مكية وآياتها ٩٣
بسم الله الرحمان الرحيم
ﰡ
تفسير «سورة النّمل
وهي مكّية
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤)أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥)
قَولُه تعالى: طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ تقدَّمَ القولُ في الحروفِ المقطَّعةِ، وعَطفِ الكِتَابِ على القرآنِ وهما لمُسَمًّى واحدٍ من حَيْثُ هُما صِفَتَانِ لمعنَيينِ، فالقُرْءَان: لأنه اجتمَعَ، والكتابُ: لأنه يُكْتَبُ، «وإقامةُ الصَّلاَةِ» :
إدامتُها وأداؤُهَا عَلى وَجْهِهَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ أي: جَعَلَ سُبْحَانَه عقابَهم على كُفرِهم أَن حَتَّمَ عَليهم الكُفْرَ، وحَبَّبَ إليهم الشِّركَ وزَيَّنه في نُفُوسِهِم. والعَمَهُ: الحيرةُ والتردُّدُ في الضَّلالِ.
ثم تَوَعَّدَهُمْ تَعَالى بسُوءِ العذَابِ فَمَنْ نَالَهُ مِنهُ شيءٌ في الدُّنْيَا بَقِيَ عليه عَذابُ الآخرةِ، وَمَنْ لَمْ يَنَلْه عَذَابُ الدُّنْيَا كَانَ سُوء عَذابِه في مَوْتِه وفي ما بعده.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦ الى ٩]
وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩)
وقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ تُلَقَّى: مضاعفُ لَقِيَ يَلْقَى، ومعناه تُعْطَى، كما قَال: وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت: ٣٥].
وهذه الآيةُ ردٌّ على كُفَّارِ قُرَيْشٍ في قَوْلهم: إنَّ القُرْآن مِن تلقاءِ مُحَمَّدٍ ومِنْ لَدُنْ معناه: مِن عِنْدِهِ وَمِنْ جِهَتِهِ. ثم قَصَّ- تعالى- خَبرَ موسى حين خَرَجَ بزوجِه بنت شُعيب عَليهِ السَّلاَمُ يُرِيدُ مصرَ، وقد تقدَّم في «طه» قصصُ الآيةِ.
وقوله: سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ... الآية، أصل الشهاب:
ص: وقوله: جاءَها ضميرُ المفعولِ، عائدٌ على النّار، وقيل على الشجرة، انتهى. وبُورِكَ معناه: قُدِّسَ ونُمِيَ خَيْرُه، والبركة، مختصَّة بالخير.
وقولهِ تعالى: مَنْ فِي النَّارِ قال ابنُ عباس: أرادَ النُّورَ «٢»، وقال الحسنُ وابنُ عباس: وأراد ب مَنْ حَوْلَها الملائكةٍ وموسى «٣».
قال ع «٤» : ويُحتمَلُ أن تكونَ مَنْ للملائكةِ لأن ذلكَ النورَ الذي حَسِبَه موسى ناراً لم يخْلُ من ملائكة، وَمَنْ حَوْلَها لموسَى والمَلائِكَةِ المُطِيفينَ بهِ.
وقرأ أُبَيُّ بنُ كعب «٥» «أن بُوركَتِ النَّارُ وَمَنْ حَولَها».
وقوله تعالى: وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ، هو تنزيهٌ للَّه تعالى مما عساه أن يخطر/ ببال في معنى النِّداءِ من الشَّجَرَةِ، أي: هو منزَّه عن جميع ما تتوّهمه الأوهام ٥١ أوعن التَّشبيهِ والتَّكْيِيفِ، والضميرُ في إِنَّهُ للأمرِ والشأنِ.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٠ الى ١٤]
وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤)
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٤٩٦) رقم (٢٦٨٦٧) بلفظ: «كان نور رب العالمين في الشجرة»، وابن كثير (٣/ ٣٥٦)، والسيوطي (٥/ ١٩١)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، وابن مردويه عنه عن ابن عباس.
(٣) أخرجه الطبريّ (٩/ ٤٩٧) رقم (٢٦٨٧٦) بنحوه، وابن عطية (٤/ ٢٥٠)، وابن كثير (٣/ ٣٥٧) بنحوه.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٥٠).
(٥) ينظر: «الكشاف» (٣/ ٣٤٩)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٥٠).
وقد قرأ بها ابن عباس، ومجاهد، كما في «الجامع لأحكام القرآن» (١٣/ ١٠٦). قال القرطبي: ومثل هذا لا يوجد بإسناد صحيح، ولو صح لكان على التفسير، فتكون البركة راجعة إلى النار ومن حولها الملائكة وموسى.
تَسْتُرُهَا. وقالت فرقةٌ: الجانُّ: صِغَارُ الحَيَّاتِ.
وقوله تعالى: وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ، أي: ولَّى فَارّاً. قال مُجاهدٌ: ولم يرجعْ «١»، وقال قَتَادَةُ: ولم يَلْتَفِتْ «٢».
قال ع «٣» : وعَقَّبَ الرجلُ إذا ولَّى عَنْ أمر ثم صرف بدَنه أو وَجْهِه إليه- ثم ناداه سُبحانه مؤنسا له: يا مُوسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ.
وقولُهُ تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ قال الفرَّاءُ وَجَمَاعَةٌ: الاستثْنَاءُ منقطعٌ، وهو إخبارٌ عن غَيرِ الأنبياء، كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ- قال: لكنْ من ظَلَمَ من النَّاسِ ثُمَّ تَابَ فَإنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ، وهذه الآية تقتضي المغفرة للتّائب، والجيب الفتح في الثوب لرأس الإنسان.
وقوله تعالى: فِي تِسْعِ آياتٍ مُتَّصِلٌ بقوله: أَلْقِ وَأَدْخِلْ يَدَكَ وفيه اقتضَابٌ «٤» وحذفٌ، والمعنى في جُملةِ تسعِ آياتٍ، وقد تَقَدَّمَ بَيَانُها، والضميرُ في جاءَتْهُمْ لفِرْعَوْنَ وقومِه، وظاهِرُ قَولِهِ تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها حُصُولُ الكفْرِ عِنَاداً وهي مَسْأَلَةُ خلافٍ قد تَقَدَّمَ بيانها وظُلْماً معناهُ: على غيرِ استحقَاقٍ للجُحْدِ، والعُلُوُّ في الأرضِ أعظمُ آفةٍ على طَالبهِ، قال الله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً [القصص: ٨٣].
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٥ الى ١٧]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧)
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٤٩٨) رقم (٢٦٨٨٢)، والبغوي (٣/ ٤٠٧)، وابن عطية (٤/ ٢٥١)، والسيوطي (٥/ ١٩٢)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة.
(٣) ينظر: «المحرر» (٤/ ٢٥١).
