ﰡ
ألم تَرَ أن الله أعطاك سورة | ترى كل ملك دونها يتذبذب |
أبا طاهر من يزن يعرف زناؤه | ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكراً |
سَبَبُ النّزول: أ - روي أن امرأةً تُدعى «ام مهزول» كانت من البغايا فكانت تُسافح الرجل وتشرط أن تنفق عليه، فأراد رجل من المسلمين أن يتزوجها فذكر ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل الله ﴿الزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ﴾ الآية.
ب - عن ابن عباس أن «هلال بن أُمية» قذف امرأته عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ب «شريك بن سحماء» فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «البيتةُ أو حدٌّ في ظهرك» فقال يا رسول الله: إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ والذي بعثك بالحق إني لصادقٌ، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت ﴿والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ..﴾ الآية.
التفسِير: ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا﴾ أي هذه سورة عظيمة الشأن من جوامع سور القرآن أوحينا بها إليك يا محمد ﴿وَفَرَضْنَاهَا﴾ أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجاباً قطعياً ﴿وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ أي أنزلنا فيها آياتٍ تشريعية، واضحات الدلالة على أحكامها، لتكون لكم - أيها المؤمنون - قبساً ونبراساً، وتكريرُ لفظ الإِنزال كمال العناية بشأنها فكأنه يقول: ما أنزلتها عليكم لمجرد التلاوة وإنما أنزلتها للعمل والتطبيق ﴿لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أي لكي تعتبروا وتتعظوا بهذه الأحكام وتعملوا بموجبها، ثم شرع تعالى بذكر الأحكام وبدأ بحد الزنى فقال ﴿الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾ أي فيما شرعت لكم وفرضت عليكم أن تجلدوا كل واحدٍ من الزانيين - غير المحصنين - مائة ضربة بالسوط عقوبة لهما على هذه الجريمة الشنيعة ﴿وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله﴾ أي لا تأخذكم بهما رقة ورحمة في حكم الله تعالى فتحففوا الضرب أو تنقصوا العدد بل أوجعوهما ضرباً قال مجاهد: لا تعطلوا حدود الله ولا تتركوا إقامتها شفقة ورحمة ﴿إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾ هذا من باب الإِلهاب والتهييج أي إن كنتم مؤمنين حقاً تصدقون بالله وباليوم الآخر، فلا تعطلوا الحدود ولا تأخذكم شفقة بالزناة، فإن جريمة الزنى أكبر من أن تستدر العطف أو تدفع إلى الرحمة ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين﴾ أي وليحضر عقوبة الزانيين جماعةٌ من المؤمنين، ليكون أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، فإنَّ الفضيحة قد تنكل أكثر مما ينكل التعذيب ﴿الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾ أي الزاني لا يليق به أن يتزوج العفيفة الشريفة، إنما ينكح مثله أو أخسَّ منه كالبغيّ الفاجر، أو المشركة الوثنية ﴿والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ﴾ أي والزانية لا يليق أن يتزوج بها المؤمن العفيف، إنما يتزوجها من هو مثلها أو أخسَّ منها، كالزاني الخبيث أو المشرك الكافر، فإن النفوس الطاهرة تأبى الزواج بالفواجر الفاسقات، قال الإِمام الفخر: «من أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية: أنَّ الفاسقَ الخبيث - الذي من شأنه الزنى والفِسق - لا يرغب في نكاحها الصوالح من النساء، وإنما يرغب في فاسقةٍ خبيثةٍ مثله أو في مشركة، والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من جنسها
. ثم شرع تعالى في بيان حد القذف فقال ﴿والذين يَرْمُونَ المحصنات﴾ أي يقذفون بالزنى العفيفات الشريفات ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ﴾ أي ثم لم يأتوا على دعواهم بأربعة شهود عدول يشهدون عليهم بما نسبوا إليهم من الفاحشة ﴿فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ أي اضربوا كل واحدٍ من الرامين ثمانين ضربةً بالسوط ونحوه، لأنهم كذبة يتهمون البريئات، ويخوضون في أعراض الناس ﴿وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً﴾ أي وزيدوا لهم في العقوبة بإهدار كرامتهم الإِنسانية فلا تقبلوا شهادة أي واحدٍ منهم ما دام مصراً على كذبه وبهتانه ﴿وأولئك هُمُ الفاسقون﴾ أي هم الخارجون عن طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ لإِتيانهم بالذنب الكبير، والجرم الشنيع قال ابن كثير: أوجب تعالى على القاذف إذا لم يُقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام: أحدها أن يجلد ثمانين جلدة الثاني: أن ترد شهادته أبداً الثالث: أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك﴾ أي إلا الذين تابوا وأنابوا وندموا على ما فعلوا من بعد ما اقترفوا ذلك الذنب العظيم ﴿وَأَصْلَحُواْ﴾ أي أصلحوا أعمالهم فلم يعودوا إلى قذف المحصنات قال ابن عباس: أي أظهروا التوبة ﴿فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي فاعفوا عنهم واصفحوا وردُّوا إليهم اعتبارهم بقبول شهادتهم، فإن الله غفور رحيم يقبل توبة عبده إذا تاب وأناب وأصلح سيرته وحاله.
