تفسير سورة النّمل

أضواء البيان
تفسير سورة سورة النمل من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان .
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ النَّمْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ. تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [٢ ٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا. إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ، تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي «مَرْيَمَ» وَ «طه»، وَ «الْأَعْرَافِ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ. قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهَا وِرَاثَةُ عِلْمٍ وَدِينٍ، لَا وِرَاثَةَ مَالٍ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ الْآيَةَ [١٩ ٦] وَبَيَّنَّا هُنَاكَ الْأَدِلَّةَ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ لَا يُورَثُ عَنْهُمُ الْمَالُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ. تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [١١ ٥] وَقَوْلُهُ: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [٤١ ٣٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [٥٣ ٦٢] وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْخَبْءُ فِي السَّمَاوَاتِ: الْمَطَرُ، وَالْخَبْءُ فِي الْأَرْضِ: النَّبَاتُ، وَالْمَعَادِنُ، وَالْكُنُوزُ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُلَائِمٌ لِقَوْلِهِ: يُخْرِجُ الْخَبْءَ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْخَبْءُ: السِّرُّ وَالْغَيْبُ، أَيْ:
109
يَعْلَمُ مَا غَابَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ; كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ، وَكَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [٢٧ ٧٥] وَقَوْلِهِ: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [١٠ ٦١] كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «هُودٍ»، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ غَيْرَ الْكِسَائِيِّ: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ بِتَشْدِيدِ اللَّامِ فِي لَفْظَةِ (أَلَّا)، وَلَا خِلَافَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ يَسْجُدُوا فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِأَنِ الْمُدْغَمَةِ فِي لَفْظَةِ لَا، فَالْفِعْلُ الْمُضَارِعُ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، وَأَنِ الْمَصْدَرِيَّةُ الْمُدْغَمَةُ فِي لَا يَنْسَبِكُ مِنْهُمَا مَصْدَرٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَقِيلَ فِي مَحَلِّ جَرٍّ وَفِي إِعْرَابِهِ أَوْجُهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ، مِنْ أَجْلِ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ عَدَمِ سُجُودِهِمْ لِلَّهِ، أَوْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ، لِأَجْلِ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ، وَبِالْأَوَّلِ قَالَ الْأَخْفَشُ. وَبِالثَّانِي قَالَ الْكِسَائِيُّ، وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ وَغَيْرُهُ: هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ أَعْمَالَهُمْ، أَيْ: وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ أَلَّا يَسْجُدُوا، أَيْ: عَدَمَ سُجُودِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَأَعْمَالُهُمْ هِيَ عَدَمُ سُجُودِهِمْ لِلَّهِ، وَهَذَا الْإِعْرَابُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّرْكَ عَمَلٌ ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [٢٥ ٣٠] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمَصْدَرَ الْمَذْكُورَ فِي مَحَلِّ خَفْضٍ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ السَّبِيلِ، أَوْ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَفْظَةُ (لَا) صِلَةٌ، فَعَلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمَا. فَالْمَعْنَى: فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ سُجُودِهِمْ لِلَّهِ، وَعَلَى هَذَا فَسَبِيلُ الْحَقِّ الَّذِي صُدُّوا عَنْهُ هُوَ السُّجُودُ لِلَّهِ، (وَلَا) زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ. وَعَلَى الثَّانِي، فَالْمَعْنَى: فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ؛ لِأَنَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ، أَيْ: لِلسُّجُودِ لَهُ، (وَلَا) زَائِدَةٌ أَيْضًا لِلتَّوْكِيدِ، وَمَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنْسَبِكَ مِنْ فِعْلٍ، وَمَوْصُولٍ حَرْفِيٍّ إِنْ كَانَ الْفِعْلُ مَنْفِيًّا ذُكِرَتْ لَفْظَةُ (عَدَمُ) قَبْلَ الْمَصْدَرِ، لِيُؤَدَّى بِهَا مَعْنَى النَّفْيِ الدَّاخِلِ عَلَى الْفِعْلِ، فَقَوْلُكَ مَثَلًا: عَجِبْتُ مِنْ أَنْ لَا تَقُومَ، إِذَا سَبَكْتَ مَصْدَرَهُ لَزِمَ أَنْ تَقُولَ: عَجِبْتُ مِنْ عَدَمِ قِيَامِكَ، وَإِذَا كَانَ الْفِعْلُ مُثْبَتًا لَمْ تَذْكُرْ مَعَ الْمَصْدَرِ لَفْظَةَ (عَدَمُ)، فَلَوْ قُلْتَ: عَجِبْتُ مِنْ أَنْ تَقُومَ، فَإِنَّكَ تَقُولُ فِي سَبْكِ مَصْدَرِهِ: عَجِبْتُ مِنْ قِيَامِكَ ; كَمَا لَا يَخْفَى. وَعَلَيْهِ: فَالْمَصْدَرُ
110
الْمُنْسَبِكُ مِنْ قَوْلِهِ: أَلَّا يَسْجُدُوا يَلْزَمُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ عَدَمُ السُّجُودِ إِلَّا إِذَا اعْتُبِرَتْ لَفْظَةُ (لَا) زَائِدَةً، وَقَدْ أَشَرْنَا فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ [٧ ١٢] إِلَى أَنَّا أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَى زِيَادَةِ (لَا) لِتَوْكِيدِ الْكَلَامِ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ»، فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَلَدِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [٩٠ ١] وَسَنَذْكُرُ طَرَفًا مِنْ كَلَامِنَا فِيهِ هُنَا.
فَقَدْ قُلْنَا فِيهِ: الْأَوَّلُ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّ (لَا) هُنَا صِلَةٌ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ، فَإِنَّهَا رُبَّمَا لَفَظَتْ بِلَفْظَةِ لَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ مَعْنَاهَا الْأَصْلِيِّ بَلْ لِمُجَرَّدِ تَقْوِيَةِ الْكَلَامِ وَتَوْكِيدِهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِي [٢٠ ٩٢ - ٩٣] يَعْنِي أَنْ تَتَّبِعَنِي، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ، أَيْ: أَنْ تَسْجُدَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «ص» : مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [٣٨ ٧٥] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ [٥٧ ٢٩] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ الْآيَةَ [٤ ٦٥] أَيْ: فَوَرَبِّكَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ [٤١ ٣٤] أَيْ: وَالسَّيِّئَةُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [٢١ ٩٥] عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ [٦ ١٠٩] عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا الْآيَةَ [٦ ١٥١] عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ الْمَاضِيَةِ ; وَكَقَوْلِ أَبِي النَّجْمِ:
فَمَا أَلُومُ الْبِيضَ أَلَّا تَسْخَرَا لِمَا رَأَيْنَ الشَّمْطَ الْقَفَنْدَرَ
يَعْنِي: أَنْ تَسْخَرَ، وَقَوْلِ الْآخَرِ:
وَتَلْحِينُنِي فِي اللَّهْوِ أَلَّا أُحِبَّهُ وَلِلَّهْوِ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ
يَعْنِي: أَنْ أُحِبَّهُ، وَ (لَا) زَائِدَةٌ. وَقَوْلِ الْآخَرِ:
أَبَى جُودُهُ لَا الْبُخْلَ وَاسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ مِنْ فَتًى لَا يَمْنَعُ الْجُوعَ قَاتِلَهْ
يَعْنِي: أَبَى جُودُهُ الْبُخْلَ، وَلَا زَائِدَةٌ عَلَى خِلَافٍ فِي زِيَادَتِهَا فِي هَذَا الْبَيْتِ الْأَخِيرِ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى رِوَايَةِ الْبُخْلِ بِالْجَرِّ ; لِأَنَّ لَا عَلَيْهَا مُضَافٌ بِمَعْنَى لَفْظَةِ لَا، فَلَيْسَتْ زَائِدَةً عَلَى رِوَايَةِ الْجَرِّ، وَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
111
فَلَا وَأَبِيكِ ابْنَةَ الْعَامِرِيِّ لَا يَدَّعِي الْقَوْمُ أَنِّي أَفِرُّ
يَعْنِي: وَأَبِيكِ، وَأَنْشَدَ الْفَرَّاءُ لِزِيَادَةِ لَا فِي الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْجَحْدِ، قَوْلَ الشَّاعِرِ:
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللَّهِ دِينَهُمُ وَالْأَطْيَبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلَا عُمَرُ
يَعْنِي: عُمَرُ وَ (لَا) صِلَةٌ، وَأَنْشَدَ الْجَوْهَرِيُّ لِزِيَادَتِهَا قَوْلَ الْعَجَّاجِ:
فِي بِئْرٍ لَا حُورٍ سَرَى وَمَا شَعَرْ بِإِفْكِهِ حَتَّى رَأَى الصُّبْحَ جَشَرْ
وَالْحُورُ: الْهَلَكَةُ، يَعْنِي: فِي بِئْرٍ هَلِكَةٍ وَ (لَا) صِلَةٌ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ. وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ لِزِيَادَتِهَا قَوْلَ سَاعِدَةَ الْهُذَلِيِّ:
أَفَعَنْكَ لَا بَرْقٌ كَانَ وَمِيضُهُ غَابَ تَسَنُّمُهُ ضِرَامَ مُثَقَّبِ
وَيُرْوَى: أَفَمِنْكَ وَتَشَيُّمُهُ، بَدَلَ أَفَعَنْكَ وَتَسَنُّمُهُ، يَعْنِي: أَفَعَنْكَ بَرْقٌ، وَ (لَا) صِلَةٌ، وَمِنْ شَوَاهِدِ زِيَادَتِهَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِي صَبَابَةٌ وَكَادَ صَمِيمُ الْقَلْبِ لَا يَتَقَطَّعُ
يَعْنِي: كَادَ يَتَقَطَّعُ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ أَبِي عُبَيْدَةَ لِزِيَادَتِهَا بِقَوْلِ الشَّمَّاخِ:
أَعَائِشُ مَا لِقَوْمِكِ لَا أَرَاهُمْ يُضِيعُونَ الْهِجَانَ مَعَ الْمُضِيعِ
فَغَلَطٌ مِنْهُ، لِأَنَّ لَا فِي بَيْتِ الشَّمَّاخِ هَذَا نَافِيَةٌ لَا زَائِدَةٌ، وَمَقْصُودُهُ أَنَّهَا تَنْهَاهُ عَنْ حِفْظِ مَالِهِ، مَعَ أَنَّ أَهْلَهَا يَحْفَظُونَ مَالَهُمْ، أَيْ: لَا أَرَى قَوْمَكِ يُضِيعُونَ مَالَهُمْ وَأَنْتِ تُعَاتِبِينَنِي فِي حِفْظِ مَالِي، وَمَا ذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ مِنْ أَنَّ لَفْظَةَ لَا، لَا تَكُونُ صِلَةً إِلَّا فِي الْكَلَامِ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْجَحْدِ، فَهُوَ أَغْلَبِيٌّ لَا يَصِحُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، بِدَلِيلِ بَعْضِ الْأَمْثِلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الَّتِي لَا جَحْدَ فِيهَا كَهَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لَا فِيهَا صِلَةٌ، وَكَبَيْتِ سَاعِدَةَ الْهُذَلِيِّ، وَمَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ زِيَادَةِ لَا فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ».
