تفسير سورة المجادلة

التفسير المنير
تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

الظهار وكفارته
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤)
الإعراب:
قَدْ سَمِعَ قال النحاة: إن قد الداخلة على الماضي لا بد فيها من معنى التوقع، فلا يقال:
قد فعل إلا لمن ينتظر الفعل أو يسأل عنه.
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ الَّذِينَ: مبتدأ، وخبره:
ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ أو دليل خبره المحذوف أي الذين يظاهرون من نسائهم مخطئون، لسن أمهاتهم، وما: نافية حجازية تعمل عمل ليس، وهُنَّ: اسمها، وأُمَّهاتِهِمْ: خبرها المنصوب على لغة أهل الحجاز، وتقرأ بالرفع على لغة بني تميم. وتعدى فعل الظهار بمن لتضمنه معنى التبعيد.
وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً مُنْكَراً وَزُوراً: منصوب على الوصف لمصدر محذوف، وتقديره: وإنهم ليقولون قولا منكرا وقولا زورا.
8
ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا الجار والمجرور في موضع نصب، متعلق ب يَعُودُونَ وما:
مصدرية، أي يعودون لقولهم، والمصدر في موضع المفعول، كقولك: هذا الثوب نسج اليمن، أي منسوجة، ومعناه: يعودون للإمساك المقول فيه الظهار ولا يطلّق الزوج.
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ.. فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ الَّذِينَ: مبتدأ، وتحرير: مبتدأ ثان خبره محذوف أي فعليهم تحرير رقبة، والجملة خبر المبتدأ الأول.
البلاغة:
قَدْ سَمِعَ السماع هنا مجاز عن القبول والإجابة بعلاقة السببية.
سَمِيعٌ بَصِيرٌ غَفُورٌ خَبِيرٌ أَلِيمٌ صيغ مبالغة.
ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إطناب بذكر الأمهات، لزيادة التقرير والبيان.
المفردات اللغوية:
سَمِعَ اللَّهُ أجاب وقبل، كما في التسميع: «سمع الله لمن حمده» أي أجابه. الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها تراجعك الكلام أيها النبي في أمرها وأمر زوجها الذي ظاهر منها، وهي خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية، زوجة أوس بن الصامت أخي عبادة، وكان قد ظاهر منها قائلا:
أنت علي كظهر أمي، فاستفتت النبي صلى الله عليه وسلم،
فقال تأثرا بالعرف: حرمت عليه
، لأن الظهار كان عند العرب موجبا حرمة مؤبدة، فقالت: ما طلقني، فقال: حرمت عليه، فاغتمت لصغر أولادها، وشكت إلى الله تعالى، فنزلت هذه الآيات الأربع. وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ تبث شكواها وغمها وهمها إلى الله، متوقعة أن الله يسمع مجادلتها وشكواها، ويفرج عنها كربها. وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما تراجعكما الكلام، بطريق تغليب الخطاب. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ للأقوال والأحوال، وهذا يدل على إثبات صفتي السمع والبصر لله تعالى.
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ الذين يقولون لنسائهم مثلا: أنت علي كظهر أمي، أي في الحرمة، وكالأم سائر المحارم، وقد كان هذا أشد طلاق في الجاهلية. والظهار: تشبيه المرأة أو عضو منها بأحد محارمه نسبا أو رضاعا أو مصاهرة بقصد التحريم، وقوله: مِنْكُمْ تهجين لعادتهم فيه، فإنه كان من أيمان الجاهلية. إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ أي ما أمهاتهم إلا اللاتي ولدن الأولاد، فلا تشبه بالمحارم في الحرمة إلا من ألحقها الله بهن، كالمرضعات وأزواج الرسول صلى الله عليه وسلم.
وَإِنَّهُمْ أي بالظهار. لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ أي قولا منكرا أنكره الشرع، والمنكر:
كل ما استقبحه الشرع والعقل والطبع. وَزُوراً كذبا وبهتانا، فإن الزوجة لا تشبه بالأم.
9
وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ يعفو عن المظاهر ويغفر له إذا تاب وأدى الكفارة، كما أنه سبحانه غفور لكل من أذنب وعصى مطلقا إذا تاب وأناب.
ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا أي عدلوا عن قصد التحريم، وذلك عند الشافعي بإمساك المظاهر منها في الزواج زمانا يمكنه مفارقتها فيه، وعند أبي حنيفة: باستباحة استمتاعها ولو بنظرة شهوة، وعند مالك: بالعزم على الجماع، وعند الحسن البصري وأحمد: بالجماع. فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فعليهم، أو فالواجب إعتاق رقبة: عبد أو أمة، والفاء للسببية الدالة على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار. ويجب أن تكون الرقبة مؤمنة عند الجمهور غير الحنفية قياسا على كفارة القتل الخطأ. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي من قبل استمتاع أحدهما بالآخر، لعموم اللفظ، وفيه دليل على حرمة المتعة أو الزواج قبل التكفير.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الرقبة أو ثمنها. فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي فالواجب صوم شهرين متواليين، فإن أفطر بغير عذر لزمه الاستئناف، وإن أفطر بعذر ففيه خلاف، وإن جامع المظاهر منها ليلا لم ينقطع التتابع عند الشافعية، خلافا لأبي حنيفة ومالك.
فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أي الصوم لهرم أو مرض مزمن أو شبق مفرط إلى النساء. فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً لكل مسكين عند الشافعية: مدّ من غالب قوت البلد، وهو رطل وثلث، كالفطرة، وعند الحنفية: نصف صاع من برّ أو صاع من تمر أو شعير، وذلك من قبل التّماس أو الاستمتاع، وإنما لم يذكر التّماس مع الإطعام اكتفاء بذكره مع الخصلتين الأخريين: العتق والصيام.
ذلِكَ البيان أو التعليم للأحكام، والتخفيف في الكفارة. لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي فرض ذلك لتصدقوا بالله تعالى ورسوله ﷺ في قبول شرائعه، ورفض أعراف الجاهلية. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أحكام شريعته، لا يجوز تعدّيها. وَلِلْكافِرِينَ أي الذين لا يقبلون تلك الأحكام.
عَذابٌ أَلِيمٌ عذاب مؤلم، كما قال تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران ٣/ ٩٧].
سبب النزول: نزول الآية (١) وما بعدها:
قَدْ سَمِعَ..:
أخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: يا رسول الله، أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سنّي وانقطع ولدي، ظاهر مني، اللهم إني
10
أشكو إليك، فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وهو أوس بن الصامت.
وأخرج الإمام أحمد والبخاري في كتاب التوحيد تعليقا عن عائشة قالت:
«الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي ﷺ تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها.. الآية».
وجاء في السنن كابن ماجه والبيهقي والمسانيد أن أوس بن الصامت قال لزوجته: خولة بنت ثعلبة بن مالك في شيء راجعته فيه: «أنت علي كظهر أمي» وكان الرجل في الجاهلية إذا قال لزوجته ذلك، حرمت عليه، فندم من ساعته، فدعاها فأبت وقالت: والذي نفس خولة بيده لا تصل إلي، وقد قلت ما قلت، حتى يحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إن أوسا تزوجني، وأنا شابة مرغوب في، فلما خلا سني، ونثرت بطني (كثر ولدي)، جعلني عليه كأمه، وتركني إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني بها وإياه، فحدثني بها.
فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن» وفي رواية: «ما أراك إلا قد حرمت عليه». قالت: ما ذكر طلاقا، وجادلت رسول الله ﷺ مرارا.
ثم قالت: اللهم إني أشكو إليك فاقتي وشدة حالي، وروي أنها قالت: إن لي صبية صغارا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء، وتقول: اللهم إني أشكو إليك، اللهم فأنزل على لسان نبيك.
وما برحت حتى نزل القرآن فيها، فقال ﷺ يا خولة أبشري، قالت:
خيرا، فقرأ ﷺ عليها: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها..
الآيات.
11
وروى البخاري في تاريخه أنها- أي المجادلة- استوقفت عمر يوما فوقف، فأغلظت له القول، فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم، فقال رضي الله عنه: وما يمنعني أن أستمع إليها، وهي التي استمع الله لها، فأنزل فيها ما أنزل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ.. الآيات.
