هي مدنية، وآياتها أربع وستون آية أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير قالا : أنزلت سورة النور بالمدينة. أخرج الحاكم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عائشة مرفوعاً :«لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة : يعني النساء، وعلموهن الغزل وسورة النور ». أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«علموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نساءكم سورة النور » وهو مرسل. وأخرج أبو عبيد في فضائله عن حارثة بن مضرب قال : كتب إلينا عمر بن الخطاب أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور.
ﰡ
سورة النّور
أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ قَالَا: أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: «لَا تُنْزِلُوهُنَّ الْغُرَفَ وَلَا تُعْلِمُوهُنَّ الْكِتَابَةَ» : يَعْنِي النِّسَاءَ، «وَعَلِمُوهُنَّ الْغَزَلَ وَسُورَةَ النُّورِ». وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَلِّمُوا رِجَالَكُمْ سُورَةَ الْمَائِدَةِ، وَعَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ سُورَةَ النُّورِ» وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ قَالَ: كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ تَعَلَّمُوا سُورَةَ النِّسَاءِ، وَالْأَحْزَابِ، وَالنُّورِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١ الى ٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)السُّورَةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِلْمَنْزِلَةِ الشَّرِيفَةِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ السُّورَةُ مِنَ الْقُرْآنِ: سُورَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ «١» :
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَعْطَاكَ سُورَةً | تَرَى كُلَّ مَلِكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ |
والوجه الثاني: أن يكون مُبْتَدَأٌ وَجَازَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّكِرَةِ لِكَوْنِهَا مَوْصُوفَةً بِقَوْلِهِ: أَنْزَلْناها وَالْخَبَرُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَيَكُونُ الْمَعْنَى: السُّورَةُ الْمُنَزَّلَةُ الْمَفْرُوضَةُ: كَذَا وَكَذَا، إِذِ السُّورَةُ عِبَارَةٌ عَنْ آيَاتٍ مَسْرُودَةٍ لَهَا مَبْدَأٌ وَمَخْتَمٌ، وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ، وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ مِنْ تَعْلِيلِ الْمَنْعِ مِنَ الِابْتِدَاءِ بِهَا كَوْنُهَا نَكِرَةً، فَهِيَ نَكِرَةٌ مُخَصَّصَةٌ بِالصِّفَةِ، وَهُوَ مَجْمَعٌ عَلَى جَوَازِ الِابْتِدَاءِ بِهَا. وَقِيلَ: هِيَ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ عَلَى تَقْدِيرِ: فِيمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ سورة، وردّ بأن مقتضى المقام بيان شَأْنِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، لَا بَيَانُ أَنَّ فِي جُمْلَةِ مَا أُوحِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ سُورَةٌ شَأْنُهَا: كَذَا وَكَذَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بن عبد العزيز، وعيسى الثقفي، وعيس الْكُوفِيُّ، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو حَيْوَةَ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِالنَّصْبِ، وَفِيهِ أَوْجُهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ غَيْرِ مُفَسَّرٍ بِمَا بَعْدَهُ، تَقْدِيرُهُ: اتْلُ سُورَةً، وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ عَلَى مَا قِيلَ فِي بَابِ اشْتِغَالِ الْفِعْلِ عَنِ الْفَاعِلِ بِضَمِيرِهِ، أَيْ: أَنْزَلْنَا سُورَةً أَنْزَلْنَاهَا، فَلَا مَحَلَّ لِأَنْزَلْنَاهَا هَاهُنَا لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ مُفَسِّرَةٌ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ فَإِنَّهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا صِفَةٌ لِسُورَةٍ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيْ: دونك سورة،
قَدَّرْنَا مَا فِيهَا مِنَ الْحُدُودِ، وَالْفَرْضُ: التَّقْدِيرُ، وَمِنْهُ إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ «١» وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ أَيْ: أَنْزَلْنَا فِي غُضُونِهَا وَتَضَاعِيفِهَا، وَمَعْنَى كَوْنِهَا بَيِّنَاتٍ: أَنَّهَا وَاضِحَةُ الدَّلَالَةِ عَلَى مَدْلُولِهَا، وَتَكْرِيرُ أَنْزَلْنَا لِكَمَالِ الْعِنَايَةِ بِإِنْزَالِ هَذِهِ السُّورَةِ، لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي، هَذَا شُرُوعٌ فِي تَفْصِيلِ مَا أُجْمِلَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ، وَالِارْتِفَاعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما أَوْ عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِسُورَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالزِّنَا: هُوَ وَطْءُ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ فِي فَرْجِهَا مِنْ غَيْرِ نِكَاحٍ وَلَا شُبْهَةِ نِكَاحٍ. وَقِيلَ:
هُوَ إِيلَاجُ فَرْجٍ فِي فَرْجٍ مُشْتَهًى طَبْعًا مُحَرَّمٍ شَرْعًا، وَالزَّانِيَةُ: هِيَ الْمَرْأَةُ الْمُطَاوِعَةُ لِلزِّنَا الْمُمَكِّنَةُ مِنْهُ كَمَا تُنْبِئُ عَنْهُ الصِّيغَةُ لَا الْمُكْرَهَةُ، وَكَذَلِكَ الزَّانِي، وَدُخُولُ الْفَاءُ فِي الْخَبَرِ لِتَضَمُّنِ الْمُبْتَدَأِ مَعْنَى الشَّرْطِ عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ حُكْمُ الزَّانِيَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
فَاجْلِدُوا وَالْجَلْدُ: الضَّرْبُ، يُقَالُ: جَلَدَهُ إِذَا ضَرَبَ جِلْدَهُ، مِثْلَ بَطَنَهُ إِذَا ضَرَبَ بَطْنَهُ، وَرَأَسَهُ إِذَا ضَرَبَ رَأْسَهُ، وَقَوْلُهُ: مِائَةَ جَلْدَةٍ هُوَ حَدُّ الزَّانِي الْحُرِّ الْبَالِغِ الْبِكْرِ، وَكَذَلِكَ الزَّانِيَةُ، وَثَبَتَ بِالسُّنَّةِ زِيَادَةٌ عَلَى هَذَا الْجَلْدِ، وَهِيَ تَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ والمملوكة فجلد كلّ واحد منها خَمْسُونَ جَلْدَةً لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ:
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ «٢» وَهَذَا نَصٌّ فِي الْإِمَاءِ، وَأُلْحِقَ بِهِنَّ الْعَبِيدُ لعدم الفارق، وأما من كان محصنا من الأحرار فعليه الرجم بالسنة الصحيحة المتواترة، بإجماع أهل العلم وَبِالْقُرْآنِ الْمَنْسُوخِ لَفْظُهُ الْبَاقِي حُكْمُهُ وَهُوَ «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ» وَزَادَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مَعَ الرَّجْمِ جَلْدُ مِائَةٍ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَا هُوَ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ فِي شَرْحِنَا لِلْمُنْتَقَى، وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي حَدِّ الزِّنَا مُسْتَوْفًى، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ الْحَبْسِ وَآيَةُ الْأَذَى اللَّتَيْنِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وقرأ عيسى بن عمر الثقفي ويحيى ابن يَعْمُرَ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو شَيْبَةَ «الزَّانِيَةَ وَالزَّانِيَ» بِالنَّصْبِ، قِيلَ: وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ لِأَنَّهُ عِنْدَهُ كَقَوْلِكَ زَيْدًا اضْرِبْ. وَأَمَّا الْفَرَّاءُ وَالْمُبَرِّدُ والزجاج فالرفع عندهم أوجه، وبه قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَوَجْهُ تَقْدِيمِ الزَّانِيَةِ عَلَى الزَّانِي هَاهُنَا أَنَّ الزِّنَا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانَ فِي النِّسَاءِ أَكْثَرَ حَتَّى كَانَ لَهُنَّ رَايَاتٌ تُنْصَبُ عَلَى أَبْوَابِهِنَّ لِيَعْرِفَهُنَّ مَنْ أَرَادَ الْفَاحِشَةَ مِنْهُنَّ. وَقِيلَ: وَجْهُ التَّقْدِيمِ أَنَّ الْمَرْأَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي الْفِعْلِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الشَّهْوَةَ فِيهَا أَكْثَرُ وَعَلَيْهَا أَغْلَبُ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْعَارَ فِيهِنَّ أَكْثَرُ إِذْ مَوْضُوعُهِنَّ الْحَجْبَةُ وَالصِّيَانَةُ، فَقَدَّمَ ذِكْرَ الزَّانِيَةِ تَغْلِيظًا وَاهْتِمَامًا.
وَالْخِطَابُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِلْأَئِمَّةِ وَمَنْ قَامَ مَقَامَهُمْ، وَقِيلَ: لِلْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، لأن إقامة الحدود واجبة عليهم
(٢). النساء: ٢٥.
الرِّقَّةِ وَالرَّحْمَةِ، وَقِيلَ: هِيَ أَرَقُّ الرَّحْمَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «رَأْفَةٌ» بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِهَا، وقرأ ابن جريج «رَآفَةٌ» بِالْمَدِّ كَفَعَالَةٍ، وَمَعْنَى «فِي دِينِ اللَّهِ» فِي طَاعَتِهِ وَحُكْمِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ «١» ثُمَّ قَالَ مُثَبِّتًا لِلْمَأْمُورِينَ وَمُهَيِّجًا لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ تَحُضُّهُ عَلَى أَمْرٍ: إِنْ كُنْتَ رَجُلًا فَافْعَلْ كَذَا، أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ تُصَدِّقُونَ بِالتَّوْحِيدِ وَالْبَعْثِ الَّذِي فِيهِ جَزَاءُ الْأَعْمَالِ، فَلَا تُعَطِّلُوا الْحُدُودَ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ: لِيَحْضُرَهُ زِيَادَةً فِي التَّنْكِيلِ بِهِمَا، وَشُيُوعَ الْعَارِ عَلَيْهِمَا وَإِشْهَارَ فَضِيحَتِهِمَا، وَالطَّائِفَةُ: الْفِرْقَةُ الَّتِي تَكُونُ حَافَّةً حَوْلَ الشَّيْءِ، مِنَ الطَّوْفِ، وَأَقَلُّ الطَّائِفَةِ: ثَلَاثَةٌ، وَقِيلَ: اثْنَانِ، وَقِيلَ: وَاحِدٌ، وَقِيلَ: أَرْبَعَةٌ، وَقِيلَ: عَشَرَةٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ شَيْئًا يَخْتَصُّ بِالزَّانِي وَالزَّانِيَةِ، فَقَالَ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً.
قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَشْنِيعُ الزِّنَا وَتَشْنِيعُ أَهْلِهِ وَأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيَكُونُ مَعْنَى الزَّانِي لَا يَنْكِحُ: الْوَطْءُ لَا الْعَقْدُ، أَيْ: الزَّانِي لَا يزني إلا بزانية، والزانية إِلَّا بِزَانٍ، وَزَادَ ذِكْرَ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُشْرِكِ لِكَوْنِ الشِّرْكِ أَعَمَّ فِي الْمَعَاصِي مِنَ الزِّنَا. وَرَدَّ هَذَا الزَّجَّاجُ وَقَالَ: لَا يُعْرَفُ النِّكَاحُ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا بِمَعْنَى التَّزْوِيجِ، وَيُرَدُّ هَذَا الرَّدُّ بِأَنَّ النِّكَاحَ بِمَعْنَى الْوَطْءِ ثَابِتٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ «٢» فقد بينه النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: الْوَطْءُ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ مَعْنَى الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً الزَّانِي لَا يَزْنِي إِلَّا بِزَانِيَةٍ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ، كَمَا حَكَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُمْ، وَحَكَاهُ الْخَطَّابِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْآيَةَ هَذِهِ نَزَلَتْ فِي امْرَأَةٍ خَاصَّةٍ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فَتَكُونُ خَاصَّةً بِهَا كَمَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ. الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَتَكُونُ خاصة به قال مُجَاهِدٌ. الرَّابِعُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الصُّفَّةِ، فَتَكُونُ خَاصَّةً بِهِمْ قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْمُرَادِ بِالزَّانِي وَالزَّانِيَةِ الْمَحْدُودَانِ، حَكَاهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: وَهَذَا حُكْمٌ مِنَ اللَّهِ، فَلَا يَجُوزُ لِزَانٍ مَحْدُودٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِلَّا مَحْدُودَةً. وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا مَعْنًى لَا يَصِحُّ نَظَرًا كَمَا لَمْ يَثْبُتْ نَقْلًا. السَّادِسُ: أَنَّ الْآيَةَ هَذِهِ منسوخة بقوله سبحانه وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ «٣» قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. الْقَوْلُ السَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُؤَسَّسٌ عَلَى الْغَالِبِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ غَالِبَ الزُّنَاةِ لَا يَرْغَبُ إِلَّا فِي الزَّوَاجِ بِزَانِيَةٍ مَثْلِهِ، وَغَالِبُ الزَّوَانِي لَا يَرْغَبَنَّ إِلَّا فِي الزَّوَاجِ بِزَانٍ مِثْلِهُنَّ، وَالْمَقْصُودُ زَجْرُ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ نِكَاحِ الزَّوَانِي بَعْدَ زَجْرِهِمْ عَنِ الزِّنَا، وَهَذَا أَرْجَحُ الْأَقْوَالِ، وَسَبَبُ النُّزُولِ يَشْهَدُ لَهُ كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ تَزَوُّجِ الرَّجُلِ بِامْرَأَةٍ قَدْ زَنَى هُوَ بِهَا، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ بِجَوَازِ ذلك. وروي
(٢). البقرة: ٢٣٠.
(٣). النور: ٣٢.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها قَالَ: بَيَّنَّاهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طريق عبيد الله ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ جَارِيَةً لِابْنِ عُمَرَ زَنَتْ فَضَرَبَ رِجْلَيْهَا وَظَهْرَهَا، فَقُلْتُ: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ قَالَ: يَا بُنَيَّ وَرَأَيْتُنِي أَخَذَتْنِي بِهَا رَأْفَةٌ؟ إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْنِي أَنْ أَقْتُلَهَا وَلَا أَنْ أَجْلِدَ رَأْسَهَا، وَقَدْ أَوْجَعْتُ حَيْثُ ضَرَبْتُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قال: الطّائفة الرّجل فَمَا فَوْقَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ قَالَ: لَيْسَ هَذَا بِالنِّكَاحِ، وَلَكِنِ: الْجِمَاعِ، لَا يَزْنِي بِهَا حِينَ يَزْنِي إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي الزِّنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً قَالَ: كُنَّ نِسَاءً فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَغِيَّاتٍ، فَكَانَتْ مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ تُدْعَى أُمَّ جَمِيلٍ فَكَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَتَزَوَّجُ إِحْدَاهُنَّ لِتُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ كَسْبِهَا، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سليمان ابن يَسَارٍ نَحْوَهُ مُخْتَصَرًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ بَغَايَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَغَايَا آلِ فُلَانٍ، وَبَغَايَا آلِ فُلَانٍ، فَقَالَ اللَّهُ الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً الْآيَةَ، فَأَحْكَمَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنَّمَا عَنَى بِذَلِكَ الزِّنَا وَلَمْ يَعْنِ بِهِ التَّزْوِيجَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: الزَّانِي مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا يَزْنِي إِلَّا بِزَانِيَةٍ مِثْلِهِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَوْ مُشْرِكَةٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَالزَّانِيَةُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا تَزْنِي إِلَّا بِزَانٍ مِثْلِهَا مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ أَوْ مُشْرِكٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَحُرِّمَ الزِّنَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَتِ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا أُمَّ مَهْزُولٍ، وَكَانَتْ تُسَافِحُ وَتَشْتَرِطُ أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ، فَأَرَادَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن يتزوّجها، فأنزل الله الزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَرْثَدٌ، يَحْمِلُ الْأُسَارَى مِنْ مَكَّةَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمُ الْمَدِينَةَ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ بِمَكَّةَ يُقَالُ لَهَا عناق،
والخطاب في هذه الآية للأئمة ومن قام مقامهم، وقيل للمسلمين أجمعين، لأن إقامة الحدود واجبة عليهم جميعاً، والإمام ينوب عنهم، إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود. ﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله ﴾ يقال : رأف يرأف رأفة على وزن فعلة، ورأفة على وزن فعالة، مثل النشأة، والنشاءة وكلاهما بمعنى : الرقة والرحمة، وقيل : هي أرق الرحمة. وقرأ الجمهور ﴿ رأفة ﴾ بسكون الهمزة، وقرأ ابن كثير بفتحها، وقرأ ابن جريج " رآفة " بالمد كفعالة، ومعنى :﴿ في دين الله ﴾ : في طاعته وحكمه، كما في قوله :﴿ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك ﴾[ يوسف : ٧٦ ]، ثم قال : مثبتاً للمأمورين ومهيجاً لهم :﴿ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر ﴾ كما تقول للرجل تحضه على أمر : إن كنت رجلاً فافعل كذا أي : إن كنتم تصدّقون بالتوحيد والبعث، الذي فيه جزاء الأعمال فلا تعطلوا الحدود ﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين ﴾ أي : ليحضره زيادة في التنكيل بهما، وشيوع العار عليهما، وإشهار فضيحتهما، والطائفة الفرقة التي تكون حافة حول الشيء، من الطوف، وأقلّ الطائفة ثلاثة، وقيل : اثنان، وقيل : واحد، وقيل : أربعة، وقيل : عشرة.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله ﴿ سُورَةٌ أنزلناها وفرضناها ﴾ قال : بيناها. وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عمر : أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها وظهرها، فقلت :﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دِينِ الله ﴾ قال : يا بنيّ ورأيتني أخذتني بها رأفة ؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها، ولا أن أجلد رأسها، وقد أوجعت حيث ضربت. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. عن ابن عباس ﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين ﴾ قال : الطائفة الرجل فما فوقه. وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، والضياء المقدسي في المختارة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله ﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ ﴾ قال : ليس هذا بالنكاح، ولكن الجماع، لا يزني بها حين يزني إلاّ زانٍ، أو مشرك ﴿ وَحُرّمَ ذلك عَلَى المؤمنين ﴾ يعني : الزنا. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، عن مجاهد في قوله ﴿ الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً ﴾ قال : كنّ نساء في الجاهلية بغيات، فكانت منهنّ امرأة جميلة تدعى أمّ جميل، فكان الرجل من المسلمين يتزّوج إحداهنّ لتنفق عليه من كسبها، فنهى الله سبحانه أن يتزوّجهنّ أحد من المسلمين، وهو مرسل. وأخرج عبد بن حميد، عن سليمان بن يسار نحوه مختصراً. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن عطاء، عن ابن عباس قال : كانت بغايا في الجاهلية بغايا آل فلان، وبغايا آل فلان، فقال الله ﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً ﴾ الآية، فأحكم الله ذلك في أمر الجاهلية، وروى نحو هذا عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، عن الضحاك في الآية قال : إنما عنى بذلك الزنا، ولم يعن به التزويج. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة، عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس في هذه الآية قال : الزاني من أهل القبلة لا يزني إلاّ بزانية مثله من أهل القبلة، أو مشركة من غير أهل القبلة، والزانية من أهل القبلة لا تزني إلاّ بزانٍ مثلها من أهل القبلة، أو مشرك من غير أهل القبلة، وحرّم الزنا على المؤمنين. وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن عبد الله بن عمرو قال : كانت امرأة يقال لها : أمّ مهزول، وكانت تسافح، وتشترط أن تنفق عليه، فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّجها، فأنزل الله ﴿ الزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ﴾. وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال :" كان رجل يقال له : مرثد، يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، وكانت امرأة بغيّ بمكة يقال لها : عناق، وكانت صديقة له، وذكر قصة وفيها : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أنكح عناقاً ؟، فلم يرد عليّ شيئاً حتى نزلت ﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً ﴾ الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يا مرثد ﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذلك عَلَى المؤمنين ﴾ فلا تنكحها». وأخرج ابن جرير، عن عبد الله بن عمرو في الآية قال : كنّ نساء معلومات، فكان الرجل من فقراء المسلمين يتزوّج المرأة منهنّ لتنفق عليه، فنهاهم الله عن ذلك. وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس : أنها نزلت في بغايا معلنات كنّ في الجاهلية وكنّ زواني مشركات، فحرّم الله نكاحهنّ على المؤمنين. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق شعبة مولى ابن عباس قال : كنت مع ابن عباس، فأتاه رجل، فقال : إني كنت أتبع امرأة، فأصبت منها ما حرّم الله عليّ، وقد رزقني الله منها توبة، فأردت أن أتزوّجها، فقال الناس :﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ﴾، فقال ابن عباس : ليس هذا موضع هذه الآية، إنما كنّ نساء بغايا متعالنات يجعلن على أبوابهنّ رايات يأتيهنّ الناس يعرفن بذلك، فأنزل الله هذه الآية، تزوّجها فما كان فيها من إثم فعلىّ. وأخرج أبو داود، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عديّ، وابن مردويه، والحاكم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا ينكح الزاني المجلود إلاّ مثله» وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب : أن رجلاً تزوّج امرأة، ثم إنه زنى فأقيم عليه الحدّ، فجاءوا به إلى عليّ ففرق بينه وبين امرأته، وقال : لا تتزوّج إلاّ مجلودة مثلك.
قد اختلف أهل العلم في معنى هذه الآية على أقوال : الأوّل : أن المقصود منها تشنيع الزنا، وتشنيع أهله، وأنه محرّم على المؤمنين، ويكون معنى الزاني لا ينكح : الوطء لا العقد أي : الزاني لا يزني إلاّ بزانية، والزانية لا تزني إلاّ بزانٍ، وزاد ذكر المشركة والمشرك لكون الشرك أعمّ في المعاصي من الزنا. وردّ هذا الزجاج وقال : لا يعرف النكاح في كتاب الله إلاّ بمعنى التزويج، ويردّ هذا الردّ بأن النكاح بمعنى الوطء ثابت في كتاب الله سبحانه، ومنه قوله :﴿ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ﴾ [ البقرة : ٢٣٠ ] فقد بينه النبيّ صلى الله عليه وسلم، بأن المراد به : الوطء، ومن جملة القائلين بأن معنى الزاني لا ينكح إلاّ زانية : الزاني لا يزني إلا بزانية سعيد بن جبير، وابن عباس، وعكرمة، كما حكاه ابن جرير عنهم، وحكاه الخطابي عن ابن عباس. القول الثاني : أن الآية هذه نزلت في امرأة خاصة كما سيأتي بيانه فتكون خاصة بها كما قاله الخطابي. القول الثالث : أنها نزلت في رجل من المسلمين، فتكون خاصة به قاله مجاهد. الرابع : أنها نزلت في أهل الصفة، فتكون خاصة بهم قاله أبو صالح. الخامس : أن المراد بالزاني والزانية : المحدودان حكاه الزجاج، وغيره عن الحسن قال : وهذا حكم من الله، فلا يجوز لزان محدود أن يتزوّج إلاّ محدودة. وروي نحوه عن إبراهيم النخعي، وبه قال بعض أصحاب الشافعي. قال ابن العربي : وهذا معنى لا يصح نظراً كما لم يثبت نقلاً. السادس : أن الآية هذه منسوخة بقوله سبحانه :﴿ وَأَنْكِحُواْ الأيامى مّنكُمْ ﴾ قال النحاس : وهذا القول عليه أكثر العلماء. القول السابع : أن هذا الحكم مؤسس على الغالب، والمعنى : أن غالب الزناة لا يرغب إلاّ في الزواج بزانية مثله، وغالب الزواني لا يرغبن إلاّ في الزواج بزانٍ مثلهن، والمقصود زجر المؤمنين عن نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنا، وهذا أرجح الأقوال، وسبب النزول يشهد له كما سيأتي.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله ﴿ سُورَةٌ أنزلناها وفرضناها ﴾ قال : بيناها. وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عمر : أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها وظهرها، فقلت :﴿ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دِينِ الله ﴾ قال : يا بنيّ ورأيتني أخذتني بها رأفة ؟ إن الله لم يأمرني أن أقتلها، ولا أن أجلد رأسها، وقد أوجعت حيث ضربت. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. عن ابن عباس ﴿ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين ﴾ قال : الطائفة الرجل فما فوقه. وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، والضياء المقدسي في المختارة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله ﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ ﴾ قال : ليس هذا بالنكاح، ولكن الجماع، لا يزني بها حين يزني إلاّ زانٍ، أو مشرك ﴿ وَحُرّمَ ذلك عَلَى المؤمنين ﴾ يعني : الزنا. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، عن مجاهد في قوله ﴿ الزانى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً ﴾ قال : كنّ نساء في الجاهلية بغيات، فكانت منهنّ امرأة جميلة تدعى أمّ جميل، فكان الرجل من المسلمين يتزّوج إحداهنّ لتنفق عليه من كسبها، فنهى الله سبحانه أن يتزوّجهنّ أحد من المسلمين، وهو مرسل. وأخرج عبد بن حميد، عن سليمان بن يسار نحوه مختصراً. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن عطاء، عن ابن عباس قال : كانت بغايا في الجاهلية بغايا آل فلان، وبغايا آل فلان، فقال الله ﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً ﴾ الآية، فأحكم الله ذلك في أمر الجاهلية، وروى نحو هذا عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، عن الضحاك في الآية قال : إنما عنى بذلك الزنا، ولم يعن به التزويج. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة، عن عكرمة نحوه. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس في هذه الآية قال : الزاني من أهل القبلة لا يزني إلاّ بزانية مثله من أهل القبلة، أو مشركة من غير أهل القبلة، والزانية من أهل القبلة لا تزني إلاّ بزانٍ مثلها من أهل القبلة، أو مشرك من غير أهل القبلة، وحرّم الزنا على المؤمنين. وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وأبو داود في ناسخه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن عبد الله بن عمرو قال : كانت امرأة يقال لها : أمّ مهزول، وكانت تسافح، وتشترط أن تنفق عليه، فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوّجها، فأنزل الله ﴿ الزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ﴾. وأخرج عبد بن حميد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال :" كان رجل يقال له : مرثد، يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، وكانت امرأة بغيّ بمكة يقال لها : عناق، وكانت صديقة له، وذكر قصة وفيها : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أنكح عناقاً ؟، فلم يرد عليّ شيئاً حتى نزلت ﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً ﴾ الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يا مرثد ﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرّمَ ذلك عَلَى المؤمنين ﴾ فلا تنكحها». وأخرج ابن جرير، عن عبد الله بن عمرو في الآية قال : كنّ نساء معلومات، فكان الرجل من فقراء المسلمين يتزوّج المرأة منهنّ لتنفق عليه، فنهاهم الله عن ذلك. وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي عن ابن عباس : أنها نزلت في بغايا معلنات كنّ في الجاهلية وكنّ زواني مشركات، فحرّم الله نكاحهنّ على المؤمنين. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه من طريق شعبة مولى ابن عباس قال : كنت مع ابن عباس، فأتاه رجل، فقال : إني كنت أتبع امرأة، فأصبت منها ما حرّم الله عليّ، وقد رزقني الله منها توبة، فأردت أن أتزوّجها، فقال الناس :﴿ الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ﴾، فقال ابن عباس : ليس هذا موضع هذه الآية، إنما كنّ نساء بغايا متعالنات يجعلن على أبوابهنّ رايات يأتيهنّ الناس يعرفن بذلك، فأنزل الله هذه الآية، تزوّجها فما كان فيها من إثم فعلىّ. وأخرج أبو داود، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عديّ، وابن مردويه، والحاكم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا ينكح الزاني المجلود إلاّ مثله» وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن عليّ بن أبي طالب : أن رجلاً تزوّج امرأة، ثم إنه زنى فأقيم عليه الحدّ، فجاءوا به إلى عليّ ففرق بينه وبين امرأته، وقال : لا تتزوّج إلاّ مجلودة مثلك.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤ الى ١٠]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨)
وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ اسْتَعَارَ الرَّمْيَ لِلشَّتْمِ بِفَاحِشَةِ الزِّنَا لِكَوْنِهِ جِنَايَةً بِالْقَوْلِ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ وَقَالَ آخَرُ:
رَمَانِي بأسر كنت منه ووالدي | بريئا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوَى رَمَانِي |
وَقِيلَ: إِنَّ لَفْظَ المحصنات وإن كان للنساء لكنها هَاهُنَا يَشْمَلُ النِّسَاءَ وَالرِّجَالَ تَغْلِيبًا، وَفِيهِ أَنَّ تَغْلِيبَ النِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ هُنَا: الْعَفَائِفُ، وَقَدْ مَضَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ ذِكْرُ الْإِحْصَانِ وَمَا يَحْتَمِلُهُ مِنَ الْمَعَانِي. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمَقْذُوفِ وَالْقَاذِفِ أَبْحَاثٌ مُطَوَّلَةٌ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، مِنْهَا مَا هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ دَلِيلٍ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُجَرَّدُ رَأْيٍ بَحْتٍ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «وَالْمُحْصَنَاتُ» بِفَتْحِ الصَّادِ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ بِكَسْرِهَا. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ كَافِرًا أَوْ كَافِرَةً.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ أَيْضًا أَنَّ الْعَبْدُ يُجْلَدُ أَرْبَعِينَ جَلْدَةً. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَقَبِيصَةُ: يُجْلَدُ ثَمَانِينَ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُجْلَدُ لِلْعَبْدِ إِذَا افْتَرَى عَلَيْهِ لِتَبَايُنِ مَرْتَبَتِهِمَا، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَنَّ مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ بِالزِّنَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ شَرْطًا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ قَذَفَ الْمُحْصَنَاتِ فَقَالَ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أَيْ: يَشْهَدُونَ عَلَيْهِنَّ بِوُقُوعِ الزِّنَا مِنْهُنَّ، وَلَفْظُ ثُمَّ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ شَهَادَةُ الشُّهُودِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَذْفِ، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ مَالِكٌ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مُجْتَمَعِينَ وَمُفْتَرِقِينَ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْحَسَنُ وَمَالِكٌ. وَإِذَا لَمْ تَكْمُلِ الشُّهُودُ أربعة كانوا قذفة يحدّون حدّ الْقَذْفِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ: إِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ وَلَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ. وَيَرُدُّ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ جِلْدِهِ لِلثَّلَاثَةِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ» بِإِضَافَةِ أَرْبَعَةٍ إِلَى شُهَدَاءَ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ وَأَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرٍو بِتَنْوِينِ أَرْبَعَةٍ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي إِعْرَابِ شُهَدَاءَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَقِيلَ: هُوَ تَمْيِيزٌ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُمَيَّزَ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ يُضَافُ إِلَيْهِ الْعَدَدُ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَرُدَّ بِأَنَّ الْحَالَ لَا يَجِيءُ مِنَ النَّكِرَةِ الَّتِي لَمْ تُخَصَّصْ. وَقِيلَ: إِنَّ شُهَدَاءَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ نَعْتًا لِأَرْبَعَةٍ، وَلَمَّا كَانَ فِيهِ أَلِفُ التَّأْنِيثِ لَمْ يَنْصَرِفْ.
وَقَالَ النَّحَّاسُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شُهَدَاءُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، أي: لَمْ يُحْضِرُوا أَرْبَعَةَ شُهَدَاءَ، وَقَدْ قَوَّى ابْنُ جِنِّيٍّ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَيَدْفَعُ ذَلِكَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ إِنَّ تَنْوِينَ الْعَدَدِ وَتَرْكَ إِضَافَتِهِ إِنَّمَا يَجُوزُ فِي الشِّعْرِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَا يَجِبُ عَلَى الْقَاذِفِ فَقَالَ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً الْجَلْدُ: الضَّرْبُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمُجَالَدَةُ:
الْمُضَارَبَةُ فِي الْجُلُودِ أو بالجلود، ثم استعير للضرب بالعصي وَالسَّيْفِ وَغَيْرِهِمَا، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:
أُجَالِدُهُمْ يَوْمَ الْحَدِيقَةِ حَاسِرًا | كَأَنَّ يَدِي بِالسَّيْفِ مِخْرَاقُ لَاعِبِ |
(٢). الأنبياء: ٩١.
وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، وَالْفِسْقُ: هُوَ الْخُرُوجُ عَنِ الطَّاعَةِ وَمُجَاوَزَةُ الْحَدِّ بِالْمَعْصِيَةِ، وَجَوَّزَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أن هذا التأييد لِعَدَمِ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ هُوَ مَعَ عَدَمِ التَّوْبَةِ فقال: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّهُ مِنْ مُوجِبٍ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى الْبَدَلِ، وَمَعْنَى التَّوْبَةِ قَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، وَمَعْنَى مِنْ بَعْدِ ذلِكَ مِنْ بَعْدِ اقْتِرَافِهِمْ لِذَنَبِ الْقَذْفِ، وَمَعْنَى وَأَصْلَحُوا إِصْلَاحُ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا ذَنْبُ الْقَذْفِ وَمُدَارَكَةُ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ وَالِانْقِيَادِ لِلْحَدِّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ هَلْ يَرْجِعُ إلى الجملتين قبله؟ وهي جُمْلَةُ عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَجُمْلَةُ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِالْفِسْقِ، أَمْ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ؟ وَهَذَا الِاخْتِلَافُ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعُودُ إِلَى جملة الجلد، يُجْلَدُ التَّائِبُ كَالْمُصِرِّ، وَبَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ أَيْضًا عَلَى أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى جُمْلَةِ الْحُكْمِ بِالْفِسْقِ، فَمَحَلُّ الْخِلَافِ هَلْ يَرْجِعُ إِلَى جُمْلَةِ عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ أَمْ لَا؟ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ، فَإِذَا تَابَ الْقَاذِفُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ وَزَالَ عَنْهُ الْفِسْقُ، لأن سبب ردّه هُوَ مَا كَانَ مُتَّصِفًا بِهِ مِنَ الْفِسْقِ بِسَبَبِ الْقَذْفِ، فَإِذَا زَالَ بِالتَّوْبَةِ بِالْإِجْمَاعِ كَانَتِ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةً. وَقَالَ الْقَاضِي شُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَكْحُولٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إِنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يَعُودُ إِلَى جُمْلَةِ الْحُكْمِ بِالْفِسْقِ، لَا إِلَى جُمْلَةِ عَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَيَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ عَنِ الْقَاذِفِ وَصْفُ الْفِسْقِ وَلَا تقبل شهادته أبدا. وذهب الشعبي والضحاك إِلَى التَّفْصِيلِ فَقَالَا: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَإِنْ تَابَ إِلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ قَدْ قَالَ الْبُهْتَانَ، فَحِينَئِذٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ تَخْصِيصَ التَّقْيِيدِ بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ دُونَ مَا قَبْلَهَا مَعَ كَوْنِ الْكَلَامِ وَاحِدًا فِي وَاقِعَةٍ شَرْعِيَّةٍ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَاحِدٍ خِلَافُ مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَأَوْلَوِيَّةُ الْجُمْلَةِ الأخيرة المتصلة بالقيد بكونه قيدا لها لا تنفي كونه قَيْدًا لِمَا قَبْلَهَا، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّ تَقْيِيدَ الْأَخِيرَةِ بِالْقَيْدِ الْمُتَّصِلِ بِهَا أَظْهَرُ مِنْ تَقْيِيدِ مَا قَبْلَهَا بِهِ، وَلِهَذَا كَانَ مُجْمِعًا عَلَيْهِ، وَكَوْنُهُ أَظْهَرَ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ فِيمَا قَبْلَهَا ظَاهِرًا.
وَقَدْ أَطَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ الْكَلَامَ فِي الْقَيْدِ الْوَاقِعِ بَعْدَ جُمَلٍ بِمَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ الْفَنَّ، وَالْحَقُّ:
هُوَ هَذَا، وَالِاحْتِجَاجُ بِمَا وَقَعَ تَارَةً مِنَ الْقُيُودِ عَائِدًا إِلَى جَمِيعِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَتَارَةً إِلَى بَعْضِهَا لَا تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ وَلَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِدْلَالِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِدَلِيلٍ كَمَا وَقَعَ هُنَا مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَمِ رُجُوعِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ إِلَى جُمْلَةِ الْجَلْدِ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ مَا قَرَّرْنَاهُ وَيُقَوِّيهِ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَهُوَ الْفِسْقُ الْمُتَسَبِّبُ عَنِ الْقَذْفِ قَدْ زَالَ، فَلَمْ يَبْقَ مَا يُوجِبُ الرَّدَّ لِلشَّهَادَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صُورَةِ تَوْبَةِ الْقَاذِفِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَأَهْلُ المدينة: إن
وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تَمْحُو الذَّنْبَ، وَلَوْ كَانَ كُفْرًا فَتَمْحُو مَا هُوَ دُونَ الْكُفْرِ بِالْأَوْلَى، هَكَذَا حَكَى الْإِجْمَاعَ الْقُرْطُبِيُّ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الِاسْتِثْنَاءُ يَرْجِعُ إِلَى الْجُمَلِ السَّابِقَةِ، وَلَيْسَ مَنْ رَمَى غَيْرَهُ بِالزِّنَا بِأَعْظَمَ جُرْمًا مِنْ مُرْتَكِبِ الزِّنَا، وَالزَّانِي إِذَا تَابَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، لِأَنَّ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَإِذَا قَبِلَ اللَّهُ التَّوْبَةَ مِنَ الْعَبْدِ كَانَ الْعِبَادُ بِالْقَبُولِ أَوْلَى، مَعَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ مَوْجُودٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْقُرْآنِ مِنْهَا قَوْلُهُ:
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا «١» وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الِاسْتِثْنَاءَ يَرْجِعُ إِلَى الْجَمِيعِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَيْسَ الْقَاذِفُ بِأَشَدَّ جُرْمًا مِنَ الْكَافِرِ، فَحَقُّهُ إِذَا تَابَ وَأَصْلَحَ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَتُهُ، قال:
وقوله: أَبَداً أي: مادام قَاذِفًا، كَمَا يُقَالُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكَافِرِ أبدا فإن معناه: مادام كافرا، انتهى.