(٤) القضب: القطع. ومنه قيل: اقتضبت الحديث، إنما هو انتزعته واقتطعته.
ينظر: «لسان العرب» (٣٦٥٩).
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً | الآية، هذا ابتداءُ قصَصٍ فيه غيُوبٌ وعَبَرٌ. |
«علّمناه منطق الطير» إخبار بنعمةِ الله تعالى عندهما في اَّنَّ فَهَّمهُمَا مِنْ أصواتِ الطير المعانيَ التي في نفوسِها، وهذا نحو ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلّم يَسْمَعُ أَصْوَاتَ الْحِجَارَةِ بالسَّلاَمِ عَلَيْهِ وغير ذلك حسب ما هو في الآثار.
قال قَتَادَةُ وغيره: إنَّمَا كان هذا الأمرُ في الطيرِ خاصةً، والنملةُ طائِرٌ إذ قد يوجَدُ لَهَا جَنَاحَان «١».
وقالت فُرقَةٌ: بل كَانَ ذَلِكَ في جَمِيعِ الحيَوانِ وإنما خَصِ الطيرَ لأْنَّه كان جُنداً من جنودِ سليمان يحتاجُهُ في التَّظلِيلِ من الشَّمس وفي البَعْثِ في الأمور. والنَّمْلُ حيوانُ فَطِنٌ قويٌّ شَمَّامٌ جِدّاً يدَّخِرُ ويتخذُ القرى وَيَشُقُّ الحَبَّ بقطعتينِ لِئَلاَّ يُنْبِتَ، ويشُقَّ الكزبرةَ بأربعِ قطعٍ لأَنها تُنْبِت إذاً قُسِّمَتْ شقينِ، ويأكلُ في عامِهِ نصفَ مَا جمعَ، ويستبقي سائِرَهُ عُدَّةً. قال ابن العربي في «أحكامه «٢» » : ولا خلافَ عندَ العُلَمَاءِ في أَنَّ الحيواناتِ كلَّها لَهَا أفهامٌ وعقولٌ، وقد قال الشافعيُّ: الحمَامُ أعقلُ الطَّيرِ، انتهى.
وقوله: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ معناه: يَصْلُحُ لنا ونَتَمَنَّاهُ ولَيستْ على العموم. ثُمَّ ذَكَرَ شُكْرَ فَضلِ الله تعالى، واخْتُلِفَ في مقدار جُنْدِ سُليمانَ عليه السلام اختلافاً شديداً لا أرَى ذكرَه لعَدَمِ صحةِ التَّحدِيدِ، غيرَ أنَّ الصَّحِيحَ في هذا أنَّ مُلكَه كَانَ عَظيماً مَلأَ الأَرْضَ، وانقادت له المعمُورةُ كُلُّها، وَكَانَ كُرسيُّه يَحملُ أجْنَادَه من الأنسِ والجنِّ، وكانتِ الطيرُ تُظِلُّه منَ الشمس، ويبعثها في الأمور، ويُوزَعُونَ مَعناهُ: يَرُدُّ أولهُم إلى آخرهم، ويكُفُّونَ، قال قَتَادَةُ: فكأنَّ لِكُلِّ صَنْفٍ/ «٣» وَزْعَةً، ومنه قَوْلُ الحسن البصريّ حين ولي ٥١ ب قضَاءَ البَصْرَةِ: لا بدَّ للحَاكِم من وَزْعَةً «٤»، ومنه قَوْلُ أبي قُحَافَةَ للجاريةِ: ذلك يا بنيّة
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٤٤٩).
(٣) ذكره البغوي (٣/ ٤١٠)، وابن عطية (٤/ ٢٥٣). [.....]
(٤) ذكره ابن عطية (٤/ ٢٥٣).
على حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا... فَقُلْتُ: أَلَمَّا أَصْحُ وَالشَّيْبُ وَازِعُ «٢»
أي: كافٌّ، وهَكَذا نقل ابنُ العربيِّ «٣» عن مَالكٍ فقال: يُوزَعُونَ أي: يُكَفَّونَ.
قال ابن العربي «٤» : وقد يكُونُ بمعنى يُلهَمُونَ من قوله «أَوْزِعْنِي أن أَشكُرَ نعمَتَكَ» أي: ألهمني، انتهى من «الإحكام».
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ١٨ الى ٢٤]
حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤)
وقولُه تَعَالَى: فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها التبسمُ هو ضِحْكُ الأنبيَاءِ في غالِبِ أمْرهم لا يَليقُ بهم سِوَاهُ، وكان تَبَسُّمُه سروراً بنعمَةِ الله تَعالى عَلَيهِ في إسماعِهِ وتفهيمهِ.
وفي قول النملة: وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ثناءٌ على سليمانَ وجنودِه يتضمنُ تنزيهِهم عن تعمدِ القبيحِ. ثم دعا سليمانُ عليه السلام ربَّه أنْ يُعينَه ويُفَرِّغَهُ لشُكرِ نعمتهِ، وهذا معنى إيزاعِ الشُّكرِ، وقال الثعلبيُّ وغيرَه: «أوزِعْنِي» معناه: ألهِمْنِي، وكذلك قال العراقيّ: أَوْزِعْنِي ألهمني، انتهى.
(٢) البيت للنابغة الذبياني في «ديوانه» ص (٣٢) و «الأضداد» ص (١٥١) و «جمهرة اللغة» ص (١٣١٥) و «خزانة الأدب» (٢/ ٤٥٦)، (٣/ ٤٠٧)، (٦/ ٥٥٠)، (٥٥٣) و «الدرر» (٣/ ١٤٤) و «سرّ صناعة الإعراب» (٢/ ٥٠٦) و «شرح أبيات سيبويه» (٢/ ٥٣) و «شرح التصريح» (٢/ ٤٢) و «شرح شواهد المغني» (٢/ ٨١٦)، (٨٨٣) و «الكتاب» (٢/ ٣٣٠)، و «لسان العرب» (٨/ ٣٩٠) (وزع)، (٩/ ٧٠) (خشف) و «المقاصد النحويّة» (٣/ ٤٠٦)، (٤/ ٣٥٧) وبلا نسبة في «الأشباه والنظائر» (٢/ ١١١) و «الإنصاف» (١/ ٢٩٢) و «أوضح المسالك» (٣/ ١٣٣) و «رصف المباني» ص (٣٤٩) و «شرح الأشموني» (٢/ ٣١٥)، (٣/ ٥٧٨) و «شرح شذور الذهب» ص (١٠٢) و «شرح ابن عقيل» ص (٣٨٧) و «شرح المفصّل» (٣/ ١٦، ٤/ ٥٩١، ٨/ ١٣٧) و «مغني اللبيب» ص (٥٧١) و «المقرب» (١/ ٢٩٠، ٢/ ٥١٦) و «المنصف» (١/ ٥٨) و «همع الهوامع» (١/ ٢١٨).