. ثم ذكر تعالى حكم من قذف زوجته وهو المعروف باللعان فقال ﴿والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ أي يقذفون زوجاتهم بالزنى ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ﴾ أي وليس لهم شهود يشهدون بما رموهنَّ به من الزنى سوى شهادة أنفسهم ﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله﴾ أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حدَّ القذف أربع شهادات بالله تقوم مقام الشهداء الأربعة ﴿إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين﴾ أي إنه صادقٌ فيما رمى به زوجته من الزنى ﴿والخامسة أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ﴾ أي وعليه أيضاً أن يحلف في المرة الخامسة بأن لعنة الله عليه ﴿إِن كَانَ مِنَ الكاذبين﴾ أي إن كان كاذباً في قذفه لها بالزنى ﴿وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب﴾ أي ويدفع عن الزوجة المقذوفة حدَّ الزنى الذي ثبت بشهادة الزوج ﴿أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الكاذبين﴾ أي أن تحلف أربع مرات إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنى ﴿والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصادقين﴾ أي وتحلف في المرة الخامسة بأنَّ غضب الله وسخطه عليها إن كان زوجها صادقاً في اتهامه لها بالزنى ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ أي ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم بالستر في ذلك، وجوابُ ﴿وَلَوْلاَ﴾ محذوف لتهويل الأمر تقديره: لهلكتم أو لفضحكم أو عاجلكم بالعقوبة، ورب مسكوتٍ عنه أبلغ من المنطوق ﴿وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ أي وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة، حكيم في ما شرع من الأحكام ومن جملتها حكم اللعان قال أبو السعود: وجواب لولا محذوف
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - التنكير للتفخيم ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا﴾ أي هذه سورة عظيمة الشأن، جليلة القدر أنزلها الله.
٢ - الإِطناب بتكرير لفظ ﴿أَنزَلْنَا﴾ في قوله ﴿وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ لإِبراز كمال العناية بشأنها، وهو من باب ذكر الخاص بعد العام للعناية والاهتمام.
٣ - الاستعارة ﴿يَرْمُونَ المحصنات﴾ أصل الرمي القذفُ بالحجارة أو بشيء صلب ثم استعير للقذف باللسان لأنه يشبه الأذى الحسّي ففيه استعارة لطيفة.
٤ - التهييج والإِلهاب ﴿إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ﴾ كقولهم إن كنت رجلاً فاقدم.
٥ - صيغة المبالغة ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ و ﴿تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ فإن «فعول، وفعّال، وفعيل» من سيغ المبالغة وكلها تفيد بلوغ النهاية في هذه الصفات.
٦ - الطباق بين ﴿الصادقين﴾ و ﴿الكاذبين﴾.
٧ - حذف جواب ﴿لَوْلاَ﴾ للتهويل في ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ وذلك حتى يذهب الوهم في تقديره كل مذهب فيكون أبلغ في البيان وأبعد في التهويل والزجر.
٨ - الطباق ﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ وكذلك ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ﴾ فقد طابق بين الشر والخير، وبين الهيّن والعظيم.