وجملة فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَعْلِيلٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ الِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ لِلْقَاذِفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَصَيْرُورَتِهِ مَغْفُورًا لَهُ، مَرْحُومًا مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، غَيْرَ فَاسِقٍ وَلَا مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ، وَلَا مَرْفُوعَ الْعَدَالَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِحُكْمِ الْقَذْفِ عَلَى الْعُمُومِ حُكْمَ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْقَذْفِ، وَهُوَ قَذْفُ الزَّوْجِ لِلْمَرْأَةِ الَّتِي تَحْتَهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ فَقَالَ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ أَيْ: لَمْ يَكُنْ لهم شهداء يشهدون بما رموهنّ به مِنَ الزِّنَا إِلَّا أَنْفُسُهُمْ بِالرَّفْعِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ شُهَدَاءُ. قِيلَ: وَيَجُوزُ النَّصْبُ عَلَى خَبَرِ يَكُنْ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: أَوْ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْجُوحِ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ بِرَفْعِ أَرْبَعُ عَلَى أَنَّهَا خَبَرٌ لِقَوْلِهِ: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَيْ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمُ الَّتِي تُزِيلُ عَنْهُ حَدَ الْقَذْفِ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ. وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَأَبُو عَمْرٍو أَرْبَعَ بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَيَكُونُ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَالْوَاجِبُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ، أَيْ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ وَاجِبَةٌ. وَقِيلَ:
إِنَّ أَرْبَعَ مَنْصُوبٌ بِتَقْدِيرِ: فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمْ أَرْبَعَ شَهَادَاتِ وَقَوْلُهُ: بِاللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِشَهَادَةٍ أَوْ بِشَهَادَاتٍ، وَجُمْلَةِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ هِيَ الْمَشْهُودُ بِهِ، وَأَصْلُهُ عَلَى أَنَّهُ، فَحُذِفَ الْجَارُّ وَكُسِرَتْ إِنَّ، وعلق العامل عنها وَالْخامِسَةُ قَرَأَ السَّبْعَةُ وَغَيْرُهُمْ الْخَامِسَةُ بِالرَّفْعِ عَلَى الابتداء، وخبرها أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَطَلْحَةُ وَعَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ حفص و «الخامسة» بِالنَّصْبِ عَلَى مَعْنَى وَتَشْهَدُ الشَّهَادَةَ الْخَامِسَةَ، وَمَعْنَى إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ أَيْ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ بِتَشْدِيدِ «أَنَّ» مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَقَرَأَ نَافِعٌ بِتَخْفِيفِهَا، فَعَلَى قِرَاءَةِ نَافِعٍ يَكُونُ اسْمُ أَنَّ ضَمِيرَ الشَّأْنِ، وَلَعْنَةُ اللَّهِ: مُبْتَدَأً، وَعَلَيْهِ: خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ أَنَّ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ تَكُونُ لَعْنَةُ اللَّهِ اسْمَ أَنَّ، قَالَ سِيبَوَيْهِ:
لَا تُخَفَّفُ أَنَّ فِي الْكَلَامِ وَبَعْدَهَا الْأَسْمَاءُ إِلَّا وَأَنْتَ تُرِيدُ الثَّقِيلَةَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: لَا أَعْلَمُ الثقيلة إلا أجود في
أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَدْفَعُ عَنِ الْمَرْأَةِ الْحَدَّ شَهَادَتُهَا أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ: أَنَّ الزَّوْجَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ وَالْخامِسَةَ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى أَرْبَعٍ، أَيْ: وَتَشْهَدُ الْخَامِسَةَ كَذَلِكَ قَرَأَ حَفْصٌ وَالْحَسَنُ وَالسُّلَمِيُّ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بالرفع عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ الزَّوْجُ مِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنَ الزِّنَا، وَتَخْصِيصُ الْغَضَبِ بِالْمَرْأَةِ لِلتَّغْلِيظِ عَلَيْهَا لِكَوْنِهَا أَصْلَ الْفُجُورِ وَمَادَّتَهُ، وَلِأَنَّ النِّسَاءَ يكثرن اللعن في العادة، ومع استكثار هنّ مِنْهُ لَا يَكُونُ لَهُ فِي قُلُوبِهِنَّ كَبِيرُ مَوْقِعٍ بِخِلَافِ الْغَضَبِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ جَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ لَنَالَ الْكَاذِبُ مِنْهُمَا عَذَابٌ عَظِيمٌ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَثِيرَ تَوْبَتِهِ عَلَى مَنْ تَابَ وَعَظِيمَ حِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ فَقَالَ: وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ أَيْ: يَعُودُ عَلَى مَنْ تَابَ إِلَيْهِ، وَرَجَعَ عَنْ مَعَاصِيهِ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِ وَالْمَغْفِرَةِ لَهُ: حَكِيمٌ فِيمَا شَرَعَ لِعِبَادِهِ مِنَ اللِّعَانِ وَفَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُدُودِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا قَالَ: تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفُسُوقِ، وَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا تَجُوزُ، وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرَةَ: إِنْ تُبْتَ قَبِلْتُ شَهَادَتَكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ قَالَ: تَوْبَتُهُمْ إَكْذَابُهُمْ أَنْفُسَهُمْ، فَإِنَّ أَكْذَبُوا أَنْفُسَهُمْ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ تَابَ وَأَصْلَحَ فَشَهَادَتُهُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تُقْبَلُ. وَفِي الْبَابِ رِوَايَاتٌ عَنِ التَّابِعِينَ. وَقِصَّةُ قَذْفِ الْمُغِيرَةِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ مَرْوِيَّةٌ مِنْ طُرُقٍ مَعْرُوفَةٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ عِنْدَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: الْبَيِّنَةَ، وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا رَأَى أَحَدُنَا عَلَى امْرَأَتِهِ رَجُلًا يَنْطَلِقُ يَلْتَمِسُ الْبَيِّنَةَ؟ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكِ فَقَالَ هِلَالٌ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَصَادِقٌ، وَلَيُنْزِلَنَّ اللَّهُ مَا يُبَرِّئُ ظَهْرِي مِنَ الْحَدِّ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ والنبي صلّى الله عليه وسلم يقول: الله يعلم أن أحد كما كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟
ثُمَّ قَامَتْ فَشَهِدَتْ، فَلَمَّا كَانَتْ عِنْدَ الْخَامِسَةِ وَقَّفُوهَا وَقَالُوا إِنَّهَا مُوجِبَةٌ، فَتَلَكَّأَتْ وَنَكَصَتْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهَا تَرْجِعُ، ثُمَّ قَالَتْ: لَا أَفْضَحُ قَوْمِي سَائِرَ الْيَوْمَ فمضت، فقال النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ فَهُوَ لِشَرِيكِ بْنِ سَحْمَاءَ، فَجَاءَتْ بِهِ كَذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ: لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» وَأَخْرَجَ هَذِهِ الْقِصَّةَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ ابن حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُطَوَّلَةً. وَأَخْرَجَهَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا، وَلَمْ يُسَمُّوا الرَّجُلَ وَلَا الْمَرْأَةَ. وَفِي آخِرِ الْقِصَّةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ فَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَالِي، قَالَ: لَا مَالَ لَكَ، إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَكَ مِنْهَا». وَأَخْرَجَ البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل ابن سَعْدٍ قَالَ: «جَاءَ عُوَيْمِرٌ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عديّ، فقال: سل رسول الله صلّى الله عليه وسلم أَرَأَيْتَ رَجُلًا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ
وقد اختلف أهل العلم في هذا الاستثناء هل يرجع إلى الجملتين قبله ؟ وهي : جملة عدم قبول الشهادة، وجملة الحكم عليهم بالفسق، أم إلى الجملة الأخيرة ؟ وهذا الاختلاف بعد اتفاقهم على أنه لا يعود إلى جملة الجلد بل يجلد التائب كالمصرّ، وبعد إجماعهم أيضاً على أن هذا الاستثناء يرجع إلى جملة الحكم بالفسق، فحلّ الخلاف هل يرجع إلى جملة عدم قبول الشهادة أم لا ؟، فقال الجمهور : إن هذا الاستثناء يرجع إلى الجملتين، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، وزال عنه الفسق، لأن سبب ردّها هو ما كان متصفاً به من الفسق بسبب القذف، فإذا زال بالتوبة بالإجماع كانت الشهادة مقبولة. وقال القاضي شريح، وإبراهيم النخعي، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، ومكحول، وعبد الرحمن بن زيد، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة : إن هذا الاستثناء يعود إلى جملة الحكم بالفسق، لا إلى جملة عدم قبول الشهادة، فيرتفع بالتوبة عن القاذف وصف الفسق، ولا تقبل شهادته أبداً. وذهب الشعبي، والضحاك إلى التفصيل فقالا : لا تقبل شهادته، وإن تاب إلاّ أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان، فحينئذٍ تقبل شهادته. وقول الجمهور هو الحق، لأن تخصيص التقييد بالجملة الأخيرة دون ما قبلها مع كون الكلام واحداً في واقعة شرعية من متكلم واحد خلاف ما تقتضيه لغة العرب، وأولوية الجملة الأخيرة المتصلة بالقيد بكونه قيداً لها لا تنفي كونه قيداً لما قبلها، غاية الأمر أن تقييد الأخيرة بالقيد المتصل بها أظهر من تقييد ما قبلها به، ولهذا كان مجمعاً عليه، وكونه أظهر لا ينافي قوله فيما قبلها ظاهراً. وقد أطال أهل الأصول الكلام في القيد الواقع بعد جمل بما هو معروف عند من يعرف ذلك الفنّ، والحق هو هذا، والاحتجاج بما وقع تارة من القيود عائداً إلى جميع الجمل التي قبله، وتارة إلى بعضها لا تقوم به حجة، ولا يصلح للاستدلال، فإنه قد يكون ذلك لدليل كما وقع هنا من الإجماع على عدم رجوع هذا الاستثناء إلى جملة الجلد. ومما يؤيد ما قررناه ويقوّيه أن المانع من قبول الشهادة، وهو الفسق المتسبب عن القذف قد زال، فلم يبق ما يوجب الردّ للشهادة.
واختلف العلماء في صورة توبة القاذف، فقال عمر ابن الخطاب، والشعبي، والضحاك، وأهل المدينة : إن توبته لا تكون إلاّ بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي وقع منه، وأقيم عليه الحدّ بسبببه. وقالت فرقة منهم مالك، وغيره : إن توبته تكون بأن يحسن حاله، ويصلح عمله، ويندم على ما فرط منه، ويستغفر الله من ذلك، ويعزم على ترك العود إلى مثله. وإن لم يكذب نفسه، ولا رجع عن قوله. ويؤيد هذا الآيات والأحاديث الواردة في التوبة، فإنها مطلقة غير مقيدة بمثل هذا القيد.
وقد أجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الذنب، ولو كان كفراً فتمحو ما هو دون الكفر بالأولى هكذا حكى الإجماع القرطبي. قال أبو عبيدة : الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة، وليس من رمى غيره بالزنا بأعظم جرماً من مرتكب الزنا، والزاني إذا تاب قبلت شهادته، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن منها قوله :﴿ إِنَّمَا جَزَاء الذين يُحَارِبُونَ الله ﴾ إلى قوله :﴿ إِلاَّ الذين تَابُواْ ﴾ [ المائدة : ٣٣ ٣٤ ].
ولا شك أن هذا الاستثناء يرجع إلى الجميع. قال الزجاج : وليس القاذف بأشدّ جرماً من الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته، قال : وقوله ﴿ أَبَدًا ﴾ أي : ما دام قاذفاً، كما يقال لا تقبل شهادة الكافر أبداً فإن معناه : ما دام كافراً. انتهى. وجملة ﴿ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ تعليل لما تضمنه الاستثناء من عدم المؤاخدة للقاذف بعد التوبة، وصيرورته مغفوراً له، مرحوماً من الرحمن الرحيم، غير فاسق، ولا مردود الشهادة، ولا مرفوع العدالة.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١١ الى ٢١]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١)
خَبَرُ إِنَّ من قوله: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ هو عُصْبَةٌ ومِنْكُمْ صِفَةٌ لِعُصْبَةٍ، وَقِيلَ:
هُوَ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ ويكون عُصْبَةٌ بَدَلًا مِنْ فَاعِلِ جَاءُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا أَنْسَقُ فِي الْمَعْنَى وَأَكْثَرُ فَائِدَةً مِنْ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ عُصْبَةً، وَجُمْلَةُ: لَا تَحْسَبُوهُ، وَإِنْ كَانَتْ طَلَبِيَّةً، فَجَعْلُهَا خَبَرًا يَصِحُّ بِتَقْدِيرٍ كَمَا فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ، وَالْإِفْكُ: أَسْوَأُ الْكَذِبِ وَأَقْبَحُهُ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مَنْ أَفَكَ الشَّيْءَ إِذَا قَلَبَهُ عَنْ وَجْهِهِ. فَالْإِفْكُ:
هُوَ الْحَدِيثُ الْمَقْلُوبُ، وَقِيلَ: هُوَ الْبُهْتَانُ وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا فِي الْآيَةِ مَا وَقَعَ مِنَ الْإِفْكِ عَلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ إِفْكٌ، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ حَالِهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا خِلَافُ ذَلِكَ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ:
وَمَعْنَى الْقَلْبِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ بِهِ أُولَئِكَ النَّفَرُ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَسْتَحِقُّ الثَّنَاءَ بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْحَصَانَةِ وَشَرَفِ النَّسَبِ وَالسَّبَبِ لَا الْقَذْفَ، فَالَّذِينَ رَمَوْهَا بِالسُّوءِ قَلَبُوا الْأَمْرَ عَنْ وَجْهِهِ، فَهُوَ إِفْكٌ قَبِيحٌ، وَكَذِبٌ ظَاهِرٌ، وَالْعُصْبَةُ: هُمُ الْجَمَاعَةُ مِنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْأَرْبَعِينَ، وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ رَأْسُ الْمُنَافِقِينَ، وَزَيْدُ بْنُ رَفَاعَةَ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ وَمَنْ سَاعَدَهُمْ. وَقِيلَ: الْعُصْبَةُ
مَا زَادَ ضُرُّهُ عَلَى نَفْعِهِ، وَالْخَيْرُ: مَا زَادَ نَفْعُهُ عَلَى ضُرِّهِ، وَأَمَّا الْخَيْرُ الَّذِي لَا شَرَّ فِيهِ فَهُوَ الْجَنَّةُ، وَالشَّرُّ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ فَهُوَ النَّارُ، وَوَجْهُ كَوْنِهِ خَيْرًا لَهُمْ أَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُمْ بِهِ الثَّوَابُ الْعَظِيمُ، مَعَ بَيَانِ بَرَاءَةِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَصَيْرُورَةِ قِصَّتِهَا هَذِهِ شَرْعًا عَامًّا لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أَيْ: بِسَبَبِ تَكَلُّمِهِ بِالْإِفْكِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ قَرَأَ الْحَسَنُ وَالزَّهْرِيُّ وَأَبُو رَجَاءٍ وَحُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ وَيَعْقُوبُ وَابْنُ أَبِي عُلَيَّةَ وَمُجَاهِدٌ وَعَمْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِضَمِّ الْكَافِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهُوَ وَجْهٌ جَيِّدٌ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: فُلَانٌ تَوَلَّى عَظِيمَ كَذَا وَكَذَا: أَيْ أَكْبَرَهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا. قِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ، وَقِيلَ: هُوَ بِالضَّمِّ مُعْظَمُ الْإِفْكِ، وَبِالْكَسْرِ الْبُدَاءَةُ بِهِ، وَقِيلَ: هُوَ بِالْكَسْرِ الْإِثْمُ. فَالْمَعْنَى: إِنَّ الَّذِي تَوَلَّى مُعْظَمَ الْإِفْكِ مِنَ الْعُصْبَةِ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ أَوْ فِيهِمَا.
وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْ عُصْبَةِ الْإِفْكِ مَنْ هُوَ مِنْهُمْ؟ فَقِيلَ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، وَقِيلَ:
هُوَ حَسَّانُ، وَالْأَوَّلُ: هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وغيره أن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ جَلَدَ فِي الْإِفْكِ رَجُلَيْنِ وَامْرَأَةً، وَهُمْ: مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ وَحَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ. وَقِيلَ: جَلَدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أبيّ وحسان ابن ثَابِتٍ وَحَمْنَةَ بِنْتَ جَحْشٍ، وَلَمْ يَجْلِدْ مِسْطَحًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِالْقَذْفِ، وَلَكِنْ كَانَ يَسْمَعُ وَيَشِيعُ مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ. وَقِيلَ: لَمْ يَجْلِدْ أَحَدًا مِنْهُمْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْمَشْهُورُ مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الَّذِينَ حُدُّوا: حَسَّانُ وَمِسْطَحٌ وَحَمْنَةُ، وَلَمْ يُسْمَعْ بِحَدِّ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَ عذري، قام النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ وَتَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ مِنَ الْمِنْبَرِ أَمَرَ بِالرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَةِ فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ، وَسَمَّاهُمْ: حَسَّانُ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ.
وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ تَرْكِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِجَلْدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، فَقِيلَ: لِتَوْفِيرِ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَحَدَّ مَنْ عَدَاهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَكْفِيرًا لِذَنْبِهِمْ كَمَا ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُدُودِ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّهَا كَفَّارَةٌ لِمَنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ» وَقِيلَ: تَرَكَ حَدَّهُ تَأَلُّفًا لِقَوْمِهِ وَاحْتِرَامًا لِابْنِهِ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ صَالِحِي المؤمنين وإطفاء لثائرة الْفِتْنَةِ، فَقَدْ كَانَتْ ظَهَرَتْ مَبَادِيهَا مَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وَمَنْ مَعَهُ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ. ثُمَّ صَرَفَ سُبْحَانَهُ الْخِطَابَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِطَرِيقِ الِالْتِفَاتِ فَقَالَ: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً لَوْلَا: هَذِهِ هِيَ التَّحْضِيضِيَّةُ تَأْكِيدًا لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ وَمُبَالَغَةٌ فِي مُعَاتَبَتِهِمْ، أَيْ: كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ حِينَ سَمِعُوا مَقَالَةَ أَهْلِ الْإِفْكِ أَنْ يَقِيسُوا ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَبْعُدُ فِيهِمْ، فَهُوَ فِي أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَبْعَدُ. قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى بِأَنْفُسِهِمْ: بِأَهْلِ دِينِهِمْ، لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «١» قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلِذَلِكَ يُقَالُ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِنَّهُمْ يقتلون
قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ فِي الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ دَرَجَةَ الْإِيمَانِ وَالْعَفَافِ لَا يُزِيلُهَا الْخَبَرُ الْمُحْتَمَلُ وَإِنْ شَاعَ وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ أَيْ: قَالَ الْمُؤْمِنُونَ عِنْدَ سَمَاعِ الْإِفْكِ: هَذَا إِفْكٌ ظَاهِرٌ مَكْشُوفٌ، وَجُمْلَةُ لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ مِنْ تَمَامِ مَا يَقُولُهُ الْمُؤْمِنُونَ، أَيْ: وَقَالُوا هَلَّا جَاءَ الْخَائِضُونَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ يَشْهَدُونَ عَلَى مَا قَالُوا: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ أَيِ: الْخَائِضُونَ فِي الْإِفْكِ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ أَيْ:
فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى هُمُ الْكَاذِبُونَ الْكَامِلُونَ فِي الْكَذِبِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ هذا خطاب للسامعين، وَفِيهِ زَجْرٌ عَظِيمٌ وَلَوْلا هَذِهِ: هِيَ لِامْتِنَاعِ الشيء لوجود غيره لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ أَيْ: بِسَبَبِ مَا خُضْتُمْ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ، يُقَالُ: أَفَاضَ فِي الْحَدِيثِ، وَانْدَفَعَ وَخَاضَ.
وَالْمَعْنَى: لَوْلَا أَنِّي قَضَيْتُ عَلَيْكُمْ بِالْفَضْلِ فِي الدُّنْيَا بِالنِّعَمِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا الْإِمْهَالُ، وَالرَّحْمَةُ فِي الْآخِرَةِ بِالْعَفْوِ، لَعَاجَلْتُكُمْ بِالْعِقَابِ على ما خضتم به مِنْ حَدِيثِ الْإِفْكِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى: لَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ لَمَسَّكُمُ الْعَذَابُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَعًا، وَلَكِنْ بِرَحْمَتِهِ سَتَرَ عَلَيْكُمْ فِي الدُّنْيَا وَيَرْحَمُ فِي الْآخِرَةِ مَنْ أَتَاهُ تَائِبًا. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ الظَّرْفُ مَنْصُوبٌ بِمَسَّكُمْ أَوْ بِأَفَضْتُمْ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ «إِذْ تَلَقَّوْنَهُ» مِنَ التَّلَقِّي، وَالْأَصْلُ: تَتَلَقَّوْنَهُ فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى يَرْوِيهِ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَلْقَى الرَّجُلَ فَيَقُولُ: بَلَغَنِي كَذَا وَكَذَا وَيَتَلَقَّوْنَهُ تَلَقِّيًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: يُلْقِيهِ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ.
وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بن السميقع بِضَمِّ التَّاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَضَمِّ الْقَافِ، مِنَ الْإِلْقَاءِ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَاضِحٌ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ «تَتَلَقَّوْنَهُ» مِنَ التَّلَقِّي، وَهِيَ كَقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةُ وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَضَمِّ الْقَافِ وَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ وَلَقَ يَلِقُ وَلْقًا: إِذَا كَذَبَ. قَالَ ابْنُ سِيدَهْ: جَاءُوا بِالْمُتَعَدِّي شَاهِدًا عَلَى غَيْرِ الْمُتَعَدِّي. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعِنْدِي أَنَّهُ أَرَادَ يَلْقُونَ فِيهِ فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ فَاتَّصَلَ الضَّمِيرُ. قَالَ الْخَلِيلُ وَأَبُو عَمْرٍو: أَصْلُ الْوَلْقِ الْإِسْرَاعُ، يُقَالُ جَاءَتِ الْإِبِلُ تَلِقُ، أَيْ: تُسْرِعُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَمَّا رَأَوْا جَيْشًا عَلَيْهِمْ قَدْ طَرَقَ | جَاءُوا بِأَسْرَابٍ من الشّأم ولق |
إنّ الحصين زلق وزمّلق | جاءت به عنس «٢» مِنَ الشَّامِ تَلِقُ |
(٢). العنس: الناقة القوية.
عَظِيمُ ذَنْبِهِ وَعِقَابِهِ وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا هَذَا عِتَابٌ لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ:
هَلَّا إِذْ سَمِعْتُمْ حَدِيثَ الْإِفْكِ قُلْتُمْ تَكْذِيبًا لِلْخَائِضِينَ فِيهِ الْمُفْتَرِينَ لَهُ مَا يَنْبَغِي لَنَا وَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَلَا يَصْدُرُ ذَلِكَ مِنَّا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: سُبْحانَكَ هَذَا بُهْتانٌ عَظِيمٌ التَّعَجُّبُ مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ، وَأَصْلُهُ التَّنْزِيهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اسْتُعْمِلَ فِي كُلِّ مُتَعَجَّبٍ مِنْهُ، وَالْبُهْتَانُ: هُوَ أَنْ يُقَالَ فِي الْإِنْسَانِ مَا لَيْسَ فِيهِ، أَيْ: هَذَا كَذِبٌ عَظِيمٌ لِكَوْنِهِ قِيلَ فِي أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَصُدُورُهُ مُسْتَحِيلٌ شَرْعًا من مثلها. ثم وعظ سبحانه الذين خاضوا في الإفك فقال: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً أَيْ:
يَنْصَحُكُمُ اللَّهُ، أَوْ يُحَرِّمُ عَلَيْكُمْ، أَوْ يَنْهَاكُمْ كَرَاهَةً أَنْ تَعُودُوا، أَوْ مِنْ أَنْ تَعُودُوا، أَوْ فِي أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِ هَذَا الْقَذْفِ مُدَّةَ حَيَاتِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنَّ الْإِيمَانَ يَقْتَضِي عَدَمَ الْوُقُوعِ فِي مَثَلِهِ مَا دُمْتُمْ، وَفِيهِ تَهْيِيجٌ عَظِيمٌ وَتَقْرِيعٌ بَالِغٌ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لِتَعْمَلُوا بِذَلِكَ وَتَتَأَدَّبُوا بِآدَابِ اللَّهِ وَتَنْزَجِرُوا عَنِ الْوُقُوعِ فِي مَحَارِمِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا تُبْدُونَهُ وَتُخْفُونَهُ حَكِيمٌ فِي تَدْبِيرَاتِهِ لِخَلْقِهِ. ثُمَّ هَدَّدَ سُبْحَانَهُ الْقَاذِفِينَ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَسَامَعَ النَّاسَ بِعُيُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَذُنُوبِهِمْ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا أَيْ: يُحِبُّونَ أَنْ تفشوا الْفَاحِشَةُ وَتَنْتَشِرَ، مِنْ قَوْلِهِمْ شَاعَ الشَّيْءُ يَشِيعُ شُيُوعًا وَشَيْعًا وَشَيَعَانًا: إِذَا ظَهَرَ وَانْتَشَرَ، وَالْمُرَادُ بالذين آمنوا: المحصنون العفيفون، أَوْ: كُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ، وَالْفَاحِشَةُ: هي فاحشة الزنا أو القول السّيّئ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ وَالْآخِرَةِ بِعَذَابِ النَّارِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ جَمِيعَ الْمَعْلُومَاتِ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ إِلَّا مَا عَلَّمَكُمْ بِهِ وَكَشَفَهُ لَكُمْ وَمِنْ جُمْلَةِ مَا يَعْلَمُهُ اللَّهُ عِظَمُ ذَنَبِ الْقَذْفِ، وَعُقُوبَةُ فَاعِلِهِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ هُوَ تَكْرِيرٌ لِمَا تَقَدَّمَ تَذْكِيرًا لِلْمِنَّةِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَى عِبَادِهِ بترك المعاجلة لهم وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ وَمِنْ رَأْفَتِهِ بِعِبَادِهِ أَنْ لَا يُعَاجِلَهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ لَهُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِمِثْلِ هَذَا الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ وَجُمْلَةُ: وَأَنَّ اللَّهَ رؤوف رَحِيمٌ مَعْطُوفَةٌ عَلَى فَضْلِ اللَّهِ، وَجَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أَيْ: لَعَاجَلَكُمْ بالعقوبة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ الْخُطُوَاتُ: جَمْعُ خُطْوَةٍ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَدَمَيْنِ، وَالْخَطْوَةُ بِالْفَتْحِ: الْمَصْدَرُ، أَيْ: لَا تَتْبَعُوا مَسَالِكَ الشَّيْطَانِ وَمَذَاهِبَهُ وَلَا تَسْلُكُوا طَرَائِقَهُ الَّتِي يَدْعُوكُمْ إِلَيْهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «خُطُوَاتِ» بِضَمِّ الْخَاءِ وَالطَّاءِ، وَقَرَأَ عاصم والأعمش بِضَمِّ الْخَاءِ وَإِسْكَانِ الطَّاءِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ قِيلَ: جَزَاءُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ أُقِيمَ مَقَامَهُ مَا هُوَ عِلَّةٌ لَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَقَدِ ارْتَكَبَ الْفَحْشَاءَ وَالْمُنْكِرَ لِأَنَّ دَأْبَهُ أَنْ يَسْتَمِرَ آمِرًا لِغَيْرِهِ بِهِمَا، وَالْفَحْشَاءُ: مَا أَفْرَطَ قُبْحُهُ، وَالْمُنْكِرُ: مَا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ، وَضَمِيرُ إِنَّهُ: لِلشَّيْطَانِ، وَقِيلَ: لِلشَّأْنِ، وَالْأَوْلَى
والأولى: تفسير زكى بِالتَّطَهُّرِ وَالتَّطْهِيرِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ. قال الكسائي: إن قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ مُعْتَرِضٌ، وقوله: ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً جَوَابٌ لِقَوْلِهِ أَوَّلًا وَثَانِيًا: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ. وَقِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ أَرْجَحُ لِقَوْلِهِ: وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أَيْ: مِنْ عِبَادِهِ بِالتَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ وَالرَّحْمَةِ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ لِمَا يَقُولُونَهُ عَلِيمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَفِيهِ حَثٌّ بَالِغٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ، وَتَهْيِيجٌ عَظِيمٌ لِعِبَادِهِ التَّائِبِينَ، وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ يَتَبِّعُ الشَّيْطَانَ وَيُحِبُّ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَزْجُرُ نَفْسَهُ بِزَوَاجِرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرُهُمْ حَدِيثَ عَائِشَةَ الطَّوِيلَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ. حَاصِلُهُ أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ هُوَ مَا وَقَعَ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي شَأْنٍ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ هَوْدَجِهَا تَلْتَمِسُ عِقْدًا لَهَا انْقَطَعَ مِنْ جَزْعٍ، فَرَحَلُوا وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهَا فِي هَوْدَجِهَا، فَرَجَعَتْ وَقَدِ ارْتَحَلَ الْجَيْشُ وَالْهَوْدَجُ مَعَهُمْ، فَأَقَامَتْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَمَرَّ بِهَا صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ، وَكَانَ مُتَأَخِّرًا عَنِ الْجَيْشِ، فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ وَحَمَلَهَا عَلَيْهَا فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ أَهْلُ الْإِفْكِ قَالُوا مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوهُ. هَذَا حَاصِلُ الْقِصَّةِ مَعَ طُولِهَا وَتَشَعُّبِ أَطْرَافِهَا فَلَا نُطَوُّلُ بِذِكْرٍ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَا نَزَلَ عُذْرِي قَامَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَذَكَرَ ذَلِكَ وَتَلَا الْقُرْآنَ، فَلَمَّا نَزَلَ أَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ فَضُرِبُوا حَدَّهُمْ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ تَسْمِيَتُهُمْ: حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الَّذِينَ افْتَرَوْا عَلَى عَائِشَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ وَمِسْطَحٌ وَحَسَّانُ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، فَقَالَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَلِيٌّ، فَقُلْتُ:
لَا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة ابن الزُّبَيْرِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ كُلُّهُمْ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، قَالَ فَقَالَ لِي: فَمَا كَانَ جِرْمُهُ؟ قُلْتُ: حَدَّثَنِي شَيْخَانِ مِنْ قَوْمِكِ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هشام أَنَّهُمَا سَمِعَا عَائِشَةَ تَقُولُ: كَانَ مُسِيئًا فِي أَمْرِي. وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ شَيْبَةَ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحُلْوَانِيُّ. حَدَّثَنَا الشَّافِعِيُّ، حَدَّثَنَا عَمِّي قَالَ: دَخَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: يَا سُلَيْمَانُ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مَنْ هُوَ؟ قَالَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ. قَالَ: كَذَبْتَ هُوَ عَلِيٌّ. قَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ، فَدَخَلَ الزُّهْرِيُّ فَقَالَ: يَا ابْنَ شِهَابٍ مَنِ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ؟ فَقَالَ: ابْنُ أُبَيٍّ. قَالَ: كَذَبْتَ هُوَ عَلِيٌّ. قَالَ: أَنَا أَكْذِبُ؟
وأخرج البخاري، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال : كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال : الذي تولى كبره منهم علىّ، فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمع عائشة تقول : الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبيّ، قال : فقال لي : فما كان جرمه ؟ قلت : حدّثني شيخان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول : كان مسيئاً في أمري. وقال يعقوب بن شيبة في مسنده : حدّثنا الحسن بن عليّ الحلواني، حدّثنا الشافعي، حدّثنا عمي قال : دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له : يا سليمان الذي تولى كبره من هو ؟ قال : عبد الله بن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال : يا ابن شهاب من الذي تولّى كبره ؟ فقال : ابن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أنا أكذب ؟ لا أبا لك، والله لو نادى منادٍ من السماء أن الله قد أحلّ الكذب ما كذبت، حدّثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة : أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ، وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن مسروق قال : دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال :
حصان رزان ما تزنّ بريبة | وتصبح غرثى من لحوم الغوافل |
وأخرج البخاري، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال : كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال : الذي تولى كبره منهم علىّ، فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمع عائشة تقول : الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبيّ، قال : فقال لي : فما كان جرمه ؟ قلت : حدّثني شيخان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول : كان مسيئاً في أمري. وقال يعقوب بن شيبة في مسنده : حدّثنا الحسن بن عليّ الحلواني، حدّثنا الشافعي، حدّثنا عمي قال : دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له : يا سليمان الذي تولى كبره من هو ؟ قال : عبد الله بن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال : يا ابن شهاب من الذي تولّى كبره ؟ فقال : ابن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أنا أكذب ؟ لا أبا لك، والله لو نادى منادٍ من السماء أن الله قد أحلّ الكذب ما كذبت، حدّثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة : أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ، وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن مسروق قال : دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال :
حصان رزان ما تزنّ بريبة | وتصبح غرثى من لحوم الغوافل |
والمعنى : لولا أني قضيت عليكم بالفضل في الدنيا بالنعم التي من جملتها الإمهال، والرحمة في الآخرة بالعفو، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. وقيل المعنى : لولا فضل الله عليكم لمسكم العذاب في الدنيا والآخرة معاً، ولكن برحمته ستر عليكم في الدنيا، ويرحم في الآخرة من أتاه تائباً.
وأخرج البخاري، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال : كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال : الذي تولى كبره منهم علىّ، فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمع عائشة تقول : الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبيّ، قال : فقال لي : فما كان جرمه ؟ قلت : حدّثني شيخان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول : كان مسيئاً في أمري. وقال يعقوب بن شيبة في مسنده : حدّثنا الحسن بن عليّ الحلواني، حدّثنا الشافعي، حدّثنا عمي قال : دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له : يا سليمان الذي تولى كبره من هو ؟ قال : عبد الله بن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال : يا ابن شهاب من الذي تولّى كبره ؟ فقال : ابن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أنا أكذب ؟ لا أبا لك، والله لو نادى منادٍ من السماء أن الله قد أحلّ الكذب ما كذبت، حدّثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة : أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ، وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن مسروق قال : دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال :
حصان رزان ما تزنّ بريبة | وتصبح غرثى من لحوم الغوافل |
لما رأوا جيشاً عليهم قد طرق | جاءوا بأسراب من الشام ولق |
* جاءت به عيس من الشام تلق *
قال أبو البقاء : أي : يسرعون فيه. قال ابن جرير : وهذه اللفظة أي :﴿ تلقونه ﴾ على القراءة الأخيرة مأخوذة من الولق، وهو : الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في إثر عدد، وكلام في إثر كلام. وقرأ زيد بن أسلم، وأبو جعفر «تألقونه » بفتح التاء، وهمزة ساكنة، ولام مكسورة، وقاف مضمومة من الألق، وهو : الكذب، وقرأ يعقوب «تيلقونه » بكسر التاء من فوق بعدها ياء تحتية ساكنة، ولام مفتوحة، وقاف مضمومة، وهو : مضارع ولق بكسر اللام، ومعنى :﴿ وَتَقُولُونَ بأفواهكم مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ أن قولهم هذا مختصّ بالأفواه من غير أن يكون واقعاً في الخارج معتقداً في القلوب. وقيل إن ذكر الأفواه للتأكيد كما في قوله ﴿ يطير بجناحيه ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ]، ونحوه، والضمير في ﴿ تحسبونه ﴾ راجع إلى الحديث الذي وقع الخوض فيه والإذاعة له ﴿ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّناً ﴾ أي : شيئاً يسيراً لا يلحقكم فيه إثم، وجملة ﴿ وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ ﴾ في محل نصب على الحال أي : عظيم ذنبه وعقابه.
وأخرج البخاري، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال : كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال : الذي تولى كبره منهم علىّ، فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمع عائشة تقول : الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبيّ، قال : فقال لي : فما كان جرمه ؟ قلت : حدّثني شيخان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول : كان مسيئاً في أمري. وقال يعقوب بن شيبة في مسنده : حدّثنا الحسن بن عليّ الحلواني، حدّثنا الشافعي، حدّثنا عمي قال : دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له : يا سليمان الذي تولى كبره من هو ؟ قال : عبد الله بن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال : يا ابن شهاب من الذي تولّى كبره ؟ فقال : ابن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أنا أكذب ؟ لا أبا لك، والله لو نادى منادٍ من السماء أن الله قد أحلّ الكذب ما كذبت، حدّثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة : أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ، وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن مسروق قال : دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال :
حصان رزان ما تزنّ بريبة | وتصبح غرثى من لحوم الغوافل |
وأخرج البخاري، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال : كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال : الذي تولى كبره منهم علىّ، فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمع عائشة تقول : الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبيّ، قال : فقال لي : فما كان جرمه ؟ قلت : حدّثني شيخان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول : كان مسيئاً في أمري. وقال يعقوب بن شيبة في مسنده : حدّثنا الحسن بن عليّ الحلواني، حدّثنا الشافعي، حدّثنا عمي قال : دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له : يا سليمان الذي تولى كبره من هو ؟ قال : عبد الله بن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال : يا ابن شهاب من الذي تولّى كبره ؟ فقال : ابن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أنا أكذب ؟ لا أبا لك، والله لو نادى منادٍ من السماء أن الله قد أحلّ الكذب ما كذبت، حدّثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة : أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ، وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن مسروق قال : دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال :
حصان رزان ما تزنّ بريبة | وتصبح غرثى من لحوم الغوافل |
وأخرج البخاري، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال : كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال : الذي تولى كبره منهم علىّ، فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمع عائشة تقول : الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبيّ، قال : فقال لي : فما كان جرمه ؟ قلت : حدّثني شيخان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول : كان مسيئاً في أمري. وقال يعقوب بن شيبة في مسنده : حدّثنا الحسن بن عليّ الحلواني، حدّثنا الشافعي، حدّثنا عمي قال : دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له : يا سليمان الذي تولى كبره من هو ؟ قال : عبد الله بن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال : يا ابن شهاب من الذي تولّى كبره ؟ فقال : ابن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أنا أكذب ؟ لا أبا لك، والله لو نادى منادٍ من السماء أن الله قد أحلّ الكذب ما كذبت، حدّثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة : أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ، وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن مسروق قال : دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال :
حصان رزان ما تزنّ بريبة | وتصبح غرثى من لحوم الغوافل |
وأخرج البخاري، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال : كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال : الذي تولى كبره منهم علىّ، فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمع عائشة تقول : الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبيّ، قال : فقال لي : فما كان جرمه ؟ قلت : حدّثني شيخان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول : كان مسيئاً في أمري. وقال يعقوب بن شيبة في مسنده : حدّثنا الحسن بن عليّ الحلواني، حدّثنا الشافعي، حدّثنا عمي قال : دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له : يا سليمان الذي تولى كبره من هو ؟ قال : عبد الله بن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال : يا ابن شهاب من الذي تولّى كبره ؟ فقال : ابن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أنا أكذب ؟ لا أبا لك، والله لو نادى منادٍ من السماء أن الله قد أحلّ الكذب ما كذبت، حدّثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة : أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ، وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن مسروق قال : دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال :
حصان رزان ما تزنّ بريبة | وتصبح غرثى من لحوم الغوافل |
وأخرج البخاري، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال : كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال : الذي تولى كبره منهم علىّ، فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمع عائشة تقول : الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبيّ، قال : فقال لي : فما كان جرمه ؟ قلت : حدّثني شيخان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول : كان مسيئاً في أمري. وقال يعقوب بن شيبة في مسنده : حدّثنا الحسن بن عليّ الحلواني، حدّثنا الشافعي، حدّثنا عمي قال : دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له : يا سليمان الذي تولى كبره من هو ؟ قال : عبد الله بن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال : يا ابن شهاب من الذي تولّى كبره ؟ فقال : ابن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أنا أكذب ؟ لا أبا لك، والله لو نادى منادٍ من السماء أن الله قد أحلّ الكذب ما كذبت، حدّثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة : أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ، وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن مسروق قال : دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال :
حصان رزان ما تزنّ بريبة | وتصبح غرثى من لحوم الغوافل |
وأخرج البخاري، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال : كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال : الذي تولى كبره منهم علىّ، فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمع عائشة تقول : الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبيّ، قال : فقال لي : فما كان جرمه ؟ قلت : حدّثني شيخان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول : كان مسيئاً في أمري. وقال يعقوب بن شيبة في مسنده : حدّثنا الحسن بن عليّ الحلواني، حدّثنا الشافعي، حدّثنا عمي قال : دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له : يا سليمان الذي تولى كبره من هو ؟ قال : عبد الله بن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال : يا ابن شهاب من الذي تولّى كبره ؟ فقال : ابن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أنا أكذب ؟ لا أبا لك، والله لو نادى منادٍ من السماء أن الله قد أحلّ الكذب ما كذبت، حدّثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة : أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ، وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن مسروق قال : دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال :
حصان رزان ما تزنّ بريبة | وتصبح غرثى من لحوم الغوافل |
قرأ الجمهور ﴿ زَكَى ﴾ بالتخفيف، وقرأ الأعمش، وابن محيصن، وأبو جعفر بالتشديد أي : ما طهره الله. وقال مقاتل : أي ما صلح. والأولى تفسير زكى بالتطهر والتطهير، وهو : الذي ذكره ابن قتيبة. قال الكسائي : إن قوله ﴿ ياأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان ﴾ معترض، وقوله :﴿ مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَداً ﴾ جواب لقوله : أوّلاً، وثانياً، ولولا فضل الله. وقراءة التخفيف أرجح لقوله :﴿ ولكن الله يُزَكّي مَن يَشَاء ﴾ أي : من عباده بالتفضل عليهم، والرحمة لهم ﴿ والله سَمِيعٌ ﴾ لما يقولونه ﴿ عَلِيمٌ ﴾ بجميع المعلومات، وفيه حثّ بالغ على الإخلاص، وتهييج عظيم لعباده التائبين، ووعيد شديد لمن يتبع الشيطان، ويحبّ أن تشيع الفاحشة في عباد الله المؤمنين، ولا يزجر نفسه بزواجر الله سبحانه.
وأخرج البخاري، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال : كنت عند الوليد بن عبد الملك، فقال : الذي تولى كبره منهم علىّ، فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وعلقمة بن وقاص، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود كلهم سمع عائشة تقول : الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبيّ، قال : فقال لي : فما كان جرمه ؟ قلت : حدّثني شيخان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول : كان مسيئاً في أمري. وقال يعقوب بن شيبة في مسنده : حدّثنا الحسن بن عليّ الحلواني، حدّثنا الشافعي، حدّثنا عمي قال : دخل سليمان بن يسار على هشام بن عبد الملك فقال له : يا سليمان الذي تولى كبره من هو ؟ قال : عبد الله بن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال : يا ابن شهاب من الذي تولّى كبره ؟ فقال : ابن أبيّ. قال : كذبت هو عليّ. قال : أنا أكذب ؟ لا أبا لك، والله لو نادى منادٍ من السماء أن الله قد أحلّ الكذب ما كذبت، حدّثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة : أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبيّ، وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن مسروق قال : دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال :
حصان رزان ما تزنّ بريبة | وتصبح غرثى من لحوم الغوافل |
دَخَلَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى عَائِشَةَ فَشَبَّبَ «١» وَقَالَ:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تَزِنُّ بِرِيبَةٍ | وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ |
قَالَتْ: لَا وَاللَّهِ، قَالَ: فَعَائِشَةُ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنْكِ وَأَطْيَبُ، إِنَّمَا هَذَا كَذِبٌ وَإِفْكٌ بَاطِلٌ فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ ذَكَرَ اللَّهُ مَنْ قَالَ مِنَ الْفَاحِشَةِ مَا قَالَ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ. ثُمَّ قَالَ: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ أَيْ: كَمَا قَالَ أَبُو أَيُّوبَ وَصَاحِبَتُهُ. وَأَخْرَجَ الْوَاقِدِيُّ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ عَسَاكِرٍ عَنْ أَفْلَحَ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبٍ أَنَّ أُمَّ أَيُّوبَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً قَالَ: يُحَرِّجُ اللَّهُ عَلَيْكُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: الْقَائِلُ الْفَاحِشَةَ، وَالَّذِي شَيَّعَ بِهَا فِي الْإِثْمِ سَوَاءٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً قَالَ: مَا اهْتَدَى أحد من الخلائق لشيء من الخير.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٢ الى ٢٦]
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
قَوْلُهُ: وَلا يَأْتَلِ أَيْ: يَحْلِفُ وَزْنُهُ يَفْتَعِلُ مِنَ الْأَلْيَةِ، وَهِيَ الْيَمِينُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَأَلَّى ابْنُ أَوْسٍ حَلْفَةً لِيَرُدَّنِي | إِلَى نِسْوَةٍ كَأَنَّهُنَّ مَفَايِدُ |
قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ | وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ |
وما المرء مادامت حَشَاشَةُ نَفْسِهِ | بِمُدْرِكِ أَطْرَافِ الْخُطُوبِ وَلَا آلِ |
فَقُلْتُ يَمِينَ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا | وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكَ وَأَوْصَالِي |
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ خَاصَّةٌ أَوْ عَامَّةٌ؟ فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ خَاصَّةٌ فِيمَنْ رَمَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ خَاصَّةٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ رَأْسِ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: هَذِهِ الْآيَةُ هِيَ فِي عَائِشَةَ وَسَائِرِ أَزْوَاجِ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ دُونَ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، فَمَنْ قَذَفَ إحدى أزواج النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: وَمِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لِمَنْ رَمَى إِحْدَى أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَمَنْ قَذَفَ غَيْرَهُنَّ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ التَّوْبَةَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا «٣» وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خَاصَّةٌ بِمَنْ أَصَرَّ عَلَى الْقَذْفِ وَلَمْ يَتُبْ، وَقِيلَ: إِنَّهَا تَعُمُّ كُلَّ قَاذِفٍ وَمَقْذُوفٍ مِنَ الْمُحْصَنَاتِ وَالْمُحَصَنِينَ، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا قَرَّرَهُ أَهْلُ الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الِاعْتِبَارَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السبب. وقيل: إنها
(٢). آل عمران: ١٨.
(٣). النور: ٥.
إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْآيَةِ المؤمنون مِنَ الْقَذَفَةِ، فَالْمُرَادُ بِاللَّعْنَةِ الْإِبْعَادُ، وَضَرْبُ الْحَدِّ وَهَجْرُ سَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمْ، وَزَوَالُهُمْ عَنْ رُتْبَةِ الْعَدَالَةِ، وَالْبُعْدُ عَنِ الثَّنَاءِ الْحَسَنِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَا مَنْ قَذَفَ عَائِشَةَ خَاصَّةً كَانَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ فِي جَانِبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ رَأْسِ الْمُنَافِقِينَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ مَلْعُونُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وَالْمُرَادُ بِالْغَافِلَاتِ: اللَّاتِي غَفَلْنَ عَنِ الْفَاحِشَةِ بِحَيْثُ لَا تَخْطُرُ بِبَالِهِنَّ وَلَا يَفْطِنَّ لَهَا، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى كَمَالِ النَّزَاهَةِ وَطَهَارَةِ الْجَيْبِ مَا لم يكن في المحصنات، ويقل: هُنَّ السَّلِيمَاتُ الصُّدُورِ النَّقِيَّاتُ الْقُلُوبِ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مُبَيِّنَةٌ لِوَقْتِ حُلُولِ ذَلِكَ الْعَذَابِ بِهِمْ وَتَعْيِينُ الْيَوْمِ لِزِيَادَةِ التَّهْوِيلِ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ وَصْفٌ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَوْمَ تَشْهَدُ» بِالْفَوْقِيَّةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ: أَبُو حاتم، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِالتَّحْتِيَّةِ، وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ: أَبُو عَبِيدٍ لِأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ قَدْ حَالَ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ. وَالْمَعْنَى:
تَشْهَدُ أَلْسِنَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَقِيلَ: تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِمَا تَكَلَّمُوا بِهِ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا عَمِلُوا بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُنْطِقُهَا بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَشْهُودُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ ذُنُوبُهُمُ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا، أَيْ: تَشْهَدُ هَذِهِ عَلَيْهِمْ بِذُنُوبِهِمُ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا وَمَعَاصِيهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ أَيْ: يَوْمَ تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم القبيحة ويعطيهم اللَّهُ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهَا مُوَفَّرًا، فَالْمُرَادُ بِالدِّينِ هَاهُنَا: الْجَزَاءُ، وَبِالْحَقِّ الثَّابِتِ الَّذِي لَا شَكَّ فِي ثُبُوتِهِ. قَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ «يُوفِيهِمْ» مُخَفَّفًا مَنْ أَوْفَى، وَقَرَأَ مَنْ عَدَاهُ بِالتَّشْدِيدِ مِنْ وَفَّى. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ وَمُجَاهِدٌ «الْحَقُّ» بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِلَّهِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِدِينِهِمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَلَوْلَا كَرَاهَةُ خِلَافِ النَّاسِ لَكَانَ الْوَجْهُ الرَّفْعَ، لِيَكُونَ نَعْتًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِتَكُونَ مُوَافِقَةً لِقِرَاءَةِ أُبَيٍّ، وَذَلِكَ أَنَّ جَرِيرَ بْنَ حَازِمٍ قَالَ: رَأَيْتُ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ «يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ الْحَقَّ دِينَهُمْ». وَهَذَا الْكَلَامُ مِنْ أَبِي عُبَيْدَةَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ، لِأَنَّهُ احْتَجَّ بِمَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلسَّوَادِ الْأَعْظَمِ، وَلَا حُجَّةَ أَيْضًا فِيهِ، لِأَنَّهُ لَوْ صَحَّ أنه في مصحف أبيّ كذلك جَازَ أَنْ يَكُونَ دِينُهُمْ بَدَلًا مِنَ الْحَقِّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ أَيْ: وَيَعْلَمُونَ عِنْدَ مُعَايَنَتِهِمْ لِذَلِكَ وَوُقُوعِهِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الثَّابِتُ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، الْمُبِينُ الْمُظْهِرُ لِلْأَشْيَاءِ كَمَا هِيَ فِي أَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا سُمِّيَ سُبْحَانَهُ الْحَقُّ لِأَنَّ عِبَادَتَهُ هِيَ الْحَقُّ دُونَ عِبَادَةِ غَيْرِهِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ بِالْحَقِّ، أَيْ: الْمَوْجُودُ لِأَنَّ نَقِيضَهُ الْبَاطِلُ وَهُوَ الْمَعْدُومُ.
ثُمَّ خَتَمَ سُبْحَانَهُ الْآيَاتِ الْوَارِدَةَ فِي أَهْلِ الْإِفْكِ بِكَلِمَةٍ جَامِعَةٍ فَقَالَ: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ أَيِ: الْخَبِيثَاتُ مِنَ النِّسَاءِ لِلْخَبِيثِينَ مِنَ الرِّجَالِ، أَيْ: مُخْتَصَّةٌ بِهِمْ لَا تَتَجَاوَزُهُمْ، وَكَذَا الْخَبِيثُونَ مُخْتَصُّونَ بِالْخَبِيثَاتِ لَا يَتَجَاوَزُونَهُنَّ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمَعْنَى: الْكَلِمَاتُ الْخَبِيثَاتُ مِنَ الْقَوْلِ لِلْخَبِيثِينِ مِنَ الرِّجَالِ، وَالْخَبِيثُونَ مِنَ الرِّجَالِ لِلْخَبِيثَاتِ مِنَ الْكَلِمَاتِ، وَالْكَلِمَاتُ الطَّيِّبَاتُ مِنَ الْقَوْلِ لِلطَّيِّبِينَ مِنَ النَّاسِ، وَالطَّيِّبُونَ مِنَ النَّاسِ لِلطَّيِّبَاتِ مِنَ الْكَلِمَاتِ.
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَمَعْنَاهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِالْخَبِيثَاتِ إِلَّا الخبيث من الرجال والنساء،
وَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَوْلِهِ: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً فَالْخَبِيثَاتُ: الزَّوَانِي، وَالطَّيِّبَاتُ: الْعَفَائِفُ، وَكَذَا الْخَبِيثُونَ وَالطَّيِّبُونَ، والإشارة بقوله: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ إِلَى الطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبَاتِ، أَيْ:
هُمْ مبرّؤون مِمَّا يَقُولُهُ الْخَبِيثُونَ وَالْخَبِيثَاتُ، وَقِيلَ: الْإِشَارَةُ إِلَى أزواج النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَائِشَةَ وَصَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ، وَقِيلَ: عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ فَقَطْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَجَمَعَ كَمَا قَالَ: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ «١» وَالْمُرَادُ أَخَوَانِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي: هؤلاء المبرّؤون لَهُمْ مَغْفِرَةٌ عَظِيمَةٌ لِمَا لَا يَخْلُو عَنْهُ البشر من الذنوب وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو رِزْقُ الْجَنَّةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يَأْتَلِ الْآيَةَ، يَقُولُ:
لَا يُقْسِمُوا أَنْ لَا يَنْفَعُوا أَحَدًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ مِمَّنْ تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَكَانَ قَرِيبًا لِأَبِي بَكْرٍ وَكَانَ فِي عِيَالِهِ، فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يُنِيلَهُ خَيْرًا أبدا، فأنزل الله وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ الْآيَةَ، قَالَتْ: فَأَعَادَهُ أَبُو بَكْرٍ إِلَى عِيَالِهِ وَقَالَ: لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا تَحَلَّلْتُهَا وَأَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ طُرُقٍ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَمَوْا عَائِشَةَ بِالْقَبِيحِ وَأَفْشَوْا ذَلِكَ وَتَكَلَّمُوا فِيهَا، فَأَقْسَمَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يَتَصَدَّقُوا عَلَى رَجُلٍ تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا وَلَا يصلوه، فقال: لا يقسم أولو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يَصِلُوا أَرْحَامَهُمْ، وَأَنْ يعطوهم من أموالهم كالذي كانوا يفعلون قَبْلِ ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ وَأَنْ يُعْفَى عَنْهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْآيَةَ، قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَائِشَةَ خَاصَّةً. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ أَيْضًا فِي الْآيَةِ قَالَ: هذه هي عائشة وأزواج النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُجْعَلْ لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَوْبَةٌ، وَجُعِلَ لِمَنْ رَمَى امْرَأَةً مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ مِنْ غير أزواج النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ التَّوْبَةُ، ثُمَّ قَرَأَ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا «٢». وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ عُرِفَ الْكَافِرُ بِعَمَلِهِ فَجَحَدَ وَخَاصَمَ، فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ جِيرَانُكَ يَشْهَدُونَ عَلَيْكَ فَيَقُولُ: كَذَبُوا، فَيُقَالُ:
أَهْلُكَ وَعَشِيرَتُكَ، فَيَقُولُ: كَذَبُوا، فَيُقَالُ: احْلِفُوا فَيَحْلِفُونَ، ثُمَّ يُصْمِتُهُمُ اللَّهُ وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ، ثُمَّ يُدْخِلُهُمُ النَّارَ». وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طَرِيقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَا يَتَضَمَّنُ شَهَادَةَ الْجَوَارِحِ عَلَى الْعُصَاةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ قَالَ: حِسَابُهُمْ، وَكُلُّ شَيْءٍ في القرآن: الدين: فَهُوَ الْحِسَابُ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ يومئذ يوفيهم الله الحقّ دينهم. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: الْخَبِيثاتُ قَالَ: مِنَ الكلام لِلْخَبِيثِينَ قال:
(٢). النور: ٤- ٥.
وقد اختلف في هذه الآية هل هي خاصة أو عامة ؟ فقال سعيد بن جبير : هي خاصة فيمن رمى عائشة رضي الله عنها. وقال مقاتل : هي خاصة بعبد الله بن أبيّ رأس المنافقين. وقال الضحاك، والكلبي : هذه الآية هي في عائشة وسائر أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم دون سائر المؤمنين والمؤمنات، فمن قذف إحدى أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، فهو من أهل هذه الآية. قال الضحاك : ومن أحكام هذه الآية : أنه لا توبة لمن رمى إحدى أزواجه صلى الله عليه وسلم، ومن قذف غيرهنّ فقد جعل الله له التوبة كما تقدّم في قوله :﴿ إِلاَّ الذين تَابُواْ ﴾ [ النور : ٥ ]. وقيل : إن هذه الآية خاصة بمن أصرّ على القذف ولم يتب، وقيل : إنها تعم كلّ قاذف ومقذوف من المحصنات والمحصنين، واختاره النحاس، وهو : الموافق لما قرّره أهل الأصول من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقيل : إنها خاصة بمشركي مكة ؛ لأنهم كانوا يقولون للمرأة إذا خرجت مهاجرة : إنما خرجت لتفجر. قال أهل العلم : إن كان المراد بهذه الآية المؤمنون من القذفة، فالمراد باللعنة الإبعاد، وضرب الحدّ، وهجر سائر المؤمنين لهم، وزوالهم عن رتبة العدالة، والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين، وإن كان المراد بها من قذف عائشة خاصة كانت هذه الأمور في جانب عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين، وإن كانت في مشركي مكة فإنهم ملعونون ﴿ فِي الدنيا والآخرة وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾، والمراد بالغافلات اللاتي غفلن عن الفاحشة بحيث لا تخطر ببالهنّ، ولا يفطنّ لها، وفي ذلك من الدلالة على كمال النزاهة وطهارة الجيب ما لم يكن في المحصنات، وقيل : هنّ السليمات الصدور النقيات القلوب.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)
لِمَا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ الزَّجْرِ عَنِ الزِّنَا وَالْقَذْفِ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ الزَّجْرِ عَنْ دُخُولِ الْبُيُوتِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، فَرُبَّمَا يؤدّي إلى أحد الأمرين المذكورين، وأيضا إِنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ فِي بَيْتِهِ وَمَكَانِ خَلْوَتِهِ على حالة لَا يُحِبُّ أَنْ يَرَاهُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، فَنَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ دُخُولِ بُيُوتِ الْغَيْرِ إِلَى غَايَةٍ، هِيَ قَوْلُهُ: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَالِاسْتِئْنَاسُ: الِاسْتِعْلَامُ والاستخبار، أي: حتى تستعلموا ما فِي الْبَيْتِ، وَالْمَعْنَى: حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّ صَاحِبَ الْبَيْتِ قَدْ عَلِمَ بِكُمْ وَتَعْلَمُوا أَنَّهُ قَدْ أَذِنَ بِدُخُولِكُمْ، فَإِذَا عَلِمْتُمْ ذَلِكَ دَخَلْتُمْ، وَمِنْهُ قوله: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً أَيْ: عَلِمْتُمْ. قَالَ الْخَلِيلُ: الِاسْتِئْنَاسُ: الِاسْتِكْشَافُ، مِنْ أَنِسَ الشَّيْءَ: إِذَا أَبْصَرَهُ، كَقَوْلِهِ: إِنِّي آنَسْتُ ناراً أَيْ: أَبْصَرْتُ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: إِنَّهُ بِمَعْنَى وَتُؤْنِسُوا أَنْفُسَكُمْ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَتَصْرِيفُ الْفِعْلِ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَنِسَ. وَمَعْنَى كَلَامِ ابْنِ جَرِيرٍ هَذَا أَنَّهُ مِنَ الِاسْتِئْنَاسِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الِاسْتِيحَاشِ، لِأَنَّ الَّذِي يَطْرُقُ بَابَ غَيْرِهِ لَا يَدْرِي أَيُؤْذَنُ لَهُ أَمْ لَا؟ فَهُوَ كَالْمُسْتَوْحِشِ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ، فَإِذَا أُذِنَ لَهُ اسْتَأْنَسَ، فَنَهَى سُبْحَانَهُ عَنْ دُخُولِ تِلْكَ الْبُيُوتِ حَتَّى يُؤْذَنَ لِلدَّاخِلِ. وَقِيلَ:
هُوَ مِنَ الْإِنْسِ، وَهُوَ أَنْ يَتَعَرَّفَ هَلْ ثَمَّ إِنْسَانٌ أَمْ لَا؟ وَقِيلَ: مَعْنَى الِاسْتِئْنَاسِ: الِاسْتِئْذَانُ، أَيْ: لَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: قَالَ جَمَاعَةُ الْمُفَسِّرِينَ: حَتَّى تَسْتَأْذِنُوا، وَيُؤَيِّدُهُ مَا حَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأُبَيٍّ وَسَعِيدِ بْنِ جبير أنهم قرءوا «تَسْتَأْذِنُوا» قَالَ مَالِكٌ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ ابْنُ وَهْبٍ: الِاسْتِئْنَاسُ فِيمَا يَرَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ: الِاسْتِئْذَانُ، وَقَوْلُهُ: وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها قَدْ بَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي بِأَنْ يَقُولَ:
وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُقَدِّمُ الِاسْتِئْذَانَ عَلَى السَّلَامِ أَوِ الْعَكْسَ، فَقِيلَ: يقدم الاستئذان، فيقول: أأدخل سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لِتَقْدِيمِ الِاسْتِئْنَاسِ فِي الْآيَةِ عَلَى السَّلَامِ. وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: إِنَّهُ يُقَدِّمُ السَّلَامَ عَلَى الاستئذان فيقول:
السلام عليكم أأدخل، وَهُوَ الْحَقُّ، لِأَنَّ الْبَيَانَ مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِلْآيَةِ كَانَ هَكَذَا. وَقِيلَ: إِنْ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى إِنْسَانٍ قَدَّمَ السَّلَامَ، وَإِلَّا قَدَّمَ الِاسْتِئْذَانَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ الْإِشَارَةُ إِلَى الِاسْتِئْنَاسِ وَالتَّسْلِيمِ، أَيْ: دُخُولُكُمْ مَعَ الِاسْتِئْذَانِ وَالسَّلَامُ خَيْرٌ لَكُمْ مِنَ الدُّخُولِ بَغْتَةً لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِمُقَدَّرٍ، أَيْ: أُمِرْتُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّذَكُّرِ: الِاتِّعَاظُ، وَالْعَمَلُ بِمَا أُمِرُوا بِهِ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ أَيْ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِي الْبُيُوتِ الَّتِي لِغَيْرِكُمْ أَحَدًا مِمَّنْ يُسْتَأْذَنُ عَلَيْهِ فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ بِدُخُولِهَا مِنْ جِهَةِ مَنْ يَمْلِكُ الْإِذْنَ. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مَعْنَى الْآيَةِ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا، أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَكُمْ فِيهَا مَتَاعٌ، وَضَعَّفَهُ وَهُوَ حَقِيقٌ بِالضَّعْفِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحَدِ الْمَذْكُورِ أَهْلُ الْبُيُوتِ الَّذِينَ يَأْذَنُونَ لِلْغَيْرِ بِدُخُولِهَا، لَا مَتَاعَ الدَّاخِلِينَ إِلَيْهَا وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا أي:
قَالَ لَكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا، وَلَا تُعَاوِدُوهُمْ بِالِاسْتِئْذَانِ مَرَّةً أُخْرَى، وَلَا تَنْتَظِرُوا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَأْذَنُوا لَكُمْ بَعْدَ أَمْرِهِمْ لَكُمْ بِالرُّجُوعِ. ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الرُّجُوعَ أَفْضَلُ مِنَ الْإِلْحَاحِ، وَتَكْرَارِ الِاسْتِئْذَانِ، وَالْقُعُودِ عَلَى الْبَابِ فَقَالَ: هُوَ أَزْكى لَكُمْ أَيْ: أَفْضَلُ «وَأَطْهَرُ» مِنَ التَّدَنُّسِ بِالْمُشَاحَّةِ عَلَى الدُّخُولِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ سَلَامَةِ الصَّدْرِ، وَالْبُعْدِ مِنَ الرِّيبَةِ، وَالْفِرَارِ مِنَ الدَّنَاءَةِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ خَافِيَةٌ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ أَيْ لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي الدُّخُولِ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ إِلَى الْبُيُوتِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمَسْكُونَةٍ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الْبُيُوتِ، فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: هِيَ الْفَنَادِقُ الَّتِي فِي الطُّرُقِ السَّابِلَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِابْنِ السَّبِيلِ يَأْوِي إِلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَالشَّعْبِيُّ: هِيَ حَوَانِيتُ الْقَيْسَارِيَّاتِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ:
لِأَنَّهُمْ جَاءُوا بِبِيُوعِهِمْ فَجَعَلُوهَا فِيهَا، وَقَالُوا لِلنَّاسِ: هَلُمَّ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْمُرَادُ بِهَا الْخَرِبُ الَّتِي يَدْخُلُهَا النَّاسُ لِلْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَفِي هَذَا أَيْضًا مَتَاعٌ. وَقِيلَ: هِيَ بُيُوتُ مَكَّةَ. رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا، وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ شُرَكَاءُ فِيهَا، وَلَكِنْ قَدْ قَيَّدَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْبُيُوتَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا بِأَنَّهَا غَيْرُ مَسْكُونَةٍ.
وَالْمَتَاعُ: الْمَنْفَعَةُ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ: فِيهَا مَنْفَعَةٌ لكم، ومنه قوله: «ومتّعوهنّ» وَقَوْلُهُمْ:
أَمْتَعَ اللَّهُ بِكَ، وَقَدْ فَسَّرَ الشَّعْبِيُّ الْمَتَاعَ فِي كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ بِالْأَعْيَانِ الَّتِي تُبَاعُ. قَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ: وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَتَاعِ الْجِهَازَ، وَلَكِنْ مَا سِوَاهُ مِنَ الْحَاجَةِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ حَسَنٌ مُوَافِقٌ لِلُّغَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ أَيْ: مَا تُظْهِرُونَ وما تخفون، وفيه وعيد لمن يَتَأَدَّبْ بِآدَابِ اللَّهِ فِي دُخُولِ بُيُوتِ الْغَيْرِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيٌّ وَابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَكُونُ فِي بَيْتِي عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي لَا أُحِبُّ أَنْ يَرَانِي عَلَيْهَا أَحَدٌ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ، فَيَأْتِينِي الْأَبُ فَيَدْخُلُ عَلَيَّ فَكَيْفَ أَصْنَعُ؟ وَلَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ: وَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي وَأَنَا عَلَى تِلْكَ الحالة، فنزلت:
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها هذا التسليم قد عرفنا فَمَا الِاسْتِئْنَاسُ؟ قَالَ: يَتَكَلَّمُ الرَّجُلُ بِتَسْبِيحَةٍ وَتَكْبِيرَةٍ وَتَحْمِيدَةٍ وَيَتَنَحْنَحُ فَيُؤْذِنُ أَهْلَ الْبَيْتِ». قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الِاسْتِئْنَاسُ: أَنْ يَدْعُوَ الْخَادِمَ حَتَّى يَسْتَأْنِسَ أَهْلُ الْبَيْتِ الَّذِينَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ».
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ مِنْ طَرِيقِ كَلَدَةَ «أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَهُ فِي الْفَتْحِ بِلِبَأِ وَضَغَابِيسَ «١»، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بِأَعْلَى الْوَادِي، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ أُسَلِّمْ وَلَمْ أَسْتَأْذِنْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: ارْجِعْ فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَأَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ مِنْ طَرِيقِ رِبْعِيٍّ، قَالَ: «حَدَّثَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي بَيْتٍ، فَقَالَ: أَأَلِجُ؟
فَقَالَ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لِخَادِمِهِ: اخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الِاسْتِئْذَانَ، فَقُلْ لَهُ: قُلِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟». وَأَخْرَجَ ابن جرير عن عمرو بْنِ سَعِيدٍ الثَّقَفِيِّ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا، وَلَكِنَّهُ قَالَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَمَةٍ لَهُ يُقَالُ لَهَا رَوْضَةُ:
قَوْمِي إِلَى هَذَا فَعَلِّمِيهِ». وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ فَجَاءَ أَبُو مُوسَى فَزِعًا، فَقُلْنَا لَهُ: مَا أَفْزَعَكَ؟ قَالَ: أَمَرَنِي عُمَرُ أَنْ آتِيَهُ فَأَتَيْتُهُ، فَاسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي؟ فَقُلْتُ: قَدْ جِئْتُ فَاسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ» قَالَ: لَتَأْتِيَنِي عَلَى هَذَا بِالْبَيِّنَةِ، فَقَالُوا:
لَا يَقُومُ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ، فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ مَعَهُ لِيَشْهَدَ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ لِأَبِي مُوسَى: إِنِّي لَمْ أَتَّهِمْكَ، وَلَكِنَّ الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَدِيدٌ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ مِدْرًى «٢» يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ، قَالَ: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهَا فِي عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ. وَفِي لَفْظِ: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِذْنُ مِنْ أَجْلِ البصر. وأخرج أبو يعلى وابن جرير
(٢). مدرى: المدرى والمدراة: شيء يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط وأطول منه يسرّح به الشعر المتلبد.
وحكى ابن جرير عن مجاهد أنه قال : معنى الآية فإن لم تجدوا فيها أحداً : أي لم يكن لكم فيها متاع، وضعفه، وهو حقيق بالضعف ؛ فإن المراد بالأحد المذكور : أهل البيوت الذين يأذنون للغير بدخولها، لا متاع الداخلين إليها ﴿ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا ﴾ أي : إن قال لكم أهل البيت : ارجعوا، فارجعوا، ولا تعاودوهم بالاستئذان مرّة أخرى، ولا تنتظروا بعد ذلك أن يأذنوا لكم بعد أمرهم لكم بالرجوع. ثم بين سبحانه أن الرجوع أفضل من الإلحاح، وتكرار الاستئذان، والقعود على الباب فقال :﴿ هُوَ أزكى لَكُمْ ﴾ أي : أفضل ﴿ وَأَطْهَرُ ﴾ من التدنس بالمشاحة على الدخول لما في ذلك من سلامة الصدر، والبعد من الريبة، والفرار من الدناءة ﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ لا تخفى عليه من أعمالكم خافية.
سورة النور
هي مدنية، وآياتها أربع وستون آية أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير قالا : أنزلت سورة النور بالمدينة. أخرج الحاكم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن عائشة مرفوعاً :«لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة : يعني النساء، وعلموهن الغزل وسورة النور ». أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن مجاهد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«علموا رجالكم سورة المائدة، وعلموا نساءكم سورة النور » وهو مرسل. وأخرج أبو عبيد في فضائله عن حارثة بن مضرب قال : كتب إلينا عمر بن الخطاب أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور.
وقد اختلف الناس في المراد بهذه البيوت، فقال محمد بن الحنفية، وقتادة ومجاهد : هي الفنادق التي في الطرق السابلة الموضوعة لابن السبيل يأوي إليها. وقال ابن زيد، والشعبي : هي حوانيت القيساريات، قال الشعبي : لأنهم جاءوا ببيوعهم فجعلوها فيها، وقالوا للناس هلمّ. وقال عطاء : المراد بها الخرب التي يدخلها الناس للبول، والغائط، ففي هذا أيضاً متاع. وقيل : هي بيوت مكة. روي ذلك عن محمد ابن الحنفية أيضاً، وهو موافق لقول من قال : إن الناس شركاء فيها، ولكن قد قيد سبحانه هذه البيوت المذكورة هنا بأنها غير مسكونة. والمتاع : المنفعة عند أهل اللغة، فيكون معنى الآية : فيها منفعة لكم، ومنه قوله :﴿ وَمَتّعُوهُنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٣٦ ] وقولهم : أمتع الله بك، وقد فسر الشعبي المتاع في كلامه المتقدّم بالأعيان التي تباع. قال جابر بن زيد : وليس المراد بالمتاع الجهاز، ولكن ما سواه من الحاجة. قال النحاس : وهو حسن موافق للغة ﴿ والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾ أي : ما تظهرون وما تخفون، وفيه وعيد لمن لم يتأدّب بآداب الله في دخول بيوت الغير.
وقد أخرج الفريابي، وابن جرير من طريق عديّ بن ثابت عن رجل من الأنصار قال : قالت امرأة : يا رسول الله إني أكون في بيتي على الحالة التي لا أحبّ أن يراني عليها أحد ولد ولا والد، فيأتيني الأب فيدخل عليّ، فكيف أصنع ؟ ولفظ ابن جرير : وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي، وأنا على تلك الحالة، فنزلت ﴿ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ ﴾ الآية. وأخرج الفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في المصاحف، وابن منده في غرائب شعبة، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، والضياء في المختارة من طرق عن ابن عباس في قوله :﴿ حتى تَسْتَأْنِسُواْ ﴾ قال : أخطأ الكاتب «حتى تستأذنوا » ﴿ وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا ﴾.
وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، والبيهقي، عن إبراهيم النخعي قال في مصحف عبد الله :«حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا ». وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن عكرمة مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال : الاستئناس : الاستئذان.
وأخرج ابن أبي شيبة، والحكيم الترمذي، والطبراني، وابن مردويه، وابن أبي حاتم، عن أبي أيوب قال : قلت : يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى :﴿ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا ﴾ هذا التسليم عرفناه فما الاستئناس ؟ قال :«يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح فيؤذن أهل البيت » قال ابن كثير : هذا حديث غريب. وأخرج الطبراني عن أبي أيوب : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«الاستئناس أن يدعو الخادم حتى يستأنس أهل البيت الذين يسلم عليهم ». وأخرج ابن سعد، وأحمد، والبخاري في الأدب، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، والبيهقي في الشعب من طريق كلدة : أن صفوان بن أمية بعثه في الفتح بلبأ، وضغابيس، والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى الوادي، قال : فدخلت عليه، ولم أسلم، ولم أستأذن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«ارجع، فقل : السلام عليكم أأدخل ؟ » قال الترمذي : حسن غريب لا نعرفه إلاّ من حديثه. وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد والبخاري في الأدب، وأبو داود، والبيهقي في السنن من طريق ربعيّ، قال : حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في بيت، فقال : أألج ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه :«اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له : قل : السلام عليكم أأدخل ؟ » وأخرج ابن جرير عن عمر بن سعيد الثقفي نحوه مرفوعاً، ولكنه قال : إن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأمة له يقال لها روضة :«قومي إلى هذا فعلميه ». وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي سعيد الخدريّ قال : كنت جالساً في مجلس من مجالس الأنصار، فجاء أبو موسى فزعاً، فقلنا له : ما أفزعك قال : أمرني عمر أن آتيه، فأتيته، فاستأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي، فقال : ما منعك أن تأتيني ؟ فقلت : قد جئت فاستأذنت ثلاثاً، فلم يؤذن لي، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إذا استأذن أحدكم ثلاثاً، فلم يؤذن له فليرجع » قال : لتأتيني على هذا بالبينة، فقالوا : لا يقوم إلاّ أصغر القوم، فقام أبو سعيد معه ليشهد له، فقال عمر لأبي موسى : إني لم أتهمك، ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد.
وفي الصحيحين، وغيرهما من حديث سهل بن سعد قال : اطلع رجل من جحر في حجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعه مدري يحكّ بها رأسه، قال :«لو أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر » وفي لفظ :«إنما جعل الإذن من أجل البصر » وأخرج أبو يعلى، وابن جرير، وابن مردويه، عن أنس قال : قال رجل من المهاجرين : لقد طلبت عمري كله في هذه الآية، فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني، فيقول لي ارجع، فأرجع، وأنا مغتبط لقوله :﴿ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا هُوَ أزكى لَكُمْ ﴾. وأخرج البخاري في الأَدب، وأبو داود في الناسخ والمنسوخ، وابن جرير عن ابن عباس قال :﴿ ياأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلّمُواْ على أَهْلِهَا ﴾، فنسخ، واستثنى من ذلك، فقال ﴿ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ ﴾.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها فنسخ، واستثنى مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ الِاسْتِئْذَانِ، أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ حُكْمِ النَّظَرِ عَلَى الْعُمُومِ، فَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ غَضُّ الْبَصَرِ مِنَ الْمُسْتَأْذِنِ، كَمَا قَالَ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا جُعِلَ الْإِذْنُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» وَخَصَّ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ تَحْرِيمِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ، لِكَوْنِ قِطْعِ ذَرَائِعِ الزِّنَا الَّتِي مِنْهَا النَّظَرُ، هُمْ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِمْ بِهَا، وَأَوْلَى بِذَلِكَ مِمَّنْ سِوَاهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ فِي الْآيَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِالشَّرْعِيَّاتِ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ، وَالتَّقْدِيرُ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ غُضُّوا يَغُضُّوا وَمَعْنَى غَضِّ الْبَصَرِ: إِطْبَاقُ الْجَفْنِ عَلَى الْعَيْنِ بِحَيْثُ تَمْتَنِعُ الرُّؤْيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
فَغُضَّ الطَّرْفَ إِنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ | فَلَا كَعْبًا بَلَغْتَ وَلَا كِلَابًا |
وَأَغُضُّ طَرَفِي مَا بَدَتْ لِي جَارَتِي | حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا |
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّهَا زَائِدَةٌ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ سِيبَوَيْهِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ قَالَهُ أَبُو الْبَقَاءِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ مُبْهَمٌ يَكُونُ مُفَسَّرًا بِمَنْ، وقيل: إنها لابتداء الغاية. قال ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقِيلَ: الْغَضُّ النُّقْصَانُ، يُقَالُ:
غَضَّ فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ: أَيْ: وَضَعَ مِنْهُ، فَالْبَصَرُ إِذَا لَمْ يُمْكِنْ مِنْ عَمَلِهِ فَهُوَ مَغْضُوضٌ مِنْهُ وَمَنْقُوصٌ فَتَكُونُ «مِنْ» صِلَةً لِلْغَضِّ، وَلَيْسَتْ لِمَعْنًى مِنْ تِلْكَ الْمَعَانِي الْأَرْبَعَةِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ النَّظَرِ إِلَى غَيْرِ مَنْ يَحِلُّ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَمَعْنَى وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ حِفْظُهَا عَمَّا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ سَتْرُ
قِيلَ: وَوَجْهُ الْمَجِيءِ بِمِنْ فِي الْأَبْصَارِ دُونَ الْفُرُوجِ أَنَّهُ مُوَسَّعٌ فِي النَّظَرِ فَإِنَّهُ لَا يَحْرُمُ مِنْهُ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ، بِخِلَافِ حِفْظِ الْفَرْجِ فَإِنَّهُ مُضَيَّقٌ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ مِنْهُ إِلَّا مَا اسْتُثْنِيَ. وَقِيلَ: الْوَجْهُ أَنَّ غَضَّ الْبَصَرِ كُلِّهِ كَالْمُتَعَذِّرِ، بِخِلَافٍ حِفْظِ الْفَرْجِ فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْغَضِّ وَالْحِفْظِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ، وَخَبَرُهُ أَزْكى لَهُمْ أي: أظهر لَهُمْ مِنْ دَنَسِ الرِّيبَةِ وَأَطْيَبُ مِنَ التَّلَبُّسِ بِهَذِهِ الدَّنِيئَةِ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ صُنْعِهِمْ، وَفِي ذَلِكَ وَعِيدٌ لِمَنْ لَمْ يَغُضَّ بَصَرَهُ وَيَحْفَظْ فَرْجَهُ وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ خَصَّ سُبْحَانَهُ الْإِنَاثَ بِهَذَا الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقِ التَّأْكِيدِ لِدُخُولِهِنَّ تَحْتَ خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ تَغْلِيبًا كَمَا فِي سائر الخطابات القرآنية، وظهر التضعيف في يغضضن وَلَمْ يَظْهَرْ فِي يَغُضُّوا، لِأَنَّ لَامَ الْفِعْلِ مِنَ الْأَوَّلِ مُتَحَرِّكَةٌ وَمِنَ الثَّانِي سَاكِنَةٌ وَهُمَا فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ جَوَابًا لِلْأَمْرِ، وَبَدَأَ سُبْحَانَهُ بِالْغَضِّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَبْلَ حِفْظِ الْفَرْجِ، لِأَنَّ النَّظَرَ وَسِيلَةٌ إِلَى عَدَمِ حِفْظِ الْفَرْجِ، وَالْوَسِيلَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْمُتَوَسَّلِ إِلَيْهِ، وَمَعْنَى: يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ كَمَعْنَى يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ، فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ نَظَرِ النِّسَاءِ إِلَى مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِنَّ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِنَّ حِفْظُ فُرُوجِهِنَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي حِفْظِ الرِّجَالِ لِفُرُوجِهِمْ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أَيْ: مَا يَتَزَيَّنَّ بِهِ مِنَ الْحِلْيَةِ وَغَيْرِهَا، وَفِي النَّهْيِ عَنْ إِبْدَاءِ الزينة، نهى عَنْ إِبْدَاءِ مَوَاضِعِهَا مِنْ أَبْدَانِهِنَّ بِالْأَوْلَى. ثُمَّ اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ مِنْ هَذَا النَّهْيِ، فَقَالَ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ظَاهِرِ الزينة ما هُوَ؟ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ظَاهِرُ الزِّينَةِ هُوَ الثِّيَابُ وَزَادَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ الْوَجْهُ. وَقَالَ عَطَاءٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ:
ظَاهِرُ الزِّينَةِ هُوَ الْكُحْلُ وَالسِّوَاكُ وَالْخِضَابُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُبْدِيَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُبْدِي شَيْئًا مِنَ الزِّينَةِ وَتُخْفِي كُلَّ شَيْءٍ مِنْ زِينَتِهَا، وَوَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فِيمَا يَظْهَرُ مِنْهَا بِحُكْمِ الضَّرُورَةِ. وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ ظَاهَرَ النَّظْمِ الْقُرْآنِيَّ النَّهْيُ عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا كَالْجِلْبَابِ وَالْخِمَارِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا عَلَى الْكَفِّ وَالْقَدَمَيْنِ مِنَ الْحِلْيَةِ وَنَحْوِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالزِّينَةِ مَوَاضِعَهَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إِلَى مَا يَشُقُّ عَلَى الْمَرْأَةِ سَتْرُهُ كَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَهَكَذَا إِذَا كَانَ النَّهْيُ عَنْ إِظْهَارِ الزِّينَةِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ إِظْهَارِ مَوَاضِعِهَا بِفَحْوَى الْخِطَابِ، فَإِنَّهُ يُحْمَلُ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَأَمَّا إِذَا كَانَتِ الزِّينَةُ تَشْمَلُ مَوَاضِعَ الزِّينَةِ وَمَا تَتَزَيَّنُ بِهِ النِّسَاءُ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَالِاسْتِثْنَاءُ يَكُونُ مِنَ الْجَمِيعِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ:
الزِّينَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: خِلْقِيَّةٌ، وَمُكْتَسَبَةٌ فَالْخِلْقِيَّةُ وَجْهُهَا فَإِنَّهُ أَصْلُ الزِّينَةِ، وَالزِّينَةُ الْمُكْتَسَبَةُ مَا تُحَاوِلُهُ الْمَرْأَةُ فِي تَحْسِينِ خَلْقِهَا كَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْكُحْلِ وَالْخِضَابِ، وَمِنْهُ قوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ «١» وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَأْخُذْنَ زِينَتَهُنَّ أَحْسَنَ مَا تَرَى | وَإِذَا عُطِلْنَ فَهُنَّ خَيْرُ عَوَاطِلِ |
اخْتَمَرَتِ الْمَرْأَةُ وَتَخَمَّرَتْ. وَالْجُيُوبُ: جَمْعُ جَيْبٍ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْقَطْعِ مِنَ الدِّرْعِ وَالْقَمِيصِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْجَوْبِ وَهُوَ الْقَطْعُ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ نِسَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ كُنَّ يُسْدِلْنَ خُمُرَهُنَّ مِنْ خَلْفِهِنَّ، وكانت جيوبهنّ من الأمام واسعة، فكان تَنْكَشِفُ نُحُورُهُنَّ وَقَلَائِدُهُنَّ، فَأُمِرْنَ أَنْ يَضْرِبْنَ مَقَانِعَهُنَّ عَلَى الْجُيُوبِ لِتَسْتُرَ بِذَلِكَ مَا كَانَ يَبْدُو، وَفِي لَفْظِ الضَّرْبِ مُبَالَغَةٌ فِي الْإِلْقَاءِ الَّذِي هُوَ الْإِلْصَاقُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «بِخُمُرِهِنَّ» بِتَحْرِيكِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ بِسُكُونِهَا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ «جُيُوبِهِنَّ» بِضَمِّ الْجِيمِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ بِكَسْرِهَا، وَكَثِيرٌ مِنْ مُتَقَدِّمِي النَّحْوِيِّينَ لَا يُجَوِّزُونَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَجُوزُ أَنْ يُبَدِّلَ مِنَ الضَّمَّةِ كَسْرَةً، فَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ حَمْزَةَ مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَ الضَّمِّ وَالْكَسْرِ، فَمُحَالٌ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَنْطِقَ بِهِ إِلَّا عَلَى الْإِيمَاءِ، وَقَدْ فَسَّرَ الْجُمْهُورُ الْجُيُوبَ بِمَا قَدَّمْنَا، وَهُوَ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيُّ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِنَّ مَعْنَى عَلَى جُيُوبِهِنَّ: عَلَى صُدُورِهِنَّ، فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، أَيْ: عَلَى مَوَاضِعِ جُيُوبِهِنَّ. ثُمَّ كَرَّرَ سُبْحَانَهُ النَّهْيَ عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ لِأَجْلِ مَا سَيَذْكُرُهُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فَقَالَ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ الْبَعْلُ: هُوَ الزَّوْجُ وَالسَّيِّدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدَّمَ الْبُعُولَةَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُونَ بِالزِّينَةِ، وَلِأَنَّ كُلَّ بَدَنِ الزَّوْجَةِ والسرية حلال لهم، ومثله قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ «١» ثُمَّ لَمَّا اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ الزَّوْجَ أَتْبَعَهُ بِاسْتِثْنَاءِ ذَوِي الْمَحَارِمِ فَقَالَ: أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ فَجَوَّزَ لِلنِّسَاءِ أَنْ يُبْدِينَ الزِّينَةَ لِهَؤُلَاءِ لِكَثْرَةِ الْمُخَالَطَةِ وَعَدَمِ خَشْيَةِ الْفِتْنَةِ لِمَا فِي الطِّبَاعِ مِنَ النُّفْرَةِ عَنِ الْقَرَائِبِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا لَا يَنْظُرَانِ إِلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، ذَهَابًا مِنْهُمَا إِلَى أَنَّ أَبْنَاءَ الْبُعُولَةِ لَمْ يُذْكَرُوا فِي الْآيَةِ الَّتِي فِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ قَوْلُهُ: لَا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَالْمُرَادُ بِأَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ: ذُكُورُ أَوْلَادِ الْأَزْوَاجِ، وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَأَوْلَادُ بَنَاتِهِنَّ وَإِنْ سَفَلُوا، وَكَذَا آبَاءُ الْبُعُولَةِ، وَآبَاءُ الْآبَاءِ، وَآبَاءُ الْأُمَّهَاتِ وَإِنْ عَلَوْا، وَكَذَلِكَ أَبْنَاءُ الْبُعُولَةِ وَإِنْ سَفَلُوا، وَكَذَلِكَ أَبْنَاءُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْعَمَّ وَالْخَالَ كَسَائِرِ الْمَحَارِمِ فِي جَوَازِ النَّظَرِ إِلَى مَا يَجُوزُ لَهُمْ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الرَّضَاعِ، وَهُوَ كَالنَّسَبِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ: لَيْسَ الْعَمُّ وَالْخَالُ مِنَ الْمَحَارِمِ، وَمَعْنَى أَوْ نِسائِهِنَّ هُنَّ الْمُخْتَصَّاتُ بِهِنَّ الْمُلَابِسَاتِ لَهُنَّ بِالْخِدْمَةِ أَوِ الصُّحْبَةِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْإِمَاءُ، وَيَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ نِسَاءُ الْكُفَّارِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَغَيْرِهِمْ، فَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ لَهُنَّ لِأَنَّهُنَّ لَا يَتَحَرَّجْنَ عَنْ وَصْفِهِنَّ لِلرِّجَالِ. وَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِضَافَةُ النِّسَاءِ إِلَيْهِنَّ تَدُلُّ عَلَى اخْتِصَاصِ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنَاتِ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ظَاهِرُ الْآيَةِ يَشْمَلُ الْعَبِيدَ وَالْإِمَاءَ، مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ أَوْ كَافِرِينَ، وَبِهِ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَتْ عَائِشَةُ وَأُمُّ سلمة وابن عباس ومالك. وقال سعيد ابن الْمُسَيِّبِ: لَا تَغُرَّنَّكُمْ هَذِهِ الْآيَةُ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ إِنَّمَا عَنَى بِهَا الْإِمَاءَ وَلَمْ يَعْنِ بِهَا الْعَبِيدَ. وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يَكْرَهُ أَنْ يَنْظُرَ الْمَمْلُوكُ إِلَى شَعْرِ مَوْلَاتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ، وَرُوِيَ عَنِ
بِالْجَرِّ. وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ وَابْنِ عَامِرٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَقِيلَ: عَلَى الْقَطْعِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّابِعِينَ: هُمُ الَّذِينَ يَتْبَعُونَ الْقَوْمَ فَيُصِيبُونَ مِنْ طَعَامِهِمْ لَا هِمَّةَ لَهُمْ إِلَّا ذلك، ولا حاجة لهم في النساء قال مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ، وَمِنَ الرِّجَالِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَأَصْلُ الْإِرْبَةِ وَالْأَرَبِ وَالْمَأْرَبَةِ الْحَاجَةُ وَالْجَمْعُ مَآرِبُ، أَيْ: حَوَائِجُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سبحانه: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى «١» ومه قَوْلُ طَرَفَةَ:
إِذَا الْمَرْءُ قَالَ الْجَهْلَ وَالْحَوْبَ «٢» وَالْخَنَا | تَقَدَّمَ يَوْمًا ثُمَّ ضَاعَتْ مَآرِبُهُ |
الْعِنِّينُ، وَقِيلَ: الْخَصِيُّ، وَقِيلَ: الْمُخَنَّثُ، وَقِيلَ: الشَّيْخُ الْكَبِيرُ، وَلَا وَجْهَ لِهَذَا التَّخْصِيصِ، بَلِ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ ظَاهِرُهَا وَهُمْ مِنْ يَتْبَعُ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَلَا حَاجَةَ لَهُ فِي النِّسَاءِ، وَلَا يَحْصُلُ مِنْهُ ذَلِكَ فِي حَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، فَيَدْخُلُ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ هُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَيَخْرُجُ مَنْ عَدَاهُ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ الطِّفْلُ: يُطْلَقُ عَلَى الْمُفْرَدِ وَالْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعِ، أَوِ الْمُرَادِ بِهِ هُنَا الْجِنْسُ الْمَوْضُوعُ مَوْضِعَ الْجَمْعِ بِدَلَالَةِ وَصْفِهِ بِوَصْفِ الْجَمْعِ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ «أَوِ الْأَطْفَالِ» عَلَى الْجَمْعِ، يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ طِفْلٌ: مَا لَمْ يُرَاهِقِ الْحُلُمَ، وَمَعْنَى لَمْ يَظْهَرُوا: لَمْ يَطَّلِعُوا، من الظهور بمعنى الاطلاع، قال ابْنُ قُتَيْبَةَ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ: لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشهوة، قَالَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ، يُقَالُ ظَهَرْتُ عَلَى كَذَا: إِذَا غَلَبَتُهُ وَقَهَرَتُهُ. وَالْمَعْنَى: لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَيَكْشِفُوا عَنْهَا لِلْجِمَاعِ، أَوْ لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشَّهْوَةِ لِلْجِمَاعِ. قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ «عَوْرَاتِ» بِسُكُونِ الْوَاوِ تَخْفِيفًا، وَهِيَ لُغَةُ جُمْهُورِ الْعَرَبِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ فِي رِوَايَةٍ بِفَتْحِهَا. وَقَرَأَ بِذَلِكَ ابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْأَعْمَشُ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَهِيَ لُغَةُ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ الَّذِي أَنْشَدَهُ الفراء:
أخو بيضات رائح متأوب | رفيق بمسح الْمَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ |
وَقَدِ اخْتَلَفَ العلماء في حدّ العورة. قال القرطبي: أجمع المسلمون على أن السوأتين عَوْرَةٌ مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ كُلَّهَا عَوْرَةٌ إِلَّا وَجْهَهَا وَيَدَيْهَا عَلَى خِلَافٍ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ الْأَكْثَرُ: إِنَّ عَوْرَةَ الرَّجُلِ مِنْ سُرَّتِهِ إِلَى رُكْبَتِهِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ أَيْ: لَا تَضْرِبُ الْمَرْأَةُ بِرِجْلِهَا إِذَا مَشَتْ لِيُسْمَعَ صَوْتُ خَلْخَالِهَا مَنْ يَسْمَعُهُ مِنَ الرِّجَالِ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا ذَاتُ خَلْخَالٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَسَمَاعُ هَذِهِ الزِّينَةِ أَشَدُّ تَحْرِيكًا لِلشَّهْوَةِ مِنْ إِبْدَائِهَا. ثُمَّ أَرْشَدَ عِبَادَهُ إلى التوبة عن المعاصي فقال سبحانه:
(٢). الحوب: بضم الحاء وفتحها الإثم. والخنا: الفحش.
