ﰡ
مدنية وآياتها ٦٤ نزلت بعد الحشر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(سورة النور) سُورَةٌ أَنْزَلْناها السورة خبر ابتداء مضمر، أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره فيما أنزل عليكم سورة، وأنزلناها صفة للسورة، وفرضناها: أي فرضنا الأحكام التي فيها وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: [فرّضناها] بالتشديد للمبالغة آياتٍ بَيِّناتٍ يعني ما فيها من المواعظ والأحكام والأمثال، وقيل: معنى بينات هنا ليس فيها مشكل
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ الزانية والزاني يراد بهما الجنس، وقدم الزانية لأن الزنا كان حينئذ في النساء أكثر، فإنه كان منهنّ إماء وبغايا يجاهرن بذلك، وإعراب الزاني والزانية كإعراب:
السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، وقد ذكر في [المائدة: ٣٨] وهذه الآية ناسخة بإجماع لما في سورة [النساء: ١٤] من الإمساك في البيوت، في الآية الواحدة ومن الأذى في الأخرى، ثم إن لفظ هذه الآية عند مالك ليس على عمومه، فإن جلد المائدة إنما هو حدّ الزاني والزانية إذا كانا مسلمين حرين غير محصنين، فيخرج منها الكفار، فيردّون إلى أهل دينهم، ويخرج منها العبد والأمة والمحصن والمحصنة، فأما العبد والأمة: فحدّهما خمسون جلدة سواء كانا محصنين أو غير محصنين، وأما المحصنان الحران فحدّهما الرجم هذا على مذهب مالك.
وأما الكلام على الآية بالنظر إلى سائر المذاهب، فاعلم أن لفظ هذه الآية ظاهره العموم في المسلمين والكافرين، وفي الأحرار والعبيد والإماء وفي المحصن وغير المحصن، ثم إن العلماء خصصوا من هذا العموم أشياء منها باتفاق، ومنها باختلاف، فأما الكفار فرأى أبو حنيفة وأهل الظاهر أن حدّهم جلد مائة أحصنوا أو لم يحصنوا: أخذا بعموم الآية، ورأى الشافعي أن حدهم كحد المسلمين الجلد إن لم يحصنوا، والرجم إن أحصنوا أخذا بالآية، وبرجم النبي ﷺ لليهودي واليهودية إذا زنيا، ورأى مالك أن يردّوا إلى أهل دينهم لقوله تعالى: في سورة النساء «واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم» فخص نساء المسلمين على أنها قد نسختها هذه. ولكن بقيت في محلها، وأما العبد والأمة: فرأى أهل
يعني في إسقاط الحدّ: أي أقيموه ولا بد، وقيل: في خفيف الضرب، وقيل: في الوجهين.
فعلى القول الأول: يكون الضرب في الزنا كالضرب في القذف غير مبرح، وهو مذهب مالك والشافعي، وعلى القول الثاني والثالث: يكون الضرب في الزنا أشد، واختلف: هل يجوز أن يجمع مائة سوط يضرب بها مرة واحدة؟ فمنعه مالك وأجازه أبو حنيفة لما ورد في قصة أيوب عليه السلام، وأجازه الشافعي للمريض لورود ذلك في الحديث.
وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المراد بذلك توبيخ الزناة والغلظة عليهم، واختلف في أقل ما يجزئ من الطائفة فقيل: أربعة اعتبارا بشهادة الزنا وهو قول ابن أبي زيد، وقيل: عشرة، وقيل: اثنين وهو مشهور مذهب مالك، وقيل: واحد الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً الآية: معناها ذم الزناة وتشنيع الزنا، وأنه لا يقع فيه إلا زان أو مشرك ولا يوافقه عليه من النساء إلا زانية أو مشركة، وينكح على هذا بمعنى يجامع، وقيل:
معناها لا يحل لزان أن يتزوج إلا زانية أو مشركة، ولا يحل لزانية أن تتزوج إلا زانيا أو مشركا، ثم نسخ هذا الحكم وأبيح لهما التزوج ممن شاؤوا، والأول هو الصحيح «٢» وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الإشارة بذلك إلى الزنا أي حرم الزنا على المؤمنين وقيل: الإشارة
(٢). الأقرب إلى هذه الآية أن تكون بمعنى الآية التالية: ٢٦ الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً هذا حدّ القذف، وهو الفرية التي عبر الله عنها بالرمي، والمحصنات يراد بهن هنا العفائف من النساء، وخصهن بالذكر لأن قذفهن أكثر وأشنع من قذف الرجال، ودخل الرجال في ذلك بالمعنى إذ لا فرق بينهم، وأجمع العلماء على أن حكم الرجال والنساء هنا واحد، وقيل:
إن المعنى يرمون الأنفس المحصنات، فيعم اللفظ على هذا النساء والرجال.
