الحق ويبدّله بدينٍ آخر ويرجع عن الإِيمان إِلى الكفر ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ أي فسوف يأتي الله مكانهم بأناسٍ مؤمنين يحبّهم الله ويحبّون الله ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين﴾ أي رحماء متواضعين للمؤمنين أشداء متعززين على الكافرين قال ابن كثير: وهذه صفاتُ المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه متعززاً على عدوه كقوله تعالى ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ﴾ [الفتح: ٢٩] ومن علامة حب الله تعالى للمؤمن أن يكون ليّن الجانب متواضعاً لإِخوانه المؤمنين متسربلاً بالعزّة حيال الكافرين والمنافقين ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم﴾ أي يجاهدون لإِعلاء كلمة الله ولا يبالون بمن لامهم فهم صلاب في دين الله لا يخافون في ذات الله أحداً ﴿ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ﴾ أي من اتصف بهذه الأوصاف الحميدة فإِنما هو من فضل الله عليه وتوفيقه له ﴿والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أي واسع الإِفضال والإِحسان عليهمٌ بمن يستحق ذلك، ثمّ لما نهاهم تعالى عن موالاة الكفرة ذكر هنا من هم حقيقون بالموالاة فقال ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ﴾ أي ليس اليهود والنصارى بأوليائكم إِنما أولياؤكم الله ورسوله والمؤمنون ﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ أي المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف الجليلة من إِقام الصلاة وإِيتاء الزكاة وهم خاشعون متواضعون لله عَزَّ وَجَلَّ قال في التسهيل: ذكر تعالى الوليَّ بلفظ المفرد إِفراداً لله تعالى بهما، ثم عطف على اسمه تعالى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين على سبيل التّبع، ولو قال «إِنما أولياؤكم» لم يكن في الكلام أصلٌ وتبع ﴿وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون﴾
323
أي من يتولّ الله ورسوله والمؤمنين فإِنه من حزب الله وهم الغالبون القاهرون لأعدائهم ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً﴾ أي لا تتخذوا أعداء الدين الذين يسخرون من دينكم ويهزءون ﴿مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ والكفار أَوْلِيَآءَ﴾ أي من هؤلاء المستهزئين اليهود والنصارى وسائر الكفرة أولياء لكم تودّونهم وتحبونهم وهم أعداء لكم، فنم اتخذ دينكم سخرية لا يصح لكم أن تصادقوه أو توالوه بل يجب أن تبغضوه وتعادوه ﴿واتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي اتقوا الله في موالاة الكفار والفجار إِن كنتم مؤمنين حقاً، ثمَّ بيَن تعالى جانباً من استهزائهم فقال ﴿وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة اتخذوها هُزُواً وَلَعِباً﴾ أي وإِذا أذنتم إِلى الصلاة ودعوتم إِليها سخروا منكم ومن صلاتكم قال في البحر: حسد اليهود الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين سمعوا الأذان وقالوا: ابتدعت شيئاً لم يكن للأنبياء فمن أين لك الصياح كصياح العير فما أقبحه من صوت فأنزل الله هذه الآية نبّه تعالى على أنَّ من استهزأ بالصلاة ينبغي أن لا يُتّخذ ولياً بل يُهجر ويطرد، وهذه الآية جاءت بالتوكيد للآية قبلها ﴿ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ﴾ أي ذلك الفعل منهم بسبب أنهم فجرة لا يعقلون حكمة الصلاة ولا يدركون غايتها في تطهير النفوس، ونفى العقل عنهم لكونهم لم ينتفعوا به في أمر الدين وإِن كان لهم عقول يدركون بها مصالح الدنيا ﴿قُلْ ياأهل الكتاب هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ﴾ أي قل يا محمد: يا معشر اليهود والنصارى هل تعيبون علينا وتنكرون منا ﴿إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ﴾ أي إِلا إِيماننا بالله وبما جاء به رسل الله قال ابن كثير: أي هل لكم علينا مطعنٌ أو عيبٌ إِلا هذا؟ وهذا ليس بعيبٍ ولا مذمة فيكون الاستثناء منقطعاً ﴿وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي خارجون عن الطريق المستقيم ﴿قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك﴾ أي هل أخبركم بما هو شرٍّ من هذا الذي تعيبونه علينا؟ ﴿مَثُوبَةً عِندَ الله﴾ أي ثواباً وجزاءً ثابتاً عند الله قال في التسهيل: ووضع الثوابَ موضع العقاب تهكماً بهم نحو قوله
﴿فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [آل عمران: ٢١] ﴿مَن لَّعَنَهُ الله﴾ أي طرده من رحمته ﴿وَغَضِبَ عَلَيْهِ﴾ أي سخط عليه بكفره وانهماكه في المعاصي بعد وضوح الآيات ﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير﴾ أي ومسخ بعضَهم قردةً وخنازير ﴿وَعَبَدَ الطاغوت﴾ أي وجعل منهم من عَبَد الشيطان بطاعته ﴿أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل﴾ أي هؤلاء الملعونون الموصوفون بتلك القبائح والفضائح شرٌّ مكاناً في الآخرة وأكثر ضلالاً عن الطريق المستقيم قال ابن كثير والمعنى: يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا الذي هو توحيد الله وإِفراده بالعبادة دون ما سواه كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم جمع ما ذكر؟ قال القرطبي: ولما نزلت هذه الآية قال المسلمون لهم: يا إِخوة القردة والخنازير فنكّسوا رءوسهم افتضاحاً وفيهم يقول الشاعر:
324
﴿وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا﴾ الضمير يعود إِلى المنافقين من اليهود أي إِذا جاءوكم أظهروا الإِسلام ﴿وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ﴾ أي والحال قد دخلوا إِليك كفاراً وخرجوا كفاراً لم ينتفعوا بما سمعوا منك يا محمد من العلم، ولا نجعت فيهم المواعظ والزواجر ﴿والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ﴾ أي من كفرهم ونفاقهم وفيه وعيد شديدٌ لهم ﴿وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم والعدوان﴾ أي وترى كثيراً من اليهود يسابقون في المعاصي والظلم ﴿وَأَكْلِهِمُ السحت﴾ أي أكلهم الحرام ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي بئس أعمالهم القبيحة تلك الأخلاق الشنيعة ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار﴾ أي هلاّ يزجرهم علماؤهم وأحبارهم ﴿عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت﴾ أي عن المعاصي والآثام وأكل الحرام ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ أي بئس صنيعهم ذلك تركهم النهي عن ارتكاب محارم الله قال ابن عباس: ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية - يعني على العلماء - وقال أبو حيان: تضمنت هذه الآية توبيخ العلماء والعبَّاد على سكوتهم عن النهي عن معاصي الله وأنشد ابن المبارك:
فلعنة الله على اليهود إِن اليهود إِخوةُ القرود
وهلْ أفسَد الدِّينَ إِلا الملو كُ وأحبارُ سَوْءٍ ورهبانها
﴿وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ أي قال اليهود اللعناء إِن الله بخيلٌ يقتّر الرزق على العباد قال ابن عباس: مغلولة أي بخيلة أمسك ما عنده بخلاً ليس يعنون أن يد الله موثقة ولكنهم يقولون إِنه بخيل ﴿غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ﴾ دعاءٌ عليهم بالبخل المذموم والفقر والنكد ﴿وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ﴾ أي أبعدهم الله من رحمته بسبب تلك المقالة الشنيعة ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ﴾ أي بل هو جواد كريم سابغٍ الإِنعام يرزق ويعطي كما يشاء قال أبو السعود: وتضييق الرزق ليس لقصورٍ في فيضه بل لأن إِنفاقه تابع لمشيئته المبنيّة على الحِكَم وقد اقتضت الحكمة بسبب ما فيهم من شؤم المعاصي أن يضيّق عليهم ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾ أي وليزيدنَّهم هذا القرآن الذي أُنزل عليك يا محمد كفراً فوق كفرهم وطغياناً فوق طغيانهم إِذ كلّما نزلت آية كفروا بها فيزداد طغيانهم وكفرهم كما أن الطعام للأصحاء يزيد المرضى مرضاً قال الطبري: أعلم تعالى نبيّه أنهم أهل عتو وتمرّد على ربهم وأنهم لا يذعنون الحقٍّ وإِن علموا صحته ولكنهم يعاندونه يسلِّي بذلك نبيَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ذهابهم عن الله وتكذيبهم إِيّاه ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة﴾ أي ألقينا بين اليهود العداوة والبغضاء فكلمتهم مختلفة وقلوبهم شتّى لا يزالون متباغضين متعادين إِلى قيام الساعة ﴿كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله﴾ أي كلما أرادوا إِشعال حربٍ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أطفأها الله ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً﴾ أي يجتهدون في الكيد للإِسلام وأهله ويسعون لإِثارة الفتن بين المسلمين قال ابن كثير: أي من سجيتهم أنهم دائماً يسعون في الإِفساد في الأرض ﴿والله لاَ يُحِبُّ المفسدين﴾ أي لا يحب من كانت هذه صفته ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب آمَنُواْ واتقوا﴾ أي لو أن
325
اليهود والنصارى آمنوا بالله وبرسوله حق الإِيمان واتقوا محارم الله فاجتنبوها ﴿لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ أي محونا عنهم ذنوبهم التي اقترفوها ﴿وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النعيم﴾ أي ولأدخلناهم مع ذلك في جنان النعيم ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ﴾ أي ولو أنهم استقاموا على أمر الله وعملوا بما في التوراة والإِنجيل وبما أُنزل إِليهم في هذا الكتاب الجليل الذي نزل على خاتم الرسل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾ أي لوسّع الله عليهم الأرزاق وأغدق عليهم الخيرات بإِفاضة بركات السماء والأرض عليهم ﴿مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ﴾ أي منهم جماعة معتدلة مستقيمة غير غالية ولا مقصّرة، وهم الذين آمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كعبد الله بن سلام والنجاشي وسلمان ﴿وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ أي وكثير منهم أشرار بئس ما يعملون من قبيح الأقوال وسوء الفعال.