تَفُوزُونَ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّوْبَةِ هُنَا هِيَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِمَا تَقَرَّرَ فِي السُّنَّةِ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقَاتِ الْمَدِينَةِ، فَنَظَرَ إلى امرأة وَنَظَرَتْ إِلَيْهِ، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ أَنَّهُ لَمْ يَنْظُرْ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ إِلَّا إِعْجَابًا بِهِ، فَبَيْنَمَا الرَّجُلُ يَمْشِي إِلَى جَنْبِ حَائِطٍ وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، إِذِ اسْتَقْبَلَهُ الْحَائِطُ فَشَقَّ أَنْفَهُ، فَقَالَ:
وَاللَّهِ لَا أَغْسِلُ الدَّمَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأُعْلِمُهُ أَمْرِي، فَأَتَاهُ فَقَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ:
هَذَا عُقُوبَةُ ذَنْبِكَ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حاتم عن ابْنِ عَبَّاسٍ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ قَالَ: يَعْنِي مِنْ شَهَوَاتِهِمْ مِمَّا يَكْرَهُ اللَّهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ فَإِنَّ الْأُولَى لَكَ وَلَيْسَتْ لَكَ الْأُخْرَى» وَفِي مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ جَرِيرٍ الْبَجَلِيِّ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نَظْرَةِ الْفَجْأَةِ، فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إيّاكم والجلوس على الطرقات، قالوا: يا رسول الله ما لنا بدّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: إِنْ أَبَيْتُمْ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا: وَمَا حَقُّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ». وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَوْرَاتُنَا مَا نَأْتِي مِنْهَا وَمَا نَذَرُ؟ قَالَ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إِلَّا مِنْ زَوْجَتِكَ، أَوْ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ، قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِذَا كَانَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، قَالَ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ فَلَا يَرَيَنَّهَا، قُلْتُ: إِذَا كَانَ أحدنا خاليا، قال: فالله أحقّ أن يستحيى مِنْهُ مِنَ النَّاسِ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَتَبَ اللَّهُ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَزِنَا الْأُذُنَيْنِ السَّمَاعُ، وَزِنَا الْيَدَيْنِ الْبَطْشُ، وَزِنَا الرِّجْلَيْنِ الْخَطْوُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ». وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «النَّظْرَةُ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ مَسْمُومَةٌ، فَمَنْ تَرَكَهَا مِنْ خَوْفِ اللَّهِ أَثَابَهُ اللَّهُ إِيمَانًا يَجِدُ حَلَاوَتَهُ فِي قَلْبِهِ» وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ قَالَ: بَلَغَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيَّ حَدَّثَ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ كَانَتْ فِي نَخْلٍ لَهَا لَبَنِي حَارِثَةَ، فَجَعَلَ النِّسَاءُ يَدْخُلْنَ عَلَيْهَا غَيْرَ مُتَّزِرَاتٍ فَيَبْدُو مَا فِي أَرْجُلِهِنَّ، يَعْنِي الْخَلَاخِلَ، وَتَبْدُو صُدُورُهُنَّ وَذَوَائِبُهُنَّ، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: مَا أَقْبَحَ هَذَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ الْآيَةَ وَفِيهِ مَعَ كَوْنِهِ مُرْسَلًا مُقَاتِلٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ
زِينَةٌ ظَاهِرَةٌ وَزِينَةٌ بَاطِنَةٌ لَا يَرَاهَا إِلَّا الزَّوْجُ، فَأَمَّا الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ فَالثِّيَابُ، وَأَمَّا الزِّينَةُ الْبَاطِنَةُ فَالْكُحْلُ وَالسِّوَارُ وَالْخَاتَمُ. وَلَفْظُ ابْنُ جَرِيرٍ: فَالظَّاهِرَةُ مِنْهَا: الثِّيَابُ، وَمَا خَفِيَ: الْخَلْخَالَانِ، وَالْقُرْطَانِ، وَالسِّوَارَانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها قَالَ: الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وعبد ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها قَالَ:
الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَالْقُرْطُ وَالْقِلَادَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ قَالَ: هُوَ خِضَابُ الْكَفِّ وَالْخَاتَمِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: الزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ. وَأَخْرَجَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَجْهُهَا وَكَفَّاهَا وَالْخَاتَمُ، وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْهُ قَالَ: رُقْعَةُ الْوَجْهِ، وَبَاطِنُ الْكَفِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا سُئِلَتْ عَنِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ قَالَ:
الْقَلْبُ «٢» وَالْفَتْخُ «٣»، وَضَمَّتْ طَرَفَ كُمِّهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ دَخَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَلَيْهَا ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَقَالَ: يَا أَسْمَاءُ إِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ الْمَحِيضَ لَمْ تَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلَّا هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفِّهِ. قَالَ أَبُو دَاوُدَ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: هَذَا مُرْسَلٌ لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ خَالِدِ بْنِ دُرَيْكٍ عَنْ عَائِشَةَ وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْهَا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَائِشَةَ: قَالَتْ: «رَحِمَ اللَّهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُولَاتِ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ شَقَقْنَ أَكْثَفَ مُرُوطِهِنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهِ». وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهَا بِلَفْظِ: أَخَذَ النِّسَاءُ أُزْرَهُنَّ فَشَقَقْنَهَا مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي فَاخْتَمَرْنَ بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها وَالزِّينَةُ الظَّاهِرَةُ الْوَجْهُ وَكُحْلُ الْعَيْنَيْنِ وَخِضَابُ الْكَفِّ وَالْخَاتَمُ، فَهَذَا تُظْهِرُهُ فِي بَيْتِهَا لِمَنْ دَخَلَ عَلَيْهَا.
ثُمَّ قَالَ: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ الْآيَةَ، وَالزِّينَةُ الَّتِي تُبْدِيهَا لِهَؤُلَاءِ قُرْطُهَا وَقِلَادَتُهَا وَسِوَارُهَا، فَأَمَّا خَلْخَالُهَا وَمِعْضَدُهَا وَنَحْرُهَا وَشَعْرُهَا فَإِنَّهَا لَا تُبْدِيهِ إِلَّا لِزَوْجِهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ نِسائِهِنَّ قَالَ: هُنَّ الْمُسْلِمَاتُ، لَا تبديه ليهودية، ولا لنصرانية، وَهُوَ النَّحْرُ وَالْقُرْطُ وَالْوِشَاحُ، وَمَا يَحْرُمُ أَنْ يَرَاهُ إِلَّا مَحْرَمٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ نِسَاءً مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَاتِ مَعَ نِسَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ، فَانْهَ مَنْ قِبَلَكَ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أن ينظر إلى عورتها إلى أَهْلُ مِلَّتِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَا بَأْسَ أن يرى العبد
(٢). القلب: الأساور.
(٣). قال في النهاية: الفتخ: خواتيم كبار توضع في الأيدي وربما في الأرجل.
واختلف الناس في ظاهر الزينة ما هو ؟ فقال ابن مسعود، وسعيد بن جبير : ظاهر الزينة هو الثياب، وزاد سعيد بن جبير الوجه. وقال عطاء، والأوزاعي : الوجه والكفان. وقال ابن عباس، وقتادة والمسور بن مخرمة : ظاهر الزينة هو الكحل والسواك والخضاب إلى نصف الساق ونحو ذلك، فإنه يجوز للمرأة أن تبديه. وقال ابن عطية : إن المرأة لا تبدي شيئاً من الزينة، وتخفي كل شيء من زينتها، ووقع الاستثناء فيما يظهر منها بحكم الضرورة. ولا يخفى عليك أن ظاهر النظم القرآني النهي عن إبداء الزينة إلاّ ما ظهر منها كالجلباب والخمار، ونحوهما مما على الكف، والقدمين من الحلية ونحوها، وإن كان المراد بالزينة : مواضعها كان الاستثناء راجعاً إلى ما يشق على المرأة ستره كالكفين والقدمين، ونحو ذلك. وهكذا إذا كان النهي عن إظهار الزينة يستلزم النهي عن إظهار مواضعها بفحوى الخطاب، فإنه يحمل الاستثناء على ما ذكرناه في الموضعين، وأما إذا كانت الزينة تشمل مواضع الزينة، وما تتزين به النساء فالأمر واضح، والاستثناء يكون من الجميع. قال القرطبي في تفسيره : الزينة على قسمين : خلقية، ومكتسبة ؛ فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة، والزينة المكتسبة : ما تحاوله المرأة في تحسين خلقها كالثياب، والحلى، والكحل، والخضاب، ومنه قوله تعالى :﴿ خُذُواْ زِينَتَكُمْ ﴾ [ الأعراف : ٣١ ]، وقول الشاعر :
يأخذن زينتهنّ أحسن ما ترى | وإذا عطلن فهنّ خير عواطل |
إذا المرء قال الجهل والحوب والخنا | تقدّم يوماً ثم ضاعت مآربه |
أخوَ بيَضَاتٍ رائحٌ متأوبٌ | رفيقٌ لمسح المنكبينِ سبوحُ |
وقد اختلف العلماء في حدّ العورة. قال القرطبي : أجمع المسلمون على أن السوأتين عورة من الرجل والمرأة، وأن المرأة كلها عورة إلاّ وجهها، ويديها على خلاف في ذلك. وقال الأكثر : إن عورة الرجل من سرّته إلى ركبته ﴿ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ﴾ أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليسمع صوت خلخالها من يسمعه من الرجال، فيعلمون أنها ذات خلخال.
قال الزجاج : وسماع هذه الزينة أشدّ تحريكاً للشهوة من إبدائها. ثم أرشد عباده إلى التوبة عن المعاصي، فقال سبحانه ﴿ وَتُوبُواْ إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون ﴾ فيه الأمر بالتوبة، ولا خلاف بين المسلمين في وجوبها، وأنها فرض من فرائض الدين، وقد تقدّم الكلام على التوبة في سورة النساء. ثم ذكر ما يرغبهم في التوبة، فقال ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ أي تفوزون بسعادة الدنيا والآخرة، وقيل : إن المراد بالتوبة هنا هي عما كانوا يعملونه في الجاهلية، والأوّل أولى لما تقرر في السنة أن الإسلام يجبّ ما قبله.
«يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم تصلح أن يرى منها إلاّ هذا»، وأشار إلى وجهه وكفه. قال أبو داود، وأبو حاتم الرازي : هذا مرسل لأنه من طريق خالد بن دريك عن عائشة، ولم يسمع منها. وأخرج البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن عائشة قالت :" رحم الله نساء المهاجرات الأولات لما أنزل الله ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ ﴾ شققن أكثف مروطهنّ، فاختمرن به ". وأخرج ابن جرير، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنها بلفظ : أخذ النساء أزرهنّ، فشققنها من قبل الحواشي، فاختمرن بها. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله :﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾، والزينة الظاهرة : الوجه، وكحل العينين، وخضاب الكفّ، والخاتم، فهذا تظهره في بيتها لمن دخل عليها، ثم قال ﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنّ ﴾ الآية، والزينة التي تبديها لهؤلاء : قرطها، وقلادتها، وسوارها، فأما خلخالها، ومعضدها، ونحرها، وشعرها، فإنها لا تبديه إلاّ لزوجها. وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس :﴿ أَوْ نِسَائِهِنَّ ﴾ قال : هنّ المسلمات لا تبديه ليهودية ولا نصرانية، وهو النحر، والقرط، والوشاح، وما يحرم أن يراه إلاّ محرم. وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، والبيهقي في سننه، عن عمر بن الخطاب : أنه كتب إلى أبي عبيدة : أما بعد، فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، فإنه من قبلك عن ذلك، فإنه لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلاّ أهل ملتها. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن ابن عباس قال : لا بأس أن يرى العبد شعر سيدته. وأخرج أبو داود وابن مردويه، والبيهقي عن أنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبدٍ قد وهب لها، وعلى فاطمة ثوب إذا قنع به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال :«إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك» وإسناده في سنن أبي داود هكذا، حدّثنا محمد بن عيسى، حدثنا أبو جميع سالم بن دينار، عن ثابت، عن أنس فذكره. وأخرج عبد الرزاق، وأحمد عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إذا كان لإحداكنّ مكاتب، وكان له ما يؤدي، فلتحتجب منه»، وإسناد أحمد هكذا : حدّثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن نبهان : أن أم سلمة... فذكره. وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير عن ابن عباس في قوله :﴿ أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال ﴾ قال : هذا الذي لا تستحيي منه النساء. أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في الآية قال : هذا الرجل يتبع القوم، وهو مغفل في عقله، لا يكترث للنساء، ولا يشتهي النساء. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه في الآية قال : كان الرجل يتبع الرجل في الزمان الأوّل لا يغار عليه، ولا ترهب المرأة أن تضع خمارها عنده، وهو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال : هو المخنث الذي لا يقوم زبه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي، عن عائشة قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم مخنث، فكانوا يدعونه من غير أولي الإربة، فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم يوماً وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة قال : إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت أدبرت بثمانٍ، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم :«ألا أرى هذا يعرف ما ها هنا لا يدخلنّ عليكم، فحجبوه» وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس في قوله :﴿ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ ﴾ وهو : أن تقرع الخلخال بالآخر عند الرجال، أو يكون في رجلها خلاخل فتحركهن عند الرجال، فنهى الله عن ذلك، لأنه من عمل الشيطان.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
لَمَّا أَمَرَ سُبْحَانَهُ بِغَضِّ الْأَبْصَارِ، وَحِفْظِ الْفُرُوجِ، أَرْشَدَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى مَا يَحِلُّ لِلْعِبَادِ مِنَ النِّكَاحِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ، وَسُكُونُ دَوَاعِي الزِّنَا، وَيَسْهُلُ بَعْدَهُ غَضُّ الْبَصَرِ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَحِفْظِ الْفَرْجِ عَمَّا لَا يَحِلُّ، فَقَالَ: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ الْأَيِّمُ: الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، وَالْجَمْعُ أَيَامَى، والأصل أيايم، والأيم بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَيَشْمَلُ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ. قَالَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ: اتَّفَقَ أَهْلُ اللُّغَةِ عَلَى أَنَّ الأيم
لِلَّهِ دَرُّ بَنِي عَلِيٍّ | أَيِّمٍ مِنْهُمْ وَنَاكِحِ |
لَقَدْ إِمْتُ حَتَّى لَامَنِي كُلُّ صاحب | رجاء بسلمى أن تئيم كَمَا إِمْتُ |
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي النكاح هل هو مُبَاحٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ، أَوْ وَاجِبٌ؟ فَذَهَبَ إِلَى الْأَوَّلِ: الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، وَإِلَى الثَّانِي: مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِلَى الثَّالِثِ: بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَالُوا:
إِنْ خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الْوُقُوعَ فِي الْمَعْصِيَةِ وَجَبَ عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَلَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالْإِبَاحَةِ وَالِاسْتِحْبَابِ لَا يُخَالِفُونَ فِي الْوُجُوبِ مَعَ تِلْكَ الْخَشْيَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ مَعَ عَدَمِهَا سُنَّةٌ مِنَ السُّنَنِ المؤكدة لقوله صلّى الله عليه وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بَعْدَ تَرْغِيبِهِ فِي النِّكَاحِ: «وَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَلَكِنْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى مُؤَنِهِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا، وَالْمُرَادُ بِالْأَيَامَى هُنَا: الْأَحْرَارُ وَالْحَرَائِرُ، وَأَمَّا الْمَمَالِيكُ فَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ «عِبَادِكُمْ» وَقَرَأَ الْحَسَنُ «عَبِيدِكُمْ» قَالَ الْفَرَّاءُ: وَيَجُوزُ وَإِمَاءَكُمْ بِالنَّصْبِ بِرَدِّهِ عَلَى الصَّالِحِينَ، وَالصَّلَاحُ: هُوَ الْإِيمَانُ. وَذَكَرَ سُبْحَانَهُ الصَّلَاحَ فِي الْمَمَالِيكِ دُونَ الْأَحْرَارِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْأَحْرَارِ الصَّلَاحُ بِخِلَافِ الْمَمَالِيكِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يُزَوِّجُ نَفْسَهُ، وَإِنَّمَا يُزَوِّجُهُ مَالِكُهُ. وَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُكْرِهَ عَبْدَهُ وَأَمَتَهُ عَلَى النِّكَاحِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ. ثُمَّ رَجَعَ سُبْحَانَهُ إِلَى الْكَلَامِ فِي الْأَحْرَارِ فَقَالَ: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَيْ لَا تَمْتَنِعُوا مِنْ تَزْوِيجِ الْأَحْرَارِ بِسَبَبِ فَقْرِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ أَوْ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّهُمْ إِنْ يَكُونُوا فَقُرَّاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَيَتَفَضَّلْ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: حَثَّ اللَّهُ عَلَى النِّكَاحِ وَأَعْلَمَ أَنَّهُ سَبَبٌ لِنَفْيِ الْفَقْرِ، وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَذَا حَاصِلًا لِكُلِّ فَقِيرٍ إِذَا تَزَوَّجَ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِالْمَشِيئَةِ. وَقَدْ يُوجَدُ فِي الْخَارِجِ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ لَا يَحْصُلُ لَهُمُ الْغِنَى إِذَا تَزَوَّجُوا. وَقِيلَ الْمَعْنَى:
إِنَّهُ يُغْنِيهِ بِغِنَى النَّفْسِ، وَقِيلَ الْمَعْنَى: إِنْ يَكُونُوا فَقُرَاءَ إِلَى النِّكَاحِ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مَنْ فَضْلِهِ بِالْحَلَالِ لِيَتَعَفَّفُوا عَنِ الزِّنَا.
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَوْلَى، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ «١» فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ هُنَا عَلَى الْمُقَيَّدِ هُنَاكَ، وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَا قَبْلَهَا وَمُقَرِّرَةٌ لها، والمراد أن سُبْحَانَهُ ذُو سَعَةٍ لَا يَنْقُصُ مِنْ سَعَةِ مُلْكِهِ غِنَى مَنْ يُغْنِيهِ مِنْ عِبَادِهِ عَلِيمٌ بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ، يُغْنِي مَنْ يَشَاءُ وَيُفْقِرُ مَنْ يَشَاءُ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْعَاجِزِينَ عَنِ النِّكَاحِ، بَعْدَ بَيَانِ جَوَازِ مُنَاكَحَتِهِمْ، إِرْشَادًا لَهُمْ إِلَى مَا هُوَ الْأَوْلَى فَقَالَ: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً اسْتَعَفَّ طَلَبَ أَنْ يَكُونَ عفيفا، أي: ليطلب العفة عن الزنا
قَالَ الطَّحَاوِيُّ: وَقَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ الْمَالُ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا، لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ لِمَوْلَاهُ فَكَيْفَ يَكُونُ لَهُ مَالٌ؟ قَالَ:
وَالْمَعْنَى عِنْدَنَا إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمُ الدِّينَ وَالصِّدْقَ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: مَنْ لَمْ يَقُلْ إِنَّ الْخَيْرَ هُنَا الْمَالُ أَنْكَرَ أَنْ يُقَالَ: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ مَالًا، وَإِنَّمَا يُقَالُ عَلِمْتُ فِيهِ الْخَيْرَ وَالصَّلَاحَ وَالْأَمَانَةَ، وَلَا يُقَالُ عَلِمْتُ فِيهِ الْمَالَ.
هَذَا حَاصِلُ مَا وَقَعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَ أهل العلم في الخبر الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَإِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ ظَاهِرُ مَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ مِنَ الْوُجُوبِ، أما عكرمة وعطاء ومسروق وعمرو بْنُ دِينَارٍ وَالضَّحَّاكُ: وَأَهْلُ الظَّاهِرِ، فَقَالُوا: يَجِبُ عَلَى السَّيِّدِ أَنْ يُكَاتِبَ مَمْلُوكَهُ، إِذَا طَلَبَ مِنْهُ ذَلِكَ وَعَلِمَ فِيهِ خَيْرًا.
وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ، وَتَمَسَّكُوا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ سَأَلَ الْعَبْدُ سَيِّدَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ، فَكَذَا الْكِتَابَةُ لِأَنَّهَا مُعَاوَضَةٌ.
وَلَا يَخْفَاكَ أَنَّ هَذِهِ حُجَّةٌ وَاهِيَةٌ وَشُبْهَةٌ دَاحِضَةٌ، وَالْحَقُّ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُونَ، وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ
الْعُشْرُ، وَلَعَلَّ وَجْهَ تَخْصِيصِ الْمَوَالِي بِهَذَا الْأَمْرِ هُوَ كَوْنُ الْكَلَامِ فِيهِمْ، وَسِيَاقُ الْكَلَامِ مَعَهُمْ فَإِنَّهُمُ الْمَأْمُورُونَ بِالْكِتَابَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ والنخعي وبريدة: إن الخطاب بقول: وَآتُوهُمْ لِجَمِيعِ النَّاسِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ:
إِنَّ الْخِطَابَ لِلْوُلَاةِ بِأَنْ يُعْطُوا الْمُكَاتَبِينَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ حَظَّهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَفِي الرِّقابِ «١»، وَلِلْمُكَاتَبِ أَحْكَامٌ مَعْرُوفَةٌ إِذَا وَفَّى بِبَعْضِ مَالِ الْكِتَابَةِ. ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا أَرْشَدَ الْمَوَالِيَ إِلَى نِكَاحِ الصَّالِحِينَ مِنَ الْمَمَالِيكِ، نَهَى الْمُسْلِمِينَ عَمَّا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إِكْرَاهِ إِمَائِهِمْ عَلَى الزِّنَا فَقَالَ: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ وَالْمُرَادُ بِالْفَتَيَاتِ هُنَا: الْإِمَاءُ، وَإِنْ كَانَ الْفَتَى وَالْفَتَاةُ قَدْ يُطْلَقَانِ عَلَى الْأَحْرَارِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.
وَالْبِغَاءُ: الزِّنَا، مَصْدَرُ بَغَتِ الْمَرْأَةُ تَبْغِي بِغَاءً إِذَا زَنَتْ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِزِنَا النِّسَاءِ، فَلَا يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا زَنَا إِنَّهُ بَغِيٌّ، وَشَرَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُتَصَوَّرُ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَتِهِمْ لِلتَّحَصُّنِ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ تُرِدِ التَّحَصُّنَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لَهَا مُكْرَهَةٌ عَلَى الزِّنَا، وَالْمُرَادُ بِالتَّحَصُّنِ هُنَا: التَّعَفُّفُ وَالتَّزَوُّجُ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الْقَيْدَ رَاجِعٌ إِلَى الْأَيَامَى. قَالَ الزَّجَّاجُ وَالْحَسَنُ بْنُ الْفَضْلِ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ، وَإِمَائِكُمْ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا. وَقِيلَ: هَذَا الشَّرْطُ مُلْغًى. وَقِيلَ:
إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ بِاعْتِبَارِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُكْرِهُونَهُنَّ وَهُنَّ يُرِدْنَ التَّعَفُّفَ، وَلَيْسَ لِتَخَصُّصِ النَّهْيِ بِصُورَةِ إِرَادَتِهِنَّ التَّعَفُّفَ. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا الشَّرْطَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ جَوَازُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَ عَدَمِ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْوَى هَذِهِ الْوُجُوهِ، فَإِنَّ الْأَمَةَ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ مُرِيدَةٍ لِلْحَلَالِ وَلَا لِلْحَرَامِ، كَمَا فِيمَنْ لَا رَغْبَةَ لها في النكاح كالصغيرة، فَتُوصَفُ بِأَنَّهَا مُكْرَهَةٌ عَلَى الزِّنَا، مَعَ عَدَمِ إِرَادَتِهَا لِلتَّحَصُّنِ، فَلَا يَتِمُّ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِكْرَاهُ إِلَّا عِنْدَ إِرَادَةِ التَّحَصُّنِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحَصُّنِ هُنَا مُجَرَّدُ التَّعَفُّفِ، وَأَنَّهُ لَا يَصْدُقُ عَلَى مَنْ كَانَتْ تُرِيدُ الزَّوَاجَ أَنَّهَا مُرِيدَةٌ لِلتَّحَصُّنِ وهو بعيد، فقد قال الحبر ابن عباس: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحَصُّنِ: التَّعَفُّفُ وَالتَّزَوُّجُ، وَتَابَعَهُ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُ، ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ هَذَا النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُوَ مَا تَكْسِبُهُ الْأَمَةُ بِفَرْجِهَا، وَهَذَا التَّعْلِيلُ أَيْضًا خَارِجٌ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذَا الْعَرَضَ هُوَ الَّذِي كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى إِكْرَاهِ الْإِمَاءِ عَلَى الْبِغَاءِ فِي الْغَالِبِ، لِأَنَّ إِكْرَاهَ الرَّجُلِ لِأَمَتِهِ عَلَى الْبِغَاءِ لَا لِفَائِدَةٍ لَهُ أَصْلًا، لَا يَصْدُرُ مِثْلُهُ عَنِ الْعُقَلَاءِ، فَلَا يَدُلُّ هَذَا التَّعْلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُكْرِهَهَا، إِذَا لَمْ يَكُنْ مُبْتَغِيًا بِإِكْرَاهِهَا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: إِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ لِلْإِكْرَاهِ هُوَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَادَتَهُمْ كَانَتْ كَذَلِكَ، لَا أَنَّهُ مَدَارٌ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِكْرَاهِ لَهُنَّ، وَهَذَا يُلَاقِي المعنى الأوّل ولا يخالفه وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ هَذَا مُقَرِّرٌ لِمَا قَبْلَهُ وَمُؤَكِّدٌ لَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ عُقُوبَةَ الْإِكْرَاهِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُكْرِهِينَ لَا إِلَى الْمُكْرَهَاتِ، كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسَعِيدُ بْنُ جبير:
الْأُولَى: أَنَّهُ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ، أَيْ: وَاضِحَاتٍ فِي أَنْفُسِهِنَّ أَوْ مُوَضَّحَاتٍ، فَتَدْخُلُ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا. وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: كَوْنُهُ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ، أَيْ: مَثَلًا كَائِنًا مِنْ جِهَةِ أَمْثَالِ الَّذِينَ مَضَوْا مِنَ الْقَصَصِ الْعَجِيبَةِ، وَالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لَهُمْ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، فَإِنَّ الْعَجَبَ مِنْ قِصَّةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، هُوَ كَالْعَجَبِ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ وَمَرْيَمَ وَمَا اتُّهِمَا بِهِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ بُطْلَانُهُ وَبَرَاءَتُهُمَا سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا. وَالصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: كَوْنُهُ مَوْعِظَةً يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُتَّقُونَ خَاصَّةً، فَيَقْتَدُونَ بِمَا فِيهِ مِنَ الْأَوَامِرِ، وَيَنْزَجِرُونَ عَمَّا فِيهِ مِنَ النَّوَاهِي. وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَّقِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً عَنْ سَمَاعِ الْمَوَاعِظِ، والاعتبار بقصص الذين خلوا، وفهم ما تشمل عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى الْآيَةَ قَالَ: أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالنِّكَاحِ وَرَغَّبَهُمْ فِيهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُزَوِّجُوا أَحْرَارَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ، وَوَعَدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْغِنَى فَقَالَ: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ قَالَ: أَطِيعُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ مِنَ النِّكَاحِ يُنْجِزُ لَكُمْ مَا وَعَدَكُمْ مِنَ الْغِنَى، قَالَ تَعَالَى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ:
مَا رَأَيْتُ كَرَجُلٍ لَمْ يَلْتَمِسِ الْغِنَى فِي الْبَاءَةِ، وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ فِيهَا مَا وَعَدَ، فَقَالَ: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْعِلَلِ وَالْحَاكِمُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْكِحُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّهُنَّ يَأْتِينَكُمْ بِالْمَالِ». وَأَخْرَجَهُ ابن أبي شيبة وأبو داود في مراسيله عن عروة مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يذكر عائشة وهو مرسل. وأخرج عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ: «ثَلَاثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمْ: النَّاكِحُ يُرِيدُ الْعَفَافَ، وَالْمُكَاتَبُ يُرِيدُ الْأَدَاءَ، وَالْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّرْغِيبِ فِي مُطْلَقِ النِّكَاحِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهَا. وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكاحاً قَالَ: لِيَتَزَوَّجْ مَنْ لَا يَجِدُ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُغْنِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ السَّكَنِ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صُبَيْحٍ عَنْ أبيه قال: كنت مملوكا لحويطب ابن عَبْدِ الْعُزَّى، فَسَأَلْتُهُ الْكِتَابَةَ فَأَبَى، فَنَزَلَتْ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ ابن حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَأَلَنِي سِيرِينُ الْمُكَاتَبَةَ فَأَبَيْتُ عَلَيْهِ، فَأَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَأَقْبَلَ عَلَيَّ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: كَاتِبْهُ وَتَلَا فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فَكَاتَبْتُهُ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: إِنَّ إِسْنَادَهُ
ولا يخفاك أن هذه حجة واهية، وشبهة داحضة، والحق ما قاله الأوّلون، وبه قال عمر بن الخطاب، وابن عباس واختاره ابن جرير. ثم أمر سبحانه الموالي بالإحسان إلى المكاتبين، فقال :﴿ وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُم ﴾ ففي هذه الآية الأمر للمالكين بإعانة المكاتبين على مال الكتابة، إما بأن يعطوهم شيئاً من المال، أو بأن يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه، وظاهر الآية عدم تقدير ذلك بمقدار، وقيل : الثلث، وقيل : الربع، وقيل : العشر، ولعل وجه تخصيص الموالي بهذا الأمر هو كون الكلام فيهم، وسياق الكلام معهم فإنهم المأمورون بالكتابة. وقال الحسن، والنخعي، وبريدة : إن الخطاب بقوله :﴿ وآتوهم ﴾ لجميع الناس. وقال زيد بن أسلم : إن الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم كما في قوله سبحانه :﴿ وَفِي الرقاب ﴾ [ التوبة : ٦٠ ]، وللمكاتب أحكام معروفة إذا وفى ببعض مال الكتابة. ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك، نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على الزنا، فقال ﴿ وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء ﴾ والمراد بالفتيات هنا الإماء، وإن كان الفتى والفتاة قد يطلقان على الأحرار في مواضع أخر. والبغاء : الزنا، مصدر بغت المرأة تبغي بغاء إذا زنت، وهذا مختصّ بزنا النساء، فلا يقال للرجل إذا زنا : إنه بغيّ، وشرط الله سبحانه هذا النهي بقوله :﴿ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً ﴾ لأن الإكراه لا يتصور إلاّ عند إرادتهم للتحصن، فإن من لم ترد التحصن لا يصح أن يقال لها : مكرهة على الزنا، والمراد بالتحصن هنا : التعفف، والتزوج. وقيل : إن هذا القيد راجع إلى الأيامى. قال الزجاج والحسن بن الفضل : في الكلام تقديم وتأخير، أي وأنكحوا الأيامى، والصالحين من عبادكم، وإمائكم إن أردن تحصناً. وقيل : هذا الشرط ملغى. وقيل : إن هذا الشرط باعتبار ما كانوا عليه، فإنهم كانوا يكرهونهنّ، وهنّ يردن التعفف، وليس لتخصص النهي بصورة إرادتهنّ التعفف. وقيل : إن هذا الشرط خرج مخرج الغالب ؛ لأن الغالب أن الإكراه لا يكون إلاّ عند إرادة التحصن، فلا يلزم منه جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن، وهذا الوجه أقوى هذه الوجوه، فإن الأمة قد تكون غير مريدة للحلال، ولا للحرام كما فيمن لا رغبة لها في النكاح، والصغيرة فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن، فلا يتم ما قيل : من أنه لا يتصور الإكراه إلاّ عند إرادة التحصن، إلاّ أن يقال : إن المراد بالتحصن هنا مجرّد التعفف، وأنه لا يصدق على من كانت تريد الزواج أنها مريدة للتحصن وهو بعيد، فقد قال الحبر ابن عباس : إن المراد بالتحصن التعفف، والتزوّج، وتابعه على ذلك غيره. ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله :﴿ لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا ﴾، وهو ما تكسبه الأمة بفرجها، وهذا التعليل أيضاً خارج مخرج الغالب، والمعنى : أن هذا العرض هو الذي كان يحملهم على إكراه الإماء على البغاء في الغالب، لأن إكراه الرجل لأمته على البغاء لا لفائدة له أصلاً لا يصدر مثله عن العقلاء، فلا يدلّ هذا التعليل على أنه يجوز له أن يكرهها، إذا لم يكن مبتغياً بإكراهها عرض الحياة الدنيا. وقيل : إن هذا التعليل للإكراه هو باعتبار أن عادتهم كانت كذلك، لا أنه مدار للنهي عن الإكراه لهنّ، وهذا يلاقي المعنى الأوّل، ولا يخالفه. ﴿ وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ هذا مقرّر لما قبله ومؤكد له، والمعنى أن عقوبة الإكراه راجعة إلى المكرهين لا إلى المكرهات، كما تدلّ عليه قراءة ابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن جبير :«فإن الله غفور رحيم لهنّ ». قيل : وفي هذا التفسير بعد، لأن المكرهة على الزنا غير آثمة. وأجيب بأنها وإن كانت مكرهة، فربما لا تخلو في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة إما بحكم الجبلة البشرية، أو يكون الإكراه قاصراً عن حدّ الإلجاء المزيل للاختيار. وقيل : إن المعنى : فإن الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم لهم، إما مطلقاً، أو بشرط التوبة.
فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قَالَ: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ حِرْفَةً، وَلَا تُرْسِلُوهُمْ كَلًّا عَلَى النَّاسِ». وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ المنذر وابن وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قَالَ: الْمَالُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَمَانَةٌ وَوَفَاءٌ.
وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: إِنْ عَلِمْتَ مُكَاتَبَكَ يَقْضِيكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنْ عَلِمْتُمْ لَهُمْ حِيلَةً، وَلَا تُلْقُوا مُؤْنَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ يعني: ضعوا عنهم من مُكَاتَبَتِهِمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَكْرَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ حِرْفَةٌ وَيَقُولُ: يُطْعِمُنِي مِنْ أَوْسَاخِ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الْآيَةَ: أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُعَيِّنُوا فِي الرِّقَابِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَمَرَ اللَّهُ السَّيِّدَ أَنْ يَدَعَ لِلْمُكَاتَبِ الرُّبُعَ مِنْ ثَمَنِهِ. وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنَ اللَّهِ لَيْسَ بِفَرِيضَةٍ، وَلَكِنْ فِيهِ أَجْرٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالرُّويَانِيُّ فِي مُسْنَدِهِ وَالضِّيَاءُ الْمَقْدِسِيُّ فِي الْمُخْتَارَةِ عَنْ بُرَيْدَةَ فِي الْآيَةِ قَالَ: حَثَّ النَّاسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطُوهُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَمُسْلِمٌ، وَالْبَزَّارُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ يقول الجارية لَهُ: اذْهَبِي فَابْغِينَا شَيْئًا، وَكَانَتْ كَارِهَةً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ لهنّ غَفُورٌ رَحِيمٌ هكذا كان يقرؤها، وَذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ جَارِيَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ: يُقَالُ لَهَا مُسَيْكَةُ، وَأُخْرَى يُقَالُ لَهَا أُمَيْمَةُ، فَكَانَ يُرِيدُهُمَا عَلَى الزِّنَا، فَشَكَتَا ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَ حَدِيثِ جَابِرٍ الْأَوَّلِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغِينَ إِمَاءَهُمْ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُكْرِهُونَ إِمَاءَهُمْ عَلَى الزِّنَا، يَأْخُذُونَ أُجُورَهُنَّ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَدْ وَرَدَ النَّهْيُ مِنْهُ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ وَكَسْبِ الْحَجَّامِ وَحُلْوَانِ الكاهن.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٥ الى ٣٨]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨)
خَبَرُهُ، إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: ذو نور السموات وَالْأَرْضِ، أَوْ لِكَوْنِ الْمُرَادِ الْمُبَالَغَةَ فِي وَصْفِهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ نُورٌ لِكَمَالِ جَلَالِهِ وَظُهُورِ عَدْلِهِ وبسط أَحْكَامَهُ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ نُورُ الْبَلَدِ وَقَمَرُ الزَّمَنِ وَشَمْسُ الْعَصْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
فَإِنَّكَ شَمْسٌ وَالْمُلُوكُ كَوَاكِبُ | إِذَا ظَهَرَتْ لَمْ يَبْقَ فيهنّ كوكب «١» |
هلّا خصصت من البلاد بمقصد | قَمَرُ الْقَبَائِلِ خَالِدُ بْنُ يَزِيدِ |
إِذَا سَارَ عَبْدُ اللَّهِ مِنْ مَرْوِ لَيْلَةً | فَقَدْ سَارَ مِنْهَا نُورُهَا وَجِمَالُهَا |
نَسَبٌ كَأَنَّ عَلَيْهِ مِنْ شَمْسِ الضُّحَى | نُورًا وَمِنْ فَلَقَ الصَّبَاحِ عَمُودَا |
وَأَنْتَ لَنَا نُورٌ وغيث وعصمة | ونبت لمن يرجو نداك وريق |
مَثَلُ نُورِهِ مُبْتَدَأٌ. وَخَبَرُهُ كَمِشْكاةٍ أَيْ: صِفَةُ نُورِهِ الْفَائِضِ عَنْهُ، الظَّاهِرُ عَلَى الْأَشْيَاءِ كَمِشْكَاةِ، وَالْمِشْكَاةُ: الْكُوَّةُ فِي الْحَائِطِ غَيْرُ النَّافِذَةِ، كَذَا حَكَاهُ الْوَاحِدِيُّ عَنْ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَحَكَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ جُمْهُورِهِمْ. وَوَجْهُ تَخْصِيصِ الْمِشْكَاةِ أَنَّهَا أَجْمَعُ لِلضَّوْءِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ، مِنْ مِصْبَاحٍ أو غيره، وأصل المشكاة الوعاء يُجْعَلُ فِيهِ الشَّيْءُ. وَقِيلَ: الْمِشْكَاةُ عَمُودُ الْقِنْدِيلِ الَّذِي فِيهِ الْفَتِيلَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْقِنْدِيلُ. وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
كَأَنَّ عَيْنَيْهِ مشكاتان في حجر
وقال أَبُو عُبَيْدٍ: إِنْ ضَمَمْتَ الدَّالَّ وَجَبَ أَنْ لَا تَهْمِزَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَالدَّرَارِيُّ: هِيَ الْمَشْهُورَةُ مِنَ الْكَوَاكِبِ كَالْمُشْتَرِي وَالزُّهْرَةِ وَالْمِرِّيخِ وَمَا يُضَاهِيهَا مِنَ الثَّوَابِتِ. ثُمَّ وَصَفَ الْمِصْبَاحَ بِقَوْلِهِ: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ وَمِنْ هَذِهِ: هِيَ الِابْتِدَائِيَّةُ، أَيْ: ابْتِدَاءُ إِيقَادِ الْمِصْبَاحِ مِنْهَا، وَقِيلَ: هُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ: يُوقَدُ مِنْ زَيْتِ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ، وَالْمُبَارَكَةُ: الْكَثِيرَةُ الْمَنَافِعِ. وَقِيلَ: الْمُنَمَّاةُ، وَالزَّيْتُونُ مِنْ أَعْظَمِ الثِّمَارِ نَمَاءً، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ يَرْثِي مُسَافِرَ بْنَ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ:
لَيْتَ شِعْرِي مُسَافِرَ بْنَ أَبِي عَمْرٍو | وَلَيْتَ يَقُولُهَا الْمَحْزُونُ |
بُورِكَ الْمَيِّتُ الْغَرِيبُ كَمَا بو | رك نَبْعُ الرُّمَّانِ وَالزَّيْتُونِ |
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى هَذَا الْوَصْفِ، فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ: إِنَّ الشَّرْقِيَّةَ هِيَ الَّتِي تُصِيبُهَا الشَّمْسُ إِذَا شَرَقَتْ، وَلَا تُصِيبُهَا إِذَا غَرَبَتْ. وَالْغَرْبِيَّةُ هِيَ الَّتِي تُصِيبُهَا إِذَا غَرَبَتْ، وَلَا تُصِيبُهَا إِذَا شَرَقَتْ.