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ مِنَ السَّبْعَةِ: أَلَّا يَسْجُدُوا بِتَخْفِيفِ اللَّامِ مِنْ قَوْلِهِ: (أَلَّا)، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ هَذِهِ، فَلَفْظَةُ (أَلَّا) حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ، وَتَنْبِيهٍ وَيَا
112
حَرْفُ نِدَاءٍ، وَالْمُنَادَى مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: أَلَا يَا هَؤُلَاءِ اسْجُدُوا، وَاسْجُدُوا فِعْلُ أَمْرٍ وَمَعْلُومٌ فِي عِلْمِ الْقِرَاءَاتِ، أَنَّكَ إِذَا قِيلَ لَكَ: قِفْ عَلَى كُلِّ كَلِمَةٍ بِانْفِرَادِهَا فِي قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ، أَنَّكَ تَقِفُ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا يَسْجُدُوا، ثَلَاثَ وَقَفَاتٍ، الْأُولَى: أَنْ تَقِفَ عَلَى أَلَا. وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تَقِفَ عَلَى يَا. وَالثَّالِثَةُ: أَنْ تَقِفَ عَلَى اسْجُدُوا، وَهَذَا الْوَقْفُ وَقْفُ اخْتِبَارٍ لَا وَقْفُ اخْتِيَارٍ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، فَإِنَّكَ تَقِفُ وَقْفَتَيْنِ فَقَطْ: الْأُولَى: عَلَى (أَلَّا)، وَلَا تَقِفُ عَلَى أَنْ لِأَنَّهَا مُدْغَمَةٌ فِي لَا، وَالثَّانِيَةُ: أَنَّكَ تَقِفُ عَلَى يَسْجُدُوا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ قَدْ حُذِفَ فِي الْخَطِّ أَلِفَانِ، الْأُولَى: الْأَلِفُ الْمُتَّصِلَةُ بِيَاءِ النِّدَاءِ، وَالثَّانِيَةُ: أَلِفُ الْوَصْلِ فِي قَوْلِهِ: (اسْجُدُوا)، وَوَجَّهَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِسْقَاطَهُمَا فِي الْخَطِّ، بِأَنَّهُمَا لَمَّا سَقَطَتَا فِي اللَّفْظِ، سَقَطَتَا فِي الْكِتَابَةِ، قَالُوا: وَمِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ مِنْ أَنَّ لَفْظَةَ (أَلَا) لِلِاسْتِفْتَاحِ وَالتَّنْبِيهِ، وَأَنَّ يَا حَرْفُ نِدَاءٍ حُذِفَ مِنْهُ الْأَلِفُ فِي الْخَطِّ، وَاسْجُدُوا فِعْلُ أَمْرٍ، قَالُوا: وَحَذْفُ الْمُنَادَى مَعَ ذِكْرِ أَدَاةِ النِّدَاءِ أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْطَلِ:
أَلَا يَا اسْلَمِي يَا هِنْدُ هِنْدَ بَنِي بَكْرِ... وَإِنْ كَانَ حَيَّانَا عِدَى آخِرَ الدَّهْرِ
وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيَّ عَلَى الْبِلَا... وَلَا زَالَ مُنْهَلًّا بِجَرْعَائِكِ الْقَطْرُ
فَقَوْلُهُ فِي الْبَيْتَيْنِ: أَلَا يَا اسْلَمِي، أَيْ: يَا هَذِهِ اسْلَمِي، وَقَوْلُ الْآخَرِ:
لَا يَا اسْلَمِي ذَاتَ الدَّمَالِيجِ وَالْعِقْدِ
وَقَوْلُ الشَّمَّاخِ:
أَلَا يَا اصْبَحَانِي قَبْلَ غَارَةِ سِنْجَالِي... وَقَبْلَ مَنَايَا قَدْ حَضَرْنَ وَآجَالِي
يَعْنِي: أَلَا يَا صَحْبِي اصْبَحَانِي، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
أَلَا يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ خَيْلِ... أَبِي بَكْرِ
وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
113
فَقَالَتْ أَلَا يَا اسْمَعْ أَعِظْكَ بِخُطْبَةٍ فَقُلْتُ سَمِعْنَا فَانْطِقِي وَأَصِيبِي
يَعْنِي: أَلَا يَا هَذَا اسْمَعْ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ لِحَذْفِ الْمُنَادَى مَعَ ذِكْرِ أَدَاتِهِ، قَوْلَ الشَّاعِرِ:
يَا لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْأَقْوَامِ كُلِّهِمُ وَالصَّالِحِينَ عَلَى سَمْعَانَ مِنْ جَارِ
بِضَمِّ التَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ: لَعْنَةُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: فَيَا لَغَيْرُ اللَّعْنَةِ، يَعْنِي أَنَّ الْمُرَادَ: يَا قَوْمُ لَعْنَةُ اللَّهِ، إِلَى آخِرِهِ. وَأَنْشَدَ صَاحِبُ اللِّسَانِ لِحَذْفِ الْمُنَادَى، مَعَ ذِكْرِ أَدَاتِهِ مُسْتَشْهِدًا لِقِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ الْمَذْكُورَةِ، قَوْلَ الشَّاعِرِ:
يَا قَاتَلَ اللَّهُ صِبْيَانًا تَجِيءُ بِهِمْ أُمُّ الْهُنَيْنِينَ مِنْ زَنْدَلِهَا وَارَى
ثُمَّ قَالَ: كَأَنَّهُ أَرَادَ: يَا قَوْمُ قَاتَلَ اللَّهُ صِبْيَانًا، وَقَوْلَ الْآخَرِ:
يَا مَنْ رَأَى بَارِقًا أُكَفْكِفُهُ بَيْنَ ذِرَاعَيْ وَجَبْهَةِ الْأَسَدِ
ثُمَّ قَالَ: كَأَنَّهُ دَعَا يَا قَوْمُ يَا إِخْوَتِي، فَلَمَّا أَقْبَلُوا عَلَيْهِ قَالَ: مَنْ رَأَى. وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ لِحَذْفِ الْمُنَادَى مَعَ ذِكْرِ أَدَاتِهِ، قَوْلَ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
يَا شَاةَ مَا قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ
قَالُوا: التَّقْدِيرُ: يَا قَوْمُ انْظُرُوا شَاةَ مَا قَنَصٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: إِنَّ يَا عَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ، وَفِي جَمِيعِ الشَّوَاهِدِ الَّتِي ذَكَرْنَا لَيْسَتْ لِلنِّدَاءِ، وَإِنَّمَا هِيَ لِلتَّنْبِيهِ فَكُلٌّ مِنْ أَلَا وَيَا: حَرْفُ تَنْبِيهٍ كُرِّرَ لِلتَّوْكِيدِ، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ: أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتَارَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ»، قَالَ فِيهِ: وَالَّذِي أَذْهَبُ إِلَيْهِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّرْكِيبِ الْوَارِدِ عَنِ الْعَرَبِ لَيْسَتْ يَا فِيهِ لِلنِّدَاءِ، وَحُذِفَ الْمُنَادَى ; لِأَنَّ الْمُنَادَى عِنْدِي لَا يَجُوزُ حَذْفُهُ، لِأَنَّهُ قَدْ حُذِفَ الْفِعْلُ الْعَامِلُ فِي النِّدَاءِ، وَانْحَذَفَ فَاعِلُهُ لِحَذْفِهِ، وَلَوْ حُذِفَ الْمُنَادَى لَكَانَ فِي ذَلِكَ حَذْفُ جُمْلَةِ النِّدَاءِ، وَحَذْفُ مُتَعَلِّقِهِ، وَهُوَ الْمُنَادَى، فَكَانَ ذَلِكَ إِخْلَالًا كَبِيرًا، وَإِذَا أَبْقَيْنَا الْمُنَادَى وَلَمْ نَحْذِفْهُ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْعَامِلِ فِيهِ جُمْلَةُ النِّدَاءِ، وَلَيْسَ حَرْفُ النِّدَاءِ حَرْفَ جَوَابٍ كَنَعَمْ، وَلَا، وَبَلَى، وَأَجَلْ، فَيَجُوزُ حَذْفُ الْجُمَلِ بَعْدَهُنَّ لِدَلَالَةِ مَا سَبَقَ مِنَ السُّؤَالِ عَلَى الْجُمَلِ الْمَحْذُوفَةِ، فَيَا عِنْدِي فِي تِلْكَ التَّرَاكِيبِ حَرْفُ تَنْبِيهٍ أَكَّدَ بِهِ أَلَا الَّتِي لِلتَّنْبِيهِ، وَجَازَ ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ الْحَرْفَيْنِ وَلِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي التَّوْكِيدِ، وَإِذَا كَانَ قَدْ وَجَدَ التَّوْكِيدَ فِي اجْتِمَاعِ
114
الْحَرْفَيْنِ الْمُخْتَلِفَيِ اللَّفْظِ، الْعَامِلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: فَأَصْبَحْنَ لَا يَسْأَلْنَنِي عَنْ بِمَا بِهِ، وَالْمُتَّفِقَيِ اللَّفْظِ الْعَامِلَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا لَلَمَّا بِهِمْ أَبَدًا دَوَاءُ.
وَجَازَ ذَلِكَ، وَإِنْ عَدُّوهُ ضَرُورَةً أَوْ قَلِيلًا، فَاجْتِمَاعُ غَيْرِ الْعَامِلَيْنِ وَهُمَا مُخْتَلِفَا اللَّفْظِ يَكُونُ جَائِزًا، وَلَيْسَ يَا فِي قَوْلِهِ: يَا لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْأَقْوَامِ كُلِّهِمُ.
حَرْفَ نِدَاءٍ عِنْدِي، بَلْ حَرْفَ تَنْبِيهٍ جَاءَ بَعْدَهُ الْمُبْتَدَأُ، وَلَيْسَ مِمَّا حُذِفَ مِنْهُ الْمُنَادَى، لِمَا ذَكَرْنَاهُ. انْتَهَى الْغَرَضُ مِنْ كَلَامِ أَبِي حَيَّانَ، وَمَا اخْتَارَهُ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ: وَمِمَّا لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ عِنْدِي فِي قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ، أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يَا اسْجُدُوا فِعْلٌ مُضَارِعٌ حُذِفَتْ مِنْهُ نُونُ الرَّفْعِ، بِلَا نَاصِبٍ، وَلَا جَازِمٍ، وَلَا نُونِ تَوْكِيدٍ، وَلَا نُونِ وِقَايَةٍ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ حَذْفَهَا لَا لِمُوجِبٍ مِمَّا ذَكَرَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ.
قَالَ النَّوَوِيُّ فِي «شَرْحِ مُسْلِمٍ»، فِي الْجُزْءِ السَّابِعِ عَشَرَ فِي صَفْحَةِ ٧٠٢، مَا نَصُّهُ: قَوْلُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا، كَذَا هُوَ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ، كَيْفَ يَسْمَعُوا، وَأَنَّى يُجِيبُوا مِنْ غَيْرِ نُونٍ، وَهِيَ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةَ الِاسْتِعْمَالِ، وَسَبَقَ بَيَانُهَا مَرَّاتٍ. وَمِنْهَا الْحَدِيثُ السَّابِقُ فِي «الْإِيمَانِ» :«لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا»، انْتَهَى مِنْهُ. وَعَلَى أَنَّ حَذْفَ نُونِ الرَّفْعِ لُغَةٌ صَحِيحَةٌ، فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَسْجُدُوا، فِي قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ فِعْلًا مُضَارِعًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَقَدِ اقْتَصَرْنَا فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ»، عَلَى أَنَّ حَذْفَهَا مَقْصُورٌ عَلَى السَّمَاعِ، وَذَكَرْنَا بَعْضَ شَوَاهِدِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
تَنْبِيهَانِ.
الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ آيَةَ «النَّمْلِ» هَذِهِ، مَحَلُّ سَجْدَةٍ عَلَى كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ ; لِأَنَّ قِرَاءَةَ الْكِسَائِيِّ فِيهَا الْأَمْرُ بِالسُّجُودِ، وَقِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ فِيهَا ذَمُّ تَارِكِ السُّجُودِ وَتَوْبِيخُهُ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ الزَّجَّاجِ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ مَحَلَّ سَجْدَةٍ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا هِيَ
115
مَحَلُّ سُجُودٍ عَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَى هَذَا الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ.
التَّنْبِيهُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، لَا يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: لَا يَهْتَدُونَ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ، يَحْسُنُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ [٢٧ ٢٥] قَرَأَهُ حَفْصٌ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الْخِطَابِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: يُخْفُونَ، وَيُعْلِنُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْغَيْبَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ. جَاءَ مَعْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ [٤١ ٤٦] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [٣٠ ٤٤] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [١٧ ٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ. جَاءَ مَعْنَاهُ مُوَضَّحًا أَيْضًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [١٤ ٨] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [٦٤ ٦] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [٦٤ ٦] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [٤٧ ٣٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَرْسَلَ نَبِيَّهُ صَالِحًا إِلَى ثَمُودَ، فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ، وَلَمْ يُبَيِّنْ هُنَا خُصُومَةَ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْأَعْرَافِ»، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ [٧ ٧٥ - ٧٦] فَهَذِهِ خُصُومَتُهُمْ وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْخُصُومَةِ، الْخُصُومَةُ فِي الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ يَاقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ [١٣ ٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ. قَوْلُهُ: اطَّيَّرْنَا بِكَ، أَيْ: تَشَاءَمْنَا بِكَ، وَكَانَ قَوْمُ صَالِحٍ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ قَحْطٌ أَوْ بَلَاءٌ أَوْ مَصَائِبُ، قَالُوا: مَا جَاءَنَا هَذَا إِلَّا مِنْ شُؤْمِ صَالِحٍ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ. وَالتَّطَيُّرُ: التَّشَاؤُمُ، وَأَصْلُ اشْتِقَاقِهِ مِنَ التَّشَاؤُمِ بِزَجْرِ الطَّيْرِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ التَّشَاؤُمِ وَالتَّيَامُنِ بِالطَّيْرِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [٦ ٥٩] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَيْ سَبَبُكُمُ الَّذِي يَجِيءُ مِنْهُ خَيْرُكُمْ وَشَرُّكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، فَالشَّرُّ الَّذِي أَصَابَكُمْ بِذُنُوبِكُمْ لَا بِشُؤْمِ صَالِحٍ، وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى طَائِرِ الْإِنْسَانِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ [١٧ ١٣] وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ تَشَاؤُمِ الْكُفَّارِ بِصَالِحٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، جَاءَ مِثْلُهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي تَشَاؤُمِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ بِمُوسَى: فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [٧ ١٣١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي تَطَيُّرِ كَفَّارِ قُرَيْشٍ بِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا [٤ ٧٨] وَالْحَسَنَةُ فِي الْآيَتَيْنِ: النِّعْمَةُ كَالرِّزْقِ وَالْخِصْبِ وَالْعَافِيَةِ، وَالسَّيِّئَةُ: الْمُصِيبَةُ بِالْجَدْبِ وَالْقَحْطِ، وَنَقْصِ الْأَمْوَالِ، وَالْأَنْفُسِ، وَالثَّمَرَاتِ ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ [٣٦ ١٨ - ١٩] أَيْ: بَلِيَّتُكُمْ جَاءَتْكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَكُفْرِكُمْ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:
تُخْتَبَرُونَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: تُعَذَّبُونَ ; كَقَوْلِهِ: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [٥١ ١٣] وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ أَصْلَ الْفِتْنَةِ فِي اللُّغَةِ، وَضْعُ الذَّهَبِ فِي النَّارِ لِيُخْتَبَرَ بِالسَّبْكِ أَزَائِفٌ هُوَ أَمْ خَالِصٌ؟ وَأَنَّهَا أُطْلِقَتْ فِي الْقُرْآنِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَعَانٍ: الْأَوَّلُ: إِطْلَاقُهَا عَلَى الْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [٥١ ١٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [٨٥ ١٠] أَيْ: حَرَّقُوهُمْ بِنَارِ الْأُخْدُودِ عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ، وَقَدِ اخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ..
الْمَعْنَى الثَّانِي: إِطْلَاقُ الْفِتْنَةِ عَلَى الِاخْتِبَارِ، وَهَذَا هُوَ أَكْثَرُهَا اسْتِعْمَالًا ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [٢١ ٣٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [٧٢ ١٦ - ١٧] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
الثَّالِثُ: إِطْلَاقُ الْفِتْنَةِ عَلَى نَتِيجَةِ الِاخْتِبَارِ إِنْ كَانَتْ سَيِّئَةً خَاصَّةً، وَمِنْ هُنَا أُطْلِقَتِ الْفِتْنَةُ عَلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [٢ ١٩٣] أَيْ: لَا يَبْقَى شِرْكٌ، وَهَذَا التَّفْسِيرُ الصَّحِيحُ، دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
أَمَّا الْكِتَابُ، فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ فِي «الْبَقَرَةِ» : وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [٢ ١٩٣] وَفِي «الْأَنْفَالِ» : وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [٨ ٣٩] فَإِنَّهُ يُوَضِّحُ أَنَّ مَعْنَى: لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، أَيْ: لَا يَبْقَى شِرْكٌ ; لِأَنَّ الدِّينَ لَا يَكُونُ كُلُّهُ لِلَّهِ، مَا دَامَ فِي الْأَرْضِ شِرْكٌ، كَمَا تَرَى.
وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»، الْحَدِيثَ. فَقَدْ جَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا قِتَالُهُ لِلنَّاسِ، هِيَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ وَاضِحٌ فِي أَنَّ مَعْنَى: لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ: لَا يَبْقَى شِرْكٌ، فَالْآيَةُ وَالْحَدِيثُ كِلَاهُمَا دَالٌّ عَلَى أَنَّ الْغَايَةَ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا قِتَالُ الْكُفَّارِ هِيَ أَلَّا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرْكٌ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ عَبَّرَ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَقَدْ عَبَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهُ بِقَوْلِهِ: «حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»، فَالْغَايَةُ فِي الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ وَاحِدَةٌ فِي الْمَعْنَى، كَمَا تَرَى.
الرَّابِعُ: هُوَ إِطْلَاقُ الْفِتْنَةِ عَلَى الْحُجَّةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ
[٦ ٢٣] أَيْ: لَمْ تَكُنْ حُجَّتُهُمْ، كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ. قَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَالِحًا عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نَفَعَهُ اللَّهُ بِنُصْرَةِ وَلِيِّهِ، أَيْ: أَوْلِيَائِهِ ; لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَى مَعْرِفَةٍ، وَوَجْهُ نُصْرَتِهِمْ لَهُ: أَنَّ التِّسْعَةَ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ قَالُوا تَقَاسَمُوا [٢٧ ٤٨ - ٤٩] أَيْ: تَحَالَفُوا بِاللَّهِ، لَنُبَيِّتَنَّهُ، أَيْ: لَنُبَاغِتَنَّهُ بَيَاتًا، أَيْ: لَيْلًا فَنَقْتُلُهُ وَنَقْتُلُ أَهْلَهُ مَعَهُ، ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ، أَيْ: أَوْلِيَائِهِ وَعُصْبَتِهِ، مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ، أَيْ: وَلَا مَهْلِكَهُ هُوَ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ عَلَنًا، لِنُصْرَةِ أَوْلِيَائِهِ لَهُ، وَإِنْكَارُهُمْ شُهُودَ مَهْلِكَ أَهْلِهِ دَلِيلٌ عَلَى خَوْفِهِمْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ النُّصْرَةَ عَصَبِيَّةٌ نِسْبِيَّةٌ لَا تَمُتُّ إِلَى الدِّينِ بِصِلَةٍ، وَأَنَّ أَوْلِيَاءَهُ لَيْسُوا مُسْلِمِينَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ «هُودٍ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ الْآيَةَ [١١ ٩١] وَفِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [١٧ ١٩]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: تَقَاسَمُوا، التَّحْقِيقُ أَنَّهُ فِعْلُ أَمْرٍ مَحْكِيٌّ بِالْقَوْلِ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَنَسَبَهُ أَبُو حَيَّانَ لِلْجُمْهُورِ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَإِنَّا لَصَادِقُونَ، التَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ: وَإِنَّا لَصَادِقُونَ، كَمَا لَا يَخْفَى، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَا تَكَلَّفَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْكَشَّافِ»، مِنْ كَوْنِهِمْ صَادِقِينَ لَا وَجْهَ لَهُ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ وَأَوْضَحَهُ، وَقَرَأَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ لَنُبَيِّتَنَّهُ بِالنُّونِ الْمَضْمُومَةِ بَعْدَ اللَّامِ، وَفَتْحِ الْفَوْقِيَّةِ الْمُثَنَّاةِ الَّتِي بَعْدَ التَّحْتِيَّةِ الْمُثَنَّاةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: لَتُبَيِّتُنَّهُ بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ الْمَضْمُومَةِ بَعْدَ اللَّامِ، وَضَمِّ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ الَّتِي بَعْدَ الْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ أَيْضًا غَيْرَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ: ثُمَّ لَنَقُولَنَّ، بِالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ مَوْضِعَ التَّاءِ، وَفَتْحِ اللَّامِ الثَّانِيَةِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: ثُمَّ لَتَقُولُنَّ، بِفَتْحِ التَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ بَعْدَ
اللَّامِ الْأُولَى، وَضَمِّ اللَّامِ الثَّانِيَةِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ: مَهْلِكَ أَهْلِهِ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: مَهْلِكَ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا.
فَتَحْصُلُ أَنَّ حَفْصًا عَنْ عَاصِمٍ قَرَأَ مَهْلِكَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْنِي شُعْبَةَ قَرَأَ عَنْ عَاصِمٍ: مَهْلَكَ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَاللَّامِ، وَأَنَّ غَيْرَ عَاصِمٍ قَرَأَ: مَهْلِكَ أَهْلِهِ، بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ اللَّامِ، فَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مَهْلِكَ بِفَتْحِ الْمِيمِ، فَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ هَلَكَ الثُّلَاثِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ زَمَانٍ أَوْ مَكَانٍ، وَعَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ مُهْلَكَ بِضَمِّ الْمِيمِ، فَهُوَ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ أَهْلَكَ الرُّبَاعِيِّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا اسْمَ مَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ. ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ، ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ دَمَّرَ جَمِيعَ قَوْمِ صَالِحٍ، وَمِنْ جُمْلَتِهِمْ تِسْعَةُ رَهْطٍ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، أَيْ: وَهُمْ قَوْمُ صَالِحٍ ثَمُودَ، فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً، أَيْ: خَالِيَةً مِنَ السُّكَّانِ لِهَلَاكِ جَمِيعِ أَهْلِهَا، بِمَا ظَلَمُوا، أَيْ: بِسَبَبِ ظُلْمِهِمُ الَّذِي هُوَ كُفْرُهُمْ وَتَمَرُّدُهُمْ وَقَتْلُهُمْ نَاقَةَ اللَّهِ الَّتِي جَعَلَهَا آيَةً لَهُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: خَاوِيَةً، أَيْ: سَاقِطًا أَعْلَاهَا عَلَى أَسْفَلِهَا.
الثَّانِي: أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا جَعَلَ إِهْلَاكَهُ قَوْمَ صَالِحٍ آيَةً، أَيْ: عِبْرَةً يَتَّعِظُ بِهَا مَنْ بَعْدَهُمْ، فَيَحْذَرُ مِنَ الْكُفْرِ، وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، لِئَلَّا يَنْزِلَ بِهِ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ التَّدْمِيرِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَنْجَى الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ مِنَ الْهَلَاكِ وَالْعَذَابِ، وَهُوَ نَبِيُّ اللَّهِ صَالِحٌ وَمَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا جَلَّ وَعَلَا هُنَا، جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ أُخَرَ.
أَمَّا إِنْجَاؤُهُ نَبِيَّهُ صَالِحًا، وَمَنْ آمَنَ بِهِ وَإِهْلَاكَهُ ثَمُودَ، فَقَدْ أَوْضَحَهُ جَلَّ وَعَلَا فِي
مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ ; كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «هُودٍ» : فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ [١١ ٦٦]- ٦٨]. وَآيَةُ «هُودٍ» هَذِهِ، قَدْ بَيَّنَتْ أَيْضًا التَّدْمِيرَ الْمُجْمَلَ فِي آيَةِ «النَّمْلِ» هَذِهِ، فَالتَّدْمِيرُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، بَيَّنَتْ آيَةُ «هُودٍ» أَنَّهُ الْإِهْلَاكُ بِالصَّيْحَةِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [١١ ٦٧] أَيْ: وَهُمْ مَوْتَى. وَأَمَّا كَوْنُهُ جَعَلَ إِهْلَاكَهُ إِيَّاهُمْ آيَةً، فَقَدْ أَوْضَحَهُ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [٢٦ ١٥٧ - ١٥٩] وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ، قَرَأَهُ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ: إِنَّا دَمَّرْنَاهُمْ بِكَسْرَةِ هَمْزَةِ إِنَّا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَهُ الْكُوفِيُّونَ وَهُمْ: عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ، بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّا. وَفِي إِعْرَابِ الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنَّ وَصِلَتِهَا عَلَى قِرَاءَةِ الْكُوفِيِّينَ أَوْجُهٌ، مِنْهَا: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ عَاقِبَةِ مَكْرِهِمْ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَتَقْدِيرُهُ هِيَ، أَيْ: عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ تَدْمِيرُنَا إِيَّاهُمْ.
وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ هُمَا أَقْرَبُ الْأَوْجُهِ عِنْدِي لِلصَّوَابِ، وَلِذَا تَرَكْنَا غَيْرَهُمَا مِنَ الْأَوْجُهِ، وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مَكْرِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِ: دَمَّرْنَاهُمْ، رَاجِعٌ إِلَى التِّسْعَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ الْآيَةَ [٢٧ ٤٨] وَقَوْلُهُ: خَاوِيَةً حَالٌ فِي بُيُوتِهِمْ، وَالْعَامِلُ فِيهِ الْإِشَارَةُ الْكَامِنَةُ فِي مَعْنَى تِلْكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا إِيضَاحُ قِصَّةِ لُوطٍ وَقَوْمِهِ فِي سُورَةِ «هُودٍ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ لُوطٍ وَقَوْمِهِ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمُنَاقَشَةَ أَدِلَّتِهِمْ فِي عُقُوبَةِ فَاعِلِ فَاحِشَةِ اللِّوَاطِ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةَ لَهَا أَيْضًا فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ لُوطٍ وَقَوْمِهِ، وَذَكَرْنَا بَعْضَ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ».
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا الْآيَاتِ. قَدْ أَوْضَحْنَا مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْبَرَاهِينِ عَلَى الْبَعْثِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْبَقَرَةِ»، وَأَوَّلِ سُورَةِ «النَّحْلِ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ الْآيَةَ [٦ ٥٩] وَفِي مَوَاضِعَ أُخَرَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ. أَظْهَرُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْمَعْنَى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ، أَيْ: تَكَامَلَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ حِينَ يُعَايِنُونَهَا، أَيْ: يَعْلَمُونَ فِي الْآخِرَةِ عِلْمًا كَامِلًا، مَا كَانُوا يَجْهَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا، وَقَوْلُهُ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ، أَيْ: فِي دَارِ الدُّنْيَا، فَهَذَا الَّذِي كَانُوا يَشُكُّونَ فِيهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَيَعْمُونَ عَنْهُ مِمَّا جَاءَتْهُمْ بِهِ الرُّسُلُ، يَعْلَمُونَهُ فِي الْآخِرَةِ عِلْمًا كَامِلًا لَا يُخَالِجُهُ شَكٌّ، عِنْدَ مُعَايَنَتِهِمْ لِمَا كَانُوا يُنْكِرُونَهُ مِنَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ.
وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا الْقَوْلَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ أَقْوَالِ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَيْهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [١٩ ٣٨] فَقَوْلُهُ: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا، بِمَعْنَى: مَا أَسْمَعَهُمْ وَمَا أَبْصَرَهُمْ لِلْحَقِّ الَّذِي كَانُوا يُنْكِرُونَهُ يَوْمَ يَأْتُونَنَا، أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَذَا يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ: تَكَامَلَ عِلْمُهُمْ فِيهَا لِمُبَالَغَتِهِمْ فِي سَمْعِ الْحَقِّ وَإِبْصَارِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَقَوْلُهُ: لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [١٩ ٣٨] يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ، لِأَنَّ ضَلَالَهُمُ الْمُبَيَّنَ الْيَوْمَ، أَيْ: فِي دَارِ الدُّنْيَا، هُوَ شَكُّهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَعَمَاهُمْ
122
عَنْهَا ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [٥٠ ٢٢] أَيْ: عِلْمُكَ الْيَوْمَ بِمَا كُنْتَ تُنْكِرُهُ فِي الدُّنْيَا مِمَّا جَاءَتْكَ بِهِ الرُّسُلُ حَدِيدٌ، أَيْ: قَوِيٌّ كَامِلٌ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِبْهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ»، فِي سُورَةِ «الشُّورَى»، فِي الْجَوَابِ عَمَّا يَتَوَهَّمُ مِنَ التَّعَارُضِ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ [٤٢ ٤٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [٥٠ ٢٢] أَنَّ الْمُرَادَ بِحِدَّةِ الْبَصَرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: كَمَالُ الْعِلْمُ وَقُوَّةُ الْمَعْرِفَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [٣٢ ١٢] فَقَوْلُهُ: إِنَّا مُوقِنُونَ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ هُنَا: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا وَوُضِعَ [١٨ ٤٨] فَعَرْضُهُمْ عَلَى رَبِّهِمْ صَفًّا يَتَدَارَكُ بِهِ عِلْمُهُمْ، لِمَا كَانُوا يُنْكِرُونَهُ، وَقَوْلُهُ: بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا، صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا كَانُوا فِي شَكٍّ وَعَمًى عَنِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ كَمَا تَرَى، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: بَلِ ادَّارَكَ، فِيهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ قِرَاءَةً اثْنَتَانِ مِنْهَا فَقَطْ سَبْعِيَّتَانِ، فَقَدْ قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو: بَلِ ادَّارَكَ بِكَسْرِ اللَّامِ مِنْ بَلِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَالْأَلِفُ الَّتِي قَبْلَ الدَّالِ هَمْزَةُ وَصْلٍ، وَأَصْلُهُ: تَدَارَكَ بِوَزْنِ: تَفَاعَلَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا وَجْهَ الْإِدْغَامِ، وَاسْتِجْلَابَ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فِي تَفَاعَلَ وَتَفَعَّلَ وَأَمْثِلَةَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ، وَبَعْضَ شَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ «طَهَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [٧ ١١٧] وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: بَلْ أَدْرَكَ بِسُكُونِ اللَّامِ مِنْ بَلْ، وَهَمْزَةِ قَطْعٍ مَفْتُوحَةٍ، مَعَ سُكُونِ الدَّالِ عَلَى وَزْنِ: أَفْعَلَ.
وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ، أَيْ: تَدَارَكَ بِمَعْنَى تَكَامَلَ ; كَقَوْلِهِ: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا [٧ ٣٨] وَعَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو: بَلْ أَدْرَكَ.
