ﰡ
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ... (١)﴾
قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: الوفاء هو الزيادة على الأمر الواجب، وهو الإتيان بالمطلوب وزيادة، والمراد هنا: الإتيان بالقدر الواجب فقط، والأمر للوجوب فكيف صح التكليف بإيجاب الزيادة عما كان التزمه، وأجيب: بأن ذلك فيما يتعدى [بفي*] فيقال: وفى الكيل ووفى الوزن، وأما حيث يتعدى [بالباء*] فإنما يراد به الإتيان بما كان التزمه فقط، فيقال: وفى بدينه ووفى بعهده، قلت: أو يجاب بأن ذلك وفَّى المشدد فهو المقتضي للزيادة لأجل المبالغة، وأما المخفف فهلا قال: ويدخل في هذا جميع العقود والطلاق إن كان معلقا مثل: إن دخلت الدار فأنت طالق، والوعد؛ لأنه من العقود، وكذلك بيع الخيار.
قال الزمخشري: والعقد العهد الموثق فشبه بعقد الحبل، ونحوه قول الحطيئة:
قَوْمٌ إذا عَقَدوا عَقْداً لَجارِهِمُ... شَدُّوا العِناجَ وشَدُّوا فَوقَهُ الكَرَبا
والعناج: حبل يربط في أسفل الدلو، والكرب: حبل يربط على العرفين وهما عودان مصلبان في فم الدلو.
قوله تعالى: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ).
قيل لابن عرفة: نقل بعضهم عن سيدي الشيخ الفقيه الصالح أبي محمد عبد الله المرجاني كان يقول: هنا فعل الطاعات سبب في تحليل الطيبات، كما أن المعاصي والمخالفات سبب في تحريم المحرمات، قال تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) قالوا: فالعقود سبب في تحليل هذه الأشياء، فقال ابن عرفة: إنما يصح هذا لو كان خيرا وليس كذلك، بل هو أمر بالوفاء يحتمل الامتثال وعدمه، وأكثر النَّاس عصاة لَا يمتثلونه، قلت: وذكرته لشيخنا أبي الحسن محمد بن أحمد المطرفي، فقال: إنما سمعت أنا عن المرجاني أنه كان ما نصه قوله (أُحِلَّتْ لَكُمْ) بعد قوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) تشديد وتشبيه على عدم المبالاة بالجاني في عقوبته على عدم الوفاء كأنه يقول: أما بهيمة الأنعام حلال لكم تسخرونها كيف شئتم وتعذبونها بالذبح والنحر متى شئتم من غير معصية منها لكم في أمر أو نهي، ولا يسمون بقتلها جائرين، وكل حكم فيها عدل، فإن كان هذا وصفكم مع أملاككم التي ملكناها لكم فكيف وصفنا معكم، وملكنا لهم [بالاختراع*] لَا بالتمليك، و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فإني لَا أبالي بعقوبة من خان ولا بثواب من أوفى وأنتم لتمام ما
قيل لابن عرفة: كيف هذا التحليل؟ وهل كانت محرمة [أولًا*]؟ فقال إن قلت: إن الأشياء كانت على الحصر فظاهر، وإن قلنا إنها على الأرجح، فالسؤال وارد؛ لأنه لا فائدة فيه، قيل به: وكذلك إن كانت على الحصر؛ لأن هذه السورة مدنية من آخر ما نزل، وقد كانت هذه الأشياء حلال في أول الإسلام، فأجاب بوجهين:
الأول: إشارة إلى ما كانت عليه الجاهلية من تحريم السائبة والوصيلة والبحيرة والحامي، فاقتضت هذه الآية تحليل ذلك كله للمسلمين.
الثاني: في ذكر التحليل ليرتب عليه أشباه هذه الأمور المخرجة منه.
قوله تعالى: (بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ).
جعله الزمخشري من إضافة الأعم من وجه إلى وجه من وجه، مثل: عندي خاتم حديد، وكان بعضهم يقول: الصواب أنه من إضافة الأعم مطلقا إلى الأعم من وجه، والأول أجود من الثاني؛ لأن هذا قليل الوقوع بخلاف الأول.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَحكُمُ مَا يُرِيدُ).
قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: هذه الآية دليل على إبطال العمل بالقياس؛ لأن الإرادة من شأنها التفريق بين المتماثلين، والجمع بين المختلفين، وإنما الذكر من خصائصها جواز ذلك لَا لزومه.
قال ابن عرفة مرة أخرى: وانظر هل فيها دليل على أنه لَا يأمر إلا بما أراد؟ وأجيب: بأن المعنى أن الله يحكم ما يريد الحكم به لَا ما يريده في نفسه.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ... (٢)﴾
قال ابن عرفة: إن قلت: لم كرر النداء (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهلا اكتفى بالأول فيقال: [ولا تحلوا شعائر الله*]؟ فالجواب: أنه إذا قلت: قام زيد وعمرو توهم تبعية أحد الرجلين للآخر في القيام، فإذا أردت نفي هذا التوهم، قلت: قام زيد وعمرو فأفاد
قوله تعالى: (لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ).
ابن عرفة: إما أن يريد لَا تجعلوها حلالا، أو يريد لَا تفعلوا فيها ما يفعل في الحلال، فالأول يتناول من يفعلها مستحلا لها معتقدا لحليتها فهو كافر، والثاني يتناول عصاة المؤمنين، وفي مثله قال الشيوخ في قول مالك -رحمه الله- في المدونة في كتاب الفرائض: ولا أحب معارضة من يستحل الحرام أو من لَا يعرف الحلال من الحرام، قالوا: معناه من يفعل الحرام كونه حلال مثل سائر العصاة؛ لأنه يعتقد أنه حلال فإن ذلك كافر.
ابن عرفة: قالوا: وهل في الآية اللف والنشر أم لَا على مذهب السكاكي ففيها النشر واللف بالانتقال عن الخطاب المعنوي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى الغيبة، بقوله (شَعَائِرَ اللَّهِ)، ولم يقل: شعائرنا، وإما على مذهب غيره فليس بلف ولا نشر، ووجه اللف والنشر فيها أن اسم الجلالة فيه تعظيم للشعائر وتفخيم لها بخلاف ما لو قال. شعائرنا.
قوله تعالى: (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ).
قال ابن عرفة: اختلفوا فيمن حلف أنه يصوم الأشهر الحرم، فقيل: تجزئة صومها من عام واحد، وقيل: لَا يصومها إلا من عامين عملا بقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حجة الوداع: "السنة اثنا عشر شهرا أربعة حرم: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب" انظر فبدأ بذي القعدة فدل على اعتبار كونها في سنتين.
قوله تعالى: (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ).
إن أريد بالهدْي العموم؛ لأن منه ما يقلد وما لَا يقلد، فالإبل والبقر تقلد بلا خلاف، والغنم عندنا لَا تقلد، وعند غيرنا تقلد فيكون من عطف الخاص على العام،
ابن عرفة: فإن قلت: كيف يتقلد بثياب الحرم وقد قال في الحديث في مكة: أنها حرام لَا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها؟، فالجواب: أنه يتقلد بما نبت فيه من الريح لا بما ينبت بنفسه.
قوله تعالى: (وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ).
ابن عرفة: الألف واللام للعهد للبيت هو إما عهد سابق في الزمن، أو عهد معلوم بالسياق، وسميت حراما إما لحرمة بانيها، أو تعظيمه إياها، وإما لأنها في الحرم مع أن الحرم إنما سمي حرما لأجلها، قال: وعظم البيت هنا محصل قصد الحاج، وقال في الحديث: معظم "الحج عرفة" وهذه الآية اقتضت أن معظمه البيت الحرام، فأجاب بوجهين وباعتبارين: معرفة معظم الحج من ناحية أن له زمنا معينا يفوت بفواته، والبيت معظمه لأجل الطواف به دائما، [ولأجل أن من مرض في الحج يؤجله إلى أن يبرأ*]، ولأجل أنه يقصد في الحج والعمرة، فله عبادتان بخلاف عرفة.
قوله تعالى: (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا).
وقال في سورة الفتح (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) وأجاب ابن عرفة: بأن تلك في الصحابة، وكانت عبادتهم لله تعالى لذاته ومجرد جلاله وعظمته، وهذه الآية خاصة في المؤمنين وعبادتهم في الأكثر إنما هي للثواب والنجاة من العقاب، فعبادتهم لابتغاء الفضل والرحمة من ربهم فناسب لفظ الرب، قال أبو حيان: و (يَبتَغُونَ) صفة لـ (آمِّينَ)، (البَيتَ) مفعول به، فأورد أن اسم الفاعل إذا وصف لَا يعمل، وأجيب بأن ذلك إذا وصف قبل العمل، وهنا إنما وصف بعد العمل.
ابن عرفة: وقال بعضهم: إذا وصفه بعد العمل يتم عمله فيما قبل، ولا يصح عمله بعد ذلك في شيء آخر، قال أبو حيان: [**فرده المختصر مذهب الكسائي].
قوله تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ) ابن عرفة: قال بعضهم: الشنآن هو المباينة الناشئة عن العداوة والبغضاء، والصواب أن اتصافه للفاعل بغض قوم إياكم؛ لأن المراد بغضكم قوم.
قوله تعالى: (أَنْ صَدُّوكُمْ).
قرئ بفتح أن وكسرها، قال بعضهم: أن بمعنى إذا.
قوله تعالى: (أَنْ تَعْتَدُوا).
والاعتداء إن فعل بمن ظلمه أكثر مما فعل هو به وهذا خلاف قول مالك. لأنه حمل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك"؟ فقال: لَا يجوز لمن ظلمك بأخذك عشرة دنانير أن تأخذ أنت له عشرة دنانير فأخذ بظاهر الحديث، وقال غيره: الخيانة هي أخذه أكثر من ذلك، قيل له: فقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) فقال: ذلك على سبيل المقابلة، والاعتداء إنما هو التجاوز والزيادة على فعل المعتدي.
قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى).
قال ابن عرفة: قال بعضهم: البر هو الحكم بامتثال المأمورات، والتقوى راجعة إلى اجتناب المنهيات.
قيل لابن عرفة: هذا يقوم مقام (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)، فأجاب بعضهم بأنه بناء على القول بأن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده.
قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ... (٣)﴾
قال ابن عرفة: هذا إما خبر، أو إنشاء، فإن أريد الحكم بثبوت ذلك في الأزلي فهو خبر، وإن أريد التكليف بتحريم ذلك فهو إنشاء، وقدمت (الْمَيْتَةُ) إما لكونها كانت محرمة عندهم وكانوا يجتنبونها.
قوله تعالى: (وَالدَّمُ).
يتناول المسفوح وغيره، فيتعارض المفهوم والعموم، وجعله ابن عرفة من تعارض المطلق والمقيد لكن الصحيح الأول؛ لأنه لو كان كذلك لاتفق على جواز الدم غير المسفوح، إذ لَا خلاف في رد المطلق إلى المقيد وهو هنا مختلف فيه فيرجع إلى المسألة المختلف فيها وهي تعارض المفهوم، فقلت: وقال ابن عرفة مرة أخرى: إن القاضي ابن [... ] جعله من تعارض الخاص والعام؛ لأن الدم هنا عام وفى العام خاص، ورده ابن عرفة، لأنه من تعارض العموم والمفهوم؛ لأن قوله (أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا) يدل بمفهوم الصفة على تحليل الدم غير المسفوح، قلت: وأجاب شيخنا أبو العباس أحمد بن إدريس بأن (مُحَرَّمًا)، من قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ) نكرة في سياق النفي فهو عام، فيدل على أن جميع الأشياء حلال أخرج منها الدم المسفوح وبقي غير المسفوح حلالا بالنص لَا بالمفهوم لتعارض الخاص والعام، وردَّ ابن عرفة بأن هذا أيضا من باب دلالة المفهوم، وقد ذكر الأصوليون مفهوم الحصر، وهو عندهم أقوى من مفهوم الصفة، قال: وأيضا فينعكس الأمر في هذا؛ لأن دعواكم لَا أجد مقتضى تحليل كل فيبقى إلا ما استثني منه، وقوله ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) يقتضي تحريم مفهوم الدم فتكون هذه الآية أخص من آية الأنعام فيلزم تحريم الدم كله، وهو خلاف مطلوبنا ومطلوبكم.
أحدهما: قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُم صَيدُ الْبَحرِ وَطَعَامُهُ) [فلما*] استثنى خنزيرا أولا، وقال هنا (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) فعم خنزير البر والبحر.
قوله تعالى: (وَمَا أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ).
قيل لابن عرفة: هذه البقر تذبح في الفتن بين النَّاس، فقال: يجوز أكلها، وكذلك ما يذبح للجار، وأشار بعضهم إلى أن ابن رشد ذكره أظنه في الأسئلة، قيل: فما يذبح في المباهاة والافتخار ويكثرون منه كما يفعل أبو الفرزدق. لأن المؤرخين قالوا: إن غالبا أبا الفرزدق قد عاقر شحما من وسل الرياح فحضر الرياحي بعض إبله، ثم رفع يده، ولم يزل غالب الفرزدق ينحر إبله حتى أتى على آخرها ففضل بذلك على شحم، والفرزدق يكثر الفخر بهذا.
قيل لابن عرفة: قد قال المؤرخون إن عليا بن أبي طالب -رضي الله عنه- نهى عن الأكل من تلك الإبل.
قال ابن عرفة: ويؤكل ما يذبح؛ لأنهم يقصدون ذبحه، لو لم يقصدوه لاكتفوا بشق بطنه وخنقه.
قوله تعالى: (وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ).
قال: كانت الأزلام ثلاث قداح في أحدها افعل، وفي الآخر لا تفعل، والثالث [مهمل*]، وقيل: سبعة منها أحكام [العرب*] وما يدور بين النَّاس من النوازل، وقيل: عشرة، سبعة منها خطوط لها [بعددها حظوظ*] يستقسمون بها [طلبا [للكسب والمغامرة] وثلاثة أفعال.
قوله تعالى: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ).
قال ابن عرفة: اليوم هنا محتمل لثلاثة معان، فالنحاة يريدون به زمن الحال الفاصل بين الماضي والمستقبل، ويحتجون بقول زهير:
وأَعْلَمُ مَا في اليَوْمِ وَالأَمْسِ قَبْلَهُ | وَلَكِنَّني عَنْ عِلمِ ما في غَدٍ عَمِ |
قوله تعالى: (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي).
إما تأكيدا للأول، وإما مغايرا له، والمغايرة بينهما من وجهين:
أحدهما: أنه ذكر إشعارا يكون إكمال الدين مجرد نعمة وتفضل من الله تعالى بمنه، رد على من يقول بوجوب مراعاة الأصلح للعبد.
الثاني: أن الأول راجع للأمور الأخروية الدينية، وهذا راجع بأمور الدنيا باعتبار الفتوحات والنصرة على الأعداء وأخذ الغنائم.
قوله تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).
قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ).
أي غير مائل لعذر من الأعذار ليس له، ابن عطية: وقرئ غير [متجنف] (١) وهي أبلغ في المعنى؛ لأن تشديد [العين] (٢) تقتضي توغلا في المعنى ومبالغة وثبوت الحكمة.
ابن عرفة: العكس هنا أولى؛ لأن مجانف منفي، ونفي الأعم أخص من نفي الأخص، ونقل عنه السفاقسي وسكت عنه، والعجب منه كيف لم يتعقبه على علمه بالأصول أوأما أبو حيان فلم تكن له مشاركة في الأصول.
قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ... (٤)﴾
قال ابن عرفة: الاستثناء في القرآن باعتبار الاستقراء هو استعلام حكم ما فيه خصومة، والسؤال استعلام حكم ما ليس فيه خصومة، واستشهد بقوله تعالى: [(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) *].
قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ).
رجح ابن عطية أن المراد بها الحلال سواء كان مستلذا أو لا.
ابن عرفة: فيه نظر لاقتضائه أن المعنى أحل لكم الحلال فهو تحصيل الحاصل.
قوله تعالى: (مُكَلِّبِينَ).
الزمخشري: فالمعنى في تعليم الكلاب الغاية، قال بعض الطلبة: يلزم عليه المفهوم وهو أنه في التعليم لَا يصح الاصطياد بكلبه، وأجاب ابن عرفة: بأن بلوغ الغاية إنما يشترط في التعليم لَا في حكم الصيد بالكلب المعلم.
قوله تعالى: (تُعَلِّمُونَهُنَّ).