ويحتاج هنا إلى الكلام في القذف والقاذف والمقذوف والشهادة في ذلك، فأما القذف فهو الرمي بالزنا اتفاقا، أو بفعل قوم لوط عند مالك والشافعي لعموم لفظ الرمي في الآية، خلافا لأبي حنيفة، أو النفي من النسب، ومذهب مالك أن التعريض بذلك كله كالتصريح خلافا للشافعي وأبي حنيفة، وأما القاذف فيحدّ: سواء كان مسلما أو كافرا لعموم الآية، وسواء كان حرا أو عبدا، إلا أن العبد والأمة إنما يحدّان أربعين عند الجمهور، فنصفوا حدّهما قياسا على تنصيفه في الزنا خلافا للظاهرية، ولا يحدّ الصبي ولا المجنون لكونهما غير مكلفين، وأما المقذوف فمذهب مالك أنه يشترط فيه الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والبراءة عما رمي به، والتمكن من الوطء تحرزا من المجبوب [مقطوع الآلة] وشبهه، فلا يحدّ عنده من قذف صبيا أو كافرا أو مجبوبا أو عبدا ومن لا يمكنه الوطء وقد قيل: يحدّ من قذف واحدا منهم لعموم الآية واتفقوا على اشتراط البراءة مما رمي به وأما الشهادة التي تسقط حدّ القذف، فهي أن يشهد شاهدان عدلان بأن المقذوف عبد أو كافر أو يشهد أربعة شهود ذكور عدول على المعاينة لما قذف به كالمرود في المكحلة، ويؤدّون الشهادة مجتمعين إِلَّا الَّذِينَ تابُوا تقدّم قبل هذا الاستثناء ثلاثة أحكام، وهي الحدّ، ورد شهادة القاذف، وتفسيقه، فاتفق على أن الاستثناء راجع إلى التفسيق، وأن ذلك يزول عنه بالتوبة، واتفق على أنه لا يرجع إلى الحدّ وأنه لا يسقط عنه بالتوبة، واختلف هل يرجع إلى ردّ الشهادة أم لا: فقال مالك: إذا تاب قبلت شهادته، خلافا لأبي حنيفة، وتوبته هو صلاح حاله في دينه وقيل إكذاب نفسه.
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ هذه الآية في قذف الرجل لامرأته فيجب اللعان بذلك، وسببها أن رجلا قال يا رسول الله: الرجل يجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقلتونه أم كيف يصنع؟ فسكت عنه نبيّ الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم عاد فقال مثل ذلك، فقال رسول الله ﷺ قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك
وموجب اللعان عند مالك شيئان: أحدهما أن يدعي الزوج أنه رأى امرأته تزني.
والآخر أن ينفي حملها ويدعى الاستبراء قبله، فإذا تلاعن الزوج تعلقت به ثلاثة أحكام:
نفي حدّ القذف عنه، وانتفاء سبب الولد منه، ووجوب حدّ الزنا عليها إن لم تلاعن، فإن تلاعنت سقط الحدّ عنها، ولفظ الآية عام في الزوجات الحرائر والمماليك، والمسلمات والكافرات والعدول وغيرهم، وبذلك أخذ مالك واشترط في الزوج الإسلام واشترط أبو حنيفة أن يكونا مسلمين حرين عدلين فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أي يقول الزوج أربع مرات: أشهد بالله لقد رأيت هذه المرأة تزنى، أو أشهد بالله ما هذا الحمل مني ولقد زنت وإني في ذلك لمن الصادقين، ثم يقول في الخامسة لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وزاد أشهب أن يقول: أشهد بالله الذي لا إله إلا هو، وانتصب: أربع شهادات بالله على المصدرية، والعامل فيه شهادة أحدهم وقرأ [حمزة والكسائي وحفص] بالرفع وهو خبر شهادة أحدهم، وقوله: بالله وإنه لمن الصادقين من صلة أربع شهادات أو من صلة شهادة أحدهم
وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ [قرأ حفص] بنصب الخامسة هنا وفي الموضع الثاني، وانتصب بفعل مضمر تقديره ويشهد الخامسة، أو بالعطف على أربع شهادات على قراءة النصب، وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء أو عطف على أربع شهادات بقراءة الرفع، وقرئ أن لعنة، وأن غضب: بتشديد أن، ونصب اسمها وقرأ نافع بتخفيفها ورفع اللعنة والغضب على الابتداء وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ العذاب هنا حدّ الزنا، أي يدفعه التعان المرأة، وهي أن تقول أربع مرات: أشهد بالله ما زنيت، وإنه في ذلك لمن الكاذبين، ثم تقول في الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ويتعلق بالتعانها ثلاثة أحكام: دفع الحدّ عنها، والتفريق بينها وبين زوجها، وتأبيد الحرمة وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ جواب لو محذوف هنا وفي الموضع الآخر تقديره لولا فضل الله عليكم لآخذكم، أو نحو هذا.
