بسم الله الرحمن الرحيم
هي مدنية وآياتها أربع وستون آيةوبه قال ابن عباس وابن الزبير وعن عائشة مرفوعا قال : لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة يعني النساء١ وعلموهن الغزل وسورة النور أخرجه البيهقي والحاكم وابن مردويه. وعن مجاهد مرفوعا قال : علموا رجالكم سورة المائدة وعلموا نساءكم سورة النور رواه البيهقي وابن المنذر وسعيد بن جبير وهو مرسل.
ﰡ
ألم تر أن الله أعطاك سورة | ترى كل ملك دونها يتذبذب |
(أنزلناها) والخبر: الزانية والزاني وإلى هذا نحا ابن عطية، والمعنى السورة المنزلة المفروضة كذا وكذا إذ السورة عبارة عن آيات مسرودة لها مبدأ ومختتم، وهذا معنى صحيح ولا وجه لما قاله الأولون وقيل التقدير فمما أوحينا إليك سورة وَرُدَّ بأن مقتضى المقام بيان شأن هذه السورة الكريمة لا بيان أن في جملة ما أوحي إلى النبي ﷺ سورة شأنها كذا وكذا، وقرئ بالنصب أي: اتل سورة أو اقرأ أو أنزلنا سورة أو دونك سورة، قاله الزمخشري ورده أبو حيان وقيل أنزلنا الأحكام حال كونها سورة من سور القرآن.
ومعنى المخفف أوحيناها وجعلناها مقطوعة، وقيل ألزمناكم العمل بها وقيل قدرنا ما فيها من الحدود والفرض التقدير، ومنه أن الذي فرض عليك القرآن، وقيل بيناها قاله ابن عباس، وقيل أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجاباً قطعياً وفيه من الإيذان بغاية وكادة الفرضية ما لا يخفى.
(وأنزلنا فيها آيات بينات) أي أنزلنا في غصونها وتضاعيفها آيات واضحة الدلالة على مدلولها وتكرير (أنزلنا) لكمال العناية بإنزال هذه السورة وشأنها لما اشتملت عليه من الأحكام المفروضة.
قال الرازي: ذكر الله في أول السورة أنواعاً من الأحكام والحدود، وفي آخرها دلائل التوحيد فقوله: (فرضناها) إشارة إلى الأحكام وقوله هذا إلى ما بين فيها من دلائل التوحيد ويؤيده قوله:
(لعلكم تذكرون) فإن الأحكام لم تكن معلومة حتى نؤمر بتذكرها، أما دلائل التوحيد، فقد كانت كالمعلومة لهم لظهورها، فأمروا بتذكرها، قيل والمعنى تتعظون.
وقيل قوله:
وقيل وجه تقديم الزانية على الزاني هاهنا أن الزنا في ذلك الزمان كان في النساء أكثر حتى كان لهن رايات تنصب على أبوابهن ليعرفهن من أراد الفاحشة منهن، وقيل لأن العار فيهن أكثر، إذ موضوعهن الحجبة والصيانة فقدم ذكر الزانية تغليظاً واهتماماً.
(فاجلدوا) الجلد الضرب، يقال: جلده إذا ضرب جلده، مثل بطنه إذا ضرب بطنه ورأسه إذا ضرب رأسه، ودخول الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط على مذهب الأخفش، وعلى مذهب سيبويه التقدير فيما يتلى عليكم حكم الزانية؛ ثم بين ذلك بقوله: (فاجلدوا) والخطاب في هذه الآية الكريمة للأئمة ومن قام مقامهم، وقيل للمسلمين أجمعين لأن إقامة الحدود واجبة عليهم جميعاً، والإمام ينوب عنهم إذ لا يمكنهم الاجتماع على إقامة الحدود.
(كل واحد منهما مائة جلدة) هو حد الزاني الحر البالغ البكر، وكذلك الزانية، وثبت بالسنة زيادة على هذا الجلد وهو تغريب عام وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: التغريب إلى رأي الإمام، والحديث يرده، وقال مالك: يجلد الرجل ويغرب، وتجلد المرأة ولا تغرب، وأما المملوك والمملوكة فجلد كل واحد منهما خمسين جلدة لقوله سبحانه: (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) وهذا نص في الإماء وألحق بهن العبيد لعدم الفارق.
وأما من كان محصناً من الأحرار فعليه الرجم بالسنة الصحيحة المتواترة؛ وبإجماع أهل العلم، بل وبالقرآن المنسوخ لفظه، الباقي حكمه وهو الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتّة، وزاد جماعة من أهل العلم مع الرجم جلد مائة، وقد أوضح الشوكاني ما هو الحق في ذلك في شرحه للمنتقى، وقد مضى الكلام في
(ولا تأخذكم) بالتأنيث مراعاة للفظ، وبالياء لأنه مجازي، وللفصل بالمفعول والجار (بهما رأفة) يقال رأف يرأف رأفة، على وزن فعلة، ورأفة على وزن فعالة، مثل النشأة والنشاءة، وكلاهما بمعنى الرقة والرحمة. وقيل هي أرق الرحمة وأشدها.
(في دين الله) أي في طاعته وحكمه، كما في قوله: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك، أي لا يأخذكم الدين في استيفاء الحدود فتعطلوها، وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطاء وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي. وقيل تخففوا الضرب، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن.
قال الزهري: يجتهد في حد الزنا والفرية، أي القذف، ويخفف في حد الشرب. وقيل يجتهد في حد الزنا ويخفف دون ذلك في حد القذف ودونه في حد الشرب، ثم قال: مثبتاً للمأمورين ومهيجاً لهم.
(إن كنتم تؤمنون بالله وباليوم الآخر) أي إن كنتم تصدقون بالتوحيد والبعث الذي فيه جزاء الأعمال لا تعطلوا الحدود، وفي إلهاب الغضب لله ولدينه، وذلك لأن الإيمان بهما يقتضي التجلد في طاعة الله وفي إجراء أحكامه، وذكر اليوم الآخر لتذكير ما فيه من العقاب في مقابلة المسامحة في الحدود وتعطيلها، والحاصل أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله ويستعملوا الحث والمتانة ولا يأخذهم اللين والهوان في استيفاء حدود الله، وكفى برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة في ذلك حيث قال: " لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها " (١).
_________
(١) مسلم ١٦٨٨ - البخاري ١٢٨٧.
قال ابن عباس: الطائفة الرجل فما فوقه، ولا يجب على الإمام حضور رجم، ولا على الشهود، لأنه ﷺ أمر برجم ماعز والغامدية ولم يحضر رجمهما، وإنما خص المؤمنين بالحضور لأن ذلك أفضح، والفاسق بين صلحاء قومه أخجل، وتسمية الجلد عذاباً دليل على أنه عقوبة، ثم ذكر سبحانه شيئاً يختص بالزاني والزانية فقال:
وردّ هذا الزجاج وقال: لا يعرف النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج، ويردّ هذا الرد بأن النكاح بمعنى الوطء ثابت في كتاب الله سبحانه. ومنه قول: (حتى تنكح زوجاً غيره) فقد بينه النبي ﷺ بأن المراد به الوطء. ومن جملة القائلين بأن معنى الآية الزاني لا يزني إلا بزانية سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة، كما حكاه ابن جرير عنهم وعن ابن
الثاني: إن الآية هذه نزلت في امرأة خاصة فتكون. خاصة بها، كما قال الخطابي عن ابن عمرو، قال: كانت امرأة يقال لها أم مهزول وكانت تسافح وتشترط أن ينفق عليها، فأراد رجل من أصحاب رسول الله ﷺ أن يتزوجها فأنزل الله هذه الآية، أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصححه وغيرهم.
الثالث: أنها نزلت في رجل من المسلمين فتكون خاصة به، قاله مجاهد. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رجل يقال له مرثد يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة؛ وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة له وذكر قصة فيها فأتيت رسول الله ﷺ فقلت: يا رسول الله أنكح عناقاً؟ فلم يرد عليّ شيئاً. حتى نزلت (الزاني لا ينكح إلا زانية) الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا مرثد، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين فلا تنكحه " ا (١)، أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم.
الرابع: أنها نزلت في أهل الصفة فتكون خاصة بهم قاله أبو صالح.
الخامس: إن المراد بالزاني والزانية المحدودان. حكاه الزجاج وغيره عن الحسن قال: وهذا حكم من الله، فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة، وروي نحوه عن إبراهيم النخعي، وبه قال بعض أصحاب الشافعي. قال ابن العربي: وهذا لا يصح نظراً، كما لا يثبت نقلاً.
السادس: إن هذه الآية منسوخة بقوله سبحانه: (وأنكحوا الأيامى
_________
(١) أبو داوود كتاب النكاح باب ٤.
وعن شعبة مولى ابن عباس قال: " كنت مع ابن عباس فأتاه رجل فقال: إني كنت أتبع امرأة فأصبت منها ما حرم الله عليّ، وقد رزقني الله منها توبة فأردت أن أتزوجها فقال الناس: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) فقال ابن عباس: ليس هذا موضع هذه الآية، إنّها كن نساء بغايا متعاليات، يجعلن على أبوابهن رايات يأتيهن الناس، يعرفن بذلك، فأنزل الله هذه الآية. تزوجها فما كان فيها من إثم فعليّ.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله " أخرجه أبو داود وابن المنذر والحاكم وابن أبي حاتم وغيرهم (١). وعن علي أن رجلاً تزوج امرأة ثم إنه زنى
_________
(١) أبو داوود كتاب النكاح باب ٤ - الإمام أحمد ٢/ ٣٢٤.
وعن مجاهد قال: " كن نساء في الجاهلية بغيات، فكانت منهن امرأة جميلة تدعى أم جميل، فكان الرجل من المسلمين يتزوج إحداهن لتنفق عليه من كسبها فنهى الله سبحانه أن يتزوجهن أحد من المسلمين ". وهو مرسل.
وعن ابن عباس أنها نزلت في بغايا معلنات كن في الجاهلية وكن زواني مشركات فحرم الله نكاحهن على المؤمنين. وعنه قال كانت بغايا في الجاهلية، بغايا آل فلان وبغايا آل فلان فقال الله: (الزاني لا ينكح إلا زانية) فأحكم الله ذلك في أمر الجاهلية وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين، وعن الضحاك قال: إنما عني بذلك الزنا ولم يعن به التزويج.
وعن ابن عباس في هذه الآية قال: " الزاني من أهل القبلة لا يزني إلا بزانية مثله من أهل القبلة، أو مشركة من غير أهل القبلة، والزانية من أهل القبلة لا تزني إلا بزان مثلها من أهل القبلة، أو مشرك من غير أهل القبلة، وحرم الزنا على المؤمنين.
وقد اختلف في جواز تزوج الرجل بامرأة قد زنى هو بها؛ فقال الشافعي وأبو حنيفة بجواز ذلك، وروي عن ابن عباس وعمر وابن مسعود وجابر أنه لا يجوز، قال ابن مسعود: " إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبداً " وبه قال مالك.
(وحرم ذلك) أي الزنا أو نكاح الزواني لما فيه من التشبه بالفسقة والتعرض للتهمة والطعن في النسب والتسبب لسوء المقالة وغير ذلك من المفاسد، ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة البغايا والقحاب وقيل هو مكروه فقط؛ وعبر بالتحريم عن كراهة التنزيه مبالغة في الزجر.
(على المؤمنين) الأخيار الأبرار فعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت
وقيل إن الآية تعم الرجال والنساء، والتقدير الأنفس المحصنات، ويؤيد هذا قوله في آية أخرى: (والمحصنات من النساء)، فإن البيان بكونهن من النساء يشعر بأن لفظ المحصنات يشمل غير النساء وإلا لم يكن للبيان كثير معنى؛ وقيل أراد بالمحصنات الفروج؛ كما قال: (والتي أحصنت فرجها)، فتتناول الآية الرجال والنساء؛ وقيل إن لفظ المحصنات وإن كان للنساء لكنه هاهنا يشمل النساء والرجال تغليباً، وفيه أن تغليب النساء على الرجال غير معروف في لغة العرب، وقد مضى في سورة النساء ذكر الإحصان وما يحتمله من المعاني؛ وللعلماء في الشروط المعتبرة في المقذوف والقاذف أبحاث مطولة مستوفاة في كتب الفقه، منها ما هو مأخوذ من دليل ومنها ما هو مجرد رأي بحت.
قرئ المحصنات بفتح الصاد وكسرها، وذهب الجمهور من العلماء أنه لا حد على من قذف كافراً أو كافرة. وقال الزهري وسعيد بن المسيب وابن أبي ليلى: يجب عليه الحد. وذهب الجمهور أيضاً إلى أن العبد يجلد أربعين جلدة.
(فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك) أي الخائضون في الإفك (عند الله) أي في حكمه وقضائه الأزلي، أو شرعه المؤسس على الدلائل الظاهرة المتقنة (هم الكاذبون) أي القاذفون الكاملون في الكذب، وهذا من باب الزواجر (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة) هذا خطاب للسامعين، وفيه زجر عظيم (ولولا) هذه لامتناع الشيء لوجود غيره. والمعنى لولا أني قضيت عليك بالفضل في الدنيا بالنعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، والرحمة في الآخرة بالعفو.
(لمسّكم فيما أفضتم) أي بسبب ما أفضتم (فيه) من حديث الإفك، والإبهام لتهويل أمره، يقال: أفاض في الحديث واندفع، وخاض بمعنى (عذاب عظيم) أي لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك: وقيل المعنى لولا فضل الله عليكم لمسكم العذاب في الدنيا والآخرة معاً، ولكن برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائباً.
(إذ تلقونه بألسنتكم) من التلقي، والأصل تتلقونه.
قال مقاتل ومجاهد: المعنى يرويه بعضكم عن بعض. قال الكلبي: وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا ويتلقونه تلقياً.
قال الزجاج: معناه يلقيه بعضكم إلى بعض، وقرئ الإلقاء ومعناها واضح، وقرئ بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف، وهي مأخودة من قول العرب: ألق (١) الرجل يَلَق ولقا إذا كذب، قال ابن سيده: جاءوا بالمتعدي
_________
(١) الصحيح ولق يلق ولقاً وهي في الصحاح في مادة الواو، وفي القاموس في باب القاف فصل الواو ففاؤها واو وليس ألفاً.
" المطيعي "
قال ابن عطية: وعندي أراد يلقون فيه، فحذف حرف الجر فاتصل الضمير.
وقال الخليل وأبو عمر: وأصل الولق الإسراع يقال جاءت الإبل تلق أي تسرع، وعن ابن جرير مثله وزاد الولق هو الإسراع بالشيء بعد الشيء كعدد في إثر عدد وكلام في إثر كلام، وقرئ تألقونه من الألق وهو الكذب؛ وقرئ يلقونه وهو مضارع ولق بكسر اللام والتلقي والتلقف والتلقن معان متقاربة خلا أن في الأول معنى الاستقبال، وفي الثاني معنى الخطف، والأخذ بسرعة، وفي الثالث معنى الحذق والمهارة؛ وقال الراغب: في التلقن الحذق في التناول، وفي التلقف الاحتيال فيه.
(وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم) معناه أن قولهم هذا مختص بالأفواه من غير أن يكون واقعاً في الخارج معتقداً في القلوب، وقيل إن ذكر الأفواه للتأكيد كما في قوله: يطير بجناحيه ونحوه.
(وتحسبونه) أي الحديث الذي وقع الخوض فيه والإذاعة له (هيناً) أي شيئاً يسيراً لا يلحقكم فيه إثم (هو عند الله عظيم) ذنبه وعقابه والجملة في محل الحال؛ قيل جزع بعضهم عند الموت فقيل له في ذلك فقال أخاف ذنباً لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم.
(ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا) هذا عتاب لجميع المؤمنين أي هلا إذ سمعتم حديث الإفك قلتم تكذيباً للخائضين فيه المفترين له بمجرد أول السماع: ما ينبغي لنا ولا يمكننا أن نتكلم بهذا الحديث، ولا يصدر ذلك منا بوجه من الوجوه (سبحانك هذا بهتان عظيم) التعجب من أولئك الذين جاؤا بالإفك وأصله التنزيه لله سبحانه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه، والبهتان هو أن يقال في الإنسان ما ليس فيه أي
(يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبداً) أي ينصحكم أو يحرج الله عليكم، قاله ابن عباس أو يحرم عليكم أو ينهاكم كراهة أن تعودوا أو من أن تعودوا أو في أن تعودوا لمثل هذا القذف؛ أو استماع حديثه مدة حياتكم (إن كنتم مؤمنين) عائد إلى جميع الجمل التي قبله وتارة إلى بعضها لا تقوم به حجة ولا يصلح للاستدلال فإنه قد يكون ذلك لدليل، كما وقع هنا من الإجماع واتفاق الأئمة الأربعة على عدم رجوع هذا الاستثناء إلى جملة الجلد، فالقاذف يجلد عند الجميع سواء تاب أو لم يتب ومما يؤيد ما قررناه ويقويه أن المانع عن قبول الشهادة وهو الفسق المتسبب عن القذف قد زال فلم يبق ما يوجب الرد للشهادة.
واختلف العلماء في صورة توبة القاذف، فقال عمر بن الخطاب والشعبي والضحاك وأهل المدينة: إن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي وقع منه، وأقيم عليه الحد بسببه، وقالت فرقة منهم مالك وغيره: إن توبته تكون بأن يحسن حاله ويصلح عمله ويندم على ما فرط منه ويستغفر الله من ذلك ويعزم على ترك العود إلى مثله وإن لم يكذب نفسه ولا رجع عن قوله، وقد أجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الذنب ولو كان كفراً فتمحو ما هو دون الكفر بالأولى وحكى هذا الإجماع القرطبي.
قال أبو عبيد: الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة وليس من رمي غيره بالزنا بأعظم جرماً من مرتكب الزنا، والزاني إذا تاب قبلت شهادته لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن، منها قوله (إنما جزاء الذين يحاربون الله) إلى قوله:
وعن ابن عباس في الآية قال: تاب الله عليهم من الفسوق، وأما الشهادة فلا تجوز وعن عمر بن الخطاب أنه قال لأبي بكرة: إن تبت قبلت شهادتك وعنه قال: توبتهم إكذابهم أنفسهم، فإن أكذبوا أنفسهم قبلت شهادتهم، وعن ابن عباس أيضاً قال: من تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله تقبل.
وفي الباب روايات عن التابعين وقصة المغيرة في خلافة عمر مروية من طرق معروفة، وأخرج البخاري والترمذي وابن ماجة عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي ﷺ بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " البينة وإلا حد في ظهرك "، فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي ﷺ يقول: " البينة وإلا حد في ظهرك "، فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ونزل جبريل فأنزل عليه
_________
(١) خدلج: ممتلىء لحماً.
وأخرج هذه القصة أبو داود الطيالسي وعبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، عن ابن عباس مطولة وأخرجها البخاري ومسلم وغيرهما، ولم يسمّوا الرجل ولا المرأة.
وفي آخر القصة أن النبي (- ﷺ -) قال له: " اذهب فلا سبيل لك عليها " فقال: يا رسول الله مالي؟ قال: لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها ".
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد قال: جاء عويمر إلى عاصم بن عدي فقال: سل رسول الله ﷺ أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فقتله أيقتل به؟ أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله صك الله عليه وسلم فعاب رسول الله ﷺ السائل، فقال: عويمر والله لآتين رسول الله ﷺ ولأسألنه فوجده قد أنزل عليه فدعا بهما فلاعن بينهما قال عويمر: إن انطلقت بها يا رسول الله لقد كذبت عليها ففارقتها قبل أن يأمره رسول الله ﷺ فصارت سنة للمتلاعنين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين، فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة فلا أراه إلا كاذباً، فجاءت به مثل المنعت المكروه " (٢).
وفي الباب أحاديث كثيرة وفيما ذكرنا كفاية، وأخرج عبد الرزاق عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود قالوا: لا يجتمع المتلاعنان أبداً، ثم ذكر سبحانه بعد ذكره لحكم القذف على العموم حكم نوع من أنواع القذف وهو قذف الزوج للمرأة التي تحته بعقد النكاح فقال:
_________
(١) البخاري تفسير سورة ٢٤/ ٣ - الترمذي تفسير سورة ٢٤/ ٣.
