ووجه اتصالها بما قبلها
إنه قال في السورة السالفة ﴿ والذين هم لفروجهم حافظون ﴾[ المعارج : ٢٩ ] وذكر هنا أحكام من لم يحفظ فرجه من الزانية والزاني وما اتصل بذلك من شأن القذف وقصة الإفك والأمر بغض البصر الذي هو داعية الزنى، وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف، والنهي عن إكراه الفتيات على الزنى.
وإنه تعالى لما قال فيما سلف إنه لم يخلق الخلق عبثا بل للأمر والنهي ذكر هنا جملة من الأوامر والنواهي.
روي عن مجاهد أنه قال : قال رسول الله ( ص ) :" علموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نساءكم سورة النور " وعن حارث بن مضرب رضي الله عنه قال : كتب إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون ﴾[ النور : ١ ]تفسير المفردات :
أنزلناها : أي أعطيناها الرسول كما يقول العبد إذا كلم سيده : رفعت إليه حاجتي، والفرض : التقدير كما قال :﴿ فنصف ما فرضتم ﴾[ البقرة : ٢٣٧ ] وقال :﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ﴾[ القصص : ٨٥ ] والمراد هنا تقدير ما فيها من الحدود والأحكام على أتم وجه. بينات : أي واضحات الدلالة على ما فيها من الأحكام، ولعل هنا يراد بها الإعداد والتهيئة. تذكرون : أي تتذكرون وتتعظون.
الإيضاح :
امتن سبحانه على عباده بما أنزل عليهم في هذه السورة من الفرائض والأحكام وفصله لهم من أدلة التوحيد وبيناته الواضحة التي لا تقبل جدلا، ليعدهم بذلك لأن يتعظوا ويعملوا بما جاء فيها مما فيه سعادتهم في دنياهم و آخر تهم وفيه صلاحهم، فإن في حفظ الفروج صيانة للأنساب واطمئنانا على سلامتها مما يشوبها، كما أن فيه أمنا من حصول الضغائن والأحقاد التي قد تجر إلى القتل وارتكاب الجرائم بين الأفراد، وأمنا على الصحة والبعد عن الأمراض التي قد تودي بحياة المرء وتوقعه في أشد المصايب وأعظم ألوان البلاء.
كما جاء فيها توثيق روابط المودة بين أفراد المجتمع، ففيها نظام دخول البيوت للتزاور، وفيها حفظ الألسنة، وصونها عن الولوغ في الأعراض بما لا ينبغي أن يقال حتى لا ينتشر الفحش بين الناس، وفيها تحذير للعباد من ذلك﴿ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم ﴾[ النور : ١٩ ].
والخلاصة : إنه تعالى ذكر في أول السورة أنواعا من الأحكام والحدود الشرعية. وفي آخرها الدلائل على وحدانيته وكامل قدرته، فأشار إلى الأولى بقوله :﴿ وفرضناها ﴾ وإلى الثانية بقوله :﴿ وأنزلنا فيها آيات بينات ﴾.
والفائدة في كل هذا اتقاء المحارم والبعد عنها ومعرفة الله المعرفة التي تجعل المرء يخضع لجلاله وعظيم سلطانه، ويشعر بأنه محاسب على كل ما يعمل من عمل قل أو كثر فإذا تم له ذلك صلحت نظم الفرد ونظم المجتمع، وسادت السكينة والطمأنينة بين الناس.
عقوبة الزنى الدنيوية :
الزاني والزانية : إما أن يكونا محصنين، أي متزوجين، أو غبر محصنين : أي غير متزوجين.
عقوبة المحصنين :
إن كان الزانيان محصنين واستوفيا الشروط الآتية : وهي أن يكونا بالغين عاقلين حرين مسلمين متزوجين بعقد نكاح صحيح وجب رجمهما، أي رميهما بالحجارة حتى يموتا، ويكون ذلك في حفل عام للمسلمين ليعتبر بهما غيرهما.
وقد ثبت هذا بالنسبة المتواترة، ورواه الثقاب عن النبي ( ص )، فقد رواه أبو بكر وعمر وعلي وجابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وزيد بن خالد و بريدة الأسلمي في آخرين من الصحابة، وجاء في روايتهم أن رجلا من الصحابة يسمى ماعزا أقر بالزنى فرجم، وأن امرأتين من بني لخم وبني غامد أقرتا بالزنى فرجمتا على مشهد من الناس ومرأى منهم.
عقوبة غير المحصنين :
إن كان الزانيان غير محصنين فالعقوبة مائة جلدة بمحضر جمع من المسلمين كما بينته الآية ليفتضح أمرهما كما تقدم ذلك.
طريق إثبات الزنى :
يثبت الزنى بأحد أمور ثلاثة :
الإقرار به وهذا هو الطريق الذي ثبت به الزنى في الإسلام، وبه أوقع النبي ( ص ) وصحابته العقوبة على من زنى
الحبل للمرأة بلا زواج معروف لها.
شهادة أربعة من الشهود يرونهما وهما ملتبسان بالجريمة.
عقوبة الزنى الأخروية :
تقدم أن بينا المساويء والأضرار التي تنشأ من الزنى للأفراد والجماعات في الدنيا، وهنا نذكر حكمه الأخوي فنقول : اتفقت الأمة على أن الزنى من أكبر الآثام، وأنه من الذنوب التي شدد الدين في تركها، وأغلظ في العقوبة على فعلها، وجاء فيه من النصوص ما لم يأت في غيره مما حرم الله، فقد قرن بالشرك في قوله :﴿ والذين لا يدعون مع لله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ﴾[ الفرقان : ٦٨ ].
وروي عن حذيفة أن النبي ( ص ) قال :" يا معشر الناس اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة، أما التي في الدنيا فيذهب البهاء، ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما التي في الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى، وسوء الحساب، وعذاب النار ".
وعن عبد الله بن مسعود قال : قلت يا رسول الله، أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال :" أن تجعل لله ندا وهو خلقك ". قلت : ثم أي ؟ قال :" وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك ". قلت : ثم أي ؟ قال :" وأن تزني بحليلة جارك ". فأنزل الله تصديقها :﴿ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ﴾.
الإيضاح :
﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾أي من زنى من الرجال أو زنت من النساء وهما حران بالغان عاقلان غير محصنين بزوجين فاجلدوا كلا منهما مائة جلدة عقوبة له على ما أتى من معصية الله.
﴿ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ﴾أي ولا تأخذكم بهما رحمة ورقة في حكم الله، فتعطلوا الحدود أو تخففوا الضرب، بل الواجب عليكم أن تتصلبوا في دين الله ولا يأخذكم اللين والهوادة في استيفاء الحدود، وكفى برسول الله أسوة في ذلك، إذ يقول :" لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها ".
﴿ إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ﴾أي إن كنتم تصدقون بالله ربكم، وأنكم مبعوثون للحشر ومجازون بالثواب والعقاب. فإن من كان مصدقا بذلك لا يخالف أمر الله ونهيه خوف عقابه على معاصيه. وفي هذا تهييج وإغضاب لتنفيذ حدود الله وإقامة شريعته.
﴿ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ﴾فإنهما إذا جلدا بمحضر من الناس كان ذلك أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، والزيادة في تأنيبهما على ما فعلا.
والطائفة : الأربعة فصاعدا كما روي عن ابن عباس، وعن الحسن : عشرة فصاعدا.
المعنى الجملي : قال مجاهد وعطاء : قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء ليس لهم أموال ولا عشائر، وبالمدينة نساء بغايا يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة عيشا، ولكل منهن علامة على بابها للتعريف عن نفسها والإعلان عن أمرها، وكان لا يدخل عليهن إلا زان أو مشرك، فرغب في كسبهن ناس من فقراء المسلمين وقالوا نتزوج بهن إلى أن يغنينا الله عنهن، فاستأذنوا رسول الله ( ص ) فنزلت الآية.
الإيضاح :
﴿ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ﴾أي إن الفاسق الفاجر الذي من شأنه الزنى والفسق لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء، وإنما يرغب في فاسقة خبيثة أو في مشركة مثلها، والفاسقة المستهترة لا يرغب في نكاحها الصالحون من الرجال، بل ينفرون منها، وإنما يرغب فيها من هو من جنسها من الفسقة، ولقد قالوا في أمثالهم : إن الطيور على أشكالها تقع.
ولا شك أن هذا حكم الأعم الأغلب كما يقال : لا يفعل الخير إلا رجل التقي، وقد يفعل الخير من ليس بتقي، فكذا هذا فإن الزني قد ينكح المؤمنة العفيفة، والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف.
﴿ وحرم ذلك على المؤمنين ﴾أي إن نكاح المؤمن المتسم بالصلاح الزانية، ورغبته فيها واندماجه في سلك الفسقة المشهورين بالزنى محرم عليه، لما فيه من التشبه بالفساق ومن حضور مواضع الفسق والفجور التي قد تسبب له سوء القالة واغتياب الناس له، وكم في مجالسة الفساق من التعرض لاقتراف الآثام، فما بالك بمزاوجة الزواني والفجار، وجاء في الخبر :" من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ".
﴿ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ( ٤ ) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴾[ النور : ٤- ٥ ].
المعنى الجملي : بعد أن نفر سبحانه من نكاح الزانيات وإنكاح الزانين وبين أن ذلك عمل لا يليق بالمؤمنين الذين أشربت قلوبهم حب الإيمان والتصديق برسله نهى هنا عن رمي المحصنات به، وشدد في عقوبته الدنيوية والأخروية، فجعل عقوبته في الدنيا الجلد وألا تقبل له شهادة أبدا، فيكون ساقط الاعتبار في نظر الناس ملغى القول لا تسمع له كلمة، وجعل عقوبته في الآخرة العذاب المؤلم الموجع إلا إذا تاب إلى الله وأناب وأصلح أعماله، فإنه يزول عنه اسم الفسوق وتقبل شهادته.
تفسير المفردات :
المراد بالمحصنات هنا : العفيفات الحرائر البالغات العاقلات المسلمات.
الإيضاح :
﴿ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ﴾ أي إن الذين يشتمون العفيفات من حرائر المسلمين فيرمونهن بالزنى، ثم لم يأتوا على ما رموهن به من ذلك بأربعة شهداء عدول يشهدون بأنهم رأوهن يفعلن ذلك، فاجلدوهم ثمانين جلدة جزاء لهم على ما فعلوا من ثلم العرض، وهتك الستر دون أن يكون ذلك بوجه الحق.
﴿ ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ﴾أي وردوا شهادتهم، ولا تقبلوها أبدا في أي أمر من الأمور.
ثم بين سوء حالهم عند ربهم بقوله :
﴿ وأولئك هم الفاسقون ﴾ أي وأولئك هم الخارجون عن طاعة ربهم إذ أنهم فسقوا عن أمره، وركبوا كبيرة من الكبائر، باتهامهم المحصنات الغافلات المؤمنات كذبا وبهتانا، كما قال حسان يمدح أم المؤمنين عائشة :
حصان رزان ما تزن بريبة | وتصبح غرثى من لحوم الغوافل |
وهم إن كانوا صادقين فقد هتكوا ستر المؤمنات، وأوقعوا السامعين في شك من أمرهن، دون أن يكون في ذلك فائدة دينية ولا دنيوية لهم، وقد أمرنا بستر العرض إذا لم يكن في ذلك مصلحة في الدين.
﴿ والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون ( ٤ ) إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴾[ النور : ٤- ٥ ].
المعنى الجملي : بعد أن نفر سبحانه من نكاح الزانيات وإنكاح الزانين وبين أن ذلك عمل لا يليق بالمؤمنين الذين أشربت قلوبهم حب الإيمان والتصديق برسله نهى هنا عن رمي المحصنات به، وشدد في عقوبته الدنيوية والأخروية، فجعل عقوبته في الدنيا الجلد وألا تقبل له شهادة أبدا، فيكون ساقط الاعتبار في نظر الناس ملغى القول لا تسمع له كلمة، وجعل عقوبته في الآخرة العذاب المؤلم الموجع إلا إذا تاب إلى الله وأناب وأصلح أعماله، فإنه يزول عنه اسم الفسوق وتقبل شهادته.
الإيضاح :
﴿ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ﴾أي إلا الذين رجعوا عما قالوا وندموا على ما تكلموا من بعد ما اجترحوا ذلك الإثم وأصلحوا حالهم.
وقد اختلف في هذا الاستثناء، أيعود إلى الجملة الأخيرة فترفع التوبة الفسق فحسب، ويبقى مردود الشهادة دائما وإن تاب ؟ وإلى هذا ذهب من السلف القاضي شريح وسعيد بن جبير وأبو حنيفة، أم يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب وجماعة من السلف، وهو رأي مالك والشافعي وأحمد، وعليه فتقبل شهادته ويرفع عنه حكم الفسق.
ثم ذكر علة قبول التوبة فقال :
﴿ فإن الله غفور رحيم ﴾أي فإن الله ستار لذنوبهم التي أقدموا عليها بعد أن تابوا منها، رحيم بهم فيزيل عنهم ذلك العار الذي لحقهم بعدم قبول شهادتهم ووسمهم بميسم الفسوق الذي وصفوا به.
﴿ والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ( ٦ ) والخمسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين ( ٧ ) ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ( ٨ ) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ( ٩ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ﴾[ النور : ٦- ١٠ ].
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه حكم قاذف الأجنبيات بالزنى وذكر أنه لا يعفى القاذف عن العقوبة إلا إذا أتى بأربعة شهداء ذكر هنا ما هو في حكم الاستثناء من ذلك، وهو قذف الزوجات، فإن الزوج القاذف يعفى من الحد إذا شهد الشهادات المبينة في الآية، لأن في تكليف الزوج إحضار الشهود وإعناتا له وإحراجا، ولما يلحقه من الغيرة على أهله ثم كظم الغيظ إذ لا يجد مخلصا من ضيقه.
روي عن ابن عباس أنه قال : لما نزل قوله تعالى :﴿ والذين يرمون المحصنات ﴾إلخ قال عاصم بن عدي الأنصاري : إن دخل منا رجل بيته فوجد رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك، فقد قضى الرجل حاجته وخرج، وإن قتله قتل به، وإن قال وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب، وإن سكت سكت
على غيظ، اللهم افتح.
وكان لعاصم هذا ابن عم يقال عويمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس، فأتى عويمر عاصما فقال : لقد رأيت شريك بن سحماء على بطن امرأتي خولة، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله ( ص ) فقال : يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي ! فقال رسول الله ( ص ) :" وما ذاك ؟ " قال : أخبرني عويمر ابن عمي أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة، وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنو عم عاصم، فدعا رسول الله ( ص ) بهم جميعا وقال لعويمر :" اتق الله في زوجتك وابن عمك ولا تقذفها ". فقال : يا رسول الله أقسم بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنها حبلى من غيري، فقال لها النبي ( ص ) :" اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت ". فقالت : يا رسول الله، إن عويمرا رجل غيور وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلي ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال : فأنزل الله هذه الآية، فأمر رسول الله ( ص ) فنودي " الصلاة جامعة " فصلى العصر ثم قال لعويمر :" قم وقل أشهد بالله إن خولة لزانية وإني لمن الصادقين ". ثم قال :" قل أشهد بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين ". ثم قال :" قل أسهد بالله إنها حبلى من غيري وإني من الصادقين " ثم قال :" قل أشهد بالله إنها زانية وإني ما قربتها منذ أربعة شهور وإني لمن الصادقين " ثم قال :" قل لعنة الله على عويمر – يعني نفسه – إن كان من الكاذبين فيما قال " ثم قال :" اقعد ". وقال لخولة :" قومي " فقامت وقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمر زوجي لمن الكاذبين، وقالت في الثانية، أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الثالثة : إني حبلى منه، وقالت في الرابعة : أشهد بالله إنه ما رآني على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الخامسة، غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله، ففرق رسول الله بينهما.
وفي رواية عن ابن عباس : أنها حين كانت تؤدي الشهادة الخامسة قالوا إنها الموجبة التي نوجب عليك العذاب فتلكأت ساعة وهمت بالإعتراف، ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة كما تقدم، فقضى رسول الله ( ص ) بينهما وألا يدعي ولدها لأب، وأن لا مسكن لها عليه ولا مؤنة، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا وفاة، فصار هذا سنة المتلاعنين وسمي عملهما " اللعان والملاعنة ".
وفي رواية إن رسول الله ( ص ) قال :" ابصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة – سحلية – فلا أراه إلا كاذبا " فجاءت به على النعت المكروه.
تفسير المفردات :
يرمون أزواجهم : أي يقذفونهن بالريبة وتهمة الزنى.
الإيضاح :
﴿ والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ﴾أي والأزواج الذين يقذفون زوجاتهم بالزنى، ولم يكن لهم شهداء يشهدون لهم بصحة ما قذفوهن به من الفاحشة، فعلى كل منهم أن يشهد أربع شهادات إنه لصادق فيما رماها به من الزنى،
﴿ والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ( ٦ ) والخمسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين ( ٧ ) ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ( ٨ ) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ( ٩ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ﴾[ النور : ٦- ١٠ ].
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه حكم قاذف الأجنبيات بالزنى وذكر أنه لا يعفى القاذف عن العقوبة إلا إذا أتى بأربعة شهداء ذكر هنا ما هو في حكم الاستثناء من ذلك، وهو قذف الزوجات، فإن الزوج القاذف يعفى من الحد إذا شهد الشهادات المبينة في الآية، لأن في تكليف الزوج إحضار الشهود وإعناتا له وإحراجا، ولما يلحقه من الغيرة على أهله ثم كظم الغيظ إذ لا يجد مخلصا من ضيقه.
روي عن ابن عباس أنه قال : لما نزل قوله تعالى :﴿ والذين يرمون المحصنات ﴾إلخ قال عاصم بن عدي الأنصاري : إن دخل منا رجل بيته فوجد رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك، فقد قضى الرجل حاجته وخرج، وإن قتله قتل به، وإن قال وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب، وإن سكت سكت
على غيظ، اللهم افتح.
وكان لعاصم هذا ابن عم يقال عويمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس، فأتى عويمر عاصما فقال : لقد رأيت شريك بن سحماء على بطن امرأتي خولة، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله ( ص ) فقال : يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي ! فقال رسول الله ( ص ) :" وما ذاك ؟ " قال : أخبرني عويمر ابن عمي أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة، وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنو عم عاصم، فدعا رسول الله ( ص ) بهم جميعا وقال لعويمر :" اتق الله في زوجتك وابن عمك ولا تقذفها ". فقال : يا رسول الله أقسم بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنها حبلى من غيري، فقال لها النبي ( ص ) :" اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت ". فقالت : يا رسول الله، إن عويمرا رجل غيور وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلي ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال : فأنزل الله هذه الآية، فأمر رسول الله ( ص ) فنودي " الصلاة جامعة " فصلى العصر ثم قال لعويمر :" قم وقل أشهد بالله إن خولة لزانية وإني لمن الصادقين ". ثم قال :" قل أشهد بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين ". ثم قال :" قل أسهد بالله إنها حبلى من غيري وإني من الصادقين " ثم قال :" قل أشهد بالله إنها زانية وإني ما قربتها منذ أربعة شهور وإني لمن الصادقين " ثم قال :" قل لعنة الله على عويمر – يعني نفسه – إن كان من الكاذبين فيما قال " ثم قال :" اقعد ". وقال لخولة :" قومي " فقامت وقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمر زوجي لمن الكاذبين، وقالت في الثانية، أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الثالثة : إني حبلى منه، وقالت في الرابعة : أشهد بالله إنه ما رآني على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الخامسة، غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله، ففرق رسول الله بينهما.
وفي رواية عن ابن عباس : أنها حين كانت تؤدي الشهادة الخامسة قالوا إنها الموجبة التي نوجب عليك العذاب فتلكأت ساعة وهمت بالإعتراف، ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة كما تقدم، فقضى رسول الله ( ص ) بينهما وألا يدعي ولدها لأب، وأن لا مسكن لها عليه ولا مؤنة، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا وفاة، فصار هذا سنة المتلاعنين وسمي عملهما " اللعان والملاعنة ".
وفي رواية إن رسول الله ( ص ) قال :" ابصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة – سحلية – فلا أراه إلا كاذبا " فجاءت به على النعت المكروه.
تفسير المفردات :
ولعنة الله : الطرد من رحمته.
والشهادة الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما اتهمها به.
﴿ والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ( ٦ ) والخمسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين ( ٧ ) ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ( ٨ ) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ( ٩ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ﴾[ النور : ٦- ١٠ ].
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه حكم قاذف الأجنبيات بالزنى وذكر أنه لا يعفى القاذف عن العقوبة إلا إذا أتى بأربعة شهداء ذكر هنا ما هو في حكم الاستثناء من ذلك، وهو قذف الزوجات، فإن الزوج القاذف يعفى من الحد إذا شهد الشهادات المبينة في الآية، لأن في تكليف الزوج إحضار الشهود وإعناتا له وإحراجا، ولما يلحقه من الغيرة على أهله ثم كظم الغيظ إذ لا يجد مخلصا من ضيقه.
روي عن ابن عباس أنه قال : لما نزل قوله تعالى :﴿ والذين يرمون المحصنات ﴾إلخ قال عاصم بن عدي الأنصاري : إن دخل منا رجل بيته فوجد رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك، فقد قضى الرجل حاجته وخرج، وإن قتله قتل به، وإن قال وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب، وإن سكت سكت
على غيظ، اللهم افتح.
وكان لعاصم هذا ابن عم يقال عويمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس، فأتى عويمر عاصما فقال : لقد رأيت شريك بن سحماء على بطن امرأتي خولة، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله ( ص ) فقال : يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي ! فقال رسول الله ( ص ) :" وما ذاك ؟ " قال : أخبرني عويمر ابن عمي أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة، وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنو عم عاصم، فدعا رسول الله ( ص ) بهم جميعا وقال لعويمر :" اتق الله في زوجتك وابن عمك ولا تقذفها ". فقال : يا رسول الله أقسم بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنها حبلى من غيري، فقال لها النبي ( ص ) :" اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت ". فقالت : يا رسول الله، إن عويمرا رجل غيور وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلي ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال : فأنزل الله هذه الآية، فأمر رسول الله ( ص ) فنودي " الصلاة جامعة " فصلى العصر ثم قال لعويمر :" قم وقل أشهد بالله إن خولة لزانية وإني لمن الصادقين ". ثم قال :" قل أشهد بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين ". ثم قال :" قل أسهد بالله إنها حبلى من غيري وإني من الصادقين " ثم قال :" قل أشهد بالله إنها زانية وإني ما قربتها منذ أربعة شهور وإني لمن الصادقين " ثم قال :" قل لعنة الله على عويمر – يعني نفسه – إن كان من الكاذبين فيما قال " ثم قال :" اقعد ". وقال لخولة :" قومي " فقامت وقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمر زوجي لمن الكاذبين، وقالت في الثانية، أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الثالثة : إني حبلى منه، وقالت في الرابعة : أشهد بالله إنه ما رآني على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الخامسة، غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله، ففرق رسول الله بينهما.
وفي رواية عن ابن عباس : أنها حين كانت تؤدي الشهادة الخامسة قالوا إنها الموجبة التي نوجب عليك العذاب فتلكأت ساعة وهمت بالإعتراف، ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة كما تقدم، فقضى رسول الله ( ص ) بينهما وألا يدعي ولدها لأب، وأن لا مسكن لها عليه ولا مؤنة، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا وفاة، فصار هذا سنة المتلاعنين وسمي عملهما " اللعان والملاعنة ".