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الإفك: أشدّ الكذب، ونزلت هذه الآية وما بعدها إلى تمام ستة عشر آية في شأن سيدتنا عائشة رضي الله عنها وفي براءتها مما رماها به أهل الإفك، وذلك أن الله برأ أربعة بأربعة برأ يوسف بشهادة الشاهد من أهلها، وبرأ موسى من قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بكلام ولدها في حجرها، وبرأ عائشة من الإفك بإنزال القرآن في شأنها، ولقد تضمنت هذه الآيات الغاية القصوى في الاعتناء بها، والكرامة لها والتشديد على من قذفها.
والعصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين، ولم يذكر في الحديث من أهل الإفك إلا أربعة، وهم: عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين، وحمنة بنت جحش، ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت، وقيل: إن حسّان لم يكن منهم وارتفاع عصبة لأنه خبر إن، واختار ابن عطية أن يكون عصبة بدلا من الضمير في جاءوا، ويكون الخبر لا تحسبوه شرا لكم على تقدير: إن حديث الذين جاءوا بالإفك، والأول أظهر بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ خطاب للمسلمين، والخير في ذلك من خمسة أوجه: تبرئة أم المؤمنين، وكرامة الله لها بإنزال الوحي في شأنها، والأجر الجزيل لها في الفرية عليها، وموعظة المؤمنين، والانتقام من المفترين وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ هو عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، وقيل الذي بدأ بهذه الفرية غير معين، والعذاب العظيم هنا يحتمل أن يراد به الحدّ أو عذاب الآخرة.
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً لولا هنا عرض، والمعنى أنه:
كان ينبغي للمؤمنين والمؤمنات أن يقيسوا ذلك الأمر على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد في حقهم، فهو في حق عائشة أبعد لفضلها، وروي أن هذا النظر وقع لأبي أيوب الأنصاري، فقال لزوجته:
أكنت أنت تفعلين ذلك، قالت: لا والله، قال فعائشة أفضل منك؟ قالت نعم، فإن قيل: لم قال:
سمعتموه بلفظ الخطاب، ثم عدل إلى لفظ الغيبة في قوله: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ، ولم يقل ظننتم؟
فالجواب أن ذلك التفات، قصد به المبالغة والتصريح بالإيمان، الذي يوجب أن لا يصدق المؤمن على المؤمن شرا لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ لولا هنا عرض، والضمير في جاءوا لأهل الإفك، ثم حكم الله بكذبهم إذ لم يأتوا بالشهداء أَفَضْتُمْ فِيهِ يقال أفاض في الحديث وخاض فيه إذا أكثر الكلام فيه
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ العامل في إذ قوله مسكم أو أفضتم، ومعنى تلقونه:
يأخذه بعضكم من بعض، وفي هذا الكلام وفي الذي قبله وبعده عتاب لهم على خوضهم في حديث الإفك، وإن كانوا لم يصدقوه، فإن الواجب كان الإغضاء عن ذكره والترك له بالكلية،
قولهم ذلك، والثالث: أنهم حسبوه هينا وهو عند الله عظيم، وفائدة قوله بألسنتكم وبأفواهكم الإشارة إلى أن ذلك الحديث كان باللسان دون القلب، إذ كانوا لم يعلموا حقيقته بقلوبهم وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا أي كان الواجب أن يبادروا إلى إنكار هذا الحديث أول سماعهم له، ولولا أيضا في هذه الآية عرض، وكان حقها أن يليها الفعل من غير فاصل بينهما، ولكنه فصل بينهما بقوله: إذ سمعتموه لأن الظروف يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها، والقصد بتقديم هذا الظرف الاعتناء به، وبيان أنه كان الواجب المبادرة إلى إنكار الكلام في أول وقت سمعتموه، ومعنى ما يكون لنا: ما ينبغي لنا ولا يحل لنا أن نتكلم بهذا.
سُبْحانَكَ تنزيه لله عن أن تكون زوجة رسول الله صلى الله وآله وسلم على ما قال أهل الإفك، وقال الزمخشري: هو بمعنى التعجب من عظيم الأمر، والاستبعاد له، والأصل في ذلك أن يسبح الله عند رؤية العجائب بُهْتانٌ عَظِيمٌ البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة أن يقال ما فيه أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ تقديره: يعظكم كراهة أن تعودوا لمثله، ثم عظم الأمر وأكده بقوله: إن كنتم مؤمنين إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ الإشارة بذلك إلى المنافقين الذين أحبوا أن يشيع حديث الإفك، ثم هو عام في غيرهم ممن اتصف بصفتهم، والعذاب في الدنيا الحد، وأما عذاب الآخرة، فقد ورد في الحديث: أن من عوقب في الدنيا على ذنب لم يعاقب عليه في الآخرة فأشكل اجتماع الحدّ مع عذاب الآخرة في هذا الموضع، فيحتمل أن يكون القاذف يعذب في الآخرة ولا يسقط الحدّ عنه عذاب الآخرة بخلاف سائر الحدود، أو يكون هذا مختصا بمن قذف عائشة، فإنه روى عن ابن عباس أنه قال: من أذنب ذنبا ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة، أو يكون لمن مات مصرا غير تائب، أو يكون للمنافقين خُطُواتِ الشَّيْطانِ ذكر في البقرة بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ذكر في النحل زَكى أي تطهر من الذنوب، وصلح دينه
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى معنى يأتل يحلف، فهو من قولك: آليت إذا حلفت، وقيل معناه: يقصر فهو من قولك: ألوت أي قصرت، ومنه لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا [آل عمران: ١١٨] والفضل هنا يحتمل أن يريد به الفضل في الدين،
كل مذنب تقبل توبته إذا تاب إلا من خاض في حديث عائشة وقيل: الوعيد لكل قاذف، والعذاب العظيم يحتمل أن يريد به الحدّ أو عذاب الآخرة.
