تفسير سورة المجادلة

أضواء البيان
تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان .
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
سُورَةُ الْمُجَادِلَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُوَضَّحًا فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ [٣٣ ٤]، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَدِلَّتَهُمْ، وَمُنَاقَشَتَهَا فِي مَسَائِلِ الظِّهَارِ، وَمَسَائِلِ أَحْكَامِ الْكَفَّارَةِ بِالْعِتْقِ، وَالصِّيَامِ، وَالْإِطْعَامِ، وَأَوْجُهَ الْقِرَاءَةِ فِي الْآيَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي آخِرِ سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [١٦ ١٢٨]، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ مَعْنَى الْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ، وَالْمَعِيَّةِ الْعَامَّةِ، وَالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مَعَ بَيَانِ الْفِرَقِ بَيْنَ النَّجْوَى بِالْخَيْرِ، وَالنَّجْوَى بِالْإِثْمِ وَالْعَدُوَّانِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [٤ ١١٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا: أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا الرَّدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: إِنَّ لَفْظَةَ «أَلَمْ تَرَ» لَا تُعَدَّى إِلَّا بِحَرْفِ الْجَرِّ الَّذِي هُوَ
«إِلَى»، وَلَا تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا إِلَى الْمَفْعُولِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ فَإِنَّ تَعْدِيَتَهَا إِلَى الْمَفْعُولِ بِنَفْسِهَا صَحِيحَةٌ.
وَمِنْ شَوَاهِدِ ذَلِكَ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
أَلَمْ تَرَيَانِي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقًا وَجَدْتُ بِهَا طِيبًا وَإِنْ لَمْ تُطَيَّبِ
وَالْمُرَادُ إِنْكَارُ اللَّهِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ تُوَلِّيهِمُ الْقَوْمَ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَهُمُ الْيَهُودُ وَالْكُفَّارُ، وَهَذَا الْإِنْكَارُ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ مَنْعِ ذَلِكَ التَّوَلِّي، وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ بِالنَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [٦٠ ١٣].
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الْمُنَافِقِينَ لَيْسُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَوَلَّوْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْيَهُودِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ [٤ ١٤٢ - ١٤٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً، وَالْأَيْمَانُ جَمْعُ يَمِينٍ، وَهِيَ الْحَلِفُ، وَالْجُنَّةُ هِيَ التُّرْسُ الَّذِي يَتَّقِي بِهِ الْمُقَاتِلُ وَقْعَ السِّلَاحِ. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْأَيْمَانَ الْكَاذِبَةَ، وَهِيَ حِلْفُهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ إِنَّهُمْ مَعَهُمْ وَإِنَّهُمْ مُخْلِصُونَ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ - تُرْسًا لَهُمْ يَتَّقُونَ بِهِ الشَّرَّ الَّذِي يَنْزِلُ بِهِمْ لَوْ صَرَّحُوا بِكُفْرِهِمْ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ «صَدَّ» الْمُتَعَدِّيَةِ، وَأَنَّ الْمَفْعُولَ مَحْذُوفٌ، أَيْ: فَصَدُّوا غَيْرَهُمْ مِمَّنْ أَطَاعَهُمْ لِأَنَّ صُدُودَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً وَالْحَمْلُ عَلَى التَّأْسِيسِ أَولَى مِنَ الْحَمْلِ عَلَى التَّأْكِيدِ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا.
وَهَذَانَ الْأَمْرَانِ اللَّذَانِ تَضَمَّنَتْهُمَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَهُمَا كَوْنُ الْمُنَافِقِينَ يَحْلِفُونَ الْأَيْمَانَ الْكَاذِبَةَ لِتَكُونَ لَهُمْ جُنَّةً، وَأَنَّهُمْ يَصُدُّونَ غَيْرَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ - جَاءَا مُوَضَّحَيْنِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا أَيْمَانُهُمُ الْكَاذِبَةُ فَقَدْ بَيَّنَهَا اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [٥٨ ١٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ الْآيَةَ [٩ ٩٥]،
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [٩ ٤٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [٦٣ ٢].
وَأَمَّا صَدُّهُمْ مَنْ أَطَاعَهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ بَيَّنَهُ اللَّهُ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [٣٣ ١٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [٣ ١٥٦]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [٣ ١٦٨]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [٤ ٧٢].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ، أَيْ لِأَجْلِ نِفَاقِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ الْآيَةَ [٤ ١٤٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ إِلَى قَوْلِهِ: خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا [١٨ ٣٥ - ٣٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ.
مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ إِسْنَادِ إِنْسَاءِ ذِكْرِ اللَّهِ إِلَى الشَّيْطَانِ - ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [٦ ٦٨]، ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ [١٢ ٤٢]، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ فَتَى مُوسَى: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [١٨ ٦٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ دَاخِلُونَ فِي جُمْلَةِ الْأَذَلِّينَ - لَا يُوجَدُ أَحَدٌ أَذَلَّ مِنْهُمْ. وَقَوْلُهُ: يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أَيْ يُعَادُونَ وَيُحَالِفُونَ وَيُشَاقُّونَ، وَأَصْلُهُ مُخَالَفَةُ حُدُودِ اللَّهِ الَّتِي حَدَّهَا.