التفسير والبيان:
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها، وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ، وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما، إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أي قد قبل الله شكوى المرأة التي تراجعك الكلام أيها النبي في شأن زوجها الذي ظاهر منها، قائلا لها: «أنت علي كظهر أمي» أي في الحرمة، وتشتكي إلى الله ما أغمها وأحزنها، والله يسمع ما تتراجعان به من الكلام، إن الله يسمع كل مسموع، ويبصر كل مبصر على أتم وجه وأكمله، ومن ذلك: محاورة هذه المرأة معك.
والمجادلة هنا: بمعنى التحاور، وهي المراجعة في الكلام لتبين المخرج من الأزمة. والشكوى: أن تخبر عن مكروه أصابك. والسمع: صفة يدرك بها الأصوات، غير صفة العلم. والمرأة: خولة بنت ثعلبة، والزوج: أوس بن الصامت أحد الأنصار.
أخرج البخاري والنسائي وغيرهما كما تقدم عن عائشة رضي الله عنها قالت:
الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت خولة بنت ثعلبة، تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في كسر البيت، يخفى علي بعض كلامها، فأنزل الله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي.. الآيات.
وقوله: قَدْ معناه التوقع، كما تقدم، لأن رسول الله ﷺ والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتها وشكواها، وينزل في ذلك ما يفرج عنها.
وقوله: سَمِعَ اللَّهُ مجاز عن القبول والإجابة، لعلاقة السببية.
12
ثم شنّع الله تعالى على المظاهرين ووبخهم، فقال:
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ، ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ أي الذين يشبّهون أزواجهم بأمهاتهم، فيقول أحدهم لامرأته: أنت علي كظهر أمي ونحوه، أي إنك علي حرام كحرمة أمي، ما نساؤهم بأمهاتهم، فذلك كذب منهم، وفي هذا توبيخ لهم وتبكيت، فليست أمهاتهم في الحقيقة إلا النساء اللائي ولدنهم.
وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً، وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ أي وإن هؤلاء المظاهرين ليقولون بهذا قولا منكرا، أي فظيعا ينكره الشرع ويقبّحه ولا يجيزه، كما لا يقره عقل، وَزُوراً، أي كذبا، وإن الله كثير العفو والمغفرة، إذ جعل الكفارة عليهم مخلّصة لهم عن هذا المنكر، كما أن الله غفور لمن أذنب وتاب، وغفور من غير توبة لمن يشاء، كما قال: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء ٤/ ٤٨].
يتبين منه أن الله وصف الظهار بأنه منكر وزور، لتشبيه الزوجة بالأم، فهو خبر زور كذب، وإنشاء منكر ينكره الشرع ولا يعرفه، وهو يدل على أن الظهار محرّم، وهو أيضا عند الشافعية معصية كبيرة، لأن فيه الإقدام على إحالة حكم الله تعالى وتبديله بدون إذنه سبحانه، ولأن المقدم على ذلك كاذب معاند للشرع.
والظهار كان طلاقا في الجاهلية، يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه.
وضابط المظاهر عند الشافعية والحنابلة: كل من صح طلاقه صح ظهاره، وهو البالغ العاقل، سواء أكان مسلما أم كافرا، فعلى هذا ظهار الذمي عندهم صحيح، لعموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ولأن الذمي يصح طلاقه فيصح ظهاره، وهو أهل للزجر بالكفارة كالمسلم. وضابطه عند
13
الحنفية والمالكية: كل زوج مسلم عاقل بالغ، فلا يصح ظهار الذمي ولا يلزم ولا يترتب عليه حكم، لظاهر قوله تعالى: مِنْكُمْ وهو خطاب للمؤمنين، فيدل على أن الظهار خاص بالمؤمنين، ولأن من لوازم الظهار الصحيح وجوب الصوم على العائد العاجز عن الإعتاق، وإيجاب الصوم على الذمي ممتنع «١».
وقال الجمهور غير أحمد: لا يصح ظهار المرأة من زوجها، وهو أن تقول المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أمي. وقال الأوزاعي: هو يمين تكفر، قال الرازي:
وهذا خطأ، لأن الرجل لا يلزمه بذلك كفارة يمين، وهو الأصل، فكيف يلزم المرأة ذلك؟ ولأن الظهار يوجب تحريما بالقول، والمرأة لا تملك ذلك، بدليل أنها لا تملك الطلاق.
وقال الإمام أحمد في رواية راجحة عنه: يجب عليها كفارة الظهار، لأنها أتت بالمنكر من القول والزور، وفي رواية كالأوزاعي: تجب كفارة اليمين، وهذا أقيس على مذهبه.
وأما المظاهر منها فهي عند الحنفية: كل امرأة يحرم على الرجل نكاحها على التأبيد، بالنسب أو بالرضاع أو بالمصاهرة كزوجة الأب، أو أي عضو منها لا يحل له النظر إليه، كالظهر والبطن. وهذا مذهب الشافعية إلا أنهم استثنوا مرضعة المظاهر وزوجة الابن، لأنهما كانتا حلالا له في وقت، فيحتمل إرادته.
ورأي المالكية: أن المشبه به: هو من حرم وطؤه أصالة من آدمي- ذكر أو أنثى، أو غيره كالبهيمة، ويصح الظهار بتشبيه الزوجة أو جزئها، ولو حكما كالشعر والريق بالأم.
وكذا قال الحنابلة: يصح التشبيه سواء كان بكل المشبه به، أو بعضو منه كاليد والوجه والأذن، فيشمل كل محرّم من النساء على التأبيد بنسب أو رضاع أو
(١) أحكام القرآن للجصاص الرازي: ٣/ ٤١٧ وما بعدها، أحكام القرآن لابن العربي: ٤/ ١٧٣٨
14
مصاهرة، كالأمهات والجدات والعمات والخالات والأخوات. كما يشمل كل محرم من النساء تحريما مؤقتا كأخت المرأة أو عمتها، وكل محرّم من الرجال أو البهائم أو الأموات ونحوهم.
ثم أبان الله تعالى كفارة الظهار، فقال:
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ، ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي والذي يحدث منهم الظهار، ثم يريدون نقضه والعودة لما كانوا عليه من إرادة الجماع، فعليهم تحرير رقبة، أي أمة أو عبد مملوك، من أجل ما قالوا، من قبل التماس، وهو الجماع، فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يكفّر، ذلكم الحكم المذكور أو تشريع الكفارة تؤمرون به أو تزجرون به عن ارتكاب الظهار، والله خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها، فهو مجازيكم عليها.
واختلف العلماء في تفسير العود: فقال الظاهرية وأبو العالية: العود تكرار لفظ الظهار وإعادته، فلا تلزم الكفارة إلا إذا أعاد لفظ الظهار، وهو قول باطل. ورأى الحنفية والمالكية على المشهور أن العود: هو العزم على الوطء أو الجماع. وذهب الشافعي إلى أن العود: أن يمسك المظاهر منها بعد المظاهرة زمانا يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق.
وقال أحمد بن حنبل: هو أن يعود إلى الجماع أو يعزم عليه، فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة.
فالآراء ثلاثة أو أربعة: تكرار لفظ الظهار، والعزم على الوطء أو إرادة الوطء، والوطء في الفرج، والإمساك زمنا يمكن طلاقها فيه. وأجاب الجمهور عن رأي الظاهرية بأنه يقتضي أن الظهار أول مرة لا يترتب عليه كفارة، وقصة خولة تدفعه، لأنه لم ينقل التكرار، ولا سأل عنه صلى الله عليه وسلم.
15
وقوله: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي فإعتاق رقبة كاملة، أو فعليهم رقبة، والرقبة هنا مطلقة غير مقيدة بالإيمان، فاقتضى ذلك إجزاء عتق رقبة مؤمنة أو كافرة، وبهذا الظاهر قال الحنفية والظاهرية، لأنه لو كان الإيمان شرطا لبيّنه سبحانه كما بيّنه في كفارة القتل، فوجب أن يطلق ما أطلقه الله، ويقيد ما قيده، فيعمل بكل منهما في موضعه، ورأى الحنفية بناء على قواعدهم أن اشتراط الإيمان هنا زيادة على النص، وهو نسخ، والقرآن لا ينسخ إلا بالقرآن أو الخبر المتواتر أو المشهور، ولا يحمل المطلق على المقيد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة.
واشتراط الجمهور الإيمان في كفارة غير القتل، كما هو شرط في كفارة القتل الخطأ بنص القرآن، ويحمل المطلق على المقيد، أي يحمل ما أطلق هنا على ما قيد هناك لاتحاد الموجب: وهو عتق الرقبة، واعتضد في ذلك بما رواه مالك بسنده عن معاوية بن الحكم السّلمي في قصة الجارية السوداء،
وأن رسول الله ﷺ قال: «أعتقها فإنها مؤمنة» «١».