يَوْمَ تَشْهَدُ العامل فيه يوفيهم، وكرر يومئذ توكيدا وقيل: العامل فيه عذاب أو فعل مضمر دِينَهُمُ الْحَقَّ أي جزاؤهم الواجب لهم وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ هذه الآية تدل على أن ما قبلها في المنافقين، لأن المؤمن قد علم في الدنيا أن الله هو الحق المبين، ومعنى المبين الظاهر الذي لا شك فيه الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ الآية: معناها أن الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، وأن الطيبات من النساء للطيبين من الرجال، ففي ذلك ردّ على أهل الأفك، لأن النبي ﷺ هو أطيب الطيبين فزوجته أطيب الطيبات، وقيل:
المعنى أن الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس، والطيبات من الأعمال للطيبين من الناس، ففيه أيضا ردّ على أهل الإفك، وقيل: معناه أن الخبيثات من الأقوال للخبيثين من الناس، والإشارة بذلك إلى أهل الإفك، وقيل: معناه أن الخبيثات من الأقوال للخبيثين من الناس، والإشارة بذلك إلى أهل الإفك: أي أن أقوالهم الخبيثة لا يقولها إلا خبيث مثلهم أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ الإشارة بأولئك إلى الطيبين والطيبات والضمير في يقولون للخبيثات والخبيثين، والمراد تبرئة عائشة رضي الله عنها مما رميت به لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها هذه الآية أمر بالاستئذان في غير بيت الداخل، فيعم بذلك بيوت الأقارب وغيرهم، وقد جاء في الحديث الأمر بالاستئذان على الأم خيفة
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ سبب هذه الآية أنه لما نزلت آية الاستئذان تعمق قوم فكانوا يأتون المواضع غير المسكونة فيسلمون ويستأذنون، فأباحت هذه الآية دخولها بغير استئذان، واختلف في البيوت غير المسكونة في هذه الآية، فقيل:
هي الفنادق التي في الطرق ولا يسكنها أحد، بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل، والمتاع على هذا التمتع بالنزول فيها والمبيت وغير ذلك، وقيل: هي الخرب التي تدخل للبول والغائط، والمتاع على هذا حاجة الإنسان، وقيل: هي حوانيت القيسارية، والمتاع على هذا الثياب والبسط وشبهها، وهذا القول خطأ لأن الاستئذان في الحوانيت واجب بإجماع.
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ إعرابها كإعراب يقيموا الصلاة في [إبراهيم: ٣١] وقد ذكر ومن أبصارهم للتبعيض، والمراد غض البصر عما يحرم، والاقتصار به على ما يحل، وقيل: معنى التبعيض فيه أن النظرة الأولى لا حرج فيها، ويمنع ما بعدها، وأجاز الأخفش أن تكون من زائدة، وقيل: هي لابتداء الغاية، لأن البصر مفتاح القلب والغض المأمور به هو عن النظر إلى العورة، أو إلى ما لا يحل من النساء، أو إلى كتب الغير وشبه ذلك مما يستر، وحفظ الفروج المأمور به: هو عن الزنا، وقيل: أراد ستر العورة، والأظهر أن الجميع مراد
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ تؤمر المرأة بغض بصرها عن عورة الرجل وعن عورة المرأة إجماعا، واختلف هل يجب عليها غض بصرها عن سائر جسد الرجل الأجنبي أم لا، وعن سائر جسد المرأة أم لا، فعلى القول بذلك تشتمل الآية عليه، والكلام في حفظ فروج النساء كحفظ فروج الرجال وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها نهى عن إظهار الزينة بالجملة ثم استثنى الظاهر منها، وهو ما لا بد من النظر إليه عند حركتها أو إصلاح شأنها وشبه ذلك، فقيل: إلا ما
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ التوبة واجبة على كل مؤمن مكلف بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وفرائضها ثلاثة: الندم على الذنب من حيث عصي به ذو الجلال، لا من حيث أضر ببدن أو مال، والإقلاع عن الذنب في أول أوقات الإمكان من غير تأخير ولا توان، والعزم أن لا يعود إليها أبدا ومهما قضى عليه بالعود أحدث عزما مجدّدا، وآدابها ثلاثة:
الاعتراف بالذنب مقرونا بالانكسار، والإكثار من التضرع والاستغفار، والإكثار من الحسنات لمحو ما تقدم من السيئات، ومراتبها سبع: فتوبة الكفار من الكفر، وتوبة المخلطين من الذنوب الكبائر، وتوبة العدول من الصغائر وتوبة العابدين من الفترات، وتوبة السالكين من علل القلوب والآفات، وتوبة أهل الورع من الشبهات، وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات. والبواعث على التوبة سبعة: خوف العقاب، ورجاء الثواب، والخجل من الحساب، ومحبة الحبيب، ومراقبة الرقيب القريب، وتعظيم بالمقام، وشكر الإنعام.