وفي رواية إن رسول الله ( ص ) قال :" ابصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة – سحلية – فلا أراه إلا كاذبا " فجاءت به على النعت المكروه.
تفسير المفردات :
ويدرأ : أي يدفع. والعذاب : الحج.
الإيضاح :
﴿ ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ﴾أي ويدفع عنها العقوبة الدنيوية وهي الحد أن تحلف بالله أربعة أيمان إن زوجها الذي رماها بما رماها به من الفاحشة لمن الكاذبين فيما قال، والشهادة الخامسة أن غضب الله عليها إن كان زوجها صادقا فيما اتهمها به.
وخصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله عليها تغليظا عليها، لأنها هي سبب الفجور ومنبعه، بخديعتها وإطماعها الرجل في نفسها.
وغضب الله : سخطه والبعد من فضله وإحسانه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨:حكم قذف الرجل زوجه :
﴿ والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ( ٦ ) والخمسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين ( ٧ ) ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ( ٨ ) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ( ٩ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ﴾[ النور : ٦- ١٠ ].
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه حكم قاذف الأجنبيات بالزنى وذكر أنه لا يعفى القاذف عن العقوبة إلا إذا أتى بأربعة شهداء ذكر هنا ما هو في حكم الاستثناء من ذلك، وهو قذف الزوجات، فإن الزوج القاذف يعفى من الحد إذا شهد الشهادات المبينة في الآية، لأن في تكليف الزوج إحضار الشهود وإعناتا له وإحراجا، ولما يلحقه من الغيرة على أهله ثم كظم الغيظ إذ لا يجد مخلصا من ضيقه.
روي عن ابن عباس أنه قال : لما نزل قوله تعالى :﴿ والذين يرمون المحصنات ﴾إلخ قال عاصم بن عدي الأنصاري : إن دخل منا رجل بيته فوجد رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك، فقد قضى الرجل حاجته وخرج، وإن قتله قتل به، وإن قال وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب، وإن سكت سكت
على غيظ، اللهم افتح.
وكان لعاصم هذا ابن عم يقال عويمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس، فأتى عويمر عاصما فقال : لقد رأيت شريك بن سحماء على بطن امرأتي خولة، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله ( ص ) فقال : يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي ! فقال رسول الله ( ص ) :" وما ذاك ؟ " قال : أخبرني عويمر ابن عمي أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة، وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنو عم عاصم، فدعا رسول الله ( ص ) بهم جميعا وقال لعويمر :" اتق الله في زوجتك وابن عمك ولا تقذفها ". فقال : يا رسول الله أقسم بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنها حبلى من غيري، فقال لها النبي ( ص ) :" اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت ". فقالت : يا رسول الله، إن عويمرا رجل غيور وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلي ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال : فأنزل الله هذه الآية، فأمر رسول الله ( ص ) فنودي " الصلاة جامعة " فصلى العصر ثم قال لعويمر :" قم وقل أشهد بالله إن خولة لزانية وإني لمن الصادقين ". ثم قال :" قل أشهد بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين ". ثم قال :" قل أسهد بالله إنها حبلى من غيري وإني من الصادقين " ثم قال :" قل أشهد بالله إنها زانية وإني ما قربتها منذ أربعة شهور وإني لمن الصادقين " ثم قال :" قل لعنة الله على عويمر – يعني نفسه – إن كان من الكاذبين فيما قال " ثم قال :" اقعد ". وقال لخولة :" قومي " فقامت وقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمر زوجي لمن الكاذبين، وقالت في الثانية، أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الثالثة : إني حبلى منه، وقالت في الرابعة : أشهد بالله إنه ما رآني على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الخامسة، غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله، ففرق رسول الله بينهما.
وفي رواية عن ابن عباس : أنها حين كانت تؤدي الشهادة الخامسة قالوا إنها الموجبة التي نوجب عليك العذاب فتلكأت ساعة وهمت بالإعتراف، ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة كما تقدم، فقضى رسول الله ( ص ) بينهما وألا يدعي ولدها لأب، وأن لا مسكن لها عليه ولا مؤنة، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا وفاة، فصار هذا سنة المتلاعنين وسمي عملهما " اللعان والملاعنة ".
وفي رواية إن رسول الله ( ص ) قال :" ابصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة – سحلية – فلا أراه إلا كاذبا " فجاءت به على النعت المكروه.
تفسير المفردات :
ويدرأ : أي يدفع. والعذاب : الحج.
الإيضاح :
﴿ ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ﴾أي ويدفع عنها العقوبة الدنيوية وهي الحد أن تحلف بالله أربعة أيمان إن زوجها الذي رماها بما رماها به من الفاحشة لمن الكاذبين فيما قال، والشهادة الخامسة أن غضب الله عليها إن كان زوجها صادقا فيما اتهمها به.
وخصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله عليها تغليظا عليها، لأنها هي سبب الفجور ومنبعه، بخديعتها وإطماعها الرجل في نفسها.
﴿ والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ( ٦ ) والخمسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين ( ٧ ) ويدرؤا عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ( ٨ ) والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ( ٩ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ﴾[ النور : ٦- ١٠ ].
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه حكم قاذف الأجنبيات بالزنى وذكر أنه لا يعفى القاذف عن العقوبة إلا إذا أتى بأربعة شهداء ذكر هنا ما هو في حكم الاستثناء من ذلك، وهو قذف الزوجات، فإن الزوج القاذف يعفى من الحد إذا شهد الشهادات المبينة في الآية، لأن في تكليف الزوج إحضار الشهود وإعناتا له وإحراجا، ولما يلحقه من الغيرة على أهله ثم كظم الغيظ إذ لا يجد مخلصا من ضيقه.
روي عن ابن عباس أنه قال : لما نزل قوله تعالى :﴿ والذين يرمون المحصنات ﴾إلخ قال عاصم بن عدي الأنصاري : إن دخل منا رجل بيته فوجد رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك، فقد قضى الرجل حاجته وخرج، وإن قتله قتل به، وإن قال وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب، وإن سكت سكت
على غيظ، اللهم افتح.
وكان لعاصم هذا ابن عم يقال عويمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس، فأتى عويمر عاصما فقال : لقد رأيت شريك بن سحماء على بطن امرأتي خولة، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله ( ص ) فقال : يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي ! فقال رسول الله ( ص ) :" وما ذاك ؟ " قال : أخبرني عويمر ابن عمي أنه رأى شريك بن سحماء على بطن امرأته خولة، وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بنو عم عاصم، فدعا رسول الله ( ص ) بهم جميعا وقال لعويمر :" اتق الله في زوجتك وابن عمك ولا تقذفها ". فقال : يا رسول الله أقسم بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنها حبلى من غيري، فقال لها النبي ( ص ) :" اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت ". فقالت : يا رسول الله، إن عويمرا رجل غيور وإنه رأى شريكا يطيل النظر إلي ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال : فأنزل الله هذه الآية، فأمر رسول الله ( ص ) فنودي " الصلاة جامعة " فصلى العصر ثم قال لعويمر :" قم وقل أشهد بالله إن خولة لزانية وإني لمن الصادقين ". ثم قال :" قل أشهد بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين ". ثم قال :" قل أسهد بالله إنها حبلى من غيري وإني من الصادقين " ثم قال :" قل أشهد بالله إنها زانية وإني ما قربتها منذ أربعة شهور وإني لمن الصادقين " ثم قال :" قل لعنة الله على عويمر – يعني نفسه – إن كان من الكاذبين فيما قال " ثم قال :" اقعد ". وقال لخولة :" قومي " فقامت وقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمر زوجي لمن الكاذبين، وقالت في الثانية، أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الثالثة : إني حبلى منه، وقالت في الرابعة : أشهد بالله إنه ما رآني على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين، وقالت في الخامسة، غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله، ففرق رسول الله بينهما.
وفي رواية عن ابن عباس : أنها حين كانت تؤدي الشهادة الخامسة قالوا إنها الموجبة التي نوجب عليك العذاب فتلكأت ساعة وهمت بالإعتراف، ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة كما تقدم، فقضى رسول الله ( ص ) بينهما وألا يدعي ولدها لأب، وأن لا مسكن لها عليه ولا مؤنة، من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا وفاة، فصار هذا سنة المتلاعنين وسمي عملهما " اللعان والملاعنة ".
وفي رواية إن رسول الله ( ص ) قال :" ابصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الإليتين فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة – سحلية – فلا أراه إلا كاذبا " فجاءت به على النعت المكروه.
الإيضاح :
و بعد أن ذكر حكم الرامي للمحصنات وللأزواج بين أن في هذا تفضلا بعباده ورحمة بهم فقال :
﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ﴾أي ولولا تفضله سبحانه ورحمته بكم وأنه قابل لتوبتكم في كل آن، وأنه حكيم في جميع أفعاله وأحكامه التي منها ما شرعه لكم من اللعان لفضحكم وعاجلكم بالعقوبة، ولكنه ستر عليكم ودفع عنكم الحد باللعان، إذ لو لم يشرع لكم ذلك لوجب على الزوج حد القذف، مع أن قرائن الأحوال تدل على صدقه، لأنه أعرف بحال زوجه، وأنه لا يفتري عليها، لاشتراكهما في الفضيحة، ولو جعل شهادته موجبة لحد الزنى عليها لأهمل أمرها وكثر افتراء الزوج عليها لضغينة قد تكون في نفسه من أهلها، وفي كل هذا خروج من سبق الحكمة والفضل والرحمة، ومن ثم جعل شهادات كل منهما مع الجزم بكذب أحدهما دلاءة عنه العقوبة الدنيوية، وإن كان قد ابتلي الكاذب منهما في تضاعيف شهادته بأشد مما درأه عن نفسه وهو العقاب الأخروي.
﴿ وإن الذين جاؤ بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( ١١ ) لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ( ١٢ ) لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ( ١٣ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم في عذاب عظيم ( ١٤ ) إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم م ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ( ١٥ ) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ( ١٦ ) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ( ١٧ ) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( ١٨ ) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( ١٩ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم ( ٢٠ ) * يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفاحشة والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ( ٢١ ) ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ﴾[ المؤمنون : ١١- ٢٢ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله ( ص ).
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله ( ص ) إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي " نصيبي " فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، و والله ما ا تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطىء على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في نحر الظهير، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكرى، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول :" كيف تيكم ؟ " فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل ( المناصع ) وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح – هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق – قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح، فقلت أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله ( ص ) ثم قال :" كيف تيكم ؟ " قلت أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ " قال نعم " قالت وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به ؟ فقالت : أي بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت : قلت سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا و بلغ رسول الله ( ص ) ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ؟ ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها، فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية، فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله ( ص ) علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله ( ص ) بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية – يعني بريرة – تصدقك، فدعا رسول الله ( ص ) بريرة فقالت : هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمر أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله ( ص ) من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي فقال وهو على المنبر :" يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وغن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية، فقال : أي سعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعي بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ( ص ) قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ثم أتاني رسول الله ( ص ) وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله ( ص ) ثم جلس عندي ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل. وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت فتشهد رسول الله ( ص ) حين جلس ثم قال :" أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ". فلما قضى رسول الله ( ص ) مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله ( ص ) فيما قال، قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله ( ص )، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، وإني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم ان تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني. وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف﴿ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ﴾[ يوسف : ١٨ ] ثم توليت فاضطجعت على فراشي وأنا والله أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكني كنت أرجوا أن يرى رسول الله ( ص ) في المنام رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله ( ص ) مجلسه ولا خرج من بيت أحد حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سري عن رسول الله ( ص ) وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :" أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك ". فقالت لي أمي : قومي إليه، فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله :﴿ إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم ﴾ العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله :﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ﴾إلى قوله﴿ غفور رحيم ﴾ فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله ( ص ) يسأل بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله ( ص ) المبرأة من السماء.
تفسير المفردات :
الإفك : أبلغ الكذب والافتراء. والعصبة : الجماعة، وكثر إطلاقها على العشرة فما فوقها إلى الأربعين، وقد عدت عائشة منها المنافق عبد الله بن أبي سلول وقد تولى كبره، وحمنة بنت جحش أخت أم المؤمنين زينب رضي الله عنها وزوج طلحة بن عبيد الله، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت. كبره : بكسر الكاف وضمها وسكون الباء، أي معظمه فقد كان يجمعه ويذيعه ويشيعه.
الإيضاح :
﴿ إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم ﴾أي إن الذين جاؤوا بالكذب والبهتان جماعة منكم أيها المؤمنون تعاونوا وأجمعوا أمرهم على إعلانه وإذاعته بين الناس لمقاصد لهم أخفوها والله عليم بما يفعلون.
وفي التعبير : ب﴿ عصبة ﴾ بيان أن هؤلاء شرذمة قليلون، وأنهم هم الذين ينشرونه، لا أنهم عدد كثير من الناس.
﴿ لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ﴾ أي لا تظنوا أن فيه فتنة وشرا، بل هو خير لكم، لاكتسابكم به الثواب العظيم، لأنه كان بلاء مبينا ومحنة ظاهرة، وإظهار كرامتكم على الله بإنزال قرآن يتلى مدى الدهر في براءتكم و تعظيم شأنكم، و تهويل الوعيد لمن تكلم فيكم و الثناء على من ظن بكم خيرا، إلى نحو ذلك من الفوائد الدينية والآداب التي لا تخفى على من تأملها.
ثم ذكر عقاب من اجترحوه كل منهم بقدر ما خاض فيه فقال :
﴿ لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم ﴾أي لكل امرىء منهم جزاء ما اجترح من الإثم بقدر ما خاض فيه، فإن بعضهم تكلم، وبعضهم ضحك كالمسرور الراضي بما سمع، وبعضهم أقل، وبعضهم أكثر.
﴿ والذي تولى كبره منهم عذاب عظيم ﴾ أي والذي تحمل معظم ذلك الإثم منهم وهو عبد الله بن أبي – عليه اللعنة – له عذاب عظيم في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فبإظهار نفاقه على رؤوس الأشهاد، وأما في الآخرة فبعذاب لا يقدر قدره إلا العليم الحكيم.
وقد كان هو أول من اختلقه لإمعانه في عداوة رسول الله ( ص ). وقال الضحاك : الذي تولى كبره حسان ومسطح فجلدهما ( ص ) حين أنزل الله عذرها، وجلد معهما امرأة من قريش، وإنما أضاف الكبر إليه، لأنه ابتدأ بذلك القول، لا جرم حصل له من العقاب مثل ما حصل لكل من قال ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام :" من سن سيئة كان عليه وزرها من عمل بها إلى يوم القيامة ".
﴿ وإن الذين جاؤ بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( ١١ ) لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ( ١٢ ) لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ( ١٣ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم في عذاب عظيم ( ١٤ ) إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم م ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ( ١٥ ) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ( ١٦ ) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ( ١٧ ) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( ١٨ ) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( ١٩ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم ( ٢٠ ) * يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفاحشة والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ( ٢١ ) ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ﴾[ المؤمنون : ١١- ٢٢ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله ( ص ).
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله ( ص ) إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي " نصيبي " فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، و والله ما ا تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطىء على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في نحر الظهير، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكرى، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول :" كيف تيكم ؟ " فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل ( المناصع ) وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح – هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق – قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح، فقلت أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله ( ص ) ثم قال :" كيف تيكم ؟ " قلت أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ " قال نعم " قالت وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به ؟ فقالت : أي بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت : قلت سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا و بلغ رسول الله ( ص ) ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ؟ ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها، فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية، فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله ( ص ) علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله ( ص ) بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية – يعني بريرة – تصدقك، فدعا رسول الله ( ص ) بريرة فقالت : هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمر أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله ( ص ) من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي فقال وهو على المنبر :" يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وغن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية، فقال : أي سعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعي بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ( ص ) قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ثم أتاني رسول الله ( ص ) وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله ( ص ) ثم جلس عندي ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل. وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت فتشهد رسول الله ( ص ) حين جلس ثم قال :" أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ". فلما قضى رسول الله ( ص ) مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله ( ص ) فيما قال، قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله ( ص )، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، وإني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم ان تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني. وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف﴿ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ﴾[ يوسف : ١٨ ] ثم توليت فاضطجعت على فراشي وأنا والله أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكني كنت أرجوا أن يرى رسول الله ( ص ) في المنام رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله ( ص ) مجلسه ولا خرج من بيت أحد حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سري عن رسول الله ( ص ) وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :" أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك ". فقالت لي أمي : قومي إليه، فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله :﴿ إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم ﴾ العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله :﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ﴾إلى قوله﴿ غفور رحيم ﴾ فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله ( ص ) يسأل بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله ( ص ) المبرأة من السماء.
تفسير المفردات :
لولا : كلمة بمعنى هلا تفيد الحث على فعل ما بعدها. مبين : أي ظاهر مكشوف.
الإيضاح :
ثم عاتب الله أهل الإيمان به فيما وقع في أنفسهم من إرجاف من أرجف في أمر عائشة وزجرهم بتسعة أمور :
( ١ ) ﴿ ولولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ﴾أي هلا إذ سمعتم ما قال أهل الإفك في عائشة ظننتم بمن اتهم بذلك خيرا، لأن الإيمان يحملكم على إحسان الظن، ويكفكم عن إساءتكم أنفسكم أي أمثالكم من المؤمنين الذين هم كأنفسكم كما قال ﴿ ولا تلمزوا أنفسكم ﴾[ الحجرات : ١١ ] وقال﴿ فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ﴾[ النور : ٦١ ] وهلا قلتم حينئذ : هذا كذب ظاهر مكشوف ؟ فإن الذي وقع لم يكن فيه ما يرتاب منه، ذاك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جهرة على راحلة صفوان وقت الظهيرة والجيش أجمعه يشاهد ذلك، ورسول الله بين أظهرهم ينفي كل شك، وإنما قيل ما قيل لحسد في القلوب كامن، وبغض في النفس مكتوم.
﴿ وإن الذين جاؤ بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( ١١ ) لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ( ١٢ ) لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ( ١٣ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم في عذاب عظيم ( ١٤ ) إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم م ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ( ١٥ ) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ( ١٦ ) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ( ١٧ ) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( ١٨ ) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( ١٩ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم ( ٢٠ ) * يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفاحشة والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ( ٢١ ) ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ﴾[ المؤمنون : ١١- ٢٢ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله ( ص ).
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله ( ص ) إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي " نصيبي " فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، و والله ما ا تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطىء على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في نحر الظهير، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكرى، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول :" كيف تيكم ؟ " فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل ( المناصع ) وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح – هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق – قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح، فقلت أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله ( ص ) ثم قال :" كيف تيكم ؟ " قلت أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ " قال نعم " قالت وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به ؟ فقالت : أي بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت : قلت سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا و بلغ رسول الله ( ص ) ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ؟ ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها، فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية، فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله ( ص ) علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله ( ص ) بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية – يعني بريرة – تصدقك، فدعا رسول الله ( ص ) بريرة فقالت : هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمر أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله ( ص ) من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي فقال وهو على المنبر :" يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وغن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية، فقال : أي سعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعي بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ( ص ) قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ثم أتاني رسول الله ( ص ) وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله ( ص ) ثم جلس عندي ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل. وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت فتشهد رسول الله ( ص ) حين جلس ثم قال :" أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ". فلما قضى رسول الله ( ص ) مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله ( ص ) فيما قال، قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله ( ص )، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، وإني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم ان تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني. وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف﴿ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ﴾[ يوسف : ١٨ ] ثم توليت فاضطجعت على فراشي وأنا والله أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكني كنت أرجوا أن يرى رسول الله ( ص ) في المنام رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله ( ص ) مجلسه ولا خرج من بيت أحد حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سري عن رسول الله ( ص ) وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :" أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك ". فقالت لي أمي : قومي إليه، فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله :﴿ إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم ﴾ العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله :﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ﴾إلى قوله﴿ غفور رحيم ﴾ فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله ( ص ) يسأل بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله ( ص ) المبرأة من السماء.
الإيضاح :
ثم علل سبحانه كذب الآفكين ووبخهم على ما اختلقوه وأذاعوه بقوله :
( ٢ ) ﴿ لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء ﴾أي هلا جاء الخائضون في الإفك بأربعة شهداء يشهدون على ثبوت ما قالوا وما رموها به.
﴿ فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ﴾أي فحين لم يقيموا بينة على ما قالوا فأولئك المفسدون هم الكاذبون في حكم الله وشرعه.
﴿ وإن الذين جاؤ بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( ١١ ) لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ( ١٢ ) لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ( ١٣ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم في عذاب عظيم ( ١٤ ) إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم م ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ( ١٥ ) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ( ١٦ ) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ( ١٧ ) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( ١٨ ) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( ١٩ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم ( ٢٠ ) * يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفاحشة والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ( ٢١ ) ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ﴾[ المؤمنون : ١١- ٢٢ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله ( ص ).
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله ( ص ) إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي " نصيبي " فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، و والله ما ا تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطىء على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في نحر الظهير، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكرى، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول :" كيف تيكم ؟ " فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل ( المناصع ) وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح – هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق – قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح، فقلت أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله ( ص ) ثم قال :" كيف تيكم ؟ " قلت أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ " قال نعم " قالت وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به ؟ فقالت : أي بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت : قلت سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا و بلغ رسول الله ( ص ) ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ؟ ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها، فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية، فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله ( ص ) علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله ( ص ) بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية – يعني بريرة – تصدقك، فدعا رسول الله ( ص ) بريرة فقالت : هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمر أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله ( ص ) من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي فقال وهو على المنبر :" يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وغن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية، فقال : أي سعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعي بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ( ص ) قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ثم أتاني رسول الله ( ص ) وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله ( ص ) ثم جلس عندي ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل. وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت فتشهد رسول الله ( ص ) حين جلس ثم قال :" أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ". فلما قضى رسول الله ( ص ) مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله ( ص ) فيما قال، قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله ( ص )، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، وإني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم ان تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني. وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف﴿ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ﴾[ يوسف : ١٨ ] ثم توليت فاضطجعت على فراشي وأنا والله أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكني كنت أرجوا أن يرى رسول الله ( ص ) في المنام رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله ( ص ) مجلسه ولا خرج من بيت أحد حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سري عن رسول الله ( ص ) وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :" أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك ". فقالت لي أمي : قومي إليه، فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله :﴿ إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم ﴾ العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله :﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ﴾إلى قوله﴿ غفور رحيم ﴾ فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله ( ص ) يسأل بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله ( ص ) المبرأة من السماء.
تفسير المفردات :
أفضتم : أي خضتم في حديث الإفك.
الإيضاح :
( ٣ ) ﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم ﴾أي ولولا تفضله سبحانه عليكم في الدنيا بضروب النعم التي من أجلها الإمهال للتوبة، ورحمته في الآخرة بالعفو بعد التوبة لعجل لكم العقاب في الدنيا من جراء ما خضتم فيه من حديث الإفك والبهتان.