واستشهد فيه بقوله: «على حين»، حيث يجوز في «حين» الإعراب وهو الأصل، والبناء لأنّه أضيف إلى مبنيّ، وهو الفعل الماضي «عاتب».
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٤٥٠).
(٤) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٤٥٠).
الحجةُ حيث وقع في القرآن [العظيم] قاله ابن «٢» عباس. وفعلَ سليمانُ هذا بالهدهدِ إغلاظاً على العاصينَ وعِقَاباً على إخلاله بنبوته ورتبته، والضميرُ في فَمَكَثَ يحتملُ أن يكونَ لسليمانَ أو للهدهدِ، وفي قراءة ابن مسعود «٣» «فتمكث ثم جاء فقال» وفي قراءة أُبَيِّ «٤» «فتمكث ثم قال أحطت».
ت: وهاتان القراءتان تُبَيِّنَانِ أن الضميرَ في «مكث» للهدهدِ وهو الظاهرُ أيضاً في قراءة الجماعة، ومعنى مكثَ: أقامَ.
وقوله: غَيْرَ بَعِيدٍ يعني: في الزمن.
وقوله: أَحَطْتُ أي: عَلِمْتُ.
وقرأ الجمهورُ «٥» «سبأٍ» بالصرف على أنه اسمُ رجل وبه جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم من حديث فروةَ بن مسيك وغيره، سُئِلَ- عليه السلامُ- عَنْ سَبَإٍ فَقَالَ: «كَانَ رَجُلاً لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْوَلَدِ تَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ وَتَشَاءَمَ أرْبَعَة» «٦». ورواه الترمذي من طريقِ فروة بن
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٥٠٧) رقم (٢٦٩٢٤)، وذكره ابن عطية (٤/ ٢٥٥)، والسيوطي (٥/ ١٩٧)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن عكرمة، قال: قال ابن عباس.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٥٥).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٥٥).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٥٥)، و «البحر المحيط» (٧/ ٦٣).
(٦) أخرجه الترمذيّ (٥/ ٣٦١) كتاب التفسير: باب ومن سورة سبأ، حديث (٣٢٢٢) من حديث فروة بن مسيك.
وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب.
وسيأتي تخريجه بأوسع من هنا في سورة سبأ.
وقوله: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي: مما تحتاجُه المملكةُ، قال الحسن: من كل أمر الدنيا «٢»، وهذه المرأةُ هي «بلقيس»، وَوَصَفَ عرشَها بالعِظَم في الهيئةِ ورتبة الملك، ٥٢ أوأكثر بَعضِ النَّاسِ/ في قصَصها بما رأيتُ اختصارَه لعدَمِ صحَّتِه، وإنما اللازم من الآية:
أنها امرأةٌ مَلِكَةٌ عَلى مدائنَ اليمن، ذاتُ مُلْكٍ عظيم، وكانت كافرة من قوم كفار.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٥ الى ٣٥]
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥)
وقوله: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ إلى قوله الْعَظِيمِ، ظاهره: أنه من قوله الهدهد وهو قول ابن زيد وابن إسحاق، ويحتمل أن يكون من قول الله تعالى اعتراضاً بيْنَ الكَلاَمَيْن، وقراءةُ التشديدِ في أَلَّا تعطى: أن الكلامَ للهدهدِ وهي قراءةُ الجمهورِ «٣»، وقراءة التخفيفِ وهي للكسائي تَمْنَعَهُ «٤» وتقوِّي الآخرَ فتأملْه، وقرأ الأعمشُ «٥» هَلاَّ يَسْجُدُونَ وفي حرف عبد الله «ألا هل تسجدون» بالتّاء، والْخَبْءَ: الخفيّ من
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٥٠٩) رقم (٢٦٩٣٥)، وذكره ابن عطية (٤/ ٢٥٦).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٥٦)، و «البحر المحيط» (٧/ ٦٥). [.....]
(٤) وقرأ بها ابن عباس، وأبو جعفر، والزهري، والسلمي، والحسن، وحميد.
ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٥٦)، و «البحر المحيط» (٧/ ٦٥)، و «الدر المصون» (٥/ ٣٠٧)، و «السبعة» (٤٨٠)، و «الحجة» (٥/ ٣٨٣)، و «إعراب القراءات» (٢/ ١٤٨)، و «معاني القراءات» (٢/ ٢٣٨)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١٠٩)، و «العنوان» (١٤٤)، و «حجة القراءات» (٥٢٦)، و «شرح شعلة» (٥٢٥)، و «إتحاف» (٢/ ٣٢٥).
(٥) ينظر: «مختصر الشواذ» ص ١١٠، وفيه القراءة هكذا: «هلا يسجدوا» بحذف نون الرفع.
وينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٥٧)، و «البحر المحيط» (٧/ ٦٥)، و «التخريجات النحوية» (٣٤٤).
قوله: فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ، قال وهب بن مُنَبِّه: أمره بالتولِّي حُسنُ أدب ليَتَنَحَّى حَسْبَ ما يُتأَدَّبُ به مع الملوك، بمعنى: وكن قريبا حتى ترى مراجعاتهم، وليكل الأمر، إلى حُكْمِ ما في الكتابِ دونَ أن تكونَ للرسولِ ملازمةٌ ولا إلحاحٌ «٣». ورَوَى وهب بن منبِّه في قصص هذه الآية: أن الهدهدَ وصل فَوَجَدَ دون هذه المَلِكَةِ حُجُبَ جدراتٍ، فَعَمَدَ إلَى كُوَّةٍ كانتْ بلقيسُ صَنَعَتْهَا، لتَدْخُلَ منها الشمسُ عند طلوعها لمعنى عبادَتِهَا إيَّاهَا فدخل منها ورمى بالكتابِ إليها «٤» فقرأتْه وجَمَعَتْ أهْلَ مُلْكِها فخاطبتهم بما يأتي بعد. قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ تعني: الأشراف: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ وصَفَتِ الكتابَ بالكريمِ إما لأنه من عند عظيمٍ، أو لأنه بُدِىء باسمٍ كريمٍ. ثم أخذتْ تصف لهم ما في الكتابِ، ثم أخذتْ في حسْنِ الأدَبِ مَعَ رجَالِها ومشاورتهم في أمرها فراجعها قومُها بما يُقِرُّ عَيْنَها مِنْ إعلامِهم إيَّاها بالقوة، والبأس. ثم سلَّمُوا الأمر إلى نَظَرِها وهذه محاورةٌ حسنة من الجميع. وفي قراءة «٥» عبد الله: «ما كُنْتُ قَاضِيَةً أَمْراً» بالضاد من القضاء، ثم أخبرتْ بلقيسُ بفِعلِ الملوكِ بالقُرَى التي يَتَغَلَّبُونَ عليها، وفي كلامها خوفٌ على قومِها وحَيْطَة لهم، قال الدَّاوُودِيُّ: وعن ابن عباس: رضي الله عنه إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها قال: إذا أخذوهَا عَنْوَةً، أخربوها «٦»، انتهى.