وَهَذِهِ الزَّيْتُونَةُ هِيَ فِي صَحْرَاءَ بِحَيْثُ لَا يَسْتُرُهَا عَنِ الشَّمْسِ شَيْءٌ لَا فِي حَالِ شُرُوقِهَا وَلَا فِي حَالِ غُرُوبِهَا، وَمَا كَانَتْ مِنَ الزَّيْتُونِ هَكَذَا فَثَمَرُهَا أَجْوَدُ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْنَى: إِنَّهَا شَجَرَةٌ فِي دَوْحَةٍ قَدْ أَحَاطَتْ بِهَا، فَهِيَ غَيْرُ مُنْكَشِفَةٍ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ، وَلَا مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ، حَكَى هَذَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا لَا يَصِحُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لِأَنَّ الثَّمَرَةَ الَّتِي بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَفْسُدُ جَنَاهَا، وَذَلِكَ مُشَاهَدٌ فِي الْوُجُودِ. وَرَجَّحَ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ: الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَتْ هَذِهِ الشَّجَرَةُ مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِنُورِهِ وَلَوْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا لَكَانَتْ إِمَّا شَرْقِيَّةً وَإِمَّا غَرْبِيَّةً. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: قَدْ أَفْصَحَ الْقُرْآنُ بِأَنَّهَا مِنْ شَجَرِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: زَيْتُونَةٌ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ شَجَرَةٌ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّهَا مِنْ شَجَرِ الشَّامِ، فَإِنَّ الشَّامَ لَا شَرْقِيٌّ وَلَا غَرْبِيٌّ، وَالشَّامُ: هِيَ الْأَرْضُ الْمُبَارَكَةُ. وَقَدْ قُرِئَ «تُوقَدُ» بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ إِلَى الزُّجَاجَةِ دُونَ الْمِصْبَاحِ، وَبِهَا قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ. وَقَرَأَ شَيْبَةُ وَنَافِعٌ وَأَيُّوبٌ وَسَلَامٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الشَّامِ وَحَفْصٌ يُوقَدُ بِالتَّحْتِيَّةِ مَضْمُومَةً وَتَخْفِيفِ الْقَافِ وَضَمِّ الدَّالِّ، وقرأ الحسن والسلمي وأبو عمرو بْنُ الْعَلَاءِ وَأَبُو جَعْفَرٍ «تَوَقَّدَ» بِالْفَوْقِيَّةِ مَفْتُوحَةً، وَفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الْقَافِ وَفَتْحِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ مِنْ تَوَقَّدَ يَتَوَقَّدُ، وَالضَّمِيرُ فِي هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى الْمِصْبَاحِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ مُتَقَارِبَتَانِ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا لِلْمِصْبَاحِ، وهو
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمِصْبَاحُ: نُورٌ، وَالزُّجَاجَةُ: نُورٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نُورُ الْإِيمَانِ وَنُورُ الْقُرْآنِ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبَادِهِ: أَيْ هِدَايَةً خَاصَّةً مُوَصِّلَةً إِلَى الْمَطْلُوبِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْهِدَايَةِ هُنَا مُجَرَّدُ الدَّلَالَةِ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ أَيْ يُبَيِّنُ الْأَشْيَاءَ بِأَشْبَاهِهَا وَنَظَائِرِهَا تَقْرِيبًا لَهَا إِلَى الْأَفْهَامِ وَتَسْهِيلًا لِإِدْرَاكِهَا، لِأَنَّ إِبْرَازَ الْمَعْقُولِ فِي هَيْئَةِ الْمَحْسُوسِ وَتَصْوِيرَهُ بِصُورَتِهِ يَزِيدُهُ وُضُوحًا وَبَيَانًا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَعْقُولًا كَانَ أَوْ مَحْسُوسًا، ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا. وَاخْتُلِفَ فِي قَوْلِهِ: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ بم هُوَ مُتَعَلِّقٌ؟ فَقِيلَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ، أَيْ: كَمِشْكَاةٍ فِي بَعْضِ بُيُوتِ اللَّهِ وَهِيَ الْمَسَاجِدُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: مَثَلُ نُورِهِ كَمَا تَرَى فِي الْمَسْجِدِ نُورُ الْمِشْكَاةِ الَّتِي مِنْ صِفَتِهَا كَيْتَ وَكَيْتَ، وَقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِمِصْبَاحٍ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ:
سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ يَقُولُ: هُوَ حَالٌ لِلْمِصْبَاحِ وَالزُّجَاجَةِ وَالْكَوْكَبِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَهِيَ فِي بُيُوتٍ، وقيل: متعلق بتوقد، أَيْ: تُوقَدُ فِي بُيُوتٍ، وَقَدْ قِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، وَهُوَ يُسَبِّحُ، أَيْ: يُسَبِّحُ لَهُ رِجَالٌ فِي بُيُوتٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: «فِيهَا» تَكْرِيرًا كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ فِي الدَّارِ جَالِسٌ فِيهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ مُنْفَصِلٌ عَمَّا قَبْلَهُ، كَأَنَّهُ قَالَ اللَّهُ: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ. قَالَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ: وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ أنه من جلس في المسجد فَإِنَّمَا يُجَالِسُ رَبَّهُ. وَقَدْ قِيلَ: عَلَى تَقْدِيرِ تعلقه بمشكاة أو بمصباح أو بتوقد مَا الْوَجْهُ فِي تَوْحِيدِ الْمِصْبَاحِ وَالْمِشْكَاةِ وَجَمْعِ البيوت؟ وَلَا تَكُونُ الْمِشْكَاةُ الْوَاحِدَةُ وَلَا الْمِصْبَاحُ الْوَاحِدُ إِلَّا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ هَذَا مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي يُفْتَحُ أَوَّلُهُ بِالتَّوْحِيدِ، وَيُخْتَمُ بالجمع كقوله سبحانه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ «١» وَنَحْوِهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَى فِي بُيُوتٍ: فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبُيُوتِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فِي كُلِّ بَيْتٍ، أَوْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبُيُوتِ.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْبُيُوتِ، عَلَى أَقْوَالٍ الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَغَيْرِهِمَا. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا بُيُوتُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ. الثَّالِثُ أَنَّهَا بُيُوتُ النبيّ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ: الرَّابِعُ:
هِيَ الْبُيُوتُ كلها، قال عِكْرِمَةُ. الْخَامِسُ: أَنَّهَا الْمَسَاجِدُ الْأَرْبَعَةُ الْكَعْبَةُ، وَمَسْجِدُ قباء، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، قال ابْنُ زَيْدٍ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِهِ: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ والباء من بيوت تُضَمُّ وَتُكْسَرُ كُلُّ ذَلِكَ ثَابِتٌ فِي اللُّغَةِ، وَمَعْنَى أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ: أَمَرَ وَقَضَى، وَمَعْنَى تُرْفَعُ تُبْنَى، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُمَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ «٢» وقال الحسن
(٢). البقرة: ١٢٧.
الْمُرَادُ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ «يُسَبَّحُ» بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحِّدَةِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ إِلَّا ابْنَ وَثَّابٍ وَأَبَا حيوة فإنهما قرءا بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ وَكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ، فَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى يَكُونُ الْقَائِمُ مَقَامَ الْفَاعِلِ أَحَدَ الْمَجْرُورَاتِ الثَّلَاثَةِ، ويكون رجال مرفوع عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وَكَأَنَّهُ جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: مَنْ يُسَبِّحُهُ؟ فَقِيلَ:
يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ. الثَّانِي: أَنَّ رِجَالٌ مُرْتَفَعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ رِجَالٌ فَاعِلُ يُسَبِّحُ، وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الثَّالِثَةِ يَكُونُ الْفَاعِلُ أَيْضًا رِجَالٌ، وَإِنَّمَا أُنِّثَ الْفِعْلُ لِكَوْنِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْمُؤَنَّثِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.
وَاخْتُلِفَ فِي هَذَا التَّسْبِيحِ مَا هُوَ؟ فَالْأَكْثَرُونَ حَمَلُوهُ عَلَى الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، قَالُوا: الْغُدُوُّ: صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَالْآصَالُ: صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءَيْنِ، لِأَنَّ اسْمَ الْآصَالِ يَشْمَلُهَا، وَمَعْنَى بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ: بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، وَقِيلَ: صَلَاةُ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ صَلَاةُ الضُّحَى، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ هُنَا: مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيُّ، وَهُوَ تَنْزِيهُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا ذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بَعْدَهُ، وَهَذَا أَرْجَحُ مِمَّا قَبْلَهُ، لكونه المعنى الحقيقي، مع وجود دليل يدل عَلَى خِلَافِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُونَ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ صِفَةٌ لِرِجَالٍ، أَيْ: لَا تَشْغَلُهُمُ التِّجَارَةُ وَالْبَيْعُ عَنِ الذِّكْرِ وَخَصَّ التِّجَارَةَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا أَعْظَمَ مَا يَشْتَغِلُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَنِ الذِّكْرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: التِّجَارَةُ لِأَهْلِ الْجَلَبِ، وَالْبَيْعُ مَا بَاعَهُ الرَّجُلُ عَلَى بَدَنِهِ، وَخَصَّ قَوْمٌ التِّجَارَةَ هَاهُنَا بِالشِّرَاءِ لِذِكْرِ الْبَيْعِ بَعْدَهَا. وَبِمِثْلِ قَوْلِ الْفَرَّاءِ، قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فقال التجار: هم الجلاب المسافرون والباعة الْمُقِيمُونَ، وَمَعْنَى عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ:
هُوَ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْأَذَانُ، وَقِيلَ: عَنْ ذِكْرِهِ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى. أَيْ:
يُوَحِّدُونَهُ وَيُمَجِّدُونَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ: عَنِ الصَّلَاةِ، وَيَرُدُّهُ ذِكْرُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الذِّكْرِ هُنَا. وَالْمُرَادُ بِإِقَامِ الصَّلَاةِ إِقَامَتُهَا لِمَوَاقِيتِهَا مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ وَحُذِفَتِ التَّاءُ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ تَقُومُ مَقَامَهَا فِي ثَلَاثِ كَلِمَاتٍ جَمَعَهَا الشَّاعِرُ فِي قَوْلِهِ:
ثَلَاثَةٌ تحذف تاءاتها | مضافة عند جمع النُّحَاةِ |
وَهْيَ إِذَا شِئْتَ أَبُو عُذْرِهَا | وَلَيْتَ شِعْرِي وَإِقَامُ الصَّلَاةِ |
إنّ الخليط أجدّوا البين فانجردوا | وَأَخْلَفُوكَ عِدَ الْأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا |
الْمُرَادُ بِالزَّكَاةِ طَاعَةُ اللَّهِ وَالْإِخْلَاصُ، إِذْ لَيْسَ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مَالٌ يَخافُونَ يَوْماً أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِلْفِعْلِ لَا ظَرْفٌ لَهُ، ثُمَّ وَصَفَ هَذَا الْيَوْمَ بِقَوْلِهِ: تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ أَيْ:
تَضْطَرِبُ وَتَتَحَوَّلُ، قِيلَ: الْمُرَادُ بِتَقَلُّبِ الْقُلُوبِ: انْتِزَاعُهَا مِنْ أَمَاكِنِهَا إِلَى الْحَنَاجِرِ فَلَا تَرْجِعُ إِلَى أَمَاكِنِهَا وَلَا تَخْرُجُ، وَالْمُرَادُ بِتَقَلُّبِ الْأَبْصَارِ: هُوَ أَنْ تَصِيرَ عَمْيَاءَ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُبْصِرَةً. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِتَقَلُّبِ الْقُلُوبِ أَنَّهَا تَكُونُ مُتَقَلِّبَةٌ بَيْنَ الطَّمَعِ فِي النَّجَاةِ وَالْخَوْفِ مِنَ الْهَلَاكِ، وَأَمَّا تقلب الأبصار فهو النظر مِنْ أَيِّ نَاحِيَةٍ يُؤْخَذُونَ، وَإِلَى أَيِّ نَاحِيَةٍ يَصِيرُونَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ تَحَوُّلُ قُلُوبِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّكِّ إِلَى الْيَقِينِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ «١» فَمَا كَانَ يَرَاهُ فِي الدُّنْيَا غَيًّا يَرَاهُ فِي الْآخِرَةِ رُشْدًا.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ التَّقَلُّبُ عَلَى جَمْرِ جَهَنَّمَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالذِّكْرِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا، أَيْ:
أَحْسَنَ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ حَسْبَمَا وَعَدَهُمْ مِنْ تَضْعِيفِ ذَلِكَ إِلَى عَشَرَةِ أَمْثَالِهِ وَإِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ ما يتفضل سبحانه به عليه زِيَادَةً عَلَى مَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِقَوْلِهِ: وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّفَضُّلُ عَلَيْهِمْ بِمَا فَوْقَ الْجَزَاءِ الْمَوْعُودِ بِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أَيْ:
مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَاسِبَهُ عَلَى مَا أَعْطَاهُ، أَوْ أَنَّ عَطَاءَهُ سُبْحَانَهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَالْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا سَبَقَهَا مِنَ الْوَعْدِ بِالزِّيَادَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَالَ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فِيهِمَا، نُجُومَهُمَا، وَشَمْسَهُمَا، وَقَمَرَهُمَا. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيٌّ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ الَّذِي أَعْطَاهُ الْمُؤْمِنُ كَمِشْكاةٍ وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ إِنَّهَا الَّتِي فِي سَفْحِ جَبَلٍ، لَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ إِذَا طَلَعَتْ، وَلَا إِذَا غَرَبَتْ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ فَذَلِكَ مَثَلُ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ نُورٌ عَلَى نُورٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: فِي قِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ كَمِشْكَاةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ قَالَ:
يَقُولُ مَثَلُ نُورِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ كَمِشْكَاةٍ، وَهِيَ: الْكُوَّةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ مَثَلُ نُورِهِ قَالَ: هِيَ خَطَأٌ مِنَ الْكَاتِبِ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نُورُهُ مِثْلَ نُورٍ الْمِشْكَاةَ، قَالَ: مَثَلُ نُورِ الْمُؤْمِنِ كَمِشْكَاةٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْهُ أَيْضًا اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال: هادي أهل السموات وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ مَثَلُ هُدَاهُ فِي قَلْبِ الْمُؤْمِنِ كَمِشْكاةٍ يَقُولُ مَوْضِعُ الْفَتِيلَةِ، كَمَا يَكَادُ الزَّيْتُ الصَّافِي يُضِيءُ قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُ النَّارُ، فَإِذَا مَسَّتْهُ النَّارُ ازْدَادَ ضَوْءًا عَلَى ضَوْئِهِ، كَذَلِكَ يَكُونُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ، يَعْمَلُ بِالْهُدَى قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ الْعِلْمُ، فَإِذَا جَاءَهُ الْعِلْمُ ازْدَادَ هُدًى عَلَى هُدًى، وَنُورًا عَلَى نُورٍ، وَفِي إِسْنَادِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، وَفِيهِ مَقَالٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم والحاكم
أَصْلُ الْمُبَارَكِ الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتُهُ لَا شَرِيكَ لَهُ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ قَالَ: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ الْتَفَّتْ بِهَا الشَّجَرُ، فَهِيَ خَضْرَاءُ نَاعِمَةٌ لَا تُصِيبُهَا الشَّمْسُ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَتْ، لَا إِذَا طَلَعَتْ، وَلَا إِذَا غَرَبَتْ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْمُؤْمِنُ قَدْ أُجِيرَ مِنْ أَنْ يُضِلَّهُ شَيْءٌ مِنَ الْفِتَنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مردويه عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِمُحَمَّدٍ: كَيْفَ يَخْلُصُ نُورُ اللَّهِ مِنْ دُونِ السَّمَاءِ؟ فَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلَ ذَلِكَ لِنُورِهِ فَقَالَ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ الْمِشْكَاةُ: كُوَّةُ الْبَيْتِ فِيها مِصْباحٌ وَهُوَ السِّرَاجُ يَكُونُ فِي الزُّجَاجَةِ، وَهُوَ مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِطَاعَتِهِ، فَسَمَّى طَاعَتَهُ نُورًا، ثُمَّ سَمَّاهَا أَنْوَاعًا شَتَّى لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ قَالَ: وَهِيَ وَسَطُ الشَّجَرِ، لَا تَنَالُهَا الشَّمْسُ إِذَا طَلَعَتْ، وَلَا إِذَا غَرَبَتْ، وَذَلِكَ أَجْوَدُ الزَّيْتِ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ بِغَيْرِ نَارٍ نُورٌ عَلى نُورٍ يَعْنِي بِذَلِكَ: إيمان العبد وعمله يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ مَثَلُ الْمُؤْمِنِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِ: كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ قَالَ: الْمِشْكَاةُ: جَوْفُ مُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَالزُّجَاجَةُ: قَلْبُهُ، وَالْمِصْبَاحُ: النُّورُ الَّذِي فِي قَلْبِهِ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ الشَّجَرَةُ: إِبْرَاهِيمُ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ لَا يَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، ثُمَّ قَرَأَ مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «١». وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عن شَمَرِ بْنِ عَطِيَّةَ قَالَ: جَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى كَعْبٍ الْأَحْبَارِ، فَقَالَ: حَدِّثْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ قَالَ: مَثَلُ نُورِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمِشْكَاةٍ قَالَ: الْمِشْكَاةُ: الْكُوَّةُ ضَرَبَهَا اللَّهُ مثلا لفمه فِيهَا مِصْبَاحٌ، وَالْمِصْبَاحُ قَلْبُهُ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ وَالزُّجَاجَةُ: صَدْرُهُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ شَبَّهَ صَدْرَ محمد صلّى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ، ثُمَّ رَجَعَ الْمِصْبَاحُ إِلَى قلبه فقال: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ قَالَ: يَكَادُ مُحَمَّدٌ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ، وَلَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ، كَمَا يَكَادُ الزَّيْتُ أَنْ يُضِيءَ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ.
وَأَقُولُ: إِنَّ تَفْسِيرَ النَّظْمِ الْقُرْآنِيِّ بِهَذَا وَنَحْوِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَيْسَ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ لُغَةُ الْعَرَبِ، وَلَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنِ الْمَعْنَى الْعَرَبِيِّ إِلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ شَبِيهَةٌ بِالْأَلْغَازِ وَالتَّعْمِيَةِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةَ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمُ اسْتَبْعَدُوا تَمْثِيلَ نُورِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِنُورِ الْمِصْبَاحِ فِي الْمِشْكَاةِ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نُورُهُ مثل نور المشكاة
هُمُ الَّذِينَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ قَالَ: هُمُ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ، قَالَ: كَانُوا رِجَالًا يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يَشْتَرُونَ وَيَبِيعُونَ، فَإِذَا سَمِعُوا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ أَلْقَوْا مَا فِي أَيْدِيهِمْ وَقَامُوا إِلَى الْمَسْجِدِ فَصَلَّوْا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْهُ فِي الْآيَةِ، قَالَ: ضَرَبَ اللَّهُ هَذَا الْمَثَلَ قَوْلَهُ: «كَمِشْكَاةٍ» لِأُولَئِكَ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَكَانُوا أَتْجَرَ النَّاسِ وَأَبْيَعَهُمْ، وَلَكِنْ لَمْ تَكُنْ تُلْهِيهِمْ تِجَارَتُهُمْ وَلَا بَيْعُهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَيْضًا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ قَالَ: عَنْ شُهُودِ الصَّلَاةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. أَنَّهُ كَانَ فِي السُّوقِ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَأَغْلَقُوا حَوَانِيتَهُمْ، ثُمَّ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِيهِمْ نَزَلَتْ: رِجالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ رَأَى نَاسًا مِنْ أَهْلِ السُّوقِ سَمِعُوا الْأَذَانَ فتركوا أمتعتهم، فقال: هؤلاء الذين قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ لَا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَأَخْرَجَ هَنَّادُ بْنُ السَّرِيِّ فِي الزُّهْدِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ وَمُحَمَّدُ بْنُ نَصْرٍ فِي الصَّلَاةِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَجْمَعُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ النَّاسَ فِي صعيد واحد يسمعهم الدّاعي وينفذهم الْبَصَرَ، فَيَقُومُ مُنَادٍ فَيُنَادِي: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُوا يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ؟
﴿ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ ﴾ قرأ ابن عامر وأبو بكر ﴿ يسبح ﴾ بفتح الباء الموحدة مبنياً للمفعول، وقرأ الباقون بكسرها مبنياً للفاعل إلاّ ابن وثاب، وأبا حيوة، فإنهما قرأ بالتاء الفوقية، وكسر الموحدة، فعلى القراءة الأولى يكون القائم مقام الفاعل أحد المجرورات الثلاثة، ويكون رجال مرفوع على أحد وجهين : إما بفعل مقدّر، وكأنه جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل من يسبحه ؟ فقيل يسبحه رجال. الثاني : أن رجال مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وعلى القراءة الثانية يكون ﴿ رجال ﴾ فاعل ﴿ يسبح ﴾، وعلى القراءة الثالثة يكون الفاعل أيضاً رجال، وإنما أنث الفعل لكون جمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في بعض الأحوال.
واختلف في هذا التسبيح ما هو ؟ فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة، قالوا : الغدوّ صلاة الصبح، والآصال : صلاة الظهر والعصر والعشاءين، لأن اسم الآصال يشملها، ومعنى بالغدوّ والآصال : بالغداة والعشي وقيل : صلاة الصبح والعصر، وقيل المراد صلاة الضحى، وقيل : المراد بالتسبيح هنا معناه الحقيقي، وهو تنزيه الله سبحانه عما لا يليق به في ذاته وصفاته وأفعاله، ويؤيد هذا ذكر الصلاة والزكاة بعده، وهذا أرجح مما قبله، لكونه المعنى الحقيقي مع وجود دليل يدل على خلاف ما ذهب إليه الأوّلون، وهو ما ذكرناه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبيّ بن كعب ﴿ الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ ﴾ قال : هو المؤمن الذي قد جعل الإيمان والقرآن في صدره، فضرب الله مثله، فقال ﴿ نُورٍ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ ﴾ فبدأ بنور نفسه، ثم ذكر نور المؤمن، فقال مثل نور من آمن به، فكان أبيّ بن كعب يقرؤها «مثل نور من آمن به» فهو المؤمن، جعل الإيمان والقرآن في صدره ﴿ كَمِشْكَاةٍ ﴾ قال : فصدر المؤمن المشكاة ﴿ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح ﴾ : النور، وهو القرآن والإيمان الذي جعل في صدره ﴿ فِى زُجَاجَةٍ ﴾ و ﴿ الزجاجة ﴾ قلبه ﴿ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ ﴾ يقول كوكب مضيء ﴿ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة ﴾، والشجرة المباركة : أصل المبارك الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له ﴿ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ قال : فمثله كمثل شجرة التفت بها الشجر، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أيّ حال كانت، لا إذا طلعت ولا إذا غربت، فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يضله شيء من الفتن.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن اليهود قالوا لمحمد : كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره، فقال ﴿ الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ﴾ المشكاة كوّة البيت فيها مصباح، وهو : السراج يكون في الزجاجة، وهو : مثل ضربه الله لطاعته، فسمى طاعته نوراً، ثم سماها أنواعاً شتى ﴿ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ قال : وهي وسط الشجر لا تنالها الشمس إذا طلعت، ولا إذا غربت، وذلك أجود الزيت ﴿ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء ﴾ بغير نار ﴿ نُّورٌ على نُورٍ ﴾ يعني بذلك : إيمان العبد وعلمه ﴿ يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء ﴾ وهو مثل المؤمن.
وأخرج الطبراني وابن عدي وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر في قوله :﴿ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾ قال : المشكاة في جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي في قلبه. ﴿ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة ﴾ الشجرة إبراهيم ﴿ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ لا يهودية ولا نصرانية، ثم قرأ ﴿ مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾ [ آل عمران : ٦٧ ]. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن شمر بن عطية قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال : حدّثني عن قول الله ﴿ الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ ﴾ قال : مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم كمشكاة قال : المشكاة : الكوّة ضربها الله مثلاً لقمة فيها مصباح، والمصباح قلبه ﴿ المصباح فِي زُجَاجَةٍ ﴾، والزجاجة صدره ﴿ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ ﴾ شبه صدر محمد صلى الله عليه وسلم بالكوكب الدرّيّ، ثم رجع المصباح إلى قلبه، فقال :﴿ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة... يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء ﴾ قال : يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يبين للناس، ولو لم يتكلم أنه نبيّ، كما يكاد الزيت أن يضيء، ولو لم تمسسه نار.
وأقول : إن تفسير النظم القرآني بهذا ونحوه مما تقدّم عن أبيّ بن كعب وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ليس على ما تقتضيه لغة العرب، ولا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجوّز العدول عن المعنى العربي إلى هذه المعاني التي هي شبيهة بالألغاز والتعمية، ولكن هؤلاء الصحابة، ومن وافقهم ممن جاء بعدهم استبعدوا تمثيل نور الله سبحانه بنور المصباح في المشكاة، ولهذا قال ابن عباس : هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة كما قدّمنا عنه، ولا وجه لهذا الاستبعاد. فإنا قد قدّمنا في أوّل البحث ما يرفع الإشكال ويوضح ما هو المراد على أحسن وجه، وأبلغ أسلوب، وعلى ما تقتضيه لغة العرب، ويفيده كلام الفصحاء، فلا وجه للعدول عن الظاهر، لا من كتاب، ولا من سنة، ولا من لغة.
وأما ما حكي عن كعب الأحبار في هذا كما قدّمنا، فإن كان هو سبب عدول أولئك الصحابة الأجلاء عن الظاهر في تفسير الآية، فليس مثل كعب رحمه الله ممن يقتدى به في مثل هذا. وقد نبهناك فيما سبق أن تفسير الصحابي إذا كان مستنده الرواية عن أهل الكتاب كما يقع ذلك كثيراً، فلا تقوم به الحجة، ولا يسوغ لأجله العدول عن التفسير العربي، نعم إن صحت قراءة أبيّ بن كعب، كانت هي المستند لهذه التفاسير المخالفة للظاهر، وتكون كالزيادة المبينة للمراد، وإن لم تصح، فالوقوف على ما تقتضيه قراءة الجمهور من السبعة، وغيرهم ممن قبلهم، وممن بعدهم هو المتعين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس :﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ ﴾ قال : هي المساجد تكرم، وينهى عن اللغو فيها، ويذكر فيها اسم الله، يتلى فيها كتابه ﴿ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال ﴾ صلاة الغداة وصلاة العصر، وهما أوّل ما فرض الله من الصلاة فأحبّ أن يذكرهما، ويذكر بهما عباده. وقد ورد في تعظيم المساجد، وتنزيهها عن القذر، وتنظيفها، وتطييبها أحاديث ليس هذا موضع ذكرها. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : إن صلاة الضحى لفي القرآن، وما يغوص عليها إلى غوّاص في قوله :﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال ﴾. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾ قال :«هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله». وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾ قال :«هم الذين يبتغون من فضل الله». وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية، قال : كانوا رجالاً يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون، فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما في أيديهم، وقاموا إلى المسجد، فصلوا. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في الشعب عنه في الآية، قال : ضرب الله هذا المثل قوله :﴿ كَمِشْكَاةٍ ﴾ لأولئك القوم الذين لا تلهيهم تجارة، ولا بيع عن ذكر الله، وكانوا أتجر الناس، وأبيعهم، ولكن لم تكن تلهيهم تجارتهم، ولا بيعهم عن ذكر الله. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه أيضاً عَن ذِكْرِ الله قال : عن شهود الصلاة.
وأخرج عبد الرزّاق، وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر : أنه كان في السوق، فأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم، ثم دخلوا المسجد، فقال ابن عمر فيهم : نزلت ﴿ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود : أنه رأى ناساً من أهل السوق سمعوا الأذان، فتركوا أمتعتهم، فقال : هؤلاء الذين قال الله فيهم :﴿ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾. وأخرج هناد بن السري في الزهد، وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب، ومحمد ابن نصر في الصلاة، عن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يجمع الله يوم القيامة الناس في صعيدٍ واحدٍ يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، فيقوم منادٍ، فينادي : أين الذين كانوا يحمدون الله في السرّاء والضرّاء ؟ فيقومون، وهم قليل، فيدخلون الجنة بغير حساب ؛ ثم يعود فينادي : أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع ؟ فيقومون، وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ؛ ثم يعود فينادي : ليقم الذين كانوا لا تلهيهم تجارة، ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون، وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب، ثم يقوم سائر الناس، فيحاسبون» وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب، عن عقبة بن عامر مرفوعاً نحوه.
ثلاثة تحذف تاآتها *** مضافة عند جمع النحاة
وهي إذا شئت أبو عذرها *** وليت شعري وإقام الصلاة
وأنشد الفراء في الاستشهاد للحذف المذكور في هذه الآية قول الشاعر :
إن الخليط أجدوا البين وانجردوا. . . وأخلفوك عد الأمر الذي وعدوا
أي عدة الأمر، وفي هذا البيت دليل على أن الحذف مع الإضافة لا يختص بتلك الثلاثة المواضع. قال الزجاج : وإنما حذفت الهاء لأنه يقال : أقمت الصلاة إقامة، وكان الأصل إقواماً، ولكن قلبت الواو ألفاً، فاجتمعت ألفان فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين، فبقي أقمت الصلاة إقاماً، فأدخلت الهاء عوضاً من المحذوف، وقامت الإضافة هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة، وهذا إجماع من النحويين. انتهى.
وقد احتاج من حمل ذكر الله على الصلاة المفروضة : أن يحمل إقامة الصلاة على تأديتها في أوقاتها فراراً من التكرار، ولا ملجىء إلى ذلك، بل يحمل الذكر على معناه الحقيقي كما قدّمنا. والمراد بالزكاة المذكورة هي المفروضة، وقيل : المراد بالزكاة طاعة الله، والإخلاص، إذ ليس لكلّ مؤمن مال.
﴿ يخافون يَوْماً ﴾ أي : يوم القيامة، وانتصابه على أنه مفعول للفعل لا ظرف له، ثم وصف هذا اليوم بقوله ﴿ تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار ﴾ أي تضطرب وتتحوّل، قيل المراد بتقلب القلوب انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فلا ترجع إلى أماكنها ولا تخرج، والمراد بتقلب الأبصار هو : أن تصير عمياء بعد أن كانت مبصرة. وقيل : المراد بتقلب القلوب أنها تكون متقلبة بين الطمع في النجاة، والخوف من الهلاك، وأما تقلب الأبصار فهو : نظرها من أيّ ناحية يؤخذون، وإلى أيّ ناحية يصيرون. وقيل : المراد تحوّل قلوبهم وأبصارهم عما كانت عليه من الشك إلى اليقين، ومثله قوله :﴿ فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ ﴾ [ ق : ٢٢ ]. فما كان يراه في الدنيا غياً يراه في الآخرة رشداً. وقيل : المراد : التقلب على جمر جهنم، وقيل غير ذلك.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبيّ بن كعب ﴿ الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ ﴾ قال : هو المؤمن الذي قد جعل الإيمان والقرآن في صدره، فضرب الله مثله، فقال ﴿ نُورٍ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ ﴾ فبدأ بنور نفسه، ثم ذكر نور المؤمن، فقال مثل نور من آمن به، فكان أبيّ بن كعب يقرؤها «مثل نور من آمن به» فهو المؤمن، جعل الإيمان والقرآن في صدره ﴿ كَمِشْكَاةٍ ﴾ قال : فصدر المؤمن المشكاة ﴿ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح ﴾ : النور، وهو القرآن والإيمان الذي جعل في صدره ﴿ فِى زُجَاجَةٍ ﴾ و ﴿ الزجاجة ﴾ قلبه ﴿ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ ﴾ يقول كوكب مضيء ﴿ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة ﴾، والشجرة المباركة : أصل المبارك الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له ﴿ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ قال : فمثله كمثل شجرة التفت بها الشجر، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أيّ حال كانت، لا إذا طلعت ولا إذا غربت، فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يضله شيء من الفتن.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن اليهود قالوا لمحمد : كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره، فقال ﴿ الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ﴾ المشكاة كوّة البيت فيها مصباح، وهو : السراج يكون في الزجاجة، وهو : مثل ضربه الله لطاعته، فسمى طاعته نوراً، ثم سماها أنواعاً شتى ﴿ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ قال : وهي وسط الشجر لا تنالها الشمس إذا طلعت، ولا إذا غربت، وذلك أجود الزيت ﴿ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء ﴾ بغير نار ﴿ نُّورٌ على نُورٍ ﴾ يعني بذلك : إيمان العبد وعلمه ﴿ يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء ﴾ وهو مثل المؤمن.
وأخرج الطبراني وابن عدي وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر في قوله :﴿ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾ قال : المشكاة في جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي في قلبه. ﴿ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة ﴾ الشجرة إبراهيم ﴿ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ لا يهودية ولا نصرانية، ثم قرأ ﴿ مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾ [ آل عمران : ٦٧ ]. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن شمر بن عطية قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال : حدّثني عن قول الله ﴿ الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ ﴾ قال : مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم كمشكاة قال : المشكاة : الكوّة ضربها الله مثلاً لقمة فيها مصباح، والمصباح قلبه ﴿ المصباح فِي زُجَاجَةٍ ﴾، والزجاجة صدره ﴿ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ ﴾ شبه صدر محمد صلى الله عليه وسلم بالكوكب الدرّيّ، ثم رجع المصباح إلى قلبه، فقال :﴿ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة... يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء ﴾ قال : يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يبين للناس، ولو لم يتكلم أنه نبيّ، كما يكاد الزيت أن يضيء، ولو لم تمسسه نار.
وأقول : إن تفسير النظم القرآني بهذا ونحوه مما تقدّم عن أبيّ بن كعب وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ليس على ما تقتضيه لغة العرب، ولا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجوّز العدول عن المعنى العربي إلى هذه المعاني التي هي شبيهة بالألغاز والتعمية، ولكن هؤلاء الصحابة، ومن وافقهم ممن جاء بعدهم استبعدوا تمثيل نور الله سبحانه بنور المصباح في المشكاة، ولهذا قال ابن عباس : هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة كما قدّمنا عنه، ولا وجه لهذا الاستبعاد. فإنا قد قدّمنا في أوّل البحث ما يرفع الإشكال ويوضح ما هو المراد على أحسن وجه، وأبلغ أسلوب، وعلى ما تقتضيه لغة العرب، ويفيده كلام الفصحاء، فلا وجه للعدول عن الظاهر، لا من كتاب، ولا من سنة، ولا من لغة.
وأما ما حكي عن كعب الأحبار في هذا كما قدّمنا، فإن كان هو سبب عدول أولئك الصحابة الأجلاء عن الظاهر في تفسير الآية، فليس مثل كعب رحمه الله ممن يقتدى به في مثل هذا. وقد نبهناك فيما سبق أن تفسير الصحابي إذا كان مستنده الرواية عن أهل الكتاب كما يقع ذلك كثيراً، فلا تقوم به الحجة، ولا يسوغ لأجله العدول عن التفسير العربي، نعم إن صحت قراءة أبيّ بن كعب، كانت هي المستند لهذه التفاسير المخالفة للظاهر، وتكون كالزيادة المبينة للمراد، وإن لم تصح، فالوقوف على ما تقتضيه قراءة الجمهور من السبعة، وغيرهم ممن قبلهم، وممن بعدهم هو المتعين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس :﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ ﴾ قال : هي المساجد تكرم، وينهى عن اللغو فيها، ويذكر فيها اسم الله، يتلى فيها كتابه ﴿ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال ﴾ صلاة الغداة وصلاة العصر، وهما أوّل ما فرض الله من الصلاة فأحبّ أن يذكرهما، ويذكر بهما عباده. وقد ورد في تعظيم المساجد، وتنزيهها عن القذر، وتنظيفها، وتطييبها أحاديث ليس هذا موضع ذكرها. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : إن صلاة الضحى لفي القرآن، وما يغوص عليها إلى غوّاص في قوله :﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال ﴾. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾ قال :«هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله». وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾ قال :«هم الذين يبتغون من فضل الله». وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية، قال : كانوا رجالاً يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون، فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما في أيديهم، وقاموا إلى المسجد، فصلوا. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في الشعب عنه في الآية، قال : ضرب الله هذا المثل قوله :﴿ كَمِشْكَاةٍ ﴾ لأولئك القوم الذين لا تلهيهم تجارة، ولا بيع عن ذكر الله، وكانوا أتجر الناس، وأبيعهم، ولكن لم تكن تلهيهم تجارتهم، ولا بيعهم عن ذكر الله. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه أيضاً عَن ذِكْرِ الله قال : عن شهود الصلاة.
وأخرج عبد الرزّاق، وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر : أنه كان في السوق، فأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم، ثم دخلوا المسجد، فقال ابن عمر فيهم : نزلت ﴿ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود : أنه رأى ناساً من أهل السوق سمعوا الأذان، فتركوا أمتعتهم، فقال : هؤلاء الذين قال الله فيهم :﴿ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾. وأخرج هناد بن السري في الزهد، وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب، ومحمد ابن نصر في الصلاة، عن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يجمع الله يوم القيامة الناس في صعيدٍ واحدٍ يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، فيقوم منادٍ، فينادي : أين الذين كانوا يحمدون الله في السرّاء والضرّاء ؟ فيقومون، وهم قليل، فيدخلون الجنة بغير حساب ؛ ثم يعود فينادي : أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع ؟ فيقومون، وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ؛ ثم يعود فينادي : ليقم الذين كانوا لا تلهيهم تجارة، ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون، وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب، ثم يقوم سائر الناس، فيحاسبون» وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب، عن عقبة بن عامر مرفوعاً نحوه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبيّ بن كعب ﴿ الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ ﴾ قال : هو المؤمن الذي قد جعل الإيمان والقرآن في صدره، فضرب الله مثله، فقال ﴿ نُورٍ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ ﴾ فبدأ بنور نفسه، ثم ذكر نور المؤمن، فقال مثل نور من آمن به، فكان أبيّ بن كعب يقرؤها «مثل نور من آمن به» فهو المؤمن، جعل الإيمان والقرآن في صدره ﴿ كَمِشْكَاةٍ ﴾ قال : فصدر المؤمن المشكاة ﴿ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح ﴾ : النور، وهو القرآن والإيمان الذي جعل في صدره ﴿ فِى زُجَاجَةٍ ﴾ و ﴿ الزجاجة ﴾ قلبه ﴿ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ ﴾ يقول كوكب مضيء ﴿ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة ﴾، والشجرة المباركة : أصل المبارك الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له ﴿ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ قال : فمثله كمثل شجرة التفت بها الشجر، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أيّ حال كانت، لا إذا طلعت ولا إذا غربت، فكذلك هذا المؤمن قد أجير من أن يضله شيء من الفتن.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أن اليهود قالوا لمحمد : كيف يخلص نور الله من دون السماء ؟ فضرب الله مثل ذلك لنوره، فقال ﴿ الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ ﴾ المشكاة كوّة البيت فيها مصباح، وهو : السراج يكون في الزجاجة، وهو : مثل ضربه الله لطاعته، فسمى طاعته نوراً، ثم سماها أنواعاً شتى ﴿ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ قال : وهي وسط الشجر لا تنالها الشمس إذا طلعت، ولا إذا غربت، وذلك أجود الزيت ﴿ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء ﴾ بغير نار ﴿ نُّورٌ على نُورٍ ﴾ يعني بذلك : إيمان العبد وعلمه ﴿ يَهْدِى الله لِنُورِهِ مَن يَشَاء ﴾ وهو مثل المؤمن.