البَلاَغَة: ١ - ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين﴾ بين لفظ «أعزّة» و «أذلة» طباقٌ وهو من المحسنات البديعية وكذلك بين لفظ ﴿مِن فَوْقِهِمْ.... وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾.
٢ - ﴿لَوْمَةَ لائم﴾ في تنكير لومة ولائم مبالغةٌ لا تخفى لأن اللّومة المرّة من اللوم.
٣ - ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ هذا على سبيل التهييج.
٤ - ﴿هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا﴾ يسمى مثل هذا عند علماء البيان تأكيد المدح بما يشبه الذم وبالعكس فقد جعلوا التمسك بالإِيمان موجباً للإِنكار والنقمة مع أن الأمر بالعكس.
٥ - ﴿مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله﴾ هذا من باب التهكم حيث استعملت المثوبة في العقوبة.
٦ - ﴿شَرٌّ مَّكَاناً﴾ نسب الشرُّ للمكان وهو في الحقيقة لأهله وذلك مبالغة في الذم.
٧ - ﴿يَدُ الله مَغْلُولَةٌ﴾ غلُّ اليد كناية عن البخل وبسيطها كناية عن الجود.
٨ - ﴿أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ﴾ إيقاد النار في الحرب استعارة لأن الحرب لا نار لها وإِنما شبهت بالنار لأنها تأكل أهلها كما تأكل النار حطبها.
٩ - ﴿لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم﴾ استعارة أيضاً عن سبوغ النعم وتوسعة الرزق عليهم كما يقال: عمَّه الرزق من فوقه إِلى قدمه.
الفوَائِد: الأولى: روي أعمر بلغه أن كاتباً نصرانياً قد استعمله أبو موسى الأشعري فكتب إِلى أبي موسى: لا تكرموهم إِذْ أهانهم الله، ولا تأمنوهم إِذْ خوّنهم الله، ولا تُدنوهم إِذْ أقصاهم الله فقال له أبو موسى: لا قوام للبصرة إِلا به فقال عمر: مات النصراني فماذا تفعل.
الثانية: قُتِل مسليمةُ الكذاب في عهد أبي بكر يد «وحشي» قاتل حمزة وكأن يقول: قتلتُ خير الناس في الجاهلية - يريد حمزة - وشرَّ الناس في الإِسلام - يريد مسليمة الكذاب.
الثالثة: قال المفسرون: «عسى» من الله واجب لأن الكريم إِذا أطمع في خيرٍ فله فهو بمنزلة
326
الوعد لتعلق النفس به.
الرابعة: قال البيضاوي في قوله تعالى ﴿لَوْلاَ﴾ فيها تحضيضٌ لعلمائهم للنهي عن ذلك فإِنَّ ﴿لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون﴾ إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ وإِذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض.
327
المنَاسَبَة: لّما حذر تعالى المؤمنين من موالاة الكافرين، وكانت رسالته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تتضمن الطعن في أحوال الكفرة والمخالفين، وهذا يستدعي مناصيتهم العداء له ولأتباعه أمره تعالى في هذه الآيات بتبليغ الدعوة، ووعده بالحفظ والنصرة، ثم ذكر تعالى طرفاً من عقائد أهل الكتاب الفاسدة وبخاصة النصارى الذين يعتقدون بألوهية عيسى وأنه ثالث ثلاثة، وردّ عليهم بالدليل القاطع والبرهان الساطع.
اللغَة: ﴿يَعْصِمُكَ﴾ العصمة: الحفظ والحماية ﴿طُغْيَاناً﴾ الطغيان: تجاوز الحد في الظلم والغلوُّ فيه ﴿تَأْسَ﴾ تحزن يقال: أسِيَ، والأسى: الحزن قال:
وانحلبتْ عيناه من فرط الأسَى... ﴿خَلَتْ﴾ مضت ﴿صِدِّيقَةٌ﴾ الصدِّيق: المبالغ في الصدق وفِعِّيل من أبنية المبالغة كما يقال رجل سِكيِّت أي مبالغ في السكوت أي كثير السكر ﴿يُؤْفَكُونَ﴾ يُصرفون عن الحق يقال: أَفَكه إِذا صرفه ومنه ﴿أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا﴾ [الأحقاف: ٢٢] ﴿تَغْلُواْ﴾ الغلو: التجاوز في الحد والتشدد في الأمر يقال: غلا في دينه غلواً فيه حتى جاوز الحد. سَبَبُ النّزول: أ - عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «لّما بعثني الله برسالته ضقتُ بها ذرعاً وعرفتُ أن من الناس من يكذبني فأنزل الله ﴿ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ الآية».
ب - وعن ابن عباس قال: «جاء جماعة من اليهود إِلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: ألست تُقرُّ أن التوراة حق من عند الله؟ قال: بلى فقالوا: فإِنّا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها» فأنزل الله ﴿قُلْ ياأهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل... ﴾ الآية.
التفِسير: ﴿ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ﴾ هذا نداءُ تشريفٍ وتعظيمٍ ناداه تعالى بأشرف الأوصاف بالرسالة الربانية أي بلّغْ رسالة ربك غير مراقب أحداً ولا خائفٍ أن ينالك مكروه ﴿وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾ قال ابن عباس: المعنى بلّغْ جميع ما أنزل إِليك من ربك فإِن كتمتَ شيئاً منه فما بلّغت رسالته، وهذا تأديب لحملة العلم من أمته ألا يكتموا شيئاً من أمر شريعته ﴿والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس﴾ أي يمنعك من أن ينالوك بسوء قال الزمخشري: هذا وعدٌ من الله بالحفظ والكلاءة والمعنى: والله يضمن لك العصمة من أعدائك فما عذرك في مراقبتهم؟ «روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يُحرس حتى نزلت فأخرج رأسه من قبة أدَم وقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله عَزَّ وَجَلَّ» ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين﴾ أي إِنما عليك البلاغ والله هو الذي يهدي من يشاء فمن قُضي له بالكفر لا يهتدي أبداً {قُلْ ياأهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ حتى تُقِيمُواْ التوراة
328
والإنجيل} أي قل يا محمد لهؤلاء اليهود والنصارى لستم على شيء من الدين أصلاً حتى تعملوا بما في التوراة والإِنجيل وتقيموا أحكامهما على الوجه الأكمل، ومن إِقامتهما الإِيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ قال ابن عباس: يعني القرآن العظيم ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً﴾ اللام للقسم أي وأقسم ليزيدنَّ هذا القرآن المنزل عليك يا محمد الكثير منهم غلواً في التكذيب وجحوداً لنبوتك وإِصراراً على الكفر والضلال ﴿فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين﴾ أي لا تحزن عليهم فإِن تكذيب الأنبياء عادتُهم ودأبهم، وهذه تسليةٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وليس بنهي عن الحزن ثم قال تعالى ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ﴾ أي صدّقوا الله ورسوله وهم المسلمون ﴿والذين هَادُواْ﴾ وهم اليهود ﴿والصابئون﴾ وهم طائفة من النصارى عبدوا الكواكب ﴿والنصارى﴾ وهم أتباع عيسى ﴿مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وعَمِلَ صَالِحاً﴾ أي مَنْ آمن من هؤلاء المذكورين إِيماناً صحيحاً خالصاً لا يشوبه ارتيابٌ بالله وباليوم الآخر وعمل صالحاً يقربه من الله ﴿فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي فلا خوفٌ عليهم فيما قدموا عليه من أهوال يوم القيامة ولا هم يحزنون على ما خلّفوا وراءهم من الدنيا بعد معاينهم جزيل ثواب الله قال ابن كثير: والمقصود أن كلَّ فرةقٍ آمنت بالله واليوم الآخر وعملت عملاً صالحاً - ولا يكون ذلك كذلك حتى يوافق الشريعة المحمدية بعد إِرسال صاحبها المبعوث إِلى جميع الثقلين - فمن اتصف بذلك فلا خوفٌ عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما تركوه وراء ظهورهم ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ﴾ أي أخذنا من اليهود العهد المؤكد على الإِيمان بالله ورسله قال في البحر: هذا إِخبار بما صدر من أسلاف اليهود من نقض الميثاق الذي أخذه تعالى عليهم وما اجترحوه من الجرائم العظام من تكذيب الأنبياء وقتل بعضهم، وهؤلاء أخلاف أولئك فغير بدعٍ ما يصدر منهم للرسول ن الأذى والعصيان إِذ اك شنِشْينةٌ من أسلافهم ﴿وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً﴾ أي أرسلنا لهم الرسل ليرشوهم ويبينوا لهم أمر الدين ﴿كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ﴾ أي كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما يخالف أهواءهم وشهواتهم ﴿فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ﴾ أي كذبوا طائفةً من الرسل يقتلون طائفة أخرى منهم قال البيضاوي: وإِنما جيء ب «وقتلوا» موضع «قتلوا» على حكاية الحال الماضية استحضاراً لها واستفظاعاً للقتل وتنبيهاً على أن ذلك من ديدنهم ماضياً ومستقبلاً ومحافظةً على رءوس الآي ﴿وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ أي وظن إِسرائيل أن لا يصيبهم بلاءٌ وعذاب بقتل الأنبياء وتكذيب الرسل اغتراراً بإِمهال الله عزّ وجلّ لهم ﴿فَعَمُواْ وَصَمُّواْ﴾ أي تمادوا في الغيّ والفساد فعَمُوا عن الهدى وصمّوا عن سماع الحق وهذا على التشبيه بالأعمى والأصمّ لأنه لا يهتدي إِلى طريق الرشد في الدين لإِعراضه عن النظر ﴿ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ﴾ قال القرطبي: في الكلام إِضمارٌ أي أوقعت بهم الفتنةُ فتابوا فتاب الله عليهم ﴿ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ﴾ أي عميَ كثير منهم وصمَّ بعد تبيّن الحق له ﴿والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ أي عليم