وقوله: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ قالت فرقة: هو من قول بلقيس، وقال ابن عباس: هو
(٢) ينظر: «السبعة» (٤٨١)، و «الحجة» (٥/ ٣٨٥)، و «إعراب القراءات» (٢/ ١٤٩)، و «معاني القراءات» (٢/ ٢٣٩)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١١١)، و «العنوان» (١٤٤)، و «حجة القراءات» (٥٢٨)، و «شرح شعلة» (٥٢٧)، و «إتحاف» (٢/ ٣٢٦).
(٣) أخرجه الطبريّ (٩/ ٥١٢) رقم (٢٦٩٤٦)، وذكره ابن عطية (٤/ ٢٥٧).
(٤) ذكره ابن عطية (٤/ ٢٥٧).
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٥٨)، و «البحر المحيط» (٧/ ٧٠)، و «الكشاف» (٣/ ٣٦٤).
(٦) أخرجه الطبريّ (٩/ ٥١٥) رقم (٢٦٩٥٩)، وذكره ابن كثير (٣/ ٣٦٢)، والسيوطي (٥/ ٢٠٢)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ... الآية، روي أن بلقيس قالت لقومها: إني أُجَرِّبُ هذا الرجلَ بهدية فيها نفائسُ الأموالِ، فَإنْ كَانَ مَلِكاً دُنْيَوِيّاً أرضاه المال وإن كان نَبِيّاً لم يقبل الهديةَ، ولم يُرْضِهِ مِنّا إلا أن نَتَّبِعَه على دينه، فينبغي أن نؤمِنَ به، ونتبعه على دينه، فبعثت إليه بهدية عظيمة.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٦ الى ٤٢]
فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠)
قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢)
وقوله تعالى: فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ يعني: رسلُ بلقيس، وقولُ سليمان: ارْجِعْ خطابٌ لرسلِها لأن الرسولَ يقع على الجمعِ والإفرادِ والتذكيرِ والتأنيث. وفي قراءة ابن مسعود «٢» :«فلما جاءوا سليمان» وقرأ «ارجعوا»، ووعيدُ سليمانَ لهم مقترنٌ بدوامِهم على الكفرِ، قال البخاري: لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِها: أي: لا طاقةَ لهم، انتهى. ثم قال سليمان ٥٢ ب لجمعه/ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها.
قال ابن زيد: وغرضُه في استدعاءِ عرشِها أن يُرِيَها القدرةَ التي من عند الله وليغرب «٣» عليها، ومُسْلِمِينَ في هذا التأويل بمعنى: مُسْتَسْلِمِينَ، ويحتملُ أنُ يكونَ بمعنى الإسلام.
وقال قتادة: كان غرضُ سليمان عليه السلام أخذه قبل أن يَعْصِمَهُم الإسلامُ فالإسلامُ على هذا التأويل يراد به الدين «٤».
(٢) ينظر: «الكشاف» (٣/ ٣٦٦)، و «البحر المحيط» (٧/ ٧١)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٥٩)، و «الدر المصون» (٥/ ٣١٣).
(٣) ذكره ابن عطية (٤/ ٢٦٠).
(٤) أخرجه الطبريّ (٩/ ٥٢١) رقم (٢٦٩٨٠) بنحوه.
ورُوِي أن عرشِهَا كانَ من ذهبٍ وفضةٍ مُرَصَّعاً بالياقوتِ والجَوْهرِ وأنه كان في جوفِه سبعةُ أبياتٍ عليها سَبْعة أغلاقٍ. والعِفْرِيتُ هو من الشياطين: القويُّ الماردُ.
وقوله: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ قال مجاهد «١» وقتادة «٢» : معناه: قبل قيامِك من مجلس الحكم، وكان يجلس من الصبح إلى وقتَ الظهرِ في كل يوم، وقيل: معناه: قبلَ أنْ تستويَ من جلوسِكَ قَائِماً. وقول الذي عنده علم من الكتاب: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ قال ابن جبير «٣» وقتادة «٤» : معناه: قبل أن يصل إليكَ مَنْ يَقَعُ طَرْفُكَ عَلَيْهِ في أبعد ما ترى. وقال مجاهد «٥» : معناه: قبل أن تحتاج إلى التغميض، أي: مدة ما يمكنك أن تمد بصرك دون تغميض وذلك ارتداده.
قال ع «٦» : وهذانِ القولانِ يقابلانِ القولينِ قبلَهما.
وقوله: لَقَوِيٌّ أَمِينٌ معناه: قويٌّ على حمله أمين على ما فيه. ويُرْوَى أنَّ الجِنَّ كَانَتْ تُخْبِرُ سليمانَ بمَنَاقِل سَيْرِ بلقيس، فلما قربَتْ، قال: أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها فدعا الذي عنده علم من التوراة، - وهو الكتاب المشار إليه- باسم الله الأعظم الذي كانت العادة في ذلك الزمان أن لا يدعو به أحد إلا أجيب، فشقت الأرض بذلك العرشِ، حتَّى نَبَعَ بَيْنَ يَدَيْ سليمانَ عليه السلام. وقيل: بل جِيءَ به في الهواءِ. وجمهورُ المفسرين على أن هذا الذي عنده علم من الكتاب- كان رجلاً صالحاً من بني إسرائيل اسمه (آصف بن برخيا)، روي أنه صلى ركعتين، ثم قال لسليمان [عليه السلام] : يا نبي الله امدد بصرك
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٥٢٢) رقم (٢٦٩٩٠) بنحوه، وذكره ابن عطية (٤/ ٢٦٠). [.....]
(٣) أخرجه الطبريّ (٩/ ٥٢٤) رقم (٢٧٠٠٣)، وذكره البغوي (٣/ ٤٢٠) بنحوه، وابن عطية (٤/ ٢٦٠)، والسيوطي (٥/ ٢٠٥) بنحوه، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن سعيد بن جبير.
(٤) ذكره البغوي (٣/ ٤٢٠) بنحوه، وابن عطية (٤/ ٢٦٠).
(٥) أخرجه الطبريّ (٩/ ٥٢٤) رقم (٢٧٠٠٧) بنحوه، وذكره البغوي (٣/ ٤٢٠) بنحوه، وابن عطية (٤/ ٢٦٠)، والسيوطي (٥/ ٢٠٥) بنحوه، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(٦) ينظر: «المحرر» (٤/ ٢٦٠).