وأخرج الطبراني وابن عدي وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عمر في قوله :﴿ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ﴾ قال : المشكاة في جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي في قلبه. ﴿ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة ﴾ الشجرة إبراهيم ﴿ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ﴾ لا يهودية ولا نصرانية، ثم قرأ ﴿ مَا كَانَ إبراهيم يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المشركين ﴾ [ آل عمران : ٦٧ ]. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن شمر بن عطية قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال : حدّثني عن قول الله ﴿ الله نُورُ السموات والأرض مَثَلُ نُورِهِ ﴾ قال : مثل نور محمد صلى الله عليه وسلم كمشكاة قال : المشكاة : الكوّة ضربها الله مثلاً لقمة فيها مصباح، والمصباح قلبه ﴿ المصباح فِي زُجَاجَةٍ ﴾، والزجاجة صدره ﴿ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرّيٌّ ﴾ شبه صدر محمد صلى الله عليه وسلم بالكوكب الدرّيّ، ثم رجع المصباح إلى قلبه، فقال :﴿ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مباركة... يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىء ﴾ قال : يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يبين للناس، ولو لم يتكلم أنه نبيّ، كما يكاد الزيت أن يضيء، ولو لم تمسسه نار.
وأقول : إن تفسير النظم القرآني بهذا ونحوه مما تقدّم عن أبيّ بن كعب وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم ليس على ما تقتضيه لغة العرب، ولا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجوّز العدول عن المعنى العربي إلى هذه المعاني التي هي شبيهة بالألغاز والتعمية، ولكن هؤلاء الصحابة، ومن وافقهم ممن جاء بعدهم استبعدوا تمثيل نور الله سبحانه بنور المصباح في المشكاة، ولهذا قال ابن عباس : هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة كما قدّمنا عنه، ولا وجه لهذا الاستبعاد. فإنا قد قدّمنا في أوّل البحث ما يرفع الإشكال ويوضح ما هو المراد على أحسن وجه، وأبلغ أسلوب، وعلى ما تقتضيه لغة العرب، ويفيده كلام الفصحاء، فلا وجه للعدول عن الظاهر، لا من كتاب، ولا من سنة، ولا من لغة.
وأما ما حكي عن كعب الأحبار في هذا كما قدّمنا، فإن كان هو سبب عدول أولئك الصحابة الأجلاء عن الظاهر في تفسير الآية، فليس مثل كعب رحمه الله ممن يقتدى به في مثل هذا. وقد نبهناك فيما سبق أن تفسير الصحابي إذا كان مستنده الرواية عن أهل الكتاب كما يقع ذلك كثيراً، فلا تقوم به الحجة، ولا يسوغ لأجله العدول عن التفسير العربي، نعم إن صحت قراءة أبيّ بن كعب، كانت هي المستند لهذه التفاسير المخالفة للظاهر، وتكون كالزيادة المبينة للمراد، وإن لم تصح، فالوقوف على ما تقتضيه قراءة الجمهور من السبعة، وغيرهم ممن قبلهم، وممن بعدهم هو المتعين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس :﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ ﴾ قال : هي المساجد تكرم، وينهى عن اللغو فيها، ويذكر فيها اسم الله، يتلى فيها كتابه ﴿ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال ﴾ صلاة الغداة وصلاة العصر، وهما أوّل ما فرض الله من الصلاة فأحبّ أن يذكرهما، ويذكر بهما عباده. وقد ورد في تعظيم المساجد، وتنزيهها عن القذر، وتنظيفها، وتطييبها أحاديث ليس هذا موضع ذكرها. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال : إن صلاة الضحى لفي القرآن، وما يغوص عليها إلى غوّاص في قوله :﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال ﴾. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾ قال :«هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله». وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾ قال :«هم الذين يبتغون من فضل الله». وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الآية، قال : كانوا رجالاً يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون، فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما في أيديهم، وقاموا إلى المسجد، فصلوا. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي في الشعب عنه في الآية، قال : ضرب الله هذا المثل قوله :﴿ كَمِشْكَاةٍ ﴾ لأولئك القوم الذين لا تلهيهم تجارة، ولا بيع عن ذكر الله، وكانوا أتجر الناس، وأبيعهم، ولكن لم تكن تلهيهم تجارتهم، ولا بيعهم عن ذكر الله. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عنه أيضاً عَن ذِكْرِ الله قال : عن شهود الصلاة.
وأخرج عبد الرزّاق، وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عمر : أنه كان في السوق، فأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم، ثم دخلوا المسجد، فقال ابن عمر فيهم : نزلت ﴿ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود : أنه رأى ناساً من أهل السوق سمعوا الأذان، فتركوا أمتعتهم، فقال : هؤلاء الذين قال الله فيهم :﴿ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله ﴾. وأخرج هناد بن السري في الزهد، وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب، ومحمد ابن نصر في الصلاة، عن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يجمع الله يوم القيامة الناس في صعيدٍ واحدٍ يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، فيقوم منادٍ، فينادي : أين الذين كانوا يحمدون الله في السرّاء والضرّاء ؟ فيقومون، وهم قليل، فيدخلون الجنة بغير حساب ؛ ثم يعود فينادي : أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع ؟ فيقومون، وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ؛ ثم يعود فينادي : ليقم الذين كانوا لا تلهيهم تجارة، ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون، وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب، ثم يقوم سائر الناس، فيحاسبون» وأخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب، عن عقبة بن عامر مرفوعاً نحوه.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٩ الى ٤٦]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣)
يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦)
لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ، ذَكَرَ مَثَلًا لِلْكَافِرِينَ فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ الْمُرَادُ بِالْأَعْمَالِ هُنَا: هِيَ الْأَعْمَالُ الَّتِي مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ كَالصَّدَقَةِ وَالصِّلَةِ وَفَكِّ الْعَانِي وَعِمَارَةِ الْبَيْتِ وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ، وَالسَّرَابُ: مَا يُرَى فِي الْمَفَاوِزِ مِنْ لَمَعَانِ الشَّمْسِ عِنْدَ اشْتِدَادِ حَرِّ النَّهَارِ عَلَى صُورَةِ الْمَاءِ فِي ظَنِّ مَنْ يَرَاهُ، وَسُمِّيَ سَرَابًا لِأَنَّهُ يَسْرُبُ، أي: يجري كالماء يقال: سرب الفحل، أي:
مضى وسار في الأرض، ويسمى: الآل أيضا. وقيل: الآل هو الذي يكون ضحى كَالْمَاءِ، إِلَّا أَنَّهُ يَرْتَفِعُ عَنِ الْأَرْضِ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
أَلَمْ أَنْضِ الْمَطِيَّ بِكُلِّ خَرْقٍ | طَوِيلِ «١» الطُّولِ لَمَّاعِ السَّرَابِ |
فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُهُمْ | كَلَمْعِ سَرَابٍ بِالْفَلَا مُتَأَلِّقِ |
فَوَلَّى مُدْبِرًا يَهْوَى حَثِيثًا | وَأَيْقَنَ أَنَّهُ لَاقَى الْحِسَابَا |
وَمِنْ غَرَائِبِ التَّفَاسِيرِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَرَادَ بِالظُّلُمَاتِ: أَعْمَالَ الْكَافِرِ، وَبِالْبَحْرِ اللُّجِّيِّ: قَلَبَهُ، وَبِالْمَوْجِ فَوْقَ الْمَوْجِ: مَا يَغْشَى قَلْبَهُ مِنَ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ وَالْحَيْرَةِ. وَالسَّحَابُ: الرَّيْنُ وَالْخَتْمُ وَالطَّبْعُ عَلَى قَلْبِهِ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ هُوَ عَنْ لُغَةِ الْعَرَبِ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ. ثُمَّ بَالَغَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الظُّلُمَاتِ الْمَذْكُورَةِ بِقَوْلِهِ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَفَاعِلُ أَخْرَجَ: ضَمِيرٌ يُعُودُ عَلَى مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ: إِذَا أَخْرَجَ الْحَاضِرُ فِي هَذِهِ الظُّلُمَاتِ أَوْ مَنِ ابْتُلِيَ بِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: الْمَعْنَى، لَمْ يَرَهَا وَلَمْ يَكَدْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: إِنْ كَادَ زَائِدَةٌ. وَالْمَعْنَى:
إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَرَهَا، كَمَا تَقُولُ: مَا كِدْتُ أَعْرِفُهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: يَعْنِي لَمْ يَرَهَا إِلَّا مِنْ بَعْدِ الْجَهْدِ. قَالَ النَّحَّاسُ:
أَصَحُّ الْأَقْوَالِ فِي هَذَا أَنَّ الْمَعْنَى لَمْ يُقَارِبْ رُؤْيَتَهَا، فَإِذَنْ لَمْ يَرَهَا رُؤْيَةً بَعِيدَةً وَلَا قَرِيبَةً، وَجُمْلَةُ وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ كَوْنِ أَعْمَالِ الْكَفَرَةِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَالْمَعْنَى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ هِدَايَةً فَمَا لَهُ مِنْ هِدَايَةٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَالْمَعْنَى: مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ لَمْ يَهْتَدِ، وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ يَهْتَدِي بِهِ إِلَى الْجَنَّةِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ سُبْحَانَ «١»، وَالْخِطَابُ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ النَّظَرِ، أَوْ للرسول صلّى الله عليه وَسَلَّمَ، وَقَدْ عَلِمَهُ مِنْ جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ وَمَعْنَى أَلَمْ تَرَ أَلَمْ تَعْلَمْ، وَالْهَمْزَةُ لِلتَّقْرِيرِ، أَيْ:
قَدْ عَلِمْتَ عِلْمًا يَقِينِيًّا شَبِيهًا بِالْمُشَاهَدَةِ، وَالتَّسْبِيحُ التَّنْزِيهُ فِي ذَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَصِفَاتِهِ عَنْ كُلِّ ما لا يَلِيقُ بِهِ، وَمَعْنَى مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَنْ هُوَ مُسْتَقِرٌّ فِيهِمَا مِنَ الْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَتَسْبِيحُ غَيْرِ الْعُقَلَاءِ مَا يُسْمَعُ مِنْ أَصْوَاتِهَا، وَيُشَاهَدُ مِنْ أَثَرِ الصَّنْعَةِ الْبَدِيعَةِ فِيهَا. وَقِيلَ: إِنَّ التَّسْبِيحَ هُنَا هُوَ الصَّلَاةُ مِنَ الْعُقَلَاءِ، والتنزيه من غيرهم. وقد قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَشْمَلُ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَأَنَّ آثَارَ الصَّنْعَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْجَمَادَاتِ نَاطِقٌ وَمُخْبِرٌ بِاتِّصَافِهِ سُبْحَانَهُ بِصِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْكَمَالِ وَتَنَزُّهِهِ عَنْ صِفَاتِ النَّقْصِ، وَفِي ذَلِكَ تَقْرِيعٌ لِلْكُفَّارِ وَتَوْبِيخٌ لَهُمْ حَيْثُ جَعَلُوا الْجَمَادَاتِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا التَّسْبِيحُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ شُرَكَاءَ لَهُ يَعْبُدُونَهَا كَعِبَادَتِهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي حَمْلُ التَّسْبِيحِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى طَرِيقَةِ عُمُومِ الْمَجَازِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ بِالرَّفْعِ لِلطَّيْرِ وَالنُّصْبِ لِصَافَّاتٍ عَلَى أَنَّ الطَّيْرَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَنْ، وَصَافَّاتٌ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ «وَالطَّيْرَ» بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ، وَصَافَّاتٍ حَالٌ أَيْضًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهِيَ أَجْوَدُ مِنَ الرَّفْعِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَخَارِجَةُ عَنْ نَافِعٍ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ بِرَفْعِهِمَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ، وَمَفْعُولُ صَافَّاتٍ: مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَجْنِحَتُهَا، وَخَصَّ الطَّيْرَ بِالذِّكْرِ مَعَ دُخُولِهَا تَحْتَ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ لِعَدَمِ اسْتِمْرَارِ اسْتِقْرَارِهَا فِي الْأَرْضِ وَكَثْرَةِ لبثها في الهواء وَهُوَ لَيْسَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَا مِنَ الْأَرْضِ، وَلِمَا فِيهَا مِنَ الصَّنْعَةِ الْبَدِيعَةِ الَّتِي تَقْدِرُ بِهَا تَارَةً عَلَى الطَّيَرَانِ، وَتَارَةً عَلَى الْمَشْيِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنَ الْحَيَوَانَاتِ، وَذَكَرَ حَالَةً مِنْ حالات
إِنِّي أَتَيْتُكِ مِنْ أَهْلِي وَمِنْ وَطَنِي | أُزْجِي حُشَاشَةَ نَفْسٍ مَا بِهَا رَمَقُ |
أَسَرَتْ عَلَيْهِ مِنَ الجوزاء سارية | تزجي الشّمال عَلَيْهِ جَامِدَ الْبَرَدِ |
الشَّجَرُ قَدْ جَلَسْتُ بَيْنَهُ، لِأَنَّهُ جَمْعٌ وَأُفْرِدَ الضَّمِيرُ بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أَيْ: مُتَرَاكِمًا يَرْكَبُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَالرَّكْمُ: جَمْعُ الشَّيْءِ، يُقَالُ: رَكَمَ الشَّيْءَ يَرْكُمُهُ رَكْمًا، أَيْ: جَمَعَهُ وَأَلْقَى بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ وَارْتَكَمَ الشَّيْءُ وَتَرَاكَمَ إِذَا اجْتَمَعَ، وَالرُّكَمَةُ: الطِّينُ الْمَجْمُوعُ، وَالرُّكَامُ: الرَّمْلُ الْمُتَرَاكِبُ فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ الْوَدْقُ: الْمَطَرُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَلَا مُزْنَةَ وَدَقَتْ وَدْقَهَا | وَلَا أَرْضَ أَبَقَلَ إِبْقَالَهَا |
فَدَمْعُهُمَا وَدَقٌّ وَسَحٌّ وَدَيْمَةٌ | وَسَكَبٌ وَتَوْكَافٌ وَتَنْهَمِلَانِ |
أَثَرْنَ عَجَاجَةً وَخَرَجْنَ مِنْهَا | خُرُوجَ الْوَدْقِ مِنْ خَلَلِ السَّحَابِ |
إِنَّ فِي الْكَلَامِ مُضَافًا مَحْذُوفًا، أَيْ: يُنَزِّلُ مِنَ السماء قدر جبال، أَوْ مِثْلَ جِبَالٍ مِنْ بَرَدٍ إِلَى الْأَرْضِ. قَالَ الْأَخْفَشُ: إِنَّ مَنْ فِي مِنْ جِبَالٍ وفي بَرَدٍ زَائِدَةٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَالْجِبَالُ وَالْبَرَدُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، أَيْ: يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ بَرَدًا يَكُونُ كَالْجِبَالِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مِنْ فِي مِنَ السماء لابتداء الغاية بلا خلاف ومِنْ فِي مِنْ جِبَالٍ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ فَتَكُونُ هِيَ وَمَجْرُورِهَا بَدَلًا مِنَ الْأُولَى بِإِعَادَةِ الْخَافِضِ بَدَلَ اشْتِمَالٍ.
الثَّانِي: أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ فَتَكُونُ عَلَى هَذَا هِيَ وَمَجْرُورِهَا فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى أَنَّهَا مَفْعُولُ الْإِنْزَالِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَيُنَزِّلُ بَعْضَ جِبَالٍ: الثَّالِثُ: أَنَّهَا زَائِدَةٌ، أَيْ: يُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ جِبَالًا. وَأَمَّا مِنْ فِي مِنْ بَرَدٍ فَفِيهَا أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ:
الثَّلَاثَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ بَعْضَ جِبَالٍ الَّتِي هِيَ الْبَرَدُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الْآيَةِ: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ بَرَدٌ فِيهَا كَمَا تَقُولُ: هَذَا خَاتَمٌ فِي يَدِي مِنْ حَدِيدٍ، أَيْ: خَاتَمُ حَدِيدٍ فِي يَدِي، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ هَذَا خَاتَمٌ مِنْ حَدِيدٍ وَخَاتَمُ حَدِيدٍ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ مِنْ بَرَدٍ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ صِفَةً لِجِبَالٍ كَمَا كَانَ مِنْ حَدِيدٍ صِفَةً لِخَاتَمٍ وَيَكُونُ مَفْعُولُ يُنَزِّلُ مِنْ جِبَالٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْجِبَالِ بَرَدًا أَنْ يَكُونَ الْمُنَزَّلُ بَرَدًا. وَذَكَرَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنَّ التَّقْدِيرَ: شَيْئًا مِنْ جِبَالٍ، فَحَذَفَ الْمَوْصُوفَ وَاكْتَفَى بِالصِّفَةِ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ أَيْ: يُصِيبُ بِمَا يُنَزِّلُ مِنَ الْبَرَدِ مَنْ يَشَاءُ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ مِنْهُمْ، أَوْ يُصِيبُ بِهِ مَالَ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَالِ مَنْ يَشَاءُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَنْ مَثْلِ هَذَا فِي الْبَقَرَةِ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ السَّنَا: الضَّوْءُ، أَيْ: يَكَادُ ضَوْءُ الْبَرْقِ الَّذِي فِي السَّحَابِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ مِنْ شِدَّةِ بَرِيقِهِ، وَزِيَادَةِ لَمَعَانِهِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ قَالَ الشَّمَّاخُ:
وَمَا كَادَتْ إِذَا رَفَعَتْ سَنَاهَا | لِيُبْصِرَ ضَوْءَهَا إِلَّا الْبَصِيرُ |
يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيحَ رَاهِبٍ | أَهَانَ السَّلِيطَ فِي الذَّبَالِ الْمُفَتَّلِ |
وَقَالَ النَّحَّاسُ: الْبُرَقَةُ الْمِقْدَارُ مِنَ الْبَرْقِ وَالْبَرْقَةُ الْوَاحِدَةُ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ وَابْنُ الْقَعْقَاعِ «يُذْهِبُ» بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْهَاءِ مِنَ الْإِذْهَابِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ سَنا بالقصر، وبَرْقِهِ بفتح الباء، وسكون الراء، ويَذْهَبُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ مِنَ الذَّهَابِ، وَخَطَّأَ قِرَاءَةَ الْجَحْدَرِيِّ وَابْنِ الْقَعْقَاعِ الْأَخْفَشُ وَأَبُو حَاتِمٍ.
وَمَعْنَى ذَهَابِ الْبَرْقِ بِالْأَبْصَارِ: خَطْفُهُ إِيَّاهَا مِنْ شِدَّةِ الْإِضَاءَةِ وَزِيَادَةِ الْبَرِيقِ، وَالْبَاءُ فِي الْأَبْصَارِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: لِلْإِلْصَاقِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِمْ: زَائِدَةٌ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أَيْ: يُعَاقِبُ بَيْنَهُمَا، وَقِيلَ:
يُزِيدُ فِي أَحَدِهِمَا وَيُنْقِصُ الْآخَرَ، وَقِيلَ: يُقَلِّبُهُمَا بِاخْتِلَافِ مَا يُقَدِّرُهُ فِيهِمَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَقِيلَ:
بِالْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ تَغْيِيرُ النَّهَارِ بِظُلْمَةِ السَّحَابِ مَرَّةً وَبِضَوْءِ الشَّمْسِ أُخْرَى، وَتَغْيِيرُ اللَّيْلِ بِظُلْمَةِ السَّحَابِ تَارَةً، وَبِضَوْءِ الْقَمَرِ أُخْرَى، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ إِلَى مَا تَقَدَّمَ، وَمَعْنَى الْعِبْرَةِ: الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ الَّتِي يَكُونُ بها الاعتبار، والمراد بأولي الأبصار: كل من له بصر ويبصر بِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ دَلِيلًا ثَالِثًا مِنْ عَجَائِبِ خَلْقِ الْحَيَوَانِ، وَبَدِيعِ صَنْعَتِهِ فَقَالَ: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ قَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ «وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ» وَقَرَأَ الْبَاقُونَ خَلَقَ وَالْمَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ، وَالدَّابَّةُ: كُلُّ مَا دَبَّ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْحَيَوَانِ، يُقَالُ: دَبَّ يَدِبُّ فَهُوَ دَابٌّ، وَالْهَاءُ: لِلْمُبَالَغَةِ، وَمَعْنَى مِنْ ماءٍ مِنْ نُطْفَةٍ، وَهِيَ: الْمَنِيُّ، كَذَا قَالَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ: إِنَّ الْمُرَادَ الْمَاءُ الْمَعْرُوفُ، لِأَنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ. وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ تَنْزِيلُ الْغَالِبِ مَنْزِلَةِ الْكُلِّ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ فِي الحيوانات من لا يتولد عَنْ نُطْفَةٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ الْمَلَائِكَةُ فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نُورٍ، وَالْجَانُّ فَإِنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ نَارٍ.
ثُمَّ فَصَّلَ سُبْحَانَهُ أَحْوَالَ كُلِّ دَابَّةٍ فَقَالَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَهِيَ: الْحَيَّاتُ، وَالْحُوتُ، وَالدُّودُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ الْإِنْسَانُ وَالطَّيْرُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ سَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَا يَمْشِي عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ لِقِلَّتِهِ، وَقِيلَ: لِأَنَّ الْمَشْيَ عَلَى أَرْبَعٍ فَقَطْ وَإِنْ كَانَتِ الْقَوَائِمُ كَثِيرَةً، وَقِيلَ: لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بما يمشي على أكثر من أربع، ولا وجه لهذا فإن المراد التنبيه على بديع الصنع وكمال القدرة، فكيف يقال بعدم الِاعْتِدَادِ بِمَا يَمْشِي عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ؟ وَقِيلَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَشْيِ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ، لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفِ ذَلِكَ وَلَا جَاءَ بِمَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ، وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَكْثَرَ» فَعَمَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ جَمِيعَ مَا يَمْشِي عَلَى أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعٍ: كَالسَّرَطَانِ وَالْعَنَاكِبِ وَكَثِيرٍ مِنْ خِشَاشِ الْأَرْضِ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشاءُ مِمَّا ذَكَرَهُ هَاهُنَا، وَمِمَّا لَمْ يَذْكُرْهُ، كَالْجَمَادَاتِ مُرَكَّبِهَا وَبَسِيطِهَا، نَامِيهَا وَغَيْرِ نَامِيهَا إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، بَلِ الْكُلُّ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ دَاخِلٌ تَحْتِ قدرته
ثم زاد في البيان فقال :﴿ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ﴾ أي : كلّ واحد مما ذكر، والضمير في علم يرجع إلى كلّ، والمعنى : أن كل واحد من هذه المسبحات لله قد علم صلاة المصلي وتسبيح المسبح.
وقيل : المعنى أن كلّ مصلّ ومسبح قد علم صلاة نفسه، وتسبيح نفسه. قيل : والصلاة هنا بمعنى التسبيح، وكرّر للتأكيد، والصلاة قد تسمى تسبيحاً. وقيل : المراد بالصلاة هنا الدعاء : أي كل واحد قد علم دعاءه، وتسبيحه. وفائدة الإخبار بأن كل واحد قد علم ذلك، أن صدور هذا التسبيح هو عن علم قد علمها الله ذلك، وألهمها إليه، لا أن صدوره منها على طريقة الإتفاق بلا روية، وفي ذلك زيادة دلالة على بديع صنع الله سبحانه، وعظيم شأنه، كونه جعلها مسبحة له عالمة بما يصدر منها غير جاهلة له ﴿ والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴾ هذه الجملة مقرّرة لما قبلها : أي لا تخفى عليه طاعتهم، ولا تسبيحهم، ويجوز أن يكون الضمير في ﴿ علم ﴾ لله سبحانه : أي كلّ واحد من هذه المسبحة قد علم الله صلاته له، وتسبيحه إياه، والأوّل أرجح لاتفاق القرّاء على رفع كل، ولو كان الضمير في علم لله لكان نصب كل أولى. وذكر بعض المفسرين : أنها قراءة طائفة من القراء علم على البناء للمفعول.
إني أتيتك من أهلي ومن وطني | أزجي حشاشة نفس ما بها رمق |
أسرت عليه من الجوزاء سارية | يزجي السماك عليه جامد البرد |
فلا مزنة ودقت ودقها | ولا أرض أبقل إبقالها |
فدمعهما ودق وسح وديمة | وسكب وتوكاف وتنهملان |
أثرن عجاجة وخرجن منها | خروج الودق من خلل السحاب |
وما كادت إذا رفعت سناها | ليبصر ضوءها إلاّ البصير |
يضيء سناه أو مصابيح راهب | أمال السليط في الذبال المفتل |
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ قَالَ: هو مثل ضربه الله لرجل عَطِشَ، فَاشْتَدَّ عَطَشُهُ، فَرَأَى سَرَابًا فَحَسِبَهُ مَاءً، فَطَلَبَهُ فَظَنَّ أَنَّهُ قَدَرَ عَلَيْهِ حَتَّى أَتَى، فَلَمَّا أَتَاهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، وَقُبِضَ عِنْدَ ذَلِكَ، يَقُولُ: الْكَافِرُ كَذَلِكَ السَّرَابُ إِذَا أَتَاهُ الْمَوْتُ لَمْ يَجِدْ عَمَلَهُ يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا، وَلَا يَنْفَعُهُ إِلَّا كَمَا نَفَعَ السَّرَابُ الْعَطْشَانَ يَغْشاهُ مَوْجٌ يَعْنِي بِذَلِكَ: الْغِشَاوَةَ الَّتِي عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ بِقِيعَةٍ: بِأَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم من طريق السُّدِّيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِنَّ الْكُفَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِرْدًا عِطَاشًا، فَيَقُولُونَ: أَيْنَ الْمَاءُ؟ فَيَتَمَثَّلُ لَهُمُ السَّرَابُ، فَيَحْسَبُونَهُ مَاءً، فَيَنْطَلِقُونَ إِلَيْهِ فَيَجِدُونَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَيُوَفِّيهِمْ حِسَابَهُ، وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» وَفِي إِسْنَادِهِ السُّدِّيُّ عَنْ أَبِيهِ، وَفِيهِ مَقَالٌ مَعْرُوفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ فِي قَوْلِهِ: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ قَالَ: الصَّلَاةُ لِلْإِنْسَانِ وَالتَّسْبِيحُ لِمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ خَلْقِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ:
وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ قَالَ: بَسْطُ أَجْنِحَتِهِنَّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَقُولُ: ضَوْءُ بَرْقِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ. وَأَقُولُ: هَذِهِ الطُّيُورُ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا تَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ، وَهَكَذَا غَيْرُهَا، كَالنَّعَامَةِ فَإِنَّهَا تَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ، وَلَيْسَتْ مِنَ الطَّيْرِ، فَهَذِهِ الْكُلِّيَّةُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عنه لا تصحّ.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٧ الى ٥٧]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
مَنْ تَوَلَّى عَنْ قَبُولِ حُكْمِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِذَلِكَ رُؤَسَاءَ الْمُنَافِقِينَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِتَوَلِّي هَذَا الْفَرِيقِ رُجُوعَهُمْ إِلَى الْبَاقِينَ، وَلَا يُنَافِي مَا تَحْتَمِلُهُ هَذِهِ الْآيَةُ بِاعْتِبَارِ لَفْظِهَا وُرُودِهَا عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ. ثُمَّ وَصَفَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ يُعْرِضُونَ عَنْ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ فِي خُصُومَاتِهِمْ، فَقَالَ: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَيْ: لِيَحْكُمَ الرَّسُولُ بَيْنَهُمْ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِلْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وإِذا فِي قَوْلِهِ: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ هِيَ الْفُجَائِيَّةُ، أَيْ: فَاجَأَ فَرِيقٌ مِنْهُمُ الْإِعْرَاضَ عَنِ الْمُحَاكَمَةِ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ، ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ إِعْرَاضَهُمْ إِنَّمَا هُوَ إِذَا كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا إِذَا كَانَ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ يُذْعِنُونَ لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحْكُمُ إِلَّا بِالْحَقِّ، فَقَالَ: وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْإِذْعَانُ: الْإِسْرَاعُ مَعَ الطَّاعَةِ، يُقَالُ: أَذْعَنَ لِي بِحَقِّي، أَيْ: طَاوَعَنِي لِمَا كُنْتُ أَلْتَمِسُ مِنْهُ وَصَارَ يُسْرِعُ إِلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: مُذْعِنِينَ مُقِرِّينَ. وَقَالَ النَّقَّاشُ: مُذْعِنِينَ:
خَاضِعِينَ. ثُمَّ قَسَّمَ الْأَمْرَ فِي إِعْرَاضِهِمْ عَنْ حُكُومَتِهِ إِذَا كَانَ الْحَقُّ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَهَذِهِ الْهَمْزَةُ لِلتَّوْبِيخِ وَالتَّقْرِيعِ لَهُمْ، وَالْمَرَضُ: النِّفَاقُ، أَيْ: أَكَانَ هَذَا الْإِعْرَاضُ مِنْهُمْ بِسَبَبِ النِّفَاقِ الْكَائِنِ فِي قُلُوبِهِمْ أَمِ ارْتابُوا وَشَكُّوا فِي أَمْرِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ وَعَدْلِهِ فِي الْحُكْمِ أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ وَالْحَيْفُ: الْمَيْلُ فِي الْحُكْمِ يُقَالُ: حَافَ فِي قَضِيَّتِهِ، أَيْ: جَارَ فِيمَا حَكَمَ بِهِ، ثُمَّ أَضْرَبَ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي صَدَّرَهَا بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ فَقَالَ: بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أَيْ: لَيْسَ ذَلِكَ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ، بَلْ لِظُلْمِهِمْ وَعِنَادِهِمْ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْإِعْرَاضُ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ لَمَا أَتَوْا إليه مذعنين إذا كان الحق لهم، وفيه هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبٍ الْإِجَابَةِ إِلَى الْقَاضِي الْعَالِمِ بِحُكْمِ اللَّهِ، الْعَادِلِ فِي حُكْمِهِ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْحُكْمُ مِنْ قُضَاةٍ الْإِسْلَامِ الْعَالِمِينَ بِحُكْمِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْعَادِلِينَ فِي الْقَضَاءِ هُوَ حُكْمٌ بِحُكْمِ اللَّهِ،
وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ دُعِيَ إِلَى مَجْلِسِ الْحَاكِمِ أَنْ يُجِيبَ، مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْحَاكِمَ فَاسِقٌ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ إِجَابَةِ الدَّاعِي إِلَى الْحَاكِمِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ذَمَّ مَنْ دُعِيَ إِلَى رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بينه وبين خصمه فلم يجب بِأَقْبَحِ الذَّمِّ، فَقَالَ: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الْآيَةَ. انْتَهَى، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مُقَصِّرًا، لَا يَعْلَمُ بِأَحْكَامِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يَعْقِلُ حُجَجَ اللَّهِ، وَمَعَانِيَ كَلَامِهِ، وَكَلَامِ رَسُولِهِ، بَلْ كَانَ جَاهِلًا جَهْلًا بَسِيطًا، وَهُوَ مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ جَهْلًا مُرَكَّبًا، وَهُوَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ بِمَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنَّهُ قَدْ عَرَفَ بَعْضَ اجْتِهَادَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَاطَّلَعَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ عِلْمِ الرَّأْيِ، فَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ جَاهِلٌ، وَإِنِ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِنَ الْعِلْمِ، فَاعْتِقَادُهُ بَاطِلٌ فَمَنْ كَانَ مِنَ الْقُضَاةِ هَكَذَا، فَلَا تَجِبُ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَعْلَمُ بِحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى يَحْكُمَ بِهِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ إِلَيْهِ، بَلْ هُوَ مِنْ قُضَاةِ الطَّاغُوتِ، وَحُكَّامِ الْبَاطِلِ، فَإِنَّ مَا عَرَفَهُ مِنْ عِلْمِ الرَّأْيِ إِنَّمَا رُخِّصَ فِي الْعَمَلِ بِهِ لِلْمُجْتَهِدِ الَّذِي هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَيْهِ، عِنْدَ عَدَمِ الدَّلِيلِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَمْ يُرَخَّصْ فِيهِ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ يَأْتِي بَعْدَهُ. وَإِذَا تَقَرَّرَ لَدَيْكَ هَذَا وَفَهِمْتَهُ حَقَّ فَهْمِهِ عَلِمْتَ أَنَّ التَّقْلِيدَ وَالِانْتِسَابَ إِلَى عَالِمٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ دُونَ غَيْرِهِ وَالتَّقَيُّدُ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ رِوَايَةِ وَرَأْيِ وَإِهْمَالِ مَا عَدَاهُ مِنْ أَعْظَمِ مَا حَدَثَ فِي هَذِهِ الْمِلَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنَ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ، وَالْفَوَاقِرِ الْمُوحِشَةِ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي مُؤَلَّفِنَا الَّذِي سَمَّيْنَاهُ [الْقَوْلِ الْمُفِيدِ فِي حُكْمِ التَّقْلِيدِ] وَفِي مُؤَلِّفِنَا الَّذِي سَمَّيْنَاهُ [أَدَبَ الطَّلَبِ وَمُنْتَهَى الْأَرَبِ] فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقِفَ عَلَى حَقِيقَةِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الَّتِي طَبَّقَتِ الْأَقْطَارَ الْإِسْلَامِيَّةَ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهِمَا. ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ النِّفَاقِ، أَتْبَعَ بِمَا يَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَفْعَلُوهُ إِذَا دُعُوا إِلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا قَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِنَصْبِ (قَوْلَ) عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ وَاسْمُهَا أَنْ يَقُولُوا. وَقَرَأَ عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ بِرَفْعِ «قَوْلُ» عَلَى أَنَّهُ الِاسْمُ، وَأَنَّ الْمَصْدَرِيَّةَ وَمَا فِي حَيِّزِهَا الْخَبَرُ، وَقَدْ رَجَّحْتُ الْقِرَاءَةُ الْأُولَى بِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ النُّحَاةِ مِنْ أَنَّهُ إِذَا اجْتَمَعَ مَعْرِفَتَانِ، وَكَانَتْ إِحْدَاهُمَا أَعْرَفَ، جُعِلَتِ الَّتِي هِيَ أَعْرَفُ اسْمًا. وَأَمَّا سِيبَوَيْهِ فَقَدْ خَيَّرَ بَيْنَ كُلِّ مَعْرِفَتَيْنِ وَلَمْ يُفَرِّقْ هَذِهِ التَّفْرِقَةَ، وَقَدْ قَدَّمَنَا الْكَلَامَ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِلْحُكْمِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ، وَذَكَرْنَا مَنْ تَجِبُ الْإِجَابَةُ إِلَيْهِ مِنَ الْقُضَاةِ، وَمَنْ لَا تَجِبُ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا أَيْ: أَنْ يَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ لَا قَوْلًا آخَرَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَبَرِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ ذَلِكَ، بَلِ الْمُرَادُ بِهِ تَعْلِيمُ الْأَدَبِ الشَّرْعِيِّ عِنْدَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ مِنْ أَحَدِ الْمُتَخَاصِمَيْنِ لِلْآخَرِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا هَكَذَا بِحَيْثُ إِذَا سَمِعُوا الدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ قَابَلُوهُ بِالطَّاعَةِ وَالْإِذْعَانِ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ: يَقُولُونَ سَمِعْنَا قَوْلَ النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ وَأَطَعْنَا أَمْرَهُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِيمَا يَكْرَهُونَهُ وَيَضُرُّهُمْ، ثُمَّ أَثْنَى سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَأُولئِكَ أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيِ: الْفَائِزُونَ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الثَّنَاءَ عَلَيْهِمْ بِثَنَاءٍ آخَرَ، فَقَالَ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ حُسْنِ حَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَرْغِيبِ مَنْ عَدَاهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي عِدَادِهِمْ وَالْمُتَابَعَةِ لَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالتَّقْوَى
قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا دَقِيقًا وَقَوْلُ الْآخَرِ:
عَجِبْتُ لِمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ | وَذِي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أَبَوَانِ |
أَيْ: لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن، وجهد أَيْمَانِهِمْ مُنْتَصِبٌ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ النَّاصِبِ لَهُ، أَيْ: أَقْسَمُوا بِاللَّهِ يَجْهَدُونَ أَيْمَانَهُمْ جَهْدًا. وَمَعْنَى جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ: طَاقَةُ مَا قَدَرُوا أَنْ يَحْلِفُوا، مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ جَهَدَ نَفْسَهُ: إِذَا بَلَغَ طَاقَتَهَا وَأَقْصَى وُسْعِهَا. وَقِيلَ: هُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ وَالتَّقْدِيرُ: مُجْتَهِدِينَ فِي أَيْمَانِهِمْ، كَقَوْلِهِمُ: افْعَلْ ذَلِكَ جَهْدَكَ، وَطَاقَتَكَ، وَقَدْ خَلَطَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْوَجْهَيْنِ فَجَعَلَهُمَا وَاحِدًا. وَجَوَابُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: لَيَخْرُجُنَ
وَلَمَّا كَانَتْ مَقَالَتُهُمْ هَذِهِ كَاذِبَةً، وَأَيْمَانُهُمْ فَاجِرَةً رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: قُلْ لَا تُقْسِمُوا
أَيْ: رُدَّ عَلَيْهِمْ زَاجِرًا لَهُمْ، وَقُلْ لَهُمْ لَا تُقْسِمُوا، أَيْ: لَا تَحْلِفُوا عَلَى مَا تَزْعُمُونَهُ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْخُرُوجِ إِلَى الْجِهَادِ إِنْ أَمُرْتُمْ بِهِ، وَهَاهُنَا تَمَّ الْكَلَامُ. ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
وَارْتِفَاعُ طَاعَةٌ عَلَى أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: طَاعَتُهُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِأَنَّهَا طَاعَةٌ نِفَاقِيَّةٌ لَمْ تَكُنْ عن اعتقاد، ويجوز أن تكون طاعة مُبْتَدَأً، لِأَنَّهَا قَدْ خُصِّصَتْ بِالصِّفَةِ، وَيَكُونُ الْخَبَرُ مُقَدَّرًا، أَيْ: طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَيْمَانِكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَرْتَفِعَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: لِتَكُنْ مِنْكُمْ طَاعَةٌ أَوْ لِتُوجَدْ، وَفِي هَذَا ضَعْفٌ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُحْذَفُ إِلَّا إِذَا تقدّم ما يشعر له. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَالتِّرْمِذِيُّ، طَاعَةً بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَصْدَرِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَطِيعُوا طَاعَةً إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
مِنَ الْأَعْمَالِ وَمَا تُضْمِرُونَهُ مِنَ الْمُخَالَفَةِ لِمَا تَنْطِقُ بِهِ أَلْسِنَتُكُمْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ كَوْنِ طَاعَتِهِمْ طَاعَةَ نِفَاقٍ. ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَ:
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ طَاعَةً ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، بِخُلُوصِ اعْتِقَادٍ، وَصِحَّةِ نِيَّةٍ، وَهَذَا التَّكْرِيرُ مِنْهُ تَعَالَى لِتَأْكِيدِ وُجُوبِ الطَّاعَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: قُلْ لَا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
فِي حُكْمِ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ، وَقِيلَ:
كُلُّ مَنِ اسْتَخْلَفَهُ اللَّهُ فِي أَرْضِهِ فَلَا يُخَصُّ ذَلِكَ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ دُونَ غَيْرِهَا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ كَمَا اسْتَخْلَفَ بِفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ.
وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّهَا عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَمَحَلُّ الْكَافِ النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: اسْتِخْلَافًا كَمَا اسْتَخْلَفَ، وَجُمْلَةُ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ دَاخِلَةٌ تَحْتَ حُكْمِهِ كَائِنَةٌ مِنْ جُمْلَةِ الْجَوَابِ، وَالْمُرَادُ بِالتَّمْكِينِ هُنَا: التَّثْبِيتُ وَالتَّقْرِيرُ، أَيْ: يَجْعَلُهُ اللَّهُ ثابتا مقرّرا يوسع لَهُمْ فِي الْبِلَادِ، وَيُظْهِرُ دِينَهُمْ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، وَالْمُرَادُ بِالدِّينِ هُنَا: الْإِسْلَامُ، كَمَا فِي قوله: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «١» ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الِاسْتِخْلَافَ لَهُمْ أَوَّلًا، وَهُوَ جَعْلُهُمْ مُلُوكًا وَذَكَرَ التَّمْكِينَ ثَانِيًا، فَأَفَادَ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْمُلْكَ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْعُرُوضِ والطروّ، بل على وجه الاستقرار والثبات،
لَا تَحْسَبَنَّ يَا مُحَمَّدُ، وَالْمَوْصُولُ: الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ، وَمُعْجِزِينَ: الثَّانِي، لِأَنَّ الْحُسْبَانَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَالْفَرَّاءُ وَأَبُو عَلِيٍّ. وَأَمَّا عَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى، فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفًا، أَيْ: لَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْفُسَهُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَمَا عَلِمْتُ أَحَدًا بَصْرِيًّا وَلَا كُوفِيًّا إِلَّا وَهُوَ يُخَطِّئُ قِرَاءَةَ حَمْزَةَ، وَمُعْجِزِينَ مَعْنَاهُ:
فَائِتِينَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ وَتَفْسِيرُ مَا بَعْدَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ الْآيَةَ قَالَ: أُنَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ، وَجِهَادٍ مَعَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ. وَأَخْرَجُوا أَيْضًا عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّجُلِ خُصُومَةً، أو منازعة
الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: ذلك في شَأْنُ الْجِهَادِ، قَالَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ لَا يَحْلِفُوا عَلَى شَيْءٍ طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
قَالَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْسِمُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
يَقُولُ: قَدْ عرفت طاعتكم، أَيْ: إِنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بِهِ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «قَدِمَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَأْخُذُونَ مِنَّا الْحَقَّ وَلَا يُعْطُونَا؟ قَالَ: فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ» وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ قَانِعٍ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ يَزِيدَ الجعفي قال: قلت يا رسول الله، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سَأَلَ: إِنْ كَانَ عَلَيَّ إِمَامٌ فَاجْرٌ فَلَقِيتُ مَعَهُ أَهْلَ ضَلَالَةٍ أُقَاتِلُ أَمْ لَا؟ قَالَ: قَاتِلْ أَهْلَ الضَّلَالَةِ أَيْنَمَا وَجَدْتَهُمْ، وَعَلَى الْإِمَامِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ الْبَرَاءِ فِي قَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ الْآيَةَ. قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ وَنَحْنُ فِي خَوْفٍ شَدِيدٍ، وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ بِمَكَّةَ نَحْوًا مِنْ عَشْرِ سِنِينَ يَدْعُونَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ سِرًّا، وَهُمْ خَائِفُونَ لَا يُؤْمَرُونَ بِالْقِتَالِ، حَتَّى أُمِرُوا بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالْقِتَالِ، وَكَانُوا بِهَا خَائِفِينَ يُمْسُونَ فِي السِّلَاحِ وَيُصْبِحُونَ فِي السِّلَاحِ، فَغَبَرُوا «١» بِذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا من أصحابه قال: يا رسول الله! أَبَدَ الدَّهْرِ نَحْنُ خَائِفُونَ هَكَذَا؟ مَا يَأْتِي عَلَيْنَا يَوْمٌ نَأْمَنُ فِيهِ وَنَضَعُ فِيهِ السِّلَاحَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لن تغبروا إلا
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال : أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا، فأنزل الله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم ﴾ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال : ذلك في شأن الجهاد، قال : يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء ﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ قال : أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يقسموا. وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد :﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ يقول : قد عرفت طاعتهم أي : إنكم تكذبون به.