وضمير مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا للمظاهر والمظاهر منها المعلومين من الكلام السابق، والتّماس: كناية عن الجماع، فيحرم الجماع قبل التكفير، ومقدمات الجماع كالتقبيل ونحوها حرام أيضا عند الحنفية، لأن طريق الحرام حرام، وليست بحرام في الأظهر عند الشافعية، لأن تحريم الجماع لا صلة له بعقد الزواج، فإن الحائض يحرم جماعها دون دواعيه، والصائم يحرم منه الوطء دون دواعيه.
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أي فمن لم يجد الرقبة في ملكه، ولا تمكّن من ثمنها أو قيمتها زائدا عن قدر كفايته، أو لم يجد
(١) ورواه أيضا أحمد في مسنده ومسلم في صحيحة.
16
رقبة يشتريها لعدم وجود الرقيق في عصرنا، فعليه قبل التماس (أي الجماع) صيام شهرين متتابعين متواليين لا يفطر فيهما عملا بظاهر النص القرآني، وإجماع العلماء على وجوب التتابع، فإن أفطر يوما أو أكثر لغير عذر، أو جامعها ليلا أو نهارا عمدا، استأنف في رأي الجمهور. وقال الشافعي وأبو يوسف: لا يستأنف إذا وطئ ليلا، لأنه ليس محلا للصوم.
ولا ينقطع التتابع لدى المالكية بالمرض، وبالفطر سهوا، وبالإكراه على الفطر، وبظن غروب شمس أو ببقاء ليل، فأكل أو شرب، وبحيض ونفاس.
وينقطع التتابع عند الحنفية، والشافعية في المذهب الجديد بالإفطار بعذر كمرض مسوغ للفطر، ولا ينقطع التتابع في الصوم بحيض أو نفاس أو جنون.
ورأى الحنابلة أن المظاهر إن أفطر في الشهرين بعذر، بنى على ما مضى، وإن أفطر بغير عذر ابتدأ من جديد.
واختلف العلماء في بيان قدر الكفاية، وفي وقت اعتبار اليسار والإعسار، فذهب مالك، والشافعي في الأظهر إلى اعتبار ذلك بوقت التكفير والأداء، لأن الكفارة عبادة لها بدل من غير جنسها كالوضوء والتيمم، والقيام في الصلاة والقعود فيها، فاعتبر وقت أدائها. وذهب أحمد إلى اعتبار ذلك بوقت الوجوب، تغليبا لشائبة العقوبة في الكفارة.
ومن المعلوم أن الأشهر تعتبر بالأهلّة، فلا فرق بين التام والناقص، فمن بدأ بالصوم في أول الشهر، كمّل الشهرين بالهلال، ولو كانا ناقصين، ومن بدأ بالصوم في أثناء الشهر، فقال الشافعية: يحسب الشهر بعده بالهلال لتمامه، ويتم الأول من شهر آخر ثلاثين يوما لتعذر الهلال فيه. وقال الحنفية: لا بد من ستين يوما.
17
فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أي فمن لم يستطع صيام شهرين متتابعين لكبر سن أو مرض مزمن أو لمشقة شديدة لا تحتمل عادة، فعليه أن يطعم ستين مسكينا، لكل مسكين عند الحنفية مدان، أي نصف صاع من القمح، وصاع «١» من تمر أو شعير، كالفطرة قدرا ومصرفا، من قبل التّماسّ أيضا، سواء بالإباحة أو بالتمليك، عملا بظاهر القرآن وهو أن الواجب هو الإطعام، وحقيقة الإطعام هو التمكين، وذلك يتأدى بالإباحة والتمليك.
ويجب عند المالكية التمليك لكل مسكين مد «٢» وثلثان من القمح إن اقتاتوه، فلا يجزئ غيره من شعير أو ذرة أو غيرهما، فإن اقتاتوا غير القمح فما يعدله شبعا لا كيلا، ولا يجزئ الغداء والعشاء إلا أن يتحقق بلوغهما مدا وثلثين.
وأوجب الشافعية والحنابلة التمليك أيضا، وقدر ما يعطى كل مسكين: مدّ من قمح، أو نصف صاع من تمر أو شعير، ودليلهم على التمليك القياس على الزكاة وصدقة الفطر.
وظاهر قوله تعالى: فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً أنه لا بد من استيفاء عدد الستين، فلو أطعم واحدا ستين يوما لم ينجزه عند الجمهور غير الحنفية إلا عن واحد، لظاهر الآية، وهو أنه أوجب إطعام ستين مسكينا، فوجب رعاية ظاهر الآية. ويجزئه ذلك عند الحنفية، لأن المقصود سد خلة المحتاج، والحاجة تتجدد كل يوم، فالدفع إليه مع مرور الأيام إطفاء للحاجة المتكررة بتكرر الأيام.
وهذا معارض لظاهر النص على ستين مسكينا، وبتكرر الحاجة في مسكين واحد لا يصير هو ستين مسكينا، فالتعليل بسد خلة المحتاج مبطل لمقتضى النص، فلا يجوز.
(١) الصاع: ٢٧٥١ غم.
(٢) المد: ٦٧٥ غم.
18
واتفق العلماء على أن خصال كفارة الظهار مرتبة، فالإعتاق أولا، ثم الصيام، ثم الإطعام، للأحاديث الآمرة بهذا على الترتيب، كما ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان.
واتفق الفقهاء أيضا على أن من وطئ قبل أن يكفّر عصى ربه وأثم، لمخالفة أمره تعالى، وتستقر الكفارة في ذمته، ويظل تحريم زوجته عليه باقيا حتى يكفر، وذلك شامل جميع خصال الكفارة: العتق والصوم والإطعام. فإن وطئ أثناء التكفير فاختلف الفقهاء:
فذهب المالكية إلى أن الوطء في أثناء التكفير يحرم ويبطل ما تم، ويبتدئ الكفارة أيا كانت خصلتها من جديد.
ورأى الشافعية: أن المظاهر إن جامع أثناء الصوم ليلا قبل أن يكفّر، أثم، لأنه جامع قبل التكفير، ولا يبطل تتابع الصيام، لأن جماعه لم يؤثر في الصوم المفروض، فلم يقطع التتابع، كالأكل بالليل. وكذا إن جامع أثناء الإطعام، لا يبطل ما مضى.
وفصل الحنفية والحنابلة فقالوا: إن وطئ المظاهر امرأته المظاهر منها في أثناء الصوم، أفسد ما مضى من صيامه، واستأنف الصوم من جديد. أما إن وطئ أثناء الإطعام، فلا تلزمه إعادة ما مضى، عملا بعدم تقييد الإطعام في النص القرآني بكونه قبل التّماس، وتقييده في تحرير الرقبة والصيام بكونهما قبل التّماسّ.
ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ أي ذلك الحكم الذي بيناه من وجوب الكفارة بسبب الظهار، لتصدقوا بشرع الله تعالى وأمره، وتصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم، وتقفوا عند حدود الشرع، ولا تتعدّوها، ولا تعودوا إلى الظهار الذي هو منكر من القول وزور، وتلك الأحكام المذكورة
19
حدود الله أي محارمه، فالزموها ولا تتجاوزوا حدوده التي حدّها لكم، فإنه قد بين لكم أن الظهار معصية، وأن كفارته المذكورة توجب العفو والمغفرة، وللكافرين الذين يتعدونها ولا يقفون عند حدود الله عذاب مؤلم على كفرهم وهو عذاب جهنم في الآخرة، كما لهم عذاب في الدنيا.
وأطلق الكافر على متعدي الحدود تغليظا وزجرا، كما قال تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران ٣/ ٩٧].
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- الشكوى إلى الله من الهم والحزن والضيق أنجع طريق، فقد أجاب الله شكوى خولة بنت ثعلبة وقبل استغاثتها، وحقق ما توقعته من ربها، لثقتها بفضل الله وإحسانها. والإجابة والقبول هو المقصود من قوله سبحانه: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ.
والسماع في الأصل إدراك المسموعات، والسمع والبصر صفتان لله كالعلم والقدرة والحياة والإرادة، فهما من صفات الذات، لم يزل الخالق سبحانه وتعالى متصفا بهما. والسميع: المدرك للأصوات التي يدركها المخلوقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن، لأن الأصوات لا تخفى عليه.