(٢) أبو داوود كتاب الطلاق باب ٢٧.
(والذين يرمون أزواجهم) جمع زوج بمعنى الزوجة فإن حذف التاء منها أفصح من إثباتها إلا في الفرائض، ولم يقيد هنا بالمحصنات إشارة إلى أن اللعان يشرع في قذف المحصنة وغيرها فهو في قذف المحصنة يسقط الحد عن الزوج وفي قذف غيرها يسقط التعزير كأن كانت ذمية أو أمة أو صغيرة تحتمل الوطء بخلاف قذف الصغيرة التي لا تحتمله، وبخلاف قذف الكبيرة التي ثبت زناها ببينة أو إقرار، فإن الواجب في قذفهما التعزير لكنه لا يلاعن لدفعه كما في كتب الفروع وقد وقع قذف الزوجة بالزنا لجماعة من الصحابة كهلال بن أمية وعويمر العجلاني وعاصم بن عدي.
(ولم يكن لهم شهداء) يشهدون بما رموهن به من الزنا (إلا أنفسهم) بالرفع على البدل من شهداء، ولم يذكر الزمخشري غيره، وقيل إنه نعت له على أن إلا بمعنى غير وبالنصب على الاستثناء على الوجه المرجوح، ولا مفهوم لهذا القيد، بل يلاعن ولو كان واجداً للشهود الذين يشهدون بزناها لنفي ولد ولدفع العقوبة حداً أو تعزيراً.
(فشهادة أحدهم) أي الشهادة التي تزيل عنه حد القذف أو فالواجب شهادة أحدهم أو فشهادة أحدهم كائنة أو واجبة، وقيل فعليهم أن يشهد
(وأنّ الله تواب) أي يعود على من تاب إليه ورجع عن معاصيه بالتوبة عليه والمغفرة له في ذلك وغيره (حكيم) فيما شرع لعباده من اللعان، وفرض عليهم من الحدود.
(عصبة منكم) العصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين، والمراد بهم هنا عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين وزيد بن رفاعة وحسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم. وقيل العصبة من الثلاثة إلى العشرة. وقيل من عشرة إلى خمسة عشر، وأصلها في اللغة الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض.
وقد أخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم حديث عائشة الطويل في سبب نزول هذه الآيات بألفاظ متعددة وطرق مختلفة، حاصله أن سبب النزول هو ما وقع من أهل الإفك الذين تقدم ذكرهم في شأن عائشة، وذلك أنها خرجت من هودجها تلتمس عقداً لها انقطع من جزع، فرحلوا وهم يظنون أنها في هودجها فرجعت وقد ارتحل الجيش والهودج معهم، فأقامت في ذلك المكان ومرّ بها صفوان بن المعطل وكان متأخراً عن الجيش فأناخ راحلته وحملها عليها، فلما رأى ذلك أهل الإفك قالوا ما قالوا، فبرأها الله مما قالوا: هذا حاصل القصة مع طولها وتشعب أطرافها فلا نطول بذكر ذلك.
وجملة (لا تحسبوه شراً لكم) إن كانت خبراً لـ (إن) فظاهر، وإن كان الخبر (عصبة) فهي مستأنفة خوطب بها النبي ﷺ وعائشة وأبو بكر وصفوان بن المعطل الذي قذف مع عائشة أم المؤمنين وتسلية لهم، والضمير المنصوب للإفك، والشر ما زاد ضره على نفعه.
(بل هو خير لكم) الخير ما زاد نفعه على ضره، وأما الخير الذي لا
(لكل امرئ منهم) أي من العصبة الكاذبة (ما اكتسب من الإثم) بسبب تكلمه بالإفك (والذي تولى) أي تحمل (كبره) أي معظمه (منهم) فبدأ بالخوض فيه وأشاعه وهو ابن أبيّ، قرأ جماعة بضم الكاف. قال الفراء: وهو وجه جيد، لأن العرب تقول: فلان تولى عظم كذا وكذا، أي أكبره. وقرئ بكسرها. قيل هما لغتان. وقيل هو بالضم معظم الإفك وبالكسر البداءة به، وقيل هو بالكسر الإثم.
فالمعنى أن الذي تولى معظم الإفك من العصبة (له عذاب عظيم) في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، واختلف في هذا الذي تولى كبره من عصبة الإفك من هو منهم، فقيل هو عبد الله بن أُبي، وقيل هو حسان والأول هو الصحيح، وقد روى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي ﷺ جلد في الإفك رجلين وامرأة، وهم مسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش، وقيل جلد عبد الله بن أبيّ وحسان وحمنة ولم يجلد مسطحاً لأنه لم يصرح بالقذف، ولكن كان يسمع ويشيع من غير تصريح، وقيل لم يجلد أحداً منهم.
قال القرطبي: المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذين حُدّوا حسان ومسطح وحمنة ولم يسمع بحد لعبد الله بن أُبَيّ.
ويؤيد هذا ما في سنن أبي داود عن عائشة قالت: لما نزل عذرى قام النبي ﷺ فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدّهم، وسماهم حسان ومسطح وحمنة، واختلفوا في وجه تركه ﷺ لجلد عبد الله بن أبيّ، فقيل لتوفير العذاب
وقيل ترك حده تألفاً لقومه واحتراماً لابنه، فإنه كان من صالحي المؤمنين وإطفاء لثائرة الفتنة، فقد كان ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه، كما في صحيح مسلم.
وأخرج البخاري وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن الزهري قال: كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال: الذي تولى كبره منهم عليّ فقلت: لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، كلهم سمع عائشة تقول: الذي تولى كبره منهم عبد الله بن أُبيّ قال: فقال لي فما كان جرمه؟ قلت حدثني شيخان من قومك: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف وأبو بكر ابن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام أنهما سمعا عائشة تقول: كان مسيئاً في أمري.
وقال يعقوب بن شيبة (١) في مسنده: دخل سليمان بن يسار على هشام ابن عبد الملك فقال له: يا سليمان الذي تولى كبره من هو؟ قال ابن أُبَيّ. قال كذبت هو عليّ، قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول، فدخل الزهري فقال: يا ابن شهاب من الذي تولى كبره؟ فقال: ابن أبيّ، قال: كذبت، هو عليّ، قال: أنا أكذب، لا أبا لك والله لو نادى مناد من السماء أن الله قد أحل الكذب ما كذبت. حدثني عروة وسعيد وعبد الله وعلقمة عن عائشة: أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن مسروق قال: " دخل حسان ابن ثابت على عائشة فشبب. وقال:
_________
(١) عبد الله بن محمد بن أبي شيبة.
حصان رزان ما تزن بريبة | وتصبح غرثى من لحوم الغوافل |
ومعنى الآية كان ينبغي للمؤمنين حين سمعوا مقالة أهل الإفك أن يقيسوا ذلك على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد فيهم فهو في أم المؤمنين أبعد.
قال الحسن: معنى بأنفسهم بأهل دينهم لأن المؤمنين كنفس واحدة في اشتراك الكل في الإيمان، ألا ترى إلى قوله: (ولا تقتلوا أنفسكم)؟.
قال الزجاج: وكذلك يقال للقوم الذين يقتل بعضهم بعضاً أنهم يقتلون أنفسهم. قال المبرد: ومثله قوله تعالى: (فاقتلوا أنفسكم) قال النحاس: معنى (بأنفسهم) بإخوانهم. وقيل بأبناء جنسهم، فأوجب الله سبحانه على المسلمين إذا سمعوا رجلاً يقذف أحداً ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه وإنما عدل عن الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر ولم يقل ظننتم بأنفسكم خيراً، وقلتم ليبالغ في التوبيخ بطريق الالتفات وليدل التصريح بلفظ الإيمان على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن، وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما يسمعه بإخوانه، وكفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع.
قال العلماء: في الآية دليل على أن درجة الإيمان والعفاف لا يزيلها الخبر المحتمل وإن شاع.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن بعض الأنصار أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى وذلك الكذب، أكنت أنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله، قال: فعائشة خير منك وأطيب، إنما هذا كذب وإفك باطل، فلما نزل القرآن ذكر الله من قال من الفاحشة ما قال من أهل الإفك، ثم قال: (لولا إذ سمعتموه) الآية، أي كما قال أبو أيوب وصاحبته.
وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: " أن من قذف مملوكه بالزنا أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن تكون كما قال " (١) وشرائط الإحصان خمسة: الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والعفة من الزنا؛ والمحصن كالمحصنة في وجوب حد القذف؛ وبسط الكلام في هذا في كتب الفروع. ثم ذكر سبحانه شرطاً لإقامة الحد على من قذف المحصنات فقال:
(ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) يشهدون عليهن بوقوع الزنا منهن برؤيتهم. ولفظ (ثم) يدل على أنه يجوز أن تكون شهادة الشهود في غير مجلس القذف. وبه قال الجمهور. وخالف في ذلك مالك. وظاهر الآية أنه يجوز أن تكون الشهود مجتمعين ومفترقين، وخالف في ذلك الحسن ومالك، وإذا لم يكمل الشهود أربعة كانوا قذفة يحدون حد القذف.
وقال الحسن والشعبي: إنه لا حد على الشهود ولا على المشهود عليه. وبه قال أحمد وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن، ويرد ذلك ما وقع في خلافة عمر رضي الله عنه من جلده للثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بالزنا، ولم يخالف في ذلك أحد في الصحابة. وقد اختلف في إعراب (شهداء) على أقوال، ثم بين الله سبحانه ما يجب على القاذف فقال:
(فاجلدوهم) أي كل واحد منهم (ثمانين جلدة) الجلد الضرب كما تقدم والمجالدة المضاربة في الجلود أو بالجلود، ثم استعير للضرب بالعصا والسيف وغيرهما، وقد تقدم بيان الجلد قريباً.
(ولا تقبلوا لهم شهادة) أي فاجمعوا لهم بين الأمرين، الجلد وترك
_________
(١) مسلم ١٦٦٠ - البخاري ٢٥٢٠.
(وأولئك هم الفاسقون) لإتيانهم كبيرة، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لمضمون ما قبلها، والفسق هو الخروج عن الطاعة ومجاوزة لحد المعصية، وفيه دليل على أن القذف من الكبائر لأن اسم الفسق لا يقع إلا على صاحب كبيرة، ثم بين الله سبحانه أن هذا التأييد لعدم قبول شهادتهم هو مع عدم التوبة فقال:
(إلا الذين تابوا من بعد ذلك) أي من بعد اقترافهم لذنب القذف (وأصلحوا) أعمالهم التي من جملتها ذنب القذف ومداركة ذلك بالتوبة والانقياد للحد (فإنّ الله غفور رحيم) يغفر ذنوبهم ويرحمهم، وقد اختلف أهل العلم في هذا الاستثناء هل يرجع إلى الجملتين قبله؟ وهي عدم قبول الشهادة، والحكم عليهم بالفسق، أم إلى الجملة الأخيرة وهذا الاختلاف بعد اتفاقهم على أنه لا يعود إلى جملة الجلد بل يجلد التائب كالمصرّ وبعد إجماعهم أيضاً على أن الاستثناء يرجع إلى جملة الحكم بالفسق فمحل الخلاف هل يرجع إلى جملة عدم قبول الشهادة أم لا؛ فقال الجمهور: إن هذا الاستثناء يرجع إلى الجملتين، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته وزال عنه الفسق لأن سبب ردها هو ما كان متصفاً به من الفسق بسبب القذف فإذا زال بالتوبة بالإجماع كانت الشهادة مقبولة.
وقال القاضي شريح وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسعيد بن جبير ومكحول وابن زيد وسفيان الثوري وأبو حنيفة: إن هذا الاستثناء يعود إلى جملة الحكم بالفسق لا إلى جملة عدم قبول الشهادة فيرتفع بالتوبة عن القاذف
وذهب الشافعي والضحاك إلى التفصيل فقالا: لا تقبل شهادته وإن تاب. إلا أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان فحينئذ نقبل شهادته، وقول الجمهور هو الحق لأن تخصيص التقييد بالجملة الآخرة، دون ما قبلها مع كون الكلام واحداً في واقعة شرعية من متكلم واحد خلاف ما تقتضيه لغة العرب، وأولوية الجملة الأخيرة المتصلة بالقيد بكونه قيداً لها لا تنفي كونه قيداً لا قبلها، غاية الأمر أن تقييد الأخيرة بالقيد المتصل بها أظهر من تقييد ما قبلها به، ولهذا كان مجمعاً عليه وكونه أظهر لا ينافي كونه فيما قبلها ظاهر.
وقد أطال أهل الأصول الكلام في القيد الواقع بعد جمل، كلا هو معروف عند من يعرف ذلك الفن، والحق هو هذا، والاحتجاج بما وقع تارة من القيود فإن الإيمان يقتضي عدم الوقوع في مثله ما دمتم أحياء، وفيه تهييج عظيم وتقريع بالغ.
(في الذين آمنوا) أي المحصنين العفيفين أو كل من اتصف بصفة الإيمان (لهم عذاب أليم في الدنيا) بإقامة الحد عليهم (والآخرة) بعذاب النار (والله يعلم) جميع المعلومات (وأنتم لا تعلمون) إلا ما علمكم به وكشفه لكم. ومن جملة ما يعلمه الله عظم ذنب القذف وعقوبة فاعله.
(ولولا فضل الله عليكم ورحمته) قد تقدم بيانه، وجواب لولا هو قوله: (ما زكى منكم من أحد أبداً) أي لولا التفضل والرحمة من الله ما طهر أحد منكم نفسه من دنسها ما دام حياً قرئ زكى مخففاً ومشدداً أي ما طهره الله، وقال مقاتل: ما صلح، والأولى تفسير زكى بالتطهر والتطهير وهو الذي ذكره ابن قتيبة، وعن ابن عباس قال: ما اهتدى أحد من الخلائق لشيء من الخير، والآية على العموم وقيل خاصة بالذين خاضوا في الإفك وأنهم طهروا وتابوا غير عبد الله فإنه استمر على الشقاوة حتى هلك، والأول أولى.
(ولكن الله يزكي من يشاء) من عباده بالتفضل عليهم والرحمة لهم (والله سميع) لما يقولونه (عليم) بجميع المعلومات، وفيه حث بالغ على الإخلاص، وتهييج عظيم لعباده التائبين، ووعيد شديد لمن يتبع الشيطان ويحب أن تشيع الفاحشة في عباد الله المؤمنين ولا يزجر نفسه بزواجر الله سبحانه.
أخرج ابن المنذر عن عائشة قالت: كان مسطح بن أثاثة ممن تولى كبره من أهل الإفك، وكان قريباً لأبي بكر، وكان في عياله فحلف أبو بكر أن لا ينيله خيراً أبداً فأنزل الله هذه الآية، قالت فأعاده أبو بكر إلى عياله وقال: لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا تحللتها وأتيت الذي هو خير، وقد روي هذا من طرق عن جماعة من التابعين.
وعن ابن عباس في الآية قال: كان ناس من أصحاب رسول الله - ﷺ - قد رموا عائشة بالقبيح وأفشوا ذلك وتكلموا فيها، فأقسم ناس من أصحاب النبي - ﷺ - منهم أبو بكر أن لا يتصدقوا على رجل تكلم بشيء من هذا ولا يَصِلُوه فقال: لا يقسم أولوا الفضل منكم والسعة أن لا يصلوا أرحامهم،
(أن يؤتوا) قال الزجاج أي على أن لا يؤتوا فحذف (لا) وقال أبو عبيدة: لا حاجة إلى إضمار لا، والمعنى: لا يحلفوا على أن لا يحسنوا إلى المستحقين للإحسان من (أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله) الجامعين لتلك الأوصاف، وعلى الوجه الآخر يكون المعنى: لا يقصروا في أن يحسنوا إليهم وإن كانت بينهم وبينهم شحناء لذنب اقترفوه، وقرئ بتاء الخطاب على الالتفات. ثم علمهم سبحانه أدباً آخر فقال:
(وليعفوا) عن ذنبهم الذي أذنبوه عليهم، وجناتهم التي اقترفوها، من عفا الربع أي درس، والمراد محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع (وليصفحوا) بإغضاء عن الجاني والإغماض عن جنايته، والإعراض عن لومه، فإن العفو أن يتجاوز عن الجاني، والصفح أن يتناسى جرمه. وقيل: العفو بالفعل والصفح بالقلب، وقرئ في الفعلين جميعاً بالفوقية ثم ذكر سبحانه ترغيباً عظيماً لمن عفا وصفح فقال:
(ألا تحبون أن يغفر الله لكم) بسبب عفوكم وصفحكم عن الفاعلين للإساءة عليكم، قال أبو بكر: بلى أنا أحب أن يغفر الله لي، ورجع إلى مسطح ما كان ينفقه عليه (والله غفور رحيم) أي كثير المغفرة والرحمة لعباده مع كثرة ذنوبهم، فكيف لا يقتدي العباد بربهم في العفو والصفح عن المسيئين إليهم؟.
(المؤمنات) بالله ورسوله، وقد اختلف في هذه الآية هل هي خاصة أو عامة، فقال سعيد بن جبير: هي خاصة فيمن رمى عائشة، وقال مقاتل: هي خاصة بعبد الله بن أُبي، رأس المنافقين وقال الضحاك، والكلبي: هي في عائشة وسائر أزواج النبي - ﷺ - دون سائر المؤمنين والمؤمنات، فمن قذف إحدى أمهات المؤمنين فهو من أهل هذه الآية. قال الضحاك: ومن أحكام هذه الآية، أنه لا توبة لمن رمى إحدى أزواجه - ﷺ -، ومن قذف غيرهن فقد جعل الله له التوبة، كما تقدم في قوله (إلا الذين تابوا)، وقيل إن هذه الآية خاصة بمن أصرّ على القذف، ولم يتب، وقيل إنها خاصة بمشركي مكة، لأنهم كانوا يقولون للمرأة إذا خرجت مهاجرة إِنما خرجت لتفجر.
وقيل إنها تعمّ كل قاذف ومقذوف من المحصنات والمحصنين، واختاره
النحاس وهو الموافق لما قرره أهل الأصول، من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا
بخصوص السبب. قال أهل العلم: إن كان المراد بهذه الآية المؤمنين من القذفة فالمراد باللعنة في قوله: (لعنوا في الدنيا والآخرة) الإبعاد عن الثناء الحسن على ألسنة أهل الإيمان، وضرب الحد، وهجر سائر المؤمنين لهم، وزوالهم عن رتبة العدالة، واستيحاش أهل الإيمان منهم، وإن كان المراد بها ْمن قذف عائشة خاصة. كانت هذه الأمور في جانب عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين، وإن كانت في مشركي مكة، فإنهم ملعونون في الدنيا والآخرة.
(وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) أي: بما عملوا في الدنيا من قول أو فعل، وأن الله سبحانه ينطقها بالشهادة عليهم، والمشهود به محذوف. وهو ذنوبهم التي اقترفوها، أي تشهد هذه عليهم بذنوبهم التي اقترفوها ومعاصيهم التي عملوها.
أخرج الطبراني، وأبو يعلى، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن أبي سعيد أن رسول الله - ﷺ - قال: " إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم، فيقال احلفوا فيحلفون. ثم يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم، ثم يدخلهم النار "، وقد روى عن النبي - ﷺ - من طريق جماعة من الصحابة ما يتضمن شهادة الجوارح على العصاة.
(ويعلمون أنّ الله هو الحق المبين) أي يعلمون عند معاينتهم لذلك، ووقوعه على ما نطق به الكتاب العزيز، أن الله هو الحق الثابت في ذاته وصفاته، وأفعاله (المبين) المظهر للأشياء كما هي في أنفسها، وإنما سمي سبحانه الحق لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره؛ وقد سمي بالحق أي الموجود لأن نقيضه الباطل، وهو المعدوم، وتفسيره بظهور ألوهيته تعالى وعدم مشاركة الغير له فيها، وعدم قدرة ما سواه على الثواب والعقاب، ليس له كثير مناسبة للمقام، ولم يغلظ الله سبحانه وتعالى؛ في القرآن في شيء من المعاصي تغليظه في إفك عائشة. فأوجز في ذلك وأشبع، وفصل وأجمل، وأكد وكرر؛ وما ذلك إلا ما روي عن ابن عباس من أذنب ذنباً ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة، وهذا منه تعظيم ومبالغة في أمر الإفك.