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ الأيامى جمع أيّم ومعناه الذين لا أزواج لهم رجالا كانوا أو نساء أبكارا أو ثيبات، والخطاب هنا للأولياء والحكام أمرهم الله بتزويج الأيامى، فاقتضى ذلك النهي عن عضلهن من التزويج، وفي الآية دليل على عدم استقلال النساء بالإنكاح واشتراط الولاية فيه، وهو مذهب مالك والشافعي خلافا لأبي حنيفة وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ يعني الذين يصلحون للتزويج من ذكور العبيد وإناثهم، وقال الزمخشري: الصالحين بمعنى الصلاح في الدين، قال وإنما خصهم الله بالذكر ليحفظ عليهم صلاحهم والمخاطبون هنا ساداتهم ومذهب الشافعي أن السيد يجبر على تزويج عبيده على هذه الآية خلافا لمالك، ومذهب مالك أن السيد يجبر عبده وأمته على النكاح خلافا للشافعي إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وعد الله بالغنى للفقراء الذين يتزوجون لطلب رضا الله، ولذلك قال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أمر بالاستعفاف وهو الاجتهاد في طلب العفة من الحرام لمن لا يقدر على التزوج، فقوله: لا يَجِدُونَ نِكاحاً معناه لا يجدون استطاعة على التزوج بأي وجه تعذر التزوج، وقيل: معناه لا يجدون صداقا للنكاح، والمعنى الأول أعم، والثاني: أليق بقوله حتى يغنيهم الله من فضله.
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ الكتاب هنا مصدر بمعنى الكتابة، وهي مقاطعة العبد على مال منجم فإذا أدّاه خرج حرّا، وإن عجز بقي رقيقا، وقيل: إن الآية نزلت بسبب حويطب ابن عبد العزى سأل مولاه أن يكاتبه فأبى عليه، وحكمها مع ذلك عام فأمر الله سادات العبيد أن يكاتبوهم إذا طلبوا الكتابة، وهذا الأمر على الندب عند مالك والجمهور، وقال الظاهرية وغيرهم. هو على الوجوب وذلك ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنس بن مالك حين سأله مملوكه سيرين الكتابة فتلكأ أنس، فقال له عمر: لتكاتبنه أو لأوجعنك
وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ هذا أمر بإعانة المكاتب على كتابته، واختلف فيمن المخاطب بذلك فقيل: هو خطاب للناس أجمعين، وقيل للولاة، والأمر على هذين القولين للندب، وقيل: هو خطاب لسادات المكاتبين، وهو على هذا القول ندب عند مالك، وللوجوب عند الشافعي فإن كان الأمر للناس، فالمعنى أن يعطوهم صدقات من أموالهم، وإن كان للولاة فيعطوهم من الزكاة، وإن كان للسادات فيحطوا عنهم من كتابتهم، وقيل: يعطوهم من أموالهم من غير الكتابة، وعلى القول بالحط من الكتابة اختلف في مقدار ما يحط، فقيل: الربع، وروى ذلك عن رسول الله ﷺ وقيل الثلث، وقال مالك والشافعي: لا حد في ذلك، بل أقل ما ينطلق عليه اسم شيء، إلا أن الشافعي يجبره على ذلك، ولا يجبره مالك، وزمان الحط عنه في آخر الكتابة عند مالك، وقيل في أول نجم.
وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ معنى البغاء الزنا، نهى الله المسلمين أن يجبروا مملوكاتهم على ذلك، وسبب الآية أن عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق كان له جاريتان، فكان يأمرهما بالزنا للكسب منه وللولادة، ويضربهما على ذلك، فشكتا ذلك إلى النبي ﷺ فنزلت الآية فيه وفيمن فعل مثل فعله إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً «١» هذا الشرط راجع إلى إكراه الفتيات على الزنا، إذ لا يتصور إكراههن إلا إذا أردن التحصن وهو التعفف، وقيل: هو راجع إلى قوله وأنكحوا الأيامى وذلك بعيد لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني ما تكسبه الأمة بفرجها، وما تلده من الزنا ويتعلق لتبتغوا بقوله لا تكرهوا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ المعنى غفور لهن رحيم بهن لا يؤاخذهن بالزنا، لأنهن أكرهن عليه، ويحتمل أن يكون المعنى غفور رحيم للسيد الذي يكرههن إذا تاب من ذلك آياتٍ مُبَيِّناتٍ بفتح الياء: أي بينها الله وبالكسر مبينات للأحكام والحلال والحرام وَمَثَلًا يعني ضرب لكم الأمثال بمن كان قبلكم في تحريم الزنا، لأنه كان حراما في كل ملة أو في براءة عائشة كما برأ يوسف ومريم.