٢- الظهار معصية وحرام ومنكر شرعا من القول وزور (كذب) وليست النساء بأمهات، فما أمهاتهم إلا الوالدات. وأصل الظهار: أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فمن قال ذلك فهو مظاهر بالإجماع، كما أن من قال لها: أنت علي كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم، فهو مظاهر.
20
والظهار نوعان: صريح وكناية، فالصريح: أنت علي كظهر أمي، وأنت عندي، وأنت مني، وأنت معي كظهر أمي، أو أنت علي حرام كظهر أمي، وكذا: أنت علي كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحوه، وكذلك فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك علي كظهر أمي، ففي ذلك كله يكون مظاهرا.
والكناية: أن يقول: أنت علي كأمي أو مثل أمي، فإنه يعتبر فيه النية، فإن أراد الظهار كان ظهارا، وإن لم يرد الظهار، لم يكن مظاهرا عند أئمة المذاهب الأربعة، لأنه أطلق تشبيه امرأته بأمه، فكان ظهارا.
والظهار لازم في كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها، على أي الأحوال كانت من زوج يجوز طلاقه.
ويلزم عند مالك الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها، ولا يلزم عند الشافعي وأبي حنيفة، لقوله تعالى: مِنْ نِسائِهِمْ وهذه ليست من نسائه.
والذميّ لا يلزم ظهاره عند أبي حنيفة ومالك، لقوله تعالى: مِنْكُمْ يعني من المسلمين، وهذا يقتضي خروج الذمي من الخطاب. ويلزم ظهاره عند الشافعي وأحمد، لعموم قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ...
ولا ظهار للمرأة من الرجل في قول الجمهور، لأن الله تعالى قال: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ولم يقل: اللائي يظاهرن منكن من أزواجهم، إنما الظهار على الرجال. وقال الأوزاعي وإسحاق وأبو يوسف: إذا قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أمي فلانة، فهي يمين تكفّرها. وقال أحمد: يجب عليها كفارة الظهار، لأنها أتت بالمنكر من القول والزور.
21
وظهار السكران صحيح كطلاقه، ويلزمه حكم الظهار والطلاق إذا عقل، بالاتفاق، ولا يصح ظهار المكره عند الجمهور غير الحنفية. وكذا يلزم الغضبان حكم الظهار. ومن كان به لمم، أي إلمام بالنساء وشدة حرص وتوقان إليهن، كأوس بن الصامت الذي ظاهر من زوجته خولة بنت ثعلبة، لزمه ظهاره.
وليس معنى اللمم: الجنون والخبل كما قال الخطابي، إذ لو كان به ذلك، ثم ظاهر في تلك الحالة، لم يكن يلزمه شيء.
ولا يقرب المظاهر امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ بها بشيء حتى يكفّر في رأي الجمهور، ورأى الشافعي أن المباشرة ليلا لا تقطع الصوم ولا تحرم.
ومن وطئ قبل أن يكفّر: عليه كفارة واحدة في رأي الجمهور، وقال بعضهم (مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن مهدي) : عليه كفارتان، ودليل الجمهور: أن الآية دلت على أنه يجب على المظاهر كفارة قبل العود، وهنا فاتت صفة القبلية، فيبقى أصل وجوب الكفارة، وليس في الآية دلالة على أن ترك التقديم يوجب كفارة أخرى.
وإذا كظاهر من أربع نسوة في كلمة واحدة، كقوله: أنتن علي كظهر أمي، كان مظاهرا من كل واحدة منهن، ولم يجز له وطئ إحداهن، وأجزأته كفارة واحدة في قول الجمهور، وقال الشافعي في الأظهر: تلزمه أربع كفارات.
وإن قال لأربع نسوة: إن تزوجتكن فأنتن علي كظهر أمي، فتزوج إحداهن، لم يقربها حتى يكفّر، ثم قد سقط عنه اليمين في سائرهن.
وإن قال لامرأته: أنت علي كظهر أمي وأنت طالق البتة «١»، لزمه الطلاق والظهار معا، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج آخر، ولا يطأها إذا نكحها حتى يكفّر. والمبتوتة عند المالكية لا يلحقها طلاق ولا ظهار.
(١) يريد ب (البتة) هنا: الطلاق الثلاث. [.....]
22
٣- كفارة الظهار واجبة على الترتيب: الإعتاق، ثم الصيام شهرين متتابعين، ثم إطعام ستين مسكينا، وذلك قبل التّماس، أي الجماع ومقدماته عند الحنفية، والجماع فقط عند الشافعية، فإن جامع قبل أن يكفر، لم يجب عليه إلا كفارة واحدة في قول أكثر العلماء كما تقدم.
٤- العود لما قال المظاهر في الظهار: معناه عند الحنفية والمالكية: العزم على الوطء أو إرادة الوطء، والوطء في الفرج عند الحنابلة، وإمساك الزوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق في مذهب الشافعية.
والأظهر أنه لا ينبغي للمرأة أن تدعه يقربها حتى يكفّر، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينه وبينها، ويجبره على التكفير.
٥- يجزئ عند الحنفية إعتاق الرقبة الكافرة ومن فيها شائبة رق كالمكاتبة وغيرها، ولا يجزئ إعتاق غير الرقبة المؤمنة عند بقية المذاهب، ولا يجزئ عند الشافعي رحمه الله إعتاق المكاتب.
ومن لم يجد الرقبة ولا ثمنها، أو كان مالكا لها إلا أنه شديد الحاجة إليها لخدمته، أو كان مالكا لثمنها إلا أنه يحتاج إليه لنفقته، أو كان له مسكن ليس له غيره ولا يجد شيئا سواه، فله أن يصوم عند الشافعي. وقال أبو حنيفة:
لا يصوم وعليه عتق، ولو كان محتاجا إلى ذلك. وقال مالك: إذا كان له دار وخادم، لزمه العتق، فإن عجز عن الرقبة، صام شهرين متتابعين.
٦- تتابع الصيام شرط، وينقطع تتابع صوم الشهرين إن أفطر بغير عذر، ويستأنف. فإن أفطر بعذر من سفر أو مرض، بنى وأكمل عند المالكية والحنابلة، واستأنف أو ابتدأ الصيام من جديد عند الحنفية والشافعية، لفوات التتابع، ولكن لا ينقطع عند هؤلاء بحيض أو نفاس أو جنون.
23
وينقطع التتابع بالوطء ليلا أو نهارا عند الجمهور، لقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ولا يبطل التتابع عند الشافعية بالوطء ليلا، لأنه ليس محلا للصوم.
٧- لا يجزئ عند مالك والشافعي وأحمد أن يطعم أقل من ستين مسكينا، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن أطعم مسكينا واحدا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد، أجزأه.
٨- إن كفارة الظهار إيمان بالله سبحانه وتعالى، لقوله: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أي لتكونوا مطيعين لله سبحانه، واقفين عند حدود الكفارة لا تتعدّوها، فسمى التكفير طاعة، ومراعاة الحد إيمانا. وتلك حدود الله تعالى بين معصيته وطاعته، فمعصيته الظهار، وطاعته الكفارة، ولمن لم يصدق بأحكام الله تعالى عذاب جهنم.
وهذا دليل على أن العمل داخل في مسمى الإيمان، لأن الله أمر بهذه الأعمال، وبيّن أنه أمرهم بها ليصيروا بعملها مؤمنين، فدلت الآية على أن العمل من الإيمان. وأنكر بعضهم ذلك وقال: إنه تعالى لم يقل: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ بعمل هذه الأشياء، ورد الرازي عليهم بأن المعنى: ذلك لتؤمنوا بالله بالإقرار بهذه الأحكام.
ودل قوله: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ على أنه لا بد لهم من الطاعة، وأن العذاب لمن جحد هذا وكذب به.
24
وعيد الذين يعادون الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٥ الى ٧]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧)
الإعراب:
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يَوْمَ: ظرف زمان متعلق بما قبله، وهو مُهِينٌ في قوله تعالى: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ أي لهم عذاب مهين في هذا اليوم، أو بإضمار: اذكر.
ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ ثَلاثَةٍ: مجرور بالإضافة، ويكون نَجْوى مصدرا، أو مجرور على البدل، بمعنى (متناجين) وتقديره: ما يكون من متناجين ثلاثة.
البلاغة:
وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ بينهما طباق، لأن معنى أَدْنى أقل، فصار الطباق بينها وبين أكثر.
المفردات اللغوية:
يُحَادُّونَ يعادون ويخالفون، وأصل المحادّة: الممانعة، يقال للبواب: حداد. كُبِتُوا خذلوا وأذلوا وأهينوا. كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ في مخالفتهم رسلهم، وهم كفار الأمم الماضية.