اسمه بلخيا «١». وقولُ سليمانَ- عليه السلام-: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها يريدُ تَجْرِبَة مَيْزِهَا ونَظَرِهَا، ورَوَتْ فرقةٌ أن الجنَّ أحسَّتْ من سليمان أوْ ظنت به أنه ربما تزوجها، فكرهوا ذلك وعيَّبُوها عنده، بأنها غيرُ عاقلِة ولا مميزة وأَن رجلَها كحَافِرِ دابة، فجرَّب عَقْلَها وميَّزَها بتَنْكِيرِ السريرِ، وجرب أمر رجلِها بأمر الصَّرْحِ، لتكشفَ عن سَاقَيْها عنده، وتنكيرُ العرش: تغييرُ وضعهِ وسَتْرُ بعضِه. وقولُها كَأَنَّهُ هُوَ تحرزٌ فَصِيح، وقال الحسن بن الفضل «٢» : شَبَّهُوا عَلَيْهَا فَشَبَّهَتْ عَلَيْهِم. ولو قالوا: أهذا عرشك؟ لقالت: نعم، ثم قال سليمان عليه السلام عند ذلك: وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها الآية، وهذا منه على جهة تعديد نعم الله تعالى عليه وعلى آبائه.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤)
وقوله تعالى: وَصَدَّها مَا كانَتْ تَعْبُدُ أي: عن الإيمان، وهذا الكلامُ يحتملُ أنْ يكونَ مِنْ قولِ سليمانَ، أو مِنْ قولِ الله، إخبارا لمحمد عليه السلام: قال محمد بن كعب ٥٣ أالقرظي/ وغيره: ولمَّا وَصَلَتْ بلقيسُ أمر سليمانُ الجنَّ فصَنَعَتْ له صَرْحاً وهو السطحُ في الصَّحْنِ مِنْ غير سَقْفٍ وجَعَلَتْهُ مَبْنِيا كالصِّهْرِيجِ وملىء ماءً وبُثَّ «٣» فيهِ السَّمَكُ وطبَّقَه بالزُّجَاجِ الأَبيضِ الشَّفَّافِ، وبهذا جاءَ صَرْحاً. والصَّرْحُ أيضاً كل بناء عالٍ، وكل هذا من التصريح وهو الإعلان البالغ. ثم وضع سليمانُ في وسطِ الصَّرْحِ كرسيّاً، فلما وصلته بلقيس قيل لها: ادخلي إلى النبي- عليه السلام-، فلما رأتِ الصَّرْحَ حَسِبتَهُ لُجَّةً وهُو مُعْظَمُ المَاءِ، فَفَزِعَتْ وَظَنَّتِ أنها قُصِدَ بها الغَرَقُ، وَتَعَجَّبَتْ مِن كَوْنِ كرسِيِّه على الماءِ، ورأت مَا هَالَهَا، ولَمْ يكنْ لَها بُدَّ مِن امْتِثَالِ الأمرِ، فكَشَفَتْ عن ساقَيها، فرأى سليمانَ ساقَيْها سليمةً مِمَّا قالتِ الجنُّ غَيْرَ أَنَّها كثيرةُ الشَّعْرِ، فلما بلغتْ هذا الحد قالَ لها سليمانُ عليه السلام: نَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ
والممرد: المحكوكُ الْمُمَلَّسُ ومنه الأمرد، فعند ذلك قالت: بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ
فروي أن
(٢) ذكره ابن عطية (٤/ ٢٦١).
(٣) في ج: وجعل.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٤٥ الى ٥٣]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩)
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣)
وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً... الآية، تمثيل لقريش، وفَرِيقانِ: يريد بهما مَنْ آمنَ بصالِح. وَمَنْ كفَر به. واختصامهُم هُو تنازُعُهم. وقد ذكر تعالى ذلك في سورة الأعراف، ثم إن صالحاً- عليه السلام- ترفّق بقومه ووقفهم على خطئهم في استعجالهم العذابَ قبل الرحمة. أو المعصيةَ لله قبل الطاعة، ثم أجابوه بقولهم: اطَّيَّرْنا بِكَ أي: تشاءمنا بك. تِسْعَةُ رَهْطٍ هُمْ رجالٌ كانوا من أوجُهِ القوْمَ وأعْتَاهُمْ وهم أصحاب قدار، والمدينةُ مُجْتَمَعُ ثمودَ وقَرْيَتِهُم.
وقوله تعالى: تَقاسَمُوا.
قال الجمهور: هو فعل أمر، أشَار بعضُهم على بعضٍ بأن يَتحَالَفُوا على هذا الفعل بصالح، وحكَى الطبريُّ «٣» أَنه يجوز أن يكونَ تقاسموا فِعْلاً ماضِياً في موضعِ الحالِ، كأنه قال: متقاسِمينَ أو متحالفِين بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وأهلَه، وتؤيِّدِه «٤» قراءةُ عبد الله: «ولا يصلحون تقاسموا» بإسقاطِ «قالوا».
(٢) النّورة: الهناء، وفي «التهذيب» : النّورة من الحجر الذي يحرق ويسوّى منه الكلس ويحلق به شعر العانة.
ينظر: «اللسان» ٤٥٧٣.
(٣) ينظر: «الطبريّ» (٩/ ٥٣٣).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٦٣).
وقوله سبحانه: وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ قال ابن العربيّ الحاتميّ: المكر إرداف النّعم مع المخالفةِ وإبقاءِ الحالِ معَ سُوءِ الأدَب، انتهى من شرحه لألفاظ الصوفية.
والتدميرُ: الهلاكُ وخاوِيَةً مَعْنَاهُ: قَفْرا، وهذه البيوتُ المشارُ إليهَا هِي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلّم عَامَ تَبُوكَ: «لاَ تَدْخَلُوا بُيُوتَ المُعَذَّبِينَ إلاَّ أنْ تَكُونُوا بَاكِينَ» «٣». الحديثُ في «صحيحِ مُسْلِمٍ» وغيره.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٤ الى ٥٨]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨)
وقوله تعالى: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تقدمَ قصصُ هؤلاءِ القومِ، وتُبْصِرُونَ معناه: بقلوبكم.
قال أبو حيان «٤» : وشَهْوَةً مفعولٌ منْ أجله، انتهى. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لَعَنَ الله مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ» «٥». رواه أبو داود والترمذيّ والنسائيّ
(٢) ذكره ابن عطية (٤/ ٢٦٤).
(٣) تقدم تخريجه في سورة الحجر. [.....]
(٤) ينظر: «البحر المحيط» (٧/ ٨٣).