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ النور يطلق حقيقة على الضوء الذي يدرك بالأبصار، ومجازا على المعاني التي تدرك بالقلوب، والله ليس كمثله شيء، فتأويل الآية الله ذو نور
مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ المشكاة هي الكوة غير النافذة تكون في الحائط، ويكون المصباح فيها شديد الإضاءة وقيل: المشكاة العمود الذي يكون المصباح على رأسه، والأوّل أصح وأشهر، والمعنى صفة نور الله في وضوحه كصفة مشكاة فيها مصباح، على أعظم ما يتصوّره البشر من الإضاءة والإنارة، وإنما شبه بالمشكاة وإن كان نور الله أعظم، لأن ذلك غاية ما يدركه الناس من الأنوار، فضرب المثل لهم بما يصلون إلى إدراكه. وقيل: الضمير في نوره عائد على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: على القرآن، وقيل:
على المؤمن، وهذه الأقوال ضعيفة لأنه لم يتقدم ما يعود عليه الضمير، فإن قيل: كيف يصح أن يقال الله نور السموات والأرض فأخبر أنه هو النور، ثم أضاف النور إليه في قوله:
مثل نوره، والمضاف عين المضاف إليه؟ فالجواب أن ذلك يصح مع التأويل الذي قدمناه أي الله ذو نور السموات والأرض، أو كما تقول: زيد كرم، ثم تقول: ينعش الناس بكرمه الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ المصباح هو الفتيل بناره، والمعنى أنه في قنديل من زجاج لأن الضوء فيه أزهر، لأنه جسم شفاف الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ شبه الزجاجة في إنارتها بكوكب درّي، وذلك يحتمل معنيين إما أن يريد أنها تضيء بالمصباح الذي فيها، وإما أن يريد أنها في نفسها شديدة الضوء لصفائها ورقة جوهرها، وهذا أبلغ لاجتماع نورها مع نور المصباح، والمراد بالكوكب الدرّي أحد الدراري المضيئة: كالمشتري، والزهرة، وسهيل، ونحوها، وقيل: أراد الزهرة، ولا دليل على هذا التخصيص، وقرأ نافع دري بضم الدال وتشديد الياء بغير همزة ولهذه القراءة وجهان: إما أن ينسب الكوكب إلى الدرّ لبياضه وصفائه، أو يكون مسهلا من الهمز، وقرأ [أبو عمرو والكسائي: درّيء] وقرأ حمزة وأبو بكر: درّيء بالهمز وكسر الدال بالهمز وضم الدال، وهو مشتق من الدرء بمعنى الدفع.
يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ من قرأ يوقد «١» بالياء أو توقّد بالفعل الماضي فالفعل مسند إلى المصباح، ومن قرأ توقد بالتاء والفعل المضارع فهو مسند إلى الزجاجة، والمعنى: توقد من زيت شجرة مباركة، ووصفها بالبركة لكثرة منافعها، أو لأنها تنبت في
فِي بُيُوتٍ يعني المساجد، وقيل: بيوت أهل الإيمان من مساجد أو مساكن، والأول أصح، والجار يتعلق بما قبله: أي كمشكاة في بيوت، أو توقد في بيوت، وقيل:
بما بعده وهو يسبح، وكرر الجارّ بعد ذلك تأكيدا، وقيل: بمحذوف: أي سبحوا في بيوت أذن الله أن ترفع، والمراد بالإذن الأمر، ورفعها بناؤها، وقيل: تعظيمها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ أي غدوة وعشية وقيل: أراد الصبح والعصر وقيل: صلاة الضحى والعصر رِجالٌ فاعل يسبّح على القراءة بكسر الباء، [من يسبح] وأما على القراءة بالفتح فهو مرفوع بفعل مضمر يدل عليه الأول لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي لا تشغلهم، ونزلت الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا إليها، والبيع من التجارة، ولكنه خصه بالذكر تجريدا كقوله: فاكهة ونخل ورمان، أو أراد بالتجارة الشراء تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ أي تضطرب من شدة الهول والخوف، وقيل: تفقه القلوب وتبصر الأبصار بعد العمى، لأن الحقائق تنكشف حينئذ، والأول أصح كقوله: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: ١٠]، وفي قوله «تتقلب فيه القلوب» تجنيس لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلق بما قبله، أو بفعل من معنى ما قبله أَحْسَنَ ما عَمِلُوا تقديره جزاء أحسن ما علموا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ يعني زيادة على ثواب أعمالهم بِغَيْرِ حِسابٍ ذكر في البقرة.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ لما ذكر الله حال المؤمنين أعقب ذلك بمثالين لأعمال الكافرين: الأول يقتضي حال أعمالهم في الآخرة، وأنها لا تنفعهم، بل يضمحل ثوابها كما يضمحل السراب، والثاني يقتضي حال أعمالهم في الدنيا، وأنها في غاية الفساد والضلال كالظلمات التي بعضها فوق بعض، والسراب هو ما يرى في الفلوات