أعاد ضمير الجماعة على الجمع الذي للكثرة، فهلا قيل: تعلمونها، كما قال (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) ابن عرفة: تقدم لنا الجواب بأنه إشارة إلى أن التعليم لَا يمكن مع الكثرة، وإنَّمَا يمكن مع قلة الكلاب، أبو حيان: (مُكَلِّبِينَ)
(٢) بالمطبوع: (الغين). وهو خطأ ظاهر، فإن (متجنف) لا (غين) فيها. والتصويب من تفسير ابن عطية، والمراد (عين الكلمة) أي الحرف الثاني من (فعل)
السفاقسي: والصحيح جوازه، ومنعه أبو حيان، ولا يحسن أن يجعل حالا من الجوارح للفصل بينهما، (مُكَلِّبِينَ) وهي حال بغير الجوارح، وتعقبه السفاقسي بأن ابن عصفور أجاز تعدد الحال وتعددها جهة، ومثله بقولك: لقي زيد عَمراً مصعدا منحدرا، وأجازه ابن مالك إذا كان أول الحالين لثاني الاسمين لبقائه الفصل إلا أن يمنع مانع من جعل الأول للثاني ويؤمن اللبس فيجوز، كقول امرئ القيس:
[خَرَجْتُ بها أَمشي تَجُرُّ وَرَاءَنا | على أثَرَينا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ*] |
ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: يحتمل تجر وجهين آخرين:
أحدهما: أن يكون حالا من فاعل خرجت، ومن الضمير فيها، ويحتمل أن يكون حالا من أعلم من لم يبلغ الغاية في التعظيم فاعل خرجت أصل، والرابط بينهما الضمير في قوله: ورافعا. لأنه معمول لتجر فهو من تمامه، كأنه قال: خرجت بها جارة وراءنا، كقولك: قمت وزيد مكرم أخانا، أي حالة إكرام زيد أخانا.
قوله تعالى: (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ).
قال الفخر: الأمر إما للوجوب أو للندب.
ابن عرفة: تقدير كونه للوجوب أن يراد مطلق الامتناع لَا خصوصية الأكل؛ لأن تركه بعد اصطياده من باب إضاعة المال.
قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ).
إما عند إرسال الجوارح لاصطياده، أو عند ذبحه إن أدركه حيا، أو عند الأكل منه.
قوله تعالى: (سَرِيعُ الْحِسَابِ).
قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ... (٥)﴾.. تأكيد، قوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ) أخدُ من هنا ابن العربي جواز أكل المسلم من الدجاجة التي فك النصراني عنقها إذا طبخها لنفسه، وأطعمه منها لأنها من طعامه.
ورده ابن عرفة: بأنه ليس من طعامهم الفعلي الوجودي بل طعامهم الذي أباحه شرعهم لهم، وهو إذا في شرعهم محرم عليهم.
قوله تعالى: (وَطَعَامُكُم حِلٌّ لَهُم) قال ابن الحارث: وأما الكافر الكتابي البالغ المميز الذي لَا يستحل الميتة فإذا ذبح لنفسه ما يستحله فهو كالأولى وما لَا يستحله إن ثبت بشرع عليهم كذي الطير والمشهور التحريم.
ابن عرفة: والشاذ قول ابن لبابة إنه جائز، وأخذه من الآية أنه من طعامنا وطعامنا حل لهم، وكل ما هو حلال لهم حلال لنا فينتج جواز أكلنا منه.
قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ).
قال ابن عطية: الإحصان يطلق على أربعة معان: منها العفاف، والإسلام، والتزويج، والحرية، ويمتنع حمل الآية على الإسلام والتزويج، وتبقى محتملة للعفاف والحرية.
ابن عرفة: فإن أريد العفاف يخرج من الآية جواز نكاح الأمة العفيفة، قيل له: إذا أريد به الإسلام يلزم التكرار، فإن معناه: والمسلمات من المؤمنات، فقال: من لبيان الجنس احترازا من المنافقين؛ لأن الإسلام راجع لأمور الطهارة والإيمان اعتقاد قلبي.
قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ).
قيل لابن عرفة: ما أفاد قوله (مِنْ قَبْلِكُمْ)؟ فقال: أفاد الإشعار بأنهن كن في الكتب السالفة حلالا لنا لئلا يتوهم أنهن كن محرمات علينا ثم نسخ ذلك بهذه الآية.
قوله تعالى: (إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ).
ابن عرفة: الصداق هل هو واجب بالعقد أو شرط في الدخول؟ قيل له: قد قال ابن رشد: إنه يحله وليس بعوض عن البضع؛ لأن المرأة تنال من الرجل مثلما ينال هو منها، فقال: قد قال مالك: النكاح أشبه شيء بالبيوع، وكذلك إذا أصدقها طعاما لم يحل لها بيعه قبل قبضه، قال: والصداق هل هو واجب بالعقد أو بالدخول؟ قال: والتحاكم في هذا إلى معنى الحلال هو قبل هو التحليل بالفعل، وبالقابلية والإمكان، ومثاله: أن من عقد على امرأة يقال له هي حلال، وإن لم يعقد عليها وكانت أجنبية عنه، يقال له: هي حلال لك، وإن رضع معها، يقال له: ليست حلالا لك أي بالقوة والقابلية، والأولان حلال بالفعل.
وقوله تعالى: (أُجُورَهُنَّ).
[دليل على أن الصداق لَا حد لأقلِّه*]، وقوله تعالى: [(مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) أي مسلمين غير زانين بزنا ظاهر، (وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ) أي غير زانين بزنا خفي*]، [والخِدْن هي الزانية برجل تقتضم عليه، ويقتضم هو عليها].
قوله تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ) أي ومن كفر بفروع الإيمان فهو المناسب لما قبله.
قوله تعالى: (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ).
جرى مجرى التغليظ والتشديد في العبادة، والمراد بذلك زوال الثواب الذي كان قابلا لأن يحصل له إذا حصل هذه الأمور ولاسيما على مذهبنا أن النكاح مندوب إليه، فهو لما حصل في الإسلام وهيئت له أسباب هذا الثواب بذكرها والأمر بها، فكأنه فعلها وكأنها حاصلة ثابتة، فأشبه قوله تعالى: (يُخرِجُهُمْ مِنَ الظلُمَاتِ إِلَى النورِ) ولم يكونوا في النور [قط*].
ابن عرفة: فيها دليل على أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، قال: ومعناه إذا أردتم القيام إلى الصلاة وهذا هو دلالة اللفظ بنحو الخطاب، وعلى هذا فالمراد بالقيام إليها نفس فعلها لَا التهيؤ لها فإن أريد التهيؤ لها لم يحتج إلى إضمار أردتم، وقيل: إذا قمتم محدثين، وقل: من النوم فيدل على تناول ذلك الأمر للحدث من باب أحرى.
قال ابن عطية: وهذه الآية سبب في التيمم، ورده ابن عرفة: باحتمال أن يكون ما بعث أبي بكر لعائشة وضربه لها، وقوله لها: أقمت بالنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - على غير ماء وليس عندم ماء لأجل الشرب ولأجل الوضوء، فقد يكون عندهم ماء يسير جدا.
قيل لابن عرفة: قول فَقَالَ أُسَيْدِ بْنُ الحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ بعد نزول هذه الآية، دليل على أن السبب كان لأجل للتيمم.
قوله تعالى: (بِرُءُوسِكُمْ).
قال ابن جني - أنكر نحاة [أَكْثَرُ النُّحَاةِ يُنْكِرُونَ أن تكون*] (١) الباء للتبعيض، فإن قيل: ما معناها، إذا قلنا [هي للاستعانة*] الداخلة على الأدلة دخلت على الأيدي؟؛ ثم حذفت الأيدي وبقيت الباء دليلا على المحذوف فاتصلت بالمفعول، والتقدير: امسحوا بأيديكم رءوسكم، وقال بعضهم: الرأس الحد والممسوح الأيدي، وإنما يجب مسح قليل الأيدي بالرأس، وهو بعيد؛ لأنه يلزم عليه أن يكون في اليد فرضان الغسل والمسح، ويلزم أيضا الأيدي بعد الرأس من الفروض، وهو لدلالة لَا يقيد التصرف بها فرضا مستقلا.
قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا)،
قال ابن عطية: الجنب مأخوذ من الجنب؛ لأنه [يمس*] جنبه جنب امرأته في
قوله تعالى: (أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ).
قال ابن رشد. الملامسة إنما تكون عن قصد؟ فلذلك يقال: تماس الحجران، ولا يقال: تلامس الحجران.
ورده ابن عرفة بأن ذلك هو القصد إلى اللمس، وكلامنا هنا إلى القصد في اللذة فهو المشروط في الملامسة،
قوله تعالى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً).
[مَن في يديه نجاسة] (٢)، وعنده من الماء ما يكفيه لوضوئه أو لغسل النجاسة أنه لَا يجزئه التيمم؛ بل يتوضأ به.
قيل لابن عرفة، لما كانت النجاسة في يديه استحقت ذلك الماء، فكأنه [فاقد*] للماء، فقال: ينبغي له أن لَا يتيمم حتى يغسل بذلك [الماء*] (٣)؛ ليكون حينئذ المتيمم [فاقدا*] (٤) للماء، وأما أن يتيمم قبل غسلها، ففيه نظر.
قوله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ)
فيها دليل على إباحة التيمم للحاضر إذا خاف على نفسه من مس الماء من برد ونحوه؛ لأن فيه حرجا ومشقة.
قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ... (٧)﴾
ابن عرفة: أفرد النعمة وهي نعم متفاوتة.
(٢) تم حذف هذه العبارة [يوجد أن] ليستقيم المعنى. والله أعلم. اهـ (مصحح نسخة الشاملة).
(٣) تم جبر السقط باجتهادٍ مني، وأسأل الله تعالى الصواب. اهـ (مصحح نسخة الشاملة).
(٤) تم جبر السقط باجتهادٍ مني، وأسأل الله تعالى الصواب. اهـ (مصحح نسخة الشاملة).
قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ).
ابن عرفة: أفرد النعمة وهي نعم متعددة؛ لعجز البعض عن الشكر على النعم بل عن النعمة الواحدة، فلا يستطيع أحد أن يؤدي الشكر على نعمه المتعددة، فالتكليف بالشكر على النعم تكليف بالمحال المتعذر عادة، أو المعنى المشتق.
قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ).
على حذف مضاف تقديره: اتقوا عذاب الله، واتقوا حال ميثاق الله، أو نقض ميثاق الله، فإن قلت: ذكر النعمة مناسب لما سبق، من قوله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) فما مناسبته الميثاق، قلنا: إنما ذكره تنبيها للعبد أن يستحضر ما أخذه عليه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من التكاليف الشرعية أمرا ونهيا فيعمل بمقتضاها.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
ولم يقل: إن الله عالم، إما لكون هذا المعلوم فيما اختص به ولم يشاركه فيه أحد غيره، أو لعموم علمه وخصوص علمنا نحن.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (٨)﴾
قال ابن عرفة: وقال في النساء (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ)، وأجيب بأن هذه الآية المتقدم حقوق الله عز وجل، وهي اذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه، والأمر بالتقوى، فناسب تقديم اسم الله تعالى، وهناك المتقدمات حقوق للآدميين كقوله تعالى: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا)، وقوله سبحانه وتعالى (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ) فناسب البداية بالقسط.
قال ابن عرفة: وتقدمنا نحن الجواب في ميعادنا أن هذه السلام بأن ابن التلمساني ذكر في شرح المعالم الدينية لما تكلم على النظر أن العلل أربعة: أحدها: العلة المادية، والعلة العادية، فالعلة المادية يعلل بها الأمر المحسوس الظاهر، والعادية
قوله تعالى: (هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى).
ابن عرفة: أقرب هنا بمعنى قريب بأنه لَا مشاركة بين العدل والجور في القرب للتقوى بوجهه ويؤخذ من الآية إذا تعارضت صفتان فترجح التي هي أعدل.
قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
وقال مثله (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) هل هما بمعنى واحد أو بمعنيين.
قال ابن عرفة: وتقدم لنا أنهما بمعنيين، فالأولى راجعة إلى علمه بالأمر الحالي، وهذه راجعة إلى علمه بالأمر الماضي؛ لأن خبيرا مشتق من الخبر، والخبر في الغالب إنما يكون عن الماضي لَا عن المستقبل بدليل إذا نظرنا ما سمع أحدنا من الأخبار فنجد أكثرنا يسمع منها المخبر عن ما مضى وخبر المستقبل يدل بالنسبة إلى الماضي، قيل له: ويتناول هذا المستقبل، لقوله (تَعْمَلُونَ) فقال: المستقبل إذا قدرنا وقوعه بما مضى منه وانقطع خبره وما بقي دائما حاليا فهو عام، قال ابن عرفة: وهذه الآية أبلغ من جهة أن مادة الخبر تقتضي الماضي، وقوله (بِمَا تَعْمَلُونَ) فمستقبل، فهو يتناول الماضي والمستقبل.
وقوله تعالى: (عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ).
إنما يتناول الحال فقط لكنه أبلغ من جهة تعلقه بالمعنى وهو ما في الصدور، وخبير بما تعملون إنما يتعلق بالأعمال المحسوسة الظاهرة، قيل لابن عرفة: قد قال الفخر: أن النية عمل واستثناء، من قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "إنما الأعمال بالنيات".
قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ... (٩)﴾
ابن عرفة: اختلفوا في الوعد على ثلاثة أقوال، فقيل: الوعد أعم يطلق على الخير والشر، وقيل: الإيعاد أعم والصحيح أن الوعد في الخير، والإيعاد في الشر.
قوله تعالى: (مَغفِرَةٌ).
ابن عرفة: فيه إشارة إلى أن وجود السيئات لَا تنافي ثبوت الحسنات، قيل له: إنما خالف المعتزلة في الكبائر، فقد يقال: أن المغفرة راجعة للصغائر، فقال: ألم أقل أن فيها حجة على المخالف وإبطالا لمذهبه، وإنما قلت: أنها دالة على أن مطلق السيئات لَا تنافي وجود الحسنات، ابن عرفة: فإِن قلت: لم قال (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) ولم يقل: مغفرة عظيمة؟ قال: فعادتهم يجيبون بأن ذلك إشارة إلى الحضّ على تكثير الأعمال الصالحة وتقليل السيئات، لأن كثرة الأجر والثواب يشعر بكثرة الحسنة، وتقليل المغفرة يشعر بقلة سبب متعلقها، ولو قيل: مغفرة عظيمة لأوهم كثرة الذنب المغفور بها.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا... (١٠)﴾.. لما قال: (وَكَذَّبُوا)؛ لأن الكافر على قسمين: جاهل بالآيات، وكافر كفر بعد وضوح الآيات والمعجزات الدالة على صدق الرسول، كما أن العاصي في التعامل بالربا وأكل مال الغير على قسمين: فواحد يعلم أنه حرام ويقدم عليه، وآخر يجهل ذلك.
قوله تعالى: (أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ)
الإشارة بلفظ الخبر للتعظيم في بابه.
قيل لابن عرفة: احتج بعضهم على المعتزلة في أن اسم الإشارة يقتضي الحصر، فدل على أن العاصي غير محله في النار؛ لأن المبتدأ منحصر في الخبر، فرده ابن عرفة بأن الخبر منها أعم من المبتدأ، ولفظ [الصحبة*] الصحيح عند المحدثين أنه لَا يصدق على من لازم صاحبه منهم أصحاب الجحيم الملازمين له فلا ينافي أن يكون غيرهم يدخل الجحيم ولا يدوم مكانه فيه.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ... (١١)﴾
قدم هنا المجرور على المفعول به، ثم قال (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) فقدم المفعول به على المجرور، فالجواب أن الآية خرجت مخرج التسلية للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والامتنان على المؤمنين بأن الله تعالى لم يخذلهم ولم يمكن عدوهم منهم، وذكر مها جملتان: أحدهما محكية عن الكفار وهي مثبتة، فكان الأعم فيها تقديم الممنوع لَا تقديم الممنوع منه.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ... (١٢)﴾
ابن عرفة: قالوا: وقعت قضية بني إسرائيل في القرآن مكررة مرتين وثلاثة، لوجهين:
أحدهما: أنهم أهل كتاب فهم علماء وغيرهم بالنسبة إليهم عوام فكرر خطابهم؛ لأن خطاب العلماء يدخل في ضمنه العوام، قلت: واجتنابهم لأجل علمهم.
الثاني: إذا علم من خالفهم أنه يعلم صحة دعواه أوقع ذلك في نفسه انفعالا وتأثرا وتأسفا وحزنا بخلاف إذا لم يعلم منه ذلك وجهله وهؤلاء علماء وكتابهم أشمل على صحة رسالة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومخالفتهم للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والنصارى كانوا ببلد بعيد عنه. توقع في نفسه حزنا وتأسفا، فجاءت الآية تسلية له، فإن قلت: هلا خوطب بها النصارى؛ لأنهم أهل كتاب أيضا، قلنا: اليهود أقرب لمحل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والنصارى كانوا ببلد بعيد عنه.
قوله تعالى: (مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ).
أضيف الميثاق هنا إلى من هو عليه، وقال قبله (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ) فأضاف الميثاق إلى من هو له.
التفات وانتقال من الغيبة إلى المتكلم، وقوله تعالى: (وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) قال ابن عطية: النقيب هو كبير القوم القائم بأمورهم، وقيل: هو الموالي عليهم، وقيل: هو الوالي عليهم من تحت السلطان الأعظم.
ابن عرفة: وحكى لنا القاضي ابن عبد السلام أن الفقيه أبا القاسم ابن السيرافي لما ولي القضاء والتدريس على مدرسة الشماعين ودخلها جعل يسأل عن مجليها وألقابها، فقيل له: فيها الإمام، فقال الطلبة كلهم عدول من حضر منهم يوم قيل له وفيها الوفاد، قال: لَا حاجة إليه من أتى يشعل الفتيلة يشعل القنديل، قيل له: وفيها النقيب، فقال: إنما كانت النقباء في بني إسرائيل فهذا إسراف في الحبس، فأنكر ذلك عليه الطلبة وردوه بكلام ابن عطية هنا.