٩ - الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ﴿لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون﴾ والأصل أن يقال ظننتم وإنما عدل عنه مبالغة في التوبيخ وإشعاراً بأن الإيمان يقتضي ظنَّ الخير بالمؤمنين.
١٠ - التحضيض ﴿لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ﴾ أي هلاَّ جاءوا وغرضُه التوبيخ واللوم.
١١ - التعجب ﴿سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ ففيه تعجب ممن يقول ذلك والأصل في ذكر هذه الكلمة ﴿سُبْحَانَكَ﴾ أن يُسبح الله تعالى عند رؤية العجيب من صنائعه، تنزيهاً له من أن يخرج مثله عن قدرته ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه.
فَائِدَة: لماذا بدأ الله في الزنى بالمرأة، وفي السرقة بالرجل؟ والجواب أن الزنى من المرأة أقبح، وجرمه أشنع فبدأ بها، وأما لاسرقة فالرجل عليها أجرأ وهو عليها أقدر ولذلك بدأ به ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا﴾.
تنبيه: في التعبير بالإِحصان ﴿والذين يَرْمُونَ المحصنات﴾ إشارة دقيقة إلى أنَّ قذف العفيف من الرجال أو النساء موجب لحدِّ القذف، وأما إذا كان الشخص معروفاً بفجوره أو اشتهر بالاستهتار والمجون فلا حدَّ على قاذفه، لأنه لا كرامة للفاسق الماجن. فتدبر السر الدقيق.
لطيفَة: لماذا عدل عن قوله ﴿تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ إلى قوله ﴿تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ كه م تلرجكو نمتسب تلنزبو؟ والجواب أن الله عَزَّ وَجَلَّ أراد الستر على العباد بتشريع اللعان بين الزوجين، فلو لم يكن اللعان مشروعاً لوجب على الزوج حدُّ القذف مع أن الظاهر صدقه، ولو اكتفى بلعانه لوجب على الزوجة حدُّ الزنى، فكان من الحكمة وحسن النظر لهما جميعاص أن شرع هذا الحكم، ودرأ عنهما
اللغَة: ﴿يَأْتَلِ﴾ يحلف والأليَّةُ: اليمين ومنه ﴿يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٢٦] اي يحلفون ﴿المحصنات﴾ العفائف الشريفات الطاهرات جمع محصنة وهي العفيفة ﴿مُبَرَّءُونَ﴾ منزهون والبراءة: النزاهة مما نسب للإِنسان من تهمة ﴿تَسْتَأْنِسُواْ﴾ تستأذنوا وأصله في اللغة: طلبُ الأنس بالشيء قال الشاعر:
عوى الذئب فاستأنستُ للذئب إِذْ | عوى وصوَّت إِنسانٌ فكدت أطير |
فغُضَّ الطّرف إنك من نمير | فلا كعباً بلغت ولا كلابا |
سَبَبُ النّزول: أ - كان أبو بكر الصدّيق ينفق على «مسطح بن أُثاثة» لمسكنته وقرابته، فلما وقع أمر الإِفك وقال فيه مسطحٌ ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعةٍ أبداً فأنزل الله ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة..﴾ الآية فقال أبو بكر: واللهِ إني لأحبُ أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.
ب - عن علي كرم الله وجهه قال: مرَّ رجل على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في طريقٍ من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأةٍ ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم نيظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جانب حائط ينظر إليها إذ استقبله الحائط «أي صدمه الحائط» فشقَّ أنفه فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليهوسلم فأُعلمه أمري، فأتاه فقصَّ عليه قصته فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هذا عقوبة ذنبك فأنزل الله ﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ..﴾ الآيات.