(٥) أخرجه ابن حبان (٥٣- موارد) من حديث ابن عباس مرفوعا: بلفظ: «لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن-
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٥٩ الى ٦١]
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١)
وقوله تعالى: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ الآياتِ: هذا ابتداء تقريرٍ وتنبيهٍ لقريشٍ والعربِ وهو بعدُ يَعُمُّ كلَّ مُكَلَّفٍ من الناس جميعاً، وافتتح ذَلِكَ بالقولِ بحمدِه- سبحانَه- وتمجيدِه وبالسلام على عباده الذين اصطفاهم للنبوّة والإيمان، فهذا اللفظ عام لجميعهم من ولد آدم، وكأنَّ هذا صدرُ خُطْبَةٍ للتقريرِ المذكورِ، قالتْ فرقة: وفي الآية حذْفُ مضافٍ في موْضِعَيْن، التقدير: أتوحيدُ اللهِ خيرٌ أم عبادةٌ ما تشركونَ، ف «ما»، على هذا: موصولةٌ بمعنى: الذي، وقالت فرقة: «ما» مصدريةٌ، وحذفُ المضافِ إنما هو أولاً تَقْديرُه: أتوحيدُ الله خير أم شركُكُمْ.
ت: ومِنْ كلاَم الشيخ العارفِ بالله أَبى الحسن الشاذليِّ قَال- رحمه الله-: إن أردتَ أَن لا يصدأَ لكَ قلبٌ ولا يلحقك همٌّ ولا كربٌ ولا يبقَى عليكَ ذنبٌ- فأكْثِرْ من قولك: «سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، لا إله إلا الله، اللهم ثبِّتْ عِلْمَها في قلبي، واغفر لي ذنبي، واغفر للمؤمنينَ والمؤمناتِ، وقل الحمد للَّه وسلام على عباده الذين اصطفى» انتهى.
وقوله تعالى: أَمَّنْ خَلَقَ وما بعدها من التقريراتِ توبيخٌ لهم وتقريرٌ على ما لا مَنْدُوحَةَ عن الإقرارِ به، و «الحدائق» مُجْتَمع الشجرِ من الأعنابِ والنَّخِيل وغير ذلك، قال قوم: لا يقال حديقةٌ إلا لِمَا عليه جدارٌ قد أحدق له.
وقال قوم: يقال ذلك كان جدارٌ أو لم يَكُنْ لأَن البَيَاضَ مُحْدِقٌ بالأشجار، والبهجةُ الجمالُ والنَّضَارَة.
وقوله سبحانه: مَّا كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أي: ليس ذلك في قدرتكم،
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٢ الى ٦٦]
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦)
وقوله سبحانه: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ... الآية، وعن حبيب بن مسلمة «١» الفهري وكان مجاب الدعوة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «لاَ يَجْتَمِعُ مَلأٌ فَيَدْعُوَ بَعْضُهُمْ وَيُؤَمِّنُ بَعْضُهُمْ إلاَّ أَجَابَهُمْ اللهُ تعالى» «٢»، رواه الحاكم في «المستدرك»، انتهى من «سلاح المؤمن»، وعن أبي هريرة- رضي اللَّه عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ادْعُوا اللهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإجَابَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ لاَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لاَهٍ» «٣» رواه الترمذيُّ وهذا لفظه. قال «صاحب السلاح» : ورواه الحاكمُ في «المستدرك» وقال: مستقيمُ الإسناد، انتهى. والسُّوءَ عامٌّ في كل ضرُّ يَكْشِفُه اللهُ تعالى عن عبادِه، قال ابن عطاء الله: ما طُلِبَ لَك شيءٌ مثلَ الاضْطِرَارِ، ولا أسْرَع بالمواهِب لكَ مثلَ الذِّلةِ والافتقارِ، انتهى. و «الظلماتُ» عام لظلمةِ الليل ولظلمةِ الجهل والضلال، والرزق من
(٢) أخرجه الحاكم (٣/ ٣٤٧)، والطبراني في «الكبير» (٤/ ٢١- ٢٢) رقم (٣٥٣٦) كلاهما من طريق أبي عبد الرحمن المقري: ثنا ابن لهيعة، حدثني ابن هبيرة، عن حبيب بن مسلمة الفهري به.
وقال الهيثمي في «المجمع» (١٠/ ٢٠) : رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير ابن لهيعة، وهو حسن الحديث.
(٣) أخرجه الترمذيّ (٥/ ٥١٧- ٥١٨) كتاب الدعوات: باب (٦٦) حديث (٣٤٧٩)، وابن حبان في «المجروحين» (١/ ٣٦٨)، والخطيب في «تاريخ بغداد» (٤/ ٣٥٦) من طريق صالح المري عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة مرفوعا.
وقال الترمذيّ: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
ص: أَيَّانَ اسم استفهامٍ بمعنى: متى، وهي معمولةً ل يُبْعَثُونَ، والجملة في موضع نصب ب يَشْعُرُونَ، انتهى.
وقرأ جمهور القراء: بَلِ ادَّارَكَ أصله: تَدَارَكَ. وقرأ عاصم «١» في رواية أبي بكر:
«بل ادرك» على وزن افتعل، وهي بمعنى: تَفَاعَلَ.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «بَلْ أَدْرَكَ» وهذه القراءاتُ تحتملُ مَعْنَيَيْن: أحدهما: ادَّرَكَ علمُهم، أي: تَناهى، كما تقول ادَّركَ النباتُ، والمعنى: قد تَنَاهى علمهُم بالآخرة إلى أَن لا يعرفوا لها مقداراً، فيؤمنوا وإنما لهم ظنونٌ كاذبةٌ، أو إلى أن لا يعرفوا لها وقْتاً، والمعنى الثاني: بل ادَّرَكَ بمعنى: يُدْرِك أي أنهم في الآخرة يُدْرِكُ علمُهم وقتَ القيَامَةِ، ويرونَ العذابَ والحقائقَ التي كذَّبوا بها، وأمَّا في الدنيا فلا، وهذا هو تأويل ابن عباس «٢»، ونحا إليه الزجاج «٣»، فقوله: فِي الْآخِرَةِ على هذا التأويل: ظَرْفٌ وعلى التأويل الأول:
فِي بمعنى الباء. ثم وَصَفَهُمْ عَزَّ وَجَلَّ بأنهم في شكٍ منها، ثم أردف بصِفَةِ هي أبلغُ من الشَّكِ وهي العمى بالجملة عن أمر الآخرة، وعَمُونَ: أصله: (عميون) فعلون كحذرون.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٦٧ الى ٨٢]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١)
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦)
وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١)
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢)
(٢) أخرجه الطبريّ (١٠/ ٨) رقم (٢٧٠٦٨- ٢٧٠٦٩- ٢٧٠٧٠- ٢٧٠٧١) بنحوه، وذكره ابن عطية (٤/ ٢٦٨)، وابن كثير (٣/ ٣٧٣) بنحوه، والسيوطي (٥/ ٢١٤) وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس بنحوه.