قوله تعالى: (وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ).
أي بعلمه وإحاطته وقدرته، وهذا وقع في القرآن في ثلاث آيات: إحداها هذه، والثانية: قوله تعالى في (طه) لموسى وهارون (قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، والثالثة: في المجادلة (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) إلى قوله تعالى: (هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) هي في الآيتين الأولتين معية حفظ ونصر، وفي المجادلة معية إحاطة واطلاع على أعمالهم ليجازيهم عليها.
ابن عرفة: واعتمد بعض النَّاس [ممن*] عليه حلية الفقراء، أن المعية بعلمه وذاته المنزهة عن [... ]، فأنكرت عليه التصريح بذلك للعوام، وإن كان صحيحا في نفسه، ومثلت له ذلك برجلين أعجميين أبكمين عاقلين يجتمعان في مجلس وهما في الحقيقة مفترقان، بخلاف رجلين صحيحين، فكل واحد منهما صحب الآخر بفهمه وعلمه، وإن كان بعيدا عنه، وقد تأول المقترح.
قوله تعالى: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ).
قوله تعالى: (وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي).
أخر الإيمان في اللفظ، وهو مقدم على الصلاة والزكاة لهم أرسلت إليهم رسلا كثيرة فهو إشارة إلى أنكم لَا تنكروا رسالة رسول يأتي ينتج ما أنتم عليه من إيمان كان قبله.
قوله تعالى: (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ).
التعزير من أسماء الأضداد، يطلق على التعظيم، وعلى التحقير، ومنه تعزير القاضي لأحد الخصمين.
قوله تعالى: (وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا).
قال: القرض حقيقة عرفية في المال، ويحتمل هنا حمله على حقيقته العرفية بأن يحمل على الصدقة بالمال أو عليها، أو على جميع الطاعات من الجهاد، والحج، وغير ذلك.
قوله تعالى: (حَسَنًا).
وصفه بالحسن إما باعتبار ذاته فهو حلال لَا خبث فيه، أو باعتبار سلامة صاحبه من الرياء، وكونه يفعله ليذكر بالصلاح والخير.
قوله تعالى: (فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ).
قال ابن عرفة: منهم من رجح كون من موصولة؛ لأن الجملة الجملية أصل للشرطية، ومنهم من رجح كونها شرطية؛ لأن الموصول يقتضي ثبوت الموضوع، والشرط لَا يدل على ثبوت المشروط، ولا على عدمه، قال الله تعالى (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) والمراد هنا الإبعاد عن الكفر لا ثبوته.
قوله تعالى: (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).
قوله تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ... (١٣)﴾
ابن عرفة: ما زائدة للتأكيد، والزائد في القرآن كله لمعنى فهي نائبة مناب تكثير اللفظ أي فبنقضهم ميثاقهم.
قوله تعالى: (لَعَنَّاهُمْ).
قال الزمخشري: أي طردناهم وأخرجناهم من رحمتنا، وقيل: مسخناهم، وقيل: ضربنا عليهم الجزية. ابن عرفة: قوله: (مَسَخْنَاهُم) بأنه معنى يرجع إلى معنى الظرف ويكون المسخ في القرآن أي بسبب تعذيبهم في السبت، قال الله تعالى (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) وليس سببه نقضهم الميثاق.
قوله تعالى: (قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ).
ابن عرفة: فيها دليل لأهل الظاهر، وأجيب بأنا لَا نخرج اللفظ عن ظاهره إلا بدليل فلم يحرفه عن مواضعه، وإنما فيها رد على الباطنية، قالوا: وفيها رد على الصوفية الذين يحملون الألفاظ على خلاف غير ظاهرها، وأجيب بأنهم لَا يخرجونها عن الظاهر بالكلية بل يبقونها على ظاهرها ويريدون لها معنى آخر، يقولون: يحتمل أن يراد بها كذا، قالوا: وفيها دليل للمرجئة الذين أخذوا بظاهر حديث: من قال
قوله تعالى: (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ).
قال ابن عرفة: النسيان بمعنى الترك، وترك الشيء تارة يكون عمدا مع العلم، كقوله تعالى: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم)، وتارة يكون عن الذهول عنه.
قوله تعالى: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ).
قال ابن عرفة: العفو عنده هو ذكر الذنب للمذنب مع عدم المؤاخذة به من أضل فالعطف تأسيس.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى... (١٤)﴾
ابن عرفة: هذا إما معطوف علىِ قوله (مِنهُم) من قوله (خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) فيكون من عطف المفردات، ومتعلق بـ (أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ) فيكون من عطف الجمل، وأتى بقوله (إِنَّا نَصَارَى) منسوبا إليهم توبيخا لهم وتنبيها على كذبهم في مقالته لاقتضائه نصرة دين الله وهم لم يفعلوا ذلك.
ابن عرفة: والضمير في: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ) على أن العداوة لم تكن من أحدهم وإنما كانت من المجموع، والضمير في قوله تعالى: (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ) كله.
قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا... (١٥)﴾
قال ابن عطية: الرسول إما موسى، أو محمد صلى الله عليهما وعلى آلهما وسلم.
ابن عرفة: إن أريد به موسى فأهل الكتاب اليهود، وإن أريد به محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهم اليهود والنصارى.
قال ابن المنير، وغيره: معناه أن الآيات التي أخبر بها قسمان فما يرجع منها إلى الأحكام بينه، أما وما يرجع إلى القصاص ونحوها أبقاه دون بيان، ولم يفضحهم فيه، فتعقبه ابن عرفة: بأنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يترك شيئا من الوحي، وكل ما أنزل بلغه لنا ببينة، قال: وإنما المعنى أن الآيات التي أخفوها واقعا في كتبهم وبين بعضها، أما ولم يبين أنهم أخفوه وأنه في كتبهم، والمراد بالعفو عن كثير ترك فضيحتهم في ذلك، وليس المراد بالعفو عدم البيان إذ لَا يصح أن يقال فيما لم يبينه أنه عفا عن كثير.
قوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ).
قرينة دالة على أن الضمير في (يَعْفُو) عائد على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ لو كان عائدا على الله تعالى لقال: قد جاءكم منه نور وكتاب مبين.
قال ابن عرفة: والنور إما للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والكتاب المبين القرآن، وإما أن النور الكتاب، وقوله (وَكِتَابٌ مُبِينٌ) من عطف الصفات، فوصف الكتاب بكونه نورا وبكونه مبينا.
ابن عرفة: وفي الآية على ما فسرته أنا اللف والنشر، فالنور راجع لقوله (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ)، وقوله (وَكِتَابٌ مُبينٌ) راجع لقوله تعالى: (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)؛ لأن النور كاشف لما وراءه فكشفَ باعتبار معناه، وباعتبار محله، وكونه في كتبهم وأخفوه، وكونه كتابا مبينا إشارة إلى استبانة معناه فقط.
قوله تعالى: ﴿يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ... (١٦)﴾
ابن عرفة: المراد الهداية الأعمية وهي التمكن من الشيء، قال تعالى (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، أو الهداية الأخصية فإن أريد الأخصية وهي الإرشاد إلى طريق الحق لزم تحصيل الحاصل؛ لأن تتبع الرضوان هذا فلا فائدة في هدايته، قال: وأجيب بكون المعنى أن من اهتدى للإيمان ببعض الرسل وعمل بما علم من شريعته، ثم أرسل إليه رسول آخر، فإن الله تعالى [... ] حصل عنده من العلم إلى الإيمان بهذا الرسول الثاني، وأن شريعته ناسخة لشريعة الرسول الذي كان قبله، فهي هداية أخصية مقولة بالتشكيك.
قال ابن عرفة: فإِن قلت: هذا مشكل بما أجاب به الزمخشري، في قوله تعالى: في الأنعام (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) قال: إنما أفرد النور وجمع الظلمات؛ لأن طرق الضلالة متعددة، وطريق الحق واحد، وهنا ينبغي تعدد طرق الحق، فأجاب ابن عرفة: بأن طرق الحق إن تعددت فهي موصلة لشيء واحد، وطرق الضلال إذا تعددت توصل إلى ضلالات متعددة؛ لأن أنواع الكفر متعددة كاليهود والنصارى والمجوس وغيرهم.
قيل لابن عرفة: ما أفاد قوله تعالى: (وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) بعد قوله تعالى: (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) فأجاب بأن قواعد العقائد متعددة منها الإيمان بوجود الله تعالى، والإيمان بوحدانيته، وما يجب له وما يجوز له وما يستحيل في حقه، والإيمان ببعثه الرسل وكل ما جاءوا به، وبالمعاد والحشر والشر، فأفاد هذا الإيمان بالفروع، وأفاد الأول الإيمان بالصانع وبنفس رسالة الرسل.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ... (١٧)﴾
قال ابن عرفة: انظر إلى حيث مقالتهم كيف أتوا باللفظ الأبلغ من ثلاثة أوجه؛ لأن قولك: الخليفة أبو بكر أبلغ من قولك: أبو بكر الخليفة؛ لاقتضائه حصر الخلافة في أبي بكر.
الثاني: البناء على الضمير.
الثالث: التأكيد.
قوله تعالى: (قُل فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيئًا).
ابن عرفة: الفاء جواب شرط مقدر، أي إن كانوا ما قالوه حقا فمن ملك من الله شيئا، وهذا استدلال بمقدمة إما جملية، وإما شرطية فتقدير الجملية: كل قابل للهلاك غير الله والمسيح ابن مريم قابل للهلاك فليس بإله، وتقدير الشرطية: كله ما كان المسيح ابن مريم قابلا للهلاك كان غير إله فالمقدم حق فالثاني حق فالملازمة صحيحة.
قوله تعالى: (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا).
قوله تعالى: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
كالدليل على الدليل أي الدليل على أن الله تعالى هو الملك القادر عليهم أنه ملك جميع من في السماوات ومن في الأرض.
قوله تعالى: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ... (١٨)﴾
أي قالت اليهود: ونحن أبناء الله لَا غيرنا، وقالت النصارى: نحن أبناء الله لا غيرنا، فكل طائفة كذبت الأخرى في مقالتها، لأنهم أتوا بأداة الحصر وهي البناء على المضمر.
قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ... (١٩)﴾
ابن عرفة: اختلفوا هل خلا العصر من سمْعٍ أو لَا؟ حكاه ابن رشد والمازري من كتاب الجهاد، والآية دالة على أنه لم يخل من سمع، لقوله تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ) فلو خلا من سمع لما كانوا أهل الكتاب.
قوله تعالى: (أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ).
إن قلت: أول الآية مناقض لآخرها فأولها يقتضي أنهم أهل كتاب، فقد جاءهم البشير والنذير، فكيف يقال: إنه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم جاءهم ليلا، يقولوا: ما جاءنا من بشير ولا نذير، قال: والجواب أنه إشارة إلى مغالطتهم، وأنهم لو لم يبعث إليهم محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأنكروا بعث الرسل؛ لأن إنكار الإنسان لما هو غائب عنه لم يتوصل إليه بالسماع أشد وأقرب من [إنكاره*] لما هو حاضر بين عينيه، يشاهده ويراه في كل وقت.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ... (٢٠)﴾
زاد هنا (يَا قَومِ)، وفي سورة إبراهيم (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) فأسقط هنالك يا قوم.
قال ابن عرفة: وسبب ذلك أن التكليف إن كان بأمر خفيف لم يقع فيه إطناب ولا تأكيد، وإن كان بأمر مشق أتى فيه بالنداء، كما إذا أراد الأب من ابنه أمرا مشقا، فإنه يقول له: يا ولدي، افعل كذا بخلاف ما إذا كلفه بأمر خفيف فإِنه لَا يناديه كذلك، قلت: وأجاب أبو جعفر بن الزبير بأنه اعتمد في الفائدة على تذكيرهم بأنواع النعم من جعل الأنبياء فيهم وجعلهم ملوكا، وإعطائهم ما لم يعط غيرهم، وكان ذلك تشريفا باعتناء الله بهم وتفضيلهم على من عاصرهم، فناسب نداء موسى لهم يا قوم فالإضافة إلى ضميرهم إشعارا بالقرب والمزية، ولما اقتصر في سورة إبراهيم على تذكيرهم فنجاتهم من آل فرعون، وما كان يتوهم فيمن ذبح ذكور أبنائهم، واستحيا بناتهم ولم يذكر منها شيء من هذا فناسب الاقتصار على خطاياهم دون النداء يا قوم.
قوله تعالى: (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ).
قال ابن عرفة: إن أريد بالمؤتى الأنبياء فالعالمين عام في النَّاس كلهم، أي وأرسل إليكم من الأنبياء ما لم يرسله لأحد من العالمين، وإن أريد بالمؤتى المعجزات فالعالمين هم عالمون زمانهم؛ لأن معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعظم من معجزات موسى، وأتى بقوله (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) قال ابن عرفة: أتى به غير معطوف لمغايرة هذه الجملة لما قبلها، فالأول خبر وتذكير بنعم الله عليهم، وهذه تكليف وأمر لهم، وتقدير هذه الأرض إما في الدنيا بكثرة خيراتها ونعيمها، وإما في الآخرة بكثرة ثواب الأعمال فيها؛ لأن فيها بيت المقدس.
قوله تعالى: ﴿التِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُم (٢١)﴾
تحريض وحث على دخولها بمعنى أنكم لَا بد لكم من دخولها؛ لأن ذلك مقدر عليكم مكتوب في علم الله تعالى.
قوله تعالى: (وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) لما كانوا في مقام الامتنان بهذا فكانوا حاصلون فيه، فإن لم يمتثلوا صاروا كأنهم ارتدوا على أدبارهم.
ابن عرفة: انظر إلى شدة هلعهم وخوفهم وتكاسلهم وعدم وثوقهم بما وعدهم موسى من أنهم لو مضوا إليها [لدخلوها حتما، وظفروا*] بأهلها، فجعلوا المانع لهم من دخولها وجود مطلق قوم جبارين فيها فضلا عن أن يكون أهلها كلهم جبارين حتى عرض منها بالغوا في الامتناع من الدخول بنفيهم الدخول بكلمة لن [وجعلوا النفي مغيا*] بحتى المقتضية لدخول ما بعدها فيما قبلها، فإِن قلت: ما أفاد قوله تعالى: (فَإِن يَخْرُجُوا) مع أن مفهوم [الجملة الغائية*] تقتضيه؟ فالجواب: أنه أفاد تأكيدهم دخولهم لها بأن مع الجملة الاسمية المقتضية لكمال دخولهم لها بعد ذلك وثبوته ولزومه.
قيل لابن عرفة: وأراد نفي ما يتوهم من دخول ما بعد حتى فيما قبلها، كما قلتم: أكلت السمكة حتى رأسها فيتوهم أنهم قصدوا نفي الدخول أبدا.
قوله تعالى: ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ... (٢٣)﴾
ولم يقل: ادخلوا إشارة إلى الأمر بقتالهم حتى تهزمونهم فيلجأون إلى باب المدينة فيدخلون عليهم.
قوله تعالى: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ... (٢٨)﴾
قال الزمخشري: هلا اكتفى بجواب الشرط منفيا بلفظ المستقبل؛ كما أتى في الشرط مثبتا بلفظ الفعل، وأجاب بجواب لَا [ينهض*] وهو أن قال: إنما جاء هكذا ليفيد أنه لَا يفعل ما [يكتسب*] به هذا الوصف [الشنيع*]، ولذلك أكده باللام المؤكدة للنفي، وأجاب ابن عرفة بوجهين:
الأول: أن الأمر الثابت الواقع لَا يندفع إلا بالأمر القوي البليغ، ونفي بسط اليد للقتل يتقرر ثبوته بأحد أمرين:
أحدهما: نفي بسط اليد من أصل الكف، والمدافعة [... ] عن بسطها للقتل فنفاهما بالأمر الأبلغ ليثبت نقيضه، وهو قتل أخيه إياه.
الوجه الثاني: أنه نفى بسط يده إليه ليقتله فلذلك نفاه بالاسم، ونفى بسط يده إليه ليكف عن نفسه ويدافعه إشعارا بأنه لَا يقتله.
قوله تعالى: (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).
قوله تعالى: ﴿فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ... (٣٠)﴾
وقرئ فطاعت له نفسه فقراءة (طوعت) يقتضي أن نفسه سولت له القتل، وقراءة (طاعت) تقتضي أن القتل حمل نفسه على اقتحامه ودعاها إليه فانطاعت له.
قوله تعالى: (فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
أي صار، ابن عطية: أقيم بعض الزمان مقام كله، وخص الصباح به؛ لأنه أول النهار والانبعاث إلى الأمور ومظنة النشاط، ورده أبو حيان بأنهم جعلوا أضحى، وظل، وبات بمعنى صار وليس شيء منها بدأ النهار، فكما أجريت هذه مجرى صار كذلك أصبح لَا للعلة التي ذكر ابن عطية، وأجاب السفاقسي في كلام ابن عطية ما يدل على منع استعمال غيرها بمعنى صار بل ذكر توجيها حسنا لبقاء أصبح على معناها من الزمان من أنها يجوز لها إلى استعمالها في كله من باب استعمال جزء في الكل، وهو أحسن من استعمالها بمعنى صار، لأنه إخراج لها عن معناها بالكلية، ورده شيخنا ابن عرفة [باحتمال*] أن يكون من استعمال اللفظ المشترك في أحد مفهوماته] ولا خلاف في أنه حقيقة لَا مجازا، وقد صح استعماله أصبح بمعنى صار.
قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي... (٣١)﴾
الجمهور بنصب الفاء عطفا على قوله (أَن أَكُونَ) وقال الزمخشري: إنه منصوب على جواب الاستفهام، ورده أبو حيان بأن شرط ما ينتصب جوابا بعد الفاء بأن يستند منه مع ما هو جواب له شرط وخبر، كقوله تعالى: (فَهَل لَنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشفَعُوا لَنَا) أي أن يكون لنا شفعاء فيشفعوا لنا، ولو قلنا هنا: إن عجزت أن أكون مثل هذا الغراب أواري سوأة أخي لم يصح، وأجاب ابن عرفة بأن ما هو في سياق الاستفهام كالاستفهام، وما هو في سياق الشرط كالشرط، وإنما التقدير هنا: أن أكون مثل هذا الغراب أواري سوأة أخي.
قوله تعالى: (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ).
قال أبو حيان: قبله جملة محذوفة أي: يواري سوأة أخيه فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ.
ابن عرفة: كتب عليه قبلهم لَا حاجة إلى هذا الإضمار؛ لأن ندمه ليس هو على المواراة إنما هو على قتله أخاه وحمله إياه على عاتقه عاما كاملا وهربه حتى بعث الله إليه الغراب، فالمراد إزالة الندم؛ لأنها سبب فيه، وأجاب بعضهم بما قال الزمخشري
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... (٣٣)﴾
قال ابن عرفة: أي يحاربون عباد الله فهو على حذف مضاف، أو يكون عبر باسم الله تعالى على عباده تشريفا لهم وتعظيما لهم؛ لأجل محاربتهم لهم فيكون مجازا فيتعارض المجاز والإضمار، وفيها ثلاثة أقوال ثالثها لرضي الدين النيسابوري: أنهما سواء، ابن رشد: محاربة الله ورسوله عصيانهما بإضاقة السبيل هو السعي في الأرض فسادا هو المراد بعينها، ولكنه كرر تخيير لفظه تأكيدا وتعجبا، كقوله تعالى: حكاية عن يعقوب عليه السلام (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ) والبث والحزن شيء واحد، وكقول الشاعر:
وهند أتى من دونها النأي والبعد
المحاربة مع الرسول ممكنة، ومحاربة الله لَا تمكن؛ فيحمل على أولياء الله، فيكون [يحاربون*] [قولا*] على الحقيقة والمجاز معا، وهو ممتنع، وأجيب بأن المعنى يخافون أحكام الله ورسوله، ابن عبد السلام: المتقدمون يذكرون الخلاف بين العلماء هل لفظة (أو) فيها [للتخيير] [ولَا ينسبون*] إلى مذهب التخيير وهو كذلك إلا أنهم إذا ذكروا التخيير، يقولون: إن الإمام لم يعين بعض هذه العقوبات بمجرد الهوى، ولكن على قدر الجناية، فيخرج التخيير عن حقيقته فيعود (أو) للتفصيل لبعض الأقوال على [أن*] في الآية ليست في التخيير.
قوله تعالى: (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا).
عطف تفسيري مثل (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ) قال ابن رشد في المقدمات في تلك الآية: أي ويسعون في الأرض فسادا بالحرابة فهو عظف أعم على أخص له ومقيد له لَا أنه يفيد أن السارق يقتل، وأن الظالم يقتل، قال ابن العربي: ووقعت مسألة في محارب حارب قوما وقاتلهم على امرأة ليتمكن من الزنا بها، وأفتى العلماء أنه غير محارب، قال: وهو جهل عظيم بالله وبالمسلمين، كيف يقال: هذا غير محارب مع أن مفسدة الزنا أشد من مفسدة أخذ المال، ورده ابن عرفة: بأنه لو حاربهم لقتلهم فقط لعداوة بينه وبينهم لم يكن محاربا
قيل لابن عرفة: هذا في المعنى فلو كان من شأنه الوقف في الطرقات لمجرد القتل فقط دون أخذ المال فهل هذا محارب، قال: إنما الحرابة القتال لأخذ المال.
قال ابن عرفة: وكان سارق في مدة الأمير أبي بكر سرق من رأس الطابية شيئا فصلبه السلطان معكوسا حتى مات.
قوله تعالى: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا).
قيل لابن عرفة: احتجوا بها على القول بالإحباط، قالوا: المحارب مجزءا ولا شيء من المسلمين بمجزءا فلا شيء من المحاربين بمسلم.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ... (٣٥)﴾
لما تضمن الكلام السابق النهي عن المحارب أتت هذه الآية مشعرة بأنكم لا تنصروا على اجتناب المحرمات فقط بل افعلوا أيضا مع ذلك الأمور التي أمرتم بها لتكون وسيلة عند الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ... (٣٦)﴾
قال الزمخشري: يجوز أن يكون (وَمِثلَهُ) مفعولا معه، والعامل فيه ثبت الرافع؛ (١)، وتعقبه أبو حيان (٢) بأن الضمير في (معه) إن عاد على (ما) [فهو تكرار*] أي مع ما في الأرض معه، وإن عاد على [(مثله) *] كان عيًّا من الكلام؛ لأن المعنى مثل ما في الأرض مع مثله، أي مصاحبا للمثل، فيكون مع مثله، وأجاب المختصر بأنه إذا صحب المثل لوجود ما في الأرض، فقد صحب ما في الأرض؛ لأن وجود الشيء نفسه، قلت: قال ابن القصار: ولو سلمنا أن وجود الشيء غيره فلا يضر؛ لأن المضاف إذا كان جزءا من المضاف إليه أو كجزئه عومل معاملته في الحكم كقوله:
[وَتشرقُ بالقولِ الذي قَدْ ادَعْتهُ... كما شَرِقَتْ صدر القَناةِ من الدَّمِ*]
أبو حيان: وقوله: والعامل فيه ثبت الرافع؛ لأن وصلتها، [وهو*] مذهب المبرد فيما يقع بعد (لو)، وسيبويه يجعل [ما بعد لو*] مبتدأ، قلت: قال ابن القصار: المنقول عن سيبويه غير هذا [... ]
"فإن قلت: لم وحد الراجع في قوله: (لِيَفْتَدُوا بِهِ) وقد ذكر شيئان؟ قلت: نحو قوله:
فَإنِّى وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ أو على إجراء الضمير مجرى اسم الإشارة، كأنه قيل: ليفتدوا بذلك. ويجوز أن يكون الواو في: (مِثْلَهُ) بمعنى «مع» فيتوحد المرجوع إليه. فإن قلت: فبم ينصب المفعول معه؟ قلت:
بما يستدعيه «لو» من الفعل، لأن التقدير: لو ثبت أن لهم ما في الأرض". اهـ (الكشاف. ١/ ٦٣٠).
(٢) النص في البحر المحيط هكذا:
"وَإِنَّمَا يُوَحَّدُ الضَّمِيرُ لِأَنَّ حُكْمَ مَا قَبْلَ الْمَفْعُولِ مَعَهُ فِي الْخَبَرِ، وَالْحَالِ، وَعَوْدِ الضَّمِيرِ مُتَأَخِّرًا حُكْمُهُ مُتَقَدِّمًا، تَقُولُ: الْمَاءُ وَالْخَشَبَةُ اسْتَوَى، كَمَا تَقُولُ: الْمَاءُ اسْتَوَى وَالْخَشَبَةُ وَقَدْ أَجَازَ الْأَخْفَشِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُعْطَى حُكْمَ الْمَعْطُوفِ فَتَقُولَ:
الْمَاءُ مَعَ الْخَشَبَةِ اسْتَوَيَا، وَمَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ كَيْسَانَ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: تكون الواو في:
ومثله، بِمَعْنَى مَعَ لَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ مَعَ مِثْلِهِ مَعَهُ، أَيْ: مَعَ مِثْلِ مَا فِي الْأَرْضِ مَعَ مَا فِي الْأَرْضِ، إِنْ جَعَلْتَ الضَّمِيرَ فِي مَعَهُ عَائِدًا عَلَى مِثْلَهُ أَيْ: مَعَ مِثْلِهِ مَعَ ذَلِكَ الْمِثْلِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى مَعَ مِثْلَيْنِ. فَالتَّعْبِيرُ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى بِتِلْكَ الْعِبَارَةِ عَيٌّ، إِذِ الْكَلَامُ الْمُنْتَظِمُ أَنْ يَكُونَ التَّرْكِيبُ إِذَا أُرِيدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَعَ مِثْلَيْهِ. وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإِنْ قُلْتَ إِلَى آخَرِ السُّؤَالِ، وَهَذَا السُّؤَالُ لَا يُرَدُّ، لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ وَاوَ مَعَ، وَعَلَى تَقْدِيرِ وُرُودِهِ فَهَذَا بِنَاءٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ إِذَا جَاءَتْ بَعْدَ لَوْ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا: لَوْ ثَبَتَ كَيْنُونَةُ مَا فِي الْأَرْضِ مَعَ مِثْلِهِ لَهُمْ لِيَفْتَدُوا بِهِ، فَيَكُونُ الضَّمِيرُ عَائِدًا عَلَى مَا فَقَطْ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ تَفْرِيعٌ مِنْهُ عَلَى مَذْهَبِ الْمُبَرِّدِ فِي أَنَّ أَنَّ بَعْدَ لَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ. وَمَذْهَبُ سيبويه إِنَّ أَنَّ بَعْدَ لَوْ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَالزَّمَخْشَرِيُّ لَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَفِي تَصَانِيفِهِ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَعَلَى التَّفْرِيعِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُبَرِّدِ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وَمِثْلَهُ مَفْعُولًا مَعَهُ، وَيَكُونُ الْعَامِلُ فِيهِ مَا ذَكَرَ مِنَ الْفِعْلِ، وَهُوَ ثَبَتَ بِوَسَاطَةِ الْوَاوِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ وُجُودِ لَفْظِ مَعَهُ. وَعَلَى تَقْدِيرِ سُقُوطِهَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ ثَبَتَ لَيْسَتْ رَافِعَةً لِمَا الْعَائِدِ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ، وَإِنَّمَا هِيَ رَافِعَةٌ مَصْدَرًا مُنْسَبِكًا مِنْ أَنْ وَمَا بَعْدَهَا وَهُوَ كَوْنُ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَوْ كَوْنُ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا لَهُمْ وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى مَا دُونُ الْكَوْنِ.
فَالرَّافِعُ لِلْفَاعِلِ غَيْرُ النَّاصِبِ لِلْمَفْعُولِ مَعَهُ، إِذْ لَوْ كَانَ إِيَّاهُ لَلَزِمَ مِنْ ذَلِكَ وُجُودُ الثُّبُوتِ مُصَاحِبًا لِلْمِثْلِ، وَالْمَعْنَى: عَلَى كَيْنُونَةِ مَا فِي الْأَرْضِ مُصَاحِبًا لِلْمِثْلِ، لَا عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ مُصَاحِبًا لِلْمِثْلِ، وَهَذَا فِيهِ غُمُوضٌ، وَبَيَانُهُ، أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: يُعْجِبُنِي قِيَامُ زَيْدٍ وعمر، أَوْ جَعَلْتَ عَمْرًا مَفْعُولًا مَعَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ يُعْجِبُنِي، لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ عَمْرًا لَمْ يَقُمْ، وَأَنَّهُ أَعْجَبَكَ الْقِيَامُ وَعَمْرٌو، وَإِنْ جَعَلْتَ الْعَامِلَ فِيهِ الْقِيَامَ كَانَ عَمْرٌو قَائِمًا، وَكَانَ الْإِعْجَابُ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْقِيَامِ مُصَاحِبًا لِقِيَامِ عَمْرٍو. (فَإِنْ قُلْتَ): هَلَّا، كَانَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ مَفْعُولًا مَعَهُ، وَالْعَامِلُ فِيهِ هُوَ الْعَامِلُ فِي لَهُمْ، إِذِ الْمَعْنَى عَلَيْهِ. (قُلْتُ): لَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُودِ مَعَهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ سُقُوطِهَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى أَنَّ قَوْلَكَ: هَذَا لَكَ وَأَبَاكَ مَمْنُوعٌ فِي الِاخْتِيَارِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا هَذَا لَكَ وَأَبَاكَ، فَقَبِيحٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِعْلًا وَلَا حَرْفًا فِيهِ مَعْنَى فِعْلٍ حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِالْفِعْلِ، فَأَفْصَحَ سِيبَوَيْهِ بِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ وَحَرْفَ الْجَرِّ الْمُتَضَمِّنِ مَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ لَا يَعْمَلَانِ فِي الْمَفْعُولِ مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ الْمَفْعُولُ مَعَهُ لَخُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَنْسُبَ الْعَمَلَ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ أَوْ لِحَرْفِ الْجَرِّ. وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَفْعُولِ مَعَهُ الظَّرْفُ وَحَرْفُ الْجَرِّ، فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ يَجُوزُ لَوْ كَانَتِ الْجُمْلَةُ خَالِيَةً مِنْ قَوْلِهِ: مَعَهُ، أَنْ يَكُونَ وَمِثْلَهُ مَفْعُولًا مَعَهُ عَلَى أَنَّ الْعَامِلَ فِيهِ هُوَ الْعَامِلُ فِي لَهُمْ". اهـ (البحر المحيط. ٤/ ٢٤٣، ٢٤٤).
ابن عرفة: مذهب أبي حنيفة أن الحر يقتل بالعبد، ويقتل العبد بالحر عملا بظاهر عموم هذه الآية، ومذهب مالك أن العبد يقتل بالحر ولا يقتل الحر بالعبد، لقوله تعالى: (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى) لكن يرد علينا بأن ظاهر الآية أن الأنثى لَا تقتل بالذكرَ ولا العكس فيجيب بالحديث، فإِن قلت: لم خصت هذه الأمور دون اليد وغيرها من الأعضاء؟، قلنا: لشرفها بالنسبة إلى ربها، فإن قلت: لم أفردت هذه الألفاظ وجمعت الجروح؟، قلنا: ظنا لإمكان تعددها في الشخص الواحد بخلاف تلك.
قوله تعالى: (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ).
قرئ بضم النون فأعربه الزمخشري عطفا على الضمير المرفوع في (بِالنفسِ) أي مأخوذة في النفس هي، والعين يكون بالعين حالا، ورده أبو حيان بأنه ضمير رفع متصل فلا يعطفه عليه إلا بعد تأكده، [والفصل*] مثل: [لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا*]، وقال الفارسي، وغيره: لَا وصل فيه ولم يعتبر (لَا)، وأجاب أبو حيان: والمختصر بأنها معتبرة، قلت: وزاد الشيخ أبو العباس أحمد بن محمد ابن القصار في التعقب أنه بعيد من جهة المعنى؛ لأنه يكون المعنى أن النفس مأخوذة هي والعين بالنفس فتكون العين مأخوذة بالنفس حالة كونها قصاصا في العين، ومنهم من يجعلها عطفا على التوهم، وهو أنه يتوهم حذف أن والنفس لمرفوع، ورده أبو حيان بأن العطف على التوهم مخصوص بالشعر، وأجاب الأستاذ أبو العباس ابن القصار، أنهم قالوا في قوله تعالى: (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) بجزم أكن عطفا على أصدق متوهما حذف الفاء وأنه مجزوم في جواب الغرض المضمر معها الشرط، قال ابن القصار: والصواب عندي غير هذا كله، وهو أن يكون (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) منصوب على المفعول، (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) معطوف عليه على سبيل الحكاية، ولم يحكِ الأول؛ لأنه مفرد في المعنىَ تقديره: كتبنا عليهم كون النفس بالنفس، والثاني جملة والحكاية كما تقول: قرأت براءة وقرأت الحمد لله رب العالمين، انتهى.
ولما ذكر أبو حيان قراءة (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) بالرفع إذا اختلف فيه، فقيل: من عطف الجمل فهو على موضع أن، ورده بعدم المجرور، وأجاب ابن عرفة: بأن عطف الجمل لَا يقال فيه على الموضع؛ لأن ذلك جائز بقول: خرج عمرو وزيد قائم، قال: وقيل معطوف على الضمير المرفوع في (بِالنفسِ)، ورده بأنه ضمير متصل فالعطف عليه من غير تأكيد ولا طول لَا يجوز، بخلاف قوله تعالى:
قال ابن عرفة: هذا لَا يصح؛ لأن سيبويه قد قال ويقول: زيد قام هو وعمرو لا يجوز العطف حتى يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، وكلامه يقتضي الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه لَا بينه وبين حرف العطف، وقد وجه السراج لسيبويه العطف إلا بعد التأكيد أو الطول بأن الضمير لشدة اتصاله بالفعل صار كالجزء منه فلم يكن ثم ما يعطف عليه، ولا يشترط الفعل إلا قبل المعطوف لَا قبل حرف العطف، فإن لَا قبل المعطوف بعد ذلك حاصلا لكنه فيه وجه آخر يمنعه، وهو أن يكون أخذ العين بالعين وما بعده مرتبا على قتل النفس بالنفس فإِنه معطوف على ضمير وما هو خبر عنه وليس كذلك، قلت: وقال ابن عرفة في الختمة الأولى: (الْعَينَ بالعَينِ) قيل: حال، ورد أبو حيان بأنها حال لازمة والحال من شرطها الانتقال، وأَجاز ابن عرفة بأن النحاة أجازوا ضربني زيدا قائما، وأكثر السويق ملتوتا، وكلاهما لازمة.