﴿ وإن الذين جاؤ بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( ١١ ) لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ( ١٢ ) لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ( ١٣ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم في عذاب عظيم ( ١٤ ) إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم م ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ( ١٥ ) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ( ١٦ ) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ( ١٧ ) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( ١٨ ) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( ١٩ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم ( ٢٠ ) * يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفاحشة والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ( ٢١ ) ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ﴾[ المؤمنون : ١١- ٢٢ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله ( ص ).
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله ( ص ) إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي " نصيبي " فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، و والله ما ا تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطىء على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في نحر الظهير، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكرى، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول :" كيف تيكم ؟ " فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل ( المناصع ) وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح – هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق – قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح، فقلت أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله ( ص ) ثم قال :" كيف تيكم ؟ " قلت أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ " قال نعم " قالت وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به ؟ فقالت : أي بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت : قلت سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا و بلغ رسول الله ( ص ) ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ؟ ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها، فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية، فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله ( ص ) علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله ( ص ) بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية – يعني بريرة – تصدقك، فدعا رسول الله ( ص ) بريرة فقالت : هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمر أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله ( ص ) من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي فقال وهو على المنبر :" يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وغن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية، فقال : أي سعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعي بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ( ص ) قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ثم أتاني رسول الله ( ص ) وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله ( ص ) ثم جلس عندي ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل. وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت فتشهد رسول الله ( ص ) حين جلس ثم قال :" أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ". فلما قضى رسول الله ( ص ) مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله ( ص ) فيما قال، قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله ( ص )، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، وإني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم ان تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني. وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف﴿ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ﴾[ يوسف : ١٨ ] ثم توليت فاضطجعت على فراشي وأنا والله أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكني كنت أرجوا أن يرى رسول الله ( ص ) في المنام رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله ( ص ) مجلسه ولا خرج من بيت أحد حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سري عن رسول الله ( ص ) وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :" أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك ". فقالت لي أمي : قومي إليه، فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله :﴿ إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم ﴾ العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله :﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ﴾إلى قوله﴿ غفور رحيم ﴾ فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله ( ص ) يسأل بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله ( ص ) المبرأة من السماء.
تفسير المفردات :
تلقونه : أي تتلقونه ويأخذه بعضكم من بعض، يقال تلقى القول وتلقنه وتلقفه منه﴿ فتلقى آدم من ربه كلمات ﴾[ البقرة : ٣٧ ].
الإيضاح :
ثم بين سبحانه وقت حلول العذاب الذي كانوا يستحقونه لولا الفضل والرحمة بقوله :
( ٤ ) ﴿ إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ﴾أي ولولا تفضله ورحمته لمسكم ذلك العذاب وقت تلقيكم ما أفضتم فيه من الإفك وأخذ بعضكم إياه من بعض بالسؤال عنه، وقولكم قولا بالأفراد دون أن يكون له منشأ في القلوب يؤيده، وظنكم إياه هينا سهلا لا يعبأ به، وهو من العظائم والكبائر عند الله.
وخلاصة ذلك : إنه وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام وعلق مس العذاب العظيم بها :
( أ ) تلقى الإفك بالألسنة، فقد كان الرجل يلقى أخاه فيقول له ما وراءك، فيحدثه حديث الإفك حتى شاع وانتشر حتى لم يبق بيت ولا ناد إلا طار فيه، فهم قد فعلوا جهد المستطاع في نشره.
( ب ) إنه قول بلا روية ولا فكر، فهو قول باللسان لا يترجم عما في القلب، إذ ليس هناك علم يؤيده ولا قرائن أحوال وشواهد تصدقه.
( ج ) استصغار ذلك وحسبانه مما لا يؤبه له، وهو عند الله عظيم الوزر، مستحق لشديد العقوبة.
﴿ وإن الذين جاؤ بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( ١١ ) لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ( ١٢ ) لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ( ١٣ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم في عذاب عظيم ( ١٤ ) إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم م ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ( ١٥ ) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ( ١٦ ) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ( ١٧ ) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( ١٨ ) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( ١٩ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم ( ٢٠ ) * يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفاحشة والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ( ٢١ ) ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ﴾[ المؤمنون : ١١- ٢٢ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله ( ص ).
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله ( ص ) إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي " نصيبي " فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، و والله ما ا تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطىء على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في نحر الظهير، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكرى، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول :" كيف تيكم ؟ " فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل ( المناصع ) وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح – هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق – قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح، فقلت أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله ( ص ) ثم قال :" كيف تيكم ؟ " قلت أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ " قال نعم " قالت وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به ؟ فقالت : أي بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت : قلت سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا و بلغ رسول الله ( ص ) ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ؟ ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها، فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية، فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله ( ص ) علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله ( ص ) بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية – يعني بريرة – تصدقك، فدعا رسول الله ( ص ) بريرة فقالت : هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمر أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله ( ص ) من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي فقال وهو على المنبر :" يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وغن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية، فقال : أي سعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعي بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ( ص ) قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ثم أتاني رسول الله ( ص ) وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله ( ص ) ثم جلس عندي ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل. وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت فتشهد رسول الله ( ص ) حين جلس ثم قال :" أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ". فلما قضى رسول الله ( ص ) مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله ( ص ) فيما قال، قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله ( ص )، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، وإني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم ان تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني. وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف﴿ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ﴾[ يوسف : ١٨ ] ثم توليت فاضطجعت على فراشي وأنا والله أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكني كنت أرجوا أن يرى رسول الله ( ص ) في المنام رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله ( ص ) مجلسه ولا خرج من بيت أحد حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سري عن رسول الله ( ص ) وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :" أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك ". فقالت لي أمي : قومي إليه، فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله :﴿ إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم ﴾ العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله :﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ﴾إلى قوله﴿ غفور رحيم ﴾ فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله ( ص ) يسأل بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله ( ص ) المبرأة من السماء.
تفسير المفردات :
سبحانك : تعجب ممن تفوه به. بهتان : أي كذب يبهت سامعه ويحيره لفظاعته.
الإيضاح :
( ٥ )﴿ ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ﴾ أي وهلا حين سمعتموه ممن بدأ به وانتحله أو ممن تابعه في القول قلتم تكذيبا وتهويلا لشأن ما ارتكبه من الجرم : لا يحل لنا أن نتكلم بهذا و لا ينبغي لنا أن نتفوه به سبحانه رب هذا كذب صراح يحير السامعين، أمره، لما فيه من جرأة على بيت كريم شهير بالعفاف والطهر، ولما فيه من مس عرض ذلك البيت المقدس، بيت النبوة الذي هو في الذروة العليا من الإجلال والاحترام وعظيم المكانة، وإذ جاز الخوض فيه على هذه الشاكلة فماذا يبقى للمؤمنين بعدئذ ؟ أفليس هؤلاء هم الأسوة الحسنة، وينبوع الطهر، ومنهم يقتبس المؤمنون فضائل الدين، وشريف الأخلاق ؟ وإنا لنبرأ إليك ربنا منه وأن تلوكه ألسنتنا، وأن يحمل الهواء تلك النبرات الصوتية لتصل إلى أسماعنا، كما نبرأ إليك ربنا من كل أفاك أثيم سولت له نفسه أن يكون الوسيلة في انتشار هذا القول الكاذب بين المؤمنين.
وخلاصة هذا : تنزه ربنا أن يرضى بظلم هؤلاء القاذفين، وألا يعاقبهم على عظيم ما ارتكبوا وكبير ما اجترحوا من الإثم والفسوق، وأن توسم زوج نبيه بالفجور، والعقل والدين يمنعان الخوض في مثل هذا، لأن فيه إيذاء للنبي ( ص ) والله يقول :﴿ إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ﴾[ الأحزاب : ٥٧ ] ولأن فيه إشاعة الفاحشة التي أمر الله بسترها، ولأن في إظهار محاسن الناس وترك معايبهم تخلقا بأخلاق الله والنبي ( ص ) يقول :" تخلقوا بأخلاق الله ".
﴿ وإن الذين جاؤ بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( ١١ ) لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ( ١٢ ) لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ( ١٣ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم في عذاب عظيم ( ١٤ ) إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم م ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ( ١٥ ) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ( ١٦ ) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ( ١٧ ) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( ١٨ ) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( ١٩ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم ( ٢٠ ) * يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفاحشة والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ( ٢١ ) ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ﴾[ المؤمنون : ١١- ٢٢ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله ( ص ).
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله ( ص ) إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي " نصيبي " فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، و والله ما ا تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطىء على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في نحر الظهير، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكرى، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول :" كيف تيكم ؟ " فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل ( المناصع ) وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح – هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق – قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح، فقلت أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله ( ص ) ثم قال :" كيف تيكم ؟ " قلت أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ " قال نعم " قالت وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به ؟ فقالت : أي بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت : قلت سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا و بلغ رسول الله ( ص ) ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ؟ ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها، فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية، فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله ( ص ) علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله ( ص ) بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية – يعني بريرة – تصدقك، فدعا رسول الله ( ص ) بريرة فقالت : هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمر أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله ( ص ) من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي فقال وهو على المنبر :" يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وغن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية، فقال : أي سعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعي بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ( ص ) قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ثم أتاني رسول الله ( ص ) وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله ( ص ) ثم جلس عندي ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل. وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت فتشهد رسول الله ( ص ) حين جلس ثم قال :" أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ". فلما قضى رسول الله ( ص ) مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله ( ص ) فيما قال، قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله ( ص )، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، وإني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم ان تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني. وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف﴿ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ﴾[ يوسف : ١٨ ] ثم توليت فاضطجعت على فراشي وأنا والله أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكني كنت أرجوا أن يرى رسول الله ( ص ) في المنام رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله ( ص ) مجلسه ولا خرج من بيت أحد حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سري عن رسول الله ( ص ) وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :" أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك ". فقالت لي أمي : قومي إليه، فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله :﴿ إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم ﴾ العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله :﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ﴾إلى قوله﴿ غفور رحيم ﴾ فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله ( ص ) يسأل بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله ( ص ) المبرأة من السماء.
تفسير المفردات :
يعظكم : أي ينصحكم.
الإيضاح :
ثم حذر عباده المؤمنين أن يعودوا لمثل هذا فقال :
( ٦ ) ﴿ يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ﴾أي يعظكم الله بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب، وكبر هذا الجرم، وأن فيه النكال والعقاب بالحد في الدنيا، والعذاب في الآخرة، كي لا تعودوا لمثله أبدا إن كنتم من أهل الإيمان تتعظون بعظات الله، وتأتمرون بأمره، وتنتهون عما نهاكم عنه.
و في قوله :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾إيماء إلى أن الإيمان يمنع من فعل هذا.
﴿ وإن الذين جاؤ بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( ١١ ) لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ( ١٢ ) لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ( ١٣ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم في عذاب عظيم ( ١٤ ) إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم م ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ( ١٥ ) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ( ١٦ ) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ( ١٧ ) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( ١٨ ) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( ١٩ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم ( ٢٠ ) * يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفاحشة والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ( ٢١ ) ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ﴾[ المؤمنون : ١١- ٢٢ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله ( ص ).
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله ( ص ) إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي " نصيبي " فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، و والله ما ا تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطىء على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في نحر الظهير، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكرى، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول :" كيف تيكم ؟ " فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل ( المناصع ) وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح – هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق – قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح، فقلت أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله ( ص ) ثم قال :" كيف تيكم ؟ " قلت أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ " قال نعم " قالت وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به ؟ فقالت : أي بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت : قلت سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا و بلغ رسول الله ( ص ) ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ؟ ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها، فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية، فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله ( ص ) علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله ( ص ) بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية – يعني بريرة – تصدقك، فدعا رسول الله ( ص ) بريرة فقالت : هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمر أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله ( ص ) من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي فقال وهو على المنبر :" يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وغن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية، فقال : أي سعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعي بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ( ص ) قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ثم أتاني رسول الله ( ص ) وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله ( ص ) ثم جلس عندي ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل. وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت فتشهد رسول الله ( ص ) حين جلس ثم قال :" أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ". فلما قضى رسول الله ( ص ) مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله ( ص ) فيما قال، قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله ( ص )، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، وإني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم ان تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني. وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف﴿ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ﴾[ يوسف : ١٨ ] ثم توليت فاضطجعت على فراشي وأنا والله أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكني كنت أرجوا أن يرى رسول الله ( ص ) في المنام رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله ( ص ) مجلسه ولا خرج من بيت أحد حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سري عن رسول الله ( ص ) وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :" أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك ". فقالت لي أمي : قومي إليه، فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله :﴿ إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم ﴾ العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله :﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ﴾إلى قوله﴿ غفور رحيم ﴾ فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله ( ص ) يسأل بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله ( ص ) المبرأة من السماء.
الإيضاح :
﴿ ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ﴾أي ويفصل الله لكم في كتابه، آيات التشريع ومحاسن الفضائل والآداب، وهو العليم بكم، لا يخفى عليه شيء منها، فيجازي المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. الحكيم في تدبير شؤونكم وفيما كلفكم به، مما فيه سعادتكم في معاشكم ومعادكم، وبه تسمو نفوسكم وترقى إلى عالم الأرواح، وتكونون خير الأمم في سياسة الشعوب وعمارة الأرض، وإقامة ميزان العدل بين أفرادها﴿ وعد اله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ﴾[ النور : ٥٥ ] ولقد صدق الله وعده وعمر أسلافنا الأولون ما كان معروفا في ذلك الحين وبثوا فيه فضائل الدين وسماحته حتى صاروا مضرب الأمثال، فلما انحرفوا عن الصراط السوي، والنهج القويم، تقلص ظلهم، وذهب ريحهم، وصاروا أذلاء مستبعدين بعد أن كانوا السادة الحاكمين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
﴿ وإن الذين جاؤ بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( ١١ ) لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ( ١٢ ) لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ( ١٣ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم في عذاب عظيم ( ١٤ ) إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم م ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ( ١٥ ) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ( ١٦ ) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ( ١٧ ) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( ١٨ ) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( ١٩ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم ( ٢٠ ) * يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفاحشة والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ( ٢١ ) ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ﴾[ المؤمنون : ١١- ٢٢ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله ( ص ).
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله ( ص ) إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي " نصيبي " فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، و والله ما ا تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطىء على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في نحر الظهير، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكرى، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول :" كيف تيكم ؟ " فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل ( المناصع ) وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح – هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق – قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح، فقلت أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله ( ص ) ثم قال :" كيف تيكم ؟ " قلت أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ " قال نعم " قالت وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به ؟ فقالت : أي بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت : قلت سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا و بلغ رسول الله ( ص ) ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ؟ ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها، فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية، فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله ( ص ) علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله ( ص ) بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية – يعني بريرة – تصدقك، فدعا رسول الله ( ص ) بريرة فقالت : هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمر أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله ( ص ) من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي فقال وهو على المنبر :" يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وغن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية، فقال : أي سعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعي بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ( ص ) قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ثم أتاني رسول الله ( ص ) وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله ( ص ) ثم جلس عندي ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل. وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت فتشهد رسول الله ( ص ) حين جلس ثم قال :" أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ". فلما قضى رسول الله ( ص ) مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله ( ص ) فيما قال، قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله ( ص )، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، وإني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم ان تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني. وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف﴿ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ﴾[ يوسف : ١٨ ] ثم توليت فاضطجعت على فراشي وأنا والله أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكني كنت أرجوا أن يرى رسول الله ( ص ) في المنام رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله ( ص ) مجلسه ولا خرج من بيت أحد حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سري عن رسول الله ( ص ) وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :" أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك ". فقالت لي أمي : قومي إليه، فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله :﴿ إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم ﴾ العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله :﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ﴾إلى قوله﴿ غفور رحيم ﴾ فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله ( ص ) يسأل بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله ( ص ) المبرأة من السماء.
تفسير المفردات :
تشيع : أي تنتشر. الفاحشة : الخصلة المفرطة في القبح و هي الزنى. و خطوات : أي ينصحكم. تشيع : أي تنتشر. الفاحشة : الخصلة المفرطة في القبح وهي الزنى.
الإيضاح :
و لما كان من أنفع المواعظ بيان ما يستحقه المذنب من العقاب على جرمه بين ذلك بقوله :
( ٧ ) ﴿ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ﴾أي إن الذين يحبون أن يذيع الزنى في المحصنين والمحصنات من المؤمنين والمؤمنات، لهم عذاب موجع في الدنيا بإقامة الحد عليهم واللعن والذم من الناس، وفي الآخرة بعذاب الناس وبئس القرار.
و في الصحيح أن رسول الله ( ص ) قال :" المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ".
وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال :" لا يستر عبد مؤمن عورة عبد مؤمن إلا ستره الله يوم القيامة، ومن أقال عثرة مسلم أقال الله عثرته يوم القيامة ".
﴿ والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾فردوا الأمور إلى ربكم ترشدوا، ولا ترووا ما لا علم لكم به، ولا سيما حلائل رسول الله ( ص ) فتهلكوا.
﴿ وإن الذين جاؤ بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( ١١ ) لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ( ١٢ ) لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ( ١٣ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم في عذاب عظيم ( ١٤ ) إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم م ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ( ١٥ ) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ( ١٦ ) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ( ١٧ ) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( ١٨ ) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( ١٩ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم ( ٢٠ ) * يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفاحشة والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ( ٢١ ) ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ﴾[ المؤمنون : ١١- ٢٢ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله ( ص ).
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله ( ص ) إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي " نصيبي " فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، و والله ما ا تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطىء على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في نحر الظهير، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكرى، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول :" كيف تيكم ؟ " فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل ( المناصع ) وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح – هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق – قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح، فقلت أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله ( ص ) ثم قال :" كيف تيكم ؟ " قلت أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ " قال نعم " قالت وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به ؟ فقالت : أي بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت : قلت سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا و بلغ رسول الله ( ص ) ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ؟ ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها، فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية، فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله ( ص ) علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله ( ص ) بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية – يعني بريرة – تصدقك، فدعا رسول الله ( ص ) بريرة فقالت : هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمر أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله ( ص ) من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي فقال وهو على المنبر :" يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وغن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية، فقال : أي سعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعي بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ( ص ) قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ثم أتاني رسول الله ( ص ) وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله ( ص ) ثم جلس عندي ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل. وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت فتشهد رسول الله ( ص ) حين جلس ثم قال :" أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ". فلما قضى رسول الله ( ص ) مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله ( ص ) فيما قال، قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله ( ص )، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، وإني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم ان تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني. وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف﴿ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ﴾[ يوسف : ١٨ ] ثم توليت فاضطجعت على فراشي وأنا والله أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكني كنت أرجوا أن يرى رسول الله ( ص ) في المنام رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله ( ص ) مجلسه ولا خرج من بيت أحد حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سري عن رسول الله ( ص ) وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :" أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك ". فقالت لي أمي : قومي إليه، فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله :﴿ إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم ﴾ العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله :﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ﴾إلى قوله﴿ غفور رحيم ﴾ فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله ( ص ) يسأل بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله ( ص ) المبرأة من السماء.
الإيضاح :
ثم كرر فضله ورحمته على عباده للمنة عليهم بترك المعاجلة بالعقاب فقال :
( ٨ ) ﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم ﴾أي ولولا أن الله تفضل عليكم وأبقاكم بعد الخوض في الإفك ومكنكم من التلافي بالتوبة لهلكتم، لكنه لرأفته بعباده لا يدع ما هو أصلح للعبد وإن جنى على نفسه.
﴿ وإن الذين جاؤ بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( ١١ ) لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ( ١٢ ) لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ( ١٣ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم في عذاب عظيم ( ١٤ ) إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم م ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ( ١٥ ) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ( ١٦ ) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ( ١٧ ) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( ١٨ ) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( ١٩ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم ( ٢٠ ) * يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفاحشة والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ( ٢١ ) ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ﴾[ المؤمنون : ١١- ٢٢ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله ( ص ).
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله ( ص ) إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي " نصيبي " فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، و والله ما ا تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطىء على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في نحر الظهير، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكرى، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول :" كيف تيكم ؟ " فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل ( المناصع ) وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح – هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق – قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح، فقلت أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله ( ص ) ثم قال :" كيف تيكم ؟ " قلت أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ " قال نعم " قالت وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به ؟ فقالت : أي بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت : قلت سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا و بلغ رسول الله ( ص ) ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ؟ ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها، فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية، فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله ( ص ) علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله ( ص ) بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية – يعني بريرة – تصدقك، فدعا رسول الله ( ص ) بريرة فقالت : هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمر أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله ( ص ) من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي فقال وهو على المنبر :" يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وغن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية، فقال : أي سعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعي بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ( ص ) قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ثم أتاني رسول الله ( ص ) وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله ( ص ) ثم جلس عندي ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل. وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت فتشهد رسول الله ( ص ) حين جلس ثم قال :" أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ". فلما قضى رسول الله ( ص ) مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله ( ص ) فيما قال، قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله ( ص )، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، وإني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم ان تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني. وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف﴿ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ﴾[ يوسف : ١٨ ] ثم توليت فاضطجعت على فراشي وأنا والله أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكني كنت أرجوا أن يرى رسول الله ( ص ) في المنام رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله ( ص ) مجلسه ولا خرج من بيت أحد حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سري عن رسول الله ( ص ) وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :" أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك ". فقالت لي أمي : قومي إليه، فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله :﴿ إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم ﴾ العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله :﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ﴾إلى قوله﴿ غفور رحيم ﴾ فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله ( ص ) يسأل بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله ( ص ) المبرأة من السماء.
تفسير المفردات :
و خطوات : واحدها خطوة بالضم، ما بين القدمين من المسافة. ويراد بها نزغات الشيطان ووساوسه. و المنكر : ما تنكره النفوس فتنفر منه. زكا : أي ظهر من دنس الذنوب.
الإيضاح :
وبعدئذ حذر عباده من اتباع وساوس الشيطان فقال :
( ٩ ) ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ﴾أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله لا تسلكوا سبل الشيطان وطرقه، ولا تقتفوا آثاره، بإشاعتكم الفحشاء في الذين آمنوا، و إذاعتكموها فيهم، بروايتكم إياها عمن نقلها إليكم.
ثم ذكر سبب النهي فقال :
﴿ ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ﴾أي ومن اتبع الشيطان ارتكب الفحشاء والمنكر، فإنه لا يأمر إلا بهما، ومن ها شأنه لا ينبغي اتباعه ولا طاعته.
ثم أكد منته على عباده فقال :
﴿ ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا ﴾أي ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم بتوفيقكم للتوبة التي تمحو الذنوب وتغسل أدرانها ما طهر أحد منكم من ذنبه وكانت عاقبته النكال والوبال، ولعاجلكم بالعقوبة كما قال :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ﴾[ فاطر : ٤٥ ].
﴿ ولكن الله يزكي من يشاء ﴾أي ولكن الله جلت قدرته يطهر من يشاء من خلقه بقبول توبتهم من تلك الذنوب التي اجترحوها تفضلا منه ورحمة كما فعل بمن سلم من داء النفاق ممن وقع في حديث الإفك كحسان ومسطح وغيرهما.