ولقد برأ الله تعالى أربعة بأربعة، برأ يوسف بشاهد من أهلها، وموسى بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم بإنطاق ولدها، وعائشة بهذه الآي العظام في كتابه المعجز؛ المتلو على وجه الدهر، بهذه المبالغات؛ فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك حيث لم يرض لها ببراءة صبي ولا نبي. حتى برأها بكلامه من القذف والبهتان؛ وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة رسوله. والتنبيه على أنافة محله صلى الله عليه وآله وأصحابه أجمعين.
ثم ختم سبحانه الآيات الواردة في أهل الإفك بكلمة جامعة فقال:
(و) هكذا (الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات) قال مجاهد، وسعيد بن جبير وعطاء وأكثر المفسرين: المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلمات، والكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الكلمات، وعن ابن عباس مثله، وزاد نزلت في الذين قالوا في زوجة النبي - ﷺ - ما قالوا من البهتان، وعن قتادة نحوه، وكذا روي عن جماعة من التابعين قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل. قال الزجاج: ومعناه لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء، ولا يتكلم بالطيبات إلا
وقيل: إن هذه الآية مبنية على قوله: (الزاني لا ينكح إلا زانية) فالخبيثات الزواني، والطيبات العفائف، وكذا الخبيثون والطيبون، وعن ابن زيد قال: نزلت في عائشة حين رماها المنافقون بالبهتان، والفرية فبرأها الله من ذلك، وكان ابن أبيّ هو الخبيث؛ وكان هو أولى بأن تكون له الخبيثة، ويكون هو لها، وكان رسول الله ﷺ طيباً فكان أولى أن تكون له الطيبة، وكانت عائشة الطيبة، وكانت أولى بأن يكون لها الطيب.
(أولئك مبرءون مما يقولون) الإشارة إلى الطيبين والطيبات، أي هم مبرءون مما يقوله الخبيثون والخبيثات، وقيل الإشارة إلى أزواج النبي - ﷺ - وقيل: إلى رسول الله - ﷺ -، وعائشة وصفوان بن المعطل، وقيل إلى عائشة وصفوان فقط، قال الفراء: وجمع كما قال: فإن كان له إخوة، والمراد أخوان، قال ابن زيد: هاهنا برئت عائشة.
(لهم مغفرة) عظيمة لما لا يخلو عنه البشر من الذنوب (ورزق كريم) هو رزق الجنة، روي أن عائشة كانت تفتخر بأشياء لم تعطها امرأة غيرها، منها أن جبريل أتى بصورتها في خرقة حرير، وقال هذه زوجتك، ومنها أن النبي - ﷺ - لم يتزوج بكراً غيرها، وقبض رسول الله - ﷺ - في حجرها وفي يومها. ودفن في بيتها، وكان ينزل عليه الوحي وهي معه في اللحاف، ونزلت براءتها من السماء، وأنها ابنة الصديق وخليفة رسول الله - ﷺ -، وخلقت طيبة، ووعدت مغفرة ورزقاً كريماً.
وكان مسروق إذا حدث عن عائشة يقول: حدثتني الصديقة ابنة الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، المبرأة من السماء؛ وقال حسان معتذراً في حقها:
حصان، رزان، ما تزن بريبة | وتصبح غرثى من لحوم الغوافل |
حليلة خير الناس، ديناً ومنصباً | نبي الهدى، والمكرمات الفواضل |
عقيلة حي من لؤي بن غالب | كرام المساعي مجدها غير زائل |
مهذبة، قد طيب الله خيمها | وطهرها من كل شين وباطل |
وقال ابن جرير: إنه بمعنى تؤنسوا أنفسكم، قال ابن عطية وتصريف الفعل يأبى أن يكون من أنس ومعنى كلام ابن جرير هذا أنه من الاستئناس الذي هو خلاف الاستيحاش لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا؟ فهو كالمستوحش حتى يؤذن له فإذا أذن له استأنس. فنهى سبحانه عن دخول تلك البيوت حتى يؤذن للداخل وقيل: هو من الإنس وهو أن يتعرف هل ثَمَّ إنسان أم لا؟ قال الواحدي: قال جماعة المفسرين: حتى تستأذنوا
(وتسلموا على أهلها) وفي مصحف عبد الله حتى تسلموا على أهلها، وتستأذنوا؛ وعن عكرمة نحوه: أخرج ابن أبي شيبة؛ والطبراني وغيرهما عن أبي أيوب قال: قلت يا رسول الله أرأيت قول الله حتى تستأنسوا أو تسلموا على أهلها، هذا التسليم قد عرفناه فما الاستئناس. قال: " يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة؛ ويتنحنح؛ فيؤذن أهل البيت " قال ابن كثير: هذا حديث غريب (١).
وأخرج الطبراني عن أبي أيوب أن النبي - ﷺ - قال: " الاستئناس أن تدعو الخادم حتى يستأنس أهل البيت، الذين تسلم عليهم " وفي الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد قال: اطلع رجل من جحر في حجرة النبي - ﷺ - ومعه مدرى يحك بها رأسه قال: " لو أعلم أنك تنظر لطعنت بها في عينيك، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر " (٢) وفي لفظ: إنما جعل الإذن من أجل البصر، وعن أنس قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبت عمري كله في هذه الآية فما أدركتها: إن أستأذِنَ على بعض إخواني فيقول: إرجع فأرجع وأنا مغتبط لقوله (وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم).
وعن ابن عباس قال: نسخ واستثنى من ذلك. فقال (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم) أخرج أحمد والبخاري في الأدب وأبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي من طريق كلدة أن صفوان بن
_________
(١) ابن كثير ٣/ ٢٨٠.
(٢) مسلم ٢١٥٦ - البخاري ٢٣٠٠.
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب؛ وأبو داود والبيهقي في السنن من طريق ربعي قال: حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي - ﷺ - وهو في بيت فقال: أألج؟ فقال النبي - ﷺ - لخادمه أخرج إلى هذا فعلمه الإستئذان. فقل له: قل السلام عليكم أأدخل؟.
وأخرج ابن جرير عن عمر بن سعيد الثقفي نحوه مرفوعاً. ولكنه قال أن النبي - ﷺ - قال لأمة له يقال لها روضة: " قومي إلى هذا فعلميه " واختلفوا هل يقدم الاستئذان على السلام؟ أو العكس؟ فقيل: يقدم الاستئذان فيقول أأدخل سلام عليكم؟ لتقديم الاستئناس في الآية على السلام. وقال الأكثرون: إنه يقدم السلام على الاستئذان فيقول: السلام عليكم أأدخل؟ وهو الحق لأن البيان منه - ﷺ - للآية كان هكذا: وقيل: إن وقع بصره على إنسان قدّم السلام: وإلا قدم الاستئذان.
(ذلكم) أي الاستئناس والتسليم أي دخولكم مع الاستئذان والسلام (خير لكم) من التهجم بغير إذن ومن الدخول بغتة (لعلكم تذكّرون) أنّ الاستئذان خير لكم، وهذه الجملة متعلقة بمقدر أي: أمرتم بالاستئذان والمراد بالتذكر الاتعاظ، والعمل بما أمروا به.
_________
(١) ألِلّبَأ: هو أول ما يُحلَب عند الولادة، ولَبَأَتِ الشاة ولدَها أرضعته اللّبَأ (النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ٤/ ٢٢١، تحقيق محمود محمد الطناحي، طبعة عيسى البابي الحلبي بالقاهرة).
(٢) الضغابيس: صغار القِثّاء، وأحدها ضُغبوس، وقيل هي نبتٌ ينبت في أصول الثُمام، يُشبه الهِليون، يُسلَق بالخل والزيت ويؤكل (النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ٣/ ٨٩).
(وإن قيل لكم) أي: إن قال لكم أهل البيت: (ارجعوا فارجعوا) ولا تعاودوهم بالاستئذان مرة أخرى ولا تنتظروا بعد ذلك أن يؤذن لكم بعد أمرهم لكم بالرجوع. ولا تقفوا على الباب ملازمين، ثم بين سبحانه أن الرجوع أفضل من الإلحاح وتكرير الاستئذان، والقعود على الباب، والإصرار على الانتظار، فقال:
(هو) أي الرجوع (أزكى لكم) أي: أفضل وأطهر من التدنس بالمشاحة على الدخول ومن اللج والعناد والوقوف على الأبواب، لما في ذلك من سلامة الصدر، والبعد من الريبة، والفرار من الدناءة والرذالة، وإذا حضر أحد إلى الباب فلم يستأذن وقعد على الباب منتظراً جاز وكان ابن عباس يأتي دور الأنصار لطلب الحديث فيقعد على الباب ولا يستأذن حتى يخرج إليه الرجل فيراه ويقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو أخبرتني بمكانك؟ فيقول هكذا أمرنا أن نطلب العلم (والله بما تعملون عليم) لا تخفى عليه من أعمالكم خافية، ومنه الدخول بإذن وغير إذن.
وقال ابن زيد، والشعبي: هي حوانيت القيساريات وبيوت التجار، وحوانيتهم في الأسواق والرُّبَط، قال الشعبي: لأنهم جاءوا بيوعهم فجعلوها فيها، وقالوا للناس: هلم وقال عطاء: المراد بها الخرب التي يدخلها الناس للبول والغائط ففي هذا أيضاً متاع، وقيل هي بيوت مكة، روي ذلك عن محمد بن الحنفية أيضاً، وهو موافق لقول من قال: إن الناس شركاء فيها ولكن قد قيد سبحانه هذه البيوت المذكورة هنا بأنها غير مسكونة.
(فيها متاع لكم) المتاع: النفعة عند أهل اللغة فيكون معنى الآية فيها منفعة لكم، كاستكنان من الحر، والبرد، وإيواء الرحال: والسلع، والشراء، والبيع، ومنه قوله: ومتعوهن. وقولهم: أمتع الله بك، وقد فسر الشعبي المتاع في كلامه المتقدم بالأعيان التي تباع، قال جابر ابن زيد: وليس المراد بالمتاع الجهاز، ولكن ما سواه من الحاجة. قال النحاس: وهو حسن موافق للغة.
(والله يعلم ما تبدون وما تكتمون) أي ما تظهرون، وما تخفون، وفيه وعيد لمن لم يتأدب بآداب الله في دخول بيوت الغير، ويدخل الخربات، والدور الخالية من أهل الريبة، ولما ذكر سبحانه حكم الاستئذان أتبعه بذكر حكم النظر على العموم فقال:
_________
(١) مسلم ٢١٥٦ - البخاري ٢٣٠٠.
وقيل وجه التبعيض أنه يعفى للناظر، أول نظرة تقع من غير قصد، وقال الأخفش: إنها زائدة، وأنكر ذلك سيبويه. وقيل: إنها لبيان الجنس قاله أبو البقاء، واعترض عليه بأنه لم يتقدم مبهم حتى يكون مفسراً بـ (من) وقيل إنها لابتداء الغاية، قاله ابن عطية، وعليه اقتصر أبو حيان في النهر، وقيل: الغض: النقصان، يقال: غض فلان من فلان، أي: وضع منه. فالبصر إذاً لم يمكن من عمله فهو مغضوض منه، ومنقوص، فتكون (من) صلة للغض، وليست لمعنى من تلك المعاني الأربعة، وفي هذه الآية دليل على تحريم النظر إلى غير من يحل النظر إليه.
قال ابن عباس: يغضوا أبصارهم يعني. من شهواتهم، مما يكره الله. وأخرج أبو داود، والترمذي، والبيهقي في سننه، عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك وليست لك الأخرى " (١).
وفي مسلم، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، عن جرير البجلي قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف (٢). وفي الصحيحين؛ وغيرهما؛ من حديث أبي سعيد قال: قال
_________
(١) أبو داوود كتاب النكاح باب ٤٣ - الترمذي كتاب الأدب ٢٨.
(٢) مسلم ٢١٥٩ - الترمذي كتاب الأدب باب ٢٨.
(ويحفظوا فروجهم) أي يجب عليهم حفظها عما يحرم عليهم ولا يحل لهم. وقيل المراد ستر فروجهم عن أن يراها من لا تحل له رؤيتها، ولا مانع من إرادة المعنيين، فالكل يدخل تحت حفظ الفرج، وقيل وجه المجيء بمن في الأبصار دون الفروج أنه موسع في النظر فإنه لا يحرم منه إلا ما استثنى، ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن؟ وكذا الإماء المستعرضات للبيع بخلاف حفظ الفرج، فإنه مضيق فيه. فإنه لا يحل منه إلا ما استثنى.
وقيل الوجه أن غض البصر كلِّه كالمتعذر، بخلاف حفظ الفرج، فإنه ممكن على الإطلاق قال أبو العالية: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلا ما في هذا الموضع فإنه أراد به الإستتار حتى لا يقع بصر الغير عليه.
(ذلك) أي ما ذكر من الغض والحفظ (أزكى) أي أطهر (لهم) من دنس الريبة، وأطيب من التلبس بهذه الدنيئة (إن الله خبير بما يصنعون) لا يخفى عليه شيء من صنعهم، فيجازيهم عليه، وفي ذلك وعيد لمن لم يغض بصره ويحفظ فرجه.
_________
(١) مسلم ٢١٢١ - البخاري ١٢١٧.
(وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) خص سبحانه الإناث بهذا الخطاب على طريق التأكيد لدخولهن تحت خطاب المؤمنين تغليباً كما في سائر الخطابات القرآنية وظهر التضعيف في يغضضن، ولم يظهر في يغضوا لأن لام الفعل من الأول متحركة، ومن الثاني ساكنة، وهما في موضع جزم جواباً للأمر. وبدأ سبحانه بالغض في الموضعين قبل حفظ الفرج. لأن النظر وسيلة إلى عدم حفظ الفرج. والوسيلة مقدمة على المتوسل إليه.
وعن مقاتل قال: بلغنا. والله أعلم، أن جابر بن عبد الله الأنصاري حدث أن أسماء بنت يزيد كانت في نخل لها لبني حارثة. فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات فيبدو ما في أرجلهن. يعني الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن فقالت أسماء ما أقبح هذا! فأنزل الله في ذلك وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن الآية.
وبالجملة أمر الله سبحانه المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار. فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة، ولا للمرأة أن تنظر إلى الرجل، فإن علاقتها به كعلاقته بها وقصدها منه كقصده منها، وقال مجاهد: إذا أقبلت المرأة جلس إبليس على رأسها فزينها لمن ينظر، وإذا أدبرت جلس على عجيزتها فزينها لمن
(و) كذلك (يحفظن فروجهن) أي يجب عليهن حفظ فروجهن على الوجه الذي تقدم في حفظ الرجال لفروجهم، أخرج البخاري وأهل السنن وغيرهم عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: " احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك " قلت: يا نبي الله إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: " إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها قلت: إذا كان أحدنا خالياً؟ قال: فالله أحق أن يستحيا منه من الناس " (١).
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر وزنا اللسان النطق، وزنا الأذنين السماع، وزنا اليدين البطش، وزنا الرجلين الخطو، والنفس تتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه " (٢).
وأخرج الحاكم وصححه عن حذيفة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " النظرة سهم من سهام إبليس مسمومة، فمن تركها من خوف الله أثابه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه "، والأحاديث في هذا الباب كثيرة (٣).
(ولا يبدين زينتهن) أي ما يتزين به من الحلية وغيرها مثل الخلخال والخضاب في الرجل والسوار في المعصم والقرط في الأذن والقلائد في العنق فلا يجوز للمرأة إظهارها ولا يجوز للأجنبي النظر إليها ثم استثنى سبحانه من هذا النهي فقال:
_________
(١) الترمذي كتاب الأدب باب ٢٢، ٣٩ - الإمام أحمد ٥/ ٤.
(٢) مسلم ٢٦٥٧ - البخاري ٢٣٧٢.
(٣) المستدرك كتاب الرقاق ٤/ ٣١٤.
وإن كان المراد بالزينة مواضعها، كان الاستثناء راجعاً إلى ما يشق على المرأة ستره كالكفين والقدمين ونحو ذلك وهكذا إذا كان النهي عن إظهار الزينة يستلزم النهي عن إظهار مواضعها بفحوى الخطاب فإنه يحمل الاستثناء على ما ذكرناه في الموضعين وأما إذا كانت الزينة تشمل مواضع الزينة وما تتزين به النساء فالأمر واضح والاستثناء يكون من الجميع.
قال القرطبي في تفسيره: الزينة على قسمين خلقية ومكتسبة فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة والمكتسبة ما تحاوله المرأة في تحسين خلقها كالثياب والحلى والكحل والخضاب ومنه قوله تعالى: (خذوا زينتكم) وعن ابن مسعود قال: الزينة السوار والدملج والخلخال والقرط والقلادة إلا ما ظهر منها قال: الثياب والجلباب وعنه قال: الزينة زينتان زينة ظاهرة وزينة باطنة لا يراها إلا الزوج فأما الزينة الظاهرة فالثياب وأما الزينة الباطنة فالكحل والسوار والخاتم وفي لفظ فالظاهرة منها الثياب وما خفي الخلخالان والقرطان والسواران.
وعن ابن عباس في الآية قال: الكحل والخاتم والقرط والقلادة وعنه قال: هو خضاب الكف والخاتم وعن ابن عمر قال: الزينة الظاهرة الوجه
وأخرج أبو داود والبيهقي وابن مردويه عن عائشة أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على النبي - ﷺ - وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال: " يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وأشار إلى وجهه وكفه " (١). وهذا مرسل لأنه من طريق خالد بن دريك عن عائشة ولم يسمع منها وإنما رخص في هذا القدر للمرأة أن تبديه من بدنها لأن المرأة لا تجد بداً من مزاولة الأشياء بيديها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها وخاصة الفقيرات منهن قال المحلى: فيجوز نظره أي نظر ما ظهر منها لأجنبي إن لم يخف فتنة في أحد وجهين، والثاني يحرم لأنه مظنه الفتنة ورجح حسماً للباب انتهى أي باب النظر عن تفاصيل الأحوال كالخلوة بالأجنبية.
(وليضربن بخمرهنّ على جيوبهنّ) الخُمُر جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها ومنه اختمرت المرأة وتخمرت والجيوب جمع جيب وهو موضع القطع من الدرع والقميص مأخوذ من الجوب وهو القطع وقيل المراد بالجيب هنا محله وهو العنق وإلا فهو في الأصل طوق القميص وعدي الضرب بـ (على) لتضمينه معنى الإلقاء والباء زائدة أو تبعيضية.
وقال المفسرون: إن نساء الجاهلية كن يسدلن خمرهن من خلفهن وكانت جيوبهن من قدام واسعة فكان ينكشف نحورهن وقلائدهن فأمرن أن يضربن مقانعهن على الجيوب ليستر بذلك ما كان يبدو منها، وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء الذي هو الإلصاق وقرئ خمرهن بتحريك الميم وبكسرها وكثير من متقدمي النحويين لا يجوزون الكسر قال الزجاج: يجوز أن تبدل من
_________
(١) أبو داوود كتاب اللباس باب ٣١.
وقد فسر الجمهور الجيوب بما قدمنا، وهو المعنى الحقيقي وقال مقاتل: إن معنى (على جيوبهن) على صدورهن، فالمضاف محذوف، أي على مواضع جيوبهن، وقد أخرج البخاري في صحيحه وأبو داود، والنسائي والبيهقي وغيرهم في سننهم، عن عائشة قالت: رحم الله النساء المهاجرات الأولات، لما أنزل الله (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) شققن أكثف مروطهن فاختمرن به، وأخرج الحاكم وصححه، وابن جرير وغيرهما عنها بلفظ أخذ النساء أزرهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها.