25
وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات دالة على صدق الرسول ﷺ وما جاء به. وَلِلْكافِرِينَ بالآيات. عَذابٌ مُهِينٌ ذو إهانة، وإذلال، يذهب عزهم وتكبرهم.
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يبعثهم كلهم، لا يدع أحدا غير مبعوث، أو مجتمعين. فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يخبرهم بأعمالهم أمام الناس، تشهيرا لحالهم، وتقريرا لعذابهم وتوبيخا وتقريعا لهم.
أَحْصاهُ اللَّهُ أحاط به عددا، لم يغب عنه شيء. وَنَسُوهُ لكثرته، أو تهاونهم به. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ لا يغيب عنه شيء.
أَلَمْ تَرَ تعلم. ما يَكُونُ ما يوجد. نَجْوى تناجي ومسارّة، أو أصحاب نجوى، مأخوذ من النجوة: وهي ما ارتفع من الأرض، لأن المتسارّين يخلوان وحدهما بنجوة من الأرض.
إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ أي محيط بهم بعلمه. وَلا خَمْسَةٍ ولا نجوى خمسة. إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ تخصيص العددين إما لخصوص الواقعة، فإن الآية نزلت في تناجي المنافقين، أو لأن التشاور لا بدّ له من اثنين يكونان كالمتنازعين وثالث يتوسط بينهما. وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ ولا أقل مما ذكر كالواحد والاثنين. وَلا أَكْثَرَ من هذا العدد. إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ يعلم ما يجري بينهم. أَيْنَ ما كانُوا علم الله شامل لكل شيء، لا يتحدد بمكان. ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ يخبرهم بأعمالهم، فضحا لهم وتقريرا لجزائهم. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ عالم بكل شيء على سواء.
المناسبة:
بعد بيان أحكام الظهار في شريعة الإسلام، وتوبيخ المتورطين في الظهار، ومدح المؤمنين الواقفين عند حدوده، ذكر تعالى ما يلحق المخالفين لشرع الله والمعادين لأمر الله تعالى ورسوله ﷺ من خزي وهوان في الدنيا، وعذاب في غاية الذل والمهانة في الآخرة، وأيد ذلك بالوعيد الشديد لهم، فأخبر أن الله مطلع عليهم وعلى أعمالهم، لا يخفى عليه شيء من أحوالهم في السر والعلن، وسيخبرهم بذلك يوم الحساب، ويجازيهم على ما قدموا من عمل.
التفسير والبيان:
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي إن الذين يعادون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويخالفون شرع ربهم ويعاندونه، أذلّوا وأخزوا وأهينوا ولعنوا، وينكل بهم في الدنيا، كما أذل الذين من قبلهم من
26
كفار الأمم المتقدمة، بسبب معاداتهم شرع الله سبحانه، وقد تحقق هذا الإنذار بإذلال المشركين بالقتل والأسر والقهر يوم بدر والخندق. وفي ذلك تبشير بنصر المؤمنين على من عاداهم، ووعيد لكل الحكام المسلمين الذين يهجرون شريعتهم الإلهية، ويعملون بالقوانين الوضعية، ونظير الآية: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى.. الآية [النساء ٤/ ١١٥] وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الحشر ٥٩/ ٤].
وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ، وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ أي وقد أنزلنا للناس آيات واضحات، لا يخالفها إلا كل كافر فاجر مكابر، وللجاحدين بتلك الآيات، المستكبرين عن اتباع شرع الله والانقياد له، عذاب يهين صاحبه، ويذله، بسبب كفرهم وتكبرهم عن حكم الله، وذلك العذاب: هو الخزي والهوان في الدنيا، ونار جهنم في الآخرة.
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً، فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا، أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي اذكر ذلك اليوم تعظيما له، وأخبر بأن لهم عذابا مهينا يوم يحسرهم الله جميعا من الأولين والآخرين في يوم الحساب، مجتمعين في حالة واحدة، لا يبقى منهم أحد لا يبعث، فيخبرهم الله بأعمالهم القبيحة التي عملوها في الدنيا، لإقامة الحجة وتكميلها عليهم، كما يخبرهم بكل ما صنعوا من خير وشر، ضبطه الله وحفظه عليهم، في صحائف كتبهم، وهم قد نسوا ما كانوا عملوا، والله مطلع وناظر لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى ولا ينسى شيئا.
وفي هذا أيضا وعيد شديد لكل من قدم الأعمال المنكرة والأفعال القبيحة.
ثم أخبر الله تعالى تأكيدا لما سبق بإحاطة علمه بخلقه واطلاعه على كل شيء، فقال:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ
27
إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ، أَيْنَ ما كانُوا
أي ألم تعلم أيها النبي وكل مخاطب أن علم الله واسع شامل محيط بكل شيء في الأرض والسماء، بحيث لا يخفى عليه شيء مما فيهما، فما يوجد من تناجي أشخاص ثلاثة أو خمسة إلا هو معهم بعلمه، ومطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم، ولا يوجد من نجوى أقل من ذلك العدد أو أكثر منه مهما كان الرقم عشرات ومئات أو ألوفا أو ملايين إلا وهو عليم بهم، في أي زمان وفي أي مكان، يعلم السر والجهر، لا تخفى عليه خافية، ولا يغيب عنه شيء من تناجيهم في السر والعلن، لأن علم الله تعالى محيط بكل شيء، لا يحده زمان ولا يحجبه مكان، يسمع كلامهم، ويبصر ويرى مكانهم حيثما كانوا، وأينما كانوا، ورسله أيضا مع ذلك تكتب ما يتناجون به، مع علم الله به، وسمعه له.
والسبب في ذكر الثلاثة والخمسة وإهمال ذكر الاثنين والأربعة: هو إما تصوير الحالة الواقعية التي نزلت الآية بسببها، فإنها نزلت في قوم منافقين، اجتمعوا على التناجي مغايظة للمؤمنين، وكانوا على هذين العددين. عن ابن عباس: أن ربيعة وحبيبا ابني عمرو وصفوان بن أمية كانوا يوما ما يتحدثون، فقال أحدهم: أترى أن الله يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضا ولا يعلم بعضا، وقال الثالث: إن كان يعلم بعضا، فهو يعلم كله، فنزلت.
وإما أن طبيعة المشاورة، تتطلب وجود عدد وتر، فيكون الاثنان أو الأربعة متنازعين، والثالث أو الخامس كالمتوسط الحكم بينهم، فذكر سبحانه الثلاثة والخمسة تنبيها على الأفراد والمجموعات الباقية.
ونظير الآية كثير في القرآن، نحو قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [التوبة ٩/ ٧٨] وقوله سبحانه: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ، بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف ٤٣/ ٨٠].
28
ولهذا أجمع المفسرون على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى، ولا شك في إرادة ذلك.
ومع علم الله وسمعه وبصره بكل شيء، هو سبحانه وتعالى مطلع على جميع أمور خلقه، كما قال: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أي ثم يخبر الله عباده المتناجين وغيرهم بجميع أعمالهم يوم القيامة، ليعلموا أن الله عالم بهم، وليكون إعلامه لمن يتناجون بالسوء والمكر توبيخا لهم وتكبيتا، وإلزاما للحجة، والله تعالى واسع العلم بكل الأشياء والأعمال، لا تخفى عليه خافية من الأمور، ويجازيهم عليها.
قال الإمام أحمد: افتتح الآية بالعلم، واختتمها بالعلم.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- إن كل من خالف شرع الله أو عاداه، أو تجاوز حدوده، له الخزي والذل والهوان في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة. وهذا بشارة من الله تعالى للمؤمنين بالنصر، ووعيد وإنذار للكافرين بالعقاب الشديد.
٢- يوم يبعث الله الرجال والنساء من أول عمر الدنيا إلى آخرها، من قبورهم في حالة واحدة، يخبرهم بما عملوا في الدنيا، وقد أحصاه الله عليهم في صحائف أعمالهم، بالرغم من نسيانهم له، ليكون أبلغ في الحجة عليهم، والله مطّلع وناظر لا يخفى عليه شيء.
٣- لا يخفى على الله سر ولا علانية في السموات والأرض، فكل ما يكون من تناجي أو سرار اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو أقل أو أكثر من ذلك العدد، يعلم به الله ويسمع نجواهم، كما دل عليه افتتاح الآية: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ..