التفسِير: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ أي يا من صدَّقتم بالله ورسوله لا تتبعوا لآثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه بإِشاعة الفاحشة، والإِصغاء إِلى الإِفك والقول به ﴿وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ أي ومن يتبع سيرة الشيطان وطريقته ﴿فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشآء والمنكر﴾ أي فإِن الشيطان يضل الإِنسان ويغويه لأنه يأمر بالفحشاء وهي ما أفرط قبحه، والمنكر وهو ما ينكره الشرع وتنفر منه العقول السليمة ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ أي لولا فضل الله عليكم أيها المؤمنون بالتوفيق للتوبة الماحية للذنوب، وبشرع الحدود المكفرة للخطايا ﴿مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً﴾ أي ما تطهر أحدٌ منكم من الأوزار أبد الدهر ﴿ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ﴾ أي ولكن الله بفضله ورحمته يطهر من يشاء بتوفيقه للتوبة النصوح وقبولها منه قال القرطبي: والغرض أن تزكيته لكم، وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لأقوالكم عليم بنياتكم
. ثم ذكر تعالى بالدليل القاطع، والبرهان الساطع براءة عائشة ونزاهتها، فهي زوجة رسول الله الطيب الطاهر وقد جرت سنة الله أن يسوق الجنس إلى جنسه، فلو لم تكن عائشة طيبة لما كانت زوجة لأفضل الخلق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهذا قال ﴿الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ﴾ أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، وكذلك الطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء، وهذا كالدليل على براءة عائشة لأنها زوجة أشرف رسول وأكرم مخلوق على الله، وما كان الله ليجعلها زوجة لأحبِّ عباده لو لم تكن عفيفة طاهرة شريفة ﴿أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ﴾ أي أولئك الفضلاء منزهون ممَّا تقوَّله أهل الإِفك في حقهم من الكذب
كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها | فتك السهام بلا قوس ولا وتر |
«ثلاثة حقٌّ على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله» ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً﴾ أي وليجتهد في العفة وقمع الشهوة الذين لا تتيسر لهم سبل الزواج لأسباب مادية ﴿حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ أي حتى يوسع الله عليهم ويسهل لهم أمر الزواج، فإن العبد إذا اتقى الله جعل له من أمره فرجاً ومخرجاً ﴿والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي والذين يريدون أن يتحرروا من رقِّ العبودية بمكاتبة أسيادهم من العبيد والأرقاء ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾ أي فكاتبوهم على قدر من المال إن عرفتم منهم الأمانة والرشد ليصيروا أحراراً ﴿وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ﴾ أي أعطوهم مما أعطاكم الله من الرزق ليكون لهم عوناً على فكاك أنفسهم ﴿وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء﴾ أي لا تجبروا إماءكم على الزنى ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً﴾ أي إن أردن التعفف عن مقارفة الفاحشة، وليس هذا للقيد أو الشرط وإنما هو لبيان فظاعة الأمر وشناعته، فالأصل في المملوكة أن يُحصنها سيدها أمّا أن يأمرها بالزنى وتمتنع وتريد العفة فذلك منتهى الخسة والدناءة منه قال المفسرون: نزلت في «عبد الله بن سلول» المنافق كان له جاريتان إحداهما تسمى «مُسَيْكة» والثانية تسمى «أميمة» فكان
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الاستعارة اللطيفة ﴿لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ شبَّه سلوك طريق الشيطان والسير في ركابه بمن يتتبع خطوات الآخر خطوة خطوة بطريق الاستعارة.
٢ - الإِيجاز بالحذف ﴿أَن يؤتوا﴾ أي أن لا يؤتوا حذفت منه ﴿لا﴾ لدلالة المعنى وهو كثير في اللغة.
٣ - صيغة الجمع للتعظيم ﴿أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ﴾ والمراد به أبو بكر الصدّيق.
٤ - الجناس الناقص بين ﴿يَعْمَلُونَ﴾ و ﴿يَعْلَمُونَ﴾.
٥ - المقابلة اللطيفة بين ﴿الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ.. والطيبات لِلطَّيِّبِينَ﴾.
٦ - الطباق بين ﴿تُبْدُونَ.. تَكْتُمُونَ﴾.
٧ - الإِيجاز بالحذف ﴿يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ لأن المراد غض البصر عما حرَّم الله لا عن كل شيء فحذف ذلك اكتفاءً بفهم المخاطبين.
٨ - المجاز المرسل ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ المراد مواقع الزينة وهو من باب إطلاق اسم الحال على المحل قال الزمخشري: وذكرُ الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتستر والتصون.
فَائِدَة: قال بعض المحققين: إن يوسف لما رُمي بالفاحسة برّاه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رُميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى عليه السلام، وإن عائشة لما رُميت بالفاحشة برأها الله في كتابه العزيز، فما رضي الله لها ببراءة صبيٍّ ولا نبيّ حتى برّأها الله في القرآن من القذف والبهتان.