(ولا يبدين زينتهن) أي مواضع الزينة الباطنة، وهي ما عدا الوجه والكفين، كالصدر والساق والرأس ونحوها، قال الخطيب: أي الزينة الخفية التي لم يبح لهن كشفها في الصلاة، ولا للأجانب وقال أبو السعود: كرر النهي لاستثناء بعض مواضع الرخصة باعتبار الناظر، بعد ما استثنى بعض موارد الضرورة باعتبار المنظور فقال:
(إلا لبعولتهن) أي لا يدعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن، والبعل هو الزوج والسيد في كلام العرب، وقدم البعول لأنهم المقصودون بالزينة، ولأن كل بدن الزوجة والسرية حلال لهم، ومثله قول سبحانه (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) [المؤمنون: ٥ - ٦] ثم لما استثنى الله سبحانه الزوج أتبعه باستثناء ذوي المحارم فقال:
(أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ) فجوز للنساء أن يبدين الزينة الباطنة لهؤلاء لكثرة المخالطة الضرورية بينهم وبينهن وعدم خشية الفتنة من قبلهم، لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب وقد روي عن الحسن والحسين رضي الله
وذهب الجمهور إلى أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر إلى ما يجوز لهم وقال الشعبي وعكرمة: ليس العم والخال من المحارم قال الكرخي: وعدم ذكر الأعمام والأخوال لما أن الأحوط أن يتسترن منهم حذراً من أن يصفوهن لأبنائهم والمعنى أن سائر القرابات تشترك مع الأب والابن في المحرمية إلا ابني العم والخال وهذا من الدلالات البليغة في وجوب الاحتياط عليهن في النسب، وليس في الآية ذكر الرضاع وهو كالنسب.
(أو نسائهن) أي: المختصات بهن من جهة الاشتراك في الإيمان، الملابسات لهن بالخدمة أو الصحبة، ويخرج من ذلك نساء الكفار من أهل الذمة وغيرهم، فلا يحل لهن أن يبدين زينتهن لهن، لأنهن لا يتحرجن عن وصفهن للرجال، وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم، قال ابن عباس: هن المسلمات لا تبديها ليهودية ولا نصرانية، وهو النحر، والقرط، والوشاح وما يحرم أن يراه إلا محرم.
وأخرج سعيد بن منصور، والبيهقي، وابن المنذر، عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي عبيدة: أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المؤمنين يدخلن الحمامات، مع نساء أهل الشرك، فإنه من قبلك عن ذلك، فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها.
(أو ما ملكت أيمانهن) فيجوز لهم نظرهن، إلا ما بين السرة والركبة، فيحرم نظره لغير الأزواج، قاله المحلي: وظاهر الآية يشمل العبيد
وأخرج البيهقي، وأبو داود، وغيرهما، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى فاطمة رضي الله تعالى عنها بعبد قد وهب لها، وعلى فاطمة ثوب إذا قنع به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما تلقى، قال: " إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك، وغلامك " وهو ظاهر القرآن (١).
وأخرج عبد الرزاق، وأحمد، عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إذا كان لإحداكن مكاتب وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه (٢) " قال سليمان الجمل عن شيخه: فيجوز لهن أن يكشفن لهم ما عدا ما بين السرة والركبة، ويجوز للعبيد أيضاً أن ينظروا له، وأن يكشفوا لهن من أبدانهم، ما عدا ما بين السرة والركبة، لكن بشرط العفة، وعدم الشهوة من الجانبين.
(أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال) أصل الإربة، والإرب، والمأربة الحاجة، والجمع مآرب، أي: حوائج، ومنه قوله سبحانه: (ولي فيها مآرب أخرى) قيل: المراد بغير أولى الإربة من الرجال الحمقاء الذين لا حاجة لهم في النساء، وقيل. البله، وقيل: العنين، وقيل: الخصي، وقيل: المخنث، وقيل: الشيخ الكبير، وقيل: هو المجبوب، ولا وجه لهذا
_________
(١) أبو داوود وكتاب اللباس باب ٣٢.
(٢) أبو داوود كتاب العتق الباب ١ - أحمد بن حنبل ٦/ ٢٨٩ - ٣٠٨ - ٣١١.
وقال في الشامل: لا يحل للخصي النظر إلى أن يكبر ويهرم وتذهب شهوته، وكذا المخنث، وبه قال شيخه القاضي أبو الطيب، وأطلق أبو مخلد البصري في الخصي، والمخنث، وجهين، والمراد بالآية ظاهرها، وهم من يتبع أهل البيت في فضول الطعام، ولا حاجة له في النساء، ولا يحصل منه ذلك في حال من الأحوال، فيدخل في هؤلاء من هو بهذه الصفة، ويخرج من عداه. قال ابن عباس في الآية: هذا الذي لا تستحي منه النساء، وعنه قال: هذا الرجل يتبع القوم وهو مغفل في عقله لا يكترث للنساء، وعنه قال: كان الرجل يتبع الرجل في الزمان الأول لا يغار عليه، ولا ترهب المرأة أن تضع خمارها عنده، وهو الأحمق الذي لا حاجة له في النساء، وعنه قال: هو المخنث الذي لا يقوم زبّه.
وأخرج مسلم وأبو داود، والنسائي، والبيهقي، وغيرهم، عن عائشة قالت: كان رجل يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مخنث، فكانوا يدعونه من غير أولى الإربة فدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً، وهو عند بعض نسائه، وهو ينعت امرأة، قال: إذا أقبلت أقبلت بأربع، وإذا أدبرت بثمان. قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " ألا أرى هذا يعرف ما هاهنا لا يدخلَنَّ عليكم " فحجبوه (١).
(أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) الطفل يطلق على المفرد، والمثنى والمجموع. أو المراد به هنا الجنس، الموضوع وضع الجمع، بدلالة وصفه. بوصف الجمع، وفي مصحف أبي: أو الأطفال. على الجمع قاله ابن قتيبة، قيل: معناه لم يبلغوا حد الشهوة، قاله الفراء، والزجاج، يقال: ظهرت على كذا إذا غلبته، وقهرته، والمعنى: لم يطلعوا
_________
(١) مسلم ٢١٨١ - أبو داوود - كتاب اللباس باب ٣٣.
قرأ الجمهور: عورات بسكون الواو، تخفيفاً لحرف العلة، وهي لغة جمهور العرب وعامتها وقرئ بفتحها، وهي لغة هذيل بن مدركة، والعورات جمع عورة، وهي ما يريد الإنسان ستره من بدنه، وغلب في السوأتين. واختلف العلماء في وجوب ستر ما عدا الوجه والكفين من الأطفال فقيل لا يلزم، لأنه لا تكليف عليه، وهو الصحيح، وقيل: يلزم، لأنها قد تشتهي المرأة، وهكذا اختلف في عورة الشيخ الكبير، الذي قد سقطت شهوته، والأولى بقاء الحرمة، كما كانت، فلا يحل النظر إلى عورته، ولا يحل له أن يكشفها، وقد اختلف العلماء في حد العورة.
قال القرطبي: أجمع المسلمون على أن السوأتين عورة من الرجل، والمرأة، وأن المرأة كلها عورة إلا وجهها ويديها، على خلاف في ذلك. وقال الأكثر: إن عورة الرجل من سرته إلى ركبته. قال ابن عباس: الزينة التي تبديها لهؤلاء قرطها وقلادتها، وسوارها، فأما خلخالها، ومعضدها، ونحرها، وشعرها!، فإنها لا تبديها إلا لزوجها، ومجموع هذه المستثنيات اثنا عشر نوعاً.
(ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) أي: لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليسمع صوت خلخالها من يسمعه من الرجال فيعلمون أنها ذات خلخال، فإن ذلك مما يورث الرجال ميلاً إليهن، ويوهم أن لهن ميلاً إلى الرجال وهذا سد لباب المحرمات وتعليم للأحوط وإلا فصوت النساء ليس بعورة عند الشافعي، فضلاً عن صوت خلخالهن وقال الزجاج: وسماع هذه الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها قال ابن عباس في الآية: وهو أن
وفي القرطبي من فعل ذلك منهن فرحاً بحليهن فهو مكروه، ومن فعل ذلك منهن تبرجاً وتعرضاً للرجال فهو حرام مذموم وكذلك من ضرب بنعله الأرض من الرجال فعل ذلك عجباً حرم فإن العجب كبيرة، وإن فعل ذلك تبرجاً لم يحرم انتهى.
ثم أرشد سبحانه عباده إلى التوبة عن المعاصي فقال:
(وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون) مما وقع لكم من النظر الممنوع منه ومن غيره وفيه الأمر بالتوبة ولا خلاف بين المسلمين في وجوبها وأنها فرض من فرائض الدين. قيل العبد لا يخلو عن سهو ويقصر في أوامره ونواهيه، وإن اجتهد فلذا وصاهم جميعاً بالتوبة، وقد تقدم الكلام على التوبة في سورة النساء.
وقيل إن المراد بالتوبة هنا هي عما كانوا يعملونه في الجاهلية، والأول أولى لما تقرر في السنة أن الإسلام يجبُّ ما قبله، وقد ورد أحاديث في الأمر بالتوبة والاستكثار منها قيل وأحوج الناس إلى التوبة من توهّم أنه ليس له حاجة إلى التوبة، وظاهر الآية يدل على أن العصيان لا ينافي الإيمان ثم ذكر ما يرغبهم في التوبة فقال (لعلكم تفلحون) أي تفوزون بسعادة الدنيا والآخرة أو تنجون من ذلك لقبول التوبة منه وفي الآية تغليب المذكور على الإناث.
ولما أمر سبحانه بغض الأبصار وحفظ الفروج أرشد بعد ذلك إلى ما يحل للعباد من النكاح الذي يكون به قضاء الشهوة وسكون دواعي الزنا، ويسهل بعده غض البصر عن جميع المحرمات. وحفظ الفرج عما لا يحل فقال:
وقيل للأزواج والأول أرجح وفيه دليل على أن المرأة لا تنكح نفسها. وعن عائشة عن النبي ﷺ أنه قال: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثلاثاً " (١) أخرجه أبو داود والترمذي وعندهما عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا نكاح إلا بولي " (٢) وقد خالف في ذلك أبو حنيفة فجوز للمرأة تزويج نفسها واختلف أهل العلم في هذا النكاح هل هو مباح؟ أو مستحب؟ أو واجب؟ فذهب إلى الأول الشافعي وغيره وإلى الثاني مالك وأبو حنيفة وإلى الثالث بعض أهل
_________
(١) الترمذي كتاب النكاح باب ١٤ - ابن ماجة كتاب النكاح باب ١٥.
(٢) الترمذي كتاب النكاح باب ١٤ - أبو داوود كتاب النكاح باب ١٩.
والظاهر أن القائلين بالإباحة والاستحباب لا يخالفون في الوجوب مع الخشية وبالجملة فهو مع عدمها سنة من السنن المؤكدة لقوله - ﷺ - في الحديث الصحيح بعد ترغيبه في النكاح ومن رغب عن سنتي فليس مني ولكن مع القدرة عليه وعلى مؤنه، وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله - ﷺ - " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحسن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " أخرجه البخاري ومسلم (١).
قال ابن عباس: أمر الله سبحانه بالنكاح ورغبهم فيه وأمرهم أن يزوجوا أحرارهم وعبيدهم، ووعدهم في ذلك الغنى كما سيأتي. وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه قال: أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى، وعن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب قال: ما رأيت كرجل لم يلتمس الغنى في الباءة وقد وعد الله فيها ما وعد فقال (إن يكونوا فقراء) الآية وعن ابن مسعود نحوه.
وعن عائشة قالت: قال رسول الله - ﷺ - " أنكحوا النساء يأتينكم بالمال " أخرجه البزار والدارقطني وأخرجه أبو داود في مراسيله عن عروة مرفوعاً. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ - " ثلاثة حق على الله عونهم الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء والغازي في سبيل الله " (٢). وقد ورد في الترغيب في مطلق النكاح أحاديث كثيرة ليس هذا موضع ذكرها والمراد بالأيامى هاهنا الأحرار والحرائر وأما المماليك فقد بين ذلك بقوله:
(والصالحين من عبادكم وإمائكم) وقرئ عبيدكم والصلاح هو
_________
(١) مسلم ١٤٠٠ - البخاري ٩٦٧.
(٢) الترمذي فضائل الجهاد باب ٢٠ - النسائي كتاب النكاح باب ٥.
وفيه دليل على أن المملوك لا يزوج نفسه وإنما يزوجه ويتولى تزويجه مالكه وسيده، وقد ذهب الجمهور إلى أنه يجوز للسيد أن يكره عبده وأمته على النكاح وقال مالك لا يجوز، ثم رجع سبحانه إلى الكلام في الأحرار فقال:
(إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) أي لا تمتنعوا من تزويج الأحرار بسبب فقر الرجل والمرأة أو أحدهما مالاً فإنهم إن يكونوا فقراء يغنهم الله سبحانه ويتفضل عليهم بذلك، فإن في فضل الله غنية عن المال فإنه غاد ورائح، قال الزجاج: حث الله على النكاح وأعلم أنه سبب لنفي الفقر ولا يلزم أن يكون هذا حاصلاً لكل فقير إذا تزوج فإن ذلك مقيد بالمشيئة، وقد يوجد في الخارج كثير من الفقراء لا يحصل لهم الغنى إذا تزوجوا، وقيل المعنى أنه يغنيهم بغنى النفس أي القناعة، وقيل المعنى أن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله من فضله بالحلال ليتعففوا عن الزنا، والوجه الأول أولى ويدل عليه قوله سبحانه: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك.
وقيل هو اجتماع الرزقين رزق الزوج والزوجة، وقيل إنَّ الله وعد الغنى بالنكاح وبالتفرق وهو قوله: (وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته) وجملة (والله واسع عليم) مقررة لما قبلها ومؤكدة والمراد أنه سبحانه ذو سعة لا ينقص من سعة ملكه غنى من يغنيه من عباده، عليم بمصالح خلقه، يغني من يشاء ويفقر من يشاء ثم
(حتى يغنيهم الله من فضله) أي يرزقهم رزقاً يستغنون به ويتمكنون بسببه من النكاح، وفي هذه الآية ما يدل على تقييد الجملة الأولى وهي (إن يكونوا فقراء يغنهم الله) بالمشيئة كما ذكرنا، فإنه لو كان وعداً -حتماً لا محالة في حصوله- لكان الغنى والزواج متلازمين، وحينئذ لا يكون للأمر بالاستعفاف مع الفقر كثير فائدة فإنه يستغني عند تزوجه لا محالة فيكون في تزوجه مع فقره تحصيل للغنى، إلا أن يقال إن الأمر بالاستعفاف للعاجز عن تحصيل مبادئ النكاح، ولا ينافي ذلك وقوع الغنى له من بعد أن ينكح، فإنه قد صدق عليه أنه لم يجد نكاحاً إذا كان غير واجد لأسبابه، التي يتحصل بها وأعظمها المال.
وانظر كيف رتب هذه الأوامر فأمر أولاً بما يعصم من الفتنة ويبعد عن مواقعة المعصية وهو غض البصر، ثم بالنكاح المحصن المغني عن الحرام، ثم بعزة النفس الأمارة بالسوء عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يقدر عليه، ثم لما رغب سبحانه في تزويج الصالحين من العبيد والإماء أرشد المالكين إلى طريقة يصير بها المملوك من جملة الأحرار فقال:
(والذين يبتغون الكتاب مما ملكت إيمانكم) من العبيد والإماء، والكتاب مصدر كاتب كالمكاتبة، يقال كاتب يكاتب كتاباً، ومكاتبة، كما يقال: قاتل يقاتل قتالاً، ومقاتلة، وقيل: الكتاب هاهنا اسم عين للكتاب الذي يكتب فيه
وظاهر قوله (فكاتبوهم) أن العبد إذا طلب المكاتبة من سيده، وجب عليه أن يكاتبه بالشرط المذكور بعده، وهو (إن علمتم فيهم خيراً) الخير هو القدرة على أداء ما كوتب عليه، وإن لم يكن له مال، وقيل هو المال فقط كما ذهب إليه مجاهد والحسن، وعطاء، والضحاك، وطاووس، ومقاتل وروي عن علي، وابن عباس، وعنه أيضاً أمانة ووفاء، وعنه قال: إن علمت مكاتبك يقضيك، وعنه قال: حيلة ولا تلقوا مؤونتهم على المسلمين، وذهب إلى الأول ابن عمر، وابن زيد، واختاره مالك، والشافعي والفراء والزجاج.
قال الفراء: يقول إن رجوتم عندهم وفاء، وتأدية للمال وقال الزجاج: لما قال: (فيهم) كان الأظهر الاكتساب والوفاء وأداء الأمانة وقال النخعي: إن الخير الدين، والأمانة، وروي مثل هذا عن الحسن. وقال عبيدة السلماني: إقامة الصلاة قال الطحاوي: وأقول من قال إنه المال لا يصح عندنا، لأن العبد مال لمولاه، فكيف يكون له مال، قال: والمعنى عندنا إن علمتم فيهم الدين والصدق.
قال أبو عمرو بن عبد البر: من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال إن علمتم فيهم مالاً، وإنما يقال علمت فيه الخير والصلاح والأمانة، ولا يقال علمت فيه المال، هذا حاصل ما وقع من الاختلاف بين أهل العلم، في الخير المذكور في هذه الآية وإذا تقرر لك هذا فاعلم أنه قد ذهب إلى ظاهر ما يقتضيه الأمر المذكور في الآية من الوجوب عكرمة وعطاء ومسروق، وعمرو
ولا يخفاك أنه حجة واهية، وشبهة داحضة، والحق ما قاله الأولون وبه قال عمر وابن عباس واختاره ابن جرير عن أنس بن مالك قال: سألني سيرين المكاتبة فأبيت عليه، فأتى عمر بن الخطاب فأقبل علي بالدرة وقال: كاتبه وتلا (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً) فكاتبته قال ابن كثير إن إسناده صحيح.
وعن يحيى بن كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن علمتم فيهم حرفة، ولا ترسلوهم كلاًّ على الناس ". أخرجه أبو داود في المراسيل، والبيهقي في سننه. ولا تجوز الكتابة على أقل من نجمين عند الشافعي، وجوزها أبو حنيفة إلى نجم واحد، وقيل: إن الأمر مطلق، فيجوز حالاً، ومؤجلاً، ومنجماً، وغير منجم. ثم أمر سبحانه الموالي بالإحسان إلى المكاتبين فقال:
(وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) ففي هذه الآية الأمر للمالكين بإعانة المكاتبين على مال الكتابة، إما بأن يعطوهم شيئاً من المال أو بأن يحطوا عنهم مما كوتبوا عليه. وظاهر الآية عدم تقدير ذلك بمقدار، وقيل: الثلث، وقيل الربع، وقيل: العشر. ولعل وجه تخصيص الموالي بهذا الأمر هو كون الكلام فيهم، وسياق الكلام معهم، فإنهم هم المأمورون بالكتابة.
وقال الحسن والنخعي وبريدة: إن الخطاب بقوله: (وآتوهم) لجميع الناس. وقال زيد بن أسلم: إن الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم، كما في قوله سبحانه: (وفي الرقاب)، وللمكاتب
وعن علي ابن أبي طالب: أمر الله السيد أن يدع للمكاتب الربع من ثمنه، وهذا تعليم من الله ليس بفريضة، ولكن فيه أجراً. وقال صاحب الجمل: إن الأمر للوجوب. وعن بريدة في الآية قال: حث الناس على أن يعطوه، ثم إنه سبحانه لما أرشد الموالي إلى نكاح الصالحين من المماليك، نهى المسلمين عما كان يفعله أهل الجاهلية من إكراه إمائهم على الزنا فقال:
(ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء) المراد بالفتيات هنا الإماء وإن كان الفتى والفتاة قد يطلقان على الأحرار في مواضع أخر، والفتى: الشاب، والفتاة: الشابة، والبِغاء بالكسر والمد، مصدر بغت المرأة تبغي بغاء، إذا زنت، وفجرت، وهذا مختص بزنا النساء، فلا يقال: للرجل إذا زنى: إنه بغى. قاله الأزهري. والجمع: البغايا، والبغيّ القينة، وإن كانت عفيفة، لثبوت الفجور لها في الأصل، قاله الجوهري، ولا يراد به الشتم لأنه اسم جعل كاللقب. والأمة تباغي، أي: تزاني، وشرط الله سبحانه هذا النهي بقوله:
(إن أردن تحصناً) لأن الإكراه لا يتصور، ولا يكون إلا عند إرادتهن للتحصن، فإن من لم ترد التحصن لا يصح أن يقال لها مكرهة على الزنا، والمراد بالتحصن هنا التعفف والتزوج، وقيل: إن هذا القيد راجع إلى الأيامى. قال الزجاج، والحسن بن الفضل: في الكلام تقديم، وتأخير، أي: وأنكحوا الأيامى منكم، والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن أردن تحصناً. وقيل: إن هذا الشرط ملغى، وقيل: إن هذا الشرط باعتبار ما
فإن الأمة قد تكون غير مريدة للحلال، ولا للحرام، كما فيمن لا رغبة لها في النكاح، والصغيرة، فتوصف بأنها مكرهة على الزنا مع عدم إرادتها للتحصن، فلا يتم ما قيل من أنه لا يتصور الإكراه إلا عند إرادة التحصن إلا أن يقال إن المراد بالتحصن هنا مجرد التعفف، وإنه لا يصدق على من كانت تريد الزواج أنها مريدة للتحصن، وهو بعيد. فقد قال الحبر ابن عباس: إن المراد بالتحصن: التعفف، والتزوج، وتابعه على ذلك غيره.