قال ابن عرفة: وإنما رده عندي أنه يقتضي أن العين تبقى بالنفس؛ لأنك إذا قلت: قام زيد في الدار وعمرو، فالمعنى وعمرو في الدار وليس المعنى وعمرو في السوق.
قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
قلت: تقدم لابن عرفة فيها أن هذا أبلغ من أن لو قيل: من حكم بغير ما أنزل الله فإِن الآية تتناول من يحكم بالباطل وحكم بالحق، أو ترك الحكم وانظر هل المراد الحكم اللغوي فيتناول المعنى الظاهر عندي أن هذا الوعيد الخاص إنما هو للحاكم؛ لأنه يجبر الخصم على فعل ما حكم، والحكم به بخلاف المعنى.
قيل لابن عرفة: فمن حكم بالقياس، فقال: هو مما أنزل الله؛ لأنه يستند إلى المتبوع وجاء في الحديث ما يقتضي العمل به، قال أبو جعفر بن الزبير: فيها سؤالان:
الأول: قال في الأولى (فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)، وفي الثانية (هُمُ الظَّالِمُونَ)، وفي الثالث (هُمُ الْفَاسِقُونَ).
الثاني: كيف ورد الأخف بعد الأثقل، وآية الوعيد يقصد فيها الترقي من الأخف إلى الأثقل ثم نقل عن بعضهم أنه أجاب عن الأول بأنه لما تقدمها (فَلا تَخشَوُا النَّاسَ
قوله تعالى: ﴿وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ... (٤٦)﴾
قال السهيلي: إنما [نعتت*] مريم في القرآن [بابنها بخلاف غيرها*]؛ لأن عادة العرب أن يجحدوا أسماء النساء الحرائر غيرة عليهن، ويعينون أسماء الإماء، وكان الكفار يعتقدون في مريم أنها زوجته، وأن عيسى [ولده*]، فعين اسمها رادا عليهم، ونسبها على أنها مملوكة لله عز وجل، فرده ابن عرفة بأن الأمة على نوعين: موطوءة، وغير موطوءة، قال: وإنما الجواب أنها [نعتت*] تشريفا لها.
قوله تعالى: ﴿وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ... (٤٧)﴾
قال ابن عرفة: إن أريد الحكم حقيقة فيكون خطابا للخواص، وإن أريد العمل بذلك فيكون خطابا للعوام.
قوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا... (٤٨)﴾
قال ابن عرفة: يحتمل عندي أن يكون الشرعة الطريق، والمنهاج منهاجها ومقصدها الذي يوصل إليه.
قوله تعالى: (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ).
قوله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ).
أي: ليختبركم فيما آتاكم من الشريعة المنسوخة [فيعكفون عليها*]، ويعتقدون أنها غير منسوخة.
قوله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ).
قال ابن عرفة: المعنى أن كل واحد منهم مكلف بأن سبق صاحبه إلى ذلك، والآخر كذلك، وهذا محال، فقال: السابق في الأمر أحدهما، وفي الظاهر كل واحد منهما يمكن أن يسبق صاحبه، فكلفا معا بما هو ممكن في الظاهر.
قوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ... (٤٩)﴾
قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول معناها: لَا تتبع أهواءهم على البدلية لَا على المعية، أي لَا تتبع أهواء كل طائفة منهم بدلا من أهواء الأخرى. لأن أهواءهم جمع هوى وهو اسم جنس واسم الجنس لَا يجمع إلا اختلفت أنواعه، واتباع الهوى المختلفة غير المعينة جمع بين النقيضين فهو محال، والتكليف بالمحال محال إذ لا يجوز أن يقول لأحد: لَا تكرم زيدا ولا تجمع بين النقيضين؛ لأن ذلك محال.
قوله تعالى: (وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ).
قال ابن العربي: المراد عن كله، رواه ابن عرفة بأن الأمر بالحذر منهم عن الفتنة في البعض يستلزم الحذر عن الفتنة في الكل من باب أحرى.
قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا... (٥٣)﴾
قرأ نافع وابن كثير بإثباتها والرفع، فالنصب عطف على أن يأتي حملا على المعنى، وإلا فلا يجوز عسى أنه إن يقول المؤمنون، وأجاب بأن الله يصيرهم قابلين ذلك ببصره وإظهاره إليه، فينبغي أن يجوز ذلك اعتمادا على المعنى.
قال ابن عرفة: لَا يحتاج إلى تعقبه الأول وأن الذي يبطله أن الجملة المعطوفة ليس فيها مميز عائد على المبتدأ وهو أنه؛ لأنه أصله وأن يأتي خبره، ويقول: معطوف عليه عنده، ورده أيضا بأن هذا القول ليس بعد الإتيان بالفتح ولا يلزم هذا. لأن الواو لا ترتب، حتى حكى ابن يونس في كتابه الإجماع على ذلك.
قوله تعالى: (أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ).
قوله تعالى: (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ).
قلت لابن عرفة: هذا دليل على صحة قول النحاة: أن أصله أن زيدا قائم، ثم والله إن زيدا لقائم سماه الله جهد أيمانهم، وأشار إلى أنه الغاية في ذلك.
قوله تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ... (٥٤)﴾
ليس المحبة الميل وإنما هي بمعنى صفة الإرادة أي من يذمهم الخير والرضا وصفة الفعل أن يفعل به الخير، وقال عياض في الإكمال أن محبوبه يصح أن يكون بمعنى الميل؛ لأنه من المخلوق.
ابن عرفة: وكان بعضهم يرده بأنه لَا يمال إلا إلى كمال إليه، والجسم في حق الله تعالى محال.
قوله تعالى: (وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ).
قيل لابن عرفة: لم أفرد اللومة واللائم، والمناسب جمعهما؛ لأن نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، فأجاب بمثل ما أجاب الزمخشري، في قوله تعالى: (وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ) أي معلمين الكلاب إشارة إلى [ضريهم*]، ومعرفتهم بالتعليم، وكذلك هذا إشارة إلى أنهم لَا يخافون لومة لائم الذي يعتبر لومته، وهو الذي له تمييز ومعرفة بحقائق الأمور ومواضع اللوم فيها.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا... (٥٥)﴾
قال ابن عرفة: هذا عندي إشارة إلى الاستدلال بالقرآن ثم بالسنة ثم بالإجماع.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (٥٦)﴾
قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: في هذا مقدمة مضمرة، ويجعله من القياس الشرطي الاقتراني، مثل قوله تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) والتقدير: من يتول الله ورسوله فهو من حزب الله، وكل من هو من حزب الله غالب، ومن يتول الله ورسوله غالب وإن لم
قوله تعالى: ﴿وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا... (٦٤)﴾
قال ابن عرفة: هذه الآية تدل على أن ارتباط الدليل بالمدلول مادي لَا عقلي، إذ لو كان عقليا لما تخلف.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ... (٦٧)﴾
ابن عرفة: ذكر الرب هنا مناسب على قاعدة أهل السنة في أن بعثة الرسل محض تفضل من الله تعالى.
قوله تعالى: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ).
فيه إشكال من ناحية أن الجواب غير الشرط، إذ لَا يجوز أن يقال: إن لم يقم زيد لم يقم زيد، وأجيب بأربعة أوجه، ذكر أبو حيان منها ثلاثة:
الأول: أن المراد إن لم تبلغ الجميع وبلغت البعض فإنك لم تبلغ شيئا، ورده الرازي بأنه يلزم عليه الخلف؛ لأن المبلغ للبعض قد بلغ، وأجيب بأن المراد الحكم بالتبليغ لَا نفس التبليغ أي إن لم تبلغ الجميع، وتركت البعض فإنك محكوم عليك بأنك لم تبلغ شيئا.
الجواب الثاني: أن المراد بذلك التعظيم والتفخيم، مثل: أنا أبو النجم وشعري شعري أي وشعري شعري المشهور للتعظيم، ابن عرفة: وكان بعضهم يتم تقريره هذا أحرى في التعظيم والتفخيم؛ لأن الجملة الابتدائية لَا تتركب من المحال بوجه، وجملة الشرط قد تركبت من المحال؛ لأن المحال قد يستلزم محالات مثل (لَو كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) فإذا حصل الشرط بعينه جوابا انتفى توهم احتمال كون الشرط محالا، فأفادت إعادته تحقيق كون الشرط ثابتا ممكنا ليس بمحال، فإذا جاز إعادة المبتدأ بعينه، فأحرى أن يجوز إعادة الشرط بعينه.
الجواب الثالث: أنه من إقامة السبب مقام سببه، أي فإن لم تفعل فليس لك ثواب؛ لأنك لم تبلغ شيئا، أي وإن بلغت البعض ولم تبلغ الجميع فليس لك ثواب في
الجواب الرابع: قال ابن عرفة: كان بعضهم يجيب بأن المراد بما أنزل الله القرآن؛ لأنه رأس المعجزة، ودليل عليها وما سواه من المعجزات كلها مستند إليه ومدلولات له.
قوله تعالى: (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ).
أي: فإن لم تبلغ القرآن وبلغت ما سواه من المعجزات فلم تبلغ شيئا، وأخذوا من الآية صحة الدعاء بها؛ لأن المفسرين نصوا على أنه لم يكن معصوما قبل نزول هذه الآية، وعصم بعد نزولها مع إجماع النَّاس على أنه معصوم قبلها وبعدها، فدل على أن العصمة مقولة بالتشكيك، فالعصمة التي أعطي بنزول هذه الآية هي المنع من إذاية النَّاس له، والعصمة التي اختص بها مطلقا إنما هي أخص من هذه، فيصح الدعاء بها بالمعنى الثاني هو مطلق المنع، قالوا: والمراد بالنَّاس الكفار فهو عام مخصوص.
ابن عرفة: لَا مانع من أن يراد به العموم فيمكن إذاية المسلمين له كأبي بكر وعمر لكن على سبيل الخطأ، كما يضرب أحدنا طائرا فتصادف الضربة زيدا فالمراد عصمته من الإذاية وغير المقصودة.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ).
قالوا: الألف واللام إما للجنس وهو عام مخصوص.
قيل لابن عرفة: أو باق على عمومه بناء على أن العام في الأشخاص مطلق في الأزمنة والأحوال كخالد بن الوليد فإنه كان حينئذ كافرا ثم أسلم بعد ذلك، فقال: يلزمك تحصيل الحاصل إن الله لَا يهدي القوم الكافرين.
قال ابن عرفة: أو تكون الألف واللام للعهد، والمراد بها من علم الله أنه لا يؤمن.
قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ... (٦٨)﴾
قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إن قلنا: إن العموم شرعا كالعموم جنسا لم يحتج إلى إضمار الصفة، وإن قلنا: إن العموم شرعا ليس كالعموم جنسا فلا بد من إضمار صفة تقديرها: لستم على شيء معتبر؛ لأنه شيء غير معتبر شرعا.
قوله تعالى: (حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ).
قوله تعالى: (طُغْيَانًا وَكُفْرًا).
الطغيان التعنت والعصيان، والكفر العصيان بالاعتقاد.
قوله تعالى: ﴿فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩)﴾
فإن قلت: لم نفي الخوف بالاسم وهو التألم بسبب أمر واقع فيما مضى، والمناسب العكس.
قال ابن عرفة: فالجواب أنه روعي في كل واحد منهما سببه فسبب الخوف مستقبل وهو متقدم عليه، فجعل ماضيا ثابتا واقعا فأتي فيه بلفظة الاسم المقتضي للثبوت، وسبب الخوف ماض وهو متأخر عنه فجعل مستقبلا لتأخره عن سببه فأتي فيه بلفظ المستقبل.
قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ... (٧٠)﴾
قال ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدم لنا الأمر بالتبليغ واعتزال الكافرين وكانوا بعد ذلك لَا يطيعون عقبه بهذه الآية تسلية له صلى الله عليه وعلى آله وسلم في عدم طاعتهم له ببيان أن الأمم السالفة فعلوا كذلك مع أنبيائهم.
قوله تعالى: (كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ).
إن قلت: هلا قيل: كل رسول جاءهم؟ فالجواب أنه أعم؛ لأن كلما شرط والجزاء معاقب للشرط فيفيد تعجيل فعلهم ذلك ومبادرتهم له بنفس مجيء الرسل لهم، وأيضا فكلما منصوبة على الظرفية فيفيد عموم قولهم ذلك في كل زمان إلا أن مالكا جعل كلما عامة.
قوله تعالى: (فَرِيقًا كَذَّبُوا).
فسره المفسرون على أنهم كذبوا فريقا من الرسل وقتلوا فريقا منهم.
ابن عرفة: وكان بعضهم يفسره على إضمار فعل أي جعلنا فريقا كذبوا وفريقا يقتلون، فيفيد أن بعضهم كذب الرسل وبعضهم قتلهم، ومفهومه أن البعض الآخر لم يكذب ولم يقتل، وهذا أنسب من الأول؛ لأن الذي قال المفسرون يقتضي أن جميعهم
أحدها: قال ابن عرفة: عادتهم يجيبون بأن سبب التكذيب ماض، فعبر عنه بالفعل الماضي؛ لأن سبب التكذيب في المستقبل اعتبارا بسببه، وأجيب أيضا بأن القتل أمر فعل حربي، فأتي فيه بالمضارع تنزيلا للواقع منزلة [من*] أتى بالمحسوس للتصوير، والتكذيب به أمر اعتقادي غير [حربي*] فلذلك عبر عنه بالماضي.
قوله تعالى: ﴿وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ... (٧١)﴾
قال ابن عرفة: تكون بالرفع بأن مخففة من الثقيلة، وبان ناصبة وقراءة الرفع أبلغ؛ لأنه يكون مؤكدا بأن.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ).
لما اشتملت على عصيان بعضهم بالتكذيب، وعصيان بعضهم بقتل الرسل وبث الوعيد على أشد الوصفين وهو القتل؛ لأن الإبصار أمر محسوس فيتعلق بالمحسوس بخلاف التكذيب فإنه أمر معنوي فالمناسب له صفة العلم.
قوله تعالى: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ... (٧٥)﴾
قال ابن عرفة: الظاهر أن هذا داخل تحت الحصر، وأصله المسيح ابن مريم أمه صديقة فهو من عطف المفردات، ويحتمل أن يكون من عطف الجمل والظاهر حصرها في الصداقة.
قال ابن عرفة: و (صِدِّيقَةٌ) مبالغة من الصدق أو من التصديق، ومنه سمي أبو بكر الصديق لتصديقه، وهذه الصفة لمريم رد على من قال إنها نبية.
ابن عرفة: قال بعضهم: من جهة المعنى أنهم كانوا ينسبونها للنبي فبرأها ولدها بكلامه في المهد فظهر صدقها.
قوله تعالى: (كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ).
ابن عرفة: هذا استطراد؛ لأنهم إنما تكلموا في عيسى ونسبوه إلى الألوهية فلم يتكلموا في مريم بشيء، فإنه ذكره استطرادا وسبب ذكرها قيام عيسى عليها، أي كما
قوله تعالى: (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ).
هذا دليل على صحة ما يقولونه من أن ارتباط الدليل بالمدلول مادي؛ لَا عقلي، قال: ويجاب بأنه عقلي [فإنهم لم يعبروا*] على الوجه الذي منه يدل الدليل.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦)﴾
قدَمنا أن عند ابن عرفة في الختمة منها ثلاثة أسئلة:
أولها: [قوله: أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ*] على تخصيص غيره [بالعبادة*]، وهم لم يخصوا الغير بها، لكن أشركوا غير الله معه في العبادة، فقالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وتقدم الجواب بأن عبادتهم الأصنام لَا تقتضي تشريكا؛ لأن من شرط المعبود أن لَا تشرك معه غيره فليس في التشريك عبادة فلم يعبدوا الله وأيضا فإِنهم لما أشركوا في العبادة جعلوا لكل من المعبودين نصيبا منها قولك النصيب الذي لغير الله عبدوا فيه ذلك الغير من دون الله.
السؤال الثاني: لم قال (لَا يَمْلِكُ لَكُم) ولو قال: لَا يملك ضرا ولا نفعا لكان أبلغ في النفي والعجز وتقدم الجواب بأنه إذا كان لَا ينتفع الخاص به المقرب إليه، فأحرى أن لَا ينتفع به البعيد عنه ولا يضره.