تنبيه: السرُّ في تقديم غضّ البصر على حفظ الفروج ﴿يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ﴾ هو أن النظر بريد الزنى ورائد الفجور، وهو مقدمة للوقوع في الخطر كما قال الشاعر:
وكنتَ إذا أَرسلتَ طرفك رائداً | لقلبك يوماً أتعبتك المناظر |
رأيتَ الذي لا كلَّه أنت قادرٌ | عليه وعلى بعضه أنت صابر |
اللغَة: ﴿مِشْكَاةٍ﴾ المشكاة: الكُوَّة في الحائط غير النافذة، وأصلها لاوعاء يجعل فيه الشيء ﴿دُرِّيٌّ﴾ متلألئ وقّد يشبه الدر في صفائه ولمعانه ﴿سَرَابٍ﴾ السرابُ: ما يتراءى للعين وسط النهار عند اشتداد الحر يشبه الماء الجاري وليس بماء، سمي سراباً لأنه يسرب أي يجري كالماء قال الشاعر:
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم | كلمع سراب بالفلا متألق |
وما كادت إذا رفعت سناها | ليبصر ضوءها إلاّ البصير |
التفسِير: ﴿الله نُورُ السماوات والأرض﴾ أي الله جلَّ وعلا منور السماوات والأرض، أنار السماواتِ بالكواكب المضيئة، والأرض بالشرائع والأحكام وبعثة الرسل الكرام قال الطبري: أي هادي أهل السماوات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون وقال القرطبي: النور عند العرب: الضوء المدرك بالبصر واستعمل مجازاً في المعاني فيقال كلامٌ له نور قال الشاعر:
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى | نوراً ومن فلق الصباح عمودا |
ثم لما ذكر تعالى هدايته لمن يشاء من عباده، ذكر مواطن هذه العبادة وهي المساجد أحبُّ البقاع إلى الله فقال ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ﴾ أي أمر تعالى أن تبنى وتشاد على اسمه خاصة، وأن تعظَّم ويرفع شأنها لتكون مناراتٍ للهدى ومراكز للإشعاع الروحي قال ابن عباس: المساجد
ألستَ من القوم الذين تعاهدوا | على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر |
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - إطلاق المصدر على إسم الفاعل للمبالغة ﴿الله نُورُ السماوات﴾ بمعنى منوِّر لكل بحيث كأنه عين نوره قال الشريف الرضي: وفي الآية إستعارة - على تفسير بعض العلماء - والمراد عندهم أنه هادي أهل السماوات والأرض بصوادع برهانه، ونواصع بيانه كما يهتدى بالأنوار الثاقبة والشهب اللامعة.
٢ - التشبيه التمثيلي ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ شبَّه نور الله الذي وضعه في قلب عبده المؤمن بالمصباح الوهّاج في كوة داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في الصفاء والحسن الخ سمي تمثيلياً لأن وجه الشبه منتزع من متعدد، وهو من روائع التشبيه.
٣ - الإِطناب بذكر الخاص بعد العام تنويهاً بشأنه ﴿عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة﴾ لأن الصلاة من ذكر الله.
٤ - جناس الاشتقاق ﴿تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب﴾.
٥ - التشبيه التمثيلي الرائع ﴿والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ﴾ الخ وكذلك في قوله ﴿كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ﴾ وهذا من روائع التشبيه وبدائع التمثيل.
٦ - الطباق بين ﴿يُصِيبُ.. وَيَصْرِفُهُ﴾.
٧ - الاستعارة اللطيفة ﴿يُقَلِّبُ الله الليل والنهار﴾ إذ ليس المراد التقليب المادي للأشياء الذاتية وإنما استعير لتعاقب الليل والنهار.
٨ - الجناس التام ﴿يَذْهَبُ بالأبصار﴾ ﴿لأُوْلِي الأبصار﴾ المراد بالأولى العيون وبالثانية الألباب.