أخرج مسلم، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وغيرهم، عن جابر بن عبد الله قال: كان عبد الله بن أُبيّ يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئاً، وكانت كارهة، فأنزل الله هذه الآية. وذكر مسلم في صحيحه عن جابر أن جارية لعبد الله بن أبي يقال لها. مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، وكان يريدهما على الزنا فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله هذه الآية.
وأخرج البزار، وغيره، عن أنس نحو حديث جابر الأول، وعن علي ابن أبي طالب قال: كان أهل الجاهلية يبغين (١) إماؤهم فنهوا عن ذلك في الإسلام، وعن ابن عباس قال: كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا يأخذون أجورهن فنزلت الآية، وقد ورد النهي منه صلى الله عليه وآله وسلم عن مهر البغي، وكسب الحجام، وحلوان الكاهن، ثم علل سبحانه هذا النهي بقوله:
_________
(١) يبغين إماؤهم هو وجه صحيح في جمع الفعل قبل.
(ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم) هذا مقرر لما قبله، ومؤكد له، والمعنى أن عقوبة الإكراه راجعة إلى المكرِهين لا إلى المكرهات، كما تدل عليه قراءة ابن مسعود وغيره، فإن الله غفور رحيم لهن. قيل وفي هذا التفسير بعد، لأن المكرهة على الزنا غير آثمة، وأجيب بأنها وإن كانت مكرهة فربما لا تخلو في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة، إما بحكم الجبلة البشرية، أو بكون الإكراه قاصراً عن حد الإلجاء المزيل للاختيار بالمرة، وإما لغاية تهويل أمر الزنا وحث المكرهات على التثبت في التجافي عنه والتشديد في تحذير المكرهين، ببيان أنهن حيث كن عرضة للعقوبة، لولا أن تداركتهن المغفرة والرحمة مع قيام العذر في حقهن، فما حال من يكرههن في استحقاق العقاب، وقيل: إن المعنى غفور رحيم لهم، إما مطلقاً أو بشرط التوبة، ولما فرغ سبحانه من بيان تلك الأحكام شرع في وصف القرآن بصفات ثلاث فقال:
فإن العجب من قصة عائشة هو كالعجب من قصة يوسف ومريم، وما اتهما به ثم تبين بطلانه وبراءتهما سلام الله عليهما، والصفة الثالثة كونه موعظة ينتفع بها المتقون خاصة، فإن الله قد ختم على قلوب غيرهم، وجعل على أبصارهم غشاوة عن سماع المواعظ، والاعتبار بقصص الذين خلوا، وفهم ما تشتمل عليه الآيات البينات، ثم أردف الله وصف القرآن بكونه سبحانه في غاية الكمال ونهاية الجمال، فقال:
أو يكون المراد المبالغة في وصفه سبحانه بأنه نور لكمال جلاله وظهور عدله وبسطة أحكامه، كما يقال فلان نور البلد، وقمر الزمن، وشمس العصر، قيل ومعنى النور في اللغة الضياء. وهو الذي يبين الأشياء وُيري الأبصار حقيقة ما تراه فيجوز إطلاق النور على الله على طريقة المدح. ولكونه أوجد الأشياء المنورة، وأوجد أنوراها. ويدل عليه قراءة زيد بن علي وأبي جعفر وعبد العزيز المكي: الله نَوَّرَ السماوات والأرض على صيغة الفعل الماضي. وفاعله ضمير يرجع إلى الله والسماوات مفعوله فمعنى الله نورهما أنه سبحانه صيرهما منيرتين باستقامة أحوال أهلهما وكمال تدبيره عز وجل لمن فيهما كما يقال الملك نور البلد، وهكذا قال الحسن ومجاهد والأزهري والضحاك والقرظي وابن عرفة، وابن جرير وغيرهم.
وقال هشام الجواليقي وطائفة من المجسمة: إنه سبحانه نور لا كالأنوار وجسم لا كالأجسام. وقال ابن عباس وأنس في الآية: الله هادي السماوات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون وبهدايته من حيرة الضلالة ينجون، وقيل نور السماء بالملائكة ونَوَّرَ الأرض بالأنبياء، وقيل مزين السماء والأرض زين السماء بالشمس والقمر والنجوم وزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين ويقال زين الأرض بالنبات والأشجار، وقيل معناه أن الأنوار كلها منه وقد يذكر هذا اللفظ على طريق المدح كما قال الشاعر.
إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار عنها نورها وجمالها وعن ابن عباس يدبر الأمر فيهما نجومهما وشمسهما وقمرهما، (مثل نوره) مبتدأ، وخبره (كمشكاة) أي صفة نوره الفائض عنه الظاهر على الأشياء كمشكاة، وهذه الجملة إيضاح لما قبلها وتفسير فلا محل لها، وثم مضاف محذوف أي كمثل مشكاة وهي الكوة في الحائط التي لا منفذ لها كذا حكاه الواحدي عن جميع المفسرين وحكاه القرطبي عن جمهورهم.
ووجه تخصيص المشكاة أنها أجمع للضوء الذي يكون من مصباح أو غيره، وعن ابن عباس قال في الآية: مثل نوره أي هداه في قلب المؤمن كمشكاة يقول موضع الفتيلة، وفي إسناده مقال وعن أبيّ بن كعب قال: هو المؤمن الذي قد جعل الإيمان، والقرآن في صدره فضرب الله مثله فقال: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره) وبدأ بنور نفسه ثم ذكر نور المؤمن فصدر المؤمن المشكاة وعن ابن عباس: مثل نوره الذي أعطى المؤمن كمشكاة، وفي قراءة أبيّ مثل نور المؤمن وفي لفظ نور من آمن به كمشكاة، وعن ابن عباس أيضاً: مثل نور من آمن بالله كمشكاة وهي الكوة وعنه قال: هي خطأ من الكاتب هي أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة بل مثل نور المؤمن كالمشكاة وقيل المعنى مثل نور الله عز وجل في قلب المؤمن وهي النور الذي يهتدى به وقيل أراد بالنور القرآن، وقيل أراد محمداً - ﷺ -، وقيل هو الطاعة سمى الله طاعته نوراً، وأضاف هذه الأنوار إلى نفسه تشريفاً وتفضيلاً، وقيل مثل نوره أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن والدلائل تسمى نوراً قاله القرطبي.
واختلفوا في هذا التشبيه هل هو مركب؟ أو غير مركب؟ وقيل ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل به بل وقع التشبيه فيه لجملة بجملة.
(فيها مصباح) هو السراج الضخم، وأصله من الضوء (المصباح في زجاجة) واحدة الزجاج يعني القنديل قال الزجاج: النور في الزجاج وضوء النار أبين منه في كل شيء وضوءه يزيد في الزجاج، ووجه ذلك أن الزجاج جسم شفاف. يظهر فيه النور أكمل ظهور ثم وصف الزجاجة فقال:
وقال أُبيّ: دري أي مضيء من الدرء بمعنى الدفع لدفعه الظلام. ثم وصف المصباح بقوله: (يوقد) وقد قرئ بالتاء على أن الضمير راجع إلى الزجاجة دون المصباح. وقرئ بالتحتية وتخفيف القاف. وضم الدال. وقرئ توقد على أنه فعل ماض. من التفعل. والضمير في هاتين راجع إلى المصباح. قال النحاس: وهاتان متقاربتان لأنهما جميعاً للمصباح. وهو أشبه بهذا الوصف لأنه الذي ينير ويضيء وإنما الزجاجة وعاء له وقرئ على أنه فعل مضارع وأصله تتوقد.
(من شجرة) أي ابتداء إيقاد المصباح منها، وقيل يوقد من زيت شجرة (مباركة) أي كثيرة المنافع والبركة، وقيل المنماة. قال أُبَيّ: أصل المبارك الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له (زيتونة) الزيتون من أعظم الثمار نماء. قيل ومن بركتها أن أغصانها تورق من أسفلها إلى أعلاها. وهي إدام ودهان. ودباغ ووقود وليس فيها شيء إلا وفيه منفعة. وهي أصفى الأدهان وأضوءها.
وقيل إنها أول شجرة نبتت بعد الطوفان ونبتت في منازل الأنبياء. ودعا لها سبعون نبياً بالبركة، منهم إبراهيم، ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهي شجرة (١) لا يسقط ورقها. وعن أسيد بن ثابت. أو أبي أسيد الأنصاري
_________
(١) قد ورد في البخاري مرفوعاً عن ابن عمر صريحاً أن الشجرة التي لا يسقط ورقها هي النخلة. ولا يمنع هذا من مشاركة شجرة الزيتون لها في هذه الصفة.
(لا شرقية ولا غربية) صفة لشجرة ودخلت (لا) لتفيد النفي، وقرئ بالرفع أي لا هي شرقية ولا هي غربية، وقد اختلف المفسرون في معنى هذا الوصف فقال عكرمة، وقتادة، وغيرهما: إن الشرقية هي التي تصيبها الشمس إذا شرقت، ولا تصيبها إذا غربت، لأن لها ستراً، والغربية هي التي تصيبها إذا غربت، ولا تصيبها إذا شرقت، وهذه الزيتونة هي في صحراء، أو في منكشف من الأرض بحيث لا يسترها، ولا يواريها عن الشمس شيء لا في حال شروقها، ولا في حال غروبها، وما كانت من الزيتون هكذا فثمرها أجود، وأنضج، وزيتها أصفى.
وقيل: إن المعنى أنها شجرة في دوحة، قد أحاطت بها، فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب حكى هذا ابن جرير عن ابن عباس قال ابن عطية: وهذا لا يصح عنه، لأن الشجرة التي بهذه الصفة يفسد جناها، وذلك مشاهد في الوجود. ورجح القول الأول الفراء، والزجاج. وقال الحسن: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا، وإنما هو مثل ضربه الله لنوره، ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية.
قال الثعلبي: فقد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا، لأن قوله زيتونة بدل من قوله: شجرة. قال ابن زيد: إنها من شجر الشام. فإن الشام لا شرقي. ولا غربي. والشام هي الأرض المباركة، وشجرها أفضل، وقيل: معناه أنها ليست في مقناة لا تصيبها الشمس، ولا في مضحاة لا يصيبها الظل، فهي لا تضرها شمس ولا ظل، وقيل: معناها أنها معتدلة ليست في شرق يضرها الحر، ولا في غرب يضرها البرد. قال أُبي. فمثله كمثل شجرة التفت بها الشجر، فهي خضراء ناعمة، لا تصيبها الشمس على أي حال
_________
(١) الترمذي كتاب الأطعمة باب ٤٣ - الإمام أحمد ٣/ ٤٩٧.
(يكاد) أي: يقرب (زيتها يضيء) من صفائه (ولو لم تمسسه نار) قرئ بالفوقية لأن النار مؤنثة، قال أبو عبيد: إنه لا يعرف إلا هذه القراءة، وقرأ ابن عباس بالتحتية، لكون تأنيثها غير حقيقي. والمعنى أن هذا الزيت في صفائه وإنارته يكاد يضيء بنفسه من غير أن تمسه النار أصلاً.
(نور) أي هو نور كائن (على نور) صفة لنور مؤكدة له، وقيل نور الله أي هداه للمؤمنين نور على نور الإيمان. وقال مجاهد: والمراد النار على الزيت، وقال الكلبي: المصباح نور، والزجاجة نور، وقيل نور بالزيت مع نور بالنار. وقال السدي: نور الإيمان، ونور القرآن. وقيل نور متضاعف من غير تحديد، لتضاعفه بحد معين، وتحديد مراتب تضاعف ما مثل به من نور المشكاة بما ذكر، لكونه أقصى مراتب تضاعفه عادة.
وعن ابن عباس أن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: كيف يخلص نور الله من السماء، فضرب الله مثل ذلك لنوره، فقال: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة)، وهي كوة البيت، (فيها مصباح)، وهو السراج، يكون في الزجاجة وهو مثل ضربه الله لطاعته، فسمى طاعته نوراً، ثم سماها أنواعاً شتى، (لا شرقية ولا غربية). قال: وهي وسط الشجر لا تنالها الشمس إذا طلعت، ولا إذا غربت، وذلك أجود الزيت يكاد زيتها يضيء بغير نار (نور على نور) يعني بذلك إيمان العبد وعمله، (يهدي الله لنوره من يشاء)، وهو مثل المؤمن.
وعن ابن عمر قال: المشكاة جوف محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح الذي في قلبه، والشجرة إبراهيم، لا شرقية ولا غربية، لا يهودية ولا نصرانية، ثم قرأ (ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً) الآية. وعن شمر بن عطية قال: جاء
قال ابن العربي: قال ابن عباس: هذا مثل نور الله، وهداه، في قلب المؤمن، كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسسه النار، فإن مسته النار زاد ضوؤه، كذلك قلب المؤمن، يكاد يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم؛ فإذا جاء العلم زاد هدى على هدى، ونوراً على نور، كقلب إبراهيم من قبل أن تجيئه المعرفة، قال: هذا ربي من قبل أن يخبره أحد بأن له رباً، فلما أخبره الله أنه ربه زاد هدى، إذ قال له ربه: أسلم، قال: أسلمت لرب العالمين.
وأقول: إن تفسير النظم القرآني بهذا، ونحوه، مما تقدم عن أُبيّ ابن كعب، وابن عباس، وابن عمر رضي الله تعالى عنهم ليس على ما يقتضيه لغة العرب، ولا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يجوز العدول عن المعنى العربي إلى هذه المعاني، التي هي شبيهة بالألغاز والتعمية، ولكن هؤلاء الصحابة ومن وافقهم ممن جاء بعدهم استبعدوا تمثيل نور الله سبحانه بنور المصباح في المشكاة، ولهذا قال ابن عباس: هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة. كما قدمنا عنه. ولا وجه لهذا الاستبعاد، فإنا قد قدمنا في أول البحث ما يرفع الإشكال ويوضح ما هو المراد على أحسن وجه، وأبلغ أسلوب، وعلى ما تقتضيه لغة العرب، ويفيده كلام الفصحاء، فلا وجه للعدول عن الظاهر، لا من كتاب. ولا من سنة، ولا من لغة.
وأما ما حكي عن كعب الأحبار في هذا كما قدمنا فإن كان هو سبب
(يهدي الله لنوره) هداية خاصة، موصلة إلى المطلوب، وليس المراد بالهداية هنا مجرد الدلالة قال ابن عباس: لنوره لدين الإسلام، وهو نور البصيرة (من يشاء) من عباده لأن الأسباب دون مشيئته لاغية إذ بها تمامها (ويضرب الله الأمثال للناس) أي يبين الأشياء بأشباهها ونظائرها، تقريباً لها إلى الأفهام، وتسهيلاً لإدراكها، لأن إبراز المعقول في هيئة المحسوس وتصويره بصورته يزيده وضوحاً وبياناً.
(والله بكل شيء عليم) لا يغيب عنه شيء من الأشياء معقولاً، كان أو محسوساً، ظاهراً كان، أو باطناً. ومنه ضرب الأمثال.
وقيل معنى في بيوت في كل واحد من البيوت فكأنه قال: في كل بيت، أو في كل واحد من البيوت، واختلف الناس في البيوت على أقوال الأول أنها جميع المساجد، وهو قول مجاهد، والحسن وغيرهما. قال ابن عباس: بيوت الله في الأرض تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض. الثاني أن المراد بها بيوت بيت المقدس، روي ذلك عن الحسن، الثالث أنها بيوت النبي - ﷺ - روي هذا عن مجاهد، الرابع: هي البيوت كلها قاله عكرمة. الخامس: أنها المساجد الأربعة الكعبة، ومسجد قبا، ومسجد المدينة، ومسجد بيت المقدس، قاله ابن زيد والقول الأول أظهر لقوله: (يسبح له فيها بالغدو والآصال) والباء من بيوت تضم وتكسر كل ذلك ثابت في اللغة، ومعنى:
(أذن الله) أمر وقضى ومعنى (أن ترفع) تبنى قاله مجاهد وعكرمة وغيرهما ومنه قوله سبحانه، (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت). وقال الحسن البصري: وغيره معنى ترفع تعظم فلا يذكر فيها الخنا من القول، ويرفع شأنها وتطهر من الأنجاس والأقذار، ورجحه الزجاج، وقيل المراد بالرفع هنا مجموع الأمرين.
(و) معنى (يذكر فيها اسمه) كل ذكر لله عز وجل، وقيل هو التوحيد، وقيل المراد تلاوة القرآن، والأول أولى، وفي القرطبي قد كره بعض
(يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال) قرئ يسبح مبنياً للفاعل وللمفعول، فعلى الثانية يكون رجال مرفوعاً بفعل مقدر كأنه قيل من يسبحه؟ فقيل يسبحه رجال وعلى الأولى يكون رجال فاعل يسبح وقرئ تسبح بالفوقية وكسر الموحدة وعلى هذا يكون الفاعل أيضاً رجال، وإنما أنث الفعل لكون جمع التكسير يعامل معاملة المؤنث في بعض الأحوال.
واختلف في هذا التسبيح ما هو؟ فالأكثرون حملوه على الصلاة المفروضة قالوا: الغدوة صلاة الصبح، والآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين لأن اسم الآصال يشملها، والمعنى يصلي له فيها بالغداة صلاة الصبح. وبالآصال صلاة الظهر والعصر، والعشائين، وإنما وحد الغدو، لأن صلاته واحدة، وفي الآصال صلوات، والآصال جمع أصل جمع أصيل، وهو العشي، وقيل صلاة الصبح والعصر.
وقيل المراد صلاة الضحى، قاله ابن عباس وعنه في الآية قال: هي المساجد تكرم، وينهى عن اللغو فيها، ويذكر فيها اسم الله، يتلى فيها كتابه، يسبح له فيها بالغدو والآصال، صلاة الغداة، وصلاة العصر، وهما أول ما فرض الله من الصلاة فأحب أن يذكرهما ويذكر بهما عباده، وعنه قال: إن صلاة الضحى لفي القرآن، وما يغوص عليها إلا غواص في هذه الآية، وقيل المراد بالتسبيح هنا معناه الحقيقي، وهو تنزيه الله سبحانه عما لا يليق به في ذاته وصفاته وأفعاله، ويؤيد هذا ذكر الصلاة والزكاة، بعده وهذا أرجح مما قبله، لكونه المعنى الحقيقي مع وجود دليل، يدل على خلاف ما ذهب إليه الأولون وهو ما ذكرناه، قيل: خص الرجال بالذكر في هذه المساجد لأن النساء ليس عليهن حضور المساجد لجمعة ولا لجماعة.
ومعنى (عن ذكر الله) هو ما تقدم في قوله: (يذكر فيها اسمه)، أي باللسان والقلب، وقيل المراد الأذان، وقيل ذكره بأسمائه الحسنى، أي يوحدونه ويمجدونه، وقيل المراد الصلاة، ويرده ذكر الصلاة بعد الذكر هنا.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، عن أبي هريرة عن رسول الله - ﷺ - في الآية قال: " هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله " وأخرج ابن مردويه والديلمي، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الذين يبتغون من فضل الله ".