329
بما عملوا وهذا وعيدٌ لهم وتهديد، ثم ذكر تعالى عقائد النصارى الضالة في المسيح فقال ﴿لَقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ﴾ قال أبو السعود: هذا شروعٌ في تفصيل قبائح النصارى وإِبطال أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح النصارى وإِبطال أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود وهؤلاء الذين قالوا إِن مريم ولدت إِلهاً هم «اليعقوبية» زعموا أن الله تعالى حلَّ في ذات عيسى واتحد به، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ﴿وَقَالَ المسيح يابني إِسْرَائِيلَ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ أي أنا عبدٌ مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم الذي يذلّ له كل شيء ويخضع له كل موجود قال ابن كثير: كان أول كلمة نطق بها وهو صغير أن قال
﴿إِنِّي عَبْدُ الله﴾ [مريم: ٣٠] ولم يقل: إِني أنا الله، ولا ابن الله بل قال ﴿إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً﴾ [مريم: ٣٠] وقال القرطبي: ردَّ الله عليهم ذلك بحجةٍ قاطعةٍ مما يُقرّون به فقال ﴿وَقَالَ المسيح يابني إِسْرَائِيلَ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ فإِذا كان المسيح يقول: يا رب، ويا ألله فكيف يدعو نفسه أم كيف يسألها؟ هذا محال ﴿إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة﴾ أي من يعتقد بألوهية غير الله فلن يدخل الجنة أبداً لأنها دار الموحّدين ﴿وَمَأْوَاهُ النار﴾ أي مصيره نار جهنم ﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾ أي فلا ناصر ولا منقذ له من عذاب الله ﴿لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ﴾ أي أحد ثلاثة الإِلهيّة وهذا قول فرقةٍ من النصارى يسمون «النُّسطورية والملكانية» القائلين بالتثليث وهم يقولون: إِن الإلهيّة مشتركة بين الله، وعيسى، ومريم وكل واحدٍ من هؤلاء إِله ولهذا اشتهر قولهم «الأب والإِبن وروح القدس» ﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله وَاحِدٌ﴾ أي والحال أنه ليس في الوجود إِلا إِله واحدٌ موصوفٌ بالوحدانية متعالٍ عن المثيل والنظير ﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ﴾ أي وإِن لم يكفّوا عن القول بالتثليث ﴿لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي ليمسنهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ﴿أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ﴾ الاستفهام للتوبيخ أي أفلا ينتهون عن تلك العقائد الزائفة والأقاويل الباطلة ويستغفرون الله مما نسبوه إِليه من الاتحاد والحلول؟ ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي يغفر لهم ويرحمهم إن تابوا قال البيضاوي: وفي هذا الاستفهام ﴿أَفَلاَ يَتُوبُونَ﴾ تعجيبٌ من إِصرارهم على الكفر ﴿مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل﴾ أي ما المسيح إِلا رسولٌ كالرسل الخالية الذين تقدموه خصّه الله تعالى ببعض الآيات الباهرات إِ؟ هاراً لصدقه كما خصّ بعض الرسل، فإِن أحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا في يد موسى.
وجعلت حية تسعى وهو أعجب، وإن خُلق من غير أب فقد خلق آدم من غير أبٍ ولا أم وهو أغرب، وكلُّ ذلك من جنابه عَزَّ وَجَلَّ وإِنما موسى وعيسى مظاهر شئونه وأفعاله ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ أي مبالغة في الصّدق ﴿كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام﴾ أي أنه مخلوق كسائر المخلوقين مركبٌ من عظمٍ ولحمٍ وعروقٍ وأعصاب وفيه إِشارة لطيفة إِلى أن من يأكل الطعام لا بدّ أن يكون في حاجة إِلى إخراجه ومن يكن هذا حاله فكيف يُعْبد، أو كيف يُتوهم أنه إِله؟ {
330
انظر كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيات} تعجيبٌ من حال الذين يدَّعون ألوهيّته هو وأمه أي أنظر كيف نوضّح لهم الآيات الباهرة على بطلان ما اعتقدوه ﴿ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً﴾ أي كيف يُصرفون عن استماع الحق وتأمله بعد هذا البيان مع أنه أوضح من الشمس في رابعة النّهار ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ﴾ أي قل يا محمد أتوجهون عبادتكم الى من لا يقدر لكم على النفع والضر؟ ﴿والله هُوَ السميع العليم﴾ أي السميع لأقوالكم العليم بأحوالكم وتضمنت الآية الإِنكار عليهم حيث عبدوا من هو متصفٌ بالعجز عن دفع ضرّ أو جلب نفع ﴿قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق﴾ أي يا معشر اليهود والنصارى لا تتجاوزوا الحد في دينكم وتُفرطوا كما أفرط أسلافكم فتقولوا عن عيسى إِنه إلهٌ أو ابن إِله قال القرطبي: وغلو اليهود قولهم في عيسى إِنه ليس ولد رشْدة - أي هو ابن زنا - وغلوُّ النصارى قولهم إِنه إِله ﴿وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ﴾ أي لا تتبعوا أسلافكم وأئمتكم الذين كانوا عن الضلال قبل بعثة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿وَأَضَلُّواْ كَثِيراً﴾ أي أضلوا كثيراً من الخلق بإِغوائهم لهم ﴿وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل﴾ أي ضلوا عن الطريق الواضح المستقيم قال القرطبي: وتكرير ضلوا للإِشارة إِلى أنهم ضلوا من قبل وضلوا من بعد، والمرادُ الأسلافُ الذين سنُّوا الضلالة وعملوا بها من رؤساء اليهود والنصارى ﴿لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ﴾ أي لعنهم الله عَزَّ وَجَلَّ في الزبور، والإِنجيل قال ابن عباس: لُعنوا بكل لسان، لعنوا على عهد موسى في التوراة، وعلى عهد داود في الزبور، وعلى عهد عيسى في الإِنجيل وعلى عهد محمد في القرآن قال المفسرون: إِن اليهود لّما اعتدوا في السبت دعا عليهم داود فمسخهم الله قردة، وأصحاب المائدة لّما كفروا بعيسى دعا عليهم عيسى فمُسخوا خنازير ﴿ذلك بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ﴾ أي ذلك اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم، ثمَّ بيَّن تعالى حالهم الشنيع فقال ﴿كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ﴾ أي لا ينهى بعضُهم بعضاً عن قبيحٍ فعلوه ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ أي بئس شيئاً فعلوه قال الزمخشري: تعجيب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم فيا حسرتا على المسلمين في إِعراضهم عن التناهي عن المنكر كأنه ليس من الإِسلام في شيء مع ما يتلون من كتاب الله من المبالغات في هذا الباب وقال في البحر: وذلك أنهم جمعوا بين فعل المنكر، والتجاهر به، وعدم النهي عنه، والمعصيةُ إذا فُعلت ينبغي أن يُستتر بها لحديث
«من ابتلي منكم بشيء من هذا القاذورات فليستتر» فإِذا فعلت جهاراً وتواطأ الناس على عدم الإِنكار كان ذلك تحريضاً على فعلها وسبباً مثيراً لإِفشائها وكثرتها ﴿ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ﴾ أي ترى كثيراً من اليهود يوالون المشركين بغضاً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين والمراد «كعب بن الأشرف» وأصحابه ﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ﴾ أي بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة {أَن
331
سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ} وهذا هو المخصوص بالذم أي بئس ما قدموه لآخرتهم سخطُ الله وغضبُه عليهم ﴿وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ﴾ أي وفي عذاب جهنم مخلّدون أبد الآبدين ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ﴾ أي لو كان هؤلاء اليهود يصدّقون بالله ونبيّهم وما جاءهم من الكتاب ما اتخذوا المشركين أولياء ﴿ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ﴾ أي ولكنَّ أكثرهم خارجون عن الإِيمان وطاعة الله عَزَّ وَجَلَّ.