﴿ والله سميع عليم ﴾ أي و الله سميع لما تقولون بأفواهكم من القذف وإثبات البراءة، عليم بما في قلوبكم من محبة إشاعة الفاحشة أو كراهتها، ومجازيكم بكل ذلك.
و في هذا حث لهم على الإخلاص في التوبة، والابتعاد جهد المستطاع عن المعصية، و ارتكاب الأوزار والآثام.
﴿ وإن الذين جاؤ بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( ١١ ) لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين ( ١٢ ) لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ( ١٣ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما أفضتم في عذاب عظيم ( ١٤ ) إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم م ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم ( ١٥ ) ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم ( ١٦ ) يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ( ١٧ ) ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( ١٨ ) إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( ١٩ ) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم ( ٢٠ ) * يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفاحشة والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم ( ٢١ ) ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ﴾[ المؤمنون : ١١- ٢٢ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه حكم من قذف الأجنبيات، وحكم من قذف الزوجات، ذكر في هذه الآيات العشر براءة عائشة أم المؤمنين مما رماها به أهل الإفك والبهتان من المنافقين، صيانة لعرض رسول الله ( ص ).
ومجمل القصص ما رواه البخاري وغيره عن عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة قالت :
كان رسول الله ( ص ) إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرجت قرعتها استصحبها، فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي " نصيبي " فخرجت معه بعد نزول آية الحجاب فحملت في هودج فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلا ثم نودي بالرحيل، فقمت ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقدي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيها داع ولا مجيب، فتيممت منزلي وظننت أنهم سيفقدونني ويعودون في طلبي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلما رآني عرفني فاستيقظت باسترجاعه، فخمرت وجهي بجلبابي، و والله ما ا تكلمت بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته فوطىء على يديها، فقمت إليها فركبتها وانطلق يقود بالراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا في نحر الظهير، وافتقدني الناس حين نزلوا وماج القوم في ذكرى، فبينا الناس كذلك إذ هجمت عليهم فخاضوا في حديثي فهلك من هلك، وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، ويريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل فيسلم ثم يقول :" كيف تيكم ؟ " فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت بعد ما نقهت، وخرجت مع أم مسطح قبل ( المناصع ) وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأم مسطح – هي ابنة أبي رهم بن المطلب بن عبد المطلب بن عبد مناف، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق – قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح، فقلت أتسبين رجلا قد شهد بدرا ؟ فقالت : أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال ؟ قلت : وما قال ؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي فلما رجعت إلى منزلي ودخل علي رسول الله ( ص ) ثم قال :" كيف تيكم ؟ " قلت أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ " قال نعم " قالت وأنا حينئذ أريد أن أستثبت الخبر من قبلهما، فجئت أبوي فقلت لأمي : أي أماه، ماذا يتحدث الناس به ؟ فقالت : أي بنية هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها. قالت : قلت سبحان الله، أو قد تحدث الناس بهذا و بلغ رسول الله ( ص ) ؟ قالت : نعم، قالت : فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ؟ ثم أصبحت فدخل علي أبو بكر وأنا أبكي، فقال لأمي : ما يبكيها ؟ قالت : لم تكن علمت ما قيل لها، فأكب يبكي، فبكى ساعة ثم قال : اسكتي يا بنية، فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم بكيت ليلي المقبل لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى ظن أبواي أن البكاء سيفلق كبدي، ودعا رسول الله ( ص ) علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله، قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله ( ص ) بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي في نفسه من الود، فقال : يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا، وأما علي فقال : لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية – يعني بريرة – تصدقك، فدعا رسول الله ( ص ) بريرة فقالت : هل رأيت من شيء يريبك من عائشة ؟ قالت : والذي بعثك بالحق ما رأيت عليها أمر أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدواجن فتأكله، فقام رسول الله ( ص ) من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي فقال وهو على المنبر :" يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال : أنا أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وغن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية، فقال : أي سعد بن معاذ لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله، ولو كان من أهلك ما أحببت أن يقتل، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعي بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله ( ص ) قائم على المنبر، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا ثم أتاني رسول الله ( ص ) وأنا في بيت أبوي، فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، قالت فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله ( ص ) ثم جلس عندي ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل. وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت فتشهد رسول الله ( ص ) حين جلس ثم قال :" أما بعد يا عائشة فإنه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه ". فلما قضى رسول الله ( ص ) مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه دمعة، قلت لأبي : أجب عني رسول الله ( ص ) فيما قال، قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله ( ص )، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( ص )، قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن، وإني والله قد عرفت أن قد سمعتم بهذا حتى استقر في أنفسكم حتى كدتم ان تصدقوا به، فإن قلت لكم إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني. وإني والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف﴿ فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ﴾[ يوسف : ١٨ ] ثم توليت فاضطجعت على فراشي وأنا والله أعلم أني بريئة، وأن الله سيبرئني ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، ولكني كنت أرجوا أن يرى رسول الله ( ص ) في المنام رؤيا يبرئني الله بها، قالت : والله ما رام رسول الله ( ص ) مجلسه ولا خرج من بيت أحد حتى أنزل الله على نبيه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل القول الذي ينزل عليه، قالت : فلما سري عن رسول الله ( ص ) وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال :" أبشري يا عائشة، إن الله قد برأك ". فقالت لي أمي : قومي إليه، فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله :﴿ إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم ﴾ العشر الآيات كلها، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله :﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة ﴾إلى قوله﴿ غفور رحيم ﴾ فقال أبو بكر : إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال لا أنزعها منه أبدا.
قالت عائشة : وكان رسول الله ( ص ) يسأل بنت جحش عن أمري وما سمعت، فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما رأيت إلا خيرا.
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني، فعصمها الله بالورع، وطفقت أختها حمنة تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله ( ص ) المبرأة من السماء.
تفسير المفردات :
ولا يأتل : أي لا يحلف. الفضل : الزيادة في الدين. السعة : الغنى.
الإيضاح :
﴿ ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ﴾أي ولا يحلف من كان ذا فضل وسعة منكم أيها المؤمنون بالله، ألا يعطوا ذوي قرابتهم المساكين المهاجرين كمسطح ابن خالة أبي بكر الذي كان فقيرا وهاجر من مكة إلى المدينة وشهد مع رسول الله بدرا.
روي أن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفع مسطح بن أثاثة بنافعة أبدا بعد ما قال في عائشة ما قال :
ذاك أنه بعد أن أنزلت براءة عائشة وطابت النفوس وتاب الله على من تكلم من المؤمنين في ذلك وأقيم الحد على من أقيم عليه، تفضل وله الحمد والمنة فعطف الصديق على قريبه مسطح وكان ابن خالته وكان مسكينا لا مال له وكان من المهاجرين في سبيل الله وقد زلق زلقة تاب الله عليه منها وضرب الحد عليها.
﴿ ليعفوا وليصفحوا ﴾أي وليتركوا عقوبتهم على ذلك بحرمانهم مما كانوا يؤتونهم وليعودوا لهم إلى مثل الذي كان لهم عليهم من الإفضال.
ثم رغبهم في العفو والتفضل فقال :
﴿ ألا تحبون أن يغفر الله لكم ﴾أي ألا تحبون أن يستر الله عليكم ذنوبكم بإفضاله عليكم، والجزاء من جنس العمل، فكما تغفر ذنب من أذنب إليك، يغفر الله لك، وكما تصفح يصفح الله عنك، فحينئذ قال الصديق : بلى والله نحب أن تغفر لنا ربنا، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة وقال والله لا أنزعها منه أبدا.
﴿ و الله غفور رحيم ﴾أي والله غفور لذنوب من أطاعه واتبع أمره، رحيم به أن يعذبه على ما كان له من زلة قد استغفر منها وتاب إليه من فعلها.
وفي هذا ترغيب عظيم في العفو، ووعد كريم عليه بالمغفرة من الذنوب وحث على مكارم الأخلاق.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر قصص أم المؤمنين عائشة و بين عقاب من اتهمها بالإفك وشديد عذابه يوم القيامة وأسهب في هذا، أعقب ذلك ببيان حكم عام وهو أن كل من اتهم محصنة مؤمنة غافلة بالخنا والفجور فهو مطرود من رحمة الله، بعبد عن دار نعيمه، معذب في جهنم إلا إذا تاب وأحسن التوبة وعمل صالحا.
تفسير المفردات :
المحصنات : العفيفات. الغافلات : أي عن الفواحش وهن النقيات القلوب اللاتي لا يفكرن في فعلها. لعنوا : أي طردوا من رحمة الله في الآخرة وعذبوا في الدنيا بالحد.
الإيضاح :
﴿ والذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم ﴾أي إن الذين يتهمون بالفاحشة العفيفات الغافلات عنها المؤمنات بالله ورسوله يبعدون من رحمة الله في الدنيا والآخرة، ولهم في الآخرة عذاب عظيم جزاء ما اقترفوا من جناياتهم، فهم مصدر قالة السوء في المؤمنات، وإشاعة الفاحشة بين المؤمنين والقدوة السيئة لمن يتكلم بها، فعليهم وزرها من تكلم بها كما ورد في الحديث :" من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ".
المعنى الجملي : بعد أن ذكر قصص أم المؤمنين عائشة و بين عقاب من اتهمها بالإفك وشديد عذابه يوم القيامة وأسهب في هذا، أعقب ذلك ببيان حكم عام وهو أن كل من اتهم محصنة مؤمنة غافلة بالخنا والفجور فهو مطرود من رحمة الله، بعبد عن دار نعيمه، معذب في جهنم إلا إذا تاب وأحسن التوبة وعمل صالحا.
الإيضاح :
﴿ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ﴾أي ولهم ذلك العذاب الذي لا يقدر قدره يوم يجحدون ما اكتسبوا في الدنيا من الذنوب حين سؤالهم عنها، فتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون من قول أو فعل، إذ ينطقها الله بقدرته، فتخبر كل جارحة بما صدر منها من أفاعيل صاحبها.
ونحو الآية قوله تعالى :﴿ وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله ﴾[ فصلت : ٢١ ].
عن أبي سعيد الخدري أن النبي ( ص ) قال :" إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله، فيجحد ويخاصم، فيقال هؤلاء جيرانك يشهدون عليك، فيقول كذبوا، فيقال أهلك وعشيرتك، فيقول كذبوا، فيقال احلفوا فيحلفون، ثم يصمهم الله فتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم ثم يدخلهم النار ".
ويرى فريق من المفسرين أن الشهادة هنا ليست الشهادة باللسان، بل شهادة الإثبات والبيان، إذ كل ما يعمله الإنسان في الدنيا من قول أو فعل تنطبع له صورة على العضو الذي فعله، فالكلمة يقولها تنطبع لها صورة على اللسان، واليد التي تمد لفعل شيء، والرجل التي تخطو إلى عمل، كل ذلك يحفظ على نفس الجارحة التي فعلته، فما أشبه ذلك بالصور التي تؤخذ اليوم لأصابع المجرمين وبصمات أيديهم وأرجلهم في قلم تحقيق الشخصية للرجوع إليها إذا دعت الحاجة إلى ضبط أولئك المجرمين، فما ينطبع إذ ذاك على اللسان واليد والرجل يكون كافيا جد الكفاية في إثبات الجرم على أولئك المجرمين والطغاة الظالمين.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر قصص أم المؤمنين عائشة و بين عقاب من اتهمها بالإفك وشديد عذابه يوم القيامة وأسهب في هذا، أعقب ذلك ببيان حكم عام وهو أن كل من اتهم محصنة مؤمنة غافلة بالخنا والفجور فهو مطرود من رحمة الله، بعبد عن دار نعيمه، معذب في جهنم إلا إذا تاب وأحسن التوبة وعمل صالحا.
تفسير المفردات :
دينهم : أي جزاءهم ومنه " كما تدين تدان ". الحق : أي الثابت الذي يحق لهم لا محالة. أن الله : أي وعده ووعيده. الحق : أي العدل الذي لا جور فيه.
الإيضاح :
﴿ يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ﴾أي في هذا اليوم يوفيهم الله جزاءهم على أعمالهم، ويعلمون أن ما كانوا يوعدون به في حياتهم الدنيا من العذاب هو الحق الذي لا شك فيه، ويزول عنهم كل ريب كان قد ألم بهم في الدار الأولى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ( ص ) قال :" اجتنبوا السبع الموبقات " قيل وما هن يا رسول الله ؟ قال :" الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات " رواه الشيخان.
قال صاحب الكشاف : ولو قلبت القرآن كله وفتشت عما أوعد به العصاة لم تر أن الله قد غلظ في شيء تغليظه في إفك عائشة رضوان الله عليها، ولا أنزل من الآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد والعقاب البليغ والزجر العنيف واستعظام ما ركب من ذلك، واستفظاع ما أقدم عليه، على طرق مختلفة، وأساليب مفتنة، كل واحد منها كاف في بابه، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، بأن ألسنتهم وأيديهم و أرجلهم تشهد عليهم بما أفكوا وبهتوا، وأنه يوفيهم جزاءهم الحق الذي هم أهله اه.
المعنى الجملي : بعد أن برأ سبحانه عائشة مما رميت به من الإفك، ثم ذكر أن رامي المحصنات الغافلات مطرود من رحمة الله – أردف ذلك دليلا ينفي الريبة عن عائشة بأجلى وضوح – ذاك أن السنة الجارية بين الخلق مبنية على مشاكلة الأخلاق والصفات بين الزوجين، فالطيبات للطيبين، والخبيثات للخبيثين، ورسول الله من أطيب الطيبين، فيجب كون الصديقة من أطيب الطيبات على مقتضى المنطق السليم، والعادة الشائعة بين الخلق.
الإيضاح :
﴿ الخبيثات للخبيثين ﴾أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال لا يتجاوزنهم إلى غيرهم.
﴿ و الخبيثون للخبيثات ﴾أي و الخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، لأن المجالسة من دواعي الألفة ودوام العشرة.
﴿ الطيبات للطيبين ﴾أي والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، لما قد عرفت من الأنس بمن يحاكيك في الصفات، ويجانسك في الفضل والكمال.
﴿ والطيبون للطيبات ﴾أي و الطيبون أيضا للطيبات منهن لا يتجاوزونهن إلى من عداهن.
وإذا كان رسول الله ( ص ) من أطيب الأطيبين، وخيرة الأولين والآخرين، استبان أن الصديقة رضي الله عنها من أطيب الطيبات واستبان بطلان ما أشاعه المرجفون من أهل الإفك.
﴿ أولئك مبرؤون مما يقولون ﴾أي أولئك الطيبون والطيبات ومنهم صفوان وعائشة مبرؤون مما يقول الخبيثون والخبيثات من النساء.
﴿ لهم مغفرة ورزق كريم ﴾أي لهم مغفرة عن ذنوبهم التي اقترفوها من قبل، ورزق كريم عند ربهم في جنات النعيم.
تنبيه : هذه الآية الكريمة تشرح الغرائز والطباع، و تبين أن الإنسان بل هذا الوجود لا تلاؤم بين أجزائه إلا بصفات متناسبة، فالكرة الأرضية متجاذبة الأجزاء ؛ وكرة الهواء مطيعة لمجموعها، لما بينها من تناسب و تشابه في الصفات، وهكذا أخلاق الناس وصفاتهم إذا تشابهت اتفقوا، وهم يكونون يوم القيامة كذلك، لا يجتمعون إلا حيث يتفقون.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه حكم قذف المحصنات الأجنبيات وحكم قذف الزوجات، ثم أتبع ذلك بقصص أهل الإفك وبسط ذلك غاية البسط، وكان مما يسهل السبيل إلى التهمة في كل هذا وجود الخلوة بين الرجل وامرأة أعقب ذلك بحكم دخول المرء بيت غيره، وبين أنه لا يدخله إلا بعد الاستئذان والسلام حتى لا يوجد بحال تورث التهمة التي أمرنا بالابتعاد عنها جهد الطاقة، إلى أن الإنسان قد يكون في بيته ومكان خلوته على حال لا يود أن يراه غيره عليها.
روى عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار أن امرأة قالت : يا رسول الله إني أكون في بيتي على الحال التي لا أحب أن يراني عليها أحد لا والد ولا ولد، فيأتيني آت فيدخل علي فكيف أصنع ؟ فنزلت﴿ يأيها الذين آمنوا ﴾الآية.
تفسير المفردات :
حتى تستأنسوا : أي حتى تستأذنوا، إذ بالاستئذان يحصل أنس أهل البيت، وبدونه يستوحشون ويشق عليهم الدخول. تذكرون : أي تتعظون.
الإيضاح :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ﴾أدب الله عباده المؤمنين بآداب نافعة في بقاء الود وحسن العشرة بينهم، ومن ذلك ألا يدخلوا بيوت غيرهم إلا بعد الاستئذان والسلام حتى لا يطلعوا على عورات سواهم، ولا ينظروا إلا ما لا يحل لهم النظر إليه، ولا يقفوا على الأحوال التي يطويها الناس في العادة، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها إلى أن في هذا تصرفا في ملك غيرك فلا بد أن يكون برضاه.
وينبغي أن يكون الاستئذان ثلاث مرات، فإن أذن له دخل وإلا انصرف، فقد ثبت في الصحيح أن أبا موسى الأشعري حين استأذن على عمر ثلاثا فلم يؤذن له انصرف، ثم قال عمر : ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس – يعني أبا موسى – يستأذن ؟ائذنوا له فطلبوه فوجدوه قد ذهب، فلما جاء بعد ذلك قال : ما أرجعك ؟ قال : إني استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي، وإني سمعت النبي ( ص ) يقول :" إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فلينصرف ".
﴿ ذلك خير لكم لعلكم تذكرون ﴾أي الاستئذان والتسليم والانتظار حتى يؤذن لكم خير من الدخول بغتة أو من الدخول على عادة الجاهلية، فقد كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتا غير بيته يقول حييتم صباحا حييتم مساء، ثم يدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد. وقد أرشدكم ربكم إلى ذلك كي تتذكروا وتتعظوا وتعملوا بما أمرتم به.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه حكم قذف المحصنات الأجنبيات وحكم قذف الزوجات، ثم أتبع ذلك بقصص أهل الإفك وبسط ذلك غاية البسط، وكان مما يسهل السبيل إلى التهمة في كل هذا وجود الخلوة بين الرجل وامرأة أعقب ذلك بحكم دخول المرء بيت غيره، وبين أنه لا يدخله إلا بعد الاستئذان والسلام حتى لا يوجد بحال تورث التهمة التي أمرنا بالابتعاد عنها جهد الطاقة، إلى أن الإنسان قد يكون في بيته ومكان خلوته على حال لا يود أن يراه غيره عليها.
روى عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار أن امرأة قالت : يا رسول الله إني أكون في بيتي على الحال التي لا أحب أن يراني عليها أحد لا والد ولا ولد، فيأتيني آت فيدخل علي فكيف أصنع ؟ فنزلت﴿ يأيها الذين آمنوا ﴾الآية.
تفسير المفردات :
أزكى : أي أطهر.
الإيضاح :
﴿ فإن لم تجدوا فيها فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم ﴾أي فإن لم تجدوا فيها أحد ممن يملك الإذن، بأن كان فيها عبد أو صبي فلا تدخلوها حتى يأذن لكم من يملكه وهو رب الدار.
وقد استثنى من ذلك ما إذا دعت الضرورة إلى الدخول فورا كإطفاء حريق أو منع حدوث جناية أو نحو ذلك.
﴿ وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم ﴾أي وإن قال لكم أهل البيت تستأذنون فيه ارجعوا فارجعوا، فإن الرجوع أطهر لكم في دينكم ودنياكم، لأن رب الدار قد يستوحش ويتأذى بوقوف غيره على بابه بعد منع الاستئذان، ولما في ذلك من الدناءة والتسكع على بيوت الناس، وربما ظن بأهل البيت سوء من وقوف الأجانب على أبوابهم.
﴿ و الله بما تعملون عليم ﴾أي والله عليم بكل مقاصدكم ونواياكم من دخول البيوت ومجازيكم على ذلك.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه حكم قذف المحصنات الأجنبيات وحكم قذف الزوجات، ثم أتبع ذلك بقصص أهل الإفك وبسط ذلك غاية البسط، وكان مما يسهل السبيل إلى التهمة في كل هذا وجود الخلوة بين الرجل وامرأة أعقب ذلك بحكم دخول المرء بيت غيره، وبين أنه لا يدخله إلا بعد الاستئذان والسلام حتى لا يوجد بحال تورث التهمة التي أمرنا بالابتعاد عنها جهد الطاقة، إلى أن الإنسان قد يكون في بيته ومكان خلوته على حال لا يود أن يراه غيره عليها.
روى عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار أن امرأة قالت : يا رسول الله إني أكون في بيتي على الحال التي لا أحب أن يراني عليها أحد لا والد ولا ولد، فيأتيني آت فيدخل علي فكيف أصنع ؟ فنزلت﴿ يأيها الذين آمنوا ﴾الآية.
تفسير المفردات :
جناح : أي حرج. متاع : أي حق تمتع ومنفعة كإيواء الأمتعة والرحال والشراء والبيع، كحوانيت التجارة والفنادق والحمامات و نحوها.
الإيضاح :
و لما بين حكم البيوت المسكونة بين حكم البيوت غير المسكونة فقال :
﴿ ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم ﴾أي ليس عليكم أيها المؤمنون إثم ولا حرج أن تدخلوا بيوتا غير معدة لسكنى قوم معينين، بل معدة ليتمتع بها من يحتاج إليها كائنا من كان كالفنادق والحوانيت والحمامات ونحوها مما فيه حق التمتع لكم كالمبيت فيها وإيواء الأمتعة والبيع والشراء والاغتسال ونحو ذلك، لأن السبب الذي لأجله منع دخول البيت وهو الاطلال على عورات الناس والوقوف على أسرارهم غير موجود فيها.
روي أن أبا بكر قال : يا رسول الله، إن الله أنزل عليك آية في الاستئذان، وإنا لنختلف في تجارتنا فننزل هذه الخانات، أفلا ندخلها إلا بإذن ؟ فنزلت الآية.
﴿ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ﴾أي والله عليم بما تظهرون بألسنتكم من الاستئذان إذا استأذنتم على أهل البيوت المسكونة، وما تضمرون من حب الاطلاع على عورات الناس أو من قصد ريبة أو فساد. وفي هذا من الوعيد الشديد ما لا يخفى.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه عن دخول البيوت إلا بعد الاستئذان والسلام على أهلها منعا للقيل والقال والاطلاع على عورات الناس وأسرارهم، أمر رسوله أن يرشد المؤمنين إلى غض البصر عن المحارم لمثل السبب المتقدم، إذ ربما كان ذلك ذريعة إلى وقوع المفاسد وانتهاك الحرمات التي نهى الدين عنها.
تفسير المفردات :
غض بصره : خفص منه.
الإيضاح :
﴿ قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ﴾أي قل أيها الرسول للمؤمنين كفوا أبصاركم عما حرم الله عليكم، ولا تنظروا إلا ما يباح لكم النظر إليه، فإن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرفوا أبصارهم عنه سريعا لما رواه مسلم عن عبد الله البجلي قال : سألت النبي ( ص ) عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري، وروى أبو داود أن النبي ( ص ) قال لعلي :" يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة "، وفي الصحيح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله ( ص ) :" إياكم والجلوس على الطرقات ". قالوا : يا رسول الله لابد لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال ( ص ) :" إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه ". قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال :" غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ".