(٣) ينظر: «معاني القرآن» (٤/ ١٢٧).
وقرأ حمزة «٢» :«وَمَا أَنتَ تَهْدِي العمي» بفعلٍ مستقبل، ومعنى قوله تعالى وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ، أي: إذا انْتَجَزَ وعدُ عذابِهمُ الذي تَضَمَّنَه القولُ الأزلي من الله في ذلك، وهذا بمنزلة قوله تعالى: حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: ٧١]، فمعنى الآية وإذا أراد اللهُ أن يُنْفذَ في الكافرينَ سَابقَ عِلمِهِ لَهُم من العذابِ أخْرَجَ لهم دابَّةً من الأرض، ورُوِيَ أَن ذلك حين ينقطعُ الخيرُ، ولا يؤمَر بمعروف، ولا يُنْهى عن منكر، ولا يِبْقَى مَنيبٌ ولا تائبٌ،
(٢) ينظر: «السبعة» ٤٨٦، و «الحجة» (٥/ ٤٠٤)، و «إعراب القراءات» (٢/ ١٦٣)، و «معاني القراءات» (٢/ ٢٤٦)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١١٦)، و «العنوان» (١٤٦)، و «شرح شعلة» (٥٣٠)، و «إتحاف» (٢/ ٣٣٤).
وقرأ الجمهور «٢» : تُكَلِّمُهُمْ من الكلام. وقرأ ابن عباس «٣» وغيرُه: تُكَلِّمُهُمْ- بفَتْحِ التاءِ وتخفيفِ اللام-، من الكَلْمِ وهو الجُرْحُ، وسئل ابن عباس عن هذه الآية «تكلمهم أو تكلمهم» ؟ فقال: كل ذلك، واللهِ تفعلُ: تُكَلِّمُهُمْ وَتَكْلُمُهُمْ، وروي أنها تَمُرُّ على الناسِ فَتَسِمُ الكافرَ فِي جبهتِه وتَزْبُرُهُ وتَشْتُمُه وربما خَطَمَتْه، وَتَمْسَحُ على وجهِ المؤمنِ فتبيضه، ويعرفُ بعدَ ذلكَ الإيمانُ والكفرُ مِن أثرها، وفي الحديث: «تَخْرُجُ الدَّابَّةُ وَمَعَهَا خَاتَمُ سُلَيْمَانَ وَعَصَا مُوسَى، فَتَجْلُو وُجُوهَ المؤمِنِينَ بالعَصَا وتَخْتِمُ أَنْفَ الكَافِرِ بِالخَاتِمِ، حَتَّى أنَّ النَّاسَ لَيَجْتَمِعُونَ، فَيَقُولُ هَذَا: يَا مُؤْمِنُ، وَيَقُولُ هَذا: يَا كَافِرُ» «٤». رواه البَزَّار، انتهى من «الكَوْكَبِ الدُّرِّيِّ».
وقرأ الجمهور: «إنَّ النَّاسَ» - بكسر «إن».
وقرأ حمزةُ «٥» والكسائيّ وعاصمٌ: «أنَّ» بفتحها.
وفي قراءة عبد الله «٦» :«تُكَلِّمُهُمْ بَأَنَّ»، وعلى هذه القراءة فيكونُ قوله: أَنَّ النَّاسَ إلى آخرها مِنْ كلامِ الدابَّةِ، وروي ذلك عن ابن عَبَّاس. ويحتملُ أَنْ يكون من كلام الله تعالى.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٧١)، و «البحر المحيط» (٧/ ٩١)، و «الدر المصون» (٥/ ٣٢٧).
(٣) وقرأ بها سعيد بن جبير، ومجاهد، والجحدري، وأبو زرعة، وعمرو بن جرير.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص ١١٢، و «المحتسب» (٢/ ١٤٤)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٧١)، و «البحر المحيط» (٧/ ٩٢)، و «الدر المصون» (٥/ ٣٢٨). [.....]
(٤) وهم المؤلف في هذا الحديث، حيث إنه عزا هذا الحديث للبزار، وهو عند من هو أشهر من البزار، فقد أخرجه الترمذيّ (٥/ ٣٤٠) كتاب التفسير: باب ومن سورة النحل، حديث (٣١٨٧)، وابن ماجه (٢/ ١٣٥١- ١٣٥٢) كتاب الفتن: باب دابة الأرض، حديث (٤٠٦٦) من حديث أبي هريرة.
وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب.
(٥) ينظر: «السبعة» (٤٨٦- ٤٨٧)، و «الحجة» (٥/ ٤٠٦)، و «إعراب القراءات» (٢/ ١٦٤)، و «معاني القراءات» (٢/ ٢٤٦)، و «العنوان» (١٤٦)، و «حجة القراءات» (٥٣٨)، و «إتحاف» (٢/ ٣٣٥).
(٦) ينظر: «الشواذ» ص ١١٢، و «المحتسب» (٢/ ١٤٥)، و «الكشاف» (٣/ ٣٨٥)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٧١)، و «البحر المحيط» (٧/ ٩٢)، و «الدر المصون» (٥/ ٣٢٨).
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٣ الى ٨٧]
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧)وقوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً: هو تذكيرٌ بيومِ القيامةِ، والفوجُ:
الجماعة الكثيرة، ويُوزَعُونَ معناه: يكفّون في السوق، يَحْبِسُ أولُهُم عَلى آخرهم «١» قاله قتادة، ومنه وَازَع الجيشَ، ثم أخبر- تعالى- عن توقيفِه الكفرةَ يومَ القيامةِ وسؤالِهم على جهة التوبيخ: أَكَذَّبْتُمْ... الآية، ثم قال: أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ على معنى استيفاء الحُجَجِ، أي: إن كان لكم عملٌ أو حُجَّةٌ فهاتوها. ثم أخبر عن وقوع القول عليهم، أي:
نفوذُ العذابِ وحَتْمُ القَضَاءِ وأنهم لا ينطقونَ بحجَّةٍ، وهذا في موطن من مواطِنِ القيامةِ.
ولما تكلَّم المحاسِبيُّ على أهوال القيامة، قال: واذكر الصراط بدقّته وهوله وزلَّتِه وعَظِيم خطره وجهنم تخفق بأمواجها من تحته، فيا له مِنْ مَنظرٍ ما أفْظَعَهُ وأهْوَلَهُ، فتَوهَّمْ ذلِكَ بقلبٍ فارغٍ، وعقلٍ جامعٍ، فإن أهوالَ يومِ القيامةِ إنما خَفَّتْ علَى الذِينَ تَوَهَّمُوهَا في الدنيا بعقولهم، فتحملوا في الدنيَا الهُمُومَ خَوْفاً مِن مَقامِ رَبِّهِمْ، فَخَفَّفَها مَوْلاَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَنْهم، انتهى من «كتاب التوهم».