قَالَ الْبَغَوِيُّ: أَيْ بَلَغَ وَلَحِقَ، كَمَا يُقَالُ: أَدْرَكَ عِلْمِي إِذَا لَحِقَهُ وَبَلَغَهُ، وَالْإِضْرَابُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلِ ادَّارَكَ، بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ، بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ، إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ، بِمَعْنَى: عَنْ،
123
وَعَمُونَ جَمْعُ عَمٍ، وَهُوَ الْوَصْفُ مِنْ عَمِيَ يَعْمَى فَهُوَ أَعْمَى وَعَمٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ [٧ ٦٤] وَقَوْلُ زُهَيْرٍ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
وَأَعْلَمُ عِلْمَ الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ قَبْلَهُ وَلَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ. وَمِنْ ذَلِكَ اخْتِلَافُهُمْ فِي عِيسَى، فَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ»، ادِّعَاءَهُمْ عَلَى أُمِّهِ الْفَاحِشَةَ، مَعَ أَنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ آمَنَتْ بِهِ ; كَمَا يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ [٦١ ٤١] وَالطَّائِفَةُ الَّتِي آمَنَتْ قَالَتِ الْحَقَّ فِي عِيسَى، وَالَّتِي كَفَرَتِ افْتَرَتْ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمِّهِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ».
وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» وَسُورَةِ «النِّسَاءِ» وَغَيْرِهِمَا، حَقِيقَةَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَهِيَ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ [١٩ ٣٠] وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [٤ ١٧١] وَلَمَّا بَيَّنَ لَهُمْ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ مُفَصَّلَةً فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» قَالَ: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [١٩ ٣٤] وَذَلِكَ يُبَيِّنُ بَعْضَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤمِنِينَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ الْآيَةَ [١٨ ١].
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ. اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرَائِنُ الْقُرْآنِيَّةُ وَاسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، لَا يَصِحُّ فِيهِ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، إِلَّا تَفْسِيرَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، أَيْ: لَا تُسْمِعُ الْكُفَّارَ الَّذِينَ أَمَاتَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وَكَتَبَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاءَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ إِسْمَاعَ هُدًى وَانْتِفَاعٍ ; لِأَنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الشَّقَاءَ، فَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَعَلَى سَمْعِهِمْ، وَجَعَلَ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْأَكِنَّةَ، وَفِي آذَانِهِمُ الْوَقْرَ،
124
وَعَلَى أَبْصَارِهِمُ الْغِشَاوَةَ، فَلَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ سَمَاعَ اهْتِدَاءٍ وَانْتِفَاعٍ. وَمِنَ الْقَرَائِنِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا قَالَ بَعْدَهُ: وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ [٢٧ ٨١].
فَاتَّضَحَ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ أَنَّ الْمَعْنَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، أَيِ: الْكُفَّارَ الَّذِينَ هُمْ أَشْقِيَاءُ فِي عِلْمِ اللَّهِ إِسْمَاعَ هُدًى وَقَبُولٍ لِلْحَقِّ، مَا تُسْمِعُ ذَلِكَ الْإِسْمَاعَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ، فَمُقَابَلَتُهُ جَلَّ وَعَلَا بِالْإِسْمَاعِ الْمَنْفِيِّ فِي الْآيَةِ عَنِ الْمَوْتَى بِالْإِسْمَاعِ الْمُثْبَتِ فِيهَا لِمَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِهِ، فَهُوَ مُسَلَّمٌ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتِ فِي الْآيَةِ مَوْتُ الْكُفْرِ وَالشَّقَاءِ، لَا مَوْتُ مُفَارَقَةِ الرُّوحِ لِلْبَدَنِ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَوْتِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، مُفَارَقَةَ الرُّوحِ لِلْبَدَنِ لَمَا قَابَلَ قَوْلَهُ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى بِقَوْلِهِ: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا بَلْ لَقَابَلَهُ بِمَا يُنَاسِبُهُ، كَأَنْ يُقَالَ: إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ لَمْ يَمُتْ، أَيْ: يُفَارِقْ رُوحُهُ بَدَنَهُ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ.
وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ الْقَرِينَةَ الْقُرْآنِيَّةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتَى هُنَا الْأَشْقِيَاءُ، الَّذِينَ لَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ سَمَاعَ هُدًى وَقَبُولٍ.
فَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [٦ ٣٦] وَقَدْ أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتَى فِي قَوْلِهِ: وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ: الْكُفَّارُ، وَيَدُلُّ لَهُ مُقَابَلَةُ الْمَوْتَى فِي قَوْلِهِ: وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ بِالَّذِينِ يَسْمَعُونَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهُ: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ [٦ ٣٥] أَيْ: فَافْعَلْ، ثُمَّ قَالَ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الْآيَةَ [٦ ٣٥ - ٣٦] وَهَذَا وَاضِحٌ فِيمَا ذَكَرْنَا. وَلَوْ كَانَ يُرَادُ بِالْمَوْتَى مَنْ فَارَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ أَبْدَانَهُمْ لَقَابَلَ الْمَوْتَى بِمَا يُنَاسِبُهُمْ ; كَأَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الْأَحْيَاءُ، أَيِ: الَّذِينَ لَمْ تُفَارِقْ أَرْوَاحُهُمْ أَبْدَانَهُمْ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [٦ ١٢٢].
125
فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا، أَيْ: كَافِرًا فَأَحْيَيْنَاهُ، أَيْ: بِالْإِيمَانِ وَالْهُدَى، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَفِيهِ إِطْلَاقُ الْمَوْتِ وَإِرَادَةُ الْكُفْرِ بِلَا خِلَافٍ ; وَكَقَوْلِهِ: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [٣٦ ٧٠] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [٣٥ ٢٢] أَيْ: لَا يَسْتَوِي الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ.
وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى الْآيَةَ، وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ كُلِّهَا، تَسْلِيَةٌ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ يُحْزِنُهُ عَدَمُ إِيمَانِهِمْ، كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [٦ ٣٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ الْآيَةَ [١٥ ٩٧] وَقَوْلِهِ: وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ [١٦ ١٢٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [٥ ٦٨] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ الْآيَةَ [٣٥ ٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [١٨ ٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [٢٦ ٣] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ. وَلَمَّا كَانَ يُحْزِنُهُ كُفْرُهُمْ وَعَدَمُ إِيمَانِهِمْ، أَنْزَلَ اللَّهُ آيَاتٍ كَثِيرَةً تَسْلِيَةً لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ لَهُ فِيهَا أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى هُدَى مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ، فَإِنَّ الْهُدَى وَالْإِضْلَالَ بِيَدِهِ جَلَّ وَعَلَا وَحْدَهُ، وَأَوْضَحَ لَهُ أَنَّهُ نَذِيرٌ، وَقَدْ أَتَى بِمَا عَلَيْهِ فَأَنْذَرَهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَبْلَغِهَا، وَأَنَّ هُدَاهُمْ وَإِضْلَالَهُمْ بِيَدِ مَنْ خَلَقَهُمْ.
وَمِنَ الْآيَاتِ النَّازِلَةِ تَسْلِيَةً لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَوْلُهُ هُنَا: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، أَيْ: لَا تُسْمِعُ مَنْ أَضَلَّهُ اللَّهُ إِسْمَاعَ هُدًى وَقَبُولٍ، إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا، يَعْنِي: مَا تُسْمِعُ إِسْمَاعَ هُدًى وَقَبُولٍ إِلَّا مَنْ هَدَيْنَاهُمْ لِلْإِيمَانِ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ الْآيَةَ [١٦ ٣٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [٥ ٤١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ [٢٨ ٥٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ [١٠ ٩٩] إِلَى غَيْرِ
126
ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَلَوْ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ وَمَا شَابَهَهَا: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، أَيِ: الَّذِينَ فَارَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ أَبْدَانَهُمْ لَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ تَسْلِيَةً لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَرَى.
وَاعْلَمْ: أَنَّ آيَةَ «النَّمْلِ» هَذِهِ جَاءَتْ آيَتَانِ أُخْرَيَانِ بِمَعْنَاهَا: الْأُولَى مِنْهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الرُّومِ» : فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ [٣٠ ٥٢ - ٥٣] وَلَفْظُ آيَةِ «الرُّومِ» هَذِهِ كَلَفْظِ آيَةِ «النَّمْلِ» الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا، فَيَكْفِي فِي بَيَانِ آيَةِ «الرُّومِ»، مَا ذَكَرْنَا فِي آيَةِ «النَّمْلِ».
وَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «فَاطِرٍ» : إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [٣٥ ٢٢] وَآيَةُ «فَاطِرٍ» هَذِهِ كَآيَةِ «النَّمْلِ» وَ «الرُّومِ» الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ فِيهَا: مَنْ فِي الْقُبُورِ الْمَوْتَى، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ; لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتَى وَمَنْ فِي الْقُبُورِ وَاحِدٌ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [٢٢ ٧] أَيْ: يَبْعَثُ جَمِيعَ الْمَوْتَى مَنْ قُبِرَ مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُقْبَرْ، وَقَدْ دَلَّتْ قَرَائِنُ قُرْآنِيَّةٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَعْنَى آيَةِ «فَاطِرٍ» هَذِهِ كَمَعْنَى آيَةِ «الرُّومِ»، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَهَا: إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ الْآيَةَ [٣٥ ١٨] لِأَنَّ مَعْنَاهَا: لَا يَنْفَعُ إِنْذَارُكَ إِلَّا مَنْ هُدَاهُ اللَّهُ وَوَفَّقَهُ فَصَارَ مِمَّنْ يَخْشَى رَبَّهُ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ، أَيِ: الْمَوْتَى، أَيِ: الْكُفَّارَ الَّذِينَ سَبَقَ لَهُمُ الشَّقَاءُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى أَيْضًا: وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [٣٥ ١٩] أَيِ: الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهَا: وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ [٣٥ ٢٢] أَيِ: الْمُؤْمِنُونَ وَالْكُفَّارُ. وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ: إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ [٥٢ ٢٣] أَيْ: لَيْسَ الْإِضْلَالُ وَالْهُدَى بِيَدِكَ مَا أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ، أَيْ: وَقَدْ بَلَّغْتَ.
التَّفْسِيرُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَوْتَى الَّذِينَ مَاتُوا بِالْفِعْلِ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِالسَّمَاعِ الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِهِ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى خُصُوصُ السَّمَاعِ الْمُعْتَادِ الَّذِي يَنْتَفِعُ صَاحِبُهُ بِهِ، وَأَنَّ هَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ لِلْكُفَّارِ، وَالْكُفَّارُ يَسْمَعُونَ الصَّوْتَ، لَكِنْ لَا يَسْمَعُونَ سَمَاعَ قَبُولٍ بِفِقْهٍ وَاتِّبَاعٍ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً
127
وَنِدَاءً [٢ ١٧١] فَهَكَذَا الْمَوْتَى الَّذِينَ ضُرِبَ بِهِمُ الْمَثَلُ لَا يَجِبُ أَنْ يُنْفَى عَنْهُمْ جَمِيعُ أَنْوَاعِ السَّمَاعِ، كَمَا لَمْ يُنْفَ ذَلِكَ عَنِ الْكُفَّارِ، بَلْ قَدِ انْتَفَى عَنْهُمُ السَّمَاعُ الْمُعْتَادُ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَأَمَّا سَمَاعٌ آخَرُ فَلَا، وَهَذَا التَّفْسِيرُ الثَّانِي جَزَمَ بِهِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ.
وَهَذَا التَّفْسِيرُ الْأَخِيرُ دَلَّتْ عَلَيْهِ أَيْضًا آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، جَاءَ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِالْبَكَمِ وَالصَّمَمِ وَالْعَمَى مُسْنَدًا إِلَى قَوْمٍ يَتَكَلَّمُونَ وَيَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ، وَالْمُرَادُ بِصَمَمِهِمْ صَمَمُهُمْ عَنْ سَمَاعِ مَا يَنْفَعُهُمْ دُونَ غَيْرِهِ، فَهُمْ يَسْمَعُونَ غَيْرَهُ، وَكَذَلِكَ فِي الْبَصَرِ وَالْكَلَامِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [٢ ١٨] فَقَدْ قَالَ فِيهِمْ: صُمٌّ بُكْمٌ مَعَ شِدَّةِ فَصَاحَتِهِمْ وَحَلَاوَةِ أَلْسِنَتِهِمْ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [٦٣ ٤] أَيْ: لِفَصَاحَتِهِمْ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [٣٣ ١٩] فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ، وَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ، هُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا أَنَّ صَمَمَهُمْ وَبَكَمَهُمْ وَعَمَاهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى شَيْءٍ خَاصٍّ، وَهُوَ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ، فَهَذَا وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي صُمُّوا عَنْهُ فَلَمْ يَسْمَعُوهُ، وَبُكِمُوا عَنْهُ فَلَمْ يَنْطِقُوا بِهِ، وَعُمُوا عَنْهُ فَلَمْ يَرَوْهُ مَعَ أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ غَيْرَهُ وَيُبْصِرُونَهُ، وَيَنْطِقُونَ بِهِ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ الْآيَةَ [٤٦ ٢٦] وَهَذَا وَاضِحٌ كَمَا تَرَى.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا غَايَةَ الْإِيضَاحِ مَعَ شَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ [٢ ١٨] مَعَ قَوْلِهِ فِيهِمْ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ [٢ ٢٠] وَقَوْلِهِ فِيهِمْ: سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [٣٣ ١٩] وَقَوْلِهِ فِيهِمْ أَيْضًا: وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [٦٣ ٤] وَقَدْ أَوْضَحْنَا هُنَاكَ أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ الصَّمَمَ وَعَدَمَ السَّمَاعِ عَلَى السَّمَاعِ، الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَذَكَرْنَا بَعْضَ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى ذَلِكَ.
مَسْأَلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.
اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ هُوَ أَنَّ الْمَوْتَى فِي قُبُورِهِمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ مَنْ
128
كَلَّمَهُمْ، وَأَنَّ قَوْلَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَمَنْ تَبِعَهَا: إِنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، وَمَا جَاءَ بِمَعْنَاهَا مِنَ الْآيَاتِ غَلَطٌ مِنْهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَمِمَّنْ تَبِعَهَا.
وَإِيضَاحُ كَوْنِ الدَّلِيلِ يَقْتَضِي رُجْحَانَ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ:
الْأُولَى مِنْهُمَا: أَنَّ سَمَاعَ الْمَوْتَى ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَحَادِيثَ مُتَعَدِّدَةٍ ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِإِنْسَانٍ وَلَا بِوَقْتٍ.
وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَمَاعِ الْمَوْتَى لَمْ يَثْبُتْ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ شَيْءٌ يُخَالِفُهَا، وَتَأْوِيلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَعْضَ الْآيَاتِ عَلَى مَعْنًى يُخَالِفُ الْأَحَادِيثَ الْمَذْكُورَةَ، لَا يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ ; لِأَنَّ غَيْرَهُ فِي مَعْنَى الْآيَاتِ أَوْلَى بِالصَّوَابِ مِنْهُ، فَلَا تُرَدُّ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَأَوُّلِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ بَعْضَ الْآيَاتِ، وَسَنُوَضِّحُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ صِحَّةَ الْمُقْدِمَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَإِذَا ثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ سَمَاعَ الْمَوْتَى ثَابِتٌ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ صَرِيحٍ، عُلِمَ بِذَلِكَ رُجْحَانُ مَا ذَكَرْنَا، أَنَّ الدَّلِيلَ يَقْتَضِي رُجْحَانَهُ.
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى، وَهِيَ ثُبُوتُ سَمَاعِ الْمَوْتَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَدْ قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، سَمِعَ رَوْحَ بْنَ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: ذَكَرَ لَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا فِي طُوًى مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا، ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: مَا نَرَى يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: «يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًا» ؟ قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا؟ ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ»، قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ لَهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنِقْمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَمًا.
فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَقْسَمَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْأَحْيَاءَ الْحَاضِرِينَ لَيْسُوا بِأَسْمَعَ لِمَا يَقُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أُولَئِكَ الْمَوْتَى بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي سَمَاعِ الْمَوْتَى، وَلَمْ يَذْكُرْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ
129
تَخْصِيصًا، وَكَلَامُ قَتَادَةَ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ اجْتِهَادٌ مِنْهُ، فِيمَا يَظْهَرُ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» أَيْضًا: حَدَّثَنِي عُثْمَانُ، حَدَّثَنِي عَبْدَةُ عَنْ هُشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: وَقَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ، فَقَالَ: «هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا» ؟ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّهُمُ الْآنَ يَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ»، فَذُكِرَ لِعَائِشَةَ، فَقَالَتْ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّهُمُ الْآنَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِي كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ هُوَ الْحَقُّ»، ثُمَّ قَرَأَتْ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، حَتَّى قَرَأَتِ الْآيَةَ، انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ.
وَقَدْ رَأَيْتُهُ أَخْرَجَ عَنْ صَحَابِيَّيْنِ جَلِيلَيْنِ هُمَا: ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو طَلْحَةَ، تَصْرِيحَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ أُولَئِكَ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ لَهُمْ، وَرَدُّ عَائِشَةَ لِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ بِمَا فَهِمَتْ مِنَ الْقُرْآنِ مَرْدُودٌ، كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [١٧ ١٥]، أَنَّ رَدَّهَا عَلَى ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا رِوَايَتَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ بِمَا فَهِمَتْ مِنَ الْآيَةِ - مَرْدُودٌ أَيْضًا، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ الْحَقَّ مَعَ ابْنِ عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ لَا مَعَهَا فِيمَا فَهِمَتْ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، قَالَ: وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا ابْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا فِي الْجَنَّةِ» الْحَدِيثَ، وَقَدْ رَأَيْتُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ تَصْرِيحَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الْمَيِّتَ فِي قَبْرِهِ، يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ مَنْ دَفَنُوهُ إِذَا رَجَعُوا، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي سَمَاعِ الْمَوْتَى، وَلَمْ يَذْكُرْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ تَخْصِيصًا.
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي «صَحِيحِهِ» : حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عُمَرَ بْنِ سَلِيطٍ الْهُذَلِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: كُنْتُ مَعَ عُمَرَ [ح]، وَحَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخٍ، وَاللَّفْظُ لَهُ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ عُمَرَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَتَرَاءَيْنَا الْهِلَالَ، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُرِينَا مُصَارِعَ أَهْلِ بَدْرٍ بِالْأَمْسِ، يَقُولُ: «هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ»، قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا أَخْطَئُوا الْحُدُودَ الَّتِي حَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجُعِلُوا فِي بِئْرٍ
130
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي اللَّهُ حَقًّا»، قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ تُكَلِّمُ أَجْسَادًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا؟ قَالَ: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيَّ شَيْئًا».
حَدَّثَنَا هَدَّابُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ أَتَاهُمْ، فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ، فَقَالَ: «يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمُ اللَّهُ حَقًّا، فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا»، فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا»، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا، فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا رِوَايَةَ أَنَسٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنِ الْبُخَارِيِّ، فَتَرَى هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الثَّابِتَةَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ، وَأَنَسٍ، وَأَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فِيهَا التَّصْرِيحُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الْأَحْيَاءَ الْحَاضِرِينَ لَيْسُوا بِأَسْمَعَ مِنْ أُولَئِكَ الْمَوْتَى لِمَا يَقُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ أَقْسَمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ تَخْصِيصًا، وَقَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي «صَحِيحِهِ» أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِمَنِ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ»، قَالَ: «يَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُعْقِدَانِهِ» الْحَدِيثَ، وَفِيهِ تَصْرِيحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَمَاعِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ قَرْعَ النِّعَالِ، وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ فِي سَمَاعِ الْمَوْتَى، وَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ مَنْ دُفِنَ وَتَوَلَّى عَنْهُ قَوْمُهُ، كَمَا تَرَى.
وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى عُمُومِ سَمَاعِ الْمَوْتَى مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التَّمِيمِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شَرِيكٍ، وَهُوَ ابْنُ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ»، وَلَمْ يُقِمْ قُتَيْبَةُ قَوْلَهُ: «وَأَتَاكُمْ مَا تُوعِدُونَ»، وَفِي رِوَايَةٍ فِي صَحِيحٍ مُسْلِمٍ عَنْهَا، قَالَتْ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: «قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ
131
الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ»، ثُمَّ قَالَ مُسْلِمٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيُّ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ، فَكَانَ قَائِلُهُمْ يَقُولُ فِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: «السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ»، وَفِي رِوَايَةِ زُهَيْرٍ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ»، انْتَهَى مِنْ «صَحِيحِ مُسْلِمٍ».
وَخِطَابُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَهْلِ الْقُبُورِ بِقَوْلِهِ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ»، وَقَوْلُهُ: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ»، وَنَحْوُ ذَلِكَ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ سَلَامَهُ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا لَا يَسْمَعُونَ سَلَامَهُ وَكَلَامَهُ لَكَانَ خِطَابُهُ لَهُمْ مِنْ جِنْسِ خِطَابِ الْمَعْدُومِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعُقَلَاءِ، فَمِنَ الْبَعِيدِ جَدًّا صُدُورُهُ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ ذِكْرُ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ فِي قَبْرِهِ يَسْتَأْنِسُ بِوُجُودِ الْحَيِّ عِنْدَهُ.
وَإِذَا رَأَيْتَ هَذِهِ الْأَدِلَّةَ الصَّحِيحَةَ الدَّالَّةَ عَلَى سَمَاعِ الْمَوْتَى، فَاعْلَمْ أَنَّ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، وَقَوْلِهِ: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [٣٥ ٢٢] لَا تُخَالِفُهَا، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الصَّحِيحَ مِنْ أَوْجُهِ تَفْسِيرِهَا، وَذَكَرْنَا دَلَالَةَ الْقَرَائِنِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ اسْتِقْرَاءَ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ.
وَمِمَّنْ جَزَمَ بِأَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ لَا تُنَافِي الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الَّتِي ذَكَرْنَا أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، فَقَدْ قَالَ فِي الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنْ «مَجْمُوعِ الْفَتَاوِي» مِنْ صَحِيفَةِ خَمْسٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، إِلَى صَحِيفَةِ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَتَيْنِ، مَا نَصُّهُ: وَقَدْ تُعَادُ الرُّوحُ إِلَى الْبَدَنِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْمَسْأَلَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رُوحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ». وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَغَيْرِهِ عَنْ أَوْسِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ خَيْرَ أَيَّامِكُمْ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فَأَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهَ كَيْفَ تُعْرَضُ صَلَاتُنَا عَلَيْكَ وَقَدْ أَرِمْتَ؟ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ»، وَهَذَا الْبَابُ فِيهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ، مَا يَضِيقُ هَذَا الْوَقْتُ عَنِ اسْتِقْصَائِهِ، مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ الْأَبْدَانَ الَّتِي فِي الْقُبُورِ تَنْعَمُ وَتُعَذَّبُ إِذَا شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ كَمَا يَشَاءُ، وَأَنَّ الْأَرْوَاحَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْبَدَنِ وَمُنْعِمَةٌ أَوْ مُعَذَّبَةٌ، وَلِذَا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسَّلَامِ عَلَى الْمَوْتَى، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَالسُّنَنِ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ
132
أَصْحَابَهُ إِذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُمْ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُمْ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ». وَقَدِ انْكَشَفَ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ذَلِكَ حَتَّى سَمِعُوا صَوْتَ الْمُعَذَّبِينَ فِي قُبُورِهِمْ، وَرَأَوْهُمْ بِعُيُونِهِمْ يُعَذَّبُونَ فِي قُبُورِهِمْ فِي آثَارٍ كَثِيرَةٍ مَعْرُوفَةٍ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَائِمًا عَلَى الْبَدَنِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي حَالٍ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا»، فَسَمَعَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُونَ وَقَدْ جَيَّفُوا؟ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا»، ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ، وَقَدْ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ، فَقَالَ: «هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا» ؟ وَقَالَ: «إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ الْآنَ مَا أَقُولُ»، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ فَقَالَتْ: وَهِمَ ابْنُ عُمَرَ، إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الْآنَ أَنَّ الَّذِي قُلْتُ لَهُمْ هُوَ الْحَقُّ»، ثُمَّ قَرَأَتْ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، حَتَّى قَرَأَتِ الْآيَةَ.
وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ مَا رَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عُمَرَ، وَإِنْ كَانَا لَمْ يَشْهَدَا بَدْرًا، فَإِنَّ أَنَسًا رَوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، وَأَبُو طَلْحَةَ شَهِدَ بَدْرًا كَمَا رَوَى أَبُو حَاتِمٍ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا فِي طُوًى مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ، وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَحَبَّ أَنْ يُقِيمَ فِي عَرْصَتِهِمْ ثَلَاثَ لَيَالٍ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشُدَّ عَلَيْهَا فَحَرَّكَهَا، ثُمَّ مَشَى وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ، وَقَالُوا: مَا نَرَاهُ يَنْطَلِقُ إِلَّا لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شِفَاءِ الرَّكِيِّ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ: «يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا»، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ وَلَا أَرْوَاحَ فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ»، قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ
133
حَتَّى أَسْمَعَهُمْ تَوْبِيخًا، وَتَصْغِيرًا، وَنِقْمَةً، وَحَسْرَةً، وَتَنْدِيمًا، وَعَائِشَةُ قَالَتْ فِيمَا ذَكَرَتْهُ كَمَا تَأَوَّلَتْ.
وَالنَّصُّ الصَّحِيحُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقَدَّمٌ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ تَأَوَّلَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَنْفِي ذَلِكَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، إِنَّمَا أَرَادَ بِهِ السَّمَاعَ الْمُعْتَادَ الَّذِي يَنْفَعُ صَاحِبَهُ، فَإِنَّ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْكُفَّارِ، وَالْكُفَّارُ تَسْمَعُ الصَّوْتَ، لَكِنْ لَا تَسْمَعُ سَمَاعَ قَبُولٍ بِفِقْهٍ وَاتِّبَاعٍ ; كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [٢ ١٧١]، فَهَكَذَا الْمَوْتَى الَّذِينَ ضَرَبَ بِهِمُ الْمَثَلَ لَا يَجِبُ أَنْ يُنْفَى عَنْهُمْ جَمِيعُ أَنْوَاعِ السَّمَاعِ، بَلِ السَّمَاعُ الْمُعْتَادُ كَمَا لَمْ يَنْفِ ذَلِكَ عَنِ الْكُفَّارِ، بَلِ انْتَفَى عَنْهُمُ السَّمَاعُ الْمُعْتَادُ الَّذِي يَنْتَفِعُونَ بِهِ.
وَأَمَّا سَمَاعٌ آخَرُ فَلَا يُنْفَى عَنْهُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ خَفْقَ نِعَالِهِمْ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَهَذَا مُوَافِقٌ لِهَذَا فَكَيْفَ يُرْفَعُ ذَلِكَ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ أَبِي الْعَبَّاسِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ. وَقَدْ تَرَاهُ صَرَّحَ فِيهِ بِأَنَّ تَأَوُّلَ عَائِشَةَ لَا يُرَدُّ بِهِ النَّصُّ الصَّحِيحُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا يَنْفِي السَّمَاعَ الثَّابِتَ لِلْمَوْتَى فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ.
وَإِذَا عَلِمْتَ بِهِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ فِيهِ مَا يَنْفِي السَّمَاعَ الْمَذْكُورَ، عَلِمْتَ أَنَّهُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ الصَّحِيحِ، مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَأَوُّلَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بَعْضَ آيَاتِ الْقُرْآنِ، لَا تُرَدُّ بِهِ رِوَايَاتُ الصَّحَابَةِ الْعُدُولِ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَتَأَكَّدُ، ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
الْأَوَّلُ: هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ الْآنَ مِنْ أَنَّ رِوَايَةَ الْعَدْلِ لَا تُرَدُّ بِالتَّأْوِيلِ.
الثَّانِي: أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا أَنْكَرَتْ رِوَايَةَ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ الْآنَ مَا أَقُولُ»، قَالَتْ: إِنَّ الَّذِي قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الْآنَ أَنَّ الَّذِي كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ هُوَ الْحَقُّ»، فَأَنْكَرَتِ السَّمَاعَ وَنَفَتْهُ عَنْهُمْ، وَأَثْبَتَتْ لَهُمُ الْعِلْمَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ الْعِلْمُ صَحَّ مِنْهُ السَّمَاعُ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ.