أَوْ كَظُلُماتٍ هذا هو المثال الثاني، وهو عطف على قوله كسراب، والمشبه بالظلمات أعمال الكافر: أي هم من الضلال والحيرة في مثل الظلمات المجتمعة من ظلمة البحر تحت الموج تحت السحاب فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ منسوب إلى اللج، وهو معظم الماء، وذهب بعضهم إلى أن أجزاء هذا المثال قوبلت به أجزاء الممثل به: فالظلمات أعمال الكافر، والبحر اللجي صدره، والموج جهله، والسحاب الغطاء الذي على قلبه، وذهب بعضهم إلى أنه تمثيل بالجملة من غير مقابلة وفي وصف هذه الظلمات بهذه الأوصاف مبالغة كما أن وصف النور المذكور قبلها مبالغة إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها المعنى مبالغة في وصف الظلمة، والضمير في أخرج وما بعده للرجل الذي وقع في الظلمات الموصوفة، واختلف في تأويل الكلام: فقيل: المعنى إذا أخرج يده لم يقارب رؤيتها، فنفى الرؤية ومقاربتها، وقيل: بل رآها بعد عسر وشدة، لأن كاد إذا نفيت تقتضي الإيجاب، وإذا أوجبت تقتضي النفي، وقال ابن عطية: إنما ذلك إذا دخل حرف النفي على الفعل الذي بعدها، فأما إذا دخل حرف النفي على كاد كقوله: لم يكد، فإنه يحتمل النفي والإيجاب.
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً أي من لم يهده الله لم يهتد، فالنور كناية عن الهدى، والإيمان في الدنيا، وقيل: أراد في الآخرة أي من لم يرحمه الله فلا رحمة له، والأول أليق بما قبله،
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الرؤية هنا بمعنى العلم والتسبيح التنزيه والتعظيم، وهو من العقلاء بالنطق، وأما تسبيح الطير وغيرها مما لا يعقل، فقال الجمهور: إنه حقيقي، ولا يبعد أن يلهمها الله التسبيح، كما يلهمها الأمور الدقيقة التي لا يهتدى إليها العقلاء، وقيل: تسبيحه ظهور الحكمة فيه صَافَّاتٍ يصففن أجنحتهن في الهواء كُلٌّ قَدْ عَلِمَ الضمير في علم لله، أو لكل، والضمير في صلاته وتسبيحه لكل
أي هي في الكثرة كالجبال، ومن في قوله «من السماء» لابتداء الغاية، وفي قوله «من جبال» كذلك، وهي بدل من الأولى، وتكون للتبعيض، فتكون مفعول ينزل، ومن في قوله: من برد: لبيان الجنس أو للتبعيض فتكون مفعول ينزل، وقال الأخفش: هي زائدة، وذلك ضعيف، وقوله «فيها» صفة للجبال، والضمير يعود على السماء سَنا بَرْقِهِ السنا بالقصر الضوء، وبالمدّ المجد والشرف يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي يأتي بهذا بعد هذا.
خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ يعني بني آدم والبهائم والطير لأن ذلك كله يدب مِنْ ماءٍ يعني المنيّ، وقيل: الماء الذي في الطين الذي خلق منه آدم وغيره عَلى بَطْنِهِ كالحيات والحوت وَيَقُولُونَ آمَنَّا الآية: نزلت في المنافقين، وسببها أن رجلا من المنافقين كانت بينه وبين يهودي خصومة، فدعاه اليهودي إلى رسول الله ﷺ فأعرض عنه، ودعاه إلى كعب بن الأشرف مُذْعِنِينَ أي منقادين طائعين لقصد الوصول إلى حقوقهم أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ توقيف [سؤال] يراد به التوبيخ، وكذلك ما بعده أَنْ يَحِيفَ معناه أن يجور، والحيف الميل، وأسنده إلى الله، لأن الرسول إنما يحكم بأمر الله وشرعه إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ الآية. معناها إنما الواجب أن يقول المؤمنون: سمعنا وأطعنا إذا دعوا إلى الله ورسوله، وجعل الدعاء إلى الله من حيث هو إلى شرعه وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الآية:
قال ابن عباس: معناها من يطع الله في فرائضه ورسوله في سنته وَيَخْشَ اللَّهَ فيما مضى من ذنوبه وَيَتَّقْهِ فيما يستقبل، وسأل بعض الملوك عن آية كافية جامعة فذكرت له هذه
وَأَقْسَمُوا
أي حلفوا، والضمير للمنافقين جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
أي بالغوا في اليمين وأكدوها لَيَخْرُجُنَ
يعني إلى الغزو قُلْ لا تُقْسِمُوا
نهى عن اليمين الكاذبة لأنه قد عرف أنهم يحلفون على الباطل طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
مبتدأ وخبره محذوف أي طاعة معروفة أمثل وأولى بكم، أو خبر مبتدأ محذوف أي المطلوب منكم طاعة معروفة لا يشك فيها عَلَيْهِ ما حُمِّلَ يعني تبليغ الرسالة وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ يعني السمع والطاعة واتباع الشريعة.