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وهو القَرْنُ في قول جمهور الأمة، وصاحب الصور هو ٥٥ أإسرافيل- عليه السلام-، وهذه النفخةُ المذكورة هنا هي نفخة/ الفَزَع، ورَوى أبو هريرةَ «٢» أنها ثلاثُ نفخات: نفخةُ الفَزَعِ، وهو فزع حياةِ الدُّنيَا وليْسَ بالفَزَع الأكْبَرِ، ونفخةُ الصَّعْقِ، ونفخةُ القيام من القبور. وقالت فرقة: إنما هما نفختان: كأنهم جَعَلُوا الفَزَعَ والصَّعْقَ في نفخةٍ وَاحِدَةٍ مستدلين بقوله تعالى: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى... الآية [الزمر: ٦٨].
قالوا: وأخرى لا يقال إلا في الثانية. قال ع «٣» : والأول أصحُّ، وأخرى يقال في الثالثةِ، ومنه قوله تعالى: وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى. [النجم: ٢٠].
وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ استثناءٌ فيمن قَضَى الله سبحانه مِنْ ملائكتِه، وأنبيائه، وشهداءِ عبيدِه أن لا ينالهم فزعُ النَّفْخِ في الصورِ، حَسَبَ ما ورد في ذلك من الآثار.
(٢) ذكره ابن عطية (٤/ ٢٧٢).
(٣) ينظر: «المحرر» (٤/ ٢٧٢).
وقرأ حمزة «٢» :«وَكُلُّ أَتَوْهُ» على صيغة الفعل الماضي، والدَّاخِرُ: المُتَذَلِّلُ الخاضِعُ، قال ابن عباس وابن زيد: الداخرُ: الصاغرُ، وقد تظاهرَتِ الرواياتُ بأنَّ الاستثناءَ فِي هذِه الآيةِ إنما أريد به الشهداءُ: لأنهم أحياءٌ عند ربهم يُرْزَقُونَ، وهم أهلٌ للفزعِ لأنَّهُمْ بشر لكن فُضِّلُوا بالأمن في ذلك اليوم.
ت: واختار الحليميُّ هذا القولَ قال: - وهو مروي عن ابن عباس-: إن المستَثْنَى هم الشهداء. وضعَّفَ ما عداه من الأقوال، قال القرطبي «٣»، في «تذكرته» : وَقَدْ وَرَدَ في حديث أبي هريرة بِأَنَّهُمُ الشهداء وهو حديث صحيح «٤»، انتهى.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٨٨ الى ٩٠]
وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠)
وقوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً... الآية، هذا وصفُ حالِ الأشياءِ يومَ القيامةِ عَقِبَ النَّفْخِ في الصُّورِ، والرؤية: هي بالعَيْن، قال ابن عباس: جامدةً «٥» :
قائمةً، والحَسَنَةُ الإيمانُ، وقال ابن عباس وغيره: هي «لا إله إلا الله» «٦» ورُوِيَ عَنْ علي بن الحسين أنه قال: كُنْتُ في بعض خَلَواتِي فَرفَعْتُ صَوْتي: ب «لا إله إلا الله» فسمعتُ قائلاً يقول: إنها الكلمةُ التي قال الله فيها: «من جاء بالحسنة فله خير منها» «٧».
(٢) وبها قرأ حفص عن عاصم. وقرأ الباقون بالمد «آتوه» اسم فاعل، واحتجوا بقوله تعالى: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مريم: ٩٥].
ينظر: «الحجة» ٥/ ٤٠٦، و «السبعة» (٤٨٧)، و «إعراب القراءات» (٢/ ١٦٥)، و «معاني القراءات» (٢/ ٢٤٧)، و «شرح الطيبة» (٥/ ١١٧)، و «العنوان» (١٤٦)، و «حجة القراءات» (٥٣٨)، و «شرح شعلة» (٥٣١)، و «إتحاف» (٢/ ٣٣٥).
(٣) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (١/ ٢٣٣).
(٤) هو موقوف عن أبي هريرة.
ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٢٢١)، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن جرير.
(٥) أخرجه الطبريّ (١٠/ ٢١) رقم (٢٧١٢٤)، وابن عطية (٤/ ٢٧٣)، والسيوطي (٥/ ٢٢١)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(٦) أخرجه الطبريّ (١٠/ ٢٢) رقم (٢٧١٣١)، وذكره ابن عطية (٤/ ٢٧٣)، والسيوطي (٥/ ٢٢٣)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عباس.
(٧) ذكره ابن عطية (٤/ ٢٧٣)، وابن كثير (٣/ ٣٧٨).
قال ع «٢» : والسيئةُ التي في هذه الآية هي الكُفْر والمَعَاصِي. فيمن حتَّم الله عليه من أهل المشيئة بدخول النار.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٩١ الى ٩٣]
إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣)
وقوله: إِنَّما أُمِرْتُ المعنى: قل يا محمد لقومك: إنما أمرتُ أن أعبدَ ربَّ هذه البلدة، يعني: مكة، وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ معناه: تَابعْ فِي قراءتِك، أي: بَيْنَ آياتِه واسْرُدْ.
قال ص: وَأَنْ أَتْلُوَا معطوفٌ على «أَنْ أَكُونَ».
وقرأ عبد الله «٣» :«وَأَنِ اتل» بغير واو وقوله: وَمَنْ ضَلَّ جوابُه محذوفٌ يدلُّ عليه ما قبلَه، أي: فَوَبَالُ ضلالهِ عَلَيْهِ، أو يكونَ الجوابُ: فَقل، ويُقَدَّرُ ضميرٌ عائدٌ من الجوابِ على الشرط لأنه اسمٌ غَيرُ ظَرْفٍ، أي: من المنذرين له، انتهى. وتلاوة القرآن سببُ الاهتداءِ إلى كل خير.
وقوله تعالى: سَيُرِيكُمْ آياتِهِ توعُّدٌ بعذابِ الدُّنيَا كَبَدْرِ ونَحوه، وبعذاب الآخرة.
وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فيه وعيدٌ.
(٢) ينظر: «المحرر» (٤/ ٢٧٤).
(٣) ينظر: «الشواذ» ص ١١٢، و «الكشاف» (٣/ ٣٨٩)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ٢٧٤)، و «البحر المحيط» (٧/ ٩٦)، و «الدر المصون» (٥/ ٣٣٠).