وعن ابن عباس قال: كانوا رجالاً يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما في أيديهم، وقاموا إلى المسجد فصلوا، وعنه في الآية قال: ضرب الله هذا المثل قوله: (كمشكاة) لأولئك القوم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وكانوا أتجر الناس وأبيعهم ولكن لم تكن تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وعنه قال: عن ذكر الله عن شهود الصلاة، وعن ابن عمر أنه كان في السوق، فأقيمت الصلاة
وعن ابن مسعود أنه رأى ناساً من أهل السوق سمعوا الأذان فتركوا أمتعتهم فقال: هؤلاء الذين قال الله فيهم (لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) وأخرج البيهقي، وابن أبي حاتم وغيرهما، عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله - ﷺ -: " يجمع الله يوم القيامة الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، فيقوم مناد فينادي أين الذين كانوا يحمدون الله في السرّاء والضرّاء؟ فيقومون -وهم قليل- فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يعود فينادي أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون -وهم قليل- فيدخلون الجنة بغير حساب، ثم يعود فينادي ليقم الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون -وهم قليل- فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يقوم سائر الناس فيحاسبون " (١) وأخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه عن جمقبة بن عامر مرفوعاً نحوه.
(وإقام الصلاة) أي إقامتها لمواقيتها من غير تأخير، وأدائها في وقتها جماعة لأن مؤخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة، وحذفت التاء لأن الإضافة تقوم مقامها في ثلاث كلمات جمعها الشاعر في قوله:
ثلاثة تحذف تاآتها... مضافة عند جميع النحاة
وهي إذا شئت أبو عذرها... وليت شعري وإقام الصلاة
وقيل الرابع عد الأمر، أي عدة الأمر، وقيل في توجيه حذفها غير ذلك وقد احتاج من حمل ذكر الله على الصلاة المفروضة أن يحمل إقام الصلاة على تأديتها في أوقاتها فراراً من التكرار ولا ملجئ إلى ذلك؛ بل يحمل الذكر على معناه الحقيقي كما قدمنا.
(وإيتاء الزكاة) المفروضة؛ وقيل المراد طاعة الله والإخلاص إذ ليس لكل مؤمن مال (يخافون يوماً) أي يوم القيامة والنصب على أنه مفعول
_________
(١) الحاكم، كتاب التفسير ٢/ ٣٩٩.
(تتقلب فيه القلوب) أي تضطرب وتتحول من الهول والفزع. وقيل المراد انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فلا ترجع إلى أماكنها ولا تخرج (و) تشخص (الأبصار) من هول ذلك اليوم، وقيل المراد بتقلبها هو أن تصير عمياً بعد أن كانت مبصرة، وقيل المراد بتقلب القلوب أنها تكون متقلبة بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك؛ وأما تقلب الأبصار فهو نظرها من أي ناحية يؤخذون وإلى أي ناحية يصيرون، وقيل المراد تحول قلوبهم وأبصارهم عما كانت عليه من الشك إلى اليقين ومثله قوله: (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) فما كان يراه في الدنيا غياً يراه في الآخرة رشداً؛ وقيل المراد التقلب على جمر جهنم وقيل غير ذلك.
(ويزيدهم من فضله) فإن المراد به التفضل عليهم بما فوق الجزاء الموعود به، أي يتفضل بأشياء لم توعد لهم بخصوصياتها أو بمقاديرها، ولم يخطر ببالهم كيفياتها، ولا كمياتها، بل إنما وعدت بطريق الإجمال في مثل قوله تعالى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)، وقوله عليه السلام حكاية عنه عز وجل: " أعددت لعبادي الصالحين، ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر " (١) غير ذلك من المواعيد الكريمة التي من جملتها قوله تعالى:
_________
(١) مسلم ٢٨٢٤ - البخاري ١٥٣٤.
وقال أبو عبيدة: قيعة وقاع واحد، حكاه النحاس قال الجوهري: القاع المستوى من الأرض والجمع أقوع وأقواع وقيعان صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها، والقيعة مثل القاع قال: وبعضهم يقول هو جمع والقاع ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت وفيه يكون السراب، وقرئ بقيعاه بهاء مدورة كما يقال رجل عزهاه، وقيعات بتاء مبسوطة وقيل الألف متولدة من إشباع العين على الأولى وجمع قيعة على الثاني.
(يحسبه الظمآن ماء) الظمآن العطشان، وقرئ الظمآن بغير همز،
والمشهور عنهم الهمز، وتخصيص الظمآن بالحسبان مع كون الريان يراه كذلك. لتحقيق التشبيه، المبني على الطمع، ولأنه أحوج إليه من غيره، فالتشبيه به أتم.
عن ابن عباس قال: هو مثل ضربه الله، كرجل عطش، فاشتد عطشه، فرأى سراباً، فحسبه ماء، فطلبه، فظن أنه قدر عليه، حتى أتى، فلما أتاه، لم يجده شيئاً، وقبض عند ذلك، يقول الكافر كذلك، إذا أتاه الموت، لم يجد عمله، يغني عنه شيئاً، ولا ينفعه، إلا كما نفع السراب العطشان.
(ووجد الله عنده) بالمرصاد، وقيل وجد وعد الله بالجزاء، على عمله. وقيل وجد أمر الله عند حشره، وقيل حكمه، وقضاءه، عند المجيء. وقيل قدم على الله. وقيل عند العمل، والمعنى متقارب (فوفاه حسابه) أي أعطاه، وافياً، كاملاً، حساب عمله المذكور، وجزاءه. فإن اعتقاده لنفعه بغير إيمان، وعمله بموجبه، كفر على كفر، موجب للعقاب قطعاً. وإفراد الضميرين الراجعين إلى الذين كفروا، إمّا لإرادة الجنس، كالظمآن الواقع في التمثيل، وإما للحمل على كل واحد منهم، وكذا إفراد ما يرجع إلى أعمالهم.
(والله سريع الحساب) لعباده من آمن منهم، ومن كفر. عن السدي، عن أبيه، عن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الكفار يبعثون يوم القيامة ورداً عطاشاً، فيقولون أين الماء؟ فيمثل لهم السراب، فيحسبونه ماء، فينطلقون إليه فيجدون الله عنده، فيوفيهم حسابهم، والله سريع الحساب. أخرجه ابن أبي حاتم، وعبد بن حميد، وابن المنذر. وفي إسناده السدي عن أبيه، وفيه مقال. معروف.
قال الجرجاني: الآية الأولى في ذكر أعمال الكفار، والثانية في ذكر كفرهم، ونسق الكفر على أعمالهم، لأنه أيضاً من أعمالهم. قال القشيري: فعند الزجاج التمثيل وقع لأعمال الكفار، وعند الجرجاني لكفر الكفار، وقيل (أو) للتقسيم باعتبار وقتين، فإنها كالسراب في الدنيا، وكالظلمات في الآخرة. وقيل: أو للتنويع، يعني أن أعمالهم إن كانت حسنة فهي كسراب، وإن كانت سيئة فهي كظلمات.
(في بحر لجيّ) معظم الماء، والجمع: لجج، وهو الذي لا يدرك
(من فوقه سحاب) فيجتمع حينئذ جوف البحر وأمواجه والسحاب المرتفعة فوقه، وقيل: إن المعنى، يغشاه موج، من بعده موج، فيكون الموج يتبع بعضه بعضاً، حتى كأن بعضه فوق بعض، والبحر أخوف ما يكون إذا توالت أمواجه، فإذا انضم إلى ذلك وجود السحاب من فوقه، زاد الخوف شدة، لأنها تستر النجوم التي يهتدي بها من في البحر، ثم إذا أمطرت تلك السحاب. وهبت الريح المعتادة، في الغالب عند نزول المطر، تكاثفت الهموم، وترادفت الغموم، وبلغ الأمر إلى الغاية التي ليس وراءها غاية، ولهذا قال سبحانه: (ظلمات بعضها فوق بعض) أي هي ظلمات أو هذه ظلمات، متكاثفة، مترادفة. ففي هذه الجملة بيان لشدة الأمر، وتعاظمه، وبلوغه النهاية القصوى. ووجه الشبه أن الله تعالى ذكر ثلاثة أنواع من الظلمات؛ ظلمة البحر، وظلمة الأمواج، وظلمة السحاب. وكذلك الكافر له ثلاث ظلمات؛ ظلمة الاعتقاد، وظلمة القول؛ وظلمة العمل. وقال أبي ابن كعب: الكافر يتقلب في خمس من الظلمات؛ كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى ظلمات يوم القيامة في النار.
قرئ سحابُ ظلماتٍ بالإضافة ووجهها أن السحاب ترتفع وقت هذه الظلمات، فأضيف إليها لهذه الملابسة، وقرئ بالقطع والتنوين، ومن غرائب التفاسير أنه سبحانه أراد بالظلمات أعمال الكافر، وبالبحر اللجي قلبه، وبالموج فوق الموج ما يغشي قلبه، من الجهل، والشك، والحيرة، وبالسحاب الرين، والختم، والطبع، على قلبه. وهذا تفسير هو عن لغة
(إذا أخرج) أي الناظر، أو الحاضر في هذه الظلمات، أو من ابتلى بها (يده) مع أنها أقرب شيء إليه (لم يكد يراها) أي لم يقرب من رؤيتها، قال الزجاج، وأبو عبيدة: المعنى لم يرها ولم يكد. وقال الفراء: إن كاد زائدة، والمعنى إذا أخرج يده لم يرها، كما تقول: ما كدت أعرفه. وقال المبرد: يعني لم يرها إلا من بعد الجهد لشدة الظلمة. قال النحاس؛ أصح الأقوال في هذا أن المعنى لم يقارب رؤيتها، فإذن لم يرها رؤية بعيدة ولا قريبة.
(ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور) مقررة لما قبلها من كون أعمال الكفرة على تلك الصفة. قال الزجاج: ذلك في الدنيا، والمعنى من لم يهده الله لم يهتد. وقيل: إن المعنى من لم يجعل له نوراً، يمشي به يوم القيامة، فما له من نور، يهتدي به إلى الجنة. وقيل: من لم يجعل له ديناً، وإيماناً فلا دين له. وقيل: المعنى من لم يقدر له الهداية، ولم يوفقه لأسبابها فما له من نور، خلاف الموفق، الذي له نور على نور. والآية عامة في حق جميع الكفار، وقيل خاصة فيمن نزلت فيه، وهو عتبة بن ربيعة، كان يلتمس الدين في الجاهلية، ويلبس المسوح، فلما جاء الإسلام كفر، وعاند والأول أولى.
ومعنى (من في السماوات والأرض) من هو مستقر فيهما من العقلاء وغيرهم، وتسبيح غير العقلاء ما يسمع من أصواتها، ويشاهد من أثر الصنعة البديعة فيها، وقيل إن التسبيح هنا هو الصلاة من العقلاء، والتنزيه من غيرهم، وقد قيل أن هذه الآية تشكل الحيوانات، والجمادات، وأن آثار الصنعة البديعة الإلهية في الجمادات ناطقة، ومخبرة باتصافه سبحانه، بصفات الجلال، والكمال وتنزهه عن سمات النقص والزوال. وفي ذلك تقريع للكفار وتوبيخ لهم حيث جعلوا الجمادات التي من شأنها التسبيح لله سبحانه شركاء له يعبدونها، كعبادته عز وجل، وبالجملة فإنه ينبغي حمل التسبيح على ما يليق، بكل نوع من أنواع المخلوقات، على طريقة عموم المجاز.
(والطير صافّات) أي باسطات أجنحتها في الهواء، وخص الطير بالذكر مع دخولها تحت من في السماوات والأرض، لعدم استمرار استقرارها في الأرض، وكثرة لبثها في الهواء، وهو ليس من السماء، ولا من الأرض، ولما فيها من الصنعة البديعة، التي يقدر بها تارة على الطيران، وتارة على المشي، بخلاف غيرها من الحيوانات. وذكر حالة من حالات الطير، وهي كون صدور التسبيح منها، حال كونها صافات لأجنحتها، لأن هذه الحالة هي أغرب أحوالها، فإن استقرارها في الهواء مسبحة، من دون تحريك لأجنحتها، ولا استقرار على الأرض من أعظم صنع الله الذي أتقن كل شيء، ثم زاد في البيان فقال:
(كل قد علم صلاته وتسبيحه) أي كل واحد من هذه المسبحات لله، قد علم صلاة المصلي، وتسبيح المسبح. وقيل إن المجنى أن كل مصل، ومسبح؛ قد علم صلاة نفسه، وتسبيح نفسه. قال السمين: وهذا أولى لتوافق الضمائر. قيل والصلاة هنا بمعنى التسبيح، وكرر للتأكيد، والصلاة
وفائدة الإخبار بأن كل واحد قد علم ذلك أن صدور هذا التسبيح هو عن علم قد علّمها الله ذلك؛ وألهمها إليه لا أن صدوره منها على طريقة الاتفاق بلا روية، وفي ذلك زيادة دلالة على بديع صنع الله سبحانه؛ وعظم شأنه من كونه جعلها مسبحة له، عالمة بما يصدر منها، غير جاهلة له وقال السدي: الصلاة للإنسان، والتسبيح لما سوى ذلك من خلقه، وقيل إن ضرب أجنحة الطير صلاته، وصوته تسبيحه؛ أو المعنى كل واحد من هذه المسبحة؛ قد علم الله صلاته له؛ وتسبيحه إياه؛ والأول أرجح؛ لاتفاق القراء على رفع (كل) ولو كان الضمير لله لكان نصب كل أولى، وقيل المعنى علم كل صلاة الله وتسبيحه؛ أي اللذين أمر بهما وبأن يفعلا، كإضافة الخلق إلى الخالق، والأول أولى. وقرئ عُلِم على البناء للمفعول.
(والله عليم بما يفعلون) مقررة لما قبلها، أي لا يخفى عليه طاعتهم، ولا تسبيحهم، ولا يعزب عن علمه شيء. ثم بين سبحانه أن المبدأ منه، والمعاد إليه فقال
(وإلى الله) لا إلى غيره (المصير) أي الرجوع بعد الموت، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في غير موضع، ثم ذكر سبحانه دليلاً آخر، من الآثار العلوية، فقال:
(ثم يجعله ركاماً) أي متراكماً يركب بعضه بعضاً والركم جمع الشيء، يقال ركم الشيء يركمه ركماً، أي جمعه، وألقى بعضه على بعض، وبابه نصر، وارتكم الشيء وتراكم إذا اجتمع والركمة الطين المجموع والركام الرمل المتراكم والسحاب ونحوه (فترى الودق) هو المطر عند جمهور المفسرين يقال ودقت السحاب فهي وادقة، وودق المطر يدق أي قطر يقطر. وقيل إن الودق المطر، ضعيفاً كان، أو شديداً، والرؤية هنا بصرية.
(يخرج من خلاله) أي من فتوقه وفروجه، التي هي مخارج القطر منه، قال كعب (١): إن السحاب غربال المطر، لولا السحاب حين ينزل المطر من السماء، لأفسد ما يقع عليه من الأرض. وقرئ: من خلله على الإفراد، وقد وقع الخلاف في (خلال) هل هو مفرد؟ كحجاب، أو جمع كجبال؟.
(وينزل من السماء) أي: من عال لأن السماء قد يطلق على جهة
العلو (من جبال) أي من قطع عظام تشبه الجبال (فيها من يرد) من
للتبعيض وهو مفعول ينزل قيل: التقدير من برد برداً. وقيل: ينزل من
السماء قدر جبال، أو مثل جبال، من برد إلى الأرض قال الأخفش: إن
(من) زائدة في الموضعين، أي ينزل من السماء برداً، يكون كالجبال.
والحاصل أن من في (من السماء) لابتداء الغاية باتفاق المفسرين،
_________
(١) لقد نبه المؤلف في أكثر من موضع على رفض التلقي عن كعب الأحبار، وهو الحق الذي تجب الصيرورة إليه لأن السحاب هو عين المطر لقوله تعالى: " وهو الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيرسله إلى بلد ميت " ولا عبرة بما ذهب إليه المصنف في تفسير البقرة من الرد على من قال بأن المطر أبخرة منعقدة من الماء. لأنه مدفوع بالقرآن الكريم وبالحقائق العلمية وهي معجزات التنزيل، المطيعي.
أي وينزل من السماء بعض جبال. التي هي البرد. فالمنزل برد، لأن بعض البرد برد.
قال الزجاج: معنى الآية وينزل من السماء من جبال، برد فيها، وذكر أبو البقاء أن التقدير شيئاً من جبال. قيل أن في السماء جبالاً من برد، كما في الأرض جبال من حجر. وقيل: المراد بذكر الجبال الكثرة كما يقال فلان يملك جبالاً من ذهب وفضة.
(فيصيب به) أي بما ينزل من البرد كما في البيضاوي، والخازن (من يشاء) أن يصيبهم من عباده (ويصرفه عمن يشاء) منهم، أو يصيب به مال من يشاء، ويصرفه عن مال من يشاء، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في البقرة (يكاد سنا برقه) العامة على قصر سنا، وهو الضوء، وهو من ذوات الواو، يقال سنا يسنو سناً، أي أضاء يضيء، وبالمدّ الرفعة، كذا قال المبرّد، وغيره. قرئ سناء برقه بالمد على المبالغة، في شدة الضوء، والصفاء، فأطلق عليه اسم الرفعة والشرف وقرئ بضم الباء من بُرَقِه، وفتح الراء. وهي على هذه جمع برق. وقال النحاس: البرقة المقدار من البرق. والبرقة الواحدة، والمعنى: يكاد ضوء البرق الذي في السحاب.
(يذهب بالأبصار) من شدة بريقه، وزيادة لمعانه. وهو كقوله: (يكاد البرق يخطف أبصارهم) وقرئ: يذهب، من الإذهاب، ويذهب من الذهاب، والأبصار جمع بصر، أي الناظرة، والباء للإلصاق. وقيل: للتعدية وقيل: هي بمعنى: من، والمفعول محذوف تقديره: يذهب النور من الأبصار، فسبحان من يخرج الماء، والنار، والنور، والظلمة من شيء واحد وقيل: زائدة.
وقيل يزيد في أحدهما، وينقص الآخر. وقيل يقلبهما باختلاف ما يقدره فيهما من خير وشر، ونفع وضر. وقيل بالحر والبرد، وقيل المراد بذلك تغيير النهار بظلمة السحاب مرة، وبضوء الشمس أخرى. تغيير الليل بظلمة السحاب تارة، وبضوء القمر أخرى.
(إن في ذلك) إشارة إلى ما تقدم من إزاء السحاب، وإنزال الودق والبرد، وتقليب الجديدين (لعبرة) أي لدلالة واضحة يكون بها الاعتبار (لأولي الأبصار) أي لكل من له بصر يبصر به، فهي براهين لائحة على جوده، ودلائل واضحة على صفاته، لمن نظر وتدبر، ثم ذكر سبحانه دليلاً ثالثاً من عجائب خلق الحيوان، وبديع صنعته فقال:
_________
(١) مسلم ٣٣٤٦ - البخاري ٢٠٤٢.
(فمنهم من يمشي على بطنه) وهي الحيات، والهوام، والحوت والدود، ونحو ذلك، وسمي الزحف على البطن مشياً، استعارة، كما استعير المشفر للشفة، وبالعكس. كما يقال في الأمر المستمر قد مشى هذا الأمر، وفلان ما يمشي له أمر، أو على طريق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين (ومنهم من يمشي على رجلين) وهم الإنسان والطير والنعام.
(ومنهم من يمشي على أربع) كالبهائم، وسائر الحيوانات، وقدم ما هو أعرف في القدرة، وهو الماشي بغير آلة المشي من أرجل أو غيرها ثم الماشي على رجلين ثم الماشي على أربع وقال: (من) ولم يقل (ما) تغليباً لمن يعقل، على ما لا يعقل لأن جعل النفيس أصلاً، والخسيس تبعاً أولى. قال ابن عباس: كل شيء يمشي على أربع إلا الإنسان، وأقول هذه الطيور على اختلاف أنواعها، تمشي على رجلين، وهكذا غيرها، كالمنعامة فإنها تمشي على رجلين، وليست من الطير، فهذه الكلية المروية عنه رضي الله تعالى عنه لا تصح، ولم يتعرض سبحانه لما يمشي على أكثر من أربع لقلته. وقيل: لأن المشي على أربع فقط، وإن كانت القوائم كثيرة وقيل: لعدم الاعتداد بما يمشي على أكثر من أربع، ولا وجه يكون لهذا، فإن المراد التنبيه على بديع الصنع، وكمال القدرة، فكيف يقال، لعدم الاعتداد بما يمشي على أكثر من أربع.