ورده ابن عرفة: ليس من باب أحرى؛ لأن هؤلاء شركوا في العبادة، وغيرهم خصوا غير الله بالعبادة فما يلزم من كون غير الله لَا ينتفع من أشركه في العبادة مع الله لا ينفع من اختصه بالعبادة فليس من باب أحرى، وأجاب ابن عرفة من السؤال بأنه لو قال: ما يملك ضرا ولا نفعا لكانت سالبة كلية، والسالبة الكلية تناقضها السالبة الجزئية، فكان يكون مفهومه أن الله يملك النفع والضر؛ لأنه إذا كان غير الله لَا يملك ضرا ولا نفعا كان الله يملك ضرا ونفعا من قولنا: يملك ضرا ونفعا بمطلق؛ لأنه في سياق الثبوت، والمطلق يقيده بصورة فيقولون هم: نعم الله يملك ضرا ونافعا لغيرنا، وهم الذين خصوا غيره بالعبادة تجردت وأما نحن فلا؛ لأنه إذا كان ضرهم لأنك صدق أنه يملك ضرا ونفعا فأتى بلفظة لكم فيكون الكلام أبلغ ولا يبقى لهم فيه مقال؛ لأنه أفاد أن الله يملك لكم الضر والنفع، وغيره لَا يملك لكم ضرا ولا نفعا.
السؤال الثالث: لم قال (وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) والمناسب هنا وصفه بالقدرة؛ لأن العلم والسمع إنما يناسبان من قصد التستر والاختفاء، وهؤلاء تعنتوا وتجوزوا، فما المناسب فيهم إلا العزة والانتقام والقدرة والمقدور، وتقدم الجواب بأنه من حذف التقابل، والتقدير: قل أتعبدون من دون الله ما لَا يملك لكم ضرا ولا نفعا ولا يسمع ولا يعلم، والله هو مالك الضر والنفع وهو السميع العليم.
قوله تعالى: ﴿قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا... (٧٧)﴾
إما أنه على حذف قد أو الفاء في الأول فقط وهو الظاهر.
قوله تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ... (٧٨)﴾
قال ابن عرفة: هذا دليل على مفهوم الآية. لأنهم أيضا ملعونون على لسان سليمان وغيرهما من الأنبياء.
قوله تعالى: (ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ).
قال ابن عرفة: هذه دليل على ما يقولون الأصوليون في تنقيح المناط وهو التعليل ببعض العلل دون بعض مع كون المتروك أظهر من المذكور [وأجلى*]، مثل: "لَا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان"، فأخذوا منه أنه لَا يقضي عند شغل الخاطر وتشويشه إما [بنعاس*]، أو بجوع، أو شبع، أو خوف أو حزن، أو نحوه، وكذلك هذا إنما لعنوا لكفرهم بترك الموجب الأخص وعلل بأعمه وهو العصيان، كما ترك هنالك الأخص وهو الغضب وعلل بأعمه وهو التشويش، قال: وهذا دليل على أن العصيان يطلق على ترك المطلوب، لقوله (وَكَانُوا يَعتَدُونَ) فالاعتداء هو تجاوز الحدود ولا يلزم التكرار.
قوله تعالى: ﴿لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩)﴾
قال ابن عرفة: إن رجع إلى فعلهم المنكر فظاهر، وإن رجع إلى تركهم النهي عن المنكر تكون الآية دليل على أن الترك فعل، وإن ترك إلى الجميع فيكون غلب فيه جانب الفعل على جانب الترك.
قوله تعالى: ﴿تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا... (٨٠)﴾
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ... (٨١)﴾
جعل الإيمان ملزوم لعدم اتخاذهم أولياء، فدل على أن موالاة الكافر كفر.
قوله تعالى: ﴿فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ... (٨٥)﴾
قال ابن عرفة: فيها سؤال وهو أنه تقدمها (ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين)، فعبروا بلفظ الرب، فهلا قيل: فأثابهم ربهم؟ وأجيب بأنه إشارة إلى أن هذا الثواب إذا وقع من الله تعالى مع استحضار مقام التفضل والحنان والشفقة.
قال ابن عرفة: وتقدمنا نحن الجواب بأن من حسن الاقتضاء أن يطلب الأجير أجره على سبيل التلطف، ويعتقد أنها تفضل من المستأجر ومن حسن القضاء بأن يعطي المستأجر الأجرة معتقدا أنها واجبة عليه، فالأول راجع لطريق الرجاء وطلب نيل الثواب فناسب التلطف بعبارة الرب، والثاني راجع للجزاء فهو إشارة إلى أن الله أوجب ذلك على نفسه شرعا ولا يجب عليه شيء، قال: وما هنا مصدرية أو موصولة بمعنى الذي، وكونها موصولة بمعنى الذي أقرب لمذهب أهل السنة، وإن جعلناها مصدرية كانت دليلا للمرجئة بأن مجرد النطق بالشهادتين كان في حصول الإيمان وفي دخول الجنة، وظاهر هذه الآية أن الجنات في الدنيا أشرف وأعلى من الدور التي لا جنات فيها؛ لأن الله أثابهم بالجنات فدل على أنها أفضل من الدور، وهل يكون للرجل الواحد جنات أو هو على التوزيع يحتمل.
قوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا).
لأن النعيم إنما هو بالخلود، ثم قال (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦).
قوله تعالى: (وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ).
أحدهما: أنه من إيقاع الظاهر موقع المضمر فيكون هم من المحسنين.
الثاني: أنهم ليسوا من المحسنين لكن تفضل الله عليهم زيادة ما أثابهم به بأن أعطاهم جزاء المحسنين، ولذلك عبر في الأول بالثواب إشارة إلى التفضل، وفي الثاني إلى الجزاء إشارة إلى وجوبه أي أعطاهم الأجر الذي يستحق بالإحسان أي استحقه المحسنون بإحسانهم.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا... (٨٦)﴾
ذكره هنا لأحد وجهين: إما ليكون تقسيما مستوفيا بذكر الفريقين، وإما بأنه إشارة إلى نعيمهم [بجلب*] الملائم ودفع المؤلم.
قال ابن عرفة: فإن قلت: لم عبر في الأول بالخلود ولم يقل هنا: [خالدين فيها*]؟ فالجواب بوجهين: إما لأنه من الجزاء، فبين الثاني لدلالة الأول عليه [وإما] لبيان حال المتقين، والثواب [الذي*] أعد لهم، فناسب فيها الإطناب في حقهم، والاكتفاء في الفريق الآخر بمطلق ذكره من غير إطناب.
قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ... (٨٧)﴾
ابن عرفة: فيه دليل على أن التنعم بالحلال أفضل من التقشف.
ما لَا تبالغوا في التحريم والامتناع، بل أو لَا تبالغوا في الدوام على فعل ما نهيتم عنه من اللباس والمطاعم المحرمة شرعا.
قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ... (٨٩)﴾
قال ابن عرفة: اليمين إن كانت في الماضي فهي على أربعة أقسام، فإن حلف على ما يتقنه وتبين له خلافه فهو لغو اليمين، وإن حلفه على ما يتيقن خلافه فهو غموس، ولو تبين أنها حق في نفس الأمر، وكذلك لو حلف على أمر مشكوك فيه عنده وإن حلف على مظنون فقولان، وعليه قال ابن الحاجب: قلت: والظاهر أن الظن كذلك وهما قولان منصوصان، وفسرت اللغو بأنه قول الرجل: لَا والله، ونعم والله. وأخذ به الشافعي رحمه الله وبعض البغداديين من مذهبنا، وإن حلف على مستقبل فإن كان محالا أو ممكنا والغالب عدم وقوعه، كقوله: بالذي لَا إله إلا هو ما تمطر السماء في هذا العام فهو غموس وإن كان ممكنا فهو كفر، وفيه خلاف.
قال ابن عرفة: قال بعضهم: يؤخذ من الآية خلاف مذهب مالك رحمه الله من أن هزله في الطلاق أو النكاح لَا يلزم؛ لأن الآية على أنه لَا يؤاخذ المكلف إلا بما نطق به لسانه معتقدا له بقلبه فينبغي أنه لَا يلزم نكاح المهزل ولا طلاق المهزل قياسا على هذا، وأجيب بأنه مقيد، بقوله تعالى: (فِي أَيْمَانِكُمْ) فمفهومه أن اللغو في غير اليمين مأخوذ به، وقد قالوا في البيع: أن هزله جد فيعارض فيه المفهوم والعموم، فإن قلت: إن هنا مفهوم اللقب، ولم يقل به إلا الدقاق، قلت: بل مفهوم الصفة، لأن أيمان جمع يمين وهو مشتق، أو تقول: أن تلك ليست بأيمان.
قال ابن عطية: وتشديد عقدتم مبالغة في تكثير أحد الأيمان.
ورده ابن عرفة بأنه كذلك وهو في اليمين الواحدة، وهي لغو وغير لغو، وإنما تشديدها مبالغة في عقدها ليخرج اليمين المشكوك في انعقادها.
قوله تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ).
قيل لابن عرفة: ظاهر الآية أن اليمين يكفر خلاف مذهب مالك رحمه الله، وأجاب بوجهين: إما لأن الآية لَا تتناول إلا اللغو ولا تتناول الغموس بوجه، وبكون حكم الغموس معلوما من الحديث، أو يكون الضمير عائدا على بعض أفراد العام وقد ذكره بعضهم، أو يكون المراد كفارة حنثه، قال: ويؤخذ من الآية أن الاستثناء حل
قوله تعالى: (إِطعَامُ).
على حذف مضاف أي طعام إطعام عشرة مساكين، قيل له: فيؤخذ منه جواز إطعام أقل من عشرة طعام العشرة، فقال ابن عرفة: القضايا عند أهل المنطق أكثرها فعلية وجودية لَا تقديرية، والقضايا التقديرية قليلة.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ... (٩٠)﴾
ابن عرفة: الخمر من خامر العقل مطلقا، وقيل: الخمر من العينة والأنصاب إن قلنا: إنها الأصنام فيكون عطفها على الخمر دليلا على تحريم الخمر.
قوله تعالى: (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ).
ظاهره أن كونها من عمل الشيطان موجب لتأثيم شاربه، أو ظاهر حديث أبي بكر رضي الله عنه: أقول هذا فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، ظاهره عدم الخطيئة فظاهره تأثيم المجتهد المحقق، وهو خلاف الإجماع، قال: والجواب بأن هذا من أبي بكر رضي الله عنه على جهة التواضع.
قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
الرجاء مصروف للمخاطب، وتارة يكون رجاء مطابقا حقيقيا تاما، وتارة لَا يكون كذلك، كقوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) وهذا بحق الله لم يقع.
قيل لابن عرفة: يظهر من الآية أنها رد على المعتزلة في أن العقل لَا يحسن ولا يقبح، وإنما التحسين والتقبيح للشرع؛ لأن الخمر والميسر كان عندهم حلالا أعني القليل من الخمر الذي لَا يسكر، فلو كان العقل يقتضي تحريمه لما كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام يشربون القليل منه، فقال: حلالا لمقتضى البراءة الأصلية، قيل له: بل يكون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم علم بهم وسكت عنهم، وسكوته عنهم إقرار لهم على ذلك.
قال ابن عرفة: وتقدم استشكالنا في حديث حمزة في أنهم شربوا الخمر حتى ثملوا، وقول حمزة: هل أنتم إلا عبيد لأبي مع أن الأمم متفقة على حفظ العقول، والجواب عقد بأن المحرم عند الجميع إنما هو الإسكار وقليله لَا يسكر، وكانوا
قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا... (٩٣)﴾
قال ابن عطية، عن ابن عباس: سبب هذه الآية لما نزل تحريم الخمر، قال قوم من الصحابة: يا رسول الله، كيف بمن مات منا وهو يشربها؟ فنزلت.
قال ابن عطية: فيها تقرير لهم عمن مات على القبلة الأولى التي كانت لبيت المقدس، فنزلت (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) ابن عرفة: بل هذا أقرب وأنفع فإِنه راجع لدفع المؤلم وهو زوال الإثم عمن ارتكبه بشربه الخمر، وحكم القبلة راجع لعدم الحرمان من الثواب على استقبال بيت المقدس، لقوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) فيرجع إلى طيب الملائم.
قال ابن عرفة: وأخذوا من الآية مع هذا السبب مطلبين:
الأول: جواز ما لَا يطاق؛ لأن الصحابة توهموا عند نزول تحريم الخمر أنه كان شرعياً ما لم يرجع أنه لم يكن عالما تحريمها هو عين تكليف ما لَا يطاق.
المطلب الثاني: وقوع تكليف ما لَا يطاق، بمفهوم قوله تعالى: (عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) فدل على أن الكفار عليهم مع أنهم غير مكلفين بتحريمها مع أنه لَا يطيقه، قال: وأجابوا من الثاني بأن وقوع التكليف إنما هو فيما علم فيه التكليف، وأما الكفار فلم يعلم تكليفهم قبل نزول هذه، وبه قال: ونفي الجناح باعتبار ظاهر اللفظ لَا يدل على إباحة ذلك بل يحتمل الكراهة باعتبار سياق الآية ووقع الخطاب بذلك والتكليف يدل على الإباحة.
قوله تعالى: (إِذَا مَا اتَّقَوْا).
(إِذَا) إما بمعنى إذا أو حكاية حال ماضية.
[قال ابن عطية: [وتأول*] هذه الآية قدامة بن مظعون من الصحابة وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة، إلى أن قال: قال الجارود: [لعمر*] (١) أقم على هذا كتاب الله.
قال ابن عرفة: إن قلت حد الخمر ليس في كتاب الله، وإنما هو القياس على حد القذف وبالاجتهاد، وحسبما حكى الأصوليون عن سيدنا علي أنه قال: إذا شرب هذى
قوله تعالى: ﴿لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ... (٩٤)﴾
تنكير شيء إما باعتبار تخفيف أمره وتقليل حكمه، وإما لكثرة أمجاده.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ... (٩٥)﴾
ابن عرفة: قالوا: هذا يتناول النهي عن القتل حالة الإحرام، وعن القتل في الحرم فهو من استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا وجاز ذلك هنا؛ لأنه جمع فهو أخف من المفرد وليس هو من القدر المشترك، أو لَا اشتراك بين الحلال القاتل في الحرم، وبين المحرم القاتل في الحل.
قال ابن عرفة: وليس المراد قتل الصيد بل النهي عن اصطياده وإن لم يقتله.
قوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا).
فيه ثلاثة أقوال مشهورها، وجوب الجزاء على من قتله متعمدا أو خطأ، وقال ابن عبد الحكم: إنما الجزاء على قاتله متعمدا، وفي خارج المذهب قول آخر بأن الجزاء على المخطئ الناجي فقط.
قال ابن عرفة: والآية حجة لابن عبد الحكم، ووجه المشهور أن هذا مفهوم خرج مخرج الغالب فهو غير معتبر، أو يكون بمعنى، قوله (مُتَعَمِّدًا) قاصدا لقتله ناسيا كونه محرما وناسيا كونه في الحرم، وتأول ابن عطية قوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ) في الجاهلية من قتلكم الصيد في الحرم، ومن عاد الآن في الإسلام فإن كان مستحلا فينتقم الله منه في الآخرة ويحكم في ظاهر الحكم.
قال) ابن عرفة: معناه منتهكا في الفعل؛ لأن الاعتقاد إذ لو كان كذلك لكان كافرا.
قوله تعالى: ﴿قِيَامًا لِلنَّاسِ... (٩٧)﴾
أي قواما لأمر دينهم.
قوله تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ... (٩٨)﴾
قال ابن عرفة: [كان ابن عبد السلام يقول في مثل هذا: أما إن ردت الشدة إلى العقاب الواقع بالفعل [فممنوع*] في الآية بحذف التقابل] أي اعلموا أن الله شديد عقابه وغضبه، وأنه غفور رحيم، فلا يكون في الآية حذف بوجه.
قوله تعالى: ﴿مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ... (٩٩)﴾
هي اجتناب فلا يتصور أنها مواعدة منسوخة بآية السيف بل هي حال عمن شهد شهادة.
قال ابن عرفة: فيه نظر؛ لأن الجهاد واجب على الرسول، قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) فإن قلنا: إن الجهاد من التبليغ فلا تكون منسوخة، وإن قلنا: إنه ليس من التبليغ فالآية منسوخة، والأصل عدم النسخ.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ... (١٠٠)﴾
قال تقدمت مناقضتها.
بقوله تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).
[دلت*] على أن الخبيث أقل من الطيب؛ لأن المميز من الشيء يكون أقل من ذلك الشيء، فتقدم الجواب بوجهين:
الأول: أن [**لِيَمِيزَ] جملة [فعلية*]، وهذه شرطية.
الثاني: أن الفرق بين التمييز والمميز فلا يلزم من قولك: ميزت الفول من الحمص، أن يكون الفول أقل من الحمص حتى يقول: أخرجت الفول من الحمص [فلفظ التمييز صادق*] على كل واحد منهما، قال: وكنت بحثت مع ابن عبد السلام فيها، وقلت له: هذه تدل على الترجيح بالكثرة في الشهادة؛ لأنهم اختلفوا إذا شهدته؛ [بأن*] يأمر وشهد عشرة عدول بضده، فالمشهور عندنا أن لَا فرق بين العشرة والعدلين وهما متكافئان، وفي المذهب قول آخر بالترجيح، فقوله تعالى: (وَلَو أَعجَبَكَ كَثرَةُ الْخَبِيثِ) يدل أن الكثرة لها اعتبار؛ بدليل أنها ما أسقطت هنا إلا الخبيث، قال: ثم وجدت ابن المنير ذكره بعينه، وكنت قلته من عندي ولم يوافقني عليه ابن عبد السلام بوجه.
قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
قوله تعالى: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ... (١٠٣)﴾
لما تضمن الكلام السابق تقرير حال الجاهلية فيما سبق عقبه ببيان الإنكار عليهم في هذا فأتت هذه الآية احترازا.
قال الزمخشري: البحيرة كانوا إذا أنتجت الناقة خمسة آخرها ذكر بحروا أذنيها أي شقوها.
وقال ابن عطية: إذا أنتجت عشرة أبطن، قال: وعن ابن عباس إذا أنتجت خمس بطون، وعن مسروق إذا ولدت خمسا، أو سبعا، ولم [يقيده*] بأن آخرها ذكر.
قال ابن عرفة: لَا يريد بقوله: خمسا أو سبعا، أنه قول واحد لَا تصل إلى السبع حتى تصير بالخمس بحيرة بل بمعنى أنهما قولان.
قال ابن عرفة: والسائبة هي المعلق تسريحها على أمر، [كأن*] أن يقول إذا قدمت من [سفري*] وبرأت*] من مرضي فناقتي هذه سائبة.
والوصيلة قال الزمخشري: إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكرا فهي لآلهتهم، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: [وصلت أخاها*] فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم.
قال ابن عرفة: إذا ولدت الشاة ثلاثة بطون أو خمسا فإن كان آخرها جديا كان لآلهتهم، [وإن كانت عناقا استحيوها]، وإن كانت [جذيا*] وعناقا يستحيوهما، وقالوا: هذه العناق وصلت أخاها [فمنعته من] أن [يذبح*].
قال ابن عرفة: و (جعل) ليست بمعنى خلق؛ لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء ولا [بمعنى*] صير؛ لأنها من [... ]، وحذف أحد المفعولين في ظننت اختصارا غير جائز، [فهي*] بمعنى شرع.
واختار أبو حيان أنه محذوف اختصارا، وأنها بمعنى صير وقدر ما حصل الله من بحيرة مشروعا.
ابن عرفة: والصواب أن يقول ما جعل الله من بحيرة قربة أو قربة منها، قال ابن عطية، وقال أبو حنيفة: لَا يجوز الأحباس والأوقاف قياسا على البحيرة والسائبة والفرق بين.
قال ابن عرفة: قال في كتاب الوصايا: إذا قال عبدي يخدم فلانا حياته فمات فلان فاختلف فيه ابن القاسم وأشهب، فقال أشهب: يبطل الحبس ولا يرجع إلى ربه ووجه الاستدلال أنه أخرج المنفعة في نفسه فجعل عدم المنفعة لازما لعدم تلك الرقبة فينتج أن الحبس كذلك لَا يملك خلافا لابن القاسم.
وفرق بعض الطلبة بين الحبس والسائبة والبحيرة، فإن الحبس ينتفع به المحبس عليه وهذه الأشياء لَا ينتفع بها أحد على منفعته فلذلك أبطله الشرع، ولأنه قياس في معارضة النص؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حبس وحبس عمر وأمره النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قوله تعالى: (يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ).
دليل على أنهم نسبوا ذلك إلى الله تعالى وكذبوا في ذلك.
قال ابن التلمساني: لَا خلاف في كفر من كذب الله تعالى، واختلف في تكفير من كذب على الله.
قال ابن عرفة: إن كذب على الله مستحلا فهو كافر بإجماع، وكذلك إن كذب فيما هو معلوم من الدين ضرورة، وإن كان غير مستحل فهو محل الخلاف.
قوله تعالى: (وَأَكثَرُهُم لَا يَعْقِلُونَ).
قال ابن عرفة: إن أريد العقل البالغ فكأنهم لَا يعقلون فالمراد كلهم، وإن أريد عقل التكليف فالمعنى أن بعضهم يدرك وجه التلبيس ولا يتبعه بل يتبع الخطأ وأكثرهم لغباوتهم جهلوا ذلك ولم يعلموه.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا... (١٠٤)﴾
وسمعت عن الفقيه المدرس أبي العباس أحمد بن عيسى الصحابي أنه كان يسأل العوام وبعض جهلة الأعراب فإِذا رآه أخطأ في بعض عقائد التوحيد، قال له: أنت كافر وقرر له العقيدة حتى سمعت أنه أباح لمن هذه حاله أن يرد مطلقته بالثلاث؛ لأنه طلقها في حال الكفر، وطلاق الكفر باطل، وكذلك نقل عن تلميذه عبد الرحمن أبي عيسى المدرس الآن ببجاية والله أعلم بصحة ذلك، وهذا خطأ صراح لَا يحل.
قوله تعالى: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ).
إن قلت: كيف هذا مع أن لولا ما تدخل على الأمر المستقبل وجوده، وإنما ينكر عليه اتباع آبائهم العالمين لَا الجاهلين؟، قال: فالجواب أنه من باب أحرى أي أنكر عليهم أولا تقليد من يعلم، ثم أنكر عليهم من باب أحرى تقليد من لَا يعلم.
قوله تعالى: (لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا).
قال ابن عرفة: كان بعضهم يقول: إن كان العقل غير العلم يكون تأسيسا، وإن كان العقل هو العلم، [فإن*] العقل بعض العلوم الضرورية فيكون [راجعا للعلم الأول*]، والعقل راجع للعلم المستفاد من التعلم، قيل له: يرجع الأول للعلم الضروري، والثاني للعلم النظري.
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ... (١٠٥)﴾
ابن عرفة: هذه الآية تدل على أن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن كان المنكر عاما فهو فرض عين، ويجب باعتبار الأشخاص فمن هو مقبول القول فيجب عليه ومن دونه يضعف الوجوب في حقه بقدر تفاوتها في قبول القول وهذا إن تحقق قبول قوله، وإن ظن فقولان بناء على أنه من باب المعلومات فلا يكفي فيه إلا العلم أو من باب العمليات فيكفي فيه غلبة الظن، والمسألة مذكورة في أصول الدين، وفي الفقه، وكذلك إن تحقق أنه نشأ عنه مفسدة فإنه يسقط عنه الوجوب ما لم يخش استحلال المكلف ذلك فإِنه يجب عليه التغيير، انظر ذلك وحققه.
قوله تعالى: (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا... (١٠٧)﴾
قال ابن عطية: (عُثِرَ) استعارة لما يوصل إلى علمه بعد عقابه علما اتفاقيا من غير قصد.
ابن عرفة: ومنه العثور على الدقائق، ومنه العثرة وهي السقطة، وكان يتعقبه بقول إمام الحرمين في حد النظر الصحيح هو الذي يؤدي إلى العثور على الوجه الذي منه يدل الدليل وهو لَا يكون إلا عن نظر.
وقوله (اسْتَحَقَّا إِثْمًا).
المراد به الشاهدان، فإِما أن يكون معناه، استوجبا إثما، أي بأن يحقق أنهما اتصفا بالإثم، وإما أن معناه [اغتصبا*] مالا، فالأول: راجع لتحقيق اتفاقهما بذلك، والثاني: راجع لدعوى المدعي عليهما أنهما [اغتصبا*] مالا بشهادتهما، وكان الطلبة يسألون كيف يرتب الجواب على هذا؛ لأنه إذا حقق اتصاف الشاهدين بالإثم، أو تحقق اقتضائهما المال سقطت شهادتهما فلا يحتاج الخصم إلى [الحلف*] بوجه، فكيف صح أن يقول: فآخران يقومان مقامهما؟، وأجيب بأن هذا يطرد أن لو قيل: فإن استحقا إثما، والجواب أنهما استوجبا إثما، فكذلك يحلف الآخر لَا على التهمة.
قوله تعالى: (يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا).
جعله أبو حيان مصدر.
ابن عرفة: ليس بمصدر حقيقة بل مشبه بالمصدر، مثل: ضربته ضرب الأمير ليس من فعل الضارب بل مشبه به فكذلك المعنى فآخران يقومان تشبيها بقيامهما.
قوله تعالى: (لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا).
قال ابن عرفة: انظر هل هذا مثل قولهم العسل أحلى من الخل؛ لأنهما إنما يحلفان أن شهادتهما هي الحق وأن الأخرى باطلة، أو أن شهادتهما حق ويحلفان كذلك؛ لأنه تقرر [إذا تعارضت بينتان أيهما أحق فإنه*] يقدم التي هي أجود وأرجح، والظاهر الأول.
قال ابن عرفة: أو هنا إما على بابها أو بمعنى الواو، فالمعنى أن شهدوا، وما إن كانت بمعنى الواو فهو من تقديم المسبب على سببه؛ أي: يخافوا فيأتوا بالشهادة على وجهها، وإن كانت على بابها فالمعنى: إما أن يشهدوا.
قوله تعالى: (وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
جعله ابن عطية عاما مخصوصا، وإن جعلناها حقيقة، وقلنا المراد حين فسقهم فيكون فيه تحصيل الحال.
قال الزمخشري: لَا يهديهم في الآخرة إلى طريق الجنة، ففسرها على مذهبه؛ لأن الفاسق عنده في النار، وإما أن تقول المراد بالفاسق الكافر وتفسيرها بما قال.
قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ... (١٠٩)﴾
قيل: العامل في يوم ما تقدم من قوله (لَا يَهْدِي).
ابن عطية: وهو ضعيف.
ابن عرفة: لأنه حمل الهداية على معناها الشرعي العرفي وهو الهداية المستلزمة للثواب والعقاب، وذلك إنما هو في الدنيا لأن يجازى به في الآخرة.
قيل له: إنما الهداية مجردة الإيمان، فقال: هي خلق الإيمان التكليفي والدار ليست بدار تكليف، وإن حملنا معنى الهداية على ما قال الزمخشري: [(لا يَهْدِي) أي لا يهديهم طريق الجنة يومئذ كما يفعل بغيرهم*]، فيصح أن يعمل في يوم، وقيل: العامل فيه اذكر.
ابن عرفة: لكن إن عمل فيه يهدي يكون يوما ظرفا، وإن عمل فيه اذكر يكون مفعولا به، وقيل: العامل فيه اسمعوا.
ابن عرفة: فهو على حذف مضاف، أي اسمعوا تلاوة يوم يجمع الله الرسل، واليوم في اللغة يراد به النهار والليل.
قال مالك في كتاب الإيمان من المدونة: فإذا حلف لَا كلمت فلانا اليوم أي لا يكلمه في النهار ولا في الليل إلا أن ينوي النهار وحده.
قال ابن عطية: وخص الرسل؛ لأنهم قادة الخلق وفي ضمن جمعهم جمع الخلائق، ابن عرفة: فجعل دلالته على جمع الخلائق دلالة أخرى وهي دلالة الالتزام
وكان بعض المحققين يقول: إن استعمل في مدلوله ولازم مدلوله العقلي فهو حقيقة كدلالة لفظ العشرة على الزوجية حقيقة، ومن لوازمها الانقسام بمتساويين فهو لازم عقلي لَا ينفك، وكدلالة لفظ الإنسان على ذاته حقيقة ويستلزم عقلا التحيز والجهة، وأما اللازم الخارجي الذي قد يترك فليس بحقيقة وهذا منه.
قوله تعالى: (قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).
نقل ابن عطية عن مجاهد أنهم يفزعون فزعا، فالفزع ثابت، والحزن به منفي فلا يبطل ما قاله ابن عطية.
وقال ابن عباس: لَا علم لنا إلا [علما*]، أنت أعلم به.
قال ابن عرفة: هذا سؤال [تقريع وسؤال التقريع*] يفهم منه تكليف امتثال الأمر [بالجواب] عما سئلوا، فكيف قالوا: (لَا عِلْمَ لَنَا) قال: والجواب أنهم غلبوا مقام التوحيد على مراعاة طلب الامتثال لما سئلوا عنه.
[وحمله] الزمخشري على أن السؤال [توبيخ قومهم*] لَا عذابهم، والجواب [إظهارا*] للتشكي بحالهم معهم، فلا يرد عنه ما قلناه، وهذا يحتمل أن يكون قولا منه للرسل مباشرة، أو على لسان بعض ملائكته، [ولا يحملها*] الزمخشري على أنها سؤال، [فيكون تبكيتا لقوم، وثناء على آخرين*].
قال: واختار ابن هشام في شرح الإيضاح كون الإضافة للفعل، واستدل عليه بمواضع من كلام سيبويه، واختار ابن عصفور في مقربه كون الإضافة للجملة، والمصدر المفهوم من الفعل، والآية دلت على أن الرسول أخص من النبي.
قوله تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ... (١١٠)﴾
قال أبو حيان: المنادى المفرد العلم إذا وصف بابن مضاف إلى علم أجاز الجمهور فتحه اتباعا لـ (ابْنَ).
وأجاز الفراء تقدير الضمة والفتحة في المعتل فإن جعلت ابنا بدلا أو منادى لم يجز في المنادى العلم إلا للضم.
[يَا حَكَمَ بنَ الْمُنْذِرِ بْن الجارودُ... أَنْت الجوادُ ابنُ الْجواد المحمودْ*]
قال ابن عرفة: كذا أنشدها السابقون، وأنشد سيبويه شطرها الأول فقال:
ابن ولاد ابن خروف تمامها... فترادف الجود عليك موجود
وأنشد ابن عصفور في مقربه.
قال الكسائي: أنها إذا لم تكن فيه وألحقها بعد ذلك.
ابن عرفة: أنشدها لما ذكر ابن إذا وقع بين علمين، وما جرى مجراهما أو بين اسمين متفقين في اللفظ، وإن لم يكن علمين يجوز اتباع المنادى لابن، قال: أنشد الفراء:
[** يا غنم ابن غنم محبوسة... فيها يقام وبعبق رحيق]
قلت: وقال السفاقسي: [كلام أبي حيان هنا*] ليس بشيء. لأن ابن إذا جعل توكيدا اختل المعنى، وأظنه التبس عليهم باسم [علم*] هدى، وقد جعل أبو القاسم ابن الجمل باسم ابن زيد بن عمرو، ومثل باسم بني عدي وهو [... ] حال.
ابن عرفة: ولأن يتم يمكن زيادته؛ لأنه أسقط لم يختل، قال: وكان بعضهم يفرق بين نسبة الابن إلى الأب وبين نسبته إلى الأم فإن نسبته إلى الأب غير لازمة شرعا كآدم وعيسى، وكذلك ولد الزنا ونسبته إلى الأم لازمة، وهنا إذا نسب إلى الأم فهو توكيد.
قوله تعالى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي).
قال ابن عطية: الإذن هنا التمكين مع العلم بما يصنع ومن يقصد من دعاء النَّاس إلى الإيمان.
وقال الزمخشري: بإذني أي بتسهيلي.
ابن سلامة: هذا على مذهبه في أن العبد يخلق أفعاله.
قوله تعالى: (فَتَنْفُخُ فِيهَا)
ابن عرفة: هذا اعتزال؛ لأنه شرط المعجزة التلبس بها وصدورها عن كسب فإذا صدرت عن غير كسب، وهي التي لم تتلبس بها كانشقاق القمر لم يكن معجزة فليس الأمر كذلك، قلت: وتأولوا كلامه بوجهين:
الأول: أن يراد بالتلبس مطلق الملابسة وهو التحدث بالمعجزة وتسببه فيها إما بقول أو فعل ونحوهما.
الثاني: قال وفي الآية عندي سؤال وهو أن عرف القرآن أن الشيء إن كان من بعض مقدور النبي لم يحتج إلى الإذن.
وكان بعضهم يقول: الصواب العكس وجاءت الآية على العكس.
قيل لابن عرفة: إنما يراد هذا على تفسير ابن عطية الإذن بالتمكين مع العلم، ولنا أن تفسيره بالإباحة؛ لأن التصوير منهي عنه شرعا ويكون احترازا من المنهي عنها، أو يفسر الإذن بالقدرة وردها إلى النفخ فإن النفخ أمر غريب، قلت: وقوله: وعرف القرآن إلى آخره، مثاله (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)، وقوله تعالى: (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) وقوِله سبحانه (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا). وقوله تعالى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ... (١١١) الوحي في اللغة الإلهام أو الأمر، ابن عرفة: فالأول ظاهر، وعلى الثاني يكون أمرهم على لسان عيسى، وأما بالدلائل الدالة على أن من أظهرت على يديه المعجزة فهو رسول صادق من عند الله.
قوله تعالى: (قَالُوا آمَنَّا).
دليل على جواز أنا نؤمن من غير استثناء إن قلنا إنه خبر، وإن كان إنشاء فلا دليل فيه.
قوله تعالى: (وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ).
دليل على أن مغايرة الإيمان والإسلام وإن كان تأكيدا، وأجيب بأن المغايرة حاصلة من أن الثاني بالاسم والأول بالفعل.
قيل لابن عرفة: هذا إن قلنا: إن الإيمان يزيد وينقص، وإلا فلا مغايرة.
قرأ يستطيع بالتاء، أبو علي: يفهم إما بتقدير تستطيع بالتاء سؤال ربك، أو يستطيع أن ينزل ربك بدعائك، أبو حيان: فعل الله وإن كان سببه الدعاء فليس مقدور، السفاقسي: إن أراد حقيقة فمسلم ومجازا فممنوع إلا أن تقدير السؤال أحسن؛ لأن فيه إضمار فقط، وفي الثاني مجاز وإضمار، ابن عرفة: بل تعارض المجاز وحده مع الإضمار وحده.