وَقَوْلُهُ: فِي الْأَذَلِّينَ أَيِ الَّذِينَ هُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ ذُلًّا. وَالذُّلُّ: الصَّغَارُ وَالْهَوَانُ وَالْحَقَارَةُ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ هُمْ أَذَلَّ خَلْقِ اللَّهِ، بَيَّنَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَذَلِكَ بِذِكْرِهِ أَنْوَاعَ عُقُوبَتِهِمُ الْمُفْضِيَةِ إِلَى الذُّلِّ وَالْخِزْيِ وَالْهَوَانِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [٩ ٦٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [٥٨ ٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [٥٩ ٣ - ٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ [٨ ١٢ - ١٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ.
قَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ رُسُلَ اللَّهِ غَالِبُونَ لِكُلِّ مَنْ غَالَبَهُمْ، وَالْغَلَبَةُ نَوْعَانِ: غَلَبَةٌ بِالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ لِجَمِيعِ الرُّسُلِ، وَغَلَبَةٌ بِالسَّيْفِ وَالسِّنَانِ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ لِمَنْ أُمِرَ بِالْقِتَالِ مِنْهُمْ دُونَ مَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ.
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَأَمْثَالُهَا مِنَ الْآيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [٣٧ ١٧١ - ١٧٣]- أَنَّهُ لَنْ يُقْتَلَ نَبِيٌّ فِي جِهَادٍ قَطُّ، لِأَنَّ الْمَقْتُولَ لَيْسَ بِغَالِبٍ، لِأَنَّ الْقَتْلَ قِسْمٌ مُقَابِلٌ لِلْغَلَبَةِ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ الْآيَةَ [٤ ٧٤]، وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا الْآيَةَ [٤٠ ٥١]، وَقَدْ نَفَى عَنِ الْمَنْصُورِ كَوْنَهُ مَغْلُوبًا نَفْيًا بَاتًّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ [٣ ١٦٠].
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ الرُّسُلَ الَّذِينَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُمْ قُتِلُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [٢ ٨٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ [٣ ١٨٣]- لَيْسُوا مَقْتُولِينَ فِي جِهَادٍ، وَأَنَّ نَائِبَ الْفَاعِلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ [٣ ١٤٦]، عَلَى قِرَاءَةِ «قُتِلَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، هُوَ رِبِّيُّونَ لَا ضَمِيرُ النَّبِيِّ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا غَايَةَ الْإِيضَاحِ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [٣ ١٤٦]، وَذَكَرْنَا بَعْضَهُ فِي الصَّافَّاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ [٣٧ ١٧١].
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ.
وَرَدَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ، وَالْمُرَادُ بِهَا الْإِنْشَاءُ، وَهَذَا النَّهْيُ الْبَلِيدُ، وَالزَّجْرُ الْعَظِيمُ عَنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَإِيرَادُ الْإِنْشَاءِ بِلَفْظِ الْخَبَرِ أَقْوَى وَأَوْكَدُ مِنْ إِيرَادِهِ بِلَفْظِ الْإِنْشَاءِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحِلِّهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: أَيْ يُحِبُّونَ وَيُوَالُونَ أَعْدَاءَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ النَّهْيِ وَالزَّجْرِ الْعَظِيمِ عَنْ مُوَالَاةِ أَعْدَاءِ اللَّهِ - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [٦٠ ٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [٤٨ ٢٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [٥ ٥٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً الْآيَةَ [٩ ١٢٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [٩ ٧٣]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ، قَائِلًا: إِنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ كَافِرًا يَوْمَ بَدْرٍ أَوْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ الْمُنَافِقِ الْمَشْهُورِ، وَزَعَمَ مَنْ قَالَ؛ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلِ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَنَهَاهُ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ، وَزَعَمَ مَنْ قَالَ؛ أَنَّ أَبَاهُ أَبَا قُحَافَةَ سَبَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَضَرَبَهُ ابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى سَقَطَ.
556
وَقَوْلُهُ: أَوْ أَبْنَاءَهُمْ، زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ حِينَ طَلَبَ مُبَارَزَةَ ابْنِهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ إِخْوَانَهُمْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالُوا: قَتَلَ أَخَاهُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَرَّ بِأَخِيهِ يَوْمَ بَدْرٍ يَأْسِرُهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: شَدِّدْ عَلَيْهِ الْأَسْرَ، عَلِمَ أَنَّ أُمَّهُ مَلِيَّةٌ وَسَتَفْدِيهِ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ عَشِيرَتَهُمْ قَالَ بَعْضُهُمْ: نَزَلَتْ فِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، لَمَّا قَتَلُوا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ فِي الْمُبَارَزَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ بَنُو عَمِّهِمْ، لِأَنَّهُمْ أَوْلَادُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَعَبْدُ شَمْسٍ أَخُو هَاشِمٍ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ أَيْ ثَبَّتَهُ فِي قُلُوبِهِمْ بِتَوْفِيقِهِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَثْبِيتِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِهِمْ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً [٤٩ ٧ - ٨].
557
Icon