البَلاَغَة: ١ - ﴿لَسْتُمْ على شَيْءٍ﴾ في هذا التعبير من التحقير والتصغير ما لا غاية وراءه.
٢ - ﴿إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ أضاف الاسم الجليل إِليهم تلطفاً معهم في الدعوة.
٣ - ﴿وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ لم يقل عليهم وإِنما وضع الظاهر مكان الضمير للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر.
٤ - ﴿والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ صيغة المضارع بدل الماضي ﴿بما عملوا﴾ لحكاية الحال الماضية استحضاراً لصورتها الفظيعة ومراعاة لرءوس الآيات.
٥ - ﴿فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة﴾ إِظهار الاسم الجليل في موضع الإِضمار لتهويل الأمر وتربية المهابة.
٦ - الاستعارة ﴿فَعَمُواْ وَصَمُّواْ﴾ استعار العمى والصمم للإِعراض عن الهداية والإِيمان.
٧ - ﴿انظر كَيْفَ نُبَيِّنُ﴾ ﴿ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ﴾ قال أبو السعود: تكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب ولفظ «ثمَّ» لإِظهار ما بين العجبين من التفاوت أي إن بياننا للآيات أمرٌ بديع بالغٌ أقصى الغايات من الوضوح والتحقيق وإِعراضهم عنها أعجبُ وأبدع.
٨ - ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ تقبيحٌ لسوء أعمالهم وتعجيبٌ منه بالتوكيد مع القسم.
الفوَائِد: قال بعض المحققين في قوله تعالى ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً﴾ إِذا كان هذا في حق عيسى النبي فما ظنك بوليّ من الأولياء هل يملك لهم نفعاً ولا ضراً؟!
تنبيه: قال ابن كثير: دلت الآية ﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ على أن مريم بنبيَّة كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إِلى نبوة «سارة» ونبوة «أم موسى» استدلالاً منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبياً إِلا من الرجال ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ﴾ [يوسف: ١٠٩] وحكى الأشعري الإِجماع على ذلك.
332
المنَاسَبَة: لّما ذكر تعالى اليهود والنصارى وما هم عليه من الزيغ والضلال، ذكر هنا أنَّ اليهود في غاية العداوة للمسلمين، ولذلك جعلهم قرناء للمشركين في شدة العداوة، وذكر أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إِلى المسلمين منهم، ثم لّما استقصى المناظرة مع أهل الكتاب عاد إِلى بيان الأحكام الشرعية فذكر منها كفارة اليمين، وتحريم الخمر والميسر، وجزاء قتل الصيد في حالة الإِحرام.
اللغَة: ﴿قِسِّيسِينَ﴾ القِسُّ والقسيِّس اسم لرئيس النصارى ومعناه العالم ﴿رُهْبَاناً﴾ جمع راهب وأصله من الرهبة بمعنى المخافة، والرهبانيةُ التعبد في الصومعة ﴿تَفِيضُ﴾ الفيض أن
333
يمتلئ الإِناء ويسيل من شدة الامتلاء يقال: فاض الماء وفاض الدمع قال الشاعر:
ففاضتْ دموعُ العينِ منّي صَبَابةً على النحر حتى بلَّ دمعي مْحِمَلي
﴿رِجْسٌ﴾ قال الزجاج: الرجس اسم لكل ما استقذر من عمل ويقال للعذرة والأقذار رجس لأنها قذارة ونجاسة ﴿الجحيم﴾ النار الشديدة الاتقاد ﴿الصيد﴾ كل ما يصطاد من حيوانٍ وطيرٍ وغيره فالصيد يطلق على المصيد قال الشاعر:
صيدُ الملوكِ أرانبٌ وثعالبٌ وإِذا ركبتُ فصيديَ الأَبْطالُ
سَبَبُ النّزول: أ - عن ابن عباس أن رجلاً أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا رسول الله: إِني إِذا أكلت هذا اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي وإِني حرّمت عليّ اللحم فأنزل الله ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ﴾ الآية.
ب - عن أنس قال: كنتُ ساقي القوم يوم حُرّمت الخمر في بيت «أبي طلحة» وما شرابهم إِلا الفضيخ والبسر والتمر، وإِذا منادٍ ينادي إِن الخمر قد حرّمت قال: فأريقت في سكك المدينة فقال أبو طلحة إِذهب فأهرقها فقال بعض القوم قُتل قومٌ وهي في بطونهم فأنزل الله ﴿لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا﴾.
التفِسير: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ﴾ اللام للقسم أي قسماً لتجدنَّ يا محمد اليهود والمشركين أشدَّ الناس عداوة للمؤمنين ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى﴾ نزلت في النجاشي ملك الحبشة وأصحابه قال الزمخشري: وصف الله شدة شكيمة اليهود وصعوبة إِجابتهم إِلى الحق، ولين عريكة النصارى وسهولة ميلهم إِلى الإِسلام، وجعل اليهود قرناء المشركين في شدة العداوة للمؤمنين بل نبّه على زيادة عداوتهم وبتقديمهم على الذين أشركوا ﴿ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً﴾ تعليلٌ لقرب مودتهم أي كونهم أقرب مودة بسبب أن منهم علماء وعُباداً ﴿وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ أي يتواضعون لوداعتهم ولا يتكبرون كاليهود قال البيضاوي: وفيه دليلٌ على أن التواضعَ والإِقبال على العلم والعمل والإِعراض عن الشهوات، محمودٌ وإِن كان من كافر ﴿وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول﴾ أي إِذا سمعوا القرآن المُنْزَل على محمد رسول الله ﴿ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع﴾ أي فاضت أعينهم بالدمع من خشية الله لرقة قلوبهم وتأثرهم بكلام الله الجليل ﴿مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق﴾ أي من أجل معرفتهم أنه كلام الله وأنه حق ﴿يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا﴾ أي يقولون يا ربنا صدقنا بنبيّك وكتابك ﴿فاكتبنا مَعَ الشاهدين﴾ أي مع أمة محمد عليه السلام الذين يشهدون على الأمم يوم القيامة قال ابن عباس: نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه الذين حين تلا عليهم «جعفر بن أبي طالب» بالحبشة القرآن بكوا حتى أخضلوا لحاهم ﴿وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَآءَنَا مِنَ الحق﴾ أي ما الذي يمنعنا عن الإِيمان ويصدنا عن اتّباع الحق وقد لاح لنا الصواب
334
وظهر الحق المنير؟ قالوا ذلك في جواب من عيّرهم بالإِسلام من اليهود قال في البحر: هذا إِنكارٌ واستبعادٌ لانتفاء الإِيمان منهم مع قيام موجبه وهو عرفان الحق ﴿وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين﴾ أي والحال أننا نطمع أن يدخلنا ربنا الجنة بصحبة الصالحين من عباده الأبرار ﴿فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ﴾ أي جازاهم على إِيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي ماكثين فيها أبداً لا يحولون عنها ولا يزولون ﴿وذلك جَزَآءُ المحسنين﴾ أي ذلك الأجر والثواب جزاء من أحسن عمله وأصلح نيّته، ثم أخبر تعالى عن حال الأشقياء فقال ﴿والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم﴾ أي جحدوا بآيات الله وأنكروا نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهم أهل الجحيم المعذّبون فيها قال أبو السعود: وذكَرهم بمقابلة المصدِّقين بآيات الله جمعاً بين الترغيب والترهيب ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ﴾ روى الطبري عن عكرمة قال: كان أناسٌ من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ همّوا بالخِصاء وترك اللحم والنساء فنزلت هذه الآية أي لا تمنعوا أنفسكم تلك اللذائذ وتقولوا حرّمناها على أنفسنا مبالغة في تركها وتقشفاً وتزَهُّداً ﴿وَلاَ تعتدوا﴾ أي ولا تتعدّوا حدود ما أحل الله لكم بتجاوز الحلال إِلى الحرام ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين﴾ أي يبغض المتجاوزين الحد، والإِسلام يدعو إِلى القصد بدون إِفراط أو تفريط ولهذا قال ﴿وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً﴾ أي كلوا ما حلَّ لكم وطاب مما رزقكم الله قال في التسهيل: أي تمتعوا بالمآكل الحلال وبالنساء وغير ذلك، وإِنما خصّ الأكل بالذكر لأنه أعظم حاجات الإِنسان ﴿واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ هذا استدعاء إِلى التقوى بألطف الوجوه كأنه يقول: لا تضيّعوا إِيمانكم بالتقصير في طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ فتكون عليكم الحسرة العظمى فإِن الإِيمان بالله تعالى يوجب المبالغة في تقوى الله ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ﴾ أي لا يؤاخذكم بما يسبق إِليه اللسان من غير قصد الحلف كقولكم لا والله، وبلى والله ﴿ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان﴾ أي ولكن يؤاخذكم بما وثّقتم الأيمان عليه بالقصد والنية إِذا حنثتم ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾ أي كفارة اليمين عند الحنث أن تُطعموا عشرة مساكين من الطعام الوسط الذي تُطعمون منه أهليكم قال ابن عباس: أي من أعدل ما تُطعمون أهليكم وقال ابن عمر: الأوسط الخبز والتمر، والخبز والزبيب، وخيرُ ما نُطعم أهلينا الخبز واللحم ﴿أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾ أي كسوة المساكين لكل مسكين ثوبٌ يستر البدن ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ أي إِعتاق عبد مملوك لوجه الله قال في البحر: وأجمع العلماء على أن الحانث مُخَيّر بين الإِطعام والكسوة والعتق ﴿فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ﴾ أي فمن لم يجد شيئاً من الأمور المذكورة فكفارته صيام ثلاثة أيام ﴿ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ أي هذه كفارة اليمين الشرعية عند الحنث {