29
بالعلم، ثم ختمها بالعلم، وسمع الله محيط بكل كلام، وقد سمع الله مجادلة المرأة التي ظاهر منها زوجها، وعلمه شامل كل شيء، لأن علمه علم قديم، فهو عالم بجميع المعلومات.
٤- أكد الله تعالى المذكور في الآية السابقة بأنه سيخبر يوم القيامة خلقه بما عملوا من حسن وسوء، لأن الله عليم بجميع الأشياء، والمراد به أنه يحاسب الناس على أعمالهم، ويجازيهم على قدر استحقاقهم. ودل قوله: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ على التحذير من المعاصي، والترغيب في الطاعات.
٥- المراد من كونه تعالى رابعا للثلاثة، وسادسا للخمسة وكونه معهم:
كونه تعالى عالما بكلامهم وضميرهم وسرهم وعلنهم، وكأنه تعالى حاضر معهم ومشاهد لهم، مع تنزيهه تعالى عن المكان والمشاهدة.
عقاب المتناجين بالسوء وآداب المناجاة في القرآن
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٨ الى ١٠]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْيُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠)
30
الإعراب:
حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها، فَبِئْسَ الْمَصِيرُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ مبتدأ وخبر، ويَصْلَوْنَها جملة فعلية في موضع نصب على الحال من جَهَنَّمُ وبئس المصير: حذف المقصود بالذم، وتقديره: جهنم.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ ألم تنظر. الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى هم اليهود والمنافقون كانوا يتناجون فيما بينهم، أي يتحدثون سرا للتآمر على المؤمنين وإيقاع الريبة في قلوبهم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عادوا لمثل فعلهم. بِالْإِثْمِ بما هو معصية وذنب. وَالْعُدْوانِ الاعتداء على غيرهم.
وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ التواصي بمخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم. وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ أي إذا جاؤوك أيها النبي قالوا: السام عليك، أي الموت، أو أنعم صباحا.. ، والله تعالى يقول:
وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل ٢٧/ ٥٩]. وحَيَّوْكَ خاطبوك بالتحية، والتحيات لله: أي البقاء. وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ أي فيما بينهميُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ هلا يعذبنا بسبب ذلك، أي بالتحية لو كان محمد نبيا. حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عذاب جهنم كاف لهم.
يَصْلَوْنَها يدخلونها ويقاسون حرّها. فَبِئْسَ الْمَصِيرُ جهنم.
فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ.. كما يفعله المنافقون. وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى بما يتضمن خير المؤمنين واتقاء معصية الرسول صلى الله عليه وسلم. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيما تأتون وتذرون، فإنه مجازيكم عليه، وتُحْشَرُونَ تجمعون.
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ النجوى بالإثم والعدوان من الشيطان، فإنه المزين لها والدافع إليها. لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ليوقعهم بتوهمه في الحزن. وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً أي وليس الشيطان بضارّ المؤمنين. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بمشيئته. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فليفوضوا الأمر إليه، ولا يبالوا بنجواهم.
سبب النزول:
نزول الآية (٨) :
أَلَمْ تَرَ... :
أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيّان قال: كان بين النبي ﷺ وبين اليهود موادعة، فكانوا إذا مرّ بهم رجل من الصحابة، جلسوا
31
يتناجون بينهم حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله، أو بما يكرهه، فنهاهم النبي ﷺ عن النجوى، فلم ينتهوا، فأنزل الله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى الآية.
وأخرج أحمد والبزار والطبراني بسند جيد عن عبد الله بن عمرو: أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سام عليكم، ثم يقولون في أنفسهم: يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ، فنزلت الآية: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ.
وقال ابن عباس ومجاهد: نزلت في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون إلى المؤمنين، ويتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما نراهم إلا وقد بلغهم عن أقربائنا وإخواننا الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو مصيبة أو هزيمة، فيقع ذلك في قلوبهم ويحزنهم، فلا يزالون كذلك حتى يقدم أصحابهم وأقرباؤهم، فلما طال ذلك وكثر، شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك، وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
نزول قوله تعالى: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ:
عن عائشة قالت: جاء ناس من اليهود إلى النبي ﷺ فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، فقلت: السام عليكم وفعل الله بكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه، يا عائشة، فإن الله تعالى لا يحبّ الفحش ولا التفحش، فقلت: يا رسول الله، ألست أدري ما يقولون؟ قال: ألست ترين أردّ عليهم ما يقولون؟ أقول:
وعليكم، ونزلت هذه الآية في ذلك: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ «٢».
(١) أسباب النزول للنيسابوري: ص ٢٣٣
(٢) المرجع والمكان السابق، والحديث رواه ابن أبي حاتم.
32
نزول الآية (١٠) :
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ: أخرج ابن جرير عن قتادة قال: كان المنافقون يتناجون بينهم، وكان ذلك يغيظ المؤمنين، ويكبر عليهم، فأنزل الله: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ الآية.
المناسبة:
بعد بيان علم الله بكل شيء، ومنه السر والنجوى، أبان الله تعالى حال أولئك الذين نهوا عن النجوى وهم اليهود والمنافقون، ثم عودتهم إلى المنهي عنه، وتحيتهم بالسوء للنبي صلى الله عليه وسلم، قائلين له: السام عليك، أي الموت، وتهديد بدخول جهنم.
ثم ذكر تعالى آداب المناجاة من الامتناع عن التناجي بالإثم والعدوان، أي بالمعصية والقبيح والاعتداء وكل ما يؤدي إلى ظلم الغير، وضرورة التناجي بالبر والتقوى، أي بالخير وما يتقى به من النار من فعل الطاعات وترك المعاصي.
التفسير والبيان:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى، ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ أي ألم تنظر إلى الذين نهيتهم عن التناجي والمسارة بالسوء، ثم عودتهم إلى ما نهيتهم عنه، وهم اليهود والمنافقون كما ذكر في سبب النزول.
وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ أي ويتسارّون أو يتحدثون فيما بينهم بما هو معصية وذنب كالكذب، واعتداء وظلم للآخرين وعدوان على المؤمنين، وتواص بمخالفة النبي صلى الله عليه وسلم.
وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ أي وإذا أتى إليك اليهود حيّوك بتحية سوء لم يحيّك بها الله إطلاقا، فيقولون: السام عليك، يريدون
33
بذلك السلام ظاهرا، وهم يعنون الموت باطنا،
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: وعليكم.
روي في الصحيح لدى البخاري ومسلم عن عائشة: أن ناسا من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم يا أبا القاسم، فقال صلى الله عليه وسلم: وعليكم، وقالت عائشة: عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم، فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش، فقلت: ألا تسمعهم يقولون: السام؟ فقال عليه الصلاة والسلام: وأما سمعت ما أقول:
وعليكم، فأنزل الله تعالى: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ أي والله تعالى يقول: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل ٢٧/ ٥٩] ويا أَيُّهَا الرَّسُولُ ويا أَيُّهَا النَّبِيُّ.
وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ أي يفعلون هذا، ويقولون فيما بينهم: لو كان محمد نبيا لعذبنا الله بما يتضمنه قولنا من الاستخفاف به، فأجاب الله تعالى عن قولهم: بأن جهنم تكفيهم، كما قال سبحانه:
حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها، فَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي يكفيهم عذاب جهنم عن الموت الحاضر، يدخلونها، فبئس المرجع والمآل، وهو جهنم.
ثم ذكر الله تعالى آداب المناجاة حتى لا يكون المؤمنون مثل اليهود والمنافقين، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، إِذا تَناجَيْتُمْ، فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ أي يا أيها المؤمنون الذين يقتضي إيمانكم امتثال أمر الله، والابتعاد عن كل ما يتنافى مع الإيمان الصحيح، إذا تحدثتم سرا فيما بينكم، فلا تفعلوا مثلما يفعل الجهلة من اليهود والمنافقين، من التناجي بالمعصية والذنب. والاعتداء على الآخرين وظلمهم، ومخالفة النبي ﷺ قائد الأمة ومنقذها من الضلالة.
وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي وتحدثوا بالطاعة وترك المعصية، وبالخير واتقاء الله فيما تفعلون وتتركون، فإنكم إليه
34
تجمعون يوم القيامة والحساب، فيخبركم بأعمالكم وأقوالكم، ويحاسبكم عليها، ويجازيكم بما تستحقون،
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا كنتم ثلاثة، فلا يتناجى رجلان دون الآخر، حتى تختلطوا بالناس، فإن ذلك يحزنه» «١».