والحكمة في ذلك : أن في غض البصر سدا لباب الشر، ومنعا لارتكاب المآثم والذنوب، و لله در أحمد شوقي حيث قال :
نظرة فابتسامة فسلام *** فكلام فموعد فلقاء
﴿ و يحفظوا فروجهم ﴾ بمنعها من عمل الفاحشة، أو بحفظها من أن أحدا ينظر إليها، وقد جاء في الحديث :" احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ".
﴿ ذلك أزكى لكم ﴾أي ما ذكر من غض البصر وحفظ الفرج أطهر من دنس الريبة وأنفع دينا ودنيا فقد قالوا : النظر بريد الزنى ورائد الفجور، والله در شاعرهم :
كل الحوادث مبداها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فعلت في قلب فاعلها *** فعل السهام بلا قوس ولا وتر
والمرء ما دام ذا عين يقلبها *** في أعين العين موقوف على الخطر
بسر ناظره ما ضر خاطره *** لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
﴿ إن الله خبير بما يصنعون ﴾ فلا يخفى عليه شيء مما يصدر منهم من الأفعال كإجالة النظر واستعمال سائر الحواس، وماذا يراد بذلك، فلتكونوا على حذر منه تعالى في كل ما تأتون وما تذرون.
المعنى الجملي : بعد أن نهى سبحانه عن دخول البيوت إلا بعد الاستئذان والسلام على أهلها منعا للقيل والقال والاطلاع على عورات الناس وأسرارهم، أمر رسوله أن يرشد المؤمنين إلى غض البصر عن المحارم لمثل السبب المتقدم، إذ ربما كان ذلك ذريعة إلى وقوع المفاسد وانتهاك الحرمات التي نهى الدين عنها.
تفسير المفردات :
غض بصره : خفص منه. والخمر : واحدها خمار وهو ما تغطى به المرأة رأسها، طرحة. و الجيوب : واحدها جيب : وهو فتحة في أعلى القميص يبدو منها بعض الجسد. والبعولة : الأزواج واحدها بعل. والإربة : الحاجة إلى النساء. و الطفل : يطلق على الواحد والجمع. لم يظهروا : أي لم يعلموا عورات النساء لصغرهم.
الإيضاح :
و بعد أن أمر رسوله بأمر المؤمنين بغض أبصارهم أمره بأن يأمر المؤمنات بذلك.
﴿ وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ﴾فلا ينظرن إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من عورات الرجال والنساء – ما بين السرة والركبة – وإذا نظرن إلى ما عدا ذلك بشهوة حرم، وبدونها لا يحرم، ولكن غض البصر عن الأجانب أولى بهن وأجمل ؛ لما روى أبو داود والترمذي عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله ( ص ) وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه يعد ما أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله ( ص ) :" احتجبا منه ". فقلت : يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا ؟ فقال رسول الله :" أو عمياوان أنتما ؟ أو لستما تبصرانه ؟ ".
﴿ ويحفظن فروجهن ﴾عما لا يحل لهن من الزنى و السحاق ويسترنها حتى لا يراها أحد.
﴿ ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ﴾أي ولا يظهرن شيئا من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه مما جرت العادة بظهوره كالخاتم والكحل والخطاب، فلا يؤاخذن إلا في إبداء ما خفي منها كالسوار والخلخال و الدملج والقلادة والإكليل والوشاح والقرط، لأن هذه الزينة واقعة في مواضع من الجسم – وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر و الأذن – لا يحل النظر إليها إلا لمن استثنى في الآية بعد.
و لما نهى هم إبداء الزينة أرشد إلى إخفاء بعض مواضعها فقال :
﴿ وليضربن بخمرهن على جيوبهن ﴾أي وليلقين خمرهن على جيوبهن ليسترن بذلك شعورهن وأعناقهن وصدورهن حتى لا يرى منها شيء، وكان النساء يغطين رؤوسهن بالخمر ويسدلنها من وراء الظهر فتبدو نحورهن و بعض صدورهن كعادة الجاهلية فنهين عن ذلك، قالت عائشة : رحم الله النساء المهاجرات الأول لما أنزل الله ﴿ وليضربن بخمرهن على جيوبهن ﴾شققن مروطهن فاختمرن بها.
﴿ ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن ﴾أي قل للمؤمنات لا يظهرن هذه الزينة الخفية إلا لأزواجهن، فإنهم المقصودون بها ؛ والمأمورات نساؤهم بصنعها لهم، حتى إن لهم ضربهن على تركها، ولهم النظر إلى جميع بدنهن، أو للآباء النساء أو للآباء الأزواج أو لأبنائهن أو أبناء أزواجهن أو لأخواتهن أو لأبناء الإخوة أو لأبناء الأخوات، لكثرة المخاطبة بينهم وبينهن، وقلة توقع الفتنة من قبلهم ولأن الطباع السليمة تأبى أن تفتتن بالقريبات، إلى أنهن محتاجات إلى صحبتهم في الأسفار للركوب والنزول.
﴿ أو نسائهن ﴾أي المختصات بهن بالصحبة والخدمة.
﴿ أو ما ملكت أيمانهن ﴾ من الجواري، أما العبيد فقد اختلفوا فيهم، فقال قوم عبد المرأة محرم لها فيجوز له الدخول عليها إذا كان عفيفا، وله أن ينظر إلى بدن مولاته إلا ما بين السرة والركبة كالمحارم، وروي ذلك عن عائشة وأم سلمة. وقد روي أن عائشة كانت تمتشط وعبدها ينظر إليها، قال قوم هو كالأجنبي معها وهو رأي ابن مسعود والحسن وابن سيرين، ومن ثم قالوا لا ينظر العبد إلى شعر مولاته، و سئل طاوس هل يرى غلام المرأة رأسها و قدمها ؟ ما أحب ذلك إلا أن يكون غلاما يسيرا، فأما رجل ذو لحية فلا.
﴿ أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال ﴾وهم الذين يتبعون القوم ليصيبوا من فضل طعامهم لا غرض لهم إلا ذلك ولا حاجة لهم إلى نساء، إما لأنهم طعنوا في السن ففنيت شهواتهم، وإما لكونهم ممسوحين قطعت منهم أعضاء التناسل.
﴿ أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ﴾أي أو الأطفال الذين لم يبلغوا سن الشهوة والقدرة على ملامسة النساء.
ثم نهى عن إظهار وسوسة الحلى بعد النهي عن إبداء مواضعه فقال :
﴿ ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ﴾أي ولا يضربن بأرجلهن الأرض لتقعقع خلاخلهن، فإن ذلك مما يهيج الرجال ويورث ميلا إليهن، وللنساء أفانين في هذا، فقد يجعلن الخرز و نحوه في جوف الخلخال، فإذا مشين ولو هونا كان له رنين وصوت خاص، ومن الناس من تهيجه وسوسة الحلى أكثر مما تهيجه رؤيته.
﴿ و توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ﴾أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى طاعة الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من غض البصر وحفظ الفرج وترك دخول بيوت غيركم بلا استئذان ولا تسليم، تفوزوا بسعادة الدنيا والآخرة.
أخرج أحمد والبخاري و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر أنه قال : سمعت النبي ( ص ) يقول :" أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إليه كل يوم مائة مرة ".
ومن شرط التوبة : الإقلاع عن الذنب، والندم على ما مضى، والعزم على ألا يعود إليه، ورد الحقوق إلى أهلها، لا كما يظن الناس الآن أنها كلمة تلاك باللسان دون أن يكون لها أثر في القلب، ولا عزم على عدم العود، حتى إن كثيرا ممن يزعمون أنهم تابوا من الذنب يحكون ما فعلوه من الآثام على وجه الفجر والاستلذاذ بذكره، وهذا دليل على أنهم كاذبون في توبتهم مراؤون في أفعالهم.
المعنى الجملي : لما أمر سبحانه بغض الأبصار وحفظ الفروج و نحوهما مما يفضي إلى السفاح أعقبه بالأمر بإنكاح الأيامي، لأنه الوسيلة لبقاء هذا النوع، وحفظ الأنساب الذي يستدعي مزيد الشفقة على الأولاد وحسن تربيتهم ودوام الألفة بينهم، ثم ذكر حكم من يعجز عن ذلك لعدم وجود المال لديه، ثم رغب في مكاتبة الأرقاء، ليصيروا أحرارا في أنفسهم وفي أموالهم يتزوجون كما يشاؤون، وبعدئذ أردف ذلك النهي عن إكراه الإماء على الفجور إن أردن العفة، ابتغاء ظل زائل من عرض الدنيا.
ثم ختم هذا ببيان أنه أنزل عليكم في هذه السورة وفي غيرها آيات مبينات لكل ما أنتم في حاجة إلى بيانه من أحكام وآداب وحدود زاجرة، وعقوبات رادعة، وقصص عجيبة عن الماضين، وأمثال مضروبة، لتكون عبرة وذكرى لكم.
تفسير المفردات :
الأيامى : واحدهم أيم وهو كما قال النضر بن شميل كل ذكر لا أنثى معه، وكل أنثى لا ذكر معها بكرا كانت أو ثيبا، ويقال آمت المرأة وآم الرجل إذا لم يتزوجا بكرين أو ثيبين، وكثر استعماله في الرجل إذا ماتت امرأته وفي المرأة إذا مات زوجها. و الصالحين : أي الصالحين للنكاح ولقيام بحقوقه. و الإماء : واحدهن أمة وهي الرقيقة غير الحرة. واسع : أي غني.
الإيضاح :
﴿ و أنكحوا الأيامى منكم ﴾أي زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر، أي من الرجال والنساء، والمراد بذلك، مد يد المساعدة بكل الوسائل حتى يتسنى لهم ذلك، كإمدادهم بالمال، وتسهيل الوسائل التي بها يتم ذلك الزواج والمصاهرة.
﴿ و الصالحين من عبادكم وإمائكم ﴾أي والقادرين والقادرات على النكاح والقيام بحقوق الزوجية من الصحة والمال ونحو ذلك.
والخلاصة : إن في الآية أمرا للأولياء بتزويج من لهم عليهم حق الولاية، وللسادة بتزويج العبيد والإماء، والجمهور قد حملوا الأمر على الاستحسان لا على الوجوب، لأنه قد كان في عصر النبي ( ص ) وفي سائر العصور بعده أيامى من الرجال والنساء ولم ينكر ذلك أحد عليهم، والظاهر أن الأمر يكون للوجوب إذا خفيت الفتنة وغلب على الظن حصول السفاح من الرجل أو المرأة.
ثم رغب في الزواج بالفقير والفقيرة وألا يكون عدم وجدان المال حائلا عن إتمامه فقال :
﴿ إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ﴾أي لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم أو فقر من تريدون زواجها، ففي فضل الله ما يغنيهم، والمال غاد ورائح.
وكم يسر أتى من بعد عسر | وفرج كربة القلب الشجي |
قال ابن عباس : أمر الله سبحانه بالنكاح، ورغبهم فيه، وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم ووعدهم في ذلك الغنى.
و عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) :" ثلاثة حق على عونهم : الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله ".
المعنى الجملي : لما أمر سبحانه بغض الأبصار وحفظ الفروج و نحوهما مما يفضي إلى السفاح أعقبه بالأمر بإنكاح الأيامي، لأنه الوسيلة لبقاء هذا النوع، وحفظ الأنساب الذي يستدعي مزيد الشفقة على الأولاد وحسن تربيتهم ودوام الألفة بينهم، ثم ذكر حكم من يعجز عن ذلك لعدم وجود المال لديه، ثم رغب في مكاتبة الأرقاء، ليصيروا أحرارا في أنفسهم وفي أموالهم يتزوجون كما يشاؤون، وبعدئذ أردف ذلك النهي عن إكراه الإماء على الفجور إن أردن العفة، ابتغاء ظل زائل من عرض الدنيا.
ثم ختم هذا ببيان أنه أنزل عليكم في هذه السورة وفي غيرها آيات مبينات لكل ما أنتم في حاجة إلى بيانه من أحكام وآداب وحدود زاجرة، وعقوبات رادعة، وقصص عجيبة عن الماضين، وأمثال مضروبة، لتكون عبرة وذكرى لكم.
تفسير المفردات :
و ليستعفف : أي و ليجتهد في العفة. لا يجدون : أي لا يتمكنون من وسائله وهي المال. والكتاب والمكاتبة : كالعتاب والمعاتبة يراد بها شرا إعتاق المملوك بعد أداء شيء من المال منجما أي في موعدين أو أكثر فيقول له كاتبتك على كذا درهما ويقبل المملوك ذلك، فإذا أداه عتق وصار أحق بمكاسبه، كما صار أحق بنفسه. و الفتيات : واحدهن فتاة، ويراد بالفتى والفتاة لغة العبد والأمة. والبغاء : الزنا. و التحصن : العفة. لتبتغوا : أي لتطلبوا. عرض الحياة الدنيا : أي الكسب و بيع الأولاد.
الإيضاح :
وبعد أن بين حال القادرين على النكاح ووسائله، بين حال العاجزين عن تلك الوسائل فقال :
﴿ و ليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ﴾أي وليجتهد في العفة وصون النفس من لا يتمكن من المال الذي به يتم النكاح، و لينتظر أن يغنيه الله من فضله حتى يصل إلى بغيته من النكاح، وقد جاء في الحديث الصحيح :" يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحفظ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " الباءة مؤن النكاح من مهر ونفقة وكسوة، و الوجاء نوع من الخصاء يكون برض عروق الأنثيين مع بقاء الخصيتين كما هما، فشبه الصوم في قطعة شهوة النساء به.
﴿ والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ﴾أي والمماليك الذين يطلبون من سادتهم أن يكاتبوهم على أداء مال معين نجوما ليصيروا بعد أدائها أحرارا، ويكونون قادرين على الكسب وأداء ما كوتبوا عليه من الأمانة والصدق، فكاتبوهم ويكونون بعد انتهاء الأجل وأداء ما أوجبوه على أنفسهم أحرارا في رقابهم وفي كسبهم.
ثم حث المؤمنين جميعا على تحرير الرقاب فقال :
﴿ وآتوهم من مال الله الذي آتاكم ﴾أي وأتوا أيها السادة المكاتبين شيئا من مال الله الذي أعطاكم وليس لكم فيه فضل، فإن الله ربكم ورب عبيدكم، وأموالكم ملكه، وأعطوا أيها الحكام المكاتبين سهومهم التي جعلها الله لهم في بيت المال في مصارف الزكاة بقوله﴿ وفي الرقاب ﴾أي وفي تحرير الأرقاء.
و في هذا حث لجميع المؤمنين على عتق الرقاب، روى أبو هريرة أن النبي ( ص ) قال :" ثلاثة حق على الله عونهم : المكاتب الذي يريد الأداء، والناكح يريد العفاف، والمجاهد في سبيل الله ".
ثم نهى المؤمنين عن السعي في جمع المال بسبل الحرام فقال :
﴿ ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض الحياة الدنيا ﴾أي ولا تكرهوا إماءكم على الزنا إن كن يردن التعفف و التحصن، التماسا لعرض الدنيا من مال وزينة ورياش.
وفي قوله :﴿ إن أردن تحصنا ﴾زيادة في تقبيح حالهم وتشنيع عليهم، فإن ذا المروءة لا يرضى بفجور من يحويه بيته من إمائه، فضلا عن أمرهن بذلك وإكراههن عليه، ولا سيما عند إرادة التعفف وتوافر الرغبة فيه.
و الخلاصة : لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراه الإماء على البغاء، طلبا لمتاع سريع الزوال، وشيك الفناء والاضمحلال.
أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله عنه أن جارية لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها " مسيكة " وأخرى يقال لها " أميمة " كان يكرههما على الزنى فشكتا ذلك إلى رسول الله ( ص ) فنزلت الآية.
ثم أبان أنهن إن أكرهن فالوزر على من أكرههن لا عليهن فقال :
و أخرج ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه أنهم كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم الزنا ليأخذوا أجورهن، فنهوا عن ذلك في الإسلام و نزلت الآية.
﴿ و من يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم ﴾ أي ومن يكرههن على البغاء فإن الله غفور رحيم لهن من بعد إكراههن والذنب على المكره لهن، وكان الحسن إذا قرأ الآية قال : لهن والله، لهن والله.
المعنى الجملي : لما أمر سبحانه بغض الأبصار وحفظ الفروج و نحوهما مما يفضي إلى السفاح أعقبه بالأمر بإنكاح الأيامي، لأنه الوسيلة لبقاء هذا النوع، وحفظ الأنساب الذي يستدعي مزيد الشفقة على الأولاد وحسن تربيتهم ودوام الألفة بينهم، ثم ذكر حكم من يعجز عن ذلك لعدم وجود المال لديه، ثم رغب في مكاتبة الأرقاء، ليصيروا أحرارا في أنفسهم وفي أموالهم يتزوجون كما يشاؤون، وبعدئذ أردف ذلك النهي عن إكراه الإماء على الفجور إن أردن العفة، ابتغاء ظل زائل من عرض الدنيا.
ثم ختم هذا ببيان أنه أنزل عليكم في هذه السورة وفي غيرها آيات مبينات لكل ما أنتم في حاجة إلى بيانه من أحكام وآداب وحدود زاجرة، وعقوبات رادعة، وقصص عجيبة عن الماضين، وأمثال مضروبة، لتكون عبرة وذكرى لكم.
تفسير المفردات :
مبينات : أي مفصلات ما أنتم في حاجة إلى بيانه من الأحكام والآداب. مثلا : أي قصة عجيبة من قصص الماضين كقصة يوسف ومريم.
الإيضاح :
و بعد أن فصل هذه الأحكام وبينها امتن على عباده بذلك فقال :
﴿ و لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين ﴾أي ولقد أنزلنا آيات القرآن مبينات لما أنتم في حاجة إليه من الأحكام والآداب، كما أنزلنا قصصا من أخبار الأمم السالفة كقصة يوسف وقصة مريم وفيها شبه بقصص عائشة، وفيها عظة لمن اتقى الله وخاف عقابه وخشي عذابه.
و أثر عن علي كرم الله وجهه في وصف القرآن : فيه حكم ما بينكم، وخبر ما قبلكم، ونبأ ما بعدكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أنه أنزل في هذه السورة آيات مبينات لكل ما يحتاج إليه الناس في صلاح أحوالهم في معاشهم ومعادهم من الشرائع والأحكام والآداب والأخلاق، بين أنه نور السماوات والأرض بما بث فيهما من الآيات الكونية و الآيات التي أنزلها على رسله دالة على وجوده ووحدانيته وسائر صفاته من قدرة وعلم إلى نحو أولئك، هادية إلى صلاح أمورهم في الدنيا والآخرة.
تفسير المفردات :
نور : أي ذو نور أي هو هاد أهل السماوات والأرض، والمراد العالم كله، والمشكاة : لفظ حبشي معرب يراد به الكوة غير النافذة. الزجاجة : القنديل من الزجاج. والدري : المضيء المتلألئ منسوب إلى الدر. لا شرقية ولا غربية : أي ضاحية للشمس لا يظلها جبل ولا شجر ولا يحجبها عنها شيء من الشروق إلى الغروب. يضرب الله الأمثال : أي يبين للناس الأشياء والأمثال.
الإيضاح :
﴿ الله نور السماوات والأرض ﴾أي الله هاد أهل السماوات والأرض بما نصب من الأدلة في الأكوان، و بما أنزل على رسله من الآيات البينات، فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلال ينجون.
﴿ مثل نورة كمشكاة فيها مصباح ﴾أي مثل أدلته التي بثها في الآفاق وهدى بها من شاء من عباده كنور مشكاة فيها سراج ضخم ثاقب له الصفات الآتية.
﴿ المصباح في زجاجة ﴾أي وذلك المصباح في قنديل من الزجاج الصافي الأزهر.
﴿ الزجاجة كأنها كوكب دري ﴾أي الزجاجة كأنها كوكب ضخم مضيء من دراري النجوم وعظامها كالزهرة والمشتري.
﴿ ويوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية ﴾أي رويت ذبالته – فتيلته – بزيت شجرة زيتونة كثيرة المنافع، زرعت على جبل عال أو صحراء واسعة، فهي ضاحية للشمس لا يظلها جبل، ولا شجر ولا يحجبها عنها حاجب من حين طلوعها إلى حين غروبها، فزيتها أشد ما يكون صفاء.
فقوله :﴿ لا شرقية ولا غربية ﴾أي لا شرقية فحسب، و لا غربية فحسب، بل هي شرقية غربية تصيبها من حين طلوعها إلى حين غروبها كما يقال فلان لا مسافر ولا مقيم إذا كان يسافر أحيانا ويقيم أخرى.
﴿ يكاد زيتها يضيء ولو تمسسه نار ﴾أي هو لصفائه وبريقه ولمعانه كأنه يضيء بنفسه دون أن تمسه النار، لأن الزيت إذا كان خالصا صافيا ثم رئي من بعد يرى كأن له شعاعا، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء، كذلك قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه ازداد نورا وهدى على هدى.
قال يحيى بن سلام : قلب المؤمن يعرف الحق قبل أن يبين له، لموافقته إياه، وهو المراد من قوله ( ص ) :" اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله ".
﴿ نور على نور ﴾أي هو نور مترادف متضاعف، قد تناصرت فيه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت حتى لم يبق بقية مما يقوي النور ويزيده إشراقا ويمده بإضاءة.
ذاك أن المصباح إذا كان في مكان ضيق كالمشكاة كأن أضوأ له وأجمع لنوره، بخلاف المكان الواسع فإن الضوء ينبعث فيه وينتشر، والقنديل أعون شيء على زيادة الإنارة، كذلك الزيت وصفاؤه.
﴿ يهدي الله لنوره من يشاء ﴾أي يوفق الله من يشاء من عباده لإصابة الحق بالنظر والتدبر وتوجيه الفكر لسلوك طريق الجادة الموصلة إليه، ومن لم يتدبر فهو كالأعمى سواء لديه جنح الليل الدامس، و ضحوة النهار الشامس. وعن علي رضي الله عنه :" الله نور السماوات والأرض، ونشر فيهما الحق وبثه، فأضاءا بنوره ".
﴿ ويضرب الله الأمثال للناس ﴾أي ويسوق الله الأمثال للناس في تضاعيف هدايتهم بحسب ما تدعو إليه حالهم، لما فيها من الفوائد في النصح والإرشاد، إذ بها تتفتق الأذهان للوصول إلى الحق، وبها تأنس النفس بتصويرها المعاني بصور المحسوسات التي تألفها وتدين بها، ولأمر ما كثرت في القرآن الكريم، فقلما ساق حجاجا أو أقام دليلا إلا أردفه بالمثل، ليكون أدعى إلى الإقناع، و أرحى للاقتناع.
﴿ والله بكل شي عليم ﴾فيعطي هدايته من يستحقها ممن صفت نفوسهم، واستعدوا لتلقي أحكام الدين وآدابه ؛ وكذلك يجعل وسائلها على ضروب شتى بحسب اختلاف أحوال عباده، لتقوم له الحجة عليهم.
و في هذا وعد وبشارة لمن تدبر الأمثال ووعاها، ووعيد وإنذار لمن لم يتفكر فيها ولم يكترث بها، فإنه لا يصل إلى الحق ولا يهتدي لطريقه.