335
واحفظوا أَيْمَانَكُمْ} أي احفظوها عن الابتذال ولا تحلفوا إِلا لضرورة قال ابن عباس: أي لا تحلفوا وقال ابن جرير: أي لا تتركوها بغير تكفير ﴿كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ أي مثل ذلك التبيين يبيّن الله لكم الأحكام الشرعية ويوضحها لتشكروه على هدايته وتوفيقه لكم ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر﴾ قال ابن عباس: الخمر جمع الأشربة التي تُسكر، والميسرُ القمار كانوا يتقامرون به في الجاهلية ﴿والأنصاب والأزلام﴾ أي الأصنام المنصوبة للعبادة والأقداح التي كانت عند سدنة البيت وخُدّام الأصنام قال ابن عباس ومجاهد: الأنصاب حجارةٌ كانوا يذبحون قرابينهم عندها والأزلام: قداحٌ كانوا يستقسمون بها ﴿رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان﴾ أي قذر ونجسٌ تعافه العقول، وخبيثٌ مستقذر من تزيين الشيطان ﴿فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي اتركوه وكونوا في جانب آخر بعيدين عن هذه القاذورات لتفوزوا بالثواب العظيم ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر﴾ أي ما يريد الشيطان بهذه الرذائل إِلا إِيقاع العداوة والبغضاء بين المؤمنين في شربهم الخمر ولعبهم بالقمار ﴿وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة﴾ أي ويمنعكم بالخمر والميسر عن ذكر الله الذي به صلاح دنياكم وآخرتكم وعن الصلاة التي هي عماد دينكم قال أبو حيان: ذكر تعالى في الخمر والميسر مفسدتين: إِحداهما دنيوية، والأخرى دينية، فأما الدنيوية فإِن الخمر تثير الشرور والأحقاد وتئول بشاربها إِلى التقاطع، وأما الميسر فإِن الرجل لا يزال يقامر حتى يبقى سليباً لا شيء له وينتهي إِلى أن يقامر حتى على أهله وولده، وأما الدينية فالخمر لغلبة السرور والطرب بها تُلهي عن ذكر الله وعن الصلاة، والميسر - سواء كان غالباً أو مغلوباً - يلهي عن ذكر الله ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ الصيغة للاستفهام ومعناه الأمر أي انتهوا ولذلك قال عمر: انتهينا ربّنا انتهينا قال في البحر: وهذا الاستفهام من أبلغ ما يُنهى به كأنه قيل: قد تُلي عليكم ما فيهما من المفاسد التي توجب الانتهاء فهل أنتم منتهون أم باقون على حالكم؟ ﴿وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا﴾ أي أطيعوا أمر الله وأمر سوله واحذروا مخالفتهما ﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ﴾ أي أعرضتم ولم تعملوا بأمر الله ورسوله ﴿فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين﴾ أي ليس عليه هدايتكم وإِنما عليكم تبليغكم الرسالة وجزاؤكم علينا قال الطبري: وهذا من الله وعيدٌ لمن تولى عن أمره ونهيه يقول تعالى ذكره لهم: فإِن توليتم عن أمري ونهي فتوقعوا عقابي واحذروا سخطي وقال أبو حيان: وفي هذا من الوعيد البالغ ما لا خفاء به إِذ تضمّن أن عقابكم إِنما يتولاه المرسِلُ لا الرسول ﴿لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا﴾ قال الإِثم والذمّ إِنما يتعلق بفعل المعاصي والذين ماتوا قبل التحريم ليسوا بعاصين ﴿إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ أي ليس عليهم جُناحٌ فيما تناولوه من المأكل والمشروب إِذا اتقوا المحرَّم وثبتوا على الإِيمان والأعمال الصالحة ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ وَآمَنُواْ﴾ أي اتقوا المحرّم وآمنوا بتحريمه بمعنى اجتنبوا ما حرمّه الله معتقدين حرمته ﴿ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ﴾ أي ثم استمروا على تقوى الله واجتناب المحارم وعملوا الأعمال الحسنة
336
التي تقربهم من الله ﴿والله يُحِبُّ المحسنين﴾ أي يحب المتقربين إِليه بالأعمال الصالحة قال في التسهيل: كرّر التقوى مبالغةٌ وقيل: الرتبة الأولى: إِتقاء الشرك، والثانيةُ: اتقاء المعاصي، والثالثةُ: اتقاء ما لا بأس به حذراً مما به البأس ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ﴾ أي ليختبرنكم الله في حال إِحرامكم بالحج أو العمرة بشيء من الصيد تنال صغاره الأيدي وكباره الرماح قال البيضاوي: نزل في عام الحديبية ابتلاهم الله سبحانه وتعالى: بالصيد وكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث يتمكنون من صيدها أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم وهم محرمون قال في البحر: وكان الصيد مما تعيش به العرب وتتلذذ باقتناصه ولهم فيه الأشعار والأوصاف الحسنة ﴿لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب﴾ أي ليتميز الخائف من الله بطريق الغيب لقوة إِيمانه ممن لا يخاف الله لضعف إِيمانه ﴿فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي فمن تعرّض للصيد بعد هذا الإِعلام والإِنذار فله عذابٌ مؤلم موجع ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ أي لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بحجٍ أو عمرة ﴿وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم﴾ أي من قتل الصيد في حالة الإِحرام فعليه جزاء يماثل ما قتل من النَّعم وهي الإِبل والبقر والغنم ﴿يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ﴾ أي يحكم بالمِثْل حكمان عادلان من المسلمين ﴿هَدْياً بَالِغَ الكعبة﴾ أي حال كونه هدياً يُنحر ويُتصدَّق به على مساكينه فإِن لم يكن للصيد مثلٌ من النَّعم كالعصفور والجراد فعليه قيمته ﴿أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ﴾ أي وإِذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النَّعم فَيُقوّم الصيدُ المقتول ثم يُشترى به طعامٌ فيصرفُ لكل مسكينٍ مدٌّ منه ﴿أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ﴾ أي عليه مثل ذلك الطعام صياماً يصومه عن كل مدٍّ يوماً ليذوق سوء عاقبة هتكه لحرمة الإِحرام قال في التسهيل: عدَّد تعالى ما يجب في قتل المحرم للصيد، فذكر أولاً الجزاء من النَّعم، ثم الطعام، ثم الصيام ومذهب مالك والجمهور أنها على التخيير وهو الذي يقتضيه العطف ب «أو» وعن ابن عباس أنها على الترتيب ﴿عَفَا الله عَمَّا سَلَف﴾ أي من قتل الصيد قبل التحريم ﴿وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ﴾ أي ومن عاد إِلى قتل الصيد وهو محرم فينتقم الله منه في الآخرة ﴿والله عَزِيزٌ ذُو انتقام﴾ أي غالب في أمره منتقم ممن عصاه ﴿أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر﴾ أي أُحلَّ لكم أيها الناس صيد البحر سواء كنتم محرمين أو غير محرمين ﴿وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ﴾ أي وما يُطعم من صيده كالسمك وغيره منفعةً وقوتاً لكم وزاداً للمسافرين يتزودونه في أسفارهم ﴿وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً﴾ أي وحُرّم عليكم صيد البر ما دمتم محرمين ﴿واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ أي خافوا الله الذي تبعثون إِليه يوم القيامة فيجازيكم على أعمالكم وهو وعيد وتهديد.
البَلاَغَة:
١ - بين لفظ ﴿عَدَاوَةً مَّوَدَّةً﴾ طباقٌ وهو من المحسنات البديعية.