ثم ذكر الله تعالى بواعث مناجاة الكفار بالسوء، فقال:
إِنَّمَا النَّجْوى «٢» مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي إنما التناجي أو المسارّة بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ﷺ من تزيين الشيطان وتسويله ووسوسته ليسوء المؤمنين، ولأجل أن يوقعهم في الحزن بإيهامهم أنهم في مكيدة يكادون بها، وليس الشيطان أو التناجي الذي يزينه الشيطان بضارّ المؤمنين شيئا، إلا بإرادة الله تعالى ومشيئته.
وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي فلا يأبه المؤمنون بتناجيهم، وليتوكلوا على الله ربهم، بأن يكلوا أمرهم إليه، ويفوضونه في جميع شؤونهم، ويستعيذون بالله من الشيطان، ولا يبالون بما يزينه من النجوى.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن شأن اليهود وديدنهم معاداة القيم والأنبياء، والتآمر والمكايد، فتراهم يتناجون سرا بالإثم والعدوان، أي بالكذب والظلم، ويتواصون بمخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويخرجون عن الآداب الاجتماعية المعروفة، فيحيون النبي ﷺ بقولهم: السام عليك يريدون بذلك السلام ظاهرا، وهم يعنون الموت باطنا، فيجيبهم النبي ﷺ بقوله: «عليكم» أو «وعليكم» وكانوا يقولون: لو كان محمدا
(١) رواه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه وعبد الرزاق عن ابن مسعود.
(٢) اللام للعهد، وهو التناجي بالإثم والعدوان، زينه الشيطان لأجلهم.
35
نبيا لما أمهلنا الله بسبّه والاستخفاف به، وجهلوا أن الباري تعالى حليم، لا يعاجل من سبّه، فكيف من سبّ نبيه؟!
وقد ثبت أن النبي ﷺ قال: «لا أحد أصبر على الأذى من الله، يدعون له الصاحبة والولد، وهو يعافيهم ويرزقهم».
واختلف العلماء في رد السلام على أهل الذمة، هل هو واجب كالرد على المسلمين، فذهب ابن عباس والشعبي وقتادة إلى الوجوب، للأمر بذلك. وذهب مالك والشافعي إلى أن ذلك ليس بواجب، فإن رددت فقل عليك. قال القرطبي: وما قاله مالك أولى اتباعا للسنة،
أخرج الترمذي عن أنس أن النبي ﷺ قال: «إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: عليك ما قلت».
٢- أمر الله المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم بالبر والتقوى، أي بالطاعة والعفاف عما نهى الله عنه، ونهاهم عن التناجي أي التسارر بالمعصية والذنب، والاعتداء على الآخرين والظلم، فإنهم مجموعون في الآخرة إلى الله الذي يجازيهم على ما قالوا وما عملوا.
٣- إن الباعث على نجوى السوء من تزيين الشيطان، ليوقع المؤمنين في الهمّ والحزن، وليوهمهم أن المسلمين أصيبوا في السرايا، أو أنهم متعرضون لمكايدة الأعداء، والوقوع فريسة الأقوياء، ومحنة السوء، مع العلم بأن الشيطان لا يضر أحدا بشيء إلا بمشيئة الله وتدبيره، وعلى المؤمنين أن يكلوا أمرهم إلى الله ربهم القاهر القادر، ويفوضوا جميع شؤونهم إلى عونه، ويستعيذوا به من الشيطان ومن كل شر، فهو الذي سلّط الشيطان بالوساوس ابتلاء للعبد وامتحانا، ولو شاء لصرفه عنه.
٤- من أدب الإسلام، كما
جاء في حديث عبد الله بن مسعود المتقدم: «إذا كنتم ثلاثة... »
ألّا يتناجى أو يتحدث سرا اثنان أمام ثالث، حتى يجد الثالث
36
من يتحدث معه، كما فعل ابن عمر، وذلك أنه كان يتحدث مع رجل، فجاء آخر يريد أن يناجيه، فلم يناجيه حتى دعا رابعا، فقال له وللأول: تأخرا، وناجى الرجل الطالب للمناجاة «١». ويستوي في ذلك كل الأعداد، فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلا، لوجود ذلك المعنى في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أوقع، فيكون بالمنع أولى، وإنما خص الثلاثة بالذكر، لأنه أول عدد يتأتى ذلك المعنى فيه. وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال، وإليه ذهب الجمهور، وسواء أكان التناجي في مندوب أم مباح أم واجب، فإن الإساءة تشمله «٢».
أدب المجالسة في الإسلام
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١)
البلاغة:
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ الجملة الأخيرة عطف خاص على عام تنويها بشرف العلماء، مع أنهم داخلون في المؤمنين.
المفردات اللغوية:
تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ توسعوا فيها، وليفسح بعضكم عن بعض، يقال: افسح عني، أي
(١) أخرجه الموطأ.
(٢) تفسير القرطبي: ١٧/ ٢٩٥
37
تنّح، وقرئ: «في المجلس»، والمراد به الجنس. يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ يوسع الله لكم في رحمته، من المكان والصدر والرزق والجنة وغيرها. انْشُزُوا انهضوا للتوسعة على القادمين، أو ارتفعوا في المجلس، أي تنحوا من الموضع، ويقال: امرأة ناشز، أي منتحية عن زوجها. فَانْشُزُوا فانهضوا دون تباطؤ. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يعلي منزلتهم بالنصر وحسن السمعة في الدنيا، والإيواء في غرف الجنان في الآخرة. وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ أي ويرفع العلماء منهم خاصة درجات في الكرامة وعلوّ المنزلة، لجمعهم بين العلم والعمل، فإن العلم مع علو درجته يقتضي العمل المقرون به زيادة رفعة،
جاء في الحديث: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب» «١».
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي عالم مطلع على جميع أعمالكم، وهو تهديد لمن لم يمتثل الأمر.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير الطبري عن قتادة قال: كانوا إذا رأوا من جاءهم مقبلا، ضنّوا بمجلسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ: تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل: أنها نزلت يوم الجمعة، وقد جاء ناس من أهل بدر، وفي المكان ضيق، فلم يفسح لهم، فقاموا على أرجلهم، فأقام ﷺ نفرا بعدتهم وأجلسهم مكانهم، فكره أولئك النفر ذلك، فنزلت.
المناسبة:
بعد أن نهى الله تعالى المؤمنين عن التناجي سرا في المجتمعات، والتناجي بالإثم والعدوان، لكونه سبب التباغض والتنافر، أمرهم تعالى بما يكون سببا لزيادة المحبة والمودة من التوسع في المجالس، والانصراف عنها عند الطلب لمصلحة ما، ثم أخبر عن رفع منازل المؤمنين والعلماء درجات في الجنان وفي الدنيا أيضا.
(١) رواه أبو نعيم في الحلية عن معاذ، وهو ضعيف.
38
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ، فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي يا أيها المصدقون بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، إذا طلب منكم التوسع في الأماكن والمجالس، وعدم التضايق فيها، سواء مجالس النبي أو مواضع القتال، فليفسح بعضكم لبعض، وليوسع أحدكم للآخر، يوسع الله لكم في الجنة، أي إن الجزاء من جنس العمل.
والآية عامة في كل مجلس، اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب أو ذكر وعلم، أو يوم جمعة أو عيد، وكل واحد أحق بمكانه الذي يسبق إليه، ولكن يوسع لأخيه.
جاء في الحديث الثابت عن النبي ﷺ أنه قال: «لا يقم الرجل الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه، ولكن تفسحوا وتوسعوا» «١».
قال: الرازي: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ: هو مطلق في كل ما يطلب الناس الفسحة فيه، من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة.
والآية دلت على أن كل من وسع على عباد الله أبواب الخير والراحة، وسع الله عليه خيرات الدنيا والآخرة، ولا ينبغي للشخص أن يقيد الآية بالتفسح في المجلس، بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم، وإدخال السرور في قلبه، لذا
قال صلى الله عليه وسلم: «ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» «٢».
(١) رواه مالك والشافعي وأحمد والترمذي وابن أبي حاتم عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه الشيخان في الصحيحين.
(٢) تفسير الرازي: ٢٩/ ٢٦٩، والحديث أخرجه مسلم عن أبي هريرة.
39
وهذا الأدب له تأثيره الكبير في غرس المحبة والتقدير في القلوب. وهو يومئ إلى أن الصحابة كانوا يتنافسون في القرب من مجلس الرسول ﷺ لسماع حديثه، والانتفاع بهديه وأدبه وفضله.