قوله تعالى: ﴿نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا... (١١٣)﴾
إرادة حقيقية أو بمعنى تقصد أن تأكل منها.
قوله تعالى: (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا).
دليل على أن العقل في القلب وهو مذهب جمهور الفقهاء وأقل الفلاسفة، ومذهب أكثر الفلاسفة وأقل الفقهاء أن العقل في الدماغ.
قال ابن رشد في المقدمات وغيره: فإن قلت: قد نص النَّاس على أن العلم النظري أشرف من العلم الضروري؛ لاشتماله على الاستدلال بالمقدمتين والنتيجة، وهذه الآية اقتضت أنهم أرادوا الانتقال من العلم النظري إلى العلم الضروري فكيف يصح ذلك، قال: والجواب أنهم أرادوا الانتقال من علم نظري دليله خفي إلى علم نظري دليله جلي واضح.
قوله تعالى: (وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ).
قال ابن عرفة: فيه عندي دليل على أن خبر التواتر في المسائل الاعتقادية يفيد العلم وهو المعروف عند الأصوليين خلافاً لبعض غلاة الفلاسفة هذا إن كان هذا خبر تواتر، وإن كان خبر آحاد وقلنا: أن شرع من قبلنا شرع لنا فيكون دليل على أن خبر الواحد يفيد العلم؛ لأنهم قالوا: ونكون عليها من الشاهدين لغيرنا أي: المخبرين لغيرنا فقد اعتقدوا أن ما يفيد الظن وهو خبر الواحد يصح العمل به في المسائل الاعتقادية القطعية العلمية فاعتقدوا أن غيرهم يقبل خبرهم ويعمل عليه، وليس هذا بشهادة وإنما هو خبر، وهذا كله إن قلنا: إن شرع من قبلنا شرع لنا، ففي الآية دليل إما على أن خبر التواتر يفيد العلم، أو خبر الواحد يفيد العمل به.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ... (١١٦)﴾
قوله تعالى: (قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ).
قال ابن عرفة: نفى هنا الأخص ونفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم، لقوله (مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) فلو حذف لي وقال: ما ليس بحق بالإطلاق لكان النفي أبلغ؛ لأنه يقول ما هو حق له، ألا ترى أن الشخص إذا قال: لَا أطلب ما ليس لي بحق يفهم أنه يطلب ما هو حق له؟ فلو قال: لَا أطلب ما ليس بحق بالإطلاق، والجواب أن الأمر في هذا كله مستو بينه وبين غيره فالأخص منهما مساو للأعم فيلزم من نفيه نفيه.
قوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ).
ابن عرفة: كان الشيخ أبو إسحاق إبراهيم السبيلي ذكر في الخطبة: النفس في الله فأنكرها عليه ابن مرزوق، فرد عليه بهذه الآية فسكت وسلم له.
ابن عرفة: وهو خطأ؛ لأن هذا إنما هو على سبيل المشاكلة مثل (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ).
قوله تعالى: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ... (١١٧)﴾
ابن عرفة: هذا الحصر تارة يكون لازما وتارة يكون غير لازم، يقول: ما قتل عمرو إلا الفلج، فإن خاطبت من يعتقد أن الموالي لَا يتجاسرون على قتل أشراف الأحرار ويجوز أن يكون غيره قتله، ولا يجوز أن يقتله غيره لما فيه من الجرأة والإقدام على عظائم الأمور دون من سواه كان الحصر تأكيدا، والخطاب هنا لله تعالى العالم بخفيات الأمور، فهلا قال لهم: ما أمرتني به دون أداة الحصر.
قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بما تقرر في علم المنطق من أنه لَا تناقض بين النقيضين الوقتيين ولا بين المطلقتين، ولا بين المطلقة والوقتية، كقولك: زيد قائم
وقال ابن المنير: قال أهل العربية: القول يأتي بعده الفعل المفسر له مقرونا بأن تارة وتارة غير مقرون به.
وقال ابن عصفور: لَا يأتي بعده الفعل إلا غير مقرون بأن.
قال الزمخشري: إن جعلناها مفسرة فلا بد من تفسير والمفسر إما قلت، أو أمرتني وكلاهما لَا وجه له، أما القول فيحكي بعده الجمل من غير أن توسط بينهما حرف النفي لَا بقول ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله، ولكن ما قلت لهم: إلا اعبدوا الله.
قال ابن عرفة: بل إذا قلت: ما يكون تفسيرا بمتعلق القول المفهوم من قلت أي ما قلت لهم إلا قولا هو أن اعبدوا الله وإلا فقولا أو شيئا هو أن اعبدوا الله.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ... (١١٨)﴾
قال ابن عرفة: إن كنت أردت تعذيبهم فهم عبادك، وإن أردت المغفرة لهم، ولذا جاء بقول العزة؛ لأنها سبب المغفرة، فتقف عند قوله (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
قال الفخر الرازي: إن مصحف عبد الله إن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، سمعت شيخي ووالدي رضي الله عنه، يقول: العزيز الحكيم هنا أولى من الغفور الرحيم؛ لأن كونه غفورا رحيما نسبة الخلق الموجب للمغفرة والرحمة لكل محتاج، وأما العزة والحكمة فهما لَا يوجبان المغفرة فإن كونه عزيزا يقتضي بفعل ما يشاء ويحكم ما يريد فإنه لَا اعتراض لأحد، [فَإِذَا كَانَ عَزِيزًا *] متعاليا من جميع جهات الاستحقاق ثم حكم بالمغفرة [كان*] الكرم هاهنا أتم عما إذا كان كونه غفورا رحيما بسبب المغفرة والرحمة، [فَكَانَتْ عِبَارَتُهُ رَحِمَهُ اللَّه أَنْ يَقُولَ: عَزَّ عَنِ الْكُلِّ. ثُمَّ حَكَمَ بِالرَّحْمَةِ فَكَانَ هَذَا أَكْمَلَ *].
قال ابن عطاء الله في لطائف المنى: إن الشيخ أبا العباس قال: إنما عدل عن قوله: فإِنك أنت الغفور الرحيم إلى قوله: العزيز الحكيم؛ لأنه لو قال: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم لكان شفاعة من عيسى عليه السلام لهم في المغفرة، ولا شفاعة في كافر؛ ولأنه عبد من دون الله فاستحيا من الشفاعة هذه وقد اعتذر عنه، انتهى.
ابن عرفة: كان الفقيه حازم كاتب المستنصر أمير المؤمنين يرى الوقف على قوله تعالى: (وَإِن تَغفِرْ لَهُم) [ويبتدئ*] (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لاعتقاده أن (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) مستأنف لَا جوابا لشرط، وقال: إنما يكون جوابا لو كان فإِنك أنت الغفور الرحيم.
وكان ابن عبد السلام يستحسنه، قال: وما قالاه ليس بشيء ولا يصح الوقف إلا بعد الحكيم عندي؛ لأن (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) هو الجواب، قال: وعندي في ذلك مسألة النحويين من أن حرف الشرط إذا دخل على المستقبل وجب ذكر جوابه بخلاف دخوله على الماضي فإنه يجوز حينئذ ذكره وحذفه، قلت: على الفقيه حازم أيضا من وجه آخر، وذلك؛ لأن حاصل ما يدعيه أن قوله (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ) لَا يناسب (فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) والحق أنه مناسب مناسبة لطيفة تخفى على الأكثر، ولذلك قال علماء البيان في هذه الآية الكريمة أنها من خفي تشابه الأطراف، فإِن قلت: ما حقيقة تشابه الأطراف؟ قلت: هو أن يختم الكلام بما يناسب أوله في المعنى، فإن قلت: كيف ختم الكلام في هذه الآية الكريمة بما يناسب أوله في المعنى؟ قلت: قال القزويني في إيضاحه: إن العزيز هو الغالب من قولهم: من [عزَّ بزَّ*] أي من غلب [استلب*]، والغالب على الحقيقة هو ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه، والحكيم هو الذي يضع الأشياء في محلها والله تعالى كذلك إلا أنه قد يخفي وجه الحكمة في بعض أفعاله يتوهم بعض الضعفاء أنه خارج عن الحكمة، وإذا فهمت معنى هذين الصفتين علمت أن الواجب ما عليه التلاوة، والمتصف بهذين الوصفين هو الذي
إما بأن جواب الشرط الثاني محذوف له المعنى أي فإنك إن تغفر لهم فأنت الغفور الرحيم، وإن قلنا: بأن الشرطين في معنى شرط واحد مركب من جزأين وجوابهما بينهما مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى، أي إن تغفر لهم أو تغفر لهم فهم عبادك، وأوردوا عليه أن الشرط لَا يحذف جوابه إلا إذا كان فعل الشرط ماضيا [وأما في*] المستقبل، فلا؛ لأنه يؤدي إلى منهيات العامل للعمل وقطعه عنه فيبطل الجواب الأول ويبقى الثاني.
قوله تعالى: ﴿قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ... (١١٩)﴾
قال ابن عرفة: هنا مقامان: مقام التوحيد، ومقام التكليف لعيسى عليه الصلاة والسلام غلب مقام التوحيد واعتبره والأمور كلها فيه منسوبة، فلا فرق بين التعذيب ولا بين المغفرة؛ لأن الكل عبيده يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا حسن ولا قبح باعتبار مقام التكليف من صدق في عمله وطاعته انتفع ومن خالفه عذب.
ابن عرفة: وهو المراد بصدق الأعم أو الأخص الذي ذكره ابن التلمساني لما عرف الخبر بأنه الذي يحتمل الصدق والكذب، قال: فإن قلت: المراد هنا الأخص؛ لأن ثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم ولا ينعكس.
قال أبو حيان: وقرر صدقهم بالنصب وهو مفعول من أجله.
ابن عرفة: شرط المفعول من أجله أن يكون فعلا لفاعل الفعل المعلل يستقيم على مذهب أهل السنة؛ لأن الأفعال كلها لله ويشكل على مذهب المعتزلة كالزمخشري وغيره، ولا يصح أن يراد الصدق في الآخرة إذ ليست بدار تكليف ولا في الدنيا؛ لأن المراد صدقهم في الآخرة فيما يجب به في قوله (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ).
وأجاب ابن عرفة بأن المراد استمرار الصدق، ونحو قول المنطقيين إن النتيجة ليست عين الكبرى ولا عين الصغرى وحدها ثم أجابوا عنها بأنها عينها، ورده ابن عرفة بأن الاستمرار في الآخرة وليست دار تكليف، وأجاب بأن المراد الاستمرار باعتبار تقدم سببه في الدنيا.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله علي سيدنا محمد وسلمقال سيدنا وبركتنا الشيخ الفقيه العالم العلامة عز الأنام الحبر الهمام الصدر المحقق فريد دهره ووحيد عصره أبو عبد الله محمد بن عرفة المالكي: علم التفسير: القول في حقيقته، وموضوعه، ودليله، وفائدته، واستمداده، وحكمه. أما حقيقته: فهو العلم بمدلول القرآن وخاصية كيفية دلالته (وأسباب النزول) والناسخ والمنسوخ. فقولنا: خاصية كيفية دلالته هي إعجازه ومعانيه (البيانية) وما فيه من علم البديع (الذي يذكره) الزمخشري (ومن نحا نحوه).
قيل (لابن) عرفة: غيره من المفسرين لم يذكرها كالطبري الذي هو إمام المفسرين؟ فقال: كان مركزا في طبعه وإن لم يكتبه. وموضوعه: القرآن. ودليله: اللغة (العربية) والبيان، لأن المفسر يفسر اللفظة بمعنى ويستدل عليها بشواهد من الشعر وكذلك يستدل على إعرابها. وفائدته: استنباط الأحكام والمعاني من أصول الدّين وأصول الفقه والعربية.
والزمخشري فإنّهم لم يحصلوا أدوات الاجتهاد (وحصّلوا) أدوات التفسير. وآخر مجتهد غير مفسر حسبما ذكر الغزالي (ب) في شروط الاجتهاد: " إنه لا يلزم
ولقد كان الفقيه أبو القاسم بن القصير (أ) مدرساً بمدرسة ابن اللوز يفسر القرآن فيها، وكان لا يحفظه فأنكر عليه أبو الحسن على العبيدلي (ب). وقال له: لا يحل لك التفسير حتى تحفظ القرآن كلّه. فأخذ ذلك منه بالقبول وأقبل على درس القرآن حتى حفظه. فقيل لابن عرفة: كيف يشترط حفظ القرآن في هذا وهو ناقل للتفسير فقط، وإنما يشترط ذلك في المنقول عنه؟ فقال: ألا ترى أنا لا نجيز الفتوى (والتدريس) لمن ينظر في مسألة واحدة في الكتب حتى يشخص جميع مسائل الكتب كلها إذ قد يكون بعضها مقيداً لبعضها. فكذلك هذا فلعل مفسراً آخر يستحضر آية تقيدها، أو نحو ذلك، فتحصّل من هذا أنّ فرض الكفاية باعتبار أصل التفسير (قد ارتفع) قبل أن يقع البعض به وفرض الكفاية باعتبار نقل التفسير لم يزل باقياً. قيل لابن عرفة: بل نقول: إنه فرض عين ويجب على من يقرأ (القرآن) أن يفهم المعنى؟ فقال: كان الصحابة في الزمن الأول (يعلمون) الإعجام لألفاظ القرآن بدون معانيه، وإن كان قد قال الفقهاء: فيما إذا اجتمع الأفقه والأقرأ: إنّه يقدم
يؤم (القوم) أقرؤهم " (أ) على أن الأقرأ في ذلك الزمان هو الأعلم (إذ) كانوا يتعلمون مع التلاوة ما يتعلق به من الأحكام، والمعاني قاله ابن بشير (ب) وغيره. ويحكى أن سيدي الفقيه الصالح أبا العباس بن عجلان (ج) رأى رجلاً يضبط المصحف (بالأحمر) فأنكر عليه، وضربه ضربة في وجهه (بخوصة) (د). ثم لقيه بعد ذلك فجعل يطلب منه (العفو) وندم على (ما فعله له)، ورأى أنّه لا يستحق به تلك العقوبة. ونقل عن العبيدلي أنه كان يمنع المؤدبين الذين لا يحسنون رسم المصحف من الإقراء. (وهكذا) كان العمل بتونس لا يقرئ إلا من يحسن الضبط (بقراءة) ورش (هـ) ولا يباع في الكتبيين إلا المصحف المصحح.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أ) قال ابن عرفة: الاستعاذة استجارة والاستجارة إبعاد والإبعاد نفي (والنفي) متعلق بالأخص ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم فلا يلزم (من) الاستعاذة من هذا الشيطان المخصوص الاستعاذة من مطلق الشيطان. وأجاب بأن قال: النعت على قسمين: نعت تخصيص ونعت لمجرد الذم، فيقال إن هذا النعت مجرد الذم، (وكل) شيطان مرجوم.
قال الإمام مالك في المدونة: لا يتعوذ في المكتوبة (قبل القراءة) ولكن يتعوذ في قيام رمضان (أ) وإذا بدأ - وقال في المجموعة (ب) في قوله تعالى: {فَإذَا قَرَأَتْ القُرْآنَ فَاسْتَعذِ بالله مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجيمِِ) {ج) - إنّ ذلك بعد أم القرآن (إنْ) قرأ في الصلاة. قال اللّخمي (د): (الشأن فيمن) افتَتَح أن لا يتعوذ ورأى ذلك لأن الافتتاح بالتكبير ينوب عنه ويجزئ عنه. قال ابن عرفة: وإذا نسى الإستعاذة فإن أطال القراءة أتمّها ولم يعد وإن لم يكن أطال ففي رجوعه إلى الإستعاذة قولان. وكره له في العتبية (هـ)
الجهر بالاستعاذة في قيام رمضان ورأى أنّ الأمر بالاستعاذة على الندب. ابن رشد (أ): ووجه ما في المدونة الاتباع، وخفف في العتبية (ب) أيضاً تعوذ القارئ إذا أخطأ في الصلاة لأن (ذلك) من الشيطان. وحكى (أبو عمرو الداني) في (بحار البيان) (ج) في كيفيته ثلاثة أوجه: (إما أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وإما أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وإما أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم)
وقال الشاطبي (أ):
(إذا أردت الدهر تقرأ فاستعذ | جهارا من الشيطان بالله مسجلا) |
(على ما أتى في النحل يسرا وإن تزد | لربك تنزيها فلست مجهلا) |
(وقد ذكروا لفظ الرسول ولم يرد | ولو صح هذا النقل لم يبق مجملا) |
(وفيه خلاف في الأصول فروعه | فلا تعد منها باسقا ومظللا) |
قلت: وتقدم لابن عرفة (في الختمة الثانية في عام سبعة وخمسين وسبع مائة)، قال أبو البقاء (أ): الشيطان فيعال من شطن يشطن إذا بعد، ويقال فيه: شاطن وشيطان وسمي بذلك كل متمرد لبعد (غوره) (في الشر) وقيل: هو (فعلان) من شاط يشيط إذا هلك (ب). قال ابن عرفة: ورد هذا لمخالفة (قاعدة) الاشتقاق، لأن الشيطان فيه النون وشاط لا نون فيه - والرّجيم بمعنى مرجوم (وقيل) بمعنى فاعل أي يرجم غيره.