٢ - ﴿تَفِيضُ مِنَ الدمع﴾ أي تمتلئ بالدمع فاستعير له الفيضُ الذي هو الانصباب عن امتلاء مبالغة أو جعلت أعينهم من فرط البكاء تفيض بأنفسها.
337
٣ - ﴿تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ مجاز مرسل أطلق الجزء وأراد الكل أي عتق إِنسان.
٤ - ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ الاستفهام يراد به أي انتهوا وهو من أبلغ ما يُنهى به قال أبو السعود: ولقد أكد تحريم الخمر والميسر في هذه الآية الكريمة بفنون التأكيد حيث صُدرت الجملة ب «إِنما» وقُرنا بالأصنام والأزلام، وسُميّا رجساً من عمل الشيطان، وأُمر بالاجتناب عن عينهما وجعل ذلك سبباً للفلاح، ثم ذكر ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية، ثم أعيد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ إِيذاناً بأن الأمر في الزجر والتحذير قد بلغ الغاية القصوى.
فَائِدَة: التعبير بقوله تعالى ﴿فاجتنبوه﴾ نصٌ في التحريم ولكنه أبلغ في النهي والتحريم من لفظ «حُرّم» لأن معناه البعد عنه بالكلية فهو مثل قوله تعالى ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى﴾ [الإسراء: ٣٢] لأن القرب منه إِذ كان حراماً فيكون الفعل محرماً من باب أولى وكذلك هنا.
تنبيه: لم يذكر في القرآن الكريم تعليل الأحكام الشرعية إِلا بالإِيجاز أمّا هنا فقد ذكرت العلة بالتفصيل فذكر تعالى منها إِلقاء العداوة والبغضاء بين المؤمنين، والصدّ عن سبيل الله وذكره، وشغل المؤمنين عن الصلاة، ووصف الخمر والميسر بأنهما رجس وأنهما من عمل الشيطان وأن الشيطان يريد إِغواء الإِنسان وكل ذلك ليشير إِلى ضرر وخطر هاتين الرذيلتين «القمار والخمر» فتدبر أسرار القرآن العظيم.
338
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى في الآية المتقدمة أن الصيد على المحرم حرام، ونهى عن قتل الطير والوحش في حالة الإِحرام، ذكر تعالى في هذه الآية أنه جعل الكعبة قياماً للناس إذ ركّز في قلوبهم تعظيمها بحيث لا يقع فيها أذى لأحد، فكما أن الحرم سببٌ لأمن الوحش والطير فكذلك هو سبب لأمن الناس عن الآفات والمخافات، وسبب لحصول الخيرات والسعادات في الدنيا والآخرة.
اللغَة: ﴿البحيرة﴾ من البحر وهو الشق قال أبو عبيدة: وهي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن آخرها ذكرٌ شقوا أذنها وخلّوا سبيلها فلا تُركب ولا تُحلب ﴿السآئبة﴾ البعير يسيّب بنذرٍ ونحوه ﴿وَصِيلَةٍ﴾ الوصيلة من الغنم كانوا إذا وَلدت الشاة سبعة أبطن وكان السابع ذكراً وأُنثى قالوا قد وصلت أخاها فلم تُذبح ﴿حَامٍ﴾ : الفَحْل إذا نتج من صلبه عشرة أبطن يقال قد حمى ظهره فلا يُركب ولا يمنع من كلأ ولا ماء ﴿عُثِرَ﴾ ظهر يقال: عثرت منه على خيانة أي اطلعت وظهرت لي ﴿الأوليان﴾ تثنية أولى بمعنى أحق.
سَبَبُ النّزول: أ - عن ابن عباس قال: كان قومٌ يسألون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استهزاء فيقول الرجل: من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقتِه: أين ناقتي فأنزل الله ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ... ﴾ الآية.
ب - وعن ابن عباس قال: كان تميم الداريُّ وعَدِيُّ بن بدّاء يختلفان إلى مكة فخرج معهما فتى من «بني سهم» فتوفي بأرضٍ ليس بها مسلم، فأوصى إِليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاماً من فضة مخوّصاً بالذهب، فاستحلفهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما كتمتما ولا اطعلتما!! ثم وُجد الجام بمكة فقالوا: اشتريناه من عدي وتميم فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي ولشهادتنا أحقُّ من شهادتهما وما اعتدينا فأخذوا الجام وفيهما نزلت هذه الآية ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ الآية.
التفسِير: ﴿جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ﴾ أي جعل الله الكعبة المشرّفة وهي البيت المحرّم صلاحاً ومعاشاً للناس لقيام أمر دينهم ودنياهم إذ هو سبب لانتعاشهم في أمو معاشهم ومعادهم، يلوذ به الخائف، ويأمن فيه الضعيف، ويربح فيه التجار، ويتوجه إليه الحُجَّاج والعمار {
339
والشهر الحرام} أي الأشهر الحُرُم «ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب» قياماً لهم لأمنهم القتال فيها ﴿والهدي والقلائد﴾ أي الهدي الذي يُهدى للحرم من الأنعام، والبُدن ذوات القلائد التي تُقلّد من شجر الحرم لتأمن هي وأصحابها جعلها الله أيضاً قياماً للناس ﴿ذلك لتعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي جعل هذه الحرمة للبيت الحرام والشهر الحرام والهدي والقلائد لتعلموا أيها الناس أن الله يعلم تفاصيل أمور السماوات والأرض ويعلم مصالحكم لذلك جعل الحرم آمنا يسكن فيه كل شيء، فانظروا لطفه بالعباد مع كفرهم وضلالهم ﴿اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي اعلموا أيها الناس أن الله شديد العقاب لمن عصاه وأنه غفور رحيم لمن تاب وأطاع وأناب، فلا تُيئسنّكم نقمتُه ولا تُطْمعنَّكم رحمتُه ﴿مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ﴾ أي ليس على الرسول إلا أداء الرسالة وتبليغ الشريعة وقد بلّغ ما وجب عليه فلا عذر لأحدٍ في التفريط ﴿والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ أي لا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأعمالكم وسيجازيكم عليها قال أبو حيان: الجملة فيها تهديد إذ أخبر تعالى أنه مطّلع على حال العبد ظاهراً وباطناً فهو مجازيه على ذلك ثواباً أو عقاباً ﴿قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث﴾ أي قل يا محمد لا يتساوى الخبيث والطيّبُ ولو أعجبك أيها السامع كثرة الخبيث وهو مثلٌ ضربه الله للتمييز بين الحلال والحرام، والمطيع والعاصي، والرديء والجيد قال القرطبي: اللفظ عامٌ في جميع الأمور يتصور في المكاسب، والأعمال، والناس، والمعارف، من العلوم وغيرها، فالخبيث من هذا كلِّه لا يُفلح ولا يُنْجِب ولا تَحسن له عاقبةُ وإن كثر، والطيّب - وإن قلَّ - نافعٌ حميدٌ جميل العاقبة وقال أبو حيان: الظاهر أن الخبيث والطيّب عامّان فيندرج تحتهما المال وحرامه، وصالح العمل وفاسده، وجيّد الناس ورديئهم، وصحيح العقائد وفاسدها ونظير هذه الآية قوله تعالى
﴿والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً﴾ [الأعراف: ٨٥] ﴿فاتقوا الله ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي فاتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه يا ذوي العقول لتفلحوا وتفوزوا برضوان الله والنعيم المقيم ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ أي لا تسألوا الرسول عن أمور لا حاجة لكم بها إن طهرت لكم ساءتكم قال الزمخشري: أي لا تُكثروا مسألة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى تسألوه عن تكاليف شاقة عليكم إن أفتاكم بها وكلّفكم إياها تغمكم وتشق عليكم وتندموا على السؤال عنها ﴿وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ﴾ أي وإِن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان نزول الوحي تظهر لكم تلك التكاليف التي تسؤكم فلا تسألو عنها ﴿عَفَا الله عَنْهَا﴾ أي عفا الله عن مسائلكم السالفة التي لا ضرورة لها وتجاوز عن عقوبتكم الأخروية فلا تعودوا إلى مثلها ﴿والله غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ أي واسع المغفرة عظيم
340