(يخلق الله ما يشاء) أي: مما ذكر هنا، ومما لم يذكره، كالجمادات مركبها وبسيطها، ناميها وغير ناميها، على اختلاف الصور والأعضاء، والهيئات، والحركات، والطبائع، والقوى، والأفعال، مع اتحاد العنصر بمقتضى مشيئته (إن الله على كل شيء قدير) لا يعجزه شيء، ولا يمنعه مانع، بل الكل من مخلوقاته، داخل تحت قدرته سبحانه.
وقيل إن الإشارة بقوله (أولئك) راجع إلى من تولى، والأول أولى والكلام مشتمل على حكمين، الحكم الأول على بعضهم بالتولي، والحكم الثاني على جميعهم بعدم الإيمان، وقيل أراد بمن تولى من تولى عن قبول حكمه صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل أراد بذلك رؤساء المنافقين، وقيل أراد بتولي هذا الفريق رجوعهم إلى الباقين، ولا ينافي ما تحتمله هذه الآية باعتبار لفظها ورودها على سبب خاص، ثم وصف هؤلاء المنافقين بأن فريقاً منهم يعرضون عن إجابة الدعوة إلى الله وإلى رسوله في خصومتهم فقال:
ثم ذكر سبحانه أن إعراضهم إنما هو إذا كان الحق عليهم، وأما إذا كان لهم فإنهم يذعنون لعلمهم بأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يحكم إلا بالحق فقال:
_________
(١) قياس مع الفارق ولا يجوز تشبيه المؤمنين بالمنافقين.
ثم قسم الأمر في إعراضهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم فقال:
(أم يخافون أن يخيف الله عليهم ورسوله) في الحكومة، والحيف الميل
هذه الأمور التي صدرها بالاستفهام الإنكاري فقال (بل أولئك هم الظالمون) أي ليس ذلك لشيء مما ذكر بل لعنادهم وظلمهم فإنه لو كان الإعراض لشيء مما ذكر لما أتوا إليه مذعنين إذا كان الحق لهم.
وقيل إضراب عن القسمين الأخيرين، لتحقق القسم الأول، ووجه التقسيم أن امتناعهم إما لخلل فيهم أو في الحاكم، والثاني إما أن يكون محققاً عندهم، أو متوقعاً، وكلاهما باطل لأن منصب نبوته، وفرْط أمانته صلى الله عليه وآله وسلم يمنعه، فتعين الأول. وظلمهم يعم خلل عقيدتهم، وميل نفوسهم إلى الحيف. وضمير الفصل لنفي ذلك عن غيرهم، سيما المدعو إلى حكمه. قاله البيضاوي.
وفي هذه الآية دليل على وجوب الإجابة إلى القاضي العالم بحكم الله العادل في حكمه لأن العلماء ورثة الأنبياء، والحكم من قضاة الإسلام العالمين بحكم الله العارفين بالكتاب والسنة العادلين في القضاء، هو حكم بحكم الله ورسوله، الداعي إلى التحاكم إليهم قد دعا إلى الله وإلى رسوله أي إلى حكمهما.
قال ابن خواز منداد: واجب على كل من دعى إلى مجلس الحاكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق قال القرطبي: في هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم لأن الله سبحانه ذم من دعى إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه، فأعرض بأقبح ذم، فقال (أفي قلوبهم مرض) الآية انتهى فإن كان القاضي مقصراً لا يعلم بأحكام الكتاب والسنة، ولا يعقل حجج الله، ومعاني كلامه وكلام رسوله بل كان جاهلاً جهلاً بسيطاً.
وهو من لا علم له بشيء من ذلك، أو جهلاً مركباً، وهو من لا علم عنده بما ذكرنا، ولكنه قد عرف بعض اجتهادات المجتهدين، واطلع على شيء من علم الرأي، فهذا في الحقيقة جاهل، وإن اعتقد أنه يعلم بشيء من العلم فاعتقاده باطل.
وقد أوضحت هذا في كتابي الجنة وأوضحه الشوكاني في القول المفيد، وأدب الطلب وغيره في غيرهما فمن أراد أن يقف على حقيقة هذه البدعة التي طبقت الأقطار الإسلامية فليرجع إليها، وعن الحسن في الآية قال: إن الرجل كان يكون بينه وبين الرجل خصومة أو منازعة. على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا دعي إلى النبي - ﷺ - وهو محق أذعن وعلم أن النبي - ﷺ - سيقضي له بالحق. وإذا أراد أن يظلم فدعى إلى النبي - ﷺ - أعرض. وقال: انطلق إلى فلان فأنزل الله سبحانه (وإذا دعوا إلى الله ورسوله) إلى قوله: (هم الظالمون) فقال رسول الله - ﷺ -: " من كان بينه وبين أخيه شيء فدعاه إلى حكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم لا حق له " أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
قال ابن كثير: (١) بعد أن ساق هذا المتن ما لفظه وهذا حديث غريب وهو مرسل: وقال ابن العربي: هذا حديث باطل فأما قوله فهو ظالم فكلام صحيح وأما قوله فلا حق له فلا يصح ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق انتهى.
وأقول: وأما كون الحديث مرسلاً فظاهر وأما ما دعوى كونه باطلاً فمحتاجة إلى برهان فقد أخرجه ثلاثة من أئمة الحديث كما ذكرنا ويبعد كل
_________
(١) ابن كثير ٣/ ٢٩٨.
وقد قدمنا الكلام على الدعوة إلى الله ورسوله للحكم بين المتخاصمين،
وذكرنا من تجب الإجابة إليه من القضاة، ومن لا تجب، وهذه الآية على
إيجازها حاوية لكل ما ينبغي للمؤمنين أن يفعلوه. ثم أثنى سبحانه عليهم
بقوله:
(وأولئك) المؤمنون الذين قالوا هذا القول (هم المفلحون) أي: الناجون الفائزون بخيري الدنيا والآخرة، ثم أردف الثناء عليهم بثناء آخر فقال:
(لئن أمرتهم) بالخروج إلى الجهاد (ليخرجن) وليغزون، ولما كانت مقالتهم هذه كاذبة، وأيمانهم فاجرة رد الله عليهم زاجراً فقال: (قل لا تقسموا) أي لا تحلفوا على ما تزعمونه من الطاعة والخروج إلى الجهاد إن أمرتم به. وهاهنا تمّ الكلام ثم ابتدأ فقال:
(طاعة معروفة) أي طاعتهم طاعة معروفة بأنها طاعة نفاقية لم تكن عن اعتقاد، وقيل: طاعة معروفة أولى بكم من أيمانكم. وقيل: لتكن منكم طاعة، أو لتوجد، وفي هذا ضعف لأن الفعل لا يحذف إلا إذا تقدم ما يشعر به، وقيل: أمركم طاعة، بل قال الواسطي: إنه الأولى لأن الخبر محط الفائدة، وعليه فالمعنى: أمركم الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة، لا يشك فيها ولا يرتاب. وقرئ: طاعةً بالنصب أي أطيعوا طاعة.
(إن الله خبير بما تعلمون) من الطاعة بالقول، وما تشمرونه من المخالفة بالفعل وهذا تعليل لما قبلها من كون طاعتهم طاعة نفاق. ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمرهم بطاعة الله ورسوله، فقال:
(فإن تولوا) خطاب للمأمورين وفيه رجوع من الخطاب مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الخطاب لهم لتأكيد الأمر عليهم والمبالغة في العناية بهدايتهم إلا الطاعة والإنقياد.
وجواب الشرط قوله: (فإنما عليه) أي: على النبي (ما حمل) مما أمر به من التبليغ وقد فعل (وعليكم ما حملتم) أي: ما أمرتم به من الطاعة والإجابة، وهو وعيد لهم كأنه قال لهم: فإن توليتم فقد صرتم حاملين للحمل الثقيل، وفيه المشاكلة.
(وإن تطيعوه) فيما أمركم به ونهاكم عنه (وتهتدوا) إلى الحق وترشدوا إلى الخير وتفوزوا بالأجر. قد أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال: قدم زيد بن أسلم على رسول الله صلى الله
وعلى الإمام ما حمل وعليكم ما حملتم (و) جملة (ما على الرسول إلا البلاغ المبين) مقررة لما قبلها واللام إما للعهد فيراد بالرسول نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وإما للجنس فيراد كل رسول والبلاغ المبين: التبليغ الواضح أو الموضح، والمعنى: إن الرسول قد أدى البلاغ فأدوا أيضاً أنتم ما عليكم من طاعته.
_________
(١) مسلم ١٨٤٦ - الترمذي كتاب الفتن الباب ٣٠.
(ليستخلفنهم في الأرض) بدلاً عن الكفار، وهو وعد يعم جميع الأمة، وقيل هو خاص بالصحابة، ولا وجه لذلك فإن الإيمان، وعمل الصالحات لا يختص بهم. بل يمكن وقوع ذلك من كل واحد من هذه الأمة. ومن عمل بكتاب الله وسنة رسوله فقد أطاع الله ورسوله. واللام في (ليستخلفنهم) جواب لقسم محذوف أو جواب للوعد، وتنزيله منزلة القسم لأنه ناجز لا محالة والمعنى ليجعلنهم فيها خلفاء يتصرفون فيها تصرف الملوك في مملوكاتهم، وقد أبعد من قال إنها مختصة بالخلفاء الأربعة أو بالمهاجرين أو أن المراد بالأرض أرض مكة. وقد عرفت أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال ابن العربي: إنها بلاد العرب والعجم وهو الصحيح لأن أرض مكة
(وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) معطوفة على ليستخلفنهم داخلة تحت حكمه كائنة من جملة الجواب، والمراد بالتمكين هنا التثبيت والتقرير أي يجعله الله ثابتاً مقرراً ويوسع لهم في البلاد ليملكوها ويظهر دينهم على جميع الأديان، والمراد بالدين هنا الإسلام كما في قوله (ورضيت لكم الإسلام ديناً)، ذكر سبحانه وتعالى الاستخلاف لهم أولاً وهو جعلهم ملوكاً، وذكر التمكين ثانياً فأفاد ذلك أن هذا الملك ليس على وجه العروض والطروّ بل على وجه الاستقرار والثبوت بحيث يكون الملك لهم ولعقبهم من بعدهم.
(وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمناً) معطوفة على التي قبلها وقرئ من أبدل ومن بدل وهما لغتان وزيادة البناء تدل على زيادة المعنى فقراءة التشديد أرجح من التخفيف، وزعم ثعلب أن بينهما فرقاً، وأنه يقال بدلته أي غيرته وأبدلته أزلته وجعلت غيره مكانه قال النحاس: وهذا القول صحيح والمعنى أنه سبحانه يجعل لهم مكان ما كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمناً ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه بحيث لا يخشون إلا الله سبحانه ولا يرجون غيره.
وقد كان المسلمون قبل الهجرة وبعدها بقليل في خوف شديد من المشركين، لا يخرجون إلا في السلاح، ولا يمسون ولا يصبحون إلى على ترقب لنزول المضرة بهم من الكفار، ثم صاروا في غاية الأمن، والدعة وأذل الله لهم شياطين المشركين وفتح عليهم البلاد ومهد لهم في الأرض ومكنهم منها فللَّه الحمد.
ثم إن الله قبض نبيه فكانوا كذلك آمنين في زمان أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم. حتى وقعوا فيما وقعوا وكفروا النعمة فأدخل الله عليهم الخوف الذي كان رفع عنهم واتخذوا الحجر والشرط وغيروا فغير ما بهم. وعن أُبيّ بن كعب قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة كانوا لا يبيتون إلا في السلاح ولا يصبحون إلا فيه. فقالوا: أترون أنا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلا الله، فنزلت هذه الآية، وأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب وافتتحوا أبعد بلاد المشرق والمغرب ومزقوا ملك الأكاسرة وملكوا خزائنهم واستولوا على الدنيا.
وفي الآية أوضح دليل على صحة خلافة أبي بكر الصديق، والخلفاء الراشدين بعده لأن المستخلفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم هم وفي أيامهم كانت الفتوحات العظيمة وفتحت كنوز كسرى وغيره من الملوك وحصل الأمن والتمكين وظهور الدين، وعن سفينة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً ثم قال: أمسك خلافة أبي بكر سنتين وخلافة عمر عشر سنين وخلافة عثمان اثنتي
قلت وفيه إجمال، تفصيله أن خلافة أبي بكر كانت سنتين وثلاثة أشهر وخلافة عمر كانت عشر سنين وستة أشهر وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة وخلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر وعلى هذا تكون مدة خلافة الأئمة الأربعة تسعة وعشرين سنة وستة أشهر وكملت ثلاثين سنة بخلافة الحسن وكانت ستة أشهر ثم نزل عنها والله أعلم.
وجملة (يعبدونني) حالية أو مستأنفة مسوقة للثناء عليهم، وفيه أوجه سبعة ذكرها السمين (لا يشركون بي شيئاً) أي يعبدونني غير مشركين بي في العبادة شيئاً من الأشياء. وقيل معناه لا يراؤن بعبادتي أحداً، وقيل معناه لا يخافون أحداً غيري قاله ابن عباس وقيل معناه لا يحبون غيري.
(ومن كفر) هذه النعم (بعد ذلك) الوعد الصحيح، أي: من استمر على الكفر أو من كفر بعد الإيمان (فأولئك هم الفاسقون) أي الكاملون في الفسق وهو الخروج عن الطاعة، والطغيان في الكفر وعن مجاهد قال: الفاسقون العاصون. وعن أبي العالية قال: الكفر بهذه النعمة ليس الكفر بالله، ولذلك قال الفاسقون ولم يقل الكافرون. قال أهل التفسير: أو من كفر بهذه النعمة، وجحد حقها الذين قتلوا عثمان فلما قتلوه غير الله ما بهم من الأمن وأدخل عليهم الخوف حتى صاروا يقتتلون بعد أن كانوا إخواناً والقصة معروفة.
_________
(١) أبو داوود كتاب السنة باب ٨ - الترمذي، كتاب الفتن باب ٤٨.
علم المعاني من أن مثل هذا الحذف مشعر بالتعميم (لعلكم ترحمون) أي
افعلوا ما ذكر راجين أن يرحمكم الله سبحانه.
(الذين ملكت أيمانكم) العبيد والإماء وعن مقاتل بن حيان قال:
(والذين لم يبلغوا الحلم منكم) أي الصبيان والمراد الأحرار قرئ الحلم بسكون اللام وبضمها قال الأخفش: الحلم من حلم الرجل بفتح اللام ومن الحلم حلم بضم اللام يحلم بكسرها، واتفقوا على أن الاحتلام بلوغ واختلفوا فيما إذا بلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم فقال أبو حنيفة: لا يكون بالغاً حتى يبلغ ثماني عشرة سنة ويستكملها، والجارية سبع عشرة سنة وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد في الغلام والجارية بخمس عشرة سنة يصير مكلفاً وتجري عليه الأحكام وإن لم يحتلم.
(ثلاث مرات) أي ثلاثة أوقات في اليوم والليلة، وعبر عن الأوقات بالمرات لأن الأصل وجوب الاستئذان هو بسبب مقارنة تلك الأوقات لمرور المستأذنين بالمخاطبين لا نفس الأوقات، وانتصاب ثلاث مرات على المصدرية أي ثلاث استئذانات، ورجح هذا أبو حيان وقال: لأنك إذا قلت ضربتك ثلاث مرات لا يفهم منه إلا ثلاث ضربات، أو منصوب على الظرفية أي ثلاث أوقات ثم فسر تلك الأوقات بقوله.
(من قبل صلاة الفجر) وذلك لأنه وقت القيام عن المضاجع وطرح
(ومن بعد صلاة العشاء) وذلك لأنه وقت التجرد عن ثياب اليقظة والخلوة بالأهل والالتحاف بثياب النوم، ثم أجمل سبحانه هذه الأوقات بعد التفصيل بقوله (ثلاث عورات لكم) أي أوقات ثلاث عورات وقيل جعل نفس ثلاث مرات نفس ثلاث عورات مبالغة وقيل هو ثلاث.
وقال أبو حاتم: النصب ضعيف مردود، وقال الفراء: الرفع أحب إلي، قال الكسائي: العورات الساعات التي تكون فيها العورة، قال الزجاج: المعنى ليستأذنكم أوقات ثلاث عورات، وعورات جمع عورة وهي في الأصل الخلل.
ثم غلب في الخلل الواقع فيما يهم حفظه ويتعين ستره أي هي ثلاث أوقات، يختل فيها الستر، وقرئ عَورات بفتح الواو وهي لغة هذيل وتميم. فإنهم يفتحون عين فعلات سواء كان واواً أو ياء. والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان علة وجوب الاستئذان.
عن عبد الله بن سويد قال: سألت رسول الله - ﷺ - عن العورات الثلاث فقال: " إذا أنا وضعت ثيابي بعد الظهيرة لم يلج عليَّ أحد من الخدم من الذين لم يبلغوا الحلم، ولا أحد لم يبلغ الحلم من الأحرار إلا بإذن، وإذا وضعت ثيابي بعد صلاة العشاء ومن قبل صلاة الصبح " أخرجه ابن مردويه.
وعن ابن عباس قال: إنه لم يؤمن بها أكثر الناس يعني آية الإذن. وإني لآمر جاريتي هذه، الجارية قصيرة قائمة على رأسه أن تستأذن علي، وعنه
وعنه قال: إذا خلا الرجل بأهله بعد العشاء فلا يدخل عليه صبي ولا خادم إلا بإذنه حتى يصلي الغداة، وإذا خلا بأهله عند الظهر فمثل ذلك. ورخص لهم في الدخول فيما بين ذلك بغير إذن وهو قوله (ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن) فأما من بلغ الحلم فإنه لا يدخل على الرجل وأهله إلا بإذن على كل حال. وهو قوله:
وعنه أن رجلاً سأله عن الاستئذان في الثلاث العورات، التي أمر الله بها في القرآن فقال: إن الله ستير يحب الستر، وكان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ولا حجاب في بيوتهم، فربما فجأ الرجل خادمه، أو ولده أو يتيم في حجره، وهو على أهله، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمي الله، ثم جاء الله بعد بالستور، فبسط عليهم في الرزق، فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به.
وعن ابن عمر في الآية قال: هي على المذكور دون الإناث. ولا وجه هذا التخصيص، فالاطلاع على العورات في هذه الأوقات كما يكرهه الإنسان من الذكور يكرهه من الإناث. وعن السلمي قال: هي في النساء خاصة، والرجال يستأذنون على كل حال بالليل والنهار.
وعن ابن مسعود قال: عليكم إذن على أمهاتكم، وعنه قال: يستأذن الرجل على أبيه وأمه وأخته، أخرجه البخاري في الأدب وعن جابر نحوه،
(لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ) أي ليس على المماليك ولا على الصبيان إثم في الدخول بغير استئذان، لعدم ما يوجبه من مخالفة الأمر، والاطلاع على العورات، بعد كل واحدة من هذه العورات الثلاث، وهي الأوقات المتخللة بين كل اثنين منها، والجملة مستأنفة مقررة للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة. وقال أبو البقاء (بعدهن) أي بعد استئذانهم فيهن، ورُدّ بأنه لا حاجة إلى هذا التقدير، الذي ذكره، بل المعنى ليس عليكم جناح ولا عليهم أي العبيد والإماء والصبيان في عدم الاستئذان بعد هذه الأوقات المذكورة.
(طوافون) أي هم طوافون (عليكم) والجملة مستأنفة مبينة للعذر رخص في ترك الاستئذان والمعنى يطوفون عليكم، ومنه الحديث في الهرة إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات. أي هم خدمكم فلا بأس أن يدخلوا عليكم في غير هذه الأوقات بغير إذن (بعضكم) يطوف. أو طائف (على بعض) والجملة تدل مما قبلها، أو مؤكدة لها، والمعنى أن كلا منكم يطوف على صاحبه، العبيد على الموالي والموالي على العبيد، وإنما أباح سبحانه الدخول في غير تلك الأوقات، الثلاثة بغير استئذان لأنها كانت العادة أنهم لا يكشفون عوراتهم في غيرها.
(كذلك) أي مثل ذلك التبيين (يبين الله لكم الآيات) الدالة على ما شرعه لكم من الأحكام (والله عليم) أي كثير العلم بالمعلومات (حكيم) كثير الحكمة في أفعاله.
(وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم) بين سبحانه هاهنا حكم الأطفال الأحرار إذا بلغوا الحلم، بعد ما بين فيما مر حكم الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، في أنه لا جناح عليهم في ترك الاستئذان، فيما عدا الأوقات الثلاثة فقال (فليستأذنوا) إذا دخلوا عليكم في جميع الأوقات (كما استأذن الذين من قبلهم) الموصول عبارة عن الذين قيل لهم لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا الآية، والمعنى استئذاناً كما استأذن الأحرار الكبار الذين أمروا بالاستئذان من غير استثناء.
قال عطاء: واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا، أحراراً كانوا، أو عبيداً. وسئل حذيفة أيستأذن الرجل على والدته؟ قال: نعم. إن لم تفعل رأيت منها ما تكره. وقال الزهري وسعيد بن المسيب: يستأذن الرجل على أمه وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية.
(كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم) بأمور خلقه فيما يبين من الأحكام (حكيم) بما دبر وشرع من مصالح الأنام
(اللاتي لا يرجون نكاحاً) أي لا يطمعن فيه لكبرهن، وقال أبو عبيدة: اللاتي قعدن عن الولد وليس هذا بمستقيم، لأن المرأة تقعد عن الولد وفيها مستمتع. وقيل هن العجائز اللواتي إذا رآهن الرجال استقذروهن. فأما من كانت فيها بقية جمال، وهي محل الشهوة فلا تدخل في حكم هذه الآية، ثم ذكر سبحانه حكم القواعد فقال:
(فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن) التي تكون على ظاهر البدن كالجلباب، والرداء الذي فوق الثياب، والقناع الذي فوق الخمار، ونحوها، لا الثياب إلى العورة الخاصة، والخمار. وإنما جاز لهن ذلك لانصراف الأنفس عنهن، إذ لا رغبة للرجال فيهن، فأباح الله سبحانه لهن ما لم يبحه لغيرهن. وعن ابن عباس في الآية قال: هي المرأة لا جناح عليها أن تجلس في بيتها بدرع وخمار، وتضع عنها الجلباب، ما لم تتبرج بما كرهه الله. وعنه أنه كان يقرأ أن يضعن من ثيابهن، ويقول: هو الجلباب، وعن ابن عمر قال: تضع الجلباب، وعن ابن مسعود مثله، وزاد الرداء، ثم استثنى حالة من حالاتهن فقال:
(غير متبرجات بزينة) أي غير مظهرات للزينة التي أمرن بإخفائها في قوله (ولا يبدين زينتهن) لينظر إليهن الرجال، أو زينة خفية كقلادة، وسوار وخلخال. والتبرج التكشف، والظهور للعيون والتكلف في إظهار ما يخفي وإظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال، ومنه بروج مشيدة، وبروج السماء. ومنه قولهم سفينة بارجة أي لا غطاء عليها.
(وأن يستعففن) أي وأن يتركن وضع الثياب، ويطلبن العفة عنه، وقرئ بغير السين (خير لهن والله سميع عليم) أي كثير السماع، والعلم بليغهما.
(ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) اختلف أهل العلم في هذه الآية، هل هي محكمة أو منسوخة، قال بالأول جماعة من العلماء وبالثاني جماعة، قيل أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم، ويقولون لهم. قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، وكانوا يتحرجون من ذلك. وقالوا: لا ندخلها وهم غيب، فنزلت هذه الآية رخصة لهم، فمعنى الآية نفي الحرج عن الزمنى في أكلهم من بيوت أقاربهم، أو بيوت من يدفع إليهم المفتاح، إذا خرج للغزو قال النحاس: وهذا القول من أجل ما روى في الآية لما فيه عن الصحابة والتابعين من التوقيف، وقيل: إن هؤلاء المذكورين كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء، حذاراً من استقذارهم إياهم، وخوفاً من تأذيهم بأفعالهم فنزلت.
وقيل: إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به القدرة الكاملة على المشي على وجه يتعذر الإتيان به مع العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في
وعن سعيد بن جبير قال: لما نزلت (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل): قالت الأنصار: ما بالمدينة مال أعز من الطعام؟ كانوا يتحرجون أن يأكلوا مع الأعمى، يقولون: إنه لا يبصر موضع الطعام، وكانوا يتحرجون الأكل مع الأعرج، يقولون: إن الصحيح يسبقه إلى المكان، ولا يستطيع أن يزاحم. ويتحرجون الأكل مع المريض، يقولون لا يستطيع أن يأكل مثل الصحيح، وكانوا يتحرجون أن يأكلوا في بيوت أقاربهم، فنزلت ليس على الأعمى، يعني في الأكل مع الأعمى وعن مقسم نحوه.
وعن مجاهد قال: كان الرجل يذهب بالأعمى، أو الأعرج، أو المريض إلى بيت أمه أو بيت أخيه أو بيت عمه أو بيت عمته أو بيت خاله، أو بيت خالته فكان الزمنى يتحرجون من ذلك يقولون: إنما يذهبون بنا إلا بيوت غيرهم، فنزلت هذه الآية رخصة لهم، وعن عائشة قالت: كان المسلمون يرغبون في النفير مع النبي - ﷺ - فيدفعون مفاتيحهم إلى زمناهم، ويقولون لهم: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما احتجتم إليه، فكانوا يقولون: إنه لا يحل لنا أن نأكل إنهم أذنوا لنا من غير طيب نفس، وإنما نحن زمنى، فأنزل الله: (ولا على أنفسكم أن تأكلوا) إلى قوله (أو ما ملكتم مفاتحه) كما سيأتي.
وعن ابن عباس قال: لما نزلت (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) قال المسلمون: إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا
وعن الضحاك قال: كان أهل المدينة قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا مريض، ولا أعرج، لا يستطيع المزاحمة على الطعام فنزلت رخصة في مؤاكلهم، وعن الزهري أنه سئل عن قوله (ليس على الأعمى حرج)، ما بال الأعمى والأعرج والمريض ذكروا هنا؟ فقال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا زمناهم وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم، يقولون: قد أحللنا لكم أن تأكلوا مما في بيوتنا، وكانوا يتحرجون من ذلك، يقولون لا ندخلها، وهم غيّب، فأنزل الله هذه الآية رخصة لهم.
(ولا على أنفسكم) أي عليكم، وعلى من يماثلكم من المؤمنين،
وهذا ابتداء كلام مستأنف، أي ولا عليكم أيها الناس، والحاصل أن رفع
الحرج عن الأعمى والأعرج، والمريض. إن كان باعتبار مؤاكلة الأصحاء،
أو دخول بيوتهم، فيكون ولا على أنفسكم متصلاً بما قبله، وإن كان رفع الحرج عن أولئك باعتبار التكاليف التي يشترط فيها وجود البصر، وعدم العرج، وعدم المرض، فقوله (ولا على أنفسكم)، ابتداء كلام غير متصل بما قبله.
(أن تأكلوا) أنتم ومن معكم (من بيوتكم) أي البيوت التي فيها متاعكم، وأهلكم، فيدخل بيوت الأولاد، وكذا قال المفسرون لأنها داخلة في
وقد ذكر سبحانه بيوت الإخوة والأخوات، بل بيوت الأعمام والعمات بل بيوت الأخوال والخالات، فكيف ينفي سبحانه الحرج عن الأكل من بيوت هؤلاء، ولا ينفيه عن بيوت الأولاد أو المعنى من بيوت أزواجكم، لأن بيت المرأة كبيت الزوج، ولأن الزوجين صارا كنفس واحدة، وقيل أراد من أموال عيالكم، والعموم أولى فيشمل الكل.
(أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ) وقد قيد بعض العلماء جواز الأكل من بيوت هؤلاء بالإذن منهم، لأن الإذن ثابت دلالة وقال آخرون: يشترط الإذن قيل هذا إذا كان الطعام مبذولاً، فإن كان محرزاً دونهم، لم يجز لهم كله قال الخطيب: وهؤلاء يكفي فيهم أدنى قرينة، بل ينبغي أن يشترط فيهم أن لا يعلم عدم الرضا بخلاف غيرهم من الأجانب، فلا بد فيهم من صريح الإذن أو قرينة قوية هذا ما ظهر لي، ولم أر من تعرض لذلك، ثم قال سبحانه:
(أو ما ملكتم مفاتحه) أي البيوت التي تملكون التصرف فيها. بإذن أربابها وذلك كالوكلاء، والخزان فيهم فإنهم يملكون التصرف في بيوت من أذن لهم بدخول بيته وإعطائهم مفتاحه، وقيل المراد بها بيوت المماليك، قرئ
(أو صديقكم) أي لا جناح عليكم أن تأكلوا من بيوت صديقكم، وإن لم يكن بينكم وبينه قرابة فإن الصديق في الغالب يسمح لصديقه بذلك وتطيب به نفسه والصديق يطلق على الواحد، والجمع ومثله العدو، والخليط والفطين والعشير قال قتادة: إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته. ثم أكلت من طعامه بغير إذنه لم يكن بذلك بأس. وعن ابن زيد قال: هذا شيء قد انقطع، إنما كان هذا في أوله، ولم يكن لهم أبواب، وكانت الستور مرخاة فربما دخل الرجل البيت، وليس فيه أحد فربما وجد الطعام، وهو جائع فسوغه الله أن يأكله، وقال: ذهب ذلك اليوم؛ البيوت فيها أهلها فإذا خرجوا أغلقوا.
قال النسفي: فأما الآن فقد غلب الشح على الناس. فلا يؤكل إلا بإذن، انتهى، قال المحلي: المعنى يجوز الأكل من بيوت من ذكر؛ وإن لم يحضروا أي الأصناف الأحد عشر. إذا علم رضاهم به بصريح اللفظ، أو بالقرينة وإن كانت ضعيفة، وخصوا هؤلاء بالذكر، لأن العادة جارية بالتبسط بينهم وقيل إن هذا كان جائزاً في صدر الإسلام ثم نسخ والأول أولى، ثم قال سبحانه
(وليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً) أي مجتمعين أو مفترقين جمع شت، وهو المصدر بمعنى التفرق، يقال: شت القوم، أي: تفرقوا، وهذا كلام مستأنف مشتمل على بيان حكم آخر، من جنس ما قبله وقد كان بعض العرب يتحرج أن يأكل وحده، حتى يجد له أكيلاً يؤاكله فيأكل معه وبعض العرب كان لا يأكل إلا مع ضيف. قال قتادة: كان هذا الحي من بني كنانة بن خزيمة يرى أحدهم أن عليه مخزاة أن يأكل وحده، في
وعن عكرمة وأبي صالح قالا: كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتى يأكل الضيف معهم فنزلت رخصة لهم وعن ابن عباس قال: خرج الحرث غازياً مع رسول الله - ﷺ - وخلف على أهله خالد بن يزيد فحرج أن يأكل من طعامه وكان مجهوداً فنزلت وقد ترجم البخاري في صحيحه باب قوله تعالى هذا، ومقصوده فيما قال أهل العلم في هذا الباب إباحة الأكل جميعاً وإن اختلفت أحوالهم في الأكل فقد سوغ النبي - ﷺ - ذلك فصار سنة في الجماعات التي تدعى إلى الطعام في النهد والولائم والإملاق في السفر وما ملكت مفاتحه بأمانة أو قرابة أو صداقة فلك أن تأكل مع القريب أو الصديق ووحدك، والنهد ما يجمعه الرفقاء من مال أو طعام على قدر نفقتهم ينفقونه بينهم.
قال ابن دريد: يقال من ذلك تناهد القوم الشيء بينهم قال المزي وفي حديث الحسن: أخرجوا نهدكم فإنه أعظم للبركة وأحسن لأخلاقكم والنهد ما تخرجه الرفقة عند المناهدة وهو استقسام النفقة بالسوية بالسفر وغيره
(فإذا دخلتم بيوتاً) هذا شروع في بيان أدب آخر أدب به عباده أي إذا دخلتم بيوتاً غير البيوت التي تقدم ذكرها (فسلموا على أنفسكم) أي على أهلها الذين هم بمنزلة أنفسكم، وقيل المراد البيوت المذكورة سابقاً وعلى القول الأول فقال الحسن والنخعي: هي المساجد والمراد سلموا على من فيها من صنفكم فإن لم يكن في المساجد فقيل يقول: السلام على رسول الله - ﷺ - وقيل يقول السلام عليكم مر الملائكة، وقال بالقول الثاني أعني أنها البيوت المذكورة سابقاً جماعة من الصحابة والتابعين، وقيل المراد بالبيوت هنا كل البيوت المسكونة وغيرها فيسلم على أهل المسكونة.
(من عند الله) أي من جهته ومن لدنه يعني أن الله حياكم بها، وقال الفراء: إن الله أمركم أن تفعلوها طاعة له، ثم وصف هذه التحية فقال: (مباركة) أي كثيرة البركة والخير دائمتهما يثاب عليها (طيبة) أي تطيب بها نفس المستمع، وقيل حسنة جميلة، وقال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن السلام مبارك طيب لما فيه من الأجر والثواب، قال ابن عباس في الآية: وهو السلام لأنه اسم الله وهو تحية أهل الجنة.
وعن جابر بن عبد الله قال: إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة، أخرجه البخاري وغيره، وعن ابن عباس قال: هو المسجد إذا دخلته فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وعن ابن عمر قال: إذا دخلت البيت غير المسكون أو المسجد فقل: السلام الخ.
(كذلك يبين الله لكم الآيات) أي يفصل لكم معالم دينكم تأكيداً لما سبق، وقد قدمنا أن الإشارة بذلك إلى مصدر الفعل (لعلكم تعقلون) تعليل لذلك التبين برجاء يعقل آيات الله سبحانه وفهم معانيها.
وسمى الأمر جامعاً مبالغة، وفيه إسناد مجازى لأن الأمر لما كان سبباً في جمعهم نسب الجمع إليه مجازاً، وقرئ على أمر جميع والحاصل أن الأمر الجامع والجميع هو الذي يعم نفعه أو ضرره وهو الأمر الجليل الذي يحتاج إلى اجتماع أهل الرأي والتجارب.
(لم يذهبوا) أي يتفرقوا عنه ولم ينصرفوا عما اجتمعوا له لعروض عذر لهم (حتى يستأذنوه) واعتبار هذا في كمال إيمانهم لأنه كالمصداق لصحته والمميز المخلص فيه عن المنافق، فإن ديدنه وعادته التسلل والفرار، ولتعظم الجرم في الذهاب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغير إذنه.
ثم قال سبحانه مؤكداً على أسلوب أبلغ ومعظماً لهذا الأمر
(إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله) فبين سبحانه أن المستأذنين هم المؤمنون بالله ورسوله، كما حكم أولاً بأن المؤمنين الكاملي الإيمان هم الجامعون بين الإيمان بهما وبين الاستئذان وأن الذاهب بغير إذن ليس كذلك.
(فإذا استأذنوك لبعض شأنهم) أي لأجل بعض الأمور التي يهمهم كما وقع لسيدنا عمر حين خرج مع النبي - ﷺ - في غزوة تبوك حيث استأذن الرسول في الرجوع إلى أهله فأذن له النبي - ﷺ - وقال له: ارجع فلست بمنافق (فأذن لمن شئت منهم) فإنه يأذن لمن شاء منهم ويمنع من شاء على حسب ما تقتضيه المصلحة التي يراها رسول الله - ﷺ - وفيه رفع شأنه - ﷺ -.
واستدل به على أن بعض الأحكام مفوض إلى رأيه ومن منع ذلك قيد المشيئة بأن تكون تابعة لعلمه بصدقه، أي فأذن لمن علمت أن له عذراً، ثم أرشده الله سبحانه إلى الاستغفار لهم فقال:
(واستغفر لهم الله) بعد الإذن فيه إشارة إلى أن الاستئذان وإن كان لعذر مسوغ فلا يخلو عن شائبة تأثير أمر الدنيا على الآخرة، لأن اغتنام مجالسه
وقيل: المعنى يجب عليكم المبادرة لأمره، واختاره أبو العباس، ويؤيده قوله: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) وقيل معناه لا تجعلوا دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم، وكبيركم وفقيركم، وغنيكم، يسأله حاجة، فربما تجاب دعوته وربما لا تجاب فإن دعوات الرسول مسموعة مستجابة، وعن سعيد بن جبير في الآية قال: يعني كدعاء أحدكم إذا دعا أخاه باسمه، ولكن وقروه، وقولوا له: يا رسول الله؛ يا نبي الله، قال: لا تصيحوا به من بعيد: يا أبا القاسم!! ولكن كما قال الله في الحجرات: (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله)، والأول أولى.
(قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً) أي: يخرجون وينسلون من المسجد في الخطبة واحداً بعد واحد، من غير استئذان، خفية مستترين بشيء، و (قد) للتحقيق، والتسلل: الخروج من البين في خفية. يقال: تسلل فلان من بين أصحابه، إذا خرج من بينهم، واللواذ من الملاوذة، وهو أن تستر بشيء مخافة من يراك؛ وأصله أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا واللوذ ما يطيف بالجبل، وقيل اللواذ الروغان من شيء إلى شيء في خفية، أي
وفي الآية بيان ما كان يقع من المنافقين، فإنهم كانوا يتسللون عن صلاة الجمعة متلاوذين ينضم بعضهم إلى بعض استتاراً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان يوم الجمعة أثقل يوم على المنافقين لما يرون من الاجتماع للصلاة والخطبة، فكانوا يفرون عن الحضور ويتسللون في خفية، ويستتر بعضهم ببعض، وينضم إليه وقيل اللواذ الفرار من الجهاد، وبه قال الحسن عن مقاتل قال: كان لا يخرج أحد لرعاف أو إحداث حتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشير إليه بيده. وكان من المنافقين من يثقل عليه الخطبة، والجلوس في المسجد فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستر به حتى يخرج، فأنزل الله هذه الآية، أخرجه أبو داود في مراسيله.
(فليحذر الذين يخالفون عن أمره) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي: يخالفون أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بترك العمل بمقتضاه، ويذهبون سمتاً خلاف سمته، وعُدِّيَ فعل المخالفة بعن، مع كونه متعدياً بنفسه لتضمينه، معنى الإعراض، أو الصد. وقيل الضمير لله سبحانه لأنه الآمر بالحقيقة. قال أبو عبيدة والأخفش (عن) زائدة هنا، وقال الخليل وسيبويه: ليست بزائدة، بل هي بمعنى: بعد كقوله: (ففسق عن أمر ربه)، أي: بعد أمر ربه، والأولى ما ذكرناه من التضمين.
(أن تصيبهم فتنة) أي: فليحذر المخالفون عن أمر الله، أو أمر رسوله، أو أمرهما جميعاً إصابة فتنة لهم، والفتنة هنا غير مقيدة بنوع من أنواع الفتن، وقيل: هي القتل. وقيل: الزلازل. وقيل: تسلط سلطان جائر. وقيل: الطبع على قلوبهم. وقيل: إسباغ النعم استدراجاً، أو محنة في الدنيا.
(ويوم) أي ويعلم يوم (يرجعون إليه) فيجازيهم فيه بما عملوا، وفيه التفات عن الخطاب، وتعليق علمه سبحانه بيوم الرجوع لا بنفس رجوعهم لزيادة تحقق علمه، لأن العلم بوقت وقوع الشيء يستلزم العلم بوقوعه على أبلغ وجه (فينبئهم بما عملوا) من الأعمال التي من جملتها مخالفة الأمر، والظاهر من السياق أن هذا الوعيد للمنافقين.
(والله بكل شيء عليم) لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وغيرها، عن عقبة بن عامر قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو يقرأ هذه الآية في خاتمة سورة النور، وهو جاعل أصبعيه تحت عينيه. يقول: بكل شيء بصير، أخرجه الطبراني وغيره. قال السيوطي بسند حسن.
(سبع وسبعون آية)
وهي مكية كلها في قول الجمهور، نزلت قبل الهجرة، وبه قال ابن الزبير وقال القرطبي وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات منها، فإنها نزلت بالمدينة وهي (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) الآيات.
وأخرج البخاري ومسلم ومالك والشافعي وابن حبان والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب، قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم، فاستمعت لقراءته. فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئه بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه. فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت: فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرأنيها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " أرسله، اقرأ يا هشام "، فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " كذلك أنزلت "، ثم قال: أقرأ يا عمر، فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤا ما تيسر منه " (١).
_________
(١) مسلم ٨١٨ - البخاري ١١٩٥.
بسم الله الرحمن الرحيم
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (٣) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (٤) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (٥)