وفي الحديث المروي في السنن: أن رسول الله ﷺ كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ولكن حيث يجلس، يكون صدر ذلك المجلس، فكان الصحابة رضي الله عنهم يجلسون منه على مراتبهم، فالصديق رضي الله عنه يجلسه عن يمينه، وعمر عن يساره، وبين يديه غالبا عثمان علي، لأنهما كانا ممن يكتب الوحي وكان يأمرهما بذلك
، روى مسلم وأحمد وأهل السنن إلا الترمذي عن أبي مسعود أن النبي ﷺ كان يقول: «ليلني منكم أولو الأحلام والنّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»
وما ذاك إلا ليعقلوا عنه ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه.
ولهذا أمر أولئك النفر بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر، إما لتقصير أولئك في حق البدريين، أو ليأخذ البدريون نصيبهم من العلم، كما أخذ أولئك قبلهم، أو تعليما بتقديم الأفاضل إلى الأمام.
وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال:
فمنهم من رخص في ذلك، محتجا
بحديث أبي داود عن أبي سعيد الخدري: «قوموا إلى سيدكم»
وهو سعد بن معاذ حينما استقدمه النبي ﷺ حاكما في بني قريظة.
ومنهم من منع ذلك محتجا بحديث أحمد وأبي داود والترمذي عن معاوية بن أبي سفيان: «من أحب أن يتمثّل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار».
ومنهم من فصّل، فقال: يجوز عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دلت عليه قصة سعد المتقدمة، ليكون أنفذ لحكمه، فأما اتخاذه ديدنا فإنه من شعار العجم، وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من
40
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا جاء لا يقومون له، لما يعلمون من كراهته لذلك «١».
وَإِذا قِيلَ: انْشُزُوا فَانْشُزُوا أي إذا طلب من بعض الجالسين في المجلس أن ينهضوا من أماكنهم، ليجلس فيها أهل الفضل في الدين، وأهل العلم بشرع الله، فليقوموا.
وهذا يشمل أيضا ما إذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه: قوموا، ينبغي أن يجاب.
وبعد أن نهى الله تعالى المؤمنين عن بعض الأشياء، ثم أمرهم ثانيا ببعض الأشياء، وعدهم على الطاعات، فقال:
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ، وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ أي يرفع الله منازل المؤمنين في الدنيا والآخرة بتوفير نصيبهم فيها، ويرفع أيضا بصفة خاصة منازل العلماء درجات عالية في الكرامة في الدنيا، والثواب في الآخرة، فمن جمع الإيمان والعلم، رفعه الله بإيمانه درجات، ثم رفعه بعلمه درجات، ومن جملة ذلك رفعه في المجالس، والله خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه، مطّلع على أحوال ونوايا جميع عباده، ومجازيهم على أعمالهم جميعا، خيرا أو شرا.
روى الإمام أحمد ومسلم عن أبي الطفيل عامر بن واثلة: أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة، فقال له عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى، رجل من موالينا، فقال عمر: استخلفت عليهم مولى؟ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاض، فقال عمر رضي الله عنه: أما إن نبيكم ﷺ قد قال: «إن الله يرفع بهذا الكتاب قوما، ويضع به آخرين».
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ٣٢٥
41
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآية إلى ما يأتي:
١- التوسع في كل مجلس اجتمع فيه المسلمون للخير والأجر مطلوب شرعا، وأدب حسن، سواء كان مجلس النبي في عصره، أو عالم بعده أو مجلس حرب أو ذكر أو شورى أو مجلس يوم الجمعة أو العيد أو العلم ونحوه، وليس ذلك واجبا وإنما هو مندوب شرعا، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه،
لقوله صلى الله عليه وسلم: «من سبق إلى ما لم يسبق إليه، فهو أحق به» «١»
ولكن يوسع لأخيه ما لم يتأذّ بذلك، فيخرجه الضيق عن موضعه.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر كما تقدم عن النبي ﷺ قال: «لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه، ثم يجلس فيه»
وعن ابن عمر أيضا فيما رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه، ويجلس فيه آخر، ولكن تفسحوا وتوسعوا»
وكان ابن عمر يكره أن يقوم الرجل من مجلسه، ثم يجلس مكانه.
٢- إذا قعد واحد من الناس في موضع من المسجد، لا يجوز لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه، لما
روى مسلم عن جابر عن النبي ﷺ قال: «لا يقيمنّ أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالف إلى مقعده، فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا».
وإذا أمر إنسان إنسانا أن يبكر إلى الجامع، فيأخذ له مكانا يقعد فيه، لا يكره، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع. ومثل ذلك إرسال بساط أو سجادة لتبسط له في موضع من المسجد.
والجالس يختص بموضعه إلى أن يغادره نهائيا، لما
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «إذا قام أحدكم- أو من قام من مجلسه- ثم رجع إليه، فهو أحق به».
(١) حديث صحيح رواه أبو داود والضياء عن أم جنوب بلفظ: «من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم، فهو له».
42
٣- إن للتوسع في المجالس ثوابا، لقوله تعالى: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ أي يوسع عليكم في الدنيا والآخرة.
٤- إذا قيل: انهضوا إلى الصلاة والجهاد وعمل الخير، يجاب القائل، وإذا دعي الشخص إلى القيام عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وجب القيام، لأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤثر أحيانا الانفراد في وظائف تخصه لا تتأتى ولا تكمل بدون الانفراد.
وإذا قال صاحب مجلس لمن في مجلسه: (قوموا) ينبغي أن يجاب، ويفعل ذلك لحاجة، إذا لم يترتب عليه مفسدة أعظم منها، مما لا نزاع في جوازه.
٥- يرفع الله درجات المؤمنين والعلماء في الثواب في الآخرة، وفي الكرامة في الدنيا، فيرفع المؤمن على من ليس بمؤمن، والعالم على من ليس بعالم. قال ابن مسعود: مدح الله العلماء في هذه الآية.
وتدل هذه الآية: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ... أيضا على أن الرفعة عند الله تعالى بالعلم والإيمان، لا بالسبق إلى صدور المجالس، فيرفع المؤمن بإيمانه أولا ثم بعلمه ثانيا.
وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل العلماء، منها
الحديث السابق عند أبي نعيم عن معاذ- وفيه ضعف-: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»
ومنها
حديث حسن رواه ابن ماجه عن عثمان رضي الله عنه: «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء»
فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعن ابن عباس: خيّر سليمان عليه السلام بين العلم والمال والملك، فاختار العلم، فأعطي المال والملك معه.
43
الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ١٢ الى ١٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣)
البلاغة:
فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً استعارة، استعار اليدين لما يكون قبل الشيء، أي قبل نجواكم، وهي استعارة بالكناية، حيث شبه النجوى بالإنسان، وحذفه ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو اليدان. ويصح أن يكون في التركيب استعارة تمثيلية.
أَأَشْفَقْتُمْ استفهام معناه التقرير.
المفردات اللغوية:
ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ أردتم مناجاته والتحدث معه. فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً أي قدموا قبل المناجاة صدقة للفقراء، قال البيضاوي: وفي هذا الأمر تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، وانتفاع الفقراء، والنهي عن الإفراط في السؤال، والميز بين المخلص والمنافق ومحب الآخرة ومحب الدنيا، واختلف في أنه للندب أو للوجوب، لكنه منسوخ بقوله: أَأَشْفَقْتُمْ وهو إن اتصل به تلاوة، لم يتصل به نزولا.
وَأَطْهَرُ أي أزكى للنفوس وأبعد عن الريبة وحب المال، وهو يشعر بالندب، لكن قوله: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أدل على الوجوب، أي إن لم تجدوا ما تتصدقون به، يرخص لكم في المناجاة بلا صدقة. والله غفور لمناجاتكم، رحيم بكم، فلا حرج عليكم في المناجاة.
أَأَشْفَقْتُمْ خفتم، والمعنى: أخفتم الفقر في تقديم الصدقة؟ وجمع صدقات لجمع المخاطبين أو لكثرة التناجي. فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا الصدقة. وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن رخص لكم ألا تفعلوه، أو رجع بكم عنها، وفيه إشعار بأن إشفاقهم ذنب تجاوز الله عنه. فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي
44
دوموا عليهما ولا تفرطوا في أدائهما. وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سائر الأوامر، فإن القيام بها كالجابر للتفريط في ذلك. وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ظاهرا وباطنا.
سبب نزول الآيتين (١٢، ١٣