الثَّالِثُ: هُوَ مَا جَاءَ عَنْهَا مِمَّا يَقْتَضِي رُجُوعَهَا عَنْ تَأْوِيلِهَا، إِلَى الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ.
ب قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» : وَمِنَ الْغَرِيبِ أَنَّ فِي الْمَغَازِي لِابْنِ إِسْحَاقَ رِوَايَةَ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ مِثْلُ حَدِيثِ أَبِي طَلْحَةَ، وَفِيهِ: «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا
134
أَقُولُ مِنْهُمْ»، وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، فَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَكَأَنَّهَا رَجَعَتْ عَنِ الْإِنْكَارِ لِمَا ثَبَتَ عِنْدَهَا مِنْ رِوَايَةِ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ ; لِكَوْنِهَا لَمْ تَشْهَدِ الْقِصَّةَ، انْتَهَى مِنْهُ. وَاحْتِمَالُ رُجُوعِهَا لِمَا ذُكِرَ قَوِيٌّ، لِأَنَّ مَا يَقْتَضِي رُجُوعَهَا ثَبَتَ بِإِسْنَادَيْنِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: إِنَّ أَحَدَهُمَا جَيِّدٌ، وَالْآخُرُ حَسَنٌ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ: كَانَ عِنْدَ عَائِشَةَ مِنَ الْفَهْمِ وَالذَّكَاءِ وَكَثْرَةِ الرِّوَايَةِ وَالْغَوْصِ عَلَى غَوَامِضِ الْعِلْمِ، مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، لَكِنْ لَا سَبِيلَ إِلَى رَدِّ رِوَايَةِ الثِّقَةِ إِلَّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ يَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ أَوْ تَخْصِيصِهِ، أَوِ اسْتِحَالَتِهِ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي أَوَّلِ «كِتَابِ الرُّوحِ» : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَهِيَ هَلْ تَعْرِفُ الْأَمْوَاتَ زِيَارَةَ الْأَحْيَاءِ وَسَلَامَهُمْ أَمْ لَا؟ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُرُّ عَلَى قَبْرِ أَخِيهِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ رَوْحَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ»، فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ يَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ السَّلَامَ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ: أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلَى بَدْرٍ فَأُلْقُوا فِي قَلِيبٍ، ثُمَّ جَاءَ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ وَنَادَاهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ: «يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا، فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا»، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تُخَاطِبُ مِنْ أَقْوَامٍ قَدْ جَيَّفُوا، فَقَالَ: «وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ جَوَابًا».
وَثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ الْمُشَيِّعِينَ لَهُ إِذَا انْصَرَفُوا عَنْهُ، وَقَدْ شَرَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّتِهِ إِذَا سَلَّمُوا عَلَى أَهْلِ الْقُبُورِ، أَنْ يُسَلِّمُوا عَلَيْهِمْ سَلَامَ مَنْ يُخَاطِبُونَهُ، فَيَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ»، وَهَذَا خِطَابٌ لِمَنْ يَسْمَعُ وَيَعْقِلُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ هَذَا الْخِطَابُ بِمَنْزِلَةِ خِطَابِ الْمَعْدُومِ وَالْجَمَادِ، وَالسَّلَفُ مُجْمِعُونَ عَلَى هَذَا، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْآثَارُ عَنْهُمْ أَنَّ الْمَيِّتَ يَعْرِفُ زِيَارَةَ الْحَيِّ لَهُ، وَيَسْتَبْشِرُ لَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا فِي «كِتَابِ الْقُبُورِ» :
بَابٌ فِي مَعْرِفَةِ الْمَوْتَى بِزِيَارَةِ الْأَحْيَاءِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْنٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَمْعَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَزُورُ قَبْرَ أَخِيهِ وَيَجْلِسُ عِنْدَهُ إِلَّا اسْتَأْنَسَ بِهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ، حَتَّى يَقُومَ».
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ قُدَامَةَ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى الْقَزَّازُ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
135
- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: إِذَا مَرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ أَخِيهِ يَعْرِفُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَعَرَفَهُ، وَإِذَا مَرَّ بِقَبْرٍ لَا يَعْرِفُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ.
وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كَلَامِ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرِهِ آثَارًا تَقْتَضِي سَمَاعَ الْمَوْتَى، وَمَعْرِفَتَهُمْ لِمَنْ يَزُورُهُمْ، وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ مَرَائِيَ كَثِيرًا جَدًا، ثُمَّ قَالَ: وَهَذِهِ الْمَرَائِي، وَإِنْ لَمْ تَصْلُحْ بِمُجَرَّدِهَا لِإِثْبَاتِ مِثْلِ ذَلِكَ، فَهِيَ عَلَى كَثْرَتِهَا، وَأَنَّهَا لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ قَدْ تَوَاطَأَتْ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ عَلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ»، يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَإِذَا تَوَاطَأَتْ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِينَ عَلَى شَيْءٍ، كَانَ كَتَوَاطُؤِ رِوَايَتِهِمْ لَهُ، وَمِمَّا قَالَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كَلَامِهِ الطَّوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْتَأْنِسُ بِالْمُشَيِّعِينَ لِجِنَازَتِهِ بَعْدَ دَفْنِهِ، فَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شَمَّاسَةَ الْمَهْرِيِّ، قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهُوَ فِي سِيَاقِ الْمَوْتِ، فَبَكَى طَوِيلًا وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ.. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَسُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ سَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ الْجَزُورُ، وَيُقَسَّمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْتَأْنِسُ بِالْحَاضِرِينَ عِنْدَ قَبْرِهِ وَيُسَرُّ بِهِمْ، اهـ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، لِأَنَّ اسْتِئْنَاسَ الْمَقْبُورِ بِوُجُودِ الْأَحْيَاءِ عِنْدَ قَبْرِهِ لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ.
وَمِمَّا قَالَهُ ابْنُ الْقِيَمِ فِي كَلَامِهِ الطَّوِيلِ الْمَذْكُورِ: وَيَكْفِي فِي هَذَا تَسْمِيَةُ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِمْ زَائِرًا، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ يَشْعُرُونَ بِهِ لَمَا صَحَّ تَسْمِيَتُهُ زَائِرًا، فَإِنَّ الْمَزُورَ إِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِزِيَارَةِ مَنْ زَارَهُ، لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ: زَارَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْقُولُ مِنَ الزِّيَارَةِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَكَذَلِكَ السَّلَامُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا، فَإِنَّ السَّلَامَ عَلَى مَنْ لَا يَشْعُرُ وَلَا يَعْلَمُ بِالْمُسْلِمِ مُحَالٌ، وَقَدْ عَلَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُمَّتَهُ إِذَا زَارُوا الْقُبُورَ أَنْ يَقُولُوا: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَمِنْكُمْ وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ»، وَهَذَا السَّلَامُ وَالْخِطَابُ وَالنِّدَاءُ لِمَوْجُودٍ يَسْمَعُ، وَيُخَاطِبُ، وَيَعْقِلُ، وَيَرُدُّ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعِ الْمُسْلِمُ الرَّدَّ.
وَمِمَّا قَالَهُ ابْنُ الْقِيَمِ فِي كَلَامِهِ الطَّوِيلِ قَوْلُهُ: وَقَدْ تَرْجَمَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ الْأَشْبِيلِيُّ عَلَى هَذَا، فَقَالَ: ذِكْرُ مَا جَاءَ أَنَّ الْمَوْتَى يُسْأَلُونَ عَنِ الْأَحْيَاءِ، وَيَعْرِفُونَ أَقْوَالَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ
136
رَجُلٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ، إِلَّا عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ».
وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ»، قَالَ: وَيُرْوَى مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَزُورُ قَبْرَ أَخِيهِ فَيَجْلِسُ عِنْدَهُ، إِلَّا اسْتَأْنَسَ بِهِ حَتَّى يَقُومَ»، وَاحْتَجَّ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي هَذَا الْبَابِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ، مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ».
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ عَنْ عَبْدِ الْحَقِّ وَغَيْرِهِ مَرَائِيَ وَآثَارًا فِي الْمَوْضُوعِ، ثُمَّ قَالَ فِي كَلَامِهِ الطَّوِيلِ: وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا مَا جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ قَدِيمًا وَإِلَى الْآنِ، مِنْ تَلْقِينِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ وَلَوْلَا أَنَّهُ يَسْمَعُ ذَلِكَ وَيَنْتَفِعُ بِهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَائِدَةٌ، وَكَانَ عَبَثًا. وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَاسْتَحْسَنَهُ وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْعَمَلِ.
وَيُرْوَى فِيهِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ: ذَكَرَ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَسَوَّيْتُمْ عَلَيْهِ التُّرَابَ، فَلْيَقُمْ أَحَدُكُمْ عَلَى رَأْسِ قَبْرِهِ، فَيَقُولُ: يَا فُلَانَ بْنَ فُلَانَةَ»، الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: «اذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا شَهَادَةَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّكَ رَضِيتَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا»، الْحَدِيثَ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: فَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ، فَاتِّصَالُ الْعَمَلِ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ كَافٍ فِي الْعَمَلِ بِهِ، وَمَا أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَادَةَ قَطُّ بِأَنَّ أُمَّةً طَبَّقَتْ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، وَهِيَ أَكْمَلُ الْأُمَمِ عُقُولًا، وَأَوْفَرُهَا مَعَارِفَ تُطْبِقُ عَلَى مُخَاطَبَةِ مَنْ لَا يَسْمَعُ، وَتَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ لَا يُنْكِرُهُ مِنْهَا مُنْكِرٌ بَلْ سَنَّهُ الْأَوَّلُ لِلْآخِرِ، وَيَقْتَدِي فِيهِ الْآخِرُ بِالْأَوَّلِ، فَلَوْلَا أَنَّ الْخِطَابَ يُسْمَعُ لَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ لِلتُّرَابِ، وَالْخَشَبِ وَالْحَجَرِ وَالْمَعْدُومِ، وَهَذَا وَإِنِ اسْتَحْسَنَهُ وَاحِدٌ فَالْعُلَمَاءُ قَاطِبَةً عَلَى اسْتِقْبَاحِهِ وَاسْتِهْجَانِهِ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَضَرَ جِنَازَةَ رَجُلٍ، فَلَمَّا دُفِنَ قَالَ: «سَلُوا لِأَخِيكُمُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ»، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُسْأَلُ حِينَئِذٍ، وَإِذَا كَانَ يُسْأَلُ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ التَّلْقِينَ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ قِصَّةَ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ، وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، وَتَنْفِيذَ عَوْفٍ لِوَصِيَّةِ الصَّعْبِ لَهُ فِي الْمَنَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَأَثْنَى عَلَى عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ بِالْفِقْهِ فِي تَنْفِيذِهِ وَصِيَّةِ الصَّعْبِ بَعْدَ مَوْتِهِ، لِمَا
137
عُلِمَ صِحَّةُ ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ، وَكَانَ فِي الْوَصِيَّةِ الَّتِي نَفَّذَهَا عَوْفٌ إِعْطَاءُ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ لِيَهُودِيٍّ مِنْ تَرِكَةِ الصَّعْبِ كَانَتْ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ، وَمَاتَ قَبْلَ قَضَائِهَا.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا مِنْ فِقْهِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ مِنَ الصَّحَابَةِ حَيْثُ نَفَّذَ وَصِيَّةَ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَعَلِمَ صِحَّةَ قَوْلِهِ بِالْقَرَائِنِ الَّتِي أَخْبَرَهُ بِهَا، مِنْ أَنَّ الدَّنَانِيرَ عَشْرَةٌ وَهِيَ فِي الْقَرْنِ، ثُمَّ سَأَلَ الْيَهُودِيَّ فَطَابَقَ قَوْلُهُ مَا فِي الرُّؤْيَا فَجَزَمَ عَوْفٌ بِصِحَّةِ الْأَمْرِ، فَأَعْطَى الْيَهُودِيَّ الدَّنَانِيرَ، وَهَذَا فِقْهٌ إِنَّمَا يَلِيقُ بِأَفْقَهِ النَّاسِ وَأَعْلَمِهِمْ، وَهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَعَلَّ أَكْثَرَ الْمُتَأَخِّرِينَ يُنْكِرُ ذَلِكَ، وَيَقُولُ: كَيْفَ جَازَ لِعَوْفٍ أَنْ يَنْقُلَ الدَّنَانِيرَ مِنْ تَرِكَةٍ صَعْبَةٍ، وَهِيَ لِأَيْتَامِهِ وَوَرَثَتِهِ إِلَى يَهُودِيٍّ بِمَنَامٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ تَنْفِيذَ خَالِدٍ وَأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَصِيَّةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَفِي وَصِيَّتِهِ الْمَذْكُورَةِ قَضَاءُ دِينٍ عَيَّنَهُ لِرَجُلٍ فِي الْمَنَامِ، وَعِتْقِ بَعْضِ رَقِيقِهِ، وَقَدْ وَصَفَ لِلرَّجُلِ الَّذِي رَآهُ فِي مَنَامِهِ الْمَوْضِعَ الَّذِي جَعَلَ فِيهِ دِرْعَهُ الرَّجُلُ الَّذِي سَرَقَهَا، فَوَجَدُوا الْأَمْرَ كَمَا قَالَ، وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ.
وَإِذَا كَانَتْ وَصِيَّةُ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ قَدْ نَفَّذَهَا فِي بَعْضِ الصُّوَرِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُدْرِكُ وَيَعْقِلُ وَيَسْمَعُ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي خَاتِمَةِ كَلَامِهِ الطَّوِيلِ: وَالْمَقْصُودُ جَوَابُ السَّائِلِ وَأَنَّ الْمَيِّتَ إِذَا عَرَفَ مِثْلَ هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ وَتَفَاصِيلَهَا، فَمَعْرِفَتُهُ بِزِيَارَةِ الْحَيِّ لَهُ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَدُعَاؤُهُ لَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى، اهـ.