وأخرج مسلم، والترمذي، وغيرهما، عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال : قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق، ولا يعطونا ؟ قال :«فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» وأخرج ابن جرير، وابن قانع، والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : قلت : يا رسول، فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سأل : إن كان عليّ إمام فاجر، فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا ؟ قال :«قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم، وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم». وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن البراء في قوله ﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ ﴾ الآية. قال : فينا نزلت، ونحن في خوف شديد. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرًّا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، وكانوا بها خائفين يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من أصحابه قال : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع فيه السلاح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لن تغبروا إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة»، فأنزل الله :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض ﴾ إلى آخر الآية، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه، فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم، واتخذوا الحجر والشرط، وغيروا فغير ما بهم. وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب. قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحد، فكانوا لا يبيتون إلاّ في السلاح، ولا يصبحون إلاّ فيه، فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله، فنزلت :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ الآية. وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس :﴿ يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾ قال : لا يخافون أحداً غيري. وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد مثله، قال :﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ العاصون. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال : كفر بهذه النعمة، ليس الكفر بالله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ﴿ مُعْجِزِينَ فِي الأرض ﴾ قال : سابقين في الأرض.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال : أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا، فأنزل الله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم ﴾ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال : ذلك في شأن الجهاد، قال : يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء ﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ قال : أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يقسموا. وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد :﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ يقول : قد عرفت طاعتهم أي : إنكم تكذبون به.
وأخرج مسلم، والترمذي، وغيرهما، عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال : قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق، ولا يعطونا ؟ قال :«فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» وأخرج ابن جرير، وابن قانع، والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : قلت : يا رسول، فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سأل : إن كان عليّ إمام فاجر، فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا ؟ قال :«قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم، وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم». وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن البراء في قوله ﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ ﴾ الآية. قال : فينا نزلت، ونحن في خوف شديد. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرًّا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، وكانوا بها خائفين يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من أصحابه قال : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع فيه السلاح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لن تغبروا إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة»، فأنزل الله :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض ﴾ إلى آخر الآية، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه، فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم، واتخذوا الحجر والشرط، وغيروا فغير ما بهم. وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب. قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحد، فكانوا لا يبيتون إلاّ في السلاح، ولا يصبحون إلاّ فيه، فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله، فنزلت :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ الآية. وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس :﴿ يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾ قال : لا يخافون أحداً غيري. وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد مثله، قال :﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ العاصون. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال : كفر بهذه النعمة، ليس الكفر بالله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ﴿ مُعْجِزِينَ فِي الأرض ﴾ قال : سابقين في الأرض.
قال القرطبي : في هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم، لأن الله سبحانه ذمّ من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذمّ، فقال ﴿ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ ﴾ الآية انتهى. فإن كان القاضي مقصراً لا يعلم بأحكام الكتاب، والسنة، ولا يعقل حجج الله، ومعاني كلامه وكلام رسوله، بل كان جاهلاً جهلاً بسيطاً، وهو من لا علم له بشيء من ذلك، أو جهلاً مركباً، وهو من لا علم عنده بما ذكرنا، ولكنه قد عرف بعض اجتهادات المجتهدين، واطلع على شيء من علم الرأي، فهذا في الحقيقة جاهل، وإن اعتقد أنه يعلم بشيء من العلم فاعتقاده باطل ؛ فمن كان من القضاة هكذا، فلا تجب الإجابة إليه ؛ لأنه ليس ممن يعلم بحكم الله ورسوله حتى يحكم به بين المتخاصمين إليه، بل هو من قضاة الطاغوت، وحكام الباطل، فإنّ ما عرفه من علم الرأي إنما رخص في العمل به للمجتهد الذي هو منسوب إليه عند عدم الدليل من الكتاب والسنة، ولم يرخص فيه لغيره ممن يأتي بعده. وإذا تقرّر لديك هذا، وفهمته حق فهمه علمت أن التقليد والإنتساب إلى عالم من العلماء دون غيره، والتقيد بجميع ما جاء به من رواية ورأي، وإهمال ما عداه من أعظم ما حدث في هذه الملة الإسلامية من البدع المضلة، والفواقر الموحشة، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقد أوضحنا هذا في مؤلفنا الذي سميناه :«القول المفيد في حكم التقليد » وفي مؤلفنا الذي سميناه :«أدب الطلب ومنتهى الأرب » فمن أراد أن يقف على حقيقة هذه البدعة التي طبقت الأقطار الإسلامية، فليرجع إليهما.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال : أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا، فأنزل الله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم ﴾ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال : ذلك في شأن الجهاد، قال : يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء ﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ قال : أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يقسموا. وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد :﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ يقول : قد عرفت طاعتهم أي : إنكم تكذبون به.
وأخرج مسلم، والترمذي، وغيرهما، عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال : قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق، ولا يعطونا ؟ قال :«فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» وأخرج ابن جرير، وابن قانع، والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : قلت : يا رسول، فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سأل : إن كان عليّ إمام فاجر، فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا ؟ قال :«قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم، وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم». وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن البراء في قوله ﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ ﴾ الآية. قال : فينا نزلت، ونحن في خوف شديد. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرًّا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، وكانوا بها خائفين يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من أصحابه قال : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع فيه السلاح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لن تغبروا إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة»، فأنزل الله :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض ﴾ إلى آخر الآية، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه، فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم، واتخذوا الحجر والشرط، وغيروا فغير ما بهم. وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب. قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحد، فكانوا لا يبيتون إلاّ في السلاح، ولا يصبحون إلاّ فيه، فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله، فنزلت :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ الآية. وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس :﴿ يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾ قال : لا يخافون أحداً غيري. وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد مثله، قال :﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ العاصون. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال : كفر بهذه النعمة، ليس الكفر بالله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ﴿ مُعْجِزِينَ فِي الأرض ﴾ قال : سابقين في الأرض.
وقرأ عليّ والحسن وابن أبي إسحاق برفع :«قول » على أنه الاسم، وأن المصدرية، وما في حيزها الخبر، وقد رجحت القراءة الأولى بما تقرّر عند النحاة من أنه إذا اجتمع معرفتان، وكانت إحداهما أعرف جعلت التي هي أعرف اسماً. وأما سيبويه فقد خير بين كلّ معرفتين، ولم يفرق هذه التفرقة، وقد قدّمنا الكلام على الدعوة إلى الله، ورسوله للحكم بين المتخاصمين، وذكرنا من تجب الإجابة إليه من القضاة، ومن لا تجب ﴿ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾ أي أن يقولوا هذا القول لا قولاً آخر، وهذا، وإن كان على طريقة الخبر، فليس المراد به ذلك، بل المراد به تعليم الأدب الشرعي عند هذه الدعوة من أحد المتخاصمين للآخر. والمعنى : أنه ينبغي للمؤمنين أن يكونوا هكذا بحيث إذا سمعوا الدعاء المذكور قابلوه بالطاعة والإذعان. قال مقاتل وغيره : يقولون سمعنا قول النبي صلى الله عليه وسلم وأطعنا أمره، وإن كان ذلك فيما يكرهونه، ويضرّهم، ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله :﴿ أولئك ﴾ أي المؤمنون الذين قالوا هذا القول ﴿ هُمُ المفلحون ﴾ أي الفائزون بخير الدنيا والآخرة.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال : أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا، فأنزل الله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم ﴾ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال : ذلك في شأن الجهاد، قال : يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء ﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ قال : أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يقسموا. وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد :﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ يقول : قد عرفت طاعتهم أي : إنكم تكذبون به.
وأخرج مسلم، والترمذي، وغيرهما، عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال : قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق، ولا يعطونا ؟ قال :«فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» وأخرج ابن جرير، وابن قانع، والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : قلت : يا رسول، فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سأل : إن كان عليّ إمام فاجر، فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا ؟ قال :«قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم، وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم». وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن البراء في قوله ﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ ﴾ الآية. قال : فينا نزلت، ونحن في خوف شديد. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرًّا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، وكانوا بها خائفين يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من أصحابه قال : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع فيه السلاح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لن تغبروا إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة»، فأنزل الله :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض ﴾ إلى آخر الآية، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه، فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم، واتخذوا الحجر والشرط، وغيروا فغير ما بهم. وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب. قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحد، فكانوا لا يبيتون إلاّ في السلاح، ولا يصبحون إلاّ فيه، فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله، فنزلت :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ الآية. وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس :﴿ يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾ قال : لا يخافون أحداً غيري. وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد مثله، قال :﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ العاصون. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال : كفر بهذه النعمة، ليس الكفر بالله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ﴿ مُعْجِزِينَ فِي الأرض ﴾ قال : سابقين في الأرض.
* قالت سليمى اشتر لنا دقيقاً *
وقول الآخر :
عجبت لمولود وليس له أب | وذي ولد لم يلده أبوان |
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال : أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا، فأنزل الله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم ﴾ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال : ذلك في شأن الجهاد، قال : يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء ﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ قال : أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يقسموا. وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد :﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ يقول : قد عرفت طاعتهم أي : إنكم تكذبون به.
وأخرج مسلم، والترمذي، وغيرهما، عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال : قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق، ولا يعطونا ؟ قال :«فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» وأخرج ابن جرير، وابن قانع، والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : قلت : يا رسول، فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سأل : إن كان عليّ إمام فاجر، فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا ؟ قال :«قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم، وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم». وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن البراء في قوله ﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ ﴾ الآية. قال : فينا نزلت، ونحن في خوف شديد. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرًّا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، وكانوا بها خائفين يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من أصحابه قال : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع فيه السلاح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لن تغبروا إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة»، فأنزل الله :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض ﴾ إلى آخر الآية، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه، فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم، واتخذوا الحجر والشرط، وغيروا فغير ما بهم. وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب. قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحد، فكانوا لا يبيتون إلاّ في السلاح، ولا يصبحون إلاّ فيه، فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله، فنزلت :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ الآية. وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس :﴿ يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾ قال : لا يخافون أحداً غيري. وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد مثله، قال :﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ العاصون. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال : كفر بهذه النعمة، ليس الكفر بالله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ﴿ مُعْجِزِينَ فِي الأرض ﴾ قال : سابقين في الأرض.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال : أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا، فأنزل الله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم ﴾ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال : ذلك في شأن الجهاد، قال : يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء ﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ قال : أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يقسموا. وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد :﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ يقول : قد عرفت طاعتهم أي : إنكم تكذبون به.
وأخرج مسلم، والترمذي، وغيرهما، عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال : قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق، ولا يعطونا ؟ قال :«فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» وأخرج ابن جرير، وابن قانع، والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : قلت : يا رسول، فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سأل : إن كان عليّ إمام فاجر، فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا ؟ قال :«قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم، وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم». وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن البراء في قوله ﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ ﴾ الآية. قال : فينا نزلت، ونحن في خوف شديد. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرًّا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، وكانوا بها خائفين يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من أصحابه قال : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع فيه السلاح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لن تغبروا إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة»، فأنزل الله :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض ﴾ إلى آخر الآية، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه، فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم، واتخذوا الحجر والشرط، وغيروا فغير ما بهم. وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب. قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحد، فكانوا لا يبيتون إلاّ في السلاح، ولا يصبحون إلاّ فيه، فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله، فنزلت :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ الآية. وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس :﴿ يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾ قال : لا يخافون أحداً غيري. وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد مثله، قال :﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ العاصون. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال : كفر بهذه النعمة، ليس الكفر بالله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ﴿ مُعْجِزِينَ فِي الأرض ﴾ قال : سابقين في الأرض.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال : أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا، فأنزل الله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم ﴾ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال : ذلك في شأن الجهاد، قال : يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء ﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ قال : أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يقسموا. وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد :﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ يقول : قد عرفت طاعتهم أي : إنكم تكذبون به.
وأخرج مسلم، والترمذي، وغيرهما، عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال : قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق، ولا يعطونا ؟ قال :«فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» وأخرج ابن جرير، وابن قانع، والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : قلت : يا رسول، فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سأل : إن كان عليّ إمام فاجر، فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا ؟ قال :«قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم، وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم». وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن البراء في قوله ﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ ﴾ الآية. قال : فينا نزلت، ونحن في خوف شديد. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرًّا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، وكانوا بها خائفين يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من أصحابه قال : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع فيه السلاح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لن تغبروا إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة»، فأنزل الله :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض ﴾ إلى آخر الآية، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه، فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم، واتخذوا الحجر والشرط، وغيروا فغير ما بهم. وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب. قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحد، فكانوا لا يبيتون إلاّ في السلاح، ولا يصبحون إلاّ فيه، فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله، فنزلت :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ الآية. وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس :﴿ يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾ قال : لا يخافون أحداً غيري. وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد مثله، قال :﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ العاصون. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال : كفر بهذه النعمة، ليس الكفر بالله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ﴿ مُعْجِزِينَ فِي الأرض ﴾ قال : سابقين في الأرض.
وقرأ الباقون بالتشديد من بدّل، واختارها أبو عبيد، وهما لغتان، وزيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى، فقراءة التشديد أرجح من قراءة التخفيف. قال النحاس : وزعم أحمد بن يحيى ثعلب أن بين التخفيف والتثقيل فرقاً، وأنه يقال بدّلته : أي غيرته، وأبدلته : أزلته وجعلت غيره. قال النحاس، وهذا القول صحيح. والمعنى : أنه سبحانه يجعل لهم مكان ما كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمناً، ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه بحيث لا يخشون إلاّ الله سبحانه، ولا يرجون غيره. وقد كان المسلمون قبل الهجرة وبعدها بقليل في خوف شديد من المشركين، لا يخرجون إلاّ في السلاح، ولا يمسون ويصبحون إلاّ على ترقب لنزول المضرّة بهم من الكفار، ثم صاروا في غاية الأمن والدعة وأذلّ الله لهم شياطين المشركين، وفتح عليهم البلاد، ومهد لهم في الأرض، ومكنهم منها، فلله الحمد، وجملة ﴿ يَعْبُدُونَنِي ﴾ في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون مستأنفة مسوقة للثناء عليهم، وجملة ﴿ لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾ في محل نصب على الحال من فاعل يعبدونني : أي يعبدونني، غير مشركين بي في العبادة شيئاً من الأشياء، وقيل معناه : لا يراءون بعبادتي أحداً، وقيل معناه : لا يخافون غيري، وقيل معناه لا يحبون غيري ﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ أي من كفر هذه النعم بعد ذلك الوعد الصحيح، أو من استمرّ على الكفر، أو من كفر بعد إيمان، فأولئك الكافرون، هم الفاسقون ؛ أي الكاملون في الفسق. وهو الخروج عن الطاعة، والطغيان في الكفر.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال : أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا، فأنزل الله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم ﴾ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال : ذلك في شأن الجهاد، قال : يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء ﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ قال : أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يقسموا. وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد :﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ يقول : قد عرفت طاعتهم أي : إنكم تكذبون به.
وأخرج مسلم، والترمذي، وغيرهما، عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال : قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق، ولا يعطونا ؟ قال :«فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» وأخرج ابن جرير، وابن قانع، والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : قلت : يا رسول، فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سأل : إن كان عليّ إمام فاجر، فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا ؟ قال :«قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم، وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم». وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن البراء في قوله ﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ ﴾ الآية. قال : فينا نزلت، ونحن في خوف شديد. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرًّا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، وكانوا بها خائفين يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من أصحابه قال : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع فيه السلاح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لن تغبروا إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة»، فأنزل الله :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض ﴾ إلى آخر الآية، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه، فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم، واتخذوا الحجر والشرط، وغيروا فغير ما بهم. وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب. قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحد، فكانوا لا يبيتون إلاّ في السلاح، ولا يصبحون إلاّ فيه، فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله، فنزلت :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ الآية. وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس :﴿ يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾ قال : لا يخافون أحداً غيري. وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد مثله، قال :﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ العاصون. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال : كفر بهذه النعمة، ليس الكفر بالله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ﴿ مُعْجِزِينَ فِي الأرض ﴾ قال : سابقين في الأرض.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال : أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا، فأنزل الله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم ﴾ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال : ذلك في شأن الجهاد، قال : يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء ﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ قال : أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يقسموا. وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد :﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ يقول : قد عرفت طاعتهم أي : إنكم تكذبون به.
وأخرج مسلم، والترمذي، وغيرهما، عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال : قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق، ولا يعطونا ؟ قال :«فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» وأخرج ابن جرير، وابن قانع، والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : قلت : يا رسول، فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سأل : إن كان عليّ إمام فاجر، فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا ؟ قال :«قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم، وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم». وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن البراء في قوله ﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ ﴾ الآية. قال : فينا نزلت، ونحن في خوف شديد. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرًّا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، وكانوا بها خائفين يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من أصحابه قال : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع فيه السلاح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لن تغبروا إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة»، فأنزل الله :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض ﴾ إلى آخر الآية، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه، فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم، واتخذوا الحجر والشرط، وغيروا فغير ما بهم. وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب. قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحد، فكانوا لا يبيتون إلاّ في السلاح، ولا يصبحون إلاّ فيه، فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله، فنزلت :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ الآية. وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس :﴿ يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾ قال : لا يخافون أحداً غيري. وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد مثله، قال :﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ العاصون. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال : كفر بهذه النعمة، ليس الكفر بالله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ﴿ مُعْجِزِينَ فِي الأرض ﴾ قال : سابقين في الأرض.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس قال : أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله لو أمرتنا أن نخرج من أموالنا لخرجنا، فأنزل الله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم ﴾ الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في الآية قال : ذلك في شأن الجهاد، قال : يأمرهم أن لا يحلفوا على شيء ﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ قال : أمرهم أن يكون منهم طاعة معروفة للنبي صلى الله عليه وسلم من غير أن يقسموا. وأخرج ابن المنذر، عن مجاهد :﴿ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ ﴾ يقول : قد عرفت طاعتهم أي : إنكم تكذبون به.
وأخرج مسلم، والترمذي، وغيرهما، عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن أبيه قال : قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : أرأيت إن كان علينا أمراء يأخذون منا الحق، ولا يعطونا ؟ قال :«فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم» وأخرج ابن جرير، وابن قانع، والطبراني عن علقمة بن وائل الحضرمي، عن سلمة بن يزيد الجعفي قال : قلت : يا رسول، فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن الزبير عن جابر أنه سأل : إن كان عليّ إمام فاجر، فلقيت معه أهل ضلالة أقاتل أم لا ؟ قال :«قاتل أهل الضلالة أينما وجدتهم، وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم». وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن البراء في قوله ﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ ﴾ الآية. قال : فينا نزلت، ونحن في خوف شديد. وأخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، عن أبي العالية قال : كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده، وعبادته وحده لا شريك له سرًّا، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة، فقدموا المدينة، فأمرهم الله بالقتال، وكانوا بها خائفين يمسون في السلاح، ويصبحون في السلاح، فغبروا بذلك ما شاء الله، ثم إن رجلاً من أصحابه قال : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا ؟ ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع فيه السلاح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لن تغبروا إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيهم حديدة»، فأنزل الله :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ في الأرض ﴾ إلى آخر الآية، فأظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على جزيرة العرب، فأمنوا ووضعوا السلاح. ثم إن الله قبض نبيه، فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة، فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم، واتخذوا الحجر والشرط، وغيروا فغير ما بهم. وأخرج ابن المنذر والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبيّ بن كعب. قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحد، فكانوا لا يبيتون إلاّ في السلاح، ولا يصبحون إلاّ فيه، فقالوا : أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله، فنزلت :﴿ وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ الآية. وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عباس :﴿ يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ﴾ قال : لا يخافون أحداً غيري. وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد مثله، قال :﴿ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون ﴾ العاصون. وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال : كفر بهذه النعمة، ليس الكفر بالله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ﴿ مُعْجِزِينَ فِي الأرض ﴾ قال : سابقين في الأرض.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٨ الى ٦١]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
لَمَّا فَرَغَ سُبْحَانَهُ مِنْ ذِكْرِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الِاسْتِئْذَانِ فَذَكَرَهُ هَاهُنَا عَلَى وَجْهٍ أخصّ فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَتَدْخُلُ الْمُؤْمِنَاتُ فِيهِ تَغْلِيبًا كَمَا فِي غَيْرِهِ مِنَ الْخِطَابَاتِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: هَذِهِ الْآيَةُ خَاصَّةٌ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ. وَاخْتَلَفُوا فِي
إِنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلنَّدْبِ لَا لِلْوُجُوبِ. وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا حَيْثُ كَانُوا لَا أَبْوَابَ لَهُمْ وَلَوْ عَادَ الْحَالُ لَعَادَ الْوُجُوبُ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: إِنَّ الْأَمْرَ هَاهُنَا لِلْوُجُوبِ، وَإِنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَأَنَّ حُكْمَهَا ثَابِتٌ عَلَى الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: إِنَّهَا خَاصَّةٌ بِالنِّسَاءِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هِيَ خَاصَّةٌ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الْعَبِيدُ وَالْإِمَاءُ، وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ الصِّبْيَانُ مِنْكُمْ، أَيْ: مِنَ الْأَحْرَارِ، وَمَعْنَى ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثَلَاثَةُ أَوْقَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَعَبَّرَ بالمرات عن الْأَوْقَاتِ، وَانْتِصَابُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ، أَيْ: ثَلَاثَةَ أَوْقَاتٍ، ثُمَّ فَسَّرَ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ بِقَوْلِهِ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ إِلَخْ، أَوْ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ، أَيْ: ثَلَاثَ اسْتِئْذَانَاتٍ وَرَجَّحَ هَذَا أَبُو حَيَّانَ فَقَالَ: وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثَلَاثُ اسْتِئْذَانَاتٍ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ ضَرَبْتُكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا ثَلَاثَ ضَرْبَاتٍ. وَيُرَدُّ بِأَنَّ الظَّاهِرَ هُنَا مَتْرُوكٌ للقرينة المذكورة، وهو التفسير بالثلاثة الأوقات. وقرأ الْحَسَنُ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ الْحُلْمِ بِسُكُونِ اللَّامِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا. قَالَ الْأَخْفَشُ: الْحُلْمُ مِنْ حَلَمَ الرَّجُلُ بِفَتْحِ اللَّامِ، وَمِنَ الْحُلْمِ حَلُمَ بِضَمِّ اللَّامِ يَحْلِمُ بِكَسْرِ اللَّامِ، ثُمَّ فَسَّرَ سُبْحَانَهُ الثَّلَاثَ الْمَرَّاتِ فَقَالَ: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقْتُ الْقِيَامِ عَنِ الْمَضَاجِعِ، وَطَرْحِ ثِيَابِ النَّوْمِ، وَلُبْسِ ثِيَابِ الْيَقَظَةِ، وَرُبَّمَا يَبِيِتُ عُرْيَانًا، أَوْ عَلَى حَالٍ لَا يُحِبُّ أَنْ يَرَاهُ غَيْرُهُ فِيهَا، وَمَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ ثَلَاثَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هِيَ مِنْ قَبْلِ، وَقَوْلُهُ: وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ مَعْطُوفٌ عَلَى محل مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ ومِنْ فِي مِنَ الظَّهِيرَةِ لِلْبَيَانِ، أَوْ بِمَعْنَى فِي، أَوْ بِمَعْنَى اللَّامِ. وَالْمَعْنَى: حِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمُ الَّتِي تَلْبَسُونَهَا فِي النَّهَارِ مِنْ شِدَّةِ حَرِّ الظَّهِيرَةِ، وَذَلِكَ عِنْدَ انْتِصَافِ النَّهَارِ، فَإِنَّهُمْ قَدْ يتجرّدون من الثِّيَابِ لِأَجْلِ الْقَيْلُولَةِ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْوَقْتَ الثَّالِثَ فَقَالَ: وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقْتُ التَّجَرُّدِ عَنْ الثِّيَابِ وَالْخَلْوَةِ بِالْأَهْلِ، ثُمَّ أَجْمَلَ سُبْحَانَهُ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ بَعْدَ التَّفْصِيلِ فَقَالَ: ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ قَرَأَ الْجُمْهُورُ ثَلاثُ عَوْراتٍ بِرَفْعِ ثَلَاثٍ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّمَا يَصِحُّ الْبَدَلُ بِتَقْدِيرِ أَوْقَاتِ ثَلَاثِ عَوْرَاتٍ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَ ثَلَاثِ مَرَّاتٍ نَفْسَ ثَلَاثِ عَوْرَاتٍ مُبَالَغَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ بَدَلًا مِنَ الْأَوْقَاتِ الْمَذْكُورَةِ، أَيْ: مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ إِلَخْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْصُوبَةً بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، أَيْ: أَعْنِي وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَعَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هُنَّ ثَلَاثٌ. قَالَ أَبُو حاتم: النصب ضعيف مردود.
وقال الفراء: الرفع أحبّ إليّ، قال: وإنما اخترت الرفع لأن المعنى هذه الخصال ثلاث عورات. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: إِنَّ ثَلَاثَ عَوْرَاتٍ مُرْتَفِعَةٌ بِالِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرُ مَا بَعْدَهَا. قَالَ: وَالْعَوْرَاتُ السَّاعَاتُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا الْعَوْرَةُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لِيَسْتَأْذِنْكُمْ أوقات ثلاث عورات، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَعَوْرَاتٌ جَمْعُ عَوْرَةٍ، وَالْعَوْرَةُ: فِي الْأَصْلِ الْخَلَلُ، ثُمَّ غَلَبَ فِي الْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِيمَا يَهُمُّ حِفْظُهُ وَيَتَعَيَّنُ سَتْرُهُ،
أَخُو بَيَضَاتٍ رائح مُتَأَوِّبٌ | رَفِيقٌ بِمَسْحِ الْمَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ |
أَبُو بيضات رائح أَوْ مُبَعِّدٌ | عَجْلَانَ ذَا زَادٍ وَغَيْرَ مُزَوَّدِ |
وَلَمَّا قَرَعْنَا النَّبْعَ بِالنَّبْعِ بَعْضَهُ | بِبَعْضٍ أَبَتْ عِيدَانُهُ أَنْ تُكَسَّرَا |
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ إِلَى مَصْدَرِ الْفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ التَّبْيِينِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى مَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ كَثِيرُ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ، وَكَثِيرُ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِهِ وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا حُكْمَ الْأَطْفَالِ الْأَحْرَارِ إِذَا بَلَغُوا الْحُلُمَ بَعْدَ مَا بَيَّنَ فِيمَا مَرَّ حُكْمَ الْأَطْفَالِ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ، فِي أَنَّهُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِمْ
وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَلَغُوا الْحُلُمَ يَسْتَأْذِنُونَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْكِبَارِ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالِاسْتِئْذَانِ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، ثُمَّ كَرَّرَ مَا تَقَدَّمَ لِلتَّأْكِيدِ فَقَالَ: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْحُلُمَ فَحَذَفَ الضَّمَّةَ لِثِقَلِهَا. قَالَ عَطَاءٌ: وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَسْتَأْذِنُوا إِذَا احْتَلَمُوا أَحْرَارًا كَانُوا أَوْ عَبِيْدًا. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى أُمِّهِ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْمُرَادُ بِالْقَوَاعِدِ مِنَ النِّسَاءِ: الْعَجَائِزُ اللَّاتِي قَعَدْنَ عَنِ الْحَيْضِ، وَالْوَلَدِ مِنَ الْكِبَرِ، وَاحِدَتُهَا قَاعِدٌ بِلَا هَاءٍ لِيَدُلَّ حَذْفُهَا عَلَى أَنَّهُ قُعُودُ الْكِبَرِ، كَمَا قَالُوا: امْرَأَةٌ حَامِلٌ لِيَدُلَّ بِحَذْفِ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهُ حَمْلُ حَبَلٍ، وَيُقَالُ: قَاعِدَةٌ فِي بَيْتِهَا وَحَامِلَةٌ عَلَى ظَهْرِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: هُنَّ اللَّاتِي قَعَدْنَ عَنِ التَّزْوِيجِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً أَيْ: لَا يَطْمَعْنَ فيه لكبرهنّ. قال أَبُو عُبَيْدَةَ: اللَّاتِي قَعَدْنَ عَنِ الْوَلَدِ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَقْعُدُ عَنِ الْوَلَدِ وَفِيهَا مُسْتَمْتَعٌ. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حُكْمَ الْقَوَاعِدِ فَقَالَ: فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أَيِ: الثِّيَابَ الَّتِي تَكُونُ عَلَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ كالجلباب ونحوه، لا الثِّيَابُ الَّتِي عَلَى الْعَوْرَةِ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُنَّ ذَلِكَ لِانْصِرَافِ الْأَنْفُسِ عَنْهُنَّ، إِذْ لَا رَغْبَةَ لِلرِّجَالِ فِيهِنَّ، فَأَبَاحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُنَّ مَا لَمْ يُبِحْهُ لِغَيْرِهِنَّ، ثُمَّ اسْتَثْنَى حَالَةً مِنْ حَالَاتِهِنَّ فَقَالَ: غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أَيْ: غَيْرَ مُظْهِرَاتٍ لِلزِّينَةِ الَّتِي أُمِرْنَ بِإِخْفَائِهَا فِي قوله: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ وَالْمَعْنَى: مِنْ غَيْرِ أَنْ يُرِدْنَ بِوَضْعِ الْجَلَابِيبِ إِظْهَارَ زَيَّنَتْهُنَّ، وَلَا مُتَعَرِّضَاتٍ بِالتَّزَيُّنِ، لِيَنْظُرَ إِلَيْهِنَّ الرِّجَالُ. وَالتَّبَرُّجُ التَّكَشُّفُ وَالظُّهُورُ لِلْعُيُونِ، وَمِنْهُ: بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ «١» وَبُرُوجُ السَّمَاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: سَفِينَةٌ بَارِجَةٌ، أَيْ: لَا غِطَاءَ عَلَيْهَا وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ أَيْ: وَأَنْ يَتْرُكْنَ وَضْعَ الثِّيَابِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُنَّ مِنْ وَضْعِهَا. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ «أَنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهِنَّ» بِزِيَادَةِ مِنْ، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ «وَأَنْ يَعْفُفْنَ» بِغَيْرِ سِينٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ كَثِيرُ السَّمَاعِ وَالْعِلْمِ أَوْ بَلِيغُهُمَا لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ هِيَ مُحْكَمَةٌ أَوْ منسوخة؟ قال بالأوّل: جماعة من العماء، وَبِالثَّانِي: جَمَاعَةٌ. قِيلَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إِذَا غَزَوْا خَلَّفُوا زَمْنَاهُمْ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ إِلَيْهِمْ مَفَاتِيحَ أَبْوَابِهِمْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ: قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا فِي بُيُوتِنَا، فَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ وَقَالُوا: لَا نَدْخُلُهَا وَهُمْ غُيَّبٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لَهُمْ فَمَعْنَى الْآيَةِ نَفْيُ الْحَرَجِ عَنِ الزَّمْنَى فِي أَكْلِهِمْ مِنْ بُيُوتِ أَقَارِبِهِمْ، أَوْ بُيُوتِ مَنْ يَدْفَعُ إِلَيْهِمُ الْمِفْتَاحَ إِذَا خَرَجَ لِلْغَزْوِ.
قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَجَلِّ مَا رُوِيَ فِي الْآيَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ مِنَ التَّوْقِيفِ. وَقِيلَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ مُؤَاكَلَةِ الأصحاء حذرا مِنَ اسْتِقْذَارِهِمْ إِيَّاهُمْ وَخَوْفًا مِنْ تَأَذِّيِهِمْ بِأَفْعَالِهِمْ فَنَزَلَتْ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ رَفَعَ الْحَرَجَ عَنِ الْأَعْمَى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّكْلِيفِ الَّذِي يُشْتَرَطُ فِيهِ البصر، وعن الأعرج
وَلَا عَلَيْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ رَفْعَ الْحَرَجِ عَنِ الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالْمَرِيضِ إِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ مُؤَاكَلَةِ الْأَصِحَّاءِ، أَوْ دُخُولِ بُيُوتِهِمْ فَيَكُونُ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ مُتَّصِلًا بِمَا قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ رَفْعُ الْحَرَجِ عَنْ أُولَئِكَ بِاعْتِبَارِ التَّكَالِيفِ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا وُجُودُ الْبَصَرِ وَعَدَمِ الْعَرَجِ وَعَدَمِ الْمَرَضِ، فَقَوْلُهُ: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ غَيْرِ مُتَّصِلٍ بِمَا قَبْلَهُ. وَمَعْنَى مِنْ بُيُوتِكُمْ الْبُيُوتُ الَّتِي فِيهَا مَتَاعُهُمْ وَأَهْلُهُمْ فَيَدْخُلُ بُيُوتَ الْأَوْلَادِ كَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، لِأَنَّهَا دَاخِلَةٌ فِي بُيُوتِهِمْ لِكَوْنِ بَيْتِ ابْنِ الرَّجُلِ بَيْتَهُ، فَلِذَا لَمْ يَذْكُرْ سُبْحَانَهُ بُيُوتَ الْأَوْلَادِ، وَذَكَرَ بُيُوتَ الْآبَاءِ، وَبُيُوتَ الْأُمَّهَاتِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَعَارَضَ بَعْضُهُمْ هَذَا فَقَالَ: هَذَا تَحَكُّمٌ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بَلِ الْأَوْلَى فِي الظَّاهِرِ أَنْ يَكُونَ الِابْنُ مُخَالِفًا لِهَؤُلَاءِ. وَيُجَابُ عَنْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ بِأَنَّ رُتْبَةَ الْأَوْلَادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآبَاءِ لَا تَنْقُصُ عَنْ رُتْبَةِ الْآبَاءِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَوْلَادِ، بَلْ لِلْآبَاءِ مَزِيدُ خُصُوصِيَّةٍ فِي أَمْوَالِ الْأَوْلَادِ لِحَدِيثِ «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» وَحَدِيثُ «وَلَدُ الرَّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ» ثُمَّ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا بُيُوتَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، بَلْ بُيُوتَ الْأَعْمَامِ وَالْعَمَّاتِ، بَلْ بُيُوتَ الْأَخْوَالِ وَالْخَالَاتِ، فَكَيْفَ يَنْفِي سُبْحَانَهُ الْحَرَجَ عَنِ الْأَكْلِ مِنْ بُيُوتِ هَؤُلَاءِ، وَلَا يَنْفِيِهِ عَنْ بُيُوتِ الْأَوْلَادِ؟ وَقَدْ قَيَّدَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ جَوَازَ الْأَكْلِ مِنْ بُيُوتِ هَؤُلَاءِ بِالْإِذْنِ مِنْهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُشْتَرَطُ الْإِذْنُ. قِيلَ: وَهَذَا إِذَا كَانَ الطَّعَامُ مَبْذُولًا، فَإِنْ كَانَ مُحَرَّزًا دُونَهُمْ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ أَكْلُهُ. ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَيِ: الْبُيُوتُ الَّتِي تَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِيهَا بِإِذْنِ أَرْبَابِهَا، وَذَلِكَ كَالْوُكَلَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْخُزَّانِ، فَإِنَّهُمْ يَمْلِكُونَ التَّصَرُّفَ فِي بُيُوتِ مَنْ أَذِنَ لَهُمْ بِدُخُولِ بَيْتِهِ وَإِعْطَائِهِمْ مَفَاتِحَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا بُيُوتُ الْمَمَالِيكِ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ مَلَكْتُمْ بِفَتْحِ الميم وتخفيف اللام. وقرأ سعيد ابن جُبَيْرٍ بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ مَعَ تَشْدِيدِهَا. وَقَرَأَ أَيْضًا «مَفَاتِيحَهُ» بِيَاءٍ بَيْنَ التَّاءِ وَالْحَاءِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ مَفاتِحَهُ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالْمَفَاتِحُ: جَمْعُ مَفْتَحٍ، وَالْمَفَاتِيحُ: جَمْعُ مِفْتَاحٍ أَوْ صَدِيقِكُمْ أَيْ: لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِ صَدِيقِكُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ قُرَابَةٌ، فَإِنَّ الصَّدِيقَ فِي الْغَالِبِ يَسْمَحُ لِصَدِيقِهِ بِذَلِكَ وَتَطِيبُ بِهِ نَفْسُهُ، وَالصَّدِيقُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:
دَعَوْنَ الْهَوَى ثُمَّ ارْتَمَيْنَ قُلُوبَنَا | بِأَسْهُمِ أَعْدَاءَ وَهُنَّ صِدِيقُ |
إِذَا مَا صَنَعْتِ الزَّادَ فَالْتَمِسِي لَهُ | أَكِيلًا فَإِنِّي لَسْتُ آكِلَهُ وَحْدِي |
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: بَلَغَنَا أَنْ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ وَامْرَأَتَهُ أَسْمَاءَ بِنْتَ مَرْشَدَةَ صَنَعَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ طَعَامًا، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا أَقْبَحَ هَذَا إِنَّهُ لَيَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا، وَهُمَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، غُلَامُهُمَا بِغَيْرِ إذن، فأنزل الله في ذلك يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يَعْنِي: الْعَبِيدَ وَالْإِمَاءَ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ قَالَ: مِنْ أَحْرَارِكُمْ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: كَانَ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ يُوَاقِعُوا نِسَاءَهُمْ فِي هَذِهِ السَّاعَاتِ لِيَغْتَسِلُوا، ثُمَّ يَخْرُجُوا إِلَى الصَّلَاةِ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يَأْمُرُوا الْمَمْلُوكِينَ وَالْغِلْمَانَ أَنْ لَا يَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ فِي تِلْكَ السَّاعَاتِ إِلَّا بِإِذْنٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ ثَعْلَبَةَ الْقُرَظِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُوِيدٍ قَالَ: «سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ، فَقَالَ: إِذَا أَنَا وَضَعْتُ ثِيَابِي بَعْدَ الظَّهِيرَةِ لَمْ يَلِجْ عَلَيَّ أَحَدٌ مِنَ الْخَدَمِ مِنَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ، وَلَا أَحَدٌ لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ مِنَ الْأَحْرَارِ إِلَّا بِإِذْنٍ، وَإِذَا وَضَعْتُ ثِيَابِي بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَمِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الصُّبْحِ». وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُوِيدٍ مِنْ قَوْلِهِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا ابْنُ سَعْدٍ عَنْ سُوِيدِ بْنِ النُّعْمَانِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِهَا أَكْثَرُ النَّاسِ: يَعْنِي آيَةَ الْإِذْنِ، وَإِنِّي لَآمُرُ جَارِيَتِي هَذِهِ، - لِجَارِيَةٍ قَصِيرَةٍ قَائِمَةٍ عَلَى رَأْسِهِ- أَنْ تَسْتَأْذِنَ عَلَيَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،
وَإِنِّي أُنْفِقُ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا مَعِي فِي الْبَيْتِ أَأَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ الْآيَةَ، فَلَمْ يُؤْمَرْ هَؤُلَاءِ بِالْإِذْنِ إِلَّا فِي هَؤُلَاءِ الْعَوْرَاتِ الثَّلَاثِ، قَالَ: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَالْإِذْنُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ خَلْقِ اللَّهِ أَجْمَعِينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: عَلَيْكُمْ إِذْنٌ عَلَى أُمَّهَاتِكُمْ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْهُ قَالَ: يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى أَبِيهِ وَأُمِّهِ وَأَخِيهِ وَأُخْتِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنْ جَابِرٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنْ رَجُلًا قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَأَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ، قَالَ: أستأذن عليها، قال: إني خادمها
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ نَحْوَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنْ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ أَيْضًا مُرْسَلٌ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ الْآيَةَ، فَنَسَخَ وَاسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكاحاً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنْهُ قَالَ: هِيَ الْمَرْأَةُ لَا جُنَاحَ عَلَيْهَا أَنْ تَجْلِسَ فِي بَيْتِهَا بِدِرْعٍ وَخِمَارٍ، وتضع عنها الْجِلْبَابَ مَا لَمْ تَتَبَرَّجْ بِمَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يقرأ «أن يضعن من ثِيَابَهُنَّ» وَيَقُولُ:
هُوَ الْجِلْبَابُ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابن عمر في الآية قال: تضع الجلباب وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ قَالَ: الْجِلْبَابُ وَالرِّدَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَمَّا نزلت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «١» قَالَتِ الْأَنْصَارُ: مَا بِالْمَدِينَةِ مَالٌ أَعَزُّ مِنَ الطعام كانوا يتحرّجون أن يأكلوا مَعَ الْأَعْمَى يَقُولُونَ إِنَّهُ لَا يُبْصِرُ مَوْضِعَ الطَّعَامِ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ الْأَكْلَ مَعَ الْأَعْرَجِ يَقُولُونَ الصَّحِيحُ يَسْبِقُهُ إِلَى الْمَكَانِ وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُزَاحِمَ، وَيَتَحَرَّجُونَ الْأَكْلَ مَعَ الْمَرِيضِ يَقُولُونَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْكُلَ مِثْلَ الصَّحِيحِ، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلُوا فِي بُيُوتِ أَقَارِبِهِمْ، فَنَزَلَتْ: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى يَعْنِي: فِي الْأَكْلِ مَعَ الْأَعْمَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أبي حاتم عن مقسم نحوه. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِالْأَعْمَى أَوِ الْأَعْرَجِ أَوِ الْمَرِيضِ إِلَى بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ بَيْتِ أَخِيهِ أَوْ بَيْتِ عَمِّهِ أَوْ بَيْتِ عَمَّتِهِ أَوْ بَيْتِ خَالِهِ أَوْ بَيْتِ خَالَتِهِ، فَكَانَ الزَّمْنَى يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ يَقُولُونَ: إِنَّمَا يَذْهَبُونَ بِنَا إِلَى بُيُوتِ غَيْرِهِمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ رُخْصَةً لَهُمْ. وَأَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ النَّجَّارِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرْغَبُونَ فِي النَّفِيرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَدْفَعُونَ مَفَاتِيحَهُمْ إِلَى أُمَنَائِهِمْ وَيَقُولُونَ لَهُمْ قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا احْتَجْتُمْ إِلَيْهِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ إِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَنَا أَنْ نَأْكُلَ إِنَّهُمْ أَذِنُوا لَنَا مِنْ غَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، وَإِنَّمَا نَحْنُ زَمْنَى، فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابن عباس قال: لما نزلت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ قَالَ الْمُسْلِمُونَ:
إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَأْكُلَ أَمْوَالَنَا بَيْنَنَا بِالْبَاطِلِ، وَالطَّعَامُ هُوَ أَفْضَلُ الْأَمْوَالِ، فَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِنَّا أَنْ يَأْكُلَ عِنْدَ أَحَدٍ فَكَفَّ النَّاسُ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ وَهُوَ الرَّجُلُ يُوَكِّلُ الرَّجُلَ بِضَيْعَتِهِ، وَالَّذِي رَخَّصَ اللَّهُ: أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ذَلِكَ الطَّعَامَ وَالتَّمْرَ وَيَشْرَبَ اللَّبَنَ، وَكَانُوا أَيْضًا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَأْكُلَ الرَّجُلُ الطَّعَامَ وَحْدَهُ حَتَّى يَكُونَ مَعَهُ غَيْرُهُ، فَرَخَّصَ اللَّهُ لَهُمْ فَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو داود، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : إنه لم يؤمن بها أكثر الناس : يعني آية الإذن، وإني لآمر جاريتي هذه، لجارية قصيرة قائمة على رأسه أن تستأذن عليّ. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال : ترك الناس ثلاث آيات لم يعملوا بهنّ :﴿ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم ﴾ والآية التي في سورة النساء ﴿ وَإِذَا حَضَرَ القسمة ﴾ [ النساء : ٨ ] الآية، والآية التي في الحجرات ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم ﴾ [ الحجرات : ١٣ ]. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن عنه أيضاً في الآية قال : إذا خلا الرجل بأهله بعد العشاء فلا يدخل عليه صبيّ، ولا خادم إلاّ بإذنه حتى يصلي الغداة، وإذا خلا بأهله عند الظهر فمثل ذلك، ورخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن، وهو قوله :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ﴾، فأما من بلغ الحلم، فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلاّ بإذن على كل حال، وهو قوله :﴿ وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾. وأخرج أبو داود، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن بسندٍ صحيح من طريق عكرمة عنه أيضاً : أن رجلاً سأله عن الاستئذان في الثلاث العورات التي أمر الله بها في القرآن، فقال ابن عباس : إن الله ستير يحب الستر، وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم، ولا حجاب في بيوتهم، فربما فجأ الرجل خادمه أو ولده، أو يتيم في حجره، وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله، ثم جاء الله بعد بالستور، فبسط عليهم في الرزق، فاتخذوا الستور، واتخذوا الحجاب، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به.