الفضل والإِحسان ولذلك عفا عنكم ولم يعاجلكم بالعقوبة ﴿قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ﴾ أي سأل أمثال هذه المسائل قومٌ قبلكم فلما أعطوها وفُرضت عليهم كفروا بها ولهذا قال ﴿ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ﴾ أي صاروا بتركهم العمل بها كافرين وذلك أن بني إِسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء فإذا أُمروا بها تركوها فهلكوا ﴿مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ﴾ كان أهل الجاهلية إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكروا بحروا أذنها أي شقوها وحرموا ركوبها وهي البحيرة، وكان الرجل يقول: إذا قدمتُ من سفري أو برئتُ من مرضي فناقتي سائبة، وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، وإذا ولدت الشاة أنثى فهم لهم وإن ولدت ذكراً فهو لآلهتهم وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها وهي الوصيلة، وإذا انتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا قد حمى ظهره وهو الحام، فلما جاء الإِسلام أبطل هذه العادات كلها فلا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام، ﴿ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ أي ولكنَّ الذين كفروا بالله يختلفون الكذب على الله وينسبون التحريم إِليه فيقولون الله أمرنا بهذا وأكثرهم لا يعقلون أن هذا لأنهم يقلّدون فيه الآباء ولهذا قال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول﴾ أي وإِذا قيل لهؤلاء الضالين هلموا إِلى حكم الله ورسوله فيما حلّلتم وحرّمتم ﴿قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ﴾ أي يكفينا دين آبائنا ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾ الهمزة للإِنكار والغرض التوبيخ أي أيتبعون آباءهم فيما هم عليه من الضلال ولو كانوا لا يعلمون شيئاً من الدين ولا يهتدون إلى الحق؟ ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ أي احفظوها عن ملابسة المعاصي والإِصرار على الذنوب والزموا إصلاحها ﴿لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم﴾ أي لا يضركم ضلال من ضلَّ من الناس إذا كنتم مهتدين قال الزمخشري: كان المسلمون تذهب أنفسهم حسرة على الكفرة يتمنون دخولهم في الإِسلام فقيل لهم عليكم أنفسكم بإصلاحها والمشي بها في طرق الهدى لا يضركم الضلاَّل عن دينكم إذا كنتم مهتدين كما قال تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
﴿فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ [فاطر: ٨] وقال أبو السعود: ولا يتوهمنّ أحدٌ أنّ في الآية رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن من جملة الاهتداء أن ينكر وقد روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إن الناس إِذا رأوا المنكر فلم يغيّروه عمّهم الله بعقابه» ﴿إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً﴾ أي مصيركم ومصير جميع الخلائق إلى الله ﴿فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي فيجازيكم بأعمالكم قال البيضاوي: هذا وعدٌ ووعيد للفريقين، وتنبيه على أن أحداً لا يؤاخذ بذنب غيره ﴿يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية﴾ أي يا أيها المؤمنون إذا شارف أحدكم على الموتِ وظهرت علائمه فينبغي أن يُشهد على وصيته ﴿اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ﴾ أي يُشهد على الوصية شخصين عدلين من المسلمين أو اثنان من غير المسلمين إن لم تجدوا شاهدين منكم {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض
341
فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت} أي إن أنتم فقاربكم الأجل ونزل بكم الموت ﴿تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة﴾ أي توقفونهما من بعد صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس وكذا فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استحلف عديّاً وتميماً بعد العصر عند المنبر ﴿فَيُقْسِمَانِ بالله إِنِ ارتبتم﴾ أي يحلفان بالله إن شككتم وارتبتم في شهادتهما قال أبو السعود: أي إن ارتاب بهما الوارث منكم بخيانةٍ وأخذ شيء من التركة فاحبسوهما وحلفوهما بالله ﴿لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قربى﴾ أي يحلفان بالله قائلين: لا نحابي بشهادتنا أحداً ولا نستبدل بالقسم بالله عرضاً من الدنيا أي لا نحلف بالله كاذبين من أجل المال ولو كان من نُقسم له قريباً لنا ﴿وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين﴾ أي ولا نكتم الشهادة التي أمرنا الله تعالى بإقامتها إنّا إن فعلنا ذلك كنا من الآثمين ﴿فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً﴾ أي فإن اطًّلع بعد حلفهما على خيانتهما أو كذبهما في الشهادة ﴿فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ الأوليان﴾ أي فرجلان آخران من الورثة المستحقين للتركة يقومان مقام الشاهدين الخائنين وليكونا من أولى من يستحق الميراث ﴿فَيُقْسِمَانِ بالله لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا﴾ أي يحلفان بالله لشهادتنا أصدق وأولى بالسماع والاعتبار من شهادتهما لأنهما خانا ﴿وَمَا اعتدينآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظالمين﴾ أي وما اعتدينا فيما قلنا فيهما من الخيانة إنّا إذا كذبنا عليهم نكون من الظالمين ﴿ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ﴾ أي ذلك الحكم أقرب أن يأتوا بالشهادة على حقيقتها من غير تغيير ولا تبديل ﴿أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ أي يخافوا أن يحلف غيرهم بعدهم فيفتضحوا ﴿واتقوا الله واسمعوا﴾ أي خافوا ربم وأطيعوا أمره ﴿والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين﴾ أي والله لا يهدي الخارجين عن طاعته إلى جنته ورحمته.
البَلاَغَة: ١ - ﴿والهدي والقلائد﴾ عطفُ القلائد على الهدي من عطف الخاص على العام، خُصّت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر، وبهاء الحج بها أظهر.
٢ - ﴿مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ﴾ أطلق المصدر البلاغ وأراد به التبليغ للمبالغة.
٣ - ﴿الخبيث والطيب﴾ بينهما طباقٌ، وبين ﴿فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ﴾ جناس الاشتقاق وكلاهما من المحسنات البديعية.
٤ - ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ﴾ جملة خبرية لفظاً إنشائية معنى يراد منها الأمر أي ليشهد بينكم.
الفوَائِد: قال الإمام الشاطبي: الإِكثار من الأسئلة مذموم وله مواضع نذكر منها عشرة:
أحدها: السؤال عما لا ينفع في الدين كسؤال بعضهم: من أبي؟
ثانيها: أن يسأل ما يزيد عن الحاجة كؤال الرجل عن الحج: أكلَّ عام؟
ثالثها: السؤال من غير احتياج إليه في الوقت ويدل عليه: «ذروني ما تركتكم»
رابعها: أن يسأل عن صعاب المسائل وشرارها كما جاء في النهي عن الأغلوطات.
خامسها: أن يسأل عن علة الحكم في التعبدات كالسؤال عن قضاء الصوم للحائض دون الصلاة.
342
سادسها: أن يبلغ بالسؤال حدّ التكلف والتعمق كسؤال بني إِسرائيل عن البقرة وما هي وما لونها؟
سابعها: أن يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي ولذلك قال سعيد: أعراقي أنت؟
ثامنها: السؤال عن المتشابهات ومن ذلك سؤال مالك عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم.. الخ.
تاسعها: السؤال عما حصل بين السلف وقد قال عمر بن عبد العزيز: تلك دماء كف الله عنها يدي فلا ألطّخ بها لساني.
عاشرها: سؤال التعنت والإِفحام وطلب الغلبة في الخصام ففي الحديث: «أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم».
343
المنَاسَبَة: لّما ذكر تعالى الوصية عند دنوّ الأجل وأمر بتقوى الله والسمع والطاعة، أعقبه بذكر اليوم المهول المخيف وهو يوم القيامة الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين للجزاء والحساب، ثم ذكر المعجزات التي أيّد بها عبده ورسوله «عيسى» ومنها المائدة من السماء، وختم السورة الكريمة ببراءة السيد المسيح من دعوى الألوهية.
اللغَة: ﴿كَفَفْتُ﴾ منعتُ وصرفتُ ومنه الكفيف لأنه منع الرؤية ﴿أَيَّدتُّكَ﴾ قوّيتك مأخوذ من الأيْد وهو القوة ﴿أَوْحَيْتُ﴾ الوحي: إِلقاء المعنى إلى النفس خفية وهو على أقسام: وحيٌ بمعنى الإِلهام ووحيٌ بمعنى الإِعلام في اليقظة والمنام، ووحيٌ بمعنى إِرسال جبريلَ إِلى الرسل عليهم السلام ﴿مائدة﴾ المائدة: الخُوان الذي عليه الطعام أي السُّفرة فإِن لم يكن عليه طعام فليس بمائدة ﴿الرَّقِيبَ﴾ المراقب الشاهد على الأفعال ﴿أَبَداً﴾ أي بلا انقطاع.