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ وعد ظهر صدقه بفتح مشارق الأرض ومغاربها لهذه الأمة، وقيل: إن المراد بالآية: خلافة أبي بكر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الخلافة بعدي ثلاثون سنة، وانتهت الثلاثون إلى آخر خلافة عليّ، فإن قيل: أين القسم الذي جاء قوله «ليستخلفنهم» جوابا له؟ فالجواب أنه محذوف تقديره: وعدهم الله وأقسم، أو جعل الوعد بمنزلة القسم لتحققه
لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قيل المراد بالذين ملكت أيمانكم: الرجال خاصة، وقيل النساء خاصة، لأن الرجال يستأذنون في كل وقت وقيل الرجال والنساء وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ يعني الأطفال غير البالغين ثَلاثَ مَرَّاتٍ نصب على الظرفية لأنهم أمروا بالاستئذان في ثلاثة مواطن، فمعنى الآية أن الله أمر المماليك والأطفال بالاستئذان في ثلاثة أوقات، وهي قبل الصبح وحين القائلة وسط النهار، وبعد صلاة العشاء الأخيرة، لأن هذه الأوقات يكون الناس فيها متجردين للنوم في غالب أمرهم، وهذه الآية محكمة وقال ابن عباس: ترك الناس العمل بها، وحملها بعضهم على الندب تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ يعني تتجرّدون الظَّهِيرَةِ وسط النهار ثَلاثُ عَوْراتٍ جمع عورة من الانكشاف كقوله: بُيُوتَنا عَوْرَةٌ [الأحزاب: ٣٣] ومن رفع ثلاث فهو خبر ابتداء مضمر تقديره: هذه الأوقات ثلاث عورات لكم: أي تنكشفون فيها، ومن نصبه فهو بدل من ثلاث مرات لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ هذا الضمير المؤنث يعود على الأوقات المتقدّمة أي ليس عليكم ولا على
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ الآية اختلف في المعنى الذي رفع الله فيه الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في هذه الآية، فقيل: هو في الغزو أي لا حرج عليهم في تأخيرهم عنه، وقوله «ولا على أنفسكم» مقطوع من الذي قبله على هذا القول كأنه قال:
ليس على هؤلاء الثلاثة حرج في ترك الغزو، ولا عليكم حرج في الأكل، وقيل: الآية كلها في معنى الأكل، واختلف الذاهبون إلى ذلك، فقيل: إن أهل هذه الأعذار كانوا يتجنبون الأكل مع الناس لئلا يتقذرهم الناس، فنزلت الآية مبيحة لهم الأكل مع الناس، وقيل: إن الناس كانوا إذا نهضوا إلى الغزو خلفوا أهل هذه الأعذار في بيوتهم، وكانوا يتجنبون أكل مال الغائب، فنزلت الآية في ذلك، وقيل: إن الناس كانوا يتجنبون الأكل معهم تقذرا، فنزلت الآية، وهذا ضعيف. لأن رفع الحرج عن أهل الأعذار لا عن غيرهم، وقيل: إن رفع الحرج عن هؤلاء الثلاثة في كل ما تمنعهم عنه أعذارهم من الجهاد وغيره وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أباح الله تعالى للإنسان الأكل في هذه البيوت المذكورة في الآية، فبدأ ببيت الرجل نفسه، ثم ذكر القرابة على ترتيبهم ولم يذكر فيهم الابن، لأنه دخل في قوله من بيوتكم، لأن بيت ابن الرجل بيته، لقوله عليه الصلاة والسلام: «أنت ومالك
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً إباحة للأكل في حال الاجتماع والانفراد، لأنّ بعض العرب كان لا يأكل وحده أبدا خيفة من البخل، فأباح لهم الله ذلك فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي إذا دخلتم بيوتا مسكونة، فسلموا على من فيها من الناس، وإنما قال: على أنفسكم بمعنى صنفكم كقوله وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: ١١] وقيل: المعنى إذا دخلتم بيوتا خالية فسلموا على أنفسكم بأن يقول الرجل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وقيل: يعني بالبيوت، المساجد، والأمر بالسلام على من فيها، فإن لم يكن فيها أحد فيسلم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى الملائكة وعلى عباد الله الصالحين.
وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ الآية: الأمر الجامع هو ما يجمع الناس للمشورة فيه، أو للتعاون عليه. ونزلت هذه الآية في وقت حفر الخندق بالمدينة، فإن بعض المؤمنين كانوا يستأذنون في الانصراف لضرورة، وكان المنافقون يذهبون بغير استئذان لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أي لبعض حوائجهم
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً
(٢). روى أحمد حديثا بمعناه عن أبي حميد الساعدي ج ٥ ص ٤٢٥ ونصّه: لا يحل لامرئ أن يأخذ مال أخيه بغير حقه.