لطيفَة: سمع بعض علماء الطبيعة من غير المسلمين هذه الآية ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ..﴾ الآية فسأل هل ركب محمد البحر؟ فقالوا: لا فقال أشهد أنه رسول الله قالوا: وكيف عرفت؟ فقال: إنَّ هذا الوصف للبحر لا يعرفه إلا من عاش عمره في البحار، ورأى الأهوال والأخطار، فلما أخبرت أنه لم يركب البحر عرفت أنه كلام الله تعالى.
سَبَبُ النّزول: روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث غلاماً من الأنصار يقال له: مُدْلج إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه فوجده نائماً، فدقَّّ عليه الغلام الباب ودخل، فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء فقال: وددت أنَّ الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول في هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوجد الآية قد أنزلت ﴿ياأيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم..﴾ فخرَّ ساجداً شكراً الله تعالى.
التفسِير: ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمُْ﴾ أي حلف المنافقون بغاية الأيمان المغلَّظة ﴿لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ﴾ أي لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن معك قال مقاتل: لما بيَّن الله إعراض المنافقين وامتناعهم عن قبول حكمه عليه السلام أتوه فقالوا: لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، وإن أمرتنا بالجهاد لجاهدنا فنزلت ﴿قُل لاَّ تُقْسِمُواْ﴾ أي لا تحلفوا فإن أيمانكم كاذبة ﴿طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ﴾ أي طاعتُكم لله ورسوله معروفة فإنها باللسان دون القلب، وبالقول دون العمل ﴿إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي بصير لا يخفى عله شيء من خفاياكم ونواياكم ﴿قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول﴾ أي أطيعوا الله بإخلاص النية وترك النفاق، وأطيعوا الرسول الاستجابة لأمره والتمسّك بهديه ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أي فإن تتولَّوْا وتعرضوا عن طاعته ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ﴾ أي على الرسولما كلف به من تبليغ الرسالة ﴿وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ﴾ أي وعليكم ما كلفتم به من السمع والطاعة واتباع أمره عليه السلام ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ﴾ أي وإن أطعتم أمره فقد اهتديتم إلى طريق السعادة والفلاح ﴿وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين﴾ أي ليس عليه إلا التبليغ الواضح للأمة، ولا ضرر عيه إن خالفتم وعصيتم فإنه قد بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي وعد الله المؤمنين المخلصين الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي وعدهم بميراث الأرض وأن يجعلهم فيها خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في ممالكهم، كما استخلف المؤمنين قبلهم فملكهم ديار الكفار قال المفسرون: لما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه المدينة رمتهم العرب عن قوسٍ واحدة، فكانوا لا يبتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلاّ في لأمتهم - أي سلاحهم - فقالوا أترون أنّا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله عَزَّ وَجَلَّ!! فنزلت الآية، وهذا وعدٌ ظهر صدقُه بفتح مشارق الأض ومغاربها
«إنَّ الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها» ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ﴾ أي وليجعلنَّ دينهم - الإِسلام - الذي ارتضاه لهم عزيزاً مكيناً عالياً على كل الأديان ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾ أي وليغيرن حالهم التي كانوا عليها من الخوف والفزع إلى الأمن والاستقرار كقوله ﴿وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: ٤] ﴿يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ استئنافٌ بطريق الثناء عليهم كالتعليل للاستخلاف ي الأرض أي يوحدونني ويهلصون لي العبادجة، لا يعبدون إلهاً غيري ﴿وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك﴾ أي فمن جحد شكر النعم ﴿فأولئك هُمُ الفاسقون﴾ هم الخارجون عن طاعة الله، العاصون أمر الله قال أبو العالية: أي من كفر بهذه النعمة وليس يعني الكفرَ بالله قال الطبري: وهو أشبه بتأويل الآية لأان اللهَ وعد الإِنعام على هذه الأمة بما أخبر في هذه الآية بأنه منعم به عليهم ثم قال ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ أي كفر هذه النعمة ﴿فأولئك هُمُ الفاسقون﴾ ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾ أي أقيموا أيها المؤمنون الصلاة وأُدوا الزكاة على الوجه الأكمل الذي يُرضي الله ﴿وَأَطِيعُواْ الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي أطيعوا الرسول في سائر ما أمركم به رجاء الرحمة ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض﴾ تسليةٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووعدٌ له بالنُّصرة اي لا تظننَّ يا محمد الكافرين الذين عاندوك وكذبوك معجزين لله في هذه الحياة بل الله قادرٌ عليهم في كل حين وأن ﴿وَمَأْوَاهُمُ النار﴾ أي مرجعهم نار جهنم ﴿وَلَبِئْسَ المصير﴾ أي بئس المرجع والمآل الذي يصيرون إليه ﴿ياأيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم﴾ أي يا أيها المؤمنون الذين صدَّقوا الله ورسوله وأيقنوا بشريعة الإِسلام نظاماً وحكماً ومنهاجاً ليستأذنكم في الدخول عليكم العبيدُ والاِماء الذين تملكونهم ملك اليمين ﴿والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ﴾ أي والأطفال الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال الأحرار ليستأذنوا أيضاً ﴿ثَلاَثَ مَرَّاتٍ﴾ أي في ثلاثة أوقات ﴿مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر﴾ أي في الليل وقت نومك وخلودكم إلى الراحة ﴿وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مِّنَ الظهيرة﴾ أي وقت الظهر حين تخلعون ثيابكم للقيلولة ﴿وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء﴾ أي ووقت إرادتكم النوم واستعدادكم له ﴿ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ﴾ اي هي ثلاثة أوقات يختل فيها تستركم، العوراتُ فيها بادية والتكشف فيها غالب، فعلِّموا عبيدكم وخدمكم وصبيانكم ألاّ يدخلوا عليكم في هذه الأوقات إلا بعد الاستئذان ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾ أي ليس عليكم ولا على المماليك والصبيان حرجٌ في الدخول عليكم بغير استئذان بعد هذه الأوقات الثلاثة ﴿طوافون عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ﴾ أي لأنهم خدمكم يطوفون عليكم للخدمة وغير ذلك قال أبو حيان: أي يمضون ويجيئون ويدخلون عليكم في المنازل غدوةً وعشية بغير إذن إلا في تلك الأوقات ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الأيات﴾ أي مثل ذلك التوضيح والبيان يبيّن الله لكم الأحكام الشرعية لتتأدبوا بها ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي عالمٌ بأمور خلقه، حكيمٌ في تدبيره لهم ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم﴾ أي وإذا بلغ هؤلاء الأطفال الصغار مبلغ الرجال وأصبحوا في سنّ التكليف ﴿فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي فعلموهم الأدب السامي أن يستأذنوا في كل الأوقات
البَلاَغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبيان نوجزها فيما يلي:
١ - الاستعارة اللطيفة ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ شبَّه الأيمان التي يحلف بها المنافقون بالغين فيها أقصى المراتب في الشدة والتوكيد بمن يجهد نفسه في أمر شاقّ لا يستطيعه ويبذل أقصى وسعه وطاقته بطريق الاستعارة.
٢ - المشاكلة ﴿عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ﴾ أي عليه أمرُ التبليغ وعليكم وزر التكذيب.
٣ - الطباق بين الخوف والأمن ﴿مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾ وكذلك بين الجميع والأشتات ﴿جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً﴾ لأن المعنى مجتمعين ومتفرقين.
٤ - الإِطناب بتكرير لفظ الحرج لترسيخ الحكم في الأذهان ﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ﴾.
٥ - صيغة المبالغة ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
فَائِدَة: قال بعض السلف: من أمَّر السُنَّة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمَّر والهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة لقوله تعالى ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ﴾.
لطيفَة: قيل لبعضهم: من أحبُّ إليك أخوك أم صديق؟ فقال: لا أحب أخي إذا لم يكن صديقي. وقال ابن عباس: «الصديق أوكد من القريب ألا ترى استغاثة الجهنمييَّن حين قالوا ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ [الشعراء: ١٠٠ - ١٠١] ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات».
تنبيه: كان بعض العرب يرى أحدهم أن عاراً وخزياً عليه أن يأكل وحده ويبقى جائعاص حتى يجد من يؤاكله ويشاربه واشتهر هذا عن حاتم فكان يقول:
إذا ما صنعتِ الزاد فالتمسي له | أكيلاً فإني لست أكله وحدي |