التفِسير: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل﴾ أي اذكروا أيها الناس ذلك اليوم الرهيب يوم القيامة حين يجمع الله الرسل والخلائق للحساب والجزاء ﴿فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ﴾ أي ما الذي أجابتكم به أممكم؟ وما الذي ردّ عليكم قومكم حين دعوتموهم إِلى الإِيمان والتوحيد؟ ﴿قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ﴾ أي لا علم لنا إِلى جنب علمك قال ابن عباس: أي لا علم لنا إِلا علم أنت أعلم به منا ﴿إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب﴾ أي تعلم ما لا نعلم ممّا ظهر وبطن قال أبو السعود: وفيه إِظهارٌ للشكوى وردٌ للأمر إِلى علمه تعالى بما لقوا من قومهم من الخطوب وكابدوا من الكروب والتجاءٌ إِلى ربهم في الانتقام منهم ﴿إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ﴾ قال ابن كثير: يذكر تعالى ما منَّ به على عبده ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام بما أجراه على يديه من المعجزات وخوارق العادات أي اذكر نعمتي عليك في خلقي إِياك من أمّ بلا ذكر وجعلي إِيّاك آية قاطعة على كمال قدرتي، وعلى والدتك حيث جعلتك برهاناً على براءتها ممّا اتهمها به الظالمون من الفاحشة وقال القرطبي: هذا من صفة يوم القيامة كأنه قال: اذكر يوم يجمع الله الرسل وإِذ يقول لعيسى كذا وذكر بلفظ الماضي ﴿إِذْ قَالَ﴾ تقريباً للقيامة لأن ما هو آتٍ قريب ﴿إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس﴾ أي حين قوّيتك بالروح الطاهرة المقدسة «جبريل» عليه السلام ﴿تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً﴾ أي تكلّم الناس في المهد صبيّاً وفي الكهولة نبياً ﴿وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل﴾ أي واذكر نعمتي
344
عليك حين علمتك الكتابة والحكمة وهي العلم النافع مع التوراة والإِنجيل ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي﴾ أي واذكر أيضاً حين كنت تصوّر الطين كصورة الطير بتيسيري وأمري ﴿فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي﴾ أي فتنفخ في تلك الصورة والهيئة فتصبح طيراً بأمر الله ومشيئته ﴿وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي﴾ أي تشفي الأعمى الذي لايبصر والأبرص الذي استعصى شفاؤه بأمري ومشيئتي ﴿وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِيِ﴾ أي تحيي الموتى بأمري ومشيئتي، وكرر لفظ ﴿بِإِذْنِي﴾ مع كل معجزة رداً على من نسب الربوبية إِلى عيسى ولبيان أن تلك الخوارق من جهته سبحانه أظهرها على يديه معجزة له ﴿وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات﴾ أي واذكر حين منعتُ اليهود من قتلك لّما همّوا وعزموا على الفتك بك حين جئتهم بالحجج والمعجزات ﴿فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي قال الين جحدوا نبوتك ولم يؤمنوا بك ما هذه الخوارق إِلا سحرٌ ظاهر واضح ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي﴾ وهذا أيضاً من الامتنان على عيسى أي واذكر حين أمرتُ الحواريين وقذفت في قلوبهم أن صدّقوا بي وبرسولي عيسى بن مريم ﴿قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾ أي قال الحواريون صدّقنا يا رب بما أمرتنا واشهد بأننا مخلصون في هذا الإِيمان خاضعون لأمر الرحمن ﴿إِذْ قَالَ الحواريون ياعيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء﴾ أي واذكر حين قال الحواريون يا عيسى هل يقدر ربك على إنزال مائدة من السماء علينا؟ قال القرطبي: وكان هذا السؤال في ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عَزَّ وَجَلَّ ويجوز أن يكون ذلك صدر ممن كان معهم من الجهال كما قال بعض قوم موسى
﴿اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ [الأعراف: ١٣٨] وقال أبو حيان: وهذا اللفظ يقتضي ظاهره الشك في قدرة الله تعالى على أن ينزّل مائدة من السماء وهذا ما ذهب إِليه الزمخشري وأما غيره من أهل التفسير فأطبقوا على أن الحواريين كانوا مؤمنين وهم خواص عيسى وأنهم لم يشكّوا في ذلك حتى قال الحسن: لم يشكوا في قدرة الله وإِنما سألوه سؤال مستخبر هل ينزّل أم لا؟ فإن كان ينزّل فاسأله لنا فسؤالهم كان للاطمئنان والتثبت ﴿قَالَ اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ أي اتقوا الله في أمثال هذه الأسئلة إن كنتم مصدقين بكمال قدرته تعالى ﴿قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا﴾ أي قال الحواريون نريد بسؤالنا المائدة أن نأكل منها تبركاً وتسكن نفوسنا بزيادة اليقين ﴿وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا﴾ أي ونعلم علماً يقيناً لا يحوم حوله شائبة من الشك بصدقك في دعوى النبوة ﴿وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين﴾ أي نشهد بها عند من لم يحضرها من الناس ﴿قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء﴾ أجابهم عيسى إِلى سؤال المائدة لإِلزامهم بالحجة الدامغة وروي أنه لما الدعاء لبس جبة شعر ورداء شعر وقام يصلي ويدعو ربه ويبكي قال أبو السعود: نادى عيسى ربه مرتين: مرة بوصف الألوهية الجامعة لجميع الكمالات،
345
ومرة بوصف الربوبية المنبئة عن التربية إِظهاراً لغاية التضرع ﴿تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا﴾ أي يكون يوم فرح وسرور لنا ولمن يأتي بعدنا ﴿وَآيَةً مِّنْكَ وارزقنا وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين﴾ أي ودلالة وحجة شاهدة على صدق رسولك وارزقنا يا ألله فإِنك خير من يعطي ويرزق لأنك الغني الحميد ﴿قَالَ الله إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ﴾ أي أجاب الله دعاءه فقال إِني سأُنزل عليكم هذه المائدة من السماء ﴿فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين﴾ أي من كفر بعد تلك الآية الباهرة فسوف أعذبه عذاباً شديداً لا أُعذّب مثل ذلك التعذيب أحداً من البشر وفي الحديث
«أُنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً وأُمروا ألا يدّخروا لغدٍ ولا يخونوا فخانوا وادخروا ورفعوا لغدٍ فمسخوا قردة وخنازير» قال في التسهيل: جرت عادة الله عَزَّ وَجَلَّ بعقاب من كفر بعد اقتراح آية فأُعطيها، ولما كفر بعض هؤلاء مسهم الله خنازير ﴿وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله﴾ هذا عطف قصة على قصة ﴿إِذْ قَالَ الحواريون﴾ ﴿وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى﴾ قال ابن عباس: هذا القول يكون من الله يوم القيامة على رءوس الخلائق ليعلم الكفار أنهم كانوا على باطل والمعنى: اذكر للناس يوم يخاطب الله عبده ورسوله عيسى بن مريم في الآخرة توبيخاً للكفرة وتبكيتاً لهم قائلاً، يا عيسى أأنت دعوت الناس إِلى عبادتك والاعتقاد بألوهيتك وألوهية أمك؟! قال القرطبي: إِنما سأله عن ذلك توبيخاً لمن ادّعى ذلك عليه ليكون إِنكاره بعد السؤال أبلغ في التكذيب وأشد في التوبيخ والتقريع ﴿قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ أي أنزهك عما لا يليق بك يا رب فما ينبغي لي أن أقول قولاً لا يحق لي أن أقوله ﴿إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ﴾ أي إِن كان ذلك صدر مني فإِنك لا يخفى عليك شيء وأنت العالم بأني لم أقله، وهذا اعتذارٌ وبراءة من ذلك القول ومبالغةٌ في الأدب وإِظهار الذلّة والمسكنة في حضرة ذي الجلال ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب﴾ أي تعلم حقيقة ذاتي وما انطوت عليه ولا أعلم حقيقة ذاتك وما احتوت عليه من صفات الكمال إِنك أنت العالم بالخفايا والنوايا وعلمك محيط بما كان وما يكون ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ﴾ أي ما أمرتهم إِلا بما أمرتني به قال الرازي: وضع القول موضع الأمر نزولاً على موجب الأدب لئلا يجعل نفسه وربه آمرين معاً ﴿أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ أي قلت لهم اعبدوا الله خالقي وخالقكم فأنا عبد مثلكم ﴿وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ﴾ أي كنت شاهداً على أعمالهم حين كنتُ بين أظهرهم ﴿فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ﴾ أي فلما قبضتني إِليك بالرفع إِلى السماء كنت يا ألله الحفيظ لأعمالهم، والشاهد على أفعالهم ﴿وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ أي وأنت المطّلع على كل شيء لا يخفى عليك شيء ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ﴾ أي إِن تعذبهم فأنت مالكهم تتصرف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك ﴿وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾ أي وإِن تغفر لمن تاب منهم فإِنك أنت الغالب على أمره الحكيم في صنعه ﴿قَالَ الله هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ﴾ أي يوم القيامة ينفع الصادقين في الدنيا صدقُهم
346
لأنه يوم الجزاء ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً﴾ أي لهم جنات تجري من تحت غرفها وأشجارها الأنهار ماكثين فيها لا يخرجون منها أبداً ﴿رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذلك الفوز العظيم﴾ أي نالوا رضوان الله لصدقهم ورضوا عن الله فيما أثابهم وجازاهم ذلك هو الظفر والفوز الكبير بجنات النعيم ﴿للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أي الجميع ملكه وتحت قهره ومشيئته وهو القادر على كل شيء.
«أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلا قول الله عَزَّ وَجَلَّ في إبراهيم ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [إبراهيم: ٣٦] وقول عيسى ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم﴾ فرفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى فقال الله تعالى يا جبريل: اذهب إِلى محمد - وربك أعلم - فاسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما قال وهو أعلم، فقال الله يا جبريل: اذهب إِلى محمد فقل له إِنا سنرضيك في أمتك ولانسوءك».
347
Icon