وخلاصة ذلك : ما قاله ابن عباس : هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن، فكما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسه الناس، فإذا مسته ازداد ضوءا على ضوء، يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه ازداد هدى على هدى ونورا على نور.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر – جلت آلاؤه – نوره لعباده وهدايته إياهم على أتم الوجوه، بين هنا حال من حصلت لهم الهداية بذلك النور، وذكر بعض أعمالهم القلبية والحسية.
تفسير المفردات :
المراد بالبيوت : المساجد. و أذن : أمر. أن ترفع : أي أن تعظم وتطهر عن الأنجاس وعن اللغو من الأقوال. يسبح : أي ينزه ويقدس. الغدو والغداة : أول النهار. والآصال : واحدها أصيل وهو العشي أي آخر النهار.
الإيضاح :
﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ﴾أي كمشكاة في بيوت أمر الله بتطهيرها من الأنجاس الحسية والمعنوية، كاللغو ورفث الحديث وأمر بذكره فيها وإخلاص العبادة له.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :" المساجد بيوت الله في الأرض، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض ".
﴿ يسبحا له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ﴾ أي ينزه الله ويقدسه في أول النهار وآخره، رجال لا تشغلهم الدنيا وزخرفها ولا بيوعهم و تجارتهم عن ذكر الله ربهم وهو خالقهم ورازقهم، إذ يعلمون أن ما عنده خير لهم وأنفع مما بأيديهم، فما عندهم ينفد، وما عند الله باق، و يؤدون الصلاة في مواقيتها على الوجه الذي رسمه الدين، و يؤتون الزكاة المفروضة عليهم تطهيرا لأنفسهم من الأرجاس.
ونحو الآية قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ﴾[ المنافقون : ٩ ] الآية. وقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسمعوا إلى ذكر الله و ذروا البيع ﴾[ الجمعة : ٩ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر – جلت آلاؤه – نوره لعباده وهدايته إياهم على أتم الوجوه، بين هنا حال من حصلت لهم الهداية بذلك النور، وذكر بعض أعمالهم القلبية والحسية.
تفسير المفردات :
المراد بالبيوت : المساجد. و أذن : أمر. أن ترفع : أي أن تعظم وتطهر عن الأنجاس وعن اللغو من الأقوال. يسبح : أي ينزه ويقدس. الغدو والغداة : أول النهار. والآصال : واحدها أصيل وهو العشي أي آخر النهار.
الإيضاح :
﴿ في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ﴾أي كمشكاة في بيوت أمر الله بتطهيرها من الأنجاس الحسية والمعنوية، كاللغو ورفث الحديث وأمر بذكره فيها وإخلاص العبادة له.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال :" المساجد بيوت الله في الأرض، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض ".
﴿ يسبحا له فيها بالغدو والآصال * رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ﴾ أي ينزه الله ويقدسه في أول النهار وآخره، رجال لا تشغلهم الدنيا وزخرفها ولا بيوعهم و تجارتهم عن ذكر الله ربهم وهو خالقهم ورازقهم، إذ يعلمون أن ما عنده خير لهم وأنفع مما بأيديهم، فما عندهم ينفد، وما عند الله باق، و يؤدون الصلاة في مواقيتها على الوجه الذي رسمه الدين، و يؤتون الزكاة المفروضة عليهم تطهيرا لأنفسهم من الأرجاس.
ونحو الآية قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ﴾[ المنافقون : ٩ ] الآية. وقوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسمعوا إلى ذكر الله و ذروا البيع ﴾[ الجمعة : ٩ ].
تفسير المفردات :
تلهيهم : أي تشغلهم وتصرفهم. تجارة : أي نوع من هذه الصناعة، ولا بيع : أي فرد من أفراد البياعات وخصه بالذكر لأنه أدخل في الإلهاء. و إقام الصلاة : أي إقامتها لمواقيتها. و إيتاء الزكاة : أي المال الذي فرض إخراجه للمستحقين. واليوم : هو يوم القيامة. و تتقلب فيه القلوب والأبصار : أي تضطرب وتتغير من الهول والفزع.
الإيضاح :
ثم ذكر السبب في شغل أنفسهم بالعبادة فقال :
﴿ يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ﴾أي إنهم يخافون عقاب يوم تضطرب فيه الأفئدة من الهول والفزع، و تشخص في القلوب والأبصار من الهلع والحيرة والرعب والخوف.
ونحو الآية قوله :﴿ وإذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ﴾[ الأحزاب : ١٠ ] وقوله :﴿ إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ﴾[ إبراهيم : ٤٢ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر – جلت آلاؤه – نوره لعباده وهدايته إياهم على أتم الوجوه، بين هنا حال من حصلت لهم الهداية بذلك النور، وذكر بعض أعمالهم القلبية والحسية.
الإيضاح :
ثم بين مآل أمرهم وحسن عاقبتهم فقال :
﴿ ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ﴾أي يفعلون هذه القربات من التسبيح والذكر وإيتاء الزكاة مع الخوف من عذاب يوم القيامة ليثيبهم الله على حسناتهم التي فعلوها، فرضها ونفلها، واجبها ومستحبها.
و نحو الآية قوله :﴿ إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا ( ١٠ ) فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا ( ١١ ) وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا ﴾[ الإنسان : ١٠- ١٢ ].
و في قوله﴿ أحسن ما عملوا ﴾إيماء إلى أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفرها لهم.
﴿ ويزيدهم من فضله ﴾أي يجزيهم بأحسن الأعمال، و يضاعف لهم ما يشاء كما قال :﴿ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ﴾[ الأنعام : ١٦٠ ] و قال :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ﴾[ يونس : ٢٦ ].
و قال ( ص ) حكاية عن ربه :" أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ".
ثم نبه إلى كمال قدرته وعظيم جوده وسعة إحسانه فقال :
﴿ والله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾أي إنه تعالى يعطيهم غير أجزية أعمالهم من الخيرات ما لا يفي به الحساب، فهم لما اجتهدوا في الطاعة، وخافوا ربهم أشد الخوف جازاهم بالثواب العظيم على طاعتهم وزادهم الفضل الذي لا غاية له، لخوفهم من قهره وشديد عذابه.
المعنى الجملي : بعد أن بين عز اسمه أحوال المؤمنين وأنهم في الدنيا يكونون في نور الله، وبه يستمسكون بالعمل الصالح، وفي الآخرة يفوزون بالنعيم المقيم والثواب العظيم، أردف ذلك بيان حال أضدادهم وهم الكفار، فذكر أنهم يكونون في الآخرة في أشد الخسران والبوار، وفي الدنيا في ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، وضرب لكلتا الحالين مثلا يوضحها أتم الإيضاح والبيان.
تفسير المفردات :
السراب : ما يرى في الفلاة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب ويجري على وجه الأرض كأنه ماء. و القيعة والقاع : المنبسط من الأرض. والظمآن : شديد العطش.
الإيضاح :
﴿ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ﴾ شبه الأعمال الصالحة التي يعملها من جحدوا توحيد الله وكذبوا بهذا القرآن وبمن جاء به ويظنون أنها تنفعهم عند الله وتنجيهم من عذابه، ثم تخيب في العاقبة أمالهم ويلقون خلاف ما قدروا، بالسراب يراه من اشتد به العطش فيحسبه ما فيطلبه ويظن أنه قد حصل على ما يبغي، حتى إذا جاءه لم يجد شيئا، هكذا حال الكافرين يحسبون أعمالهم نافعة منجية لهم من بأس الله، حتى إذا جاءهم العذاب يوم القيامة لم تنفعهم ولم تغنهم من عقابه إلا كما ينتفع بالسراب من اشتد ظمؤه، واحتاج إلى ما به يروي غلته.
ثم بين شديد عقابه بقوله :
﴿ ووجد الله عنده فوفاه حسابه ﴾ أي ووجد عقاب الله الذي توعد به الكافرين أمامه، وتحول ما كان يظنه نفعا عظيما إلا ضرر محقق وتجيئه الزبانية تعتله وتسوقه إلى جهنم وتسقيه الحميم و الغساق.
و نحو الآية قوله :﴿ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ﴾[ الفرقان : ٢٣ ].
﴿ والله سريع الحساب ﴾لا يشغله حساب عبد عن حساب آخر.
وخلاصة ما سلف : إن الخيبة والخسران في الآخرة لمن عملوا صالح الأعمال في الدنيا كصلة الأرحام، وإغاثة الملهوفين، وقرى الأضياف ونحو ذلك. وظنوا أنها تنجيهم من عذاب ربهم، وهم مع ذلك جاحدو وحدانيته مكذبون لرسله، فما مثلهم إلا مثل من اشتد أوامه ورأى السراب فخاله ماء وظن أنه قد وجد ضالته فسعى إليه، حتى إذا جاءه لم يجد شيئا ورجع بخفي حنين.
المعنى الجملي : بعد أن بين عز اسمه أحوال المؤمنين وأنهم في الدنيا يكونون في نور الله، وبه يستمسكون بالعمل الصالح، وفي الآخرة يفوزون بالنعيم المقيم والثواب العظيم، أردف ذلك بيان حال أضدادهم وهم الكفار، فذكر أنهم يكونون في الآخرة في أشد الخسران والبوار، وفي الدنيا في ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض، وضرب لكلتا الحالين مثلا يوضحها أتم الإيضاح والبيان.
تفسير المفردات :
لجي : أي ذي لج بالضم، و اللج معظم الماء، والمراد بحر عميق الماء كثيره. يغشاه : أي يغطيه. لم يكد يراها : أي لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها.
الإيضاح :
هذه حالهم في الآخرة، أما حالهم في الدنيا فكما قال :
﴿ أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ﴾ أي ومثل أعمالهم التي عملت على غير هدى مثل ظلمات مترادفة في بحر عميق ماؤه، بعيد غوره، يغطيه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، فالظلمات هي أعمال الكافرين، والبحر اللجي قلوبهم التي غمرها الجهل، وتغشتها الحيرة والضلالة، فلا تعقل ما في الكون من آيات، ولا تسمع عظة الناصحين، ولا تبصر حجج الله، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض.
قال الحسن : الكافر له ظلمات ثلاث : ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول، وظلمة العمل، وقال ابن عباس : هي ظلمة قلبه وبصره وسمعه.
و الخلاصة : إن الكافر لشدة إصراره على كفره تراكمت عليه الضلالات، حتى إن أظهر الدلالات إذا ذكرت عنده لا يفهمها، فقلبه مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم.
﴿ ظلمات بعضها فوق بعض ﴾أي ما تقدم ذكره ظلمات متراكمة، فإن البحر يكون مظلم القعر جدا بسبب غور الماء، فإذا ترادفت الأمواج ازدادت الظلمة، فإذا كان فوق الماء سحاب يغطي النجوم ويحجب أنوارها بلغت الظلمة حدا عظيما.
﴿ إذا أخرج يده لم يكد يراها ﴾أي إذا أخرج الناظر يده، وهي أقرب ما يرى إليه، لم يقرب أن يراها فضلا عن أن يراها.
﴿ و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور ﴾أي ومن لم يرزقه الله إيمانا وهدى من الضلالة فما له هداية من أحد.
و نحو الآية قوله :﴿ ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء ﴾[ إبراهيم : ٢٧ ] وقوله :﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ﴾[ العنكبوت : ٦٩ ].
وخلاصة ذلك : من لم يوله الله نور توفيقه ولطفه فهو في ظلمة الباطل لا نور له.
المعنى الجملي : لما وصف سبحانه قلوب المؤمنين بالنور والهداية وقلوب الكافرين بالظلمة أردف ذلك ذكر دلائل التوحيد وساق منها أربعة :
تفسير المفردات : يسبح : أي ينزه ويقدس. صافات : أي باسطات أجنحتها في الهواء.
الإيضاح :
( ١ ) ﴿ ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات ﴾أي ألم تعلم بالدليل أن الله ينزهه آنا فآنا في ذاته و صفاته وأفعاله جميع ما في السماوات والأرض من العقلاء وغيرهم، تنزيها تفهمه أرباب العقول السليمة، إذ كل المخلوقات في وجودها وبقائها دالة على وجود خالق لها متصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص.
وخص التنزيه بالذكر مع دلالة ما فيهما على اتصافه بجميع أوصاف الكمال، من جراء أن سياق الكلام لتقبيح شأن الكفار الذين أخلوا بالتنزيه، فجعلوا الجمادات شركاء له سبحانه، ونسبوا له اتخاذ الولد إلى نحو أولئك، تعالى ربنا عما يقول الكافرون علوا كبيرا.
كما ذكر الطير مع دخولها في جملة ما في الأرض، من قبل أنها غير مستقرة فيها، ولاستقلالها ببديع الصنع و إنبائها عن كمال قدرة خالقها ولطف تدبير مبدعها، فإن منح تلك الأجرام الثقيلة الوسائل التي تتمكن بها من الوقوف في الجو وتتحرك كيف تشاء، وإرشادها إلى طريق استعمالها بالقبض والبسط والتحريك يمينا وشمالا حجة واضحة الدلالة على كمال قدرة الصانع المجيد، وحكمة المبدع المعيد.
﴿ كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون ﴾أي كل مصل منهم ومسبح قد علم الله صلاته وتسبيحه، لا يخفى عليه شيء من أفعالهم طاعتها ومعصيتها، وعلمه محيط بها ومجازيهم عليها.
وقد يكون المعنى : إن كل مصل ومسبح يعلم ما يجب عليه من الصلاة والتسبيح اللذين كلف بهما، وليس بالبعيد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها.
انظر إلى النحل كيف تبني بيوتها السداسية الأشكال التي لا يتمكن من بنائها فطاحل المهندسين إلا بدقيق الآلات، وإلى العنكبوت كيف تفعل الحيل اللطيفة لاصطياد الذباب، وإلى الدب يستلقي في ممر الثور، حتى إذا قرب منه ورام نطحه شبث ذراعيه بقرنيه ولا يزال ينهش ما بين ذراعيه حتى يثخنه ثم يفترسه.
المعنى الجملي : لما وصف سبحانه قلوب المؤمنين بالنور والهداية وقلوب الكافرين بالظلمة أردف ذلك ذكر دلائل التوحيد وساق منها أربعة :
تفسير المفردات :
المصير : المرجع.
الإيضاح :
﴿ ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير ﴾أي إن الله تعالى ملك السماوات والأرض وهو الحاكم المتصرف فيهما إيجادا وإعداما بدءا و إعادة، و إليه وحده مصيركم ومعادكم، فيوفيكم أجور أعمالكم التي عملتموها في الدنيا، فأحسنوا عبادته، واجتهدوا في طاعته، وقدموا لأنفسكم صالح الأعمال.
تفسير المفردات :
يزجي : يسوق برفق وسهولة. يؤلف : أي يجمع بين أجزائه وقطعه. ركاما : أي متراكما بعضه فوق بعض. الودق : المطر. من خلاله : أي من فتوقه التي حدثت بالتراكم، واحدها خلل كجبال وجبل. من جبال : أي من قطع عظام تشبه الجبال. والسنا : الضوء. يذهب بالأبصار : أي يخطفها لشدة ضوئه وسرعة وروده، وهو كقوله في البقرة :﴿ يكاد البرق يخطف أبصارهم ﴾[ البقرة : ٢٠ ] يقلب الله الليل والنهار : أي يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا في قصر ذاك حتى يعتدلا ويغير أحوالهما بالحر والبرد.
الإيضاح :
( ٢ ) ( ٣ ) هاتان الآيتان دليلان آخران على وحدانية الله وقدرته.
وخلاصتهما : انظر أيها الرسول الكريم إلى السحاب، يسوقه الله بقدرته أول ما ينشئه، ثم يجمع بين ما تفرق من أجزائه ثم يجعل بعضه متراكما فوق بعض، فينزل المطر من فتوقه، وحينا ينزل منه قطعا كبيرة من البرد كأنها الجبال، فيصيب بما ينزل منه من يشاء من عباده، فيناله الخير والنفع العميم أو الضرر الشديد إذا كان فوق الحاجة، و يصرفه عمن يشاء أن يصرفه، وإلى ما في هذا السحاب من برق يضيء بشدة و سرعة حتى ليكاد يخطف الأبصار، وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة، إذ فيه توليد الضد من الضد، ففيه توليد النار من الماء.
و انظر أيضا إلى اختلاف الليل والنهار و تقلبهما بزيادة أحدهما ونقص الآخر، وإلى تغير أحوالهما بالحرارة والبرودة، إن في هذا لعبرة لمن اعتبر، وعظة لمن تأمل فيه ممن له عقل، فهو واضح الدلالة على أن له مدبرا ومقلبا لا يشبهه شيء.
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) " قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار " أخرجه البخاري ومسلم.
تفسير المفردات :
يزجي : يسوق برفق وسهولة. يؤلف : أي يجمع بين أجزائه وقطعه. ركاما : أي متراكما بعضه فوق بعض. الودق : المطر. من خلاله : أي من فتوقه التي حدثت بالتراكم، واحدها خلل كجبال وجبل. من جبال : أي من قطع عظام تشبه الجبال. والسنا : الضوء. يذهب بالأبصار : أي يخطفها لشدة ضوئه وسرعة وروده، وهو كقوله في البقرة :﴿ يكاد البرق يخطف أبصارهم ﴾[ البقرة : ٢٠ ] يقلب الله الليل والنهار : أي يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا في قصر ذاك حتى يعتدلا ويغير أحوالهما بالحر والبرد.
الإيضاح :
( ٢ ) ( ٣ ) هاتان الآيتان دليلان آخران على وحدانية الله وقدرته.
وخلاصتهما : انظر أيها الرسول الكريم إلى السحاب، يسوقه الله بقدرته أول ما ينشئه، ثم يجمع بين ما تفرق من أجزائه ثم يجعل بعضه متراكما فوق بعض، فينزل المطر من فتوقه، وحينا ينزل منه قطعا كبيرة من البرد كأنها الجبال، فيصيب بما ينزل منه من يشاء من عباده، فيناله الخير والنفع العميم أو الضرر الشديد إذا كان فوق الحاجة، و يصرفه عمن يشاء أن يصرفه، وإلى ما في هذا السحاب من برق يضيء بشدة و سرعة حتى ليكاد يخطف الأبصار، وهذا من أقوى الدلائل على كمال القدرة، إذ فيه توليد الضد من الضد، ففيه توليد النار من الماء.
و انظر أيضا إلى اختلاف الليل والنهار و تقلبهما بزيادة أحدهما ونقص الآخر، وإلى تغير أحوالهما بالحرارة والبرودة، إن في هذا لعبرة لمن اعتبر، وعظة لمن تأمل فيه ممن له عقل، فهو واضح الدلالة على أن له مدبرا ومقلبا لا يشبهه شيء.
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) " قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار " أخرجه البخاري ومسلم.
تفسير المفردات :
لأولي الأبصار : أي لأهل العقول والبصائر.
الإيضاح :
( ٤ ) هذا هو رابع الأدلة على التوحيد، فقد استدل بأحوال السماء والأرض، وبالآثار العلوية، وهنا استدل بأحوال الحيوان فقال :
﴿ والله خلق كل دابة من ماء ﴾أي والله خلق كل حيوان يدب على الأرض من ماء هو جزء مادته.
وخص الماء بالذكر من بين ما يتركب منه من المراد، لظهور احتياج الحيوان إليه، ولا سيما بعد كمال تركيبه، ولا متزاج الأجزاء الترابية به.
ثم فصل أقسام الحيوان مما يدب على وجه الأرض فقال :
﴿ فمنهم من يمشي على بطنه ﴾كالحيات والسمك و غيرهما من الزواحف، وسمى حركتها مشيا مع كونها تزحف زحفا، إشارة إلى كمال القدرة، وأنها مع عدم وجود آلة المشي كأنها تمشي.
﴿ ومنهم من يمشي على رجلين ﴾ كالإنسان والطير.
﴿ ومنهم من يمشي على أربع ﴾كالأنعام والوحوش.
ولم يذكر سبحانه ما يمشي على أكثر من ذلك كالعناكب وغيرها من الحشرات ؛ لدخوله في قوله :
﴿ يخلق الله ما يشاء ﴾مما ذكر ومما لم يذكر، مع الاختلاف في الصور والأعضاء، والحركات والطبائع، والقوى والأفاعيل.
﴿ إن الله على كل شيء قدير ﴾أي إن الله على إحداث ذلك وخلقه وخلق ما يشاء من الأشياء لذو قدرة فلا يتعذر عليه شيء أراده.
وعلى الجملة فاختلاف هذه الحيوانات في الأعضاء والقوى، مقادير الأبدان والأعمال والأخلاق لا بد أن يكون بتدبير مدبر حكيم، مطلع على أحوالهم و أسرار خلقها، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، تعالى الله عما يقول الجاحدون علوا كبيرا.
المعنى الجملي : بعد أن ساق سبحانه ما يدل على وجوده من أحوال السماء والأرض والآثار العلوية وأحوال الحيوان ذكر هنا أن هذه وغيرها آيات واضحات دالة على وجود الخالق المدبر للكون لا خفاء فيها.
الإيضاح :
﴿ لقد أنزلنا آيات مبينات ﴾أي لقد أنزلنا عليك دلائل واضحات على طريق الحق والرشاد، لكن لا يصل إلى فهمها إلا من أوتي بصيرة نيرة، وفطرة سليمة، تضيء له الفكر حتى يسير على نهج الحق ويبتعد عن الغي والضلال، ومن ثم قال :
﴿ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ﴾أي والله يرشد من يشاء إلى الطريق الذي لا عوج فيه، وهو إخلاص العبادة له وحده والإنابة إليه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه الأدلة الواضحة على توحيده وأتم بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون : آمنا بالله وبالرسول ثم يفعلون ضد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان ما دعي إلى الله والرسول قال سمعا وطاعة، ثم بين بعض أكاذيبهم التي يراؤون بها ويدعون الإخلاص فيها، فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والأيمان ؛ لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم : أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علي التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتموني اهتديتم، وإن توليتم فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق دعاه يهودي في خصومه بينهما إلى رسول الله ( ص ) ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله ( ص ) فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه عليه السلام فقال : نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فلما ذهبا إليه قال له اليهودي : قضى لي النبي ( ص ) فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : بلى، فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضي الله عنه بيته وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله ( ص ).
تفسير المفردات :
يتولى : أي يعرض.
الإيضاح :
﴿ ويقولن آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين ﴾أي ويقول هؤلاء المنافقون : صدقنا بالله وبالرسول وأطعنا الرسول، ثم يخالفون ذلك فيعرضون عن طاعة الله ورسوله ضلالا منهم عن الحق، وما أولئك بالمؤمنين المخلصين الثابتين على الإيمان، بل هم ممن في قلوبهم مرض، وقد مرنوا على النفاق، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
و خلاصة ذلك : لا يدخل في زمرة المؤمنين من يقول آمنا بالله والرسول وأطعنا، ثم يعرض عما تقتضيه الطاعة وينحاز إلى غير المؤمنين.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه الأدلة الواضحة على توحيده وأتم بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون : آمنا بالله وبالرسول ثم يفعلون ضد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان ما دعي إلى الله والرسول قال سمعا وطاعة، ثم بين بعض أكاذيبهم التي يراؤون بها ويدعون الإخلاص فيها، فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والأيمان ؛ لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم : أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علي التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتموني اهتديتم، وإن توليتم فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق دعاه يهودي في خصومه بينهما إلى رسول الله ( ص ) ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله ( ص ) فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه عليه السلام فقال : نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فلما ذهبا إليه قال له اليهودي : قضى لي النبي ( ص ) فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : بلى، فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضي الله عنه بيته وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله ( ص ).
الإيضاح :
ثم بين هذا التولي بقوله :
﴿ وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون ﴾ أي وإذا دعي هؤلاء المنافقون إلى كتاب الله وإلى رسوله ليحكم بينهم فيما اختصموا فيه بحكم الله أعرضوا عن قبول الحق واستكبروا عن اتباع حكمه، لأنه لا يحكم إلا بالحق.
ونحو الآية قوله﴿ ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما انزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ( ٦٠ ) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ﴾[ النساء : ٦٠- ٦١ ].
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه الأدلة الواضحة على توحيده وأتم بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون : آمنا بالله وبالرسول ثم يفعلون ضد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان ما دعي إلى الله والرسول قال سمعا وطاعة، ثم بين بعض أكاذيبهم التي يراؤون بها ويدعون الإخلاص فيها، فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والأيمان ؛ لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم : أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علي التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتموني اهتديتم، وإن توليتم فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق دعاه يهودي في خصومه بينهما إلى رسول الله ( ص ) ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله ( ص ) فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه عليه السلام فقال : نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فلما ذهبا إليه قال له اليهودي : قضى لي النبي ( ص ) فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : بلى، فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضي الله عنه بيته وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله ( ص ).
تفسير المفردات :
مذعنين : أي منقادين.
الإيضاح :
﴿ وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ﴾أي وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم جاؤوا إلى الرسول مطيعين، لعلمهم بأنه يحكم لهم، لأنه لا يحكم إلا بالحق، فإذعانهم لم يكن عن اعتقاد أن حكمه الحق، بل لأنه وافق هواهم، ومن جراء هذا لما خالف الحق قصدهم عدلوا عنه إلى غيره.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه الأدلة الواضحة على توحيده وأتم بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون : آمنا بالله وبالرسول ثم يفعلون ضد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان ما دعي إلى الله والرسول قال سمعا وطاعة، ثم بين بعض أكاذيبهم التي يراؤون بها ويدعون الإخلاص فيها، فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والأيمان ؛ لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم : أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علي التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتموني اهتديتم، وإن توليتم فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق دعاه يهودي في خصومه بينهما إلى رسول الله ( ص ) ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله ( ص ) فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه عليه السلام فقال : نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فلما ذهبا إليه قال له اليهودي : قضى لي النبي ( ص ) فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : بلى، فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضي الله عنه بيته وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله ( ص ).
تفسير المفردات :
مرض : أي فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلالة. ارتابوا : أي شكوا في نبوتك. يحيف : أي يجور. الظالمون : أي الذين يريدون ظلم الناس وجحد حقوقهم.
الإيضاح :
ثم فصل ما يحتمل أن يكون السبب في عدولهم عن قبول حكمه ( ص ) بقوله :
﴿ أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم و رسوله ﴾أي أسبب إعراضهم عن المحاكمة إليه ( ص ) أنهم مرضى القلوب بالكفر والنفاق ؟ أم سببه أنهم ارتابوا وشكوا في نبوته عليه السلام على ظهور أمرها ؟ أم سببه أنهم يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم ؟
وخلاصة ذلك : لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مرض لازم بالكفر والنفاق، أو عروض شك في الدين، أو خوف من أن يجور الله ورسوله عليهم، وأيا كان الأمر فهو كفر وضلال، والله عليم بما انطوت عليه قلوبهم من المرض.
ثم أبطل السببين الأولين وأثبت الثالث فقال :
﴿ بل أولئك هم الظالمون ﴾أي ليس العدول إلا للسبب الأول فحسب، فهم ما عدلوا إلا لما في قلوبهم من المرض والنفاق، وظلمهم لأنفسهم بمخالفة أمر ربهم ومعصيتهم له فيما أمرهم به من الرضا بحكم رسوله ( ص ) فيما أحبوا وكرهوا، والتسليم لقضائه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه الأدلة الواضحة على توحيده وأتم بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون : آمنا بالله وبالرسول ثم يفعلون ضد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان ما دعي إلى الله والرسول قال سمعا وطاعة، ثم بين بعض أكاذيبهم التي يراؤون بها ويدعون الإخلاص فيها، فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والأيمان ؛ لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم : أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علي التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتموني اهتديتم، وإن توليتم فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق دعاه يهودي في خصومه بينهما إلى رسول الله ( ص ) ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله ( ص ) فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه عليه السلام فقال : نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فلما ذهبا إليه قال له اليهودي : قضى لي النبي ( ص ) فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : بلى، فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضي الله عنه بيته وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله ( ص ).
الإيضاح :
وبعد أن نفى عنهم الإيمان الحق بين صفات المؤمن الكامل فقال :
﴿ إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ﴾أي ينبغي أن يكون قول المؤمنين إذا دعاهم الداعون إلى حكم الله ورسوله فيما بينهم وبين خصومهم : سمعنا كلامكم وأطعنا أمركم، وأولئك هم الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مخوف.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه الأدلة الواضحة على توحيده وأتم بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون : آمنا بالله وبالرسول ثم يفعلون ضد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان ما دعي إلى الله والرسول قال سمعا وطاعة، ثم بين بعض أكاذيبهم التي يراؤون بها ويدعون الإخلاص فيها، فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والأيمان ؛ لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم : أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علي التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتموني اهتديتم، وإن توليتم فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق دعاه يهودي في خصومه بينهما إلى رسول الله ( ص ) ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله ( ص ) فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه عليه السلام فقال : نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فلما ذهبا إليه قال له اليهودي : قضى لي النبي ( ص ) فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : بلى، فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضي الله عنه بيته وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله ( ص ).
تفسير المفردات :
و يخشى الله : أي فيما صدر منه من الذنوب في الماضي. و يتقه : أي فيما بقي من عمره.
الإيضاح :
و بعد أن رتب الفلاح على هذا النوع من الطاعة أتبعه ببيان أن كل طاعة لله ورسوله موجبة للفوز فقال :
﴿ ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ﴾أي ومن يطع الله ورسوله فيما أمراه به وترك ما نهياه عنه، ويخشى الله فيما صدر منه من الذنوب فيحمله ذلك على الطاعة وترك المعاصي، ويتقه في مستأنف أموره، فأولئك الذين وصفوا بكل هذا هم الفائزون برضاه عنهم يوم القيامة، والآمنون من عذابه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه الأدلة الواضحة على توحيده وأتم بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون : آمنا بالله وبالرسول ثم يفعلون ضد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان ما دعي إلى الله والرسول قال سمعا وطاعة، ثم بين بعض أكاذيبهم التي يراؤون بها ويدعون الإخلاص فيها، فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والأيمان ؛ لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم : أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علي التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتموني اهتديتم، وإن توليتم فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق دعاه يهودي في خصومه بينهما إلى رسول الله ( ص ) ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله ( ص ) فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه عليه السلام فقال : نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فلما ذهبا إليه قال له اليهودي : قضى لي النبي ( ص ) فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : بلى، فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضي الله عنه بيته وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله ( ص ).
تفسير المفردات :
جهد أيمانهم : أي أقصى غايتها من قولهم : جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها.
الإيضاح :
ثم حكى سبحانه نوعا آخر من أكاذيب المنافقين بقوله :
﴿ وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتم ليخرجن ﴾أي وحلفوا بالله جاهدين أيمانهم بالغين غايتها، لئن أمرتهم بالخروج للجهاد والغزو ليلبن الطلب وليخرجن كما أمرت.
والخلاصة : إنهم أغلظوا الأيمان وشددوها في أن يكونوا طوع أمرك ورهن إشارتك وقالوا : أينما تكن نكن معك، فإن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا.
فرد الله عليهم وزجرهم عن التفوه بهذه الأيمان الفاجرة وأمره أن يقول لهم :
﴿ قل لا تقسموا ﴾أي قل لهم : لا تحلفوا، فإن العلم بما أنتم عليه لا يحتاج إلى قسم ويمين لوضوح كذبه.
ثم علل النهي عن الحلف بقوله :
﴿ طاعة معروفة ﴾أي لا تقسموا لأن طاعتكم معروفة لنا، فهي طاعة باللسان فحسب من غير مواطأة القلب لها، ولا يجهلها أحد من الناس.
و نحو الآية قوله :﴿ يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين ﴾[ التوبة : ٩٦ ] وقوله :﴿ اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين ﴾[ المجادلة : ١٦ ].
ثم هددهم وتوعدهم على أيمانهم الكاذبة وأنه مجازيهم على أعمالهم السيئة، ولا سيما ذلك النفاق المفضوح فقال :
﴿ إن الله خبير بما تعملون ﴾أي إنه تعالى لا تخفى عليه خافية من ظاهر أعمالكم وخافيها، فيعلم ما تظهرونه من الطاعة المؤكدة بالأيمان الكاذبة، وما تبطنونه من الكفر والنفاق والعزيمة على مخادعة المؤمنين ونحو ذلك من أفانين الشر والفساد التي دبرتموها.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه الأدلة الواضحة على توحيده وأتم بيانها، ثم ذكر أنه يهدي بها من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أعقبه بذكر من لم يهتد بها وهم المنافقون الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، فيقولون : آمنا بالله وبالرسول ثم يفعلون ضد ما يقولون، فإذا دعوا ليحكم بينهم الرسول فيما يتنازعون فيه أبوا وخافوا أن يحيف عليهم، والمؤمن الصادق الإيمان ما دعي إلى الله والرسول قال سمعا وطاعة، ثم بين بعض أكاذيبهم التي يراؤون بها ويدعون الإخلاص فيها، فمنها أنهم يحلفون أغلظ الأيمان أنهم مطيعون للرسول في كل ما يأمرهم به، حتى لو أمرهم بالخروج والجهاد لبوا الأمر سراعا، ثم أمر الرسول بنهيهم عن الحلف والأيمان ؛ لأن طاعتهم معروفة لا تحتاج إلى يمين، وبأن يقول لهم : أطيعوا الله حقا لا رياء، فإن أبيتم فإنما علي التبليغ وعليكم السمع والطاعة، فإن أطعتموني اهتديتم، وإن توليتم فعلت ما كلفت به، وعلى الله الحساب والجزاء.
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في بشر المنافق دعاه يهودي في خصومه بينهما إلى رسول الله ( ص ) ودعا هو اليهودي إلى كعب بن الأشرف، ثم تحاكما إلى رسول الله ( ص ) فحكم لليهودي فلم يرض المنافق بقضائه عليه السلام فقال : نتحاكم إلى عمر رضي الله عنه، فلما ذهبا إليه قال له اليهودي : قضى لي النبي ( ص ) فلم يرض بقضائه، فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : بلى، فقال : مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل رضي الله عنه بيته وخرج بسيفه فضرب به عنق المنافق حتى برد، وقال : هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله ( ص ).
تفسير المفردات :
تولوا : أي تتولوا، بحذف إحدى التاءين.
الإيضاح :
ولما نبه سبحانه إلى خداعهم وأشار إلى عدم الاغترار بأيمانهم أمر بترغيبهم وترهيبهم مشيرا إلى الإعراض عن عقوبتهم بقوله :
﴿ قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ﴾أي مرهم باتباع كتاب الله وسنة رسوله، وفي هذا إيماء إلى أن ما أظهروه من الطاعة ليسوا منها في شيء.
ثم أكد الأمر السابق، وبالغ في إيجاب الامتثال به، والحمل عليه بالترغيب والترهيب بقوله :
﴿ فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ﴾أي فإن تتولوا عن الطاعة بعد أن أمركم الرسول بها، فما ضررتم الرسول بشيء، بل ضررتم أنفسكم، لأنه عليه ما أمر به من تبليغ الرسالة وقد فعل، وعليكم ما أمرتم به من الطاعة، فإن أنتم لم تفعلوا وتوليتم فقد عرضتم أنفسكم لسخط الله وعذابه، وإن أطعتموه فقد خرجتم من الضلال إلى الهدى، فالنفع والضرر عائدان إليكم.
﴿ وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين ﴾أي وإن تطيعوا الرسول فيما أمركم به ونهاكم عنه تهتدوا إلى الحق الموصل إلى كل خير، المنجي من كل شر، وما الرسول إلا ناصح وهاد ومبلغ لكم، فإن أطعتموه لحظوظ أنفسكم أصبتم طريق الصواب، وإن خالفتموه أوقعتم أنفسكم في الهلكة.
و الخلاصة : إن الرسول فعل ما يجب عليه من أداء الرسالة، وقد بقي ما يجب عليكم أن تفعلوه.
و نحو الآية قوله :﴿ فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ﴾[ الرعد : ٤٠ ] و قوله :﴿ فذكر إنما أنت مذكر ( ٢١ ) لست عليهم بمصيطر ﴾[ الغاشية : ٢١- ٢٢ ].
المعنى الجملي : بعد أن بين أن من أطاع الرسول فقد اهتدى إلى الحق، ومن اهتدى إلى الحق فجزاؤه دار النعيم، أردف ذلك وعده الكريم بأنه سيجعل المؤمنين المطيعين لله ورسوله خلفاء في الأرض، ويؤيدهم بالنصرة والإعزاز، و يبدلهم من بعد خوفهم من العدو أمنا، فيعبدون الله وحده وهم آمنون، ومن جحد هذه النعم من بعد ذلك فقد عصى ربه، وكفر أنعمه.
روى الطبراني والحاكم وابن مردويه عن أبي بن كعب قال : لما قدم رسول الله ( ص ) وصحبه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة. فكانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا : ترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله ؟ فنزلت الآية.
الإيضاح :
﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ﴾أي وعد الله المؤمنين منكم المصلحين لأعمالهم ليورثنهم أرض المشركين من العرب والعجم، وليجعلنهم ملوكها وساستها، كما استخلف بني إسرائيل بالشام حين أهلك الجبابرة وجعلهم ملوكها وسكانها.
وقد وفى سبحانه بوعده، فإنه لم يمت عليه الصلاة والسلام حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأخذ الجزية من مجوس هجر ومن بعض أطراف الشام، وهاداه هرقل ملك الروم، والمقوقس في مصر، والنجاشي ملك الحبشة.
ولما قبض ( ص ) إلى الرفيق الأعلى قام بالأمر من بعده الخلفاء الراشدون، فنهجوا منهجه، وافتتحوا كثيرا من المشرق والمغرب، ومزقوا ملك الأكاسرة، وملكوا خزائنهم، واستعبدوا أبناء القياصرة، وصدق قول رسوله :" إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها ".
﴿ و ليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ﴾أي وليجعلن دين الإسلام راسخا قويا ثابت القدم، ويعظم أهله في نفوس أعدائه الذين يواصلون الليل بالنهار في التدبير لإطفاء أنواره، لتعفو آثاره.
﴿ وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ﴾أي وليغيرن حالهم من الخوف إلى الأمن، قال الربيع بن أنس، كان النبي ( ص ) وأصحابه بمكة نحوا من عشرة سنين يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له هم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بعد بالهجرة إلى المدينة فقدموها، فأمرهم الله بالقتال، فكانوا بها خائفين، يمسون في السلاح ويصبحون في السلاح، فصبروا على ذلك ما شاء الله، ثم إن رجلا من الصحابة قال : يا رسول الله، أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح ؟ فقال رسول الله ( ص ) :" لن تصبروا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس فيه حديدة ". فأنزل الله﴿ وعد الله الذين آمنوا ﴾. إلى آخر الآية.
و نحو الآية قوله :﴿ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فأواكم وأيدكم بنصره، ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ﴾[ الأنفال : ٢٦ ].
ثم أتبع ذلك بتعليل التمكين و ما بعده بقوله :
﴿ يعبدونني لا يشركون بي شيئا ﴾أي يعبدونني غير خائفين أحدا غيري.
﴿ ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ﴾أي ومن جحد هذه النعم فأولئك هم الذين أنكروا فضل المنعم بها، وتناسوا جليل خطرها.
المعنى الجملي : بعد أن بشر المؤمنين بأنه سيمكن لهم في الأرض ويجعل لهم من بعد الخوف أمنا، أردف ذلك أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، شكرا له على ما أنعم به عليهم، وإحسانا إلى عباده البائسين الفقراء كما أحسن إليهم بتبديل ذلهم عزة وضعفهم قوة، ثم أعقبه برفع استبعاد تحقق الوعد السابق، مع كثرة عدد عدوهم وعددهم، و بعدئذ ذكر أن مآلهم إلى النار، و بئس القرار.
الإيضاح :
﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ﴾أي وأقيموا أيها الناس الصلاة على الوجه الذي رسمه الله في مواقيتها ولا تضيعوها، وآتوا الزكاة التي فرضها على أهلها، لما فيها من الإحسان إلى الفقير والمسكين وذوي البؤس والحاجة، و أطيعوا رسول ربكم فيما أمركم به ونهاكم عنه، لعل ربكم أن يرحمكم فينجيكم من شديد عذابه.
المعنى الجملي : بعد أن بشر المؤمنين بأنه سيمكن لهم في الأرض ويجعل لهم من بعد الخوف أمنا، أردف ذلك أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، شكرا له على ما أنعم به عليهم، وإحسانا إلى عباده البائسين الفقراء كما أحسن إليهم بتبديل ذلهم عزة وضعفهم قوة، ثم أعقبه برفع استبعاد تحقق الوعد السابق، مع كثرة عدد عدوهم وعددهم، و بعدئذ ذكر أن مآلهم إلى النار، و بئس القرار.
تفسير المفردات :
معجزين في الأرض : أي جاعلين الله عاجزا عن إدراكهم وإهلاكهم وإن هربوا في الأرض جميعها.
الإيضاح :
ثم بين أن الكافرين سيحل بهم النكال، و لا يجدون مهربا مما أوعدهم به ربهم فقال :
﴿ لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ﴾أي أيها الرسول لا تظنن الكافرين يجدون مهربا في الأرض إذا أردنا إهلاكهم، بل نحن قادرون على أخذهم والبطش بهم متى أردنا، والكلام من وادي قولهم :" اسمعي يا جاره ".
و بعدئذ بين مآلهم في الآخرة فقال :
﴿ و مأواهم النار ولبئس المصير ﴾أي كما أنا سنضيق في الدنيا وننكل بهم، ولا يفلتون من عذابنا، سنجعل أمرهم نارا تلظى، لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى.
والخلاصة : إنه سيلحقهم سخطنا في الدنيا، و سينالهم الذل والصغار، وسيكون مصيرهم في الآخرة سعيرا وحميما وغساقا جزاء وفاقا، إنهم كذبوا بآياتنا كذابا.
المعنى الجملي : بعد أن نهى فيما سلف عن دخول الأجانب في البيوت إلا بعد الاستئذان والتسليم على أهلها، وبين أن في ذلك الخير كل الخير لهم، فإن لم يجدوا فيها أحدا رجعوا ؛ لما لذلك من كبير الأثر في المجتمع الإسلامي، بصيانة الآداب العامة، ومنع القيل والقال، وحفظ الأعراض والأنساب.
استثنى في هذه الآيات دخول الأقارب بعضهم على بعض، ودخول المملوكين على سادتهم، و بين أن الاستئذان لا يكون في جميع الأوقات، بل في ثلاث أوقات هي عورات لأرباب البيوت، لما فيها من رفع الكلفة وقلة التحفظ في الستر، ثم ذكر أن النساء الطاعنات في السن إذا لم يطمعن في الزواج فلا حرج عليهن إذا لم يستعملن الزينة، وعليهن أن يتعففن جهد الطاقة.
روي أن سبب نزول الآية أن رسول الله ( ص ) بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضي الله عنه غلاما من الأنصار يقال له مدلج، وكان عمر نائما فدق عليه الباب ودخل، فاستيقظ وجلس، فانكشف منه شيء، فقال : لوددت أن الله تعالى نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن، فانطلق معه إلى رسول الله ( ص ) فوجد الآية نزلت فخر ساجدا، وهذا أحد موافقات رأيه الصائب رضي الله عنه للوحي.
و قيل إن السبب ما روي من أن أسماء بنت أبي مرشد دخل عليها غلام كبير لها في وقت كرهت دخوله فيه، فأتت رسول الله ( ص ) فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فنزلت الآية.
تفسير المفردات :
ما ملكت أيمانكم : يشمل العبيد والإماء أي الذكران والإناث. الحلم : بسكون اللام وضمها أي وقت البلوغ ؛ إما بالاحتلام، و إما ببلوغ الخامسة عشرة سنة من حلم بفتح اللام. تضعون : أي تخلعون. الظهيرة : وقت اشتداد الحر حين منتصف النهار. و العورات : أي الأوقات التي يختل فيها تستركم. من قولهم : أعور الفارس : إذا اختلت حاله. جناح : أي إثم وذنب. طوافون عليكم : أي يطوفون عليكم للخدمة والمخالطة الضرورية.
الإيضاح :
﴿ يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ﴾أي لا يدخل أيها المؤمنون في بيوتكم عبيدكم وإماؤكم ثلاث مرات في ثلاثة أوقات من ساعات ليلكم ونهاركم إلا بإذن : قبل صلاة الفجر لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم ولبس ثياب اليقظة، و كل ذلك مظنة انكشاف العورة، وحين تخلعون ثيابكم التي تلبسونها وقت الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء، لأنه وقت خلع ثياب اليقظة ولبس ثياب النوم.
وخص هذه الأوقات الثلاثة، لأنها ساعات الخلوة ووضع الثياب والالتحاف باللحاف.
وهكذا حكم حال الذين لم يبلغوا الحلم من أطفالكم.
ثم علل طلب الاستئذان بقوله :
﴿ ثلاث عورات لكم ﴾أي لأن هذه الأوقات الثلاثة ثلاث عورات لكم يختل فيها التستر عادة.
و بعد أن بين حكم هذه الأوقات الثلاث بين حكم ما عدا ذلك فقال :
﴿ ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن ﴾أي ليس عليكم معشر أرباب البيوت ولا على الذين ملكت أيمانكم من الرجال والنساء ولا على الذين لم يبلغوا الحلم من أطفالكم حرج ولا إثم في غير هذه العورات الثلاث.
و الخلاصة : لا حرج ولا إثم على الناس أن يدخل عليهم مماليكهم البالغون وصبيانهم الصغار بغير استئذان بعد هذه الأوقات الثلاث، أما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل و أهله إلا بإذن على كل حال.
ثم علل الإباحة في غيرها بقوله :
﴿ طوافون عليكم بعضكم على بعض ﴾أي هؤلاء المماليك والصبيان الصغار يدخلون ويخرجون على مواليهم و أقربائهم في منازلهم غدوة وعشية بغير إذن، لأنهم يخدمونهم، أو لاحتياج الأقارب إليهم، كما أن السادة والأقارب يطوفون على ذوي قرابتهم ومماليكهم إذا عرضت لهم حاجة إليهم.