فَكَلَامُ ابْنِ الْقَيِّمِ هَذَا الطَّوِيلُ الَّذِي ذَكَرْنَا بَعْضَهُ جُمْلَةً وَبَعْضَهُ تَفْصِيلًا، فِيهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْمُقْنِعَةِ مَا يَكْفِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى سَمَاعِ الْأَمْوَاتِ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ الَّذِي نَقَلْنَا عَنْ شَيْخِهِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ تَيْمِيَّةَ، وَفِي كَلَامِهِمَا الَّذِي نَقَلْنَا عَنْهُمَا أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ، وَمَرَائِي مُتَوَاتِرَةٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا ذَكَرْنَا فِي كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ مِنْ تَلْقِينِ الْمَيِّتِ بَعْدَ الدَّفْنِ، أَنْكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَقَالَ: إِنَّهُ بِدْعَةٌ، وَأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ إِلَّا أَهْلُ الشَّامِ، وَقَدْ رَأَيْتَ ابْنَ الْقَيِّمِ اسْتَدَلَّ لَهُ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا: أَنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رَحِمَهُ اللَّهُ سُئِلَ عَنْهُ فَاسْتَحْسَنَهُ. وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِالْعَمَلِ. وَمِنْهَا: أَنَّ عَمَلَ الْمُسْلِمِينَ اتَّصَلَ بِهِ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْمَيِّتَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ الدَّافِنِينَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ، وَاسْتِدْلَالُهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ جِدًّا ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَسْمَعُ قَرْعَ النِّعَالِ، فَلَأَنْ يَسْمَعُ الْكَلَامَ الْوَاضِحَ بِالتَّلْقِينِ مِنْ أَصْحَابِ النِّعَالِ أَوْلَى
138
وَأَحْرَى، وَاسْتِدْلَالُهُ لِذَلِكَ بِحَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ: «سَلُوا لِأَخِيكُمُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ»، لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ يَسْمَعُ سُؤَالَ السَّائِلِ فَإِنَّهُ يَسْمَعُ تَلْقِينَ الْمُلَقِّنِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ سَمَاعِهِ سُؤَالَ الْمَلِكِ وَسَمَاعِهِ التَّلْقِينَ مِنَ الدَّافِنِينَ مُحْتَمَلٌ احْتِمَالًا قَوِيًّا، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ التَّلْقِينَ بَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا أَهْلُ الشَّامِ، يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهُمْ هُمْ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ، وَلَكِنَّ النَّاسَ تَبِعُوهُمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ. قَالَ الشَّيْخُ الْحَطَّابَ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ خَلِيلِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَالِكِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ: (وَتَلْقِينُهُ الشَّهَادَةَ) وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِاسْتِحْبَابِ التَّلْقِينِ بَعْدَ الدَّفْنِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ وَالْإِرْشَادِ، وَقَدْ سُئِلَ عَنْهُ أَبُو بَكْرِ بْنِ الطِّلَاعِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، فَقَالَ: هُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ وَنَعْمَلُ بِهِ، وَقَدْ رُوِّينَا فِيهِ حَدِيثًا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَلَكِنَّهُ اعْتَضَدَ بِالشَّوَاهِدِ، وَعَمَلِ أَهْلِ الشَّامِ قَدِيمًا، إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَالَ فِي الْمَدْخَلِ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَفَقَّدَهُ بَعْدَ انْصِرَافِ النَّاسِ عَنْهُ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالدِّينِ، وَيَقِفَ عِنْدَ قَبْرِهِ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ وَيُلَقِّنَهُ ; لِأَنَّ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، إِذْ ذَاكَ يَسْأَلَانِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ الْمُنْصَرِفِينَ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ وَاسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ»، إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو حَامِدِ بْنُ الْبَقَّالِ، وَكَانَ مِنْ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ، إِذَا حَضَرَ جِنَازَةً عَزَّى وَلَيَّهَا بَعْدَ الدَّفْنِ، وَانْصَرَفَ مَعَ مَنْ يَنْصَرِفُ، فَيَتَوَارَى هُنَيْهَةً حَتَّى يَنْصَرِفَ النَّاسُ، ثُمَّ يَأْتِي إِلَى الْقَبْرِ، فَيُذَكِّرُ الْمَيِّتَ بِمَا يُجَاوِبُ بِهِ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْحَطَّابِ.
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ كَلَامِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الطِّلَاعِ الْمَالِكِيِّ لَهُ وَجْهٌ قَوِيٌّ مِنَ النَّظَرِ، كَمَا سَتَرَى إِيضَاحَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ثُمَّ قَالَ الْحَطَّابُ: وَاسْتَحَبَّ التَّلْقِينَ بَعْدَ الدَّفْنِ أَيْضًا الْقُرْطُبِيُّ وَالثَّعَالِبِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ أَبِي... فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ يَعْنِي مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي كِتَابِ «الْإِيمَانِ» مَيْلٌ إِلَيْهِ، انْتَهَى مِنَ الْحَطَّابِ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْمُشَارُ إِلَيْهِ، هُوَ الَّذِي ذَكَرْنَا مَحَلَّ الْغَرَضِ مِنْهُ فِي كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ الطَّوِيلِ الْمُتَقَدِّمِ.
قَالَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى الْعَنَزِيُّ، وَأَبُو مَعْنٍ الرَّقَاشِيُّ، وَإِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، كُلُّهُمْ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ. وَاللَّفْظُ لِابْنِ الْمُثَنَّى: حَدَّثَنَا الضَّحَّاكُ، يَعْنِي أَبَا عَاصِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ، عَنِ ابْنِ شَمَّاسَةَ
139
الْمَهْرِيِّ، قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ، فَبَكَى طَوِيلًا وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، الْحَدِيثَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مَحَلَّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ فِي كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ الْمَذْكُورِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ حَدِيثَ عَمْرٍو هَذَا لَهُ حُكْمُ الرَّفْعِ، وَأَنَّهُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ عَلَى اسْتِئْنَاسِ الْمَيِّتِ بِوُجُودِ الْأَحْيَاءِ عِنْدَ قَبْرِهِ.
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي «رَوْضَةِ الطَّالِبِينَ»، مَا نَصُّهُ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُلَقَّنَ الْمَيِّتُ بَعْدَ الدَّفْنِ، فَيُقَالُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ أَمَةِ اللَّهِ اذْكُرْ مَا خَرَجْتَ عَلَيْهِ مِنَ الدُّنْيَا: شَهَادَةَ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ الْبَعْثَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنْتَ رَضِيَتْ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا، وَبِالْكَعْبَةِ قِبْلَةً، وَبِالْمُؤْمِنِينَ إِخْوَانًا، وَرَدَ بِهِ الْخَبَرُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قُلْتُ: هَذَا التَّلْقِينُ اسْتَحَبَّهُ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ، وَصَاحِبُ التَّتِمَّةِ، وَالشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ فِي كِتَابِهِ «التَّهْذِيبُ» وَغَيْرُهُمْ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ عَنْ أَصْحَابِنَا مُطْلَقًا، وَالْحَدِيثُ الْوَارِدُ فِيهِ ضَعِيفٌ، لَكِنَّ أَحَادِيثَ الْفَضَائِلِ يُتَسَامَحُ فِيهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدِ اعْتَضَدَ هَذَا الْحَدِيثُ بِشَوَاهِدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ ; كَحَدِيثِ: «اسْأَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ»، وَوَصِيَّةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَقِيمُوا عِنْدَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ، وَيُقَسَّمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ وَأَعْلَمَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي، رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، وَلَمْ يَزَلْ أَهْلُ الشَّامِ عَلَى الْعَمَلِ بِهَذَا التَّلْقِينِ، مِنَ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَفِي زَمَنِ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ.
وَبِمَا ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَابْنُ الطِّلَاعِ، وَصَاحِبُ الْمَدْخَلِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالنَّوَوِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، كَمَا أَوْضَحْنَا كَلَامَهُمْ تَعْلَمُ أَنَّ التَّلْقِينَ بَعْدَ الدَّفْنِ لَهُ وَجْهٌ قَوِيٌّ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّهُ جَاءَ فِيهِ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَاعْتَضَدَ بِشَوَاهِدَ صَحِيحَةٍ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الشَّامِ قَدِيمًا، وَمُتَابَعَةِ غَيْرِهِمْ لَهُمْ.
وَبِمَا عُلِمَ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ مِنَ التَّسَاهُلِ فِي الْعَمَلِ بِالضَّعِيفِ فِي أَحَادِيثِ الْفَضَائِلِ، وَلَا سِيَّمَا الْمُعْتَضِدُ مِنْهَا بِصَحِيحٍ، وَإِيضَاحُ شَهَادَةِ الشَّوَاهِدِ لَهُ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّلْقِينِ بَعْدَ الدَّفْنِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا: سَمَاعُ الْمَيِّتِ كَلَامَ مُلَقِّنِهِ بَعْدَ دَفْنِهِ.
140
وَالثَّانِي: انْتِفَاعُهُ بِذَلِكَ التَّلْقِينِ، وَكِلَاهُمَا ثَابِتٌ فِي الْجُمْلَةِ، أَمَّا سَمَاعُهُ لِكَلَامِ الْمُلَقِّنِ فَيَشْهَدُ لَهُ سَمَاعُهُ لِقَرْعِ نَعْلِ الْمُلَقِّنِ الثَّابِتِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَلَيْسَ سَمَاعُ كَلَامِهِ بِأَبْعَدَ مِنْ سَمَاعِ قَرْعِ نَعْلِهِ كَمَا تَرَى. وَأَمَّا انْتِفَاعُهُ بِكَلَامِ الْمُلَقِّنِ، فَيَشْهَدُ لَهُ انْتِفَاعُهُ بِدُعَاءِ الْحَيِّ وَقْتَ السُّؤَالِ فِي حَدِيثِ: «سَلُوا لِأَخِيكُمُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ يُسْأَلُ الْآنَ»، وَاحْتِمَالُ الْفَرْقِ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالتَّلْقِينِ قَوِيٌّ جَدًا كَمَا تَرَى، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ السُّؤَالِ يَنْتَفِعُ بِكَلَامِ الْحَيِّ الَّذِي هُوَ دُعَاؤُهُ لَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَشْهَدُ لِانْتِفَاعِهِ بِكَلَامِ الْحَيِّ الَّذِي هُوَ تَلْقِينُهُ إِيَّاهُ وَإِرْشَادُهُ إِلَى جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ، فَالْجَمِيعُ فِي الْأَوَّلِ سَمَاعٌ مِنَ الْمَيِّتِ لِكَلَامِ الْحَيِّ، وَفِي الثَّانِي انْتِفَاعٌ مِنَ الْمَيِّتِ بِكَلَامِ الْحَيِّ وَقْتَ السُّؤَالِ، وَقَدْ عَلِمْتَ قُوَّةَ احْتِمَالِ الْفِرَقِ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالتَّلْقِينِ.
وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ دَلِيلٌ عَلَى سَمَاعِ الْمَيِّتِ كَلَامَ الْحَيِّ، وَمِنْ أَوْضَحِ الشَّوَاهِدِ لِلتَّلْقِينِ بَعْدَ الدَّفْنِ السَّلَامُ عَلَيْهِ، وَخِطَابُهُ خِطَابَ مَنْ يَسْمَعُ، وَيَعْلَمُ عِنْدَ زِيَارَتِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ ; لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا خِطَابٌ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَقَدِ انْتَصَرَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ «الرُّومِ»، فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ، إِلَى قَوْلِهِ: فَهُمْ مُسْلِمُونَ [٣٠ ٣٢ - ٣٣]، لِسَمَاعِ الْمَوْتَى، وَأَوْرَدَ فِي ذَلِكَ كَثِيرًا مِنَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي قَدَّمْنَا فِي كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ، وَابْنِ أَبِي الدُّنْيَا وَغَيْرِهِمَا، وَكَثِيرًا مِنَ الْمَرَائِي الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْحَدِيثَ الدَّالَّ عَلَى أَنَّ الْمَرَائِيَ إِذَا تَوَاتَرَتْ أَفَادَتِ الْحُجَّةَ، وَمِمَّا قَالَ فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ: وَقَدِ اسْتَدَلَّتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِهَذِهِ الْآيَةِ: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، عَلَى تَوْهِيمِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فِي رِوَايَتِهِ مُخَاطَبَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَتْلَى الَّذِينَ أُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَالصَّحِيحُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، لِمَا لَهَا مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَى صِحَّتِهَا، مِنْ أَشْهَرِ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مُصَحِّحًا لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُرُّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَانَ يَعْرِفُهُ»، الْحَدِيثَ.
وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ مِرَارًا، وَبِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْمَبْحَثِ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَةِ «النَّمْلِ» هَذِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الَّذِي يُرَجِّحُهُ الدَّلِيلُ: أَنَّ الْمَوْتَى يَسْمَعُونَ سَلَامَ الْأَحْيَاءِ وَخِطَابَهُمْ سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّ اللَّهَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَرْوَاحَهُمْ حَتَّى يَسْمَعُوا الْخِطَابَ وَيَرُدُّوا الْجَوَابَ، أَوْ قُلْنَا: إِنَّ الْأَرْوَاحَ أَيْضًا تَسْمَعُ وَتَرُدُّ بَعْدَ فَنَاءِ الْأَجْسَامِ، لِأَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ: ثُبُوتُ سَمَاعِ الْمَوْتَى بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يُعَارِضُهَا عَلَى التَّفْسِيرِ
141
الصَّحِيحِ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْقَرَائِنُ الْقُرْآنِيَّةُ، وَاسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ ظَهَرَ بِذَلِكَ رُجْحَانُهُ عَلَى تَأَوُّلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَمَنْ تَبِعَهَا بَعْضَ آيَاتِ الْقُرْآنِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَفِي الْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كِتَابِ الرُّوحِ عَلَى ذَلِكَ مُقْنِعٌ لِلْمُنْصِفِ، وَقَدْ زِدْنَا عَلَيْهَا مَا رَأَيْتَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ. ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ خُصُوصُ الْحَشْرِ بِهَذِهِ الْأَفْوَاجِ الْمُكَذِّبَةِ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَلَكِنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ عَلَى عُمُومِ الْحَشْرِ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا بِقَلِيلٍ: وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [٢٧ ٨٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [١٨ ٤٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا [٦ ٢٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [٦ ٣٨]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي كِتَابِنَا «دَفَعَ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ»، فِي آيَةِ «النَّمْلِ» هَذِهِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا الْآيَةَ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ [٢٧ ٨٧]، وَنَحْوِهَا مِنَ الْآيَاتِ، وَذَكَرْنَا قَوْلَ الْأَلُوسِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ فِي الْحَشْرِ الْعَامِّ لِجَمِيعِ النَّاسِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا فِي الْحَشْرِ الْخَاصِّ بِهَذِهِ الْأَفْوَاجِ الْمُكَذِّبَةِ ; لِأَجْلِ التَّوْبِيخِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا الْآيَةَ [٢٧ ٨٤]، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، كَمَا تَرَى.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذِهِ الْأَفْوَاجُ الَّتِي تُحْشَرُ حَشْرًا خَاصًّا هِيَ رُؤَسَاءُ أَهْلِ الضَّلَالِ وَقَادَتُهُمْ، وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا [١٩ ٦٨ - ٦٩]، وَالْفَوْجُ: الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [١١٠ ٢]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهُمْ يُوزَعُونَ، أَيْ: يَرِدُ أَوَّلُهُمْ عَلَى
آخِرِهِمْ حَتَّى يَجْتَمِعُوا، ثُمَّ يُدْفَعُونَ جَمِيعًا، كَمَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَيْ يُسْأَلُونَ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَمَقْصُودُهُ بِسُؤَالِهِمْ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي، لِأَنَّ التَّصْدِيقَ بِآيَاتِ اللَّهِ الَّتِي هِيَ هَذَا الْقُرْآنُ مِنْ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَغَيْرِهِ، وَمَقْصُودُهُ بِسُؤَالِهِمْ عَنْ أَعْمَالِهِمْ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، وَالسُّؤَالُ الْمَذْكُورُ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ، فَقَدْ وَبَّخَهُمْ تَعَالَى فِيهِ عَلَى فَسَادِ الِاعْتِقَادِ، وَفَسَادِ الْأَعْمَالِ، وَالتَّوْبِيخُ عَلَيْهِمَا مَعًا الْمَذْكُورُ هُنَا جَاءَ مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [٧٥ ٣١]، كَمَا أَشَارَ لَهُ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا صَدَّقَ، وَقَوْلُهُ: وَلَكِنْ كَذَّبَ، تَوْبِيخٌ عَلَى فَسَادِ الِاعْتِقَادِ. وَقَوْلُهُ: وَلَا صَلَّى: تَوْبِيخٌ عَلَى إِضَاعَةِ الْعَمَلِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ. الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِمْ هُوَ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، كَمَا يُوَضِّحُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [٣٢ ١٣]، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ ظَاهِرُهُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَنْطِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ; كَمَا يُفْهَمُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [٧٧ ٣٥]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا الْآيَةَ [١٧ ٩٧]، مَعَ أَنَّهُ بَيَّنَتْ آيَاتٌ أُخَرُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنَّهُمْ يَنْطِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَعْتَذِرُونَ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [٦ ٢٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [١٦ ٢٨]، وَقَوْلِهِ: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا الْآيَةَ [٣٢ ١٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [٢٣ ١٠٦ - ١٠٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَنَادَوْا يَامَالِكُ
الْآيَةَ [٤٣ ٧٧]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى كَلَامِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا الْجَوَابَ عَنْ هَذَا فِي كِتَابِنَا «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ»، فِي سُورَةِ «الْمُرْسَلَاتِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ [٧٧ ٣٥]، وَمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَاتِ. فَذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ أَوْجُهِ الْجَوَابِ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْقِيَامَةَ مَوَاطِنُ، فَفِي بَعْضِهَا يَنْطِقُونَ، وَفِي بَعْضِهَا لَا يَنْطِقُونَ، فَإِثْبَاتُ النُّطْقِ لَهُمْ وَنَفْيُهُ عَنْهُمْ كِلَاهُمَا مُنَزَّلٌ عَلَى حَالٍ وَوَقْتٍ غَيْرِ حَالِ الْآخَرِ وَوَقْتِهِ. وَمِنْهَا أَنَّ نُطْقَهُمُ الْمُثْبَتَ لَهُمْ خَاصٌّ بِمَا لَا فَائِدَةَ لَهُمْ فِيهِ، وَالنُّطْقَ الْمَنْفِيَّ عَنْهُمْ خَاصٌّ بِمَا لَهُمْ فِيهِ فَائِدَةٌ وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا شَيْئًا مِنْ أَجْوِبَةِ ذَلِكَ فِي «الْفُرْقَانِ» وَ «طَهَ»، وَ «الْإِسْرَاءِ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ الْآيَةَ [١٧ ١٢].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ.
قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونَ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَذَكَرْنَا فِي تَرْجَمَتِهِ أَيْضًا أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمَعْنَى، بِكَوْنِهِ هُوَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ ; لِأَنَّ غَلَبَتَهُ فِيهِ، تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ خُرُوجِهِ مِنْ مَعْنَى الْآيَةِ، وَمَثَّلْنَا لِجَمِيعِ ذَلِكَ أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَالْأَمْرَانِ الْمَذْكُورَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ قَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِمَا مَعًا آيَةُ «النَّمْلِ» هَذِهِ.
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ زَعَمَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْجِبَالَ الْآنَ فِي دَارِ الدُّنْيَا يَحْسَبُهَا رَائِيهَا جَامِدَةً، أَيْ: وَاقِفَةً سَاكِنَةً غَيْرَ مُتَحَرِّكَةٍ، وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ يَصِفُ جَيْشًا:
بِأَرْعَنَ مِثْلِ الطَّوْدِ تَحْسَبُ أَنَّهُمْ وُقُوفٌ لِحَاجٍّ وَالرِّكَابُ تُهَمْلِجُ
وَالنَّوْعَانِ الْمَذْكُورَانِ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ، يُبَيِّنَانِ عَدَمَ صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: وَهُوَ وُجُودُ الْقَرِينَةِ الدَّالَّةِ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ، فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتَرَى الْجِبَالَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَفَزِعَ، وَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُرَتَّبٌ بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ الْآيَةَ [٢٧ ٨٧]، أَيْ: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، فَيَفْزَعُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَتَرَى الْجِبَالَ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْقَرِينَةُ الْقُرْآنِيَّةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ مَرَّ الْجِبَالِ مَرَّ السَّحَابِ كَائِنٌ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، لَا الْآنَ.
وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ كَوْنُ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْغَالِبُ فِي الْقُرْآنِ فَوَاضِحٌ ; لِأَنَّ جَمِيعَ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا حَرَكَةُ الْجِبَالِ كُلُّهَا فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [٥٢ ١٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً [١٨ ٤٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [٧٨ ٢٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [٨١ ٣].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، جَاءَ نَحْوُهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [٢٣ ١٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ [٦٧ ٣]، وَتَسْيِيرُ الْجِبَالِ وَإِيجَادُهَا وَنَصْبُهَا قَبْلَ تَسْيِيرِهَا، كُلُّ ذَلِكَ صُنْعٌ مُتْقَنٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الَّتِي بِمَعْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «هُودٍ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ، إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [١١ ٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا. اعْلَمْ: أَنَّ الْحَسَنَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَشْمَلُ نَوْعَيْنِ مِنَ الْحَسَنَاتِ:
الْأَوَّلُ: حَسَنَةٌ هِيَ فِعْلُ خَيْرٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعَبْدِ، كَالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَبَذْلِ النَّفْسِ وَالْمَالِ فِي إِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا، بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْحَسَنَاتِ، أَنَّ الثَّوَابَ مُضَاعَفٌ، فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ نَفْسِ الْعَمَلِ ; لِأَنَّ مَنْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا وَاحِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَعْطَاهُ اللَّهُ ثَوَابًا هُوَ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَهُ عِنْدَ اللَّهِ ثَوَابٌ هُوَ سَبْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلًا، خَيْرٌ مِنَ الْحَسَنَةِ الَّتِي قَدَّمَهَا الَّتِي هِيَ إِنْفَاقُ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ، وَهَذَا لَا إِشْكَالَ فِيهِ كَمَا تَرَى.
145
وَهَذَا الْمَعْنَى تُوَضِّحُهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [٦ ١٦٠]، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عَشْرَ أَمْثَالِ الْحَسَنَةِ خَيْرٌ مِنْهَا هِيَ وَحْدَهَا ; وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [٤ ٤٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [٢ ٢٦١].
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنَ الْحَسَنَةِ: فَكَقَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ خَيْرٌ مَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، بَلْ هِيَ أَسَاسُ الْخَيْرِ كُلِّهِ، وَالَّذِي يَظْهَرُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ لَفْظَةَ خَيْرٌ لَيْسَتْ صِيغَةَ تَفْضِيلٍ.
وَأَنَّ الْمَعْنَى: فَلَهُ خَيْرٌ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّهِ حَاصِلٌ لَهُ مِنْهَا، أَيْ: مِنْ قِبَلِهَا وَمِنْ أَجْلِهَا، وَعَلَيْهِ فَلَفْظَةُ مِنْ فِي الْآيَةِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [٧١ ٢٥]، أَيْ: مِنْ أَجْلِ خِطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا، فَأُدْخِلُوا نَارًا. وَأَمَّا عَلَى الْأَوَّلِ فَخَيْرٌ صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّ لَفْظَةَ خَيْرٌ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي صِيغَةُ تَفْضِيلٍ أَيْضًا، وَلَا يُرَادُ بِهَا تَفْضِيلُ شَيْءٍ عَلَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّ كَلِمَةَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعَبَّدَ بِهَا الْعَبْدُ فِي دَارِ الدُّنْيَا، وَتَعَبُّدُهُ بِهَا فِعْلُهُ الْمَحْضُ، وَقَدْ أَثَابَهُ اللَّهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَعَبُّدِهِ بِهَا، وَإِثَابَةُ اللَّهِ فِعْلُهُ جَلَّ وَعَلَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِ عَبْدِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ فَزَعِ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. دَلَّتْ عَلَى مَعْنَاهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَمْنِهِمْ مِنَ الْفَزَعِ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْآيَةَ [٢١ ١٠٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَمْنِهِمْ: فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [٣٤ ٣٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْآيَةَ [٤١ ٤٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ [٢٧ ٨٩]، قَرَأَهُ عَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِتَنْوِينٍ فَزَعٍ، وَفَتْحِ مِيمِ يَوْمَئِذٍ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ، بَلْ بِالْإِضَافَةِ إِلَى يَوْمَئِذٍ، إِلَّا أَنَّ نَافِعًا قَرَأَ بِفَتْحِ مِيمِ يَوْمَئِذٍ مَعَ إِضَافَةِ فَزَعٍ إِلَيْهِ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو بِإِضَافَةِ فَزَعٍ إِلَى يَوْمَئِذٍ مَعَ كَسْرِ مِيمِ يَوْمَئِذٍ، وَفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِهَا مِنْ نَحْوِ يَوْمَئِذٍ، قَدْ أَوْضَحْنَاهُ بِلُغَاتِهِ وَشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ مَعَ بَيَانِ الْمُخْتَارِ مِنَ اللُّغَاتِ فِي سُورَةِ
146
«مَرْيَمَ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ الْآيَةَ [١٩ ١٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعَطَاءٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَأَبُو وَائِلٍ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالسُّدِّيُّ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ، يَعْنِي الشِّرْكَ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَضَمَّنَتْ أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ مَنْ جَاءَ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالسَّيِّئَةِ كَالشِّرْكِ يُكَبُّ وَجْهُهُ فِي النَّارِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ السَّيِّئَةَ إِنَّمَا تُجْزَى بِمِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَهَذَانِ الْأَمْرَانِ جَاءَا مُوَضَّحَيْنِ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَوَّلِ مِنْهُمَا: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا [٢٠ ٧٤]، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الثَّانِي مِنْهُمَا: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا الْآيَةَ [٦ ١٦٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [٢٨ ٨٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: جَزَاءً وِفَاقًا [٧٨ ٢٦].
وَإِذَا عَلِمْتَ أَنَّ السَّيِّئَاتِ لَا تُضَاعَفُ، فَاعْلَمْ أَنَّ السَّيِّئَةَ قَدْ تَعْظُمُ فَيَعْظُمُ جَزَاؤُهَا بِسَبَبِ حُرْمَةِ الْمَكَانِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [٢٢ ٢٥]، أَوْ حُرْمَةِ الزَّمَانِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْأَشْهُرِ الْحَرَامِ: فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [٩ ٣٦].
وَقَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ أَنَّ الْعَذَابَ يَعْظُمُ بِسَبَبِ عِظَمِ الْإِنْسَانِ الْمُخَالِفِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [١٧ ٤٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ الْآيَةَ [٦٩ ٤٤ - ٤٦]،
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَزْوَاجِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ الْآيَةَ [٣٣ ٣٠]، وَقَدْ قَدَّمْنَا طَرَفًا مِنَ الْكَلَامِ عَلَى هَذَا، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [١٧ ٧٥]، مَعَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَمُضَاعَفَةِ السَّيِّئَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، إِنْ كَانَتْ بِسَبَبِ عِظَمِ الذَّنْبِ، حَتَّى صَارَ فِي عِظَمِهِ كَذَنْبَيْنِ، فَلَا إِشْكَالَ، وَإِنْ كَانَتْ مُضَاعَفَةُ جَزَاءِ السَّيِّئَةِ كَانَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُخَصَّصَتَيْنِ لِلْآيَاتِ الْمُصَرِّحَةِ، بِأَنَّ السَّيِّئَةَ لَا تُجْزَى إِلَّا بِمِثْلِهَا، وَالْجَمِيعُ مُحْتَمَلٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ. جَاءَ مَعْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ الْآيَةَ [١٠ ١٠٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ١٠٦ ٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا زِيَادَةُ إِيضَاحٍ لِقَوْلِهِ: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ الْآيَةَ [٦ ١٤].
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا: وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ، فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ»، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ الْآيَةَ [١٨ ٢٧].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ. جَاءَ مَعْنَاهُ مُبَيَّنًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [١٣ ٤٠]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [١١ ١٢]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ [٥١ ٥٤]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا. جَاءَ مَعْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [٤١ ٥٣].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. جَاءَ مَعْنَاهُ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [١٤ ٤٢]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: عَمَّا تَعْمَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ عَمَّا يَعْمَلُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ.
Icon