ﰡ
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: لما قال تعالى ﴿والذين هم لفروجهم حافظون﴾ [المؤمنون: ٥] ثم قال تعالى ﴿فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون﴾ [المؤمنون: ٧] استدعى الكلام بيان حكم العادي في ذلك، ولم يبين فيها فأوضحه في سورة النور فقال تعالى ﴿الزانية والزاني﴾ - الآية، ثم أتبع ذلك بحكم اللعان والقذف وانجرّ مع ذلك الإخبار
﴿فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون﴾ [المؤمنون: ٧]. وما تخلل الآي المذكورات ونسق عليها مما ليس من الحكم المذكور فلاستجرار الآي إياه واستدعائه، ومظنة استيفاء ذلك وبيان ارتباطه التفسير، وليس من شرطنا هنا - والله سبحانه وتعالى يوفقنا لفهم كتابه - انتهى.
ولما كان مبنى هذه الدار على الأنساب في التوارث والإمامة والنكاح وغير ذلك، ومبنى تلك الدار على الأعمال لقوله تعالى
ولما كان «ال» بمعنى الاسم الموصول، أدخل الفاء في الخبر فقال: ﴿فاجلدوا﴾ أي فاضربوا وإن كان أصله ضرب الجلد بالسوط الذي هو جلد ﴿كل واحد منهما﴾ إذا لم يكن محصناً، بل كان مكلفاً بكراً - بما بينته السنة الشريفة ﴿مائة جلدة﴾ فبدأ بحد الزنى المشار إليه أول تلك بقوله تعالى ﴿فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون﴾ [المؤمنون: ٧] وفي التعبير بلفظ الجلد الذي هو ضرب الجلد إشارة إلى أنه يكون مبرحاً بحيث يتجاوز الألم إلى اللحم.
ولما كان هذا ظاهراً في ترك الشفقة عليهما، صرح به
ولما علم سبحانه ما طبع عليه عباده من رحمة بعضهم لبعض فحث على هذا الحكم بالأمر والنهي، زاد في التهييج إليه والحض عليه بقوله: ﴿إن كنتم﴾ أي بما هو كالجبلة التي لا تنفك ﴿تؤمنون بالله﴾ أي الملك الأعظم الذي هو أرحم الراحمين، فما شرع ذلك إلا رحمة للناس عموماً وللزانيين خصوصاً، فمن نقص سوطاً فقد ادعى أنه أرحم منه، ومن زاد سوطاً فقد ظن أنه أحكم وأعظم منه.
﴿وأنكحوا الأيامى منكم﴾ [النور: ٣٢] فهي من أيامي المسلمين، فهذا كما قال ابن المسيب إن شاء الله تعالى، وعليه
﴿ولا تنكحوا المشركات﴾ [البقرة: ٢٢١] وفي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه | فكل خليل بالمخالل يقتدي |
«بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً»
ولما كان إقدام المجترىء على القذف مع ما شرطه فيه لدرء الحد إرادة الستر - بعيداً، أشار إليه بأداة التراخي فقال: ﴿ثم لم يأتوا﴾ أي إلى الحاكم ﴿بأربعة شهداء﴾ ذكور ﴿فاجلدوهم﴾ أيها المؤمنون من الأئمة ونوابهم ﴿ثمانين جلدة﴾ لكل واحد منهم، لكل محصنة، إن لم يكن القاذف أصلاً، إن كانوا أحراراً، وحد العبد نصف ذلك لآية النساء ﴿فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب﴾ [النساء: ٢٥] فهذه الآية مخصوصة بتلك إذ لا فرق بين الذكر والأنثى ولا بين حد الزنى وحد القذف ﴿ولا تقبلوا لهم﴾ أي بعد قذفهم على هذا الوجه ﴿شهادة﴾
ولما كان التقدير: فإنهم قد افتروا، عطف عليه تحذيراً من الإقدام عن غير تثبيت: ﴿وأولئك﴾ أي الذين تقدم ذمهم بالقذف فسفلت رتبتهم جداً ﴿هم الفاسقون*﴾ أي المحكوم بفسقهم الثابت لهم هذا الوصف وإن كان القاذف منهم محقاً في نفس الأمر.
ولما كان من أصل الشافعي رحمه الله أن الاستثناء المتعقب للجمل المتواصلة المتعاطفة بالواو عائد إلى الجميع سواء كانت من جنس أو أكثر إلا إذا منعت قرينة، أعاد الاستثناء هنا إلى الفسق ورد الشهادة دون الحكم بالجلد، لأن من تمام التوبة الاستسلام للحد والاستحلال منه، ولقرينة كونه حق آدمي وهو لا يسقط بالتوبة، في قوله تعالى: ﴿إلا الذين تابوا﴾ أي رجعوا عما وقعوا فيه من القذف وغيره وندموا عليه وعزموا على أن لا يعودوا كما بين في البقرة في قوله تعالى ﴿إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا﴾ [البقرة: ١٦٠] وأشار إلى أن الجلد لا يسقط بالتوبة بقوله مشيراً بإدخال الجار إلى أن قبولها لا يتوقف على استغراقها الزمان الآتي: ﴿من بعد ذلك﴾ أي الأمر الذي أوجب إبعادهم وهو الرمي
ولما كان استثناؤهم من رد الشهادة والفسق، فكان التقدير: فاقبلوا شهادتهم ولا تصفوهم بالفسق، علله بقوله: ﴿فإن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿غفور﴾ أي ستور لهم ما أقدموا عليه لرجوعهم عنه ﴿رحيم*﴾ أي يفعل بهم من الإكرام فعل الراحم بالمرحوم في قبول الشهادة.
ولما كان لفظ المحصنات عاماً للزوجات، وكان لهن حكم غير ما تقدم، أخرجهن بقوله: ﴿والذين يرمون﴾ أي بالزنى ﴿أزواجهم﴾ أي من المؤمنات الأحرار والإماء والكافرات ﴿ولم يكن لهم﴾ بذلك ﴿شهداء إلا أنفسهم﴾ وهذا يفهم أن الزوج إذا كان أحد الأربعة كفى، لكن يرد هذا المفهوم كونه حكاية واقعة لا شهود فيها، وقوله في الآية قبلها: ﴿ثم لم يأتوا بأربعة شهداء﴾ فإنه يقتضي كون الشهداء غير الرامي، ولعله استثناه من الشهداء لأن لعانه يكون بلفظ الشهادة، ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه لا يقبل في ذلك على زوجته - قال ابن الرفعة في الكفاية: لأمرين: أحدهما أن الزنى تعرض لمحل حق
«أن
ولما حرم الله سبحانه بهذه الجمل الأعراض والأنساب، فصان بذلك الدماء والأموال، علم أن التقدير: فلولا أنه سبحانه خير الغافرين وخير الراحمين، لما فعل بكم ذلك، ولفضح المذنبين، وأظهر سرائر المستخفين، ففسد النظام، وأطبقتم على التهاون بالأحكام، فعطف على هذا الذي علم تقديره قوله: ﴿ولولا فضل الله﴾ أي بما له من الكرم والجمال، والاتصاف بصفات الكمال ﴿عليكم ورحمته﴾ أي بكم ﴿وأن الله﴾ أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة ﴿تواب﴾ أي رجاع بالعصاة إليه ﴿حكيم*﴾ يحكم الأمور فيمنعها من الفساد بما يعلم من عواقب الأمور، لفضح كل عاص، ولم يوجب أربعة شهداء ستراً لكم، ولأمر بعقوبته بما توجبه معصيته، ففسد نظامكم، واختل نقضكم وإبرامكم، ونحو ذلك مما لا يبلغ وصفه، فتذهب النفس فيه كل مذهب، فهو كما قالوا: رب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به، ثم علل ما اقتضته ﴿لولا﴾ من نحو: ولكنه لم يفعل ذلك إفضالا عليكم ورحمة لكم، بقوله على وجه التأكيد لما عرف من حال كثير ممن غضب لله ولرسوله من إرادة العقوبة للآفكين بضرب الأعناق، منبهاً لهم على أن ذلك يجر إلى مفسدة كبيرة: ﴿إن الذين جاءو بالإفك﴾
«من يعذرني من رجل بلغ أذاه في أهلي» حين كادوا يقتتلون لولا أن سكنهم
ولما كان هذا مقتضياً للاهتمام بشأنهم، أتبعه قوله، تحقيراً لأمرهم مخاطباً للخلص وخصوصاً النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعائشة وأمها وصفوان بن المعطل رضي الله عنهم: ﴿لا تحسبوه﴾ أي الإفك ﴿شراً لكم﴾ أيها المؤمنون بأن يصدقه أحد أو تنشأ عنه فتنة ﴿بل هو خير لكم﴾ بثبوت البراءة الموجبة للفخر الذي لا يلحق، بتلاوتها على مر الدهور بألسنة من لا يحصى من العباد، في أكثر البلاد، وتسلية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصديقين بذلك، مع الثواب الجزيل، بالصبر على مرارة هذا القيل، وثبوت إعجاز القرآن بعد أعجازه بالبلاغة بصدقه في صيانة من أثنى عليها في ذلك الدهر الطويل، الذي عاشته مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعده إلى أن ماتت رضي الله تعالى عنها أتقى الناس ديانة، وأظهرهم صيانة، وأنقاهم عرضاً، وأطهرهم نفساً، فهو لسان صدق في الدنيا، ورفعة منازل في الآخرة إلى غير
ولما كان لا شفاء لغيظ الإنسان أعظم من انتصار الملك الديان له، علل ذلك بقوله: ﴿لكل امرئ منهم﴾ أي الآفكين ﴿ما﴾ أي جزاء ما ﴿اكتسب﴾ بخوضه فيه ﴿من الإثم﴾ الموجب لشقائه، وصيغة الافتعال من «كسب» تستعمل في الذنب إشارة إلى أن الإثم يرتب على ما حصل فيه تصميم وعزم قوي صدقه العمل بما فيه من الجد والنشاط، وتجرد في الخير إشارة إبى أن الثواب يكتب بمجرد فعل الخير بل ونيته ﴿والذي تولى كبره﴾ أي معظمه بإشاعته والمجاهرة به ﴿منهم له﴾ بما يخصه لإمعانه في الأذى ﴿عذاب عظيم*﴾ أي أعظم من عذاب الباقين، لأنهم لم يقولوا شيئاً إلا كان عليه مثل وزره من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاَ، وقصه الإفك معروفة في الصحيح والسنن وغيرها شهيرة جداً، وذلك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزا بني المصطلق بعد ما أنزلت آية الحجاب، وكانت معه الصديقة بنت الصديق زوجته أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها تحمل هودج لها، فافتقدت عقداً لها ليلة فرجعت إلى الموضع الذي تخلت
فإن أبي ووالده وعرضي | لعرض محمد منكم وقاء |
حصان رزان ما تزنُّ بريبة | وتصبح غرثى من لحوم الغوافل |
حليلة خير الناس ديناً ومنصباً | نبي الهدى والمكرمات الفواضل |
عقيلة حي من لؤي بن غالب | كرام المساعي مجدها غير زائل |
مهذبة قد طيب الله خيمها | وطهرها من كل شين وباطل |
فإن كان ما بلغت عني قلته | فلا رفعت سوطي إليّ أناملي |
وكيف وودي ما حييت ونصرتي | لآل رسول الله زين المحافل |
له رتب عال على الناس فضلها | تقاصر عنها سورة المتطاول |
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر | فليس لعين لم يفض ماؤها عذر |
«أبشري يا عائشة، فقد أنزل الله براءتك»، فكنت اشد ما كنت غضباً، فقال لي أبواي: قومي إليه! فقلت: والله لا أقوم إليه
ولما تسبب عن كونهم لم يأتوا بالشهداء كذبهم قال: ﴿فإذ﴾ أي فحين ﴿لم يأتوا بالشهداء﴾ أي الموصوفين ﴿فأولئك﴾ أي البعداء من الصواب ﴿عند الله﴾ أي في حكم الملك الأعلى، بل وفي هذه الواقعة بخصوصها في علمه ﴿هم الكاذبون*﴾ أي الكذب العظيم ظاهراً وباطناً.
ولما بين لهم بإقامة الدليل على كذب الخائضين في هذا الكلام أنهم استحقوا الملام، وكان ذلك مرغباً لأهل التقوى، بين أنهم استحقوا بالتقصير في الإنكار عموم الانتقام في سياق مبشر بالعفو، فقال عاطفاً على ﴿ولولا﴾ الماضية: ﴿ولولا فضل الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال ﴿عليكم ورحمته﴾ أي معاملته لكم بمزيد الإنعام، الناظر إلى الفضل والإكرام، اللازم للرحمة ﴿في الدنيا﴾ بقبول التوبة والمعاملة بالحلم ﴿والآخرة﴾ بالعفو عمن يريد أن يعفو عنه منكم ﴿لمسكم﴾ أي عاجلاً عموماً ﴿في ما أفضتم﴾ أي اندفعتم على أي وجه كان ﴿فيه﴾ بعضكم حقيقة، وبعضكم مجازاً بعدم الإنكار ﴿عذاب عظيم*﴾ أي
ولما بين فحشه وشناعته، وقبحه وفظاعته، عطف على التأديب الأول في قوله ﴿لولا إذ سمعتموه﴾ تأديباً فقال: ﴿ولولا إذ﴾ أي وهلا حين ﴿سمعتموه قلتم﴾ أي حين السماع من غير توقف ولا تلعثم، وفصل بين آلة التحضيض والقول المحضض عليه بالظرف لأن الظروف تنزل من الشيء منزلة نفسه لوقوعه فيها، وأنها لا انفكاك لها
ولما كان تنزيه الله تعالى في مثل ذلك وإن كان للتعجب إشارة إلى تنزيه المقام الذي وقع فيه التعجب تنزيها عظيماً، حسن أن يوصل بذلك قوله تعليلاً للتعجب والنفي: ﴿هذا بهتان﴾ أي كذب يبهت من يواجه به، ويحيره لشدة ما يفعل في القوى الباطنة، لأنه في غاية الغفلة عنه لكونه أبعد الناس منه؛ ثم هوله بقوله: ﴿عظيم*﴾ والمراد أن الذي ينبغي للإنسان أولاً أن لا يظن بإخوانه المؤمنين ولا يسمع فيهم إلا خيراً، فإن غلبه الشيطان وارتسم شيء من ذلك في ذهنه فلا يتكلم به، ويبادر إلى تكذيبه.
ولما كان من أعظم الوعظ بيان ما يستحق على الذنب من العقاب، أدبهم تأديباً ثالثاً أشد من الأولين، فقال واعظاً ومقبحاً لحال الخائضين في الإفك ومحذراً ومهدداً: ﴿إن الذين يحبون﴾ عبر بالحب إشارة إلى أنه لا يرتكب هذا مع شناعته إلا محب له، ولا يحبه إلا بعيد عن الاستقامة ﴿أن تشيع﴾ أي تنتشر بالقول أو بالفعل ﴿الفاحشة﴾ أي الفعلة الكبيرة القبح، ويصير لها شيعة يحامون عليها
ولما أخبرهم بأنه ما أنزل لهم هذا الشرع على لسان هذا الرسول الرؤوف الرحيم إلا رحمة لهم، بعد أن حذرهم موارد الجهل، نهاهم عن التمادي فيه في سياق معلم أن الداعي إليه الشيطان العدو، فقال ساراً لهم بالإقبال عليهم بالنداء: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان ﴿لا تتبعوا﴾ أي بجهدكم ﴿خطوات﴾ أي طريق ﴿الشيطان﴾ أي لا تقتدوا به ولا تسلكوا مسالكه التي يحمل على سلوكها بتزيينها
ولما كان التقدير: فإنه من يتنكب عن طريقه يأت بالحسنى والمعروف، عطف عليه قوله: ﴿ومن يتبع﴾ أي بعزم ثابت من غير أن يكون مخطئاً أو ناسياً؛ وأظهر ولم يضمر لزيادة التنفير فقال: ﴿خطوات الشيطان﴾ أي ويقتد به يقع في مهاوي الجهل الناشىء عنها كل شر ﴿فإنه﴾ أي الشيطان ﴿يأمر بالفحشاء﴾ وهي ما أغرق في القبح ﴿والمنكر﴾ وهو ما لم يجوزه الشرع، فهو أولاً يقصد أعلى الضلال، فإن لم يصل تنزل إلى أدناه، وربما درج بغير ذلك، ومن المعلوم أن من اتبع من هذا سبيله عمل بعمله، فصار في غاية السفول، وهذا أشد في التنفير من إعادة الضمير في ﴿فإنه على من﴾ والله الموفق.
ولما كان التقدير: فلولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان مع أمره بالقبائح، عطف عليه قوله: ﴿ولولا فضل الله﴾ أي ذي الجلال والإكرام ﴿عليكم﴾ أي بتطهير نفوسكم ورفعها عما تعشقه
ثم ختم الآية بما لا تصح التزكية بدونه فقال: ﴿والله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿سميع﴾ أي لجميع أقولهم ﴿عليم*﴾ بكل ما يخطر في بالهم، وينشأ عن أحوالهم وأفعالهم، فهو خبير بمن هو أهل للتزكية ومن ليس بأهل لها، فاشكروا الله على تزكيته لكم من الخوض في مثل ما خاض فيه غيركم ممن خذله نوعاً من الخذلان، واصبروا على ذلك منهم، ولا تقطعوا إحسانكم عنهم، فإن ذلك يكون زيادة في زكاتكم، وسبباً لإقبال من علم فيه الخير منهم، فقبلت توبته، وغسلت حوبته، وهذا المراد
ولما كان السياق والسباق واللحاق موضحاً للمراد، لم يحتج إلى ذكر أداة النفي فقال: ﴿أن يؤتوا﴾ ثم ذكر الصفات المقتضية للإحسان فقال: ﴿أولي القربى﴾ وعددها بأداة العطف تكثيراً لها وتعظيماً لأمرها، وإشارة إلى أن صفة منها كافية في الإحسان، فكيف إذا اجتمعت! فقال سبحانه: ﴿والمساكين﴾ أي الذين لا يجدون ما يغنيهم وإن لم تكن لهم قرابة ﴿والمهاجرين﴾ لأهلهم وديارهم وأموالهم ﴿في سبيل الله﴾ أي الذي عم الخلائق بجوده لما له من الإحاطة بالجلال والإكرام وإن انتفى عنهم الوصفان الأولان، فإن هذه الصفات مؤذنة بأنهم ممن زكى الله، وتعدادها بجعلها علة للعفو - دليل على أن الزاكي من غير المعصومين قد يزل، فتدركه الزكاة بالتوبة فيرجع كما كان، وقد تكون الثلاثة لموصوف واحد لأن سبب نزولها مسطح رضي الله عنه، فالعطف إذن للتمكن في كل وصف منها.
ولما كانت لذة الخطاب تنسي كل عتاب، أقبل سبحانه بفضله ومنّه وطوله على أولي الفضل، مرغباً في أن يفعلوا بغيرهم ما يحبون أن يفعل بهم، مرهباً من أن يشدد عليهم إن شددوا فقال: ﴿ألا تحبون﴾ أي يا أولي الفضل ﴿أن يغفر الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿لكم﴾ أي ما قصرتم في حقه، وسبب نزولها كما في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أن أباها رضي الله تعالى عنه كان حلف ما بعد برأ الله عائشة رضي الله عنها أن لا ينفق على مسطح ابن خالته لكونه خاض من أهل الإفك؛ وفي تفسير الأصبهاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر رضي الله عنهم أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من
وناهيك بشهادة الله جل جلاله للصديق بأنه من أولي الفضل فيا له من شرف ما أجلاه! ومن سؤدد وفخار ما أعلاه! ولا سيما وقد صدقه رضي الله عنه بالعفو عمن شنع على ثمرة فؤاده ومهجة كبده، وهي الصديقة زوجة خاتم المرسلين، وخير الخلائق أجمعين، والحلف على أنه لا يقطع النفقة عنه أبداً، فيا لله من أخلاق ما أبهاها! وشمائل ما أطهرها وأزكاها! وأشرفها وأسندها.
ولما كان الجواب قطعاً كما أجاب الصديق رضي الله عنه: بلى والله! إنا لنحب أن يغفر الله لنا، وكان كأنه قيل: فاغفروا لمن أساء إليكم، فالله حكم عدل، يجازيهم على إساءتهم إليكم إن شاء، والله عليم شكور، يشكر لكم ما صنعتم إليهم، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي مع قدرته الكاملة وعلمه الشامل ﴿غفور رحيم*﴾ من صفته ذلك، إن شاء يغفر لكم ذنوبكم بأن يمحوها فلا يدع لها أثراً ويرحمكم بعد محوها بالفضل عليكم كما فعلتم معهم، فإن الجزاء من جنس العمل.
ولما ثبت بهذه الأوصاف البعد عن السوء، ذكر جزاء القاذف كفّاً عنه وتحذيراً منه بصيغة المجهول، لأن المحذور اللعن لا كونه المعين، وتنبيهاً على وقوع اللعن من كل من يتأتي منه فقال: ﴿لعنوا﴾ أي أبعدوا عن رحمة الله، وفعل معهم فعل المبعد من الحد وغيره ﴿في الدنيا والآخرة﴾ ثم زاد في تعظيم القذف لمن هذه أوصافها فقال: ﴿ولهم﴾ أي في الآخرة ﴿عذاب عظيم*﴾ وقيد بوصف الإيمان لأن قذف الكافرة وإن كان محرماً ليس فيه هذا المجموع، وهذا الحكم وإن كان عاماً فهو لأجل الصديقة بالذات وبالقصد الأول وفيما فيه من التشديد الذي قل أن يوجد مثله في القرآن من الإعلام
وقد علم من هذه الآيات وما سبقها من أول السورة وما لحقها إلى آخرها أن الله تعالى ما غلظ في شيء من المعاصي ما غلظ في قصة الإفك، ولا توعد في شيء ما توعد فيها، وأكد وبشع، ووبخ وقرع، كل ذلك إظهاراً لشرف رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغضباً له وإعظاماً لحرمته وصوناً لحجابه.
ولما أنتج هذا براءتها رضي الله عنها لأنها قرينة أطيب الخلق، أكده بقوله: ﴿والطيبات﴾ أي منهن ﴿للطيبين﴾ أي منهم ﴿والطيبون للطيبات﴾ بذلك قضى العليم الخبير أن كل شكل ينضم إلى شكله، ويفعل أفعال مثله، وهو سبحانه قد اختار لهذا النبي الكريم لكونه أشرف خلقه خلص عباده من الأزواج والأولاد والأصحاب ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾ [آل عمران: ١١٠] «خيركم قرني» وكلما ازداد الإنسان منهم من قلبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرباً ازداد طهارة، وكفى بهذا البرهان دليلاً على براءة الصديقة رضي الله عنها، فكيف وقد أنزل الله العظيم في براءتها صريح كلامه القديم، وحاطه من أوله وآخره بهاتين الآيتين المشيرتين إلى الدليل العادي، وقد تقدم عند آية ﴿الزاني﴾ ذكر لحديث «الأرواح جنود مجندة» وما لاءمه، لكنه لم يستوعب تخريجه،
«إن الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» قال عمر: واحدة، قال: والرجل يحدث الحديث إذ نسيه فبينا هو وما نسيه إذ ذكره؟ فقال علي رضي الله عنه: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينما القمر مضيء إذ علته سحابة فأظلم إذ تجلت فأضاء، وبينا القلب يتحدث إذ تجللته سحابة فنسي إذ تجلت عنه فذكر»، فقال عمر رضي الله عنه:
إن القلوب لأجناد مجندة | لله في الأرض بالأهواء تعترف |
فما تعارف منها فهو مؤتلف | وما تناكر منها فهو مختلف |
ولما أثبت لهم البراءة، استأنف الإخبار بجزائهم فقال: ﴿لهم مغفرة﴾ أي لما قصروا فيه إن قصروا، ولما كان في معرض الحث على الإنفاق على بعض الآفكين قال: ﴿ورزق كريم*﴾ أي يحيون به حياة طيبة، ويحسنون له إلى من أساء إليهم، ولا ينقصه ذلك لكرمه في نفسه بسعته وطيبه وغير ذلك من خلال الكرم.
ولما أنهى سبحانه الأمر في براءة عائشة رضي الله عنها على هذا الوجه الذي كساها به من الشرف ما كساها، وحلاها برونقه من مزايا الفضل ما حلاها، وكأن أهل الإفك قد فتحوا بإفكهم هذا الباب الظنون السيئة عدواة من إبليس لأهل هذا الدين بعد أن كانوا في ذلك وفي كثير من سجاياهم - إذ قانعاً منهم بداء الشرك - على الفطرة الأولى، أمر تعالى رداً لما أثار بوسواسه من الداء بالتنزه عن مواقع التهم والتلبس بما يحسم الفساد فقال: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي ألزموا أنفسهم هذا الدين ﴿لا تدخلوا﴾ أي واحد منكم، ولعله
وكان هذا إذا ظن أن صاحب البيت سمع.
ولما كان كل إنسان لا ينفك عن أحوال يكره أن يطلع عليها أو تقطع عليه، قال: ﴿لعلكم تذكرون*﴾ أي لتكون حالكم حال من يرجى أن يتذكر برجوعه إلى نفسه عند سماع هذا النهي، فيعرف أن ما يسوءه من غيره يسوء غيره منه، فيفعل ما يحب أن يفعل معه خوفاً من المقابلة، لأن الجزاء من جنس العمل، وكل ما يجب عليه في غير بيته يستحب له في بيته بنحو النحنحة ورفع الصوت بالذكر ونحوه على ما أشار إليه حديث النهي عن الطروق لكيلا يرى من أهله ما يكره.
ولما كان السكان قد يكونون غائبين، والإنسان لكونه عورة لا يحب أن يطلع غيره على جميع أموره، قال: ﴿فإن لم تجدوا فيها﴾ أي البيوت التي ليس بها سكناكم ﴿أحداً﴾ قد يمنعكم، فالله يمنعكم منها، تقديماً لدرء المفاسد ﴿فلا تدخلوها﴾ أي أبداً
ولما كان في المنع نقص يوجب غضاضة ووحراً في الصدر، وعد سبحانه عليه بما يجبر ذلك، فقال على طريق الاستئناف: ﴿هو﴾ أي الرجوع المعين ﴿أزكى﴾ أي أطهر وأنمى ﴿لكم﴾ فإن فيه طهارة من غضاضة الوقوف على باب الغير، ونماء بما يلحق صاحب البيت من الاستحياء عند امتثال أمره في الرجوع مع ما في ذلك عند الله.
ولما كان التقدير: فالله يجازيكم على امتثال أمره، وكان الإنسان قد يفعل في البيوت الخالية وغيرها من الأمور الخفية ما يخالف ما أدب به سبحانه مما صورته مصلحة وهو مفسدة، عطف على ذلك المقدر قوله: ﴿والله﴾ أي الملك الأعلى. ولما كان المراد المبالغة في العلم، قدم الجار ليصير كما إذا سألت شخصاً عن علم شيء فقال لك: ما
ولما كان التقدير: فالله لا يمنعكم مما ينفعكم، ولا يضر غيركم، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي الملك الأعظم ﴿يعلم﴾ في كل وقت ﴿ما تبدون﴾ وأكد بإعادة الموصول فقال: ﴿وما تكتمون*﴾ تحذيراً من أن تزاحموا أحداً في مباح بما يؤذيه ويضيق عليه، معتلين بأصل الإباحة، أو يؤذن لكم في منزل فتبطنوا فيه الخيانة فإنه وإن وقع الاحتراز من الخونة بالحجاب فلا بد من الخلطة لما بني عليه الإنسان من الحاجة إلى العشرة، ولذلك اتصل به على طريق الاستئناف قوله تعالى؛ مقبلاً على أعلى خلقه فهماً وأشدهم لنفسه ضبطاً دون بقيتهم، إشارة إلى صعوبة الأمر وخطر المقام، مخوفاً لهم بالإعراض عنهم، بالتردي برداء الكبر، والاحتجاب في مقام القهر: ﴿قل للمؤمنين﴾ فعبر بالوصف إشارة إلى عدم القدرة على الاحتراز من المخالط بعد الخلطة، وأنه لا يعف فيها إلا من رسخ الإيمان في قلبه
ولما كان الأمر في غاية العسر، قال: ﴿من أبصارهم﴾ بإثبات من التبعيضية إشارة إلى العفو عن النظرة الأولى، وأن المأخوذ به إنما هو التمادي، ولما كان البصر يريد الزنى قدمه.
ولما كان حفظ الفرج لخطر المواقعة أسهل من حفظ البصر، ولأنه لا يفعل به من غير اختبار، حذف «من» لقصد العموم فقال: ﴿ويحفظوا فروجهم﴾ أي عن كل حرام من كشف وغيره ولم يستثن الزوجة وملك اليمين استغناء عنه بما سبق في المؤمنون، ولأن المقام للتهويل في أمر للحفظ والتشديد، ورغب في ذلك بتعليله بقوله: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العالي العظيم من كل من الغض والحفظ الذي أمرتهم به ﴿أزكى لهم﴾ أي أقرب إلى أن ينموا ويكثروا ويطهروا حساً ومعنى، ويبارك لهم، أما الحسي فهو أن الزنى مجلبة للموت بالطاعون، ويورث الفقر وغيرهما من البلايا «ما من قوم ظهر فيهم الزنى إلا أخذوا بالسنة»
رواه أحمد عن عمرو بن العاص رضي الله عنه،
قال ابن كثير: وروي هذا مرفوعاً عن ابن عمر وحذيفة وعائشة رضي الله عنهم ولكن في أسانيدها ضعف. وساق له شاهداً من الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ: «إن النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه» فعلم من ذلك أن من تخلق بما أمره الله هنا كان قلبه موضعاً للحكمة، وفعله أهلاً للنجح، وذكره مقروناً بالقبول.
ولما كان الزكاء يتضمن التكثير والتطهير، وكان الكلام هنا في غض البصر، وكان ظاهراً جداً في الطهارة، لم يدع داع إلى التأكيد بالتصريح بالطهارة، وأما آية البقرة فلما كانت في العضل، وكان لا يكون إلا عن ضغائن وإحن فكان الولي رما ظن أن منعها عمن عضلها عنه أطهر له ولها. أكد العبارة بفعل الزكاء بالتصريح بما
ولما كان المقام صعباً لميل النفوس إلى الدنايا واتباعها للشهوات، علل هذا الأمر مرغباً ومرهباً بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي لا يخفى عليه شيء لما له من الإحاطة الكاملة ﴿خبير﴾ ولما كان وازع الحياء مع ذلك مانعاً عظيماً فلا يخالف إلا بمعالجة وتدرب، عبر بالصنعة فقال: ﴿بما يصنعون*﴾ أي وإن تناهوا في إخفائه، ودققوا في تدبير المكر فيه.
ولما بدأ بالقومة من الرجال، ثنى بالنساء فقال: ﴿وقل للمؤمنات﴾ فرغب أيضاً بذكر هذا الوصف الشريف ﴿يغضضن﴾ ولما كان المراد الغض عن بعض المبصرات وهم المحارم قال: ﴿من أبصارهن﴾ فلا يتبعنها النظر إلى منهي عنه رجل أو غيره، وأجابوا عن حديث عائشة رضي الله عنها في النظر إلى لعب الحبشة في المسجد باحتمال أنها كانت دون البلوغ لأنها قالت: فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو. ﴿ويحفظن فروجهن﴾ عما لا يحل لهن من كشف وغيره.
ولما كان النساء حبائل الشيطان، أمرن بزيادة الستر بقوله:
ولما كان أكثر الزينة في ألأعناق والأيدي والأرجل، وكان دوام ستر الأعناق أيسر وأمكن، خصها فقال: ﴿وليضربن﴾ من الضرب، وهو وضع الشيء بسرعة وتحامل، يقال: ضرب في عمله: أخذ فيه، وضرب بيده إلى كذا: أهوى، وعلى يده: أمسك، وضرب الليل بأوراقه: أقبل، والضارب: الليل الذي ذهبت ظلمته يميناً وشمالاً وملأت الدنيا، والضارب: الطويل من كل شيء والمتحرك.
ولما كان المقصود من هذا الضرب بعض الخمار، وهو ما لا صق الجيب منه، عداه بالباء فقال: ﴿بخمرهن﴾ جمع خمار، وهو منديل يوضع على الرأس، وقال أبو حيان: وهو المقنعة التي تلقي المرأة على رأسها.
﴿على جيوبهن﴾ جمع جيب، وهو خرق الثوب الذي
ولما كان ذكر الجيب ربما أوهم خصوصاً في الزينة، عم بقوله: ﴿ولا يبدين﴾ أو كرره لبيان من يحل الإبداء له ومن لا يحل، وللتأكيد ﴿زينتهن﴾ أي الخفية في أي موضع كانت من عنق أو غيره،
وقصة مابور ترد هذا، وقوله: الكلابية، قال شيخنا في تخريج الكشاف: صوابه: الكلبية بإسكان اللام. ﴿أو التابعين﴾ أي للخدمة أو غيرها ﴿غير أولي الإربة﴾ أي الحاجة إلى الاستمتاع بالنساء ﴿من الرجال﴾ كالشيوخ الفانين ومن بهم علة منعت شهوتهم، وكذا من كان ممسوحاً لقصة مابور ﴿أو﴾ من
ولما نهى عن الإظهار، نبه على أمر خفي منه فقال: ﴿ولا يضربن بأرجلهن﴾ أي والخلاخيل وغيرها من الزينة فيها. ولما كان ذلك لمطلق الإعلام، بناه للمفعول فقال: ﴿ليعلم ما يخفين﴾ أي بالساتر الذي أمرن به ﴿من زينتهن﴾ بالصوت الناشىء من الحركة عند الضرب المذكور، وفي معنى ذلك التطيب، والنهي عن ذلك يفهم النهي عن موضعه من الجسد من باب الأولى.
ولما أنهى سبحانه ما أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالتقدم فيه إلى الرجال والنساء، وكان من المعلوم أن العبد الحقير المجبول على الضعف
ولما كان للزواج كلف يهاب لأجلها، لما طبع الآدمي عليه من الهلع في قلة الوثوق بالرزق، أجاب من كأنه قال: قد يكون الإنسان
ولما كان التقدير: فالله ذو فضل عظيم، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي ذو الجلال والإكرام ﴿واسع عليم*﴾ أي فهو بسعة قدرته يسوق ما كتبه للمرأة على يد الزوج، وبشمول علمه يسبب أسبابه. ولما أمر سبحانه بما يعصم من الفتنة من غض البصر ثم بما يحصن من النكاح، وجراً عليه بالوعد بالإغناء، وكان هذا الوعد فيما بعد النكاح، وقدم الكلام فيه ترغيباً للإنسان في التوكل والإحصان، وكان قلبه ما قد يتعذر لأجله إما بعدم وجدان المهر وما يطلب منه تقديمه، أو بعدم رضى العبد وغيره يكون ولده رقيقاً أو غير ذلك، أتبعه قوله حاثاً على قمع النفس الأمارة عند العجز: ﴿وليستعفف﴾ أي يبالغ في طلب العفة وإيجادها عن الحرام ﴿الذين لا يجدون نكاحاً﴾ أي قدرة عليه وباعثاً إليه ﴿حتى يغنيهم الله﴾ أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال ﴿من فضله﴾ في ذلك الذي
ولما كان من جملة الموانع كما تقدم خوف الرق على الولد لمن له من الرقيق همة علية، ونفس أبية، أتبعه قوله: ﴿والذين يبتغون﴾ أي يطلبون طلباً عازماً ﴿الكتاب﴾ أي المكاتبة ﴿مما ملكت أيمانكم﴾ ذكراً كان أو أنثى؛ وعبر ب «ما» إشارة إلى ما في الرقيق من النقص ﴿فكاتبوهم﴾ أي ندباً لأنه معاوضة تتضمن الإرفاق على ما يؤدونه إليكم منجماً، فإذا أدوه عتقوا ﴿إن علمتم فيهم خيراً﴾ أي تصرفاً صالحاً في دينهم ودنياهم لئلا يفسد حالهم بعد الاستقلال بأنفسهم؛ قال ابن كثير: وروى أبو داود في كتاب المراسيل عن يحيى ابن أبي كثير قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلاًّ على الناس» انتهى. ولعله عبر بالعلم في موضع الظن لذلك ﴿وءاتوهم﴾ وجوباً إذا أدوا إليكم ﴿من مال الله﴾ أي الذي عم كل شيء بنعمته، لأنه الملك العظم ﴿الذي آتاكم﴾ ولو بحط شيء من مال الكتابة.
ولما أمر سبحانه بالجود في أمر الرقيق تارة بالنفس، وتارة
ولما كان الإكراه على الزنى لا يصح إلا عند العفة، وكان ذلك نادراً من أمة، قال: ﴿إن﴾ بأداة الشك ﴿أردن تحصناً﴾ وفي ذلك زيادة تقبيح للإكراه على هذا الفعل حيث كانت النساء مطلقاً يتعففن عنه مع أنهن مجبولات على حبه، فكيف إذا لم يمنعهن مانع خوف أو حياء كالإماء، فكيف إذا أذن لهن فيه. فكيف إذا ألجئن إليه، وأشار بصيغة التفعل وذكر الإرادة إلى أن ذلك لا يكون إلا عن عفة بالغة، وزاد في تصوير التقبيح بذكر علة التزام هذا العار في قوله: ﴿لتبتغوا﴾ أي تطلبوا طلباً حثيثاً فيه رغبة قوية بإكراههن على الفعل الفاحش ﴿عرض الحياة الدنيا﴾ فإن العرض متحقق فيه الزوال، والدنيا مشتقة من الدناءة.
ولما نهى سبحانه عن الإكراه، رغب الموالي في التوبة عند المخالفة
ولما كان من المحال أن يضل عن نور هو ملء الخافقين أحد من سكانهما، بين وجه خفائه مع ظهور ضيائه واتساعه وقوة شعاعه، حتى ضل عنه أكثر الناس، فقال مبيناً بإضافة النور إلى ضميره أن الإخبار عنه بالنور مجاز لا حقيقة، منبهاً على أن آياته الهادية تلوح خلال الشبهات الناشئة عن الأوهام الغالبة على الخلق التي هي كالظلمات ﴿مثل نوره﴾ أي الذي هدى به إلى سبيل الرشاد في خفائه عن بعض الناس مع شدة ظهوره، وهو آياته الدالة عليه من أقواله وأفعاله ﴿كمشكاة﴾ أي مثل كة أي خرق لكن غير نافذ في جدار؛ قال البغوي: فإن كان لها منفذ فهي كوة.
ولما دخل المشكاة في هذا المثل خفياً فقدمها تشويقاً إلى شرحه، أتبعه قوله شارحاً له: ﴿فيها مصباح﴾ أي سراج ضخم ثاقب.
فإذا كان في المشكاة اجتمعت أشعته فكان أشد إنارة، ولو كان في فضاء لافترقت أشعته؛ وأتى ببقية الكلام استئنافاً على تقدير سؤال تعظيماً له فقال: ﴿المصباح في زجاجة﴾ أي قنديل.
ولما كان من الزجاج ما هو في غاية الصفاء، بين أن هذه منه فقال: ﴿الزجاجة كأنها﴾ أي في شدة الصفاء ﴿كوكب﴾ شبهه بها دون الشمس والقمر لأنهما يعتريهما الخسوف ﴿دريّ﴾ أي متلألىء بالأنوار فإنه إذا كان في زجاجة صافية انعكست الأشعة المنفصلة عنه من بعض جوانب الزجاجة إلى بعض لما فيها من الصفاء والشفيف فيزداد النور ويبلغ النهاية كما أن شعاع الشمس إذا وقع على ماء أو زجاجة صافية تضاعف النور حتى أنه يظهر فيما يقابله مثل ذلك النور؛ والدريّ - قال الزجاج: مأخوذ من درأ إذا اندفع منقضاً فتضاعف نوره.
ولما كان الزيت يختلف باختلاف شجرته في احتجابها عن الشمس وبروزها لها، لأن الشجر ربما ضعف وخبث ثمره بحائل بينه وبين الشمس، بين أن هذه الشجرة ليست كذلك فقال: ﴿لا شرقية﴾ أي ليست منسوبة إلى الشرق وحده، لكونها بحيث لا يتمكن منها
ولما علم من هذا أن لهذا الممثل به أنواراً متظاهرة بمعاونة المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، فلم يبق مما يقوي نوره ويزيده إشارقاً، ويمده بإضاءة نقية، قال في الممثل له: ﴿نور على نور﴾ أي أن العلم الرباني عظيم الاتساع كلما سرحت فيه النظر، وأطلقت عنان الفكر، أتى بالغرائب ولا يمكن أن يوقف له على حد.
ولما كان الإخبار عن مضاعفة هذا النور موجباً لاعتقاد أنه لا يخفى عن أحد، أشار إلى أنه - بشمول علمه وتمام قدرته - يعمى عنه من يريد مع شدة ضيائه، وعظيم لألائه، فقال: ﴿يهدي الله﴾ أي
بكون الله اختارها لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يختار له إلا طيباً طاهراً وما شاكل ذلك، وعلم أن قسيم ذلك «ويضل الله عن نوره من يشاء» وعلم أن وجه كونه ضل عنه أكثر الناس إنما هو ستر القادر له بنقص في حس من يريد سبحانه إضلاله، لا لنقص في النور كما قال الشاعر:
والنجم تستصغر الأبصار صورته | فالذنب للطرف لا للنجم في الصغر |
ولما كان كأنه قيل: ضرب الله هذا المثل لكم لتدبروه فتنفعوا به، عطف عليه قوله: ﴿ويضرب الله﴾ أي بما له من الإحاطة بكمال القدرة وشمول العلم ﴿الأمثال للناس﴾ لعلمه
ولما كان الإنسان قد يضطر إلى الخروج بالبيع عن بعض ما يملك للاقتيات بثمنه أو التبلغ به إلى بعض المهمات التي لا وصول له إليها إلا به، أو بتحصيل ما لا يملك كذلك مع أن البيع في التجارة أيضاً هو الطلبة الكلية لأنه موضع تحقق الربح الذي لا صبر عنه، قال: ﴿ولا بيع﴾ أي وإن لم يكن على وجه التجارة، والبيع يطلق بالاشتراك على التحصيل الذي هو الشرى وعلى الإزالة ﴿عن ذكر الله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام مطلقاً بصلاة وغيرها، فهم
«صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها» والمخدع: الخزانة. وللإمام أحمد والطبراني وابن خزيمة والحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن» ولأحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أم حميدة امرأة أبي حميد الساعدي
ولما وصف الرجال المذكورين ما وصفهم به، ذكر علة فعلهم لذلك زيادة في مدحهم فقال: ﴿يخافون يوماً﴾ وهو يوم القيامة، هو بحيث ﴿تتقلب فيه﴾ أي لشدة هوله، تقلباً ظاهراً - بما اشار إليه إثبات التاءين ﴿القلوب والأبصار*﴾ أي بين طمع في النجاة، وحذر من الهلاك، ويمكن أن يقال: المشاكي - والله أعلم - هي المساجد، والزجاج هي الرجال، والمصابيح هي القلوب، وتلألؤها ما تشتمل عليه من المعاني الحاملة على الذكر، والشجرة الموصوفة
ولما بين تعالى أفعال هؤلاء الرجال التي أقبلوا بها عليه، وأعرضوا عما عداه، بين غايتهم فيها فقال: ﴿ليجزيهم﴾ أي يفعلون ذلك ليجزيهم ﴿الله﴾ أي في دار كرامته بعد البعث بعظمته وجلاله، وكرمه. وجماله ﴿أحسن ما عملوا﴾ أي جزاءه. ويغفر لهم سيئه ﴿ويزيدهم من فضله﴾ على العدل من الجزاء ما لم يستحقوه - كما هي عادة أهل الكرم.
ولما كان التقدير: فإن الله لجلاله، وعظمته وكماله، لا يرضى أن يقتصر في جزاء المحسن على ما يستحقه فقط، عطف عليه بياناً لأن قدرته وعظمته لا حد لها قولَه: ﴿والله﴾ أي
«إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء منادٍ فنادى بصوت يسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون وهم قليل، ثم يحاسب سائر الخلائق».
ولما أخبر تعالى أن الذين اتبعوا نور الحق سبحانه، وصلوا - من جزائه بسبب ما هداهم إليه النور من الأعمال الصالحة - إلى حقائق هي في نفس الأمر الحقائق، أخبر عن أضدادهم الذين اتبعوا الباطل فحالت
﴿يحسبه الظمآن﴾ أي العطشان الشديد العطش من ضعف العقل ﴿ماء﴾ فيقصده ولا يزال سائراً ﴿حتى إذا جاءه﴾ أي جاء الموضع الذي توهمه به ﴿لم يجده شيئاً﴾ من الأشياء، فلم يفده قصده غير زيادة العطش بزيادة التعب، وبعده عن مواطن الرجاء، فيشتد بأسه، وتنقطع حليه فيهلك،
ولما كان الله محيطاً بعلمه وقدرته بكل مكان قال: ﴿ووجد الله﴾ أي قدرة المحيط بكل شيء ﴿عنده﴾ أي عند ذلك الموضع الذي قصده لما تخيل فيه الخير فخاب ظنه ﴿فوفاه حسابه﴾ أي جزاء عمله على ما تقتضيه أعماله على حكم العدل، فلم يكفِ هذا الجاهل خيبة وكمداً أنه لم يجد ما قصده شيئاً كغيره من السراب حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى نار، لا يفك أسيرها، ولا يخمد سعيرها.
ولما كان سبحانه لا يحتاج إلى كاتب، ولا يدخل عليه لبس، ولا يصعب عليه ضبط شيء وإن كثر، ولا يقد أحد أن يتأخر عما يريده به بنوع حيلة، عبر عن ذلك بقوله: ﴿والله﴾ أي الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل ﴿سريع الحساب*﴾ أي لأنه لا يحتاج إلى حفظ بقلب، ولا عقد بأصابع، ولا شيء غير ذلك، ولكنه عالم بذلك كله قبل أن يعمله العبد وبعد عمله له، لا يعزب عنه منه ولا من غيره شيء.
ولما كان هذا أمراً مهولاً، أشار إلى هوله وتصويره بقوله: ﴿ظلمات﴾ أي من البحر والموجين والسحاب ﴿بعضها﴾. ولما كان المراد استغراق الجهة، لم يثبت الجار فقال: ﴿فوق بعض﴾ متراكمة، فلذلك يبعد كل البعد أن ينفذ فيها بصر، ولذلك قال: ﴿إذا أخرج﴾ أي الكائن في هذا البحر بدلالة المعنى وإن لم يجر له ذكر ﴿يده﴾ وهي أقرب شيء إليه ﴿لم يكد﴾ أي الكائن فيه ﴿يراها﴾ أي يقرب من ذلك فضلاً عن أن يكون، لأن الله قد ستر عنه كل نور بهذه الظلمات المتكاثفة، وهو مثال لعمله وأنه عدم لما تقدم من أن العدم كله ظلمة، فلا عمل له يكون شيئاً ولا يقرب من ذلك لأنه لا أهلية له بوجه ﴿ومن لم يجعل الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿له نوراً﴾ من الأنوار، وهو قوة الإيجاد والإظهار ﴿فما له من نور*﴾ أصلاً، لأنه سبحانه يستر نوره وإن كان ملء السماوات والأرض عمن يشاء بحجب الأهوية، لأنه قادر على ما يريد.
ولما كان قيام الأمور، وظهورها كل ظهور، إنما هو بالنور، حساً
ولما كان مبنى السورة على شمول العلم والقدرة لم يؤكد فقال: ﴿والأرض﴾ أي هما وكل ما فيهما بلسان حاله، أو آلة مقاله، وعرف أن المراد العموم بعطفه بعض ما لا يعقل، وعبر ب «من» لأن المخبر به من وظائف العقلاء.
ولما كان أمر الطير أدل لأنه أعجب، قال مخصصاً: ﴿والطير صافات﴾ أي باسطات أجنحتها في جو السماء، لا شبهة في أنه لا يمسكهن إلا الله، وإمساكه لها في الجو مع أنها أجرام ثقيلة، وتقديره لها فيه على القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرته.
قال الحافظ زين الدين العراقي: رواه المستغفري في الدعوات عن ابن عمر رضي الله عنهما وقال: غريب من حديث مالك، ولا أعرف له أصلاً من حديث مالك «.
ولما كان التقدير: فالله قدير على جميع تلك الشؤون، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي المحيط علماً وقدرة ﴿عليم بما يفعلون*﴾ بما ثبت مما أخبركم به في هذه السورة دقائق أقوالكم وأحوالكم، وضمائركم وأفعالكم، وقد تقدم في الأعراف عند ﴿أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض﴾ [الأعراف: ١٨٥] ما ينفع هنا.
ولما كان التقدير: ومن الله المبدأ للكل بالإيجاد من العدم، عطف عليه قوله: ﴿وإلى الله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل شيء ﴿المصير*﴾ أي لهم كلهم بعد الفناء، وإنما طوي هذا المقدر لأنه لا خلف فيه.
ولما أخبر بذلك فتقرر ملكه وقدرته على البعث على حسب ما وعد به بعد أن تحرر ملكه، دل عليه بتصرفه في العالم العلوي والسفلي بما يدل على القدرة على الإعادة فقال: ﴿ألم تر أن الله﴾ أي ذا الجلال والجمال ﴿يزجي﴾ أي يسوق بالرياح، وسيأتي الكلام عليها في النمل؛ وقال أبو حيان: إن الإزجاء يستعمل في سوق الثقل برفق. ﴿سحاباً﴾ أي بعد أن أنشأه من العدم تارة من السفل، وتارة من العلو، ضعيفاً رقيقاً متفرقاً، قال أبو حيان: وهو اسم جنس واحده
ولما ذكر أنواعاً من الحيوان، نكر بخلاف ما في الأنبياء فقال: ﴿من ماء﴾ أي دافق هو أعظم أجزاء مادته كما خلق النبات من ماء «هامر» كذلك، وفاوت بينه مع كون الكل من الماء الهامر
ولما كان في سياق التعظيم، وكان قد آتى كل نفس من الإدراك ما تعرف به منافعها ومضارها، عبر عن الكل بأداة من يعقل وإن كانوا متفاوتين في التمييز فقال: ﴿من يمشي على بطنه﴾ أي من غير رجل؛ وقدم هذا لكونه أدل على القدرة، وسماه مشياً استعارة ومشاكلة ﴿ومنهم من يمشي على رجلين﴾ أي ليس غير ﴿ومنهم من يمشي على أربع﴾ أي من الأيدي والأرجل، وفي هذا تنبيه على من يمشي على أكثر من ذلك، وإليه الإشارة بقوله: ﴿يخلق الله﴾ وعبر باسم الجلالة إعلاماً بتناهي العظمة؛ وقال: ﴿ما يشاء﴾ دلالة على أنه فعله بقدرته واختياره، لا مدخل لشيء غير ذلك فيه إلا بتقدير العزيز العليم.
ولما كانت هذه الأدلة ناظرة إلى البعث أتم نظر، وكانوا منكرين له، أكد قوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي الكمال المطلق ﴿على كل شيء﴾ من ذلك وغيره ﴿قدير*﴾.
ولما اتضح بهذا ما لله تعالى من صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص، وقامت أدلة الوحدانية على ساق، واتسقت براهين الألوهية أي اتساق، قال مترجماً لتلك الأدلة: ﴿لقد أنزلنا﴾ أي في
ولما كان إخفاء هذه الآيات عن البعض بعد بيانها أعجب من ابتداء نصبها، فكان السياق ظاهراً في أن التقدير: والله يضل من يشاء فيكفرون بالآيات والذكر الحكيم، وكان الخروج من نورها بعد التلبس بها إلى الظلام أشد غرابة، عطف على ما قدرته مما دل عليه السياق أتم دلالة قوله دليلاً شهودياً على ذلك مطوي، معجباً ممن عمي عن دلائل التوحيد التي أقامها تعالى وعددها وأوضحها بحيث صارت كما ذكر تعالى أعظم من نور الشمس: ﴿ويقولون﴾ أي الذين ظهر لهم نور الله، بألسنتهم فقط: ﴿آمنا بالله﴾ الذي أوضح لنا جلاله، وعظمته وكماله ﴿وبالرسول﴾ الذي علمنا كمال رسالته وعمومها بما أقام عليها من الأدلة ﴿وأطعنا﴾ أي أوجدنا الطاعة لله وللرسول، وعظم المخالفة بين الفعل والقول بأداة البعد فقال: ﴿ثم يتولى﴾ أي يرتد بإنكار القلب ويعرض عن طاعة الله ورسوله، ضلالاً منهم عن الحق ﴿فريق منهم﴾
ولما كان ينبغي أن يكون وقوع الارتداد منهم - كما أشير إليه - في غاية البعد وإن كان في أقل زمن، أشار إليه بأداة التراخي، وأكد ذلك بقوله مثبتاً الجارّ: ﴿من بعد ذلك﴾ أي القول السديد الشديد المؤكد، مع الله الذي هو أكبر من كل شيء، ومع رسوله الذي هو أشرف الخلائق ﴿وما أولئك﴾ أي البعداء البضاء الذين صاروا بتوليهم في محل البعد ﴿بالمؤمنين*﴾ أي بالكاملين في الإيمان قولاً وعقداً، وإنما هم من أهل الوصف اللساني، المجرد عن المعنى الإيقاني.
ولما فضحهم بما أخفوه من توليهم، قبح عليهم ما أظهروه، فقال معبراً بأداة التحقيق: ﴿وإذا دعوا﴾ أي الذين ادعوا الإيمان من أي داع كان ﴿إلى الله﴾ أي ما نصب الملك الأعظم من أحكامه ﴿ورسوله ليحكم﴾ أي الرسول ﴿بينهم﴾ بما أراه الله ﴿إذا فريق منهم﴾ أي ناس مجبولون على الأذى المفرق ﴿معرضون*﴾ أي فاجؤوا الإعراض، إذا كان الحق عليهم، لاتباعهم أهواءهم، مفاجأة تؤذن بثباتهم فيه ﴿وإن يكن﴾ أي كوناً ثابتاً جداً ﴿لهم﴾ أي
ولما كان سبب فعلهم هذا بعد إظهارهم الطاعة مشكلاً، ناسب أن يسأل عنه، فقال تعالى مبيناً له بعد التنبيه على ما يحتمله من الحالات: ﴿أفي قلوبهم مرض﴾ أي نوع فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال ﴿أم ارتابوا﴾ بأن حدثت لهم شبهة أعمتهم عن الطريق ﴿أم﴾ ليس فيهم خلل لا أصلي ولا طارىء، بل الخلل في الحاكم فهم ﴿يخافون أن يحيف﴾ أي يجور ﴿الله﴾ الغني عن كل شيء، لأن له كل شيء ﴿عليهم﴾ بنصب حكم جائر وهو منزه عن الأغراض ﴿ورسوله﴾ الذي لا ينطق عن الهوى، بضرب أمر زائغ وقد ثبتت عصمته عن الأدناس.
ولما لم يكن شيء من ذلك كائناً أضرب عنه فقال: ﴿بل أولئك﴾ أي البعداء البغضاء ﴿هم﴾ أي خاصة ﴿الظالمون﴾ أي الكاملون في الظلم، لأن قلوبهم مطبوعة على المرض والريب، لا أن فيها نوعاً واحداً منه، وليسوا يخافون الجور، بل هو مرادهم إذا كان الحق عليهم.
ولما نفى عنهم الإيمان الكامل بما وصفهم به، كان كأنه
ولما أفرد الضمائر إشارة إلى قلة المطيع، جمع لئلا يظن أنه واحد فقال: ﴿فأولئك﴾ العالو الرتبة ﴿هم الفائزون*﴾ بالملك الأبدي ولا فوز لغيرهم.
ولما ذكر سبحانه ما رتب على الطاعة الظاهرة التي هي دليل الانقياد الباطن، ذكر حال المنافقين فيه، فقال عاطفاً على ﴿ويقولون﴾ لأنه ليس المراد منه إلا مجرد القول من غير إرادة تقييد بزمان معين: ﴿وأقسموا﴾ وكأنه عبر بالماضي إشارة إلى أنهم لم يسمحوا به أكثر من مرة، لما يدل عليه من زيادة الخضوع والذل ﴿بالله﴾ أي الملك الذي له الكمال المطلق؛ واستعار من جهد النفس قوله في موضع الحال:
وفي يمينك فيما أنت واعده | ما دل أنك في الميعاد متهم |
ولأبي يعلى والحاكم - وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائناً ما كان» ثم علل إظهاره للخبء بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل شيء ﴿خبير بما تعملون*﴾ وإن إجتهدتم في إخفائه، فهو ينصب عليه دلائل يعرفه بها عباده، فالحلف غير مغنٍ عن الحالف، والتسليم غير ضار للمسلم.
ولما كان ما حمله الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبهماً، عينه بقوله: ﴿وما على الرسول﴾ أي من جهة غيره ﴿إلا البلاغ المبين*﴾ أي التبليغ الذي يحصل به البلاغ من غير شك، إما بالإيضاح وحده أو مضموماً إلى السيف فما دونه من أنواع الزواجر.
ولما لاح بهذا الإذن في الكف عن قتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمنافقين لئلا يقول الناس: إن محمداً استنصر بقوم، فلما نصره الله بهم أقبل يقتلهم. فيمتنع من يسمع ذلك من الدخول في الإسلام، فتكون مفسدة قتلهم أعظم من مفسدة إبقائهم، لأن الدين لم يكن حينئذ تمكن تمكناً لا يؤثر فيه مثل ذلك، تشوفت النفوس إلى أن هذا الحال هل يستمر؟ فجلى الله عنهما هذا الكرب بقوله: بياناً لأن تمكن الدين غير مفتقر إليهم سواء أقبلوا أو أدبروا: ﴿وعد الله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل شيء ﴿الذين آمنوا﴾ وهو مع ذلك كالتعليل لما قبله ترغيباً لمن نظر في الدنيا نوع نظر؛ وقيد بقوله: ﴿منكم﴾ تصريحاً بأهل القرن الأول، ليكون ظاهراً فس إخراج المنافقين المتولين
«إنه إن أدركهم ليقتلنهم قتل عاد، بعد أن كف
ولما بشرهم بالتمكين، أشار لهم إلى مقداره بقوله: ﴿وليبدلنهم﴾ وأشار إلى عدم استغراق هذا الأمن العام لجميع الزمان بإثبات الجارّ فقال: ﴿من بعد خوفهم﴾ هذا الذي هم فيه الآن ﴿أمناً﴾ أي عظيماً بمقدار هذا الخوف، في زمن النبوة وخلافتها؛ ثم أتبع ذلك نتيجته بقوله تعليلاً للتمكين وما معه: ﴿يعبدونني﴾ أي وحدي؛ وصرح بالمراد بياناً لحال العابدة النافعة بقوله: ﴿لا يشركون بي شيئاً﴾ ظاهراً ولا باطناً، لأن زمانهم يكون زمن عدل، فلا يتحابون فيه بالرغبة والرهبة، روى الطبراني في الوسط عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم المدينة، وآوتهم الأنصار - رضي الله عنهم أجمعين، رمتهم العرب من قوس واحدة فنزلت ﴿ليستخلفنهم في الأرض﴾ الآية. ولقد صدق الله سبحانه ومن أصدق من الله حديثاً - ففتح سبحانه لهم البلاد، ونصرهم على جبابرة العباد، فأذلوا رقاب الأكاسرة، واستعبدوا أبناء القياصرة، ومكنوا شرقاً وغرباً مكنة لم تحصل قبلهم لأمة من الأمم، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها
ما بال جفنك هامي الدمع هامره | وبحر فكرك وافي الهم وافره |
ولما قتلوا عثمان رضي الله عنه، وخرجوا على عليّ ثم ابنه الحسن رضي الله عنهما، نزع الله ذلك الأمن كما أشير إليه ب «من» وتنكير «أمناً» وجاء الخوف واستمر يتطاول ويزداد قليلاً قليلاً إلى أن صار في زماننا هذا إلى أمر عظيم - والله المستعان.
ولما كان التقدير: فمن ثبت على دين الإسلام، وانقاد لأحكامه واستقام، نال هذه البشرى، عطف عليه قوله: ﴿ومن كفر﴾ أي بالإعراض عن الأحكام أو غيرها؛ أو هو عطف على ﴿يعبدونني﴾
ولما كان الفاسق الكامل إنما هو من مات على كفره فحبط عمله، فكان بذلك كفره مستغرقاً لزمانه دون من مات مسلماً وإن كان كافراً في جميع ما مضى له قبل ذلك، أسقط الجار فقال: ﴿بعد ذلك﴾ أي الاستخلاف العظيم على الوجه المشروح ﴿فأولئك﴾ البعداء من الخير ﴿هم﴾ خاصة ﴿الفاسقون*﴾ أي الخارجون من الدين خروجاً كاملاً، لا تقبل معه معذرة، ولا تقال لصاحبه عثرة، بل تقام عليهم الأحكام بالقتل وغيره، ولا يراعى فيهم ملام، ولا تأخذ بهم رأفة عند الانتقام، كما تقدم في أول السورة فيمن لزمه الجلد، ولعل الآية مشيرة إلى أهل الردة.
ولما تمت هذه البشرى، وكان التقدير: فاعملوا واعبدوا، عطف عليه قوله: ﴿وأقيموا الصلاة﴾ أي فإنها قوام ما بينكم وبين ربكم، مع أنه يصح عطفه على قوله «أطيعوا الله» فيكون من مقول ﴿قل﴾ ﴿وآتوا الزكاة﴾ فهي نظام ما بينكم وبين إخوانكم ﴿وأطيعوا الرسول﴾ أي المحيط بالرسالة في كل ما يأمركم به، فإنما هو عن أمر ربكم ﴿لعلكم ترحمون*﴾ أي لتكونوا عند من يجهل العواقب على
ولما كان الملل من شيم النفوس، فكان تدريج الكلام في المقاصد لا سيما الأحكام شيئاً فشيئاً خلال مقاصد أخرى أوقع في القلب، وأشهى إلى الطبع، لا سيما إذا كان على وجوه من المناسبات عجيبة، وضروب من الاتصالات هي مع دقتها غريبة، زين الله تأصيلها بتفصيلها فابتدأ السورة بطائفة منها، وفصلها بدر الوعظ، وجواهر الحكم،
لأنه لما كانت العورة تبدو فيها سميت بها ﴿لكم﴾ لأنها ساعات وضع الثياب والخلوة بالأهل، وبين حكم ما عدا ذلك بقوله مستأنفاً: ﴿ليس عليكم﴾ أي في ترك الأمر ﴿ولا عليهم﴾ يعني العبيد والخدم والصبيان، في ترك الاستئذان ﴿جناح﴾ أي إثم، وأصله الميل ﴿بعدهن﴾ أي في جميع ما سوى هذه الأوقات إذا هجموا عليكم؛ ثم علل الإباحة في غيرها،
ولما أعلى سبحانه البيان في هذه الآيات إلى حد يعجز الإنسان لا سيما وهي في الأحكام، والكلام فيها يعيي أهل البيان، وكان السامع لما جبل عليه من النسيان، يذهل عن أن هذا هو الشأن، في جميع القرآن، قال مشيراً إلى عظم شأنها، في تفريقها وبيانها: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا البيان ﴿يبين الله﴾ بما له من إحاطة العلم والقدرة ﴿لكم﴾ أيتها الأمة الخاصة ﴿الآيات﴾ في الأحكام وغيرها وبعلمه وحكمته ﴿والله﴾ الذي له الإحاطة العامة بكل شيء ﴿عليم﴾ بكل شيء ﴿حكيم*﴾ يتقن ما يريده، فلا يقدر أحد على نقضه، وختم الآية بهذا الوصف يدل على أنها محكمة لم تنسخ كما قال الشعبي وغيره - أفاده ابن كثير، وحُكي مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير.
ولما كانت آيات الاستئذان أتقن حاسم لمواد الشر، وتركها أعظم فاتح لأبواب الفتن، وكان إخراج الكلام، في أحكام الحلال والحرام، مع التهذيب والبيان، في النهاية من الصعوبة، وكان فطم النفوس عما ألفت في غاية من العسر شديدة، أشار سبحانه إلى ذلك بتكرير آية البيان، إشارة إلى أنها - لما لها من العلو - جديرة بالتأكيد، وإلى أن البلغاء يستبعدون القدرة على البيان كلما أريد على هذا السنن
«عن
أنس
رضي
الله
عنه
قال: لما كانت صبيحة احتلمت دخلت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته أني قد احتلمت، فقال:» لا تدخل على النساء «، فما أتى عليّ يومٌ كان أشد منه».
ولما ذكر سبحانه اقتبال الشباب، في تغيير حكم الحجاب، أتبعه الحكم عند إدبار الشباب، في إلقاء الظاهر من الثياب، فقال: ﴿والقواعد﴾ وحقق ألمر بقوله: ﴿من النساء﴾ جمع قاعد، وهي
ولما ذكر الجائز، وكان إبداء الوجه داعياً إلى الريبة، أشار إليه
ولما كان ما ذكر من حالهن من الخلطة على ذلك الوصف معلوماً أنه لا يخلو عن كلام، كان التقدير: فالله في وضع الحرج عنهن رؤوف بهن رحيم، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿سميع﴾ أي لكلامهن إذا خاطبن الرجال هل يخضعن فيه ويتصنعن في ترخيم الصوت به أو يلقينه على الحالة المعروفة غير المنكرة ﴿عليم*﴾ بما يقصدن به وبكل شيء.
ولما ذكر معدن الأكل، ذكر حاله فقال: ﴿ليس عليكم جناح﴾ أي شيء من الإثم الذي من شأنه أن يميل بصاحبه عن السواء في ﴿أن تأكلوا جميعاً﴾ أي مجتمعين وإن كان بينكم ناقص الخلقة، لأن من كان معرضاً للآفات جدير بأن يرحم المبتلى، فلا يستقذره حذراً من انعكاس الحال.
ولما ذكر موطن الأكل وكيفيته، ذكرالحال التي يكون عليها الداخل إلى تلك المواطن أو غيرها، فقال مسبباً عما مضى من الإذن، معبراً بأداة التحقيق، بشارة بأنهم يطيعون بعد أن كانوا تحرجوا من ذلك حين أنزل تعالى ﴿لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل﴾ [النساء: ٢٩] :﴿فإذا دخلتم﴾ أي بسبب ذلك أو غيره ﴿بيوتاً﴾ أي مأذوناً فيها، أيّ بيوت كانت مملوكة أو لا، مساجد أو غيرها ﴿فسلموا﴾ عقب الدخول ﴿على أنفسكم﴾
ولما كان الله تعالى، بعلمه وحكمته، وعزه وقدرته، ولطفه وخبرته، قد خلق عقلاً نيراً يهدي إلى الحق، وإلى طريق مستقيم، وقسمه بين عباده، وخلق فيهم أنواعاً من العوائق لذلك العقل عن النفوذ على سمت الاستقامة، من الهوى والكسل، الفتور والملل، جعلها حجباً تحجبه عن النفوذ، وتستر عنه المدارك، وتمنعه من البلوغ، إلا برياضات
﴿سمعنا وأطعنا﴾ [المائدة: ٧] عن الإذعان للأحكام وأنتم معرضون.
ولما كان الكلام في الراسخين، كان الموضع لأداة التحقيق فقال: ﴿وإذا﴾ أي وصدقوا إيمانهم بأنهم إذا ﴿كانوا معه﴾ أي الرسول صلى الله عليه السلام ﴿على أمر جامع﴾ أي لهم على الله، كالجهاد لأعداء الله، والتشاور في مهم، وصلاة الجمعة، ونحو ذلك ﴿لم يذهبوا﴾ عن ذلك الأمر خطوة إلى موضع من الأرض ولو أنه بيوتهم، لشيء من الأشياء ولو أنه أهم مهماتهم، لأنه أخذ عليهم الميثاق بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ﴿حتى يستأذنوه﴾ فيأذن لهم، لأن المأمور به قد صار منزلهم ومأواهم ومتبوأهم، وصار كل ما سواه من الأماكن والأمور له عليه الصلاة والسلام دونهم، لا حظ لهم فيه، فلا يحل لهم أن يدخلوه حساً أو معنى إلا بإذنه، وهذا من عظيم النتبيه على عليّ أمره، وشريف قدره، وذلك أنه سبحانه كما أمرهم بالاستئذان عند الدخول عليه وعلى غيره، أفرده بأمرهم باستئذانه عند الانصراف عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعل رتبة ذلك تالية لرتبة الإيمان بالله والرسول، وجعلهما كالتسبيب له مع تصدير الجملة بأداة الحصر، وإيقاع المؤمنين في مبتدأ مخبراً عنه بموصول أحاطت وصلته بالرتب الثلاث شرحاً له.
ولما قصرهم على الاستئذان، تسبب عن ذلك إعلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يفعل إذ ذاك فقال: ﴿فإذا استأذنوك﴾ أي هؤلاء الذين صحت دعواهم؛ وشدد عليهم تأكيداً لتعظيم الأدب معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: ﴿لبعض شأنهم﴾ وهو ما تشتد الحاجة إليه ﴿فأذن لمن شئت منهم﴾ قيل: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صعد المنبر يوم الجمعة فمن اراد أن يخرج لعذر قام بحياله فيعرف أنه يستأذن فيأذن لمن شاء، قال مجاهد: وإذن الإمام يوم الجمعة أن يشير بيده، وقيل: كذلك ينبغي أن يكون الناي مع أئمتهم ومقدميهم
ولما أثبت له بهذا التفويض من الشرف ما لا يبلغ وصفه، أفهمهم أن حال المستأذن قاصرة عن حال المفوض الملازم كيفما كانت، فقال: ﴿واستغفر لهم الله﴾ أي الذي له الغنى المطلق، فلا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، أو يكون الكلام شاملاً لمن صحت دعواه وغيره؛ ثم علل ذلك ترغيباً في الاستغفار، وتطييباً لقلوب أهل الأوزار، بقوله: ﴿إن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال ﴿غفور﴾ أي له هذا الوصف فهو جدير بأن يغفر لهم ما قصروا فيه ﴿رحيم*﴾ أي فكل ما أمرهم به فهو خير لهم وإن تراءى لهم خلافه.
ولما أظهرت هذه السورة بعمومها، وهذه الآيات بخصوصها، من شرف الرسول ما بهر العقول، لأجل ما وقع للمنافق من التجرؤ على ذلك الجناب الأشم، والمنصب الأتم، وعلم منه أن له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل أمره وجميع شأنه خصوصية ليست لغيره، صرح بذلك تفخيماً للشأن، وتعظيماً للمقام، ليتأدب من ناضل عن المنافق، أو توانى في أمره فقصر عن مدى أهل السوابق، فقال منبهاً على أن المصائب سبب لإظهار المناقب أو إشهار المعايب ﴿لا تجعلوا﴾ أي ايها الذين آمنوا ﴿دعاء الرسول﴾ أي لكم الذي يوقعه ﴿بينكم﴾
ولما كان بعضهم يظهر المؤالفة، ويبطن المخالفة، حذر من ذلك بشمول علمه وتمام قدرته، فقال معللاً مؤكداً محققاً معلماً بتجديد تعليق العلم الشهودي كلما جدد أحد خيانة لدوام اتصافه بإحاطة العلم من غير نظر إلى زمان: ﴿قد يعلم الله﴾ أي الحائز لجميع صفات المجد إن ظننتم أن ما تفعلونه من التستر يخفي أمركم على رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهو سبحانه يعلم ﴿الذين يتسللون﴾ وعين أهل التوبيخ بقوله: ﴿منكم﴾ أي يتكلفون سلَّ أنفسهم ليجعلوا ذهابهم في غاية الخفاء ﴿لواذاً﴾ أي تسللاً مستخفين به بتستر بعضهم فيه ببعض؛ يقال: لاذ بالشيء لوذاً ولواذاً وملاوذة: استتر وتحصن، فهو مصدر لتسلل من غير لفظه، ولعله أدخل «قد» على المضارع ليزيد أهل التحقيق تحقيقاً، ويفتح لأهل الريب إلى الاحتمال طريقاً، فإنه يكفي في الخوف من النكال طروق الاحتمال؛ وسبب عن علمه قوله:
ولما أقام سبحانه الأدلة على أنه نور السماوات والأرض بأنه لا قيام لشيء إلا به سبحانه، وختم بالتحذير لكل مخالف، أنتج ذلك أن له كل شيء فقال: ﴿ألا إن لله﴾ اي الذي له جميع المجد جميع ﴿ما في السماوات﴾ ولثبوت أنه سبحانه محيط العلم والقدرة، لم يقتض المقام التأكيد بإعادة الموصول فقال: ﴿والأرض﴾ أي من جوهر وعرض، وهما له أيضاً لأن الأرض في السماء، وكل سماء في التي فوقها حتى ينتهي ذلك إلى العرش الذي صرح في غير آية أنه صاحبه، وهو سماء أيضاً لعلوه عما دونه، فكل ما فيه له، وذلك أبلغ - لدلالته بطريق المجاز - مما لو صرح به، فدل ذلك - بعد الدلالة
ولما كانت أحوالهم من جملة ما له، كان من المعلوم أنها لم تقم في أصلها ولا بقاء لها إلا بعلمه ولأنها بخلقه، فلذلك قال محققاً مؤكداً مرهباً: ﴿قد يعلم ما أنتم﴾ أيها الناس كلكم ﴿عليه﴾ أي الآن، والمراد بالمضارع هنا وجود الوصف من غير نظر إلى زمان، ولو عبر بالماضي لتوهم الاختصاص به، والكلام في إدخال «قد» عليه كما مضى آنفاً باعتبار أولي النفوذ في البصر، وأهل الكلال والكدر ﴿ويوم﴾ أي ويعلم ما هم عليه يوم ﴿يرجعون﴾ أي بقهر قاهر لهم على ذلك، لا يقدرون له على دفاع، ولا نوع امتناع ﴿إليه﴾ وكان الأصل: ما أنتم عليه، ولكنه أعرض عنهم تهويلاً للأمر، أو يكون ذلك خاصاً بالمتولين المعرضين إشارة إلى أنهم يناقشون الحساب، ويكون سر الالتفاف التنبيه على الإعراض عن المكذب بالقيامة، والإقبال على المصدق، صوناً لنفيس الكلام، عن الجفاة الأغبياء اللئام ﴿فينبئهم﴾ أي فيتسبب عن ذلك أنه يخبرهم تخبيراً عظيماً ﴿بما عملوا﴾ فليعدوا لكل شيء منه جواباً ﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة ﴿بكل شيء﴾ من ذلك وغيره ﴿عليم*﴾ فلذلك أنزل الآيات
لما ختم سبحانه تلك بسعة الملك، وشمول العلم، وتعظيم الرسول،