ثم بين فضله على عباده في بيان أحكام دينهم لهم فقال :
﴿ كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ﴾أي ومثل هذا التبيين لتلك الأحكام يبين لكم شرائع دينكم وأحكامه، والله عليم بما يصلح أحول عباده، حكيم في تدبير أمورهم، فيشرع لهم ما يصلح أحوالهم في المعاش والمعاد.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس : ترك الناس ثلاث آيات فلم يعملوا بهن﴿ يا أيها الذين آمنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم ﴾الآية، وقوله في النساء﴿ وإذا حضر القسمة أولوا القربى ﴾[ النساء : ٨ ] الآية، وقوله في الحجرات :﴿ إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾[ الحجرات : ١٣ ].
وعن عكرمة عن ابن عباس أن رجلين سألاه عن الاستئذان في العورات الثلاث التي أمر الله بها في القرآن فقال : إن الله ستير يحب الستر، كأن الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حجال في بيوتهم، فربما فجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجره وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات، ثم بسط الله عليهم الرزق فاتخذوا الستور واتخذوا الجبال فرأوا أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به اه.
المعنى الجملي : بعد أن نهى فيما سلف عن دخول الأجانب في البيوت إلا بعد الاستئذان والتسليم على أهلها، وبين أن في ذلك الخير كل الخير لهم، فإن لم يجدوا فيها أحدا رجعوا ؛ لما لذلك من كبير الأثر في المجتمع الإسلامي، بصيانة الآداب العامة، ومنع القيل والقال، وحفظ الأعراض والأنساب.
استثنى في هذه الآيات دخول الأقارب بعضهم على بعض، ودخول المملوكين على سادتهم، و بين أن الاستئذان لا يكون في جميع الأوقات، بل في ثلاث أوقات هي عورات لأرباب البيوت، لما فيها من رفع الكلفة وقلة التحفظ في الستر، ثم ذكر أن النساء الطاعنات في السن إذا لم يطمعن في الزواج فلا حرج عليهن إذا لم يستعملن الزينة، وعليهن أن يتعففن جهد الطاقة.
روي أن سبب نزول الآية أن رسول الله ( ص ) بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضي الله عنه غلاما من الأنصار يقال له مدلج، وكان عمر نائما فدق عليه الباب ودخل، فاستيقظ وجلس، فانكشف منه شيء، فقال : لوددت أن الله تعالى نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن، فانطلق معه إلى رسول الله ( ص ) فوجد الآية نزلت فخر ساجدا، وهذا أحد موافقات رأيه الصائب رضي الله عنه للوحي.
و قيل إن السبب ما روي من أن أسماء بنت أبي مرشد دخل عليها غلام كبير لها في وقت كرهت دخوله فيه، فأتت رسول الله ( ص ) فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فنزلت الآية.
الإيضاح :
ولما بين الله حكم الأرقاء والصبيان الذين هم أطوع للأمر وأقبل لكل خير، أتبعه بحكم البالغين الأحرار بقوله :
﴿ وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم ﴾أي وإذا بلغ الصغار من أولادكم و أقربائكم الأحرار سن الاحتلام وهو خمسة عشرة سنة فلا يدخلوا عليكم في كل حين إلا بإذن في أوقات العورات الثلاث ولا في غيرها، كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه.
وذكر الله في هذه الآية حكم الأطفال إذا بلغوا ولم يذكر حكم ما ملكت أيماننا مع أن ما قبلها فيه ذكر المماليك والأطفال لأن حكم ما ملكت اليمين واحد كبارهم وصغارهم، وهو الاستئذان في الساعات الثلاث التي ذكرت في الآية قبل.
ثم أكد نعمه عليهم ببيان أحكام دينهم بقوله :
﴿ كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم ﴾أي كما بين لكم ما ذكر غاية البيان، يبين لكم ما فيه سعادتكم في دنياكم وآخرتكم، وهو العليم بأحول خلقه، الحكيم فيها يدبر لهم.
المعنى الجملي : بعد أن نهى فيما سلف عن دخول الأجانب في البيوت إلا بعد الاستئذان والتسليم على أهلها، وبين أن في ذلك الخير كل الخير لهم، فإن لم يجدوا فيها أحدا رجعوا ؛ لما لذلك من كبير الأثر في المجتمع الإسلامي، بصيانة الآداب العامة، ومنع القيل والقال، وحفظ الأعراض والأنساب.
استثنى في هذه الآيات دخول الأقارب بعضهم على بعض، ودخول المملوكين على سادتهم، و بين أن الاستئذان لا يكون في جميع الأوقات، بل في ثلاث أوقات هي عورات لأرباب البيوت، لما فيها من رفع الكلفة وقلة التحفظ في الستر، ثم ذكر أن النساء الطاعنات في السن إذا لم يطمعن في الزواج فلا حرج عليهن إذا لم يستعملن الزينة، وعليهن أن يتعففن جهد الطاقة.
روي أن سبب نزول الآية أن رسول الله ( ص ) بعث وقت الظهيرة إلى عمر رضي الله عنه غلاما من الأنصار يقال له مدلج، وكان عمر نائما فدق عليه الباب ودخل، فاستيقظ وجلس، فانكشف منه شيء، فقال : لوددت أن الله تعالى نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن، فانطلق معه إلى رسول الله ( ص ) فوجد الآية نزلت فخر ساجدا، وهذا أحد موافقات رأيه الصائب رضي الله عنه للوحي.
و قيل إن السبب ما روي من أن أسماء بنت أبي مرشد دخل عليها غلام كبير لها في وقت كرهت دخوله فيه، فأتت رسول الله ( ص ) فقالت : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فنزلت الآية.
تفسير المفردات :
القواعد : واحدها قاعد، وهي العجوز. لا يرجون نكاحا : أي يطمعن فيه لكبر سنهن. والتبرج : التكلف في إظهار ما يخفى من الزينة، من قولهم : سفينة بارج، إذا كان لا غطاء عليها.
الإيضاح :
ولما بين سبحانه حكم الحجاب، حين إقبال الشباب أتبعه بحكمه حين إدباره فقال :
﴿ والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة ﴾أي والنساء اللواتي قعدن عن الولد كبرا، وقد يئسن من التبعل فلا يطمعن في الأزواج، فليس عليهن إثم ولا حرج أن يخلعن ثيابهن الظاهرة كالملحفة والجلباب الذي فوق الخمار إذا كن لا يبدين زينة خفية كشعر ونحر وساق لدى المحارم وغير المحارم من الغرباء.
وخلاصة ذلك : لا جناح على القواعد من النساء أن يجلسن في بيوتهن بدرع وخمار ويضعن الجلباب ما لم يقصدن بذلك الزينة وإظهار ما يجب إخفاؤه، هذا إذا لم يكن فيهن بقية من جمال تورث الشهوة، فإن كان فيهن ذلك فلا يدخلن في حكم الآية.
﴿ وأن يستعففن خير لهن ﴾أي وإن تعففن عن وضع جلابيبهن وأرديتهن، فلبسنها كان ذلك خير لهن من خلعها، لتباعدهن حينئذ عن التهمة، ولقد قالوا : لكل ساقطة في الحي لاقطة.
ثم توعد من يخالف تلك الأوامر فقال :
﴿ والله سميع عليم ﴾أي والله سميع بما يجري بينهن وبين الرجال من الأحاديث، عليم بمقاصدهن لا تخفى عليه خافية من أمرهن، فاحذروا أن يسول لكم الشيطان مخالفة ما به أمر، وعنه نهى.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أن للماليك والصبيان الدخول في البيوت في غير العورات الثلاث بلا استئذان ولا إذن من أهل البيت، ذكر هنا أنه لا حرج على أهل هذه الأعذار الثلاثة في تركهم للجهاد وما يشبهه، وذلك يستلزم عدم الاستئذان منه ( ص ) فلهم القعود من غير استئذان ولا إذن، كما لا حرج عمن ذكروا بعدهم في الأكل من البيوت المذكورة في الآية.
قال صاحب الكشاف : والكلام على هذا التفسير صحيح لالتقاء الطائفتين في أن كلا منهما منفي عنه الحرج، ومثاله أن يستفتي مسافر عن الإفطار في رمضان وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر فتقول : ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر اه.
قال الحسن : أنزلت الآية في ابن أم مكتوم وضع الله عنه الجهاد وكان أعمى.
وقال مقاتل : نزلت في الحارث بن عمرو، وكان قد خرج مع رسول الله ( ص ) غازيا وخلف مالك بن يزيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال : تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك.
تفسير المفردات :
الحرج لغة : الضيق، ويراد به في الدين الإثم. ما ملكتم مفاتحه : أي ما كان تحت تصرفكم من بستان أو ماشية بطريق الوكالة أو الحفظ. والصديق : يطلق على الواحد والجمع كالخليط والعدو. جميعا : أي مجتمعين. أشتاتا : أي متفرقين، واحدهم شتيت. على أنفسكم : أي على أهل البيوت. طيبة : أي تطيب بها نفس المستمع.
الإيضاح :
﴿ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ﴾أي ليس على هؤلاء الثلاثة إثم في ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم. قاله عطاء وزيد بن أسلم.
ونحو الآية قوله في سورة براءة :﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ﴾[ التوبة : ٩١ ].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد من الحرج المنفي في الآية الحرج في الأكل ؛ ذلك أنه لما نزل قوله تعالى :﴿ ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾[ البقرة : ١٨٨ ] تحرج المسلمون عن مؤاكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب، والأعرج لانه لا يستطيع المزاحمة على الطعام، والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام. فأنزل الله هذه الآية. والمعنى على هذه الرواية : ليس في مؤاكلة الأعمى ولا ما بعده حرج.
﴿ ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم ﴾أي ولا حرج عليكم ان تأكلوا من البيوت التي فيها أزواجكم وعيالكم، ويشمل ذلك بيوت الأولاد، لأن بيت الولد كبيته ؛ لقوله ( ص ) " أنت ومالك لأبيك " وقوله :" إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه، وإن ولده من كسبه ".
و فائدة ذكر وقوله :﴿ على أنفسكم ﴾الإشارة إلى أن الأكل المذكور مع أنه لا حرج فيه لا يخل بقدر من له شأن، فقد كثر إقحام " النفس " في ذوي القدر كقوله :﴿ كتب ربكم على نفسه الرحمة ﴾[ لأنعام : ٥٤ ] ولم يقل : كتب ربكم عليه الرحمة، وقوله في الحديث القدسي :" يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي " ولم يقل : حرمت الظلم علي.
وذكر هذا الحكم وهو معلوم، ليعطف عليه غيره في اللفظ، وليساويه ما بعده في الحكم.
﴿ أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عماتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم ﴾لما علم بالعادة أن هؤلاء تطيب نفوسهم بأكل من يدخل عليهم من الأقارب.
﴿ أو ما ملكتم مفاتحه ﴾ عني بذلك وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته، فلا حرج عليه أن يأكل من ثمر الضيعة ويشرب من لبن الماشية، ولكن لا يحمل ولا يدخر، وهذا إذا لم يجعل له أجرا على ذلك، فإن جعل له أجرا فلا يحل له أكل شيء منها.
﴿ أو صديقكم ﴾أي أو بيوت أصدقائكم الذين يصدقونكم المودة و تصدقونهم، هذا إذا علم رضاهم بذلك بالإذن أو بشاهد الحال، ولا فرق بينهم وبين غيرهم إذا وجد الإذن.
قال ابن زيد : هذا شيء قد انقطع. إنما كان في أوله ولم يكن لهم ستور أبواب، أو كانت الستور مرخاة ؛ فربما دخل الرجل البيت وليس فيه أحد، وربما وجد الطعام وهو جائع، فسوغ له أن يأكل منه، ثم قال : ذهب ذلك اليوم، البيوت فيها أهلها، فإذا خرجوا أغلقوا اه.
وعلى هذا فالمعنى يجوز الأكل من بيوت هؤلاء وإن لم يحضروا وإذا علم رضاهم به بصريح اللفظ أو بالقرينة وإن كانت ضعيفة.
وإنما خص هؤلاء بالذكر، لأنهم اعتادوا التبسط بينهم، والرضا فيهم محقق غالبا.
وعن جعفر الصادق رضي الله عنه : من عظم حرمة الصديق أن جعله الله تعالى من الأنس والثقة والانبساط ورفع الحشمة بمنزلة النفس والأب والأخ.
وقيل لأفلاطون : من أحب إليك، أخوك أم صديقك ؟ فقال : لا أحب أخي إلا إذا كان صديقي، ولكن أني هو ؟ فقد أثر عن هشام بن عبد الملك أنه قال : نلت ما نلت حتى الخلافة، وأعوزني صديق لا أحتشم منه.
ثم استأنف سبحانه حكما آخر من نوع ما قبله فقال :
﴿ ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا ﴾أي لا حرج عليكم أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين، روي عن ابن عباس والضحاك وقتادة أنها نزلت في بني ليث بن عمرو بن كنانة تحرجوا أن يأكلوا طعامهم متفرقين، وكان الرجل منهم يمكث طوال يومه لا يأكل حتى يجد ضيفا يأكل معه، فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئا، وربما قعد الرجل منهم والطعام بين يديه لا يتناوله إلى الرواح، وقد تكون معه الإبل الحفل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه، فإذا أمسى ولم يجد أحدا أكل، وفي مثل هذا يقول حاتم :
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له | أكيلا فإني لست آكله وحدي |
ثم شرع سبحانه يبين ما ينبغي رعايته حين دخول البيوت بعد أن ذكر الرخصة فيه فقال :
﴿ فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ﴾أي فإذا دخلتم بيتا من هذه البيوت فليسلم بعضكم على بعض.
وفي التعبير عن أهل تلك البيوتات ب ﴿ أنفسكم ﴾إيماء إلى السبب الذي اقتضى إباحة الأكل من تلك البيوت، وأنه إنما كان ؛ لأن الداخل فيها كأنه داخل في بيته، لما بينهما من قرابة أو نحوها.
﴿ تحية من عند الله مباركة طيبة ﴾أي حيوا تحية ثابتة بأمره تعالى مشروعة من لدنه، يرجى بها زيادة الخير والثواب، ويطيب بها قلب المستمع.
وعن جابر بن عبد الله قال :" إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة " أخرجه البخاري وغيره.
روى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال : أوصاني النبي ( ص ) بخمس خصال قال :" يا أنس أسبع الوضوء يزد في عمرك، وسلم على من لقيك من أمتي تكثر حسناتك، وإذا دخلت – يعني بيتك – فسلم على أهلك يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوابين قبلك، يا أنس، ارحم الصغير، ووقر الكبير، تكن من رفقائي يوم القيامة ".
﴿ كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون ﴾أي هكذا يفصل الله لكم معالم دينكم، كما فصل لكم في هذه الآية ما أحل لكم فيها، وعرفكم سبيل الدخول على من تدخلون عليه، لكي تفقهوا أمره ونهيه وأدبه، وبذا تفوزون بسعادة الدارين، ويكون لكم المقام المحمود عند ربكم.
المعنى الجملي : بعد أن أمر المؤمنين بالاستئذان عند الدخول أمرهم بالاستئذان حين الخروج، ولا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول ( ص ) كتشاور في قتال أحد أو في حادث عرض، وبين أن من يفعل ذلك فهو من كاملي الإيمان، ثم أمر رسوله أن يأذن لمن شاء منهم إذا استأذنه، ثم أمر المؤمنين أن يبجلوا نبيهم ولا يسموه باسمه بل يقولوا يا نبي الله، ويا رسول الله، وليحذروا أن يخالفوا أمره وسنته وشريعته، بل عليهم أن يزنوا أقوالهم وأفعالهم بأقواله وأفعاله، فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على فاعله وقائله كائنا من كان، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي ( ص ) قال :" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ".
تفسير المفردات :
أمر جامع : أي خطب جلل يستعان فيه بأرباب التجارب والآراء كقتال عدو أو تشاور في حادث قد عرض.
الإيضاح :
﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه ﴾أي ما المؤمنون حق الإيمان إلا الذين صدقوا الله ورسوله، وإذا كانوا مع رسوله على أمر يجمع جميعهم من حرب حضرت، أو صلاة اجتمع لها، أو تشاور في أمر قد نزل، لم ينصفوا عما اجتمعوا له حتى يستأذنوا الرسول ( ص ).
وهذا أدب على نهج سابقه، فكما أرشدهم من قبل إلى الاستئذان حين الدخول، أمرهم بالاستئذان حين الانصراف، ولا سيما إذا كانوا في أمر جامع، روى الترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله ( ص ) قال :" إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة ".
ولما كان الإذن كالدليل على كمال الإيمان والمميز للمخلص من غيره أعاده مؤكدا بأسلوب أبلغ فقال :
﴿ إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله ﴾أي إن الذين لا ينصرفون إذا كانوا معك أيها الرسول في أمر جامع إلا بإذنك لهم، طاعة منهم لله ولك، وتصديقا بما أتيتهم به من عنده أولئك هم المؤمنون حقا.
ولما ذكر ما يلزم المؤمن من الاستئذان أعقبه بما يفعله الرسول حينئذ فقال :
﴿ فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم ﴾أي فإذا استأذنوك لبعض ما يعرض لهم من مهام أمورهم فأذن لمن شئت منهم أن ينصرف لقضاء ما عرض له، بحسب ما تقتضيه المصلحة التي تراها، كما وقع لعمر رضي الله عنه حين خرج مع النبي ( ص ) في غزوة تبوك، حيث استأذن في الرجوع إلى أهله فأذن له ( ص ) وقال له : ارجع فلست بمنافق.
﴿ واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم ﴾أي وادع الله أن يتفضل عليهم بالعفو عن تبعات ما بينه وبينهم، إنه غفور لذنوب عباده التائبين، رحيم بهم أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.
وفي هذا إيماء إلى أن الاستئذان وإن كان لعذر قوي فيه بعض الملامة لما فيه من تقديم شؤون الدنيا على أمور الآخرة، كما أن فيه احتفلا برسوله ( ص ) إذ جعل الاستئذان للذهاب عنه ذنبا محتاجا إلى الاستغفار، فضلا عن الذهاب بلا إذن، ورتب الإذن على الاستئذان لبعض شأنهم لا على الاستئذان لأي أمر مهما كان، مهما كان أو غير مهم، على أنه علق الإذن بالمشيئة.
المعنى الجملي : بعد أن أمر المؤمنين بالاستئذان عند الدخول أمرهم بالاستئذان حين الخروج، ولا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول ( ص ) كتشاور في قتال أحد أو في حادث عرض، وبين أن من يفعل ذلك فهو من كاملي الإيمان، ثم أمر رسوله أن يأذن لمن شاء منهم إذا استأذنه، ثم أمر المؤمنين أن يبجلوا نبيهم ولا يسموه باسمه بل يقولوا يا نبي الله، ويا رسول الله، وليحذروا أن يخالفوا أمره وسنته وشريعته، بل عليهم أن يزنوا أقوالهم وأفعالهم بأقواله وأفعاله، فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على فاعله وقائله كائنا من كان، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي ( ص ) قال :" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ".
تفسير المفردات :
و التسلل : الخروج من البيت تدريجيا وخفية. واللواذ والملاوذة : التستر، يقال لاذ فلان بكذا، إذا استتر به. والمخالفة : أن يأخذ كل واحد طريقا غير طريق الآخر في حاله أو فعله. فتنة : أي بلاء وامتحان في الدنيا. عذاب أليم : أي عذاب مؤلم موجع في الآخرة.
الإيضاح :
وبعد أن ظهر في هذه السورة شرف الرسول، ولا سيما في هذه الآية التي بهرت العقول أردف هذا ما يؤكده فقال :
﴿ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ﴾أي لا تقيسوا أيها المؤمنون دعاءه عليه السلام إياكم بدعاء بعضكم بعضا في المساهلة والرجوع من مجلسه بغير استئذان، فإن هذا محرم عليكم.
ثم توعد المنصرفين خفية بغير استئذان فقال :
﴿ قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ﴾أي قد يعلم الله الذين يخرجون متسللين من المسجد في الخطبة واحدا بعد واحد من غير استئذان خفية مستترين بشيء، وإن عملهم هذا إن خفي على الرسول ( ص ) فلا يخفى على من يعلم السر والنجوى ومن لا يعزب عنه مثقال ذرة، ويعلم الدواعي التي تحملهم على ذلك، ولديه الجزاء على ما يفعلون.
روى أبو داود أنه كان من المنافقين من يثقل عليه استماع الخطبة والجلوس في المسجد فإذا استأذن أحد من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به فأنزل الله الآية.
﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ﴾أي فليتق الله من يفعلون ذلك منكم، فينصرفون عن رسول الله بغير إذنه، أن تصيبهم محنة وبلاء في الدنيا أو يصيبهم عذاب مؤلم موجع في الآخرة، بأن يطبع الله على قلوبهم، فيتمادوا في العصيان ومخالفة أمر الرسول، فيدخلهم النار وبئس القرار.
والآية تعم كل من خالف أمر الله و أمر رسوله وجمد التقليد من بعد ما تبين له الهدى، وظهر له الصواب من الخطأ.
المعنى الجملي : بعد أن أمر المؤمنين بالاستئذان عند الدخول أمرهم بالاستئذان حين الخروج، ولا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول ( ص ) كتشاور في قتال أحد أو في حادث عرض، وبين أن من يفعل ذلك فهو من كاملي الإيمان، ثم أمر رسوله أن يأذن لمن شاء منهم إذا استأذنه، ثم أمر المؤمنين أن يبجلوا نبيهم ولا يسموه باسمه بل يقولوا يا نبي الله، ويا رسول الله، وليحذروا أن يخالفوا أمره وسنته وشريعته، بل عليهم أن يزنوا أقوالهم وأفعالهم بأقواله وأفعاله، فما وافق ذلك قبل وما خالفه فهو مردود على فاعله وقائله كائنا من كان، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي ( ص ) قال :" من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ".
الإيضاح :
وبعد أن أقام الأدلة على أنه نور السماوات والأرض، ثم حذر كل مخالف لرسوله ( ص ) ختم السورة ببيان أن المالك للموجودات بأسرها، خلقا وملكا وتصرفا، وإيجادا وإعداما بدءا وإعادة، فقال :
﴿ ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ﴾أي إنه تعالى مالك السماوات والأرض وإنه عالم بما يعمل العباد كما قال :﴿ وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ﴾[ يونس : ٦١ ] وقال تعالى :﴿ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ﴾[ الرعد : ٣٣ ].
ثم هدد وتوعد فقال :
﴿ ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا ﴾أي ويوم يرجع الخلائق إلى ربهم حين العرض والحساب يخبرهم بما فعلوا في الدنيا من جليل وحقير، وكبير وصغير كما قال :﴿ ينبؤا الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ﴾[ القيامة : ١٣ ] وقال :﴿ ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ﴾[ الكهف : ٤٩ ].
وبعدئذ ذكر ما هو كالدليل على ما سلف بقوله :
﴿ والله بكل شيء عليم ﴾أي إنه سينبئهم بما عملوا في حياتهم الأولى، لأنه ذو علم بكل شيء وإحاطة به وهو موف كل عامل أجر عمله، يوم يرجعون إلى حكمه، إذا لا حكم يومئذ إلا هو.
عن عقبة بن عامر قال : رأيت رسول الله ( ص ) وهو يقرأ هذه الآية في خاتمة النور، وهو جاعل أصبعيه تحت عينيه يقول﴿ بكل شيء بصير ﴾ أخرجه الطبراني وغيره، قال السيوطي بسند حسن.
وصل ربنا على محمد النبي الأمي وعلى آله.