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب، وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر في قوله :﴿ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم ﴾ قال : هي على الذكور دون الإناث، ولا وجه لهذا التخصيص، فالاطلاع على العورات في هذه الأوقات كما يكرهه الإنسان من الذكور يكرهه من الإناث. وأخرج ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قالت : نزلت في النساء أن يستأذنّ علينا. وأخرج الحاكم وصححه عن عليّ في الآية قال : النساء فإن الرجال يستأذنون.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن السلمي في هذه الآية قال : هي في النساء خاصة الرجال يستأذنون على كل حال بالليل والنهار. وأخرج الفريابي، عن موسى بن أبي عائشة قال : سألت الشعبي عن هذه الآية أمنسوخة هي ؟ قال : لا. وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطاء : أنه سأل ابن عباس : أأستأذن على أختي ؟ قال : نعم، قلت : إنها في حجري، وإني أنفق عليها، وإنها معي في البيت أأستأذن عليها ؟ قال : نعم، إن الله يقول :﴿ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ ﴾ الآية، فلم يؤمر هؤلاء بالإذن إلاّ في هؤلاء العورات الثلاث، قال :﴿ وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ فالإذن واجب على كل خلق الله أجمعين. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، والبيهقي في سننه عن ابن مسعود قال : عليكم إذن على أمهاتكم. وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب عنه قال : يستأذن الرجل على أبيه وأمه وأخيه وأخته. وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب، عن جابر نحوه. وأخرج ابن جرير، والبيهقي في السنن عن عطاء بن يسار : أن رجلاً قال : يا رسول الله أأستأذن على أمي ؟ قال :«نعم»، قال : إني معها في البيت، قال :«استأذن عليها»، قال : إني خادمها أفأستأذن عليها كلما دخلت ؟ قال :«أتحبّ أن تراها عريانة» ؟ قال : لا، قال :«فاستأذن عليها» وهو مرسل. وأخرج ابن أبي شيبة نحوه عن زيد بن أسلم : أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً مرسل.
وأخرج أبو داود، والبيهقي في السنن عن ابن عباس :﴿ وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن ﴾ [ النور : ٣١ ] الآية، فنسخ، واستثنى من ذلك ﴿ والقواعد مِنَ النساء اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً ﴾ الآية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن عنه قال : هي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار، وتضع عليها الجلباب ما لم تتبرّج بما يكرهه الله، وهو قوله :﴿ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ ﴾. وأخرج أبو عبيد في فضائله، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف، والبيهقي عن ابن عباس : أنه كان يقرأ ﴿ أَن يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابَهُنّ ﴾َ ويقول : هو الجلباب. وأخرج سعيد ابن منصور وابن المنذر عن ابن عمر في الآية قال : تضع الجلباب. وأخرج عبد الرزاق، والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في السنن عن ابن مسعود :﴿ أن يضعن ثيابهنّ ﴾ قال : الجلباب والرداء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت :﴿ يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل ﴾ [ النساء : ٢٩ ] قالت الأنصار : ما بالمدينة مال أعزّ من الطعام كانوا يتحرّجون أن يأكلوا مع الأعمى يقولون : إنه لا يبصر موضع الطعام، وكانوا يتحرّجون الأكل مع الأعرج يقولون : الصحيح يسبقه إلى المكان، ولا يستطيع أن يزاحم، ويتحرّجون الأكل مع المريض يقولون لا يستطيع أن يأكل مثل الصحيح، وكانوا يتحرّجون أن يأكلوا في بيوت أقاربهم، فنزلت ﴿ لَّيْسَ عَلَى الأعمى ﴾ يعني في الأكل مع الأعمى. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقسم نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد قال : كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج أو المريض إلى بيت أبيه أو بيت أخيه أو بيت عمه أو بيت عمته أو بيت خاله أو بيت خالته، فكان الزمنى يتحرّجون من ذلك يقولون : إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم، فنزلت هذه الآية رخصة لهم. وأخرج البزار وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن النجار عن عائشة قالت : كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدفعون مفاتيحهم إلى أمنائهم، ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما احتجتم إليه، فكانوا يقولون : إنه لا يحلّ لنا أن نأكل إنهم أذنوا لنا من غير طيب نفس، وإنما نحن زمنى، فأنزل الله :﴿ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ ﴾ إلى قوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ ﴾.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال : لما نزلت ﴿ يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل ﴾ [ النساء : ٢٩ ] قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام هو أفضل الأموال، فلا يحلّ لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكفّ الناس عن ذلك، فأنزل الله :﴿ لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ ﴾ إلى قوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ ﴾، وهو الرجل يوكل الرجل بضيعته، والذي رخص الله أن يأكل من ذلك الطعام والتمر ويشرب اللبن، وكانوا أيضاً يتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره، فرخص الله لهم فقال :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً ﴾. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك قال : كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى، ولا مريض، ولا أعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام، فنزلت رخصة في مؤاكلتهم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود في مراسيله، وابن جرير والبيهقي عن الزهري أنه سئل عن قوله :﴿ لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ ﴾ ما بال الأعمى، والأعرج، والمريض ذكروا هنا ؟ فقال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم يقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، وكانوا يتحرّجون من ذلك يقولون : لا ندخلها، وهم غيب، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال : كان هذا الحيّ من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أن عليه مخزاة أن يأكل وحده في الجاهلية، حتى إن كان الرجل يسوق الذود الحفل، وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه، فأنزل الله :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً ﴾. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة وأبي صالح قالا : كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم، فنزلت رخصة لهم. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس في الآية، قال : خرج الحارث غازياً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف على أهله خالد بن يزيد، فحرج أن يأكل من طعامه، وكان مجهوداً، فنزلت. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾ قال : إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته، ثم أكلت من طعامه بغير إذنه لم يكن بذلك بأس. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله :﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾ قال : هذا شيء قد انقطع، إنما كان هذا في أوّله ولم يكن لهم أبواب، وكانت الستور مرخاة، فربما دخل الرجل البيت، وليس فيه أحد، فربما وجد الطعام وهو جائع فسوّغه الله أن يأكله. وقال : ذهب ذلك اليوم البيوت فيها أهلها، فإذا خرجوا أغلقوا فقد ذهب ذلك.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله :﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ ﴾ يقول :
قال الزجاج : هن اللاتي قعدن عن التزويج، وهو معنى قوله :﴿ اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً ﴾ أي لا يطمعن فيه لكبرهنّ. وقال أبو عبيدة : اللاتي قعدن عن الولد، وليس هذا بمستقيم، لأن المرأة تقعد عن الولد، وفيها مستمتع.
ثم ذكر سبحانه حكم القواعد، فقال :﴿ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ ﴾ أي الثياب التي تكون على ظاهر البدن كالجلباب ونحوه، لا الثياب التي على العورة الخاصة، وإنما جاز لهنّ ذلك لانصراف الأنفس عنهنّ إذ لا رغبة للرجال فيهنّ، فأباح الله سبحانه لهنّ ما لم يبحه لغيرهنّ، ثم استثنى حالة من حالاتهنّ، فقال :﴿ غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ ﴾ أي غير مظهرات للزينة التي أمرن بإخفائها في قوله :﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ ﴾ [ النور : ٣١ ]، والمعنى : من غير أن يردن بوضع الجلابيب إظهار زينتهنّ، ولا متعرّضات بالتزين لينظر إليهنّ الرجال. والتبرّج : التكشف والظهور للعيون، ومنه ﴿ بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ﴾ [ النساء : ٧٨ ] وبروج السماء، ومنه قولهم : سفينة بارجة أي : لا غطاء عليها ﴿ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ ﴾ أي وأن يتركن وضع الثياب فهو خير لهنّ من وضعها. وقرأ عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وابن عباس :﴿ أن يضعن من ثيابهن ﴾ بزيادة من، وقرأ ابن مسعود :﴿ وأن يعففن ﴾ بغير سين ﴿ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ كثير السماع والعلم، أو بليغهما.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو داود، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : إنه لم يؤمن بها أكثر الناس : يعني آية الإذن، وإني لآمر جاريتي هذه، لجارية قصيرة قائمة على رأسه أن تستأذن عليّ. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال : ترك الناس ثلاث آيات لم يعملوا بهنّ :﴿ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم ﴾ والآية التي في سورة النساء ﴿ وَإِذَا حَضَرَ القسمة ﴾ [ النساء : ٨ ] الآية، والآية التي في الحجرات ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم ﴾ [ الحجرات : ١٣ ]. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن عنه أيضاً في الآية قال : إذا خلا الرجل بأهله بعد العشاء فلا يدخل عليه صبيّ، ولا خادم إلاّ بإذنه حتى يصلي الغداة، وإذا خلا بأهله عند الظهر فمثل ذلك، ورخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن، وهو قوله :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ﴾، فأما من بلغ الحلم، فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلاّ بإذن على كل حال، وهو قوله :﴿ وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾. وأخرج أبو داود، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن بسندٍ صحيح من طريق عكرمة عنه أيضاً : أن رجلاً سأله عن الاستئذان في الثلاث العورات التي أمر الله بها في القرآن، فقال ابن عباس : إن الله ستير يحب الستر، وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم، ولا حجاب في بيوتهم، فربما فجأ الرجل خادمه أو ولده، أو يتيم في حجره، وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله، ثم جاء الله بعد بالستور، فبسط عليهم في الرزق، فاتخذوا الستور، واتخذوا الحجاب، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به.
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب، وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر في قوله :﴿ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم ﴾ قال : هي على الذكور دون الإناث، ولا وجه لهذا التخصيص، فالاطلاع على العورات في هذه الأوقات كما يكرهه الإنسان من الذكور يكرهه من الإناث. وأخرج ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قالت : نزلت في النساء أن يستأذنّ علينا. وأخرج الحاكم وصححه عن عليّ في الآية قال : النساء فإن الرجال يستأذنون.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن السلمي في هذه الآية قال : هي في النساء خاصة الرجال يستأذنون على كل حال بالليل والنهار. وأخرج الفريابي، عن موسى بن أبي عائشة قال : سألت الشعبي عن هذه الآية أمنسوخة هي ؟ قال : لا. وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطاء : أنه سأل ابن عباس : أأستأذن على أختي ؟ قال : نعم، قلت : إنها في حجري، وإني أنفق عليها، وإنها معي في البيت أأستأذن عليها ؟ قال : نعم، إن الله يقول :﴿ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ ﴾ الآية، فلم يؤمر هؤلاء بالإذن إلاّ في هؤلاء العورات الثلاث، قال :﴿ وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ فالإذن واجب على كل خلق الله أجمعين. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، والبيهقي في سننه عن ابن مسعود قال : عليكم إذن على أمهاتكم. وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب عنه قال : يستأذن الرجل على أبيه وأمه وأخيه وأخته. وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب، عن جابر نحوه. وأخرج ابن جرير، والبيهقي في السنن عن عطاء بن يسار : أن رجلاً قال : يا رسول الله أأستأذن على أمي ؟ قال :«نعم»، قال : إني معها في البيت، قال :«استأذن عليها»، قال : إني خادمها أفأستأذن عليها كلما دخلت ؟ قال :«أتحبّ أن تراها عريانة» ؟ قال : لا، قال :«فاستأذن عليها» وهو مرسل. وأخرج ابن أبي شيبة نحوه عن زيد بن أسلم : أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً مرسل.
وأخرج أبو داود، والبيهقي في السنن عن ابن عباس :﴿ وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن ﴾ [ النور : ٣١ ] الآية، فنسخ، واستثنى من ذلك ﴿ والقواعد مِنَ النساء اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً ﴾ الآية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن عنه قال : هي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار، وتضع عليها الجلباب ما لم تتبرّج بما يكرهه الله، وهو قوله :﴿ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ ﴾. وأخرج أبو عبيد في فضائله، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف، والبيهقي عن ابن عباس : أنه كان يقرأ ﴿ أَن يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابَهُنّ ﴾َ ويقول : هو الجلباب. وأخرج سعيد ابن منصور وابن المنذر عن ابن عمر في الآية قال : تضع الجلباب. وأخرج عبد الرزاق، والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في السنن عن ابن مسعود :﴿ أن يضعن ثيابهنّ ﴾ قال : الجلباب والرداء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت :﴿ يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل ﴾ [ النساء : ٢٩ ] قالت الأنصار : ما بالمدينة مال أعزّ من الطعام كانوا يتحرّجون أن يأكلوا مع الأعمى يقولون : إنه لا يبصر موضع الطعام، وكانوا يتحرّجون الأكل مع الأعرج يقولون : الصحيح يسبقه إلى المكان، ولا يستطيع أن يزاحم، ويتحرّجون الأكل مع المريض يقولون لا يستطيع أن يأكل مثل الصحيح، وكانوا يتحرّجون أن يأكلوا في بيوت أقاربهم، فنزلت ﴿ لَّيْسَ عَلَى الأعمى ﴾ يعني في الأكل مع الأعمى. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقسم نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد قال : كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج أو المريض إلى بيت أبيه أو بيت أخيه أو بيت عمه أو بيت عمته أو بيت خاله أو بيت خالته، فكان الزمنى يتحرّجون من ذلك يقولون : إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم، فنزلت هذه الآية رخصة لهم. وأخرج البزار وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن النجار عن عائشة قالت : كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدفعون مفاتيحهم إلى أمنائهم، ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما احتجتم إليه، فكانوا يقولون : إنه لا يحلّ لنا أن نأكل إنهم أذنوا لنا من غير طيب نفس، وإنما نحن زمنى، فأنزل الله :﴿ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ ﴾ إلى قوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ ﴾.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال : لما نزلت ﴿ يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل ﴾ [ النساء : ٢٩ ] قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام هو أفضل الأموال، فلا يحلّ لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكفّ الناس عن ذلك، فأنزل الله :﴿ لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ ﴾ إلى قوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ ﴾، وهو الرجل يوكل الرجل بضيعته، والذي رخص الله أن يأكل من ذلك الطعام والتمر ويشرب اللبن، وكانوا أيضاً يتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره، فرخص الله لهم فقال :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً ﴾. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك قال : كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى، ولا مريض، ولا أعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام، فنزلت رخصة في مؤاكلتهم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود في مراسيله، وابن جرير والبيهقي عن الزهري أنه سئل عن قوله :﴿ لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ ﴾ ما بال الأعمى، والأعرج، والمريض ذكروا هنا ؟ فقال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم يقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، وكانوا يتحرّجون من ذلك يقولون : لا ندخلها، وهم غيب، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال : كان هذا الحيّ من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أن عليه مخزاة أن يأكل وحده في الجاهلية، حتى إن كان الرجل يسوق الذود الحفل، وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه، فأنزل الله :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً ﴾. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة وأبي صالح قالا : كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم، فنزلت رخصة لهم. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس في الآية، قال : خرج الحارث غازياً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف على أهله خالد بن يزيد، فحرج أن يأكل من طعامه، وكان مجهوداً، فنزلت. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾ قال : إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته، ثم أكلت من طعامه بغير إذنه لم يكن بذلك بأس. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله :﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾ قال : هذا شيء قد انقطع، إنما كان هذا في أوّله ولم يكن لهم أبواب، وكانت الستور مرخاة، فربما دخل الرجل البيت، وليس فيه أحد، فربما وجد الطعام وهو جائع فسوّغه الله أن يأكله. وقال : ذهب ذلك اليوم البيوت فيها أهلها، فإذا خرجوا أغلقوا فقد ذهب ذلك.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله :﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ ﴾ يقول :
ومعنى ﴿ مِن بُيُوتِكُمْ ﴾ : البيوت التي فيها متاعهم وأهلهم، فيدخل بيوت الأولاد، كذا قال المفسرون، لأنها داخلة في بيوتهم لكون بيت ابن الرجل بيته، فلذا لم يذكر سبحانه بيوت الأولاد، وذكر بيوت الآباء، وبيوت الأمهات، ومن بعدهم. قال النحاس : وعارض بعضهم هذا، فقال : هذا تحكم على كتاب الله سبحانه بل الأولى في الظاهر أن يكون الابن مخالفاً لهؤلاء. ويجاب عن هذه المعارضة بأن رتبة الأولاد بالنسبة إلى الآباء لا تنقص عن رتبة الآباء بالنسبة إلى الأولاد، بل للآباء مزيد خصوصية في أموال الأولاد لحديث :«أنت ومالك لأبيك »، وحديث :«ولد الرجل من كسبه »، ثم قد ذكر الله سبحانه هاهنا بيوت الإخوة والأخوات، بل بيوت الأعمام والعمات، بل بيوت الأخوال والخالات، فكيف ينفي سبحانه الحرج عن الأكل من بيوت هؤلاء، ولا ينفيه عن بيوت الأولاد ؟ وقد قيد بعض العلماء جواز الأكل من بيوت هؤلاء بالإذن منهم. وقال آخرون : لا يشترط الإذن. قيل : وهذا إذا كان الطعام مبذولاً، فإن كان محرزاً دونهم لم يجز لهم أكله. ثم قال سبحانه :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ ﴾ أي البيوت التي تملكون التصرّف فيها بإذن أربابها، وذلك كالوكلاء والعبيد والخزّان، فإنهم يملكون التصرّف في بيوت من أذن لهم بدخول بيته، وإعطائهم مفاتحه. وقيل المراد بها بيوت المماليك. قرأ الجمهور ﴿ ملكتم ﴾ بفتح الميم وتخفيف اللام. وقرأ سعيد بن جبير بضم الميم وكسر اللام مع تشديدها. وقرأ أيضاً ﴿ مفاتيحه ﴾ بياء بين التاء والحاء. وقرأ قتادة ؛ ﴿ مفاتحه ﴾ على الإفراد، والمفاتح جمع مفتح، والمفاتيح جمع مفتاح ﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾ أي لا جناح عليكم أن تأكلوا من بيوت صديقكم، وإن لم يكن بينكم وبينه قرابة، فإن الصديق في الغالب يسمح لصديقه بذلك وتطيب به نفسه، والصديق يطلق على الواحد والجمع، ومنه قول جرير :
دعون الهوى ثم ارتمين قلوبنا | بأسهم أعداء وهنّ صديق |
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له | أكيلاً فإني لست آكله وحدي |
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وأبو داود، وابن مردويه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : إنه لم يؤمن بها أكثر الناس : يعني آية الإذن، وإني لآمر جاريتي هذه، لجارية قصيرة قائمة على رأسه أن تستأذن عليّ. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، قال : ترك الناس ثلاث آيات لم يعملوا بهنّ :﴿ ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم ﴾ والآية التي في سورة النساء ﴿ وَإِذَا حَضَرَ القسمة ﴾ [ النساء : ٨ ] الآية، والآية التي في الحجرات ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أتقاكم ﴾ [ الحجرات : ١٣ ]. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن عنه أيضاً في الآية قال : إذا خلا الرجل بأهله بعد العشاء فلا يدخل عليه صبيّ، ولا خادم إلاّ بإذنه حتى يصلي الغداة، وإذا خلا بأهله عند الظهر فمثل ذلك، ورخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن، وهو قوله :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ﴾، فأما من بلغ الحلم، فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلاّ بإذن على كل حال، وهو قوله :﴿ وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾. وأخرج أبو داود، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في السنن بسندٍ صحيح من طريق عكرمة عنه أيضاً : أن رجلاً سأله عن الاستئذان في الثلاث العورات التي أمر الله بها في القرآن، فقال ابن عباس : إن الله ستير يحب الستر، وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم، ولا حجاب في بيوتهم، فربما فجأ الرجل خادمه أو ولده، أو يتيم في حجره، وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله، ثم جاء الله بعد بالستور، فبسط عليهم في الرزق، فاتخذوا الستور، واتخذوا الحجاب، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به.
وأخرج ابن أبي شيبة والبخاري في الأدب، وابن جرير وابن المنذر عن ابن عمر في قوله :﴿ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم ﴾ قال : هي على الذكور دون الإناث، ولا وجه لهذا التخصيص، فالاطلاع على العورات في هذه الأوقات كما يكرهه الإنسان من الذكور يكرهه من الإناث. وأخرج ابن مردويه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الآية قالت : نزلت في النساء أن يستأذنّ علينا. وأخرج الحاكم وصححه عن عليّ في الآية قال : النساء فإن الرجال يستأذنون.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن السلمي في هذه الآية قال : هي في النساء خاصة الرجال يستأذنون على كل حال بالليل والنهار. وأخرج الفريابي، عن موسى بن أبي عائشة قال : سألت الشعبي عن هذه الآية أمنسوخة هي ؟ قال : لا. وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن عطاء : أنه سأل ابن عباس : أأستأذن على أختي ؟ قال : نعم، قلت : إنها في حجري، وإني أنفق عليها، وإنها معي في البيت أأستأذن عليها ؟ قال : نعم، إن الله يقول :﴿ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ ﴾ الآية، فلم يؤمر هؤلاء بالإذن إلاّ في هؤلاء العورات الثلاث، قال :﴿ وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ فالإذن واجب على كل خلق الله أجمعين. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، والبيهقي في سننه عن ابن مسعود قال : عليكم إذن على أمهاتكم. وأخرج سعيد بن منصور، والبخاري في الأدب عنه قال : يستأذن الرجل على أبيه وأمه وأخيه وأخته. وأخرج ابن أبي شيبة، والبخاري في الأدب، عن جابر نحوه. وأخرج ابن جرير، والبيهقي في السنن عن عطاء بن يسار : أن رجلاً قال : يا رسول الله أأستأذن على أمي ؟ قال :«نعم»، قال : إني معها في البيت، قال :«استأذن عليها»، قال : إني خادمها أفأستأذن عليها كلما دخلت ؟ قال :«أتحبّ أن تراها عريانة» ؟ قال : لا، قال :«فاستأذن عليها» وهو مرسل. وأخرج ابن أبي شيبة نحوه عن زيد بن أسلم : أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أيضاً مرسل.
وأخرج أبو داود، والبيهقي في السنن عن ابن عباس :﴿ وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن ﴾ [ النور : ٣١ ] الآية، فنسخ، واستثنى من ذلك ﴿ والقواعد مِنَ النساء اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً ﴾ الآية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن عنه قال : هي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار، وتضع عليها الجلباب ما لم تتبرّج بما يكرهه الله، وهو قوله :﴿ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ متبرجات بِزِينَةٍ ﴾. وأخرج أبو عبيد في فضائله، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف، والبيهقي عن ابن عباس : أنه كان يقرأ ﴿ أَن يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابَهُنّ ﴾َ ويقول : هو الجلباب. وأخرج سعيد ابن منصور وابن المنذر عن ابن عمر في الآية قال : تضع الجلباب. وأخرج عبد الرزاق، والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في السنن عن ابن مسعود :﴿ أن يضعن ثيابهنّ ﴾ قال : الجلباب والرداء.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت :﴿ يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل ﴾ [ النساء : ٢٩ ] قالت الأنصار : ما بالمدينة مال أعزّ من الطعام كانوا يتحرّجون أن يأكلوا مع الأعمى يقولون : إنه لا يبصر موضع الطعام، وكانوا يتحرّجون الأكل مع الأعرج يقولون : الصحيح يسبقه إلى المكان، ولا يستطيع أن يزاحم، ويتحرّجون الأكل مع المريض يقولون لا يستطيع أن يأكل مثل الصحيح، وكانوا يتحرّجون أن يأكلوا في بيوت أقاربهم، فنزلت ﴿ لَّيْسَ عَلَى الأعمى ﴾ يعني في الأكل مع الأعمى. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مقسم نحوه. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد قال : كان الرجل يذهب بالأعمى أو الأعرج أو المريض إلى بيت أبيه أو بيت أخيه أو بيت عمه أو بيت عمته أو بيت خاله أو بيت خالته، فكان الزمنى يتحرّجون من ذلك يقولون : إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم، فنزلت هذه الآية رخصة لهم. وأخرج البزار وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن النجار عن عائشة قالت : كان المسلمون يرغبون في النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدفعون مفاتيحهم إلى أمنائهم، ويقولون لهم : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما احتجتم إليه، فكانوا يقولون : إنه لا يحلّ لنا أن نأكل إنهم أذنوا لنا من غير طيب نفس، وإنما نحن زمنى، فأنزل الله :﴿ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ ﴾ إلى قوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ ﴾.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس قال : لما نزلت ﴿ يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل ﴾ [ النساء : ٢٩ ] قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، والطعام هو أفضل الأموال، فلا يحلّ لأحد منا أن يأكل عند أحد، فكفّ الناس عن ذلك، فأنزل الله :﴿ لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ ﴾ إلى قوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ ﴾، وهو الرجل يوكل الرجل بضيعته، والذي رخص الله أن يأكل من ذلك الطعام والتمر ويشرب اللبن، وكانوا أيضاً يتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره، فرخص الله لهم فقال :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً ﴾. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك قال : كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى، ولا مريض، ولا أعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام، فنزلت رخصة في مؤاكلتهم. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وأبو داود في مراسيله، وابن جرير والبيهقي عن الزهري أنه سئل عن قوله :﴿ لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ ﴾ ما بال الأعمى، والأعرج، والمريض ذكروا هنا ؟ فقال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم، وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم يقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، وكانوا يتحرّجون من ذلك يقولون : لا ندخلها، وهم غيب، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال : كان هذا الحيّ من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أن عليه مخزاة أن يأكل وحده في الجاهلية، حتى إن كان الرجل يسوق الذود الحفل، وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه، فأنزل الله :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً ﴾. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن عكرمة وأبي صالح قالا : كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم، فنزلت رخصة لهم. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس في الآية، قال : خرج الحارث غازياً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلف على أهله خالد بن يزيد، فحرج أن يأكل من طعامه، وكان مجهوداً، فنزلت. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله :﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾ قال : إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته، ثم أكلت من طعامه بغير إذنه لم يكن بذلك بأس. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله :﴿ أَوْ صَدِيقِكُمْ ﴾ قال : هذا شيء قد انقطع، إنما كان هذا في أوّله ولم يكن لهم أبواب، وكانت الستور مرخاة، فربما دخل الرجل البيت، وليس فيه أحد، فربما وجد الطعام وهو جائع فسوّغه الله أن يأكله. وقال : ذهب ذلك اليوم البيوت فيها أهلها، فإذا خرجوا أغلقوا فقد ذهب ذلك.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله :﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ على أَنفُسِكُمْ ﴾ يقول :
أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا إِذَا غَزَوْا خَلَّفُوا زَمْنَاهُمْ، وَكَانُوا يَدْفَعُونَ إِلَيْهِمْ مَفَاتِيحَ أَبْوَابِهِمْ، يَقُولُونَ قَدْ أَحْلَلْنَا لَكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِمَّا فِي بُيُوتِنَا، وَكَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ ذَلِكَ يَقُولُونَ لَا نَدْخُلُهَا وَهُمْ غُيَّبٌ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ رُخْصَةً لَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ بَنِيَ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ يَرَى أَحَدُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِ مَخْزَاةَ أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ يَسُوقُ الزَّوْدَ الْحَفْلَ وَهُوَ جَائِعٌ حَتَّى يَجِدَ مَنْ يُؤَاكِلُهُ وَيُشَارِبُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ وَأَبِي صَالِحٍ قالا: كان الْأَنْصَارُ إِذَا نَزَلَ بِهِمُ الضَّيْفُ لَا يَأْكُلُونَ حَتَّى يَأْكُلَ الضَّيْفُ مَعَهُمْ، فَنَزَلَتْ رُخْصَةً لَهُمْ. وَأَخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ، قَالَ خَرَجَ الْحَارِثُ غَازِيًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَلَّفَ عَلَى أَهْلِهِ خَالِدَ بْنَ يَزِيدَ، فَحَرِجَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِهِ، وَكَانَ مَجْهُودًا فَنَزَلَتْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: أَوْ صَدِيقِكُمْ قَالَ: إِذَا دَخَلْتَ بَيْتَ صَدِيقِكَ مِنْ غَيْرِ مُؤَامَرَتِهِ، ثُمَّ أَكَلْتَ مِنْ طَعَامِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: أَوْ صَدِيقِكُمْ قَالَ: هَذَا شَيْءٌ قَدِ انْقَطَعَ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَبْوَابٌ، وَكَانَتِ السُّتُورُ مُرْخَاةً، فَرُبَّمَا دَخَلَ الرَّجُلُ الْبَيْتَ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ، فَرُبَّمَا وَجَدَ الطَّعَامَ وَهُوَ جَائِعٌ فَسَوَّغَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْكُلَهُ. وَقَالَ: ذَهَبَ ذَلِكَ، الْيَوْمَ الْبُيُوتُ فِيهَا أَهْلُهَا، فَإِذَا خَرَجُوا أَغْلَقُوا، فَقَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ يَقُولُ: إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَكُمْ فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَهُوَ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ اسْمُ اللَّهِ، وَهُوَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمَ عَلَيْهِمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ قَالَ: هُوَ الْمَسْجِدُ إِذَا دَخَلْتَهُ فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ غَيْرَ الْمَسْكُونِ، أَوِ الْمَسْجِدَ فَلْيَقُلْ:
السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
يَا مُحَمَّدُ بِتَجَهُّمٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَهُمْ أَنْ يُشَرِّفُوهُ وَيُفَخِّمُوهُ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: لَا تَتَعَرَّضُوا لِدُعَاءِ الرَّسُولِ عَلَيْكُمْ بِإِسْخَاطِهِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُ مُوجَبَةٌ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً التَّسَلُّلُ: الْخُرُوجُ فِي خُفْيَةٍ، يُقَالُ تَسَلَّلَ فُلَانٌ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِهِ: إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَاللِّوَاذُ مِنَ الْمُلَاوَذَةِ، وَهُوَ أَنْ تَسْتَتِرَ بِشَيْءٍ، مَخَافَةَ مَنْ يَرَاكَ، وَأَصْلُهُ أَنْ يلوذ هذا بذاك وَذَاكَ بِهَذَا، وَاللَّوْذُ مَا يُطِيفُ بِالْجَبَلِ، وَقِيلَ: اللِّوَاذُ الزَّوَغَانُ مِنْ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ فِي خُفْيَةٍ. وَانْتِصَابُ لِوَاذًا عَلَى الْحَالِ، أَيْ: مُتَلَاوِذِينَ، يَلُوذُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَيَنْضَمُّ إِلَيْهِ، وَقِيلَ:
وقريش تجول منّا لواذا | لم تحافظ وخفّ مِنْهَا الْحُلُومُ |
وَالْمَعْنَى: فَلْيَحْذَرِ الْمُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، أَوْ أَمْرِ رَسُولِهِ، أَوْ أَمْرِهِمَا جَمِيعًا، إِصَابَةَ فِتْنَةٍ لَهُمْ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ: فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي حَذَّرَهُمْ مِنْ إِصَابَتِهَا لَهُمْ، هِيَ فِي الدُّنْيَا، وَكَلِمَةُ أَوْ لِمَنْعِ الْخُلُوِّ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: احْتَجَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ بِهَذِهِ الْآيَةِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ حَذَّرَ مِنْ مُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، وَتَوَعَّدَ بِالْعِقَابِ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ الْآيَةَ، فَيَجِبُ امْتِثَالُ أَمْرِهِ وَتَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ، وَالْفِتْنَةُ هُنَا: غَيْرُ مُقَيَّدَةٍ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْفِتَنِ، وقيل: هي القتل، وقيل: الزلازل، وقيل: تسلط سلطان جائر عليهم، وَقِيلَ: الطَّبْعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: عَنْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ زَائِدَةٌ. وَقَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ:
لَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ، بَلْ هِيَ بِمَعْنَى بَعْدَ، كَقَوْلِهِ: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «١» أَيْ: بَعْدَ أَمْرِ رَبِّهِ، وَالْأَوْلَى: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّضْمِينِ أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ بِأَسْرِهَا، فَهِيَ مِلْكُهُ: قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَيُّهَا الْعِبَادُ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا، فَيُجَازِيكُمْ بِحَسَبِ ذَلِكَ، وَيَعْلَمُ هَاهُنَا: بِمَعْنَى عَلِمَ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ، أَيْ: يَعْلَمُ ما أنتم عليه ويعلم يوم ترجعون إِلَيْهِ فَيُجَازِيكُمْ فِيهِ بِمَا عَمِلْتُمْ، وَتَعْلِيقُ عِلْمِهِ سبحانه بيوم يَرْجِعُونَ لَا بِنَفْسِ رَجْعِهِمْ لِزِيَادَةِ تَحْقِيقِ عِلْمِهِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِوَقْتِ وُقُوعِ الشَّيْءِ، يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ بِوُقُوعِهِ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَيْ: يُخْبِرُهُمْ بِمَا عَمِلُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا مُخَالَفَةُ الْأَمْرِ، وَالظَّاهِرُ مِنَ السِّيَاقِ أَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ لِلْمُنَافِقِينَ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عُرْوَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَا: لَمَّا أَقْبَلَتْ قُرَيْشٌ عَامَ الْأَحْزَابِ نَزَلُوا بِمَجْمَعِ الْأَسْيَالِ مِنْ رَوْمَةِ: بِئْرٍ بِالْمَدِينَةِ، قَائِدُهَا أَبُو سُفْيَانَ، وَأَقْبَلَتْ غَطَفَانُ حَتَّى نَزَلُوا بِنَقَمَى إِلَى جَانِبِ أُحُدٍ، وَجَاءَ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وَسَلَّمَ الْخَبَرُ، فَضَرَبَ الْخَنْدَقَ عَلَى الْمَدِينَةِ وَعَمِلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، وَأَبْطَأَ رِجَالٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَجَعَلُوا يُورُّونَ بِالضَّعِيفِ مِنَ الْعَمَلِ، فَيَتَسَلَّلُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ عَنْ مُقَاتِلٍ، قَالَ: كَانَ لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ لِرُعَافٍ أَوْ إِحْدَاثٍ حَتَّى يستأذن النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يُشِيرُ إِلَيْهِ بِأُصْبُعِهِ الَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ، فيأذن له النبي صلّى الله عليه وَسَلَّمَ يُشِيرُ إِلَيْهِ بِيَدِهِ، وَكَانَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مَنْ يَثْقُلُ عَلَيْهِ الْخُطْبَةُ وَالْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَ إِذَا اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَامَ الْمُنَافِقُ إِلَى جَنْبِهِ يَسْتَتِرُ بِهِ حَتَّى يَخْرُجَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِهِ وَالطَّبَرَانِيُّ- قَالَ السُّيُوطِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ- عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي خَاتِمَةِ سُورَةِ النُّورِ- وَهُوَ جَاعِلٌ أُصْبُعَيْهِ تَحْتَ عَيْنَيْهِ- يقول: بكل شيء بصير.
وقال قتادة : أمرهم أن يشرّفوه ويفخموه. وقيل المعنى : لا تتعرّضوا لدعاء الرسول عليكم بإسخاطه، فإن دعوته موجبة ﴿ قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً ﴾ التسلل : الخروج في خفية، يقال : تسلل فلان من بين أصحابه : إذا خرج من بينهم، واللواذ من الملاوذة، وهو : أن تستتر بشيء مخافة من يراك، وأصله أن يلوذ هذا بذاك، وذاك بهذا، واللوذ ما يطيف بالجبل، وقيل : اللواذ : الزوغان من شيء إلى شيء في خفية. وانتصاب لواذاً على الحال : أي متلاوذين يلوذ بعضهم ببعض، وينضمّ إليه، وقيل : هو منتصب على المصدرية لفعل مضمر هو الحال في الحقيقة أي يلوذون لواذاً. وقرأ زيد بن قطيب :﴿ لواذا ﴾ً بفتح اللام. وفي الآية بيان ما كان يقع من المنافقين، فإنهم كانوا يتسللون عن صلاة الجمعة متلاوذين يضم بعضهم إلى بعض استتاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان يوم الجمعة أثقل يوم على المنافقين لما يرون من الاجتماع للصلاة، والخطبة، فكانوا يفرّون عن الحضور، ويتسللون في خفية، ويستتر بعضهم ببعض، وينضم إليه. وقيل : اللواذ : الفرار من الجهاد، وبه قال الحسن، ومنه قول حسان :
وقريش تلوذ منكم لواذا | لم تحافظ وخفّ منها الحلوم |
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عنه في قوله :﴿ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول ﴾ الآية قال : يعني كدعاء أحدكم إذا دعا أخاه باسمه، ولكن وقروه وقولوا له : يا رسول الله يا نبيّ الله. وأخرج عبد الغني بن سعيد في تفسيره، وأبو نعيم في الدلائل عنه أيضاً في الآية قال : لا تصيحوا به من بعيدٍ : يا أبا القاسم، ولكن كما قال الله في الحجرات :﴿ إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله ﴾ [ الحجرات : ٣ ]. وأخرج أبو داود في مراسيله عن مقاتل، قال : كان لا يخرج أحد لرعاف، أو أحداث حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بإصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بيده، وكان من المنافقين من يثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد، فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به حتى يخرج. فأنزل الله :﴿ الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً ﴾ الآية. وأخرج أبو عبيد في فضائله، والطبراني، قال السيوطي بسندٍ حسن، عن عقبة بن عامر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ هذه الآية في خاتمة سورة النور، وهو جاعل على أصبعيه تحت عينيه يقول :«بكل شيء بصير».
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عنه في قوله :﴿ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاء الرسول ﴾ الآية قال : يعني كدعاء أحدكم إذا دعا أخاه باسمه، ولكن وقروه وقولوا له : يا رسول الله يا نبيّ الله. وأخرج عبد الغني بن سعيد في تفسيره، وأبو نعيم في الدلائل عنه أيضاً في الآية قال : لا تصيحوا به من بعيدٍ : يا أبا القاسم، ولكن كما قال الله في الحجرات :﴿ إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله ﴾ [ الحجرات : ٣ ]. وأخرج أبو داود في مراسيله عن مقاتل، قال : كان لا يخرج أحد لرعاف، أو أحداث حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بإصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إليه بيده، وكان من المنافقين من يثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد، فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستتر به حتى يخرج. فأنزل الله :﴿ الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً ﴾ الآية. وأخرج أبو عبيد في فضائله، والطبراني، قال السيوطي بسندٍ حسن، عن عقبة بن عامر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ هذه الآية في خاتمة سورة النور، وهو جاعل على أصبعيه تحت عينيه يقول :«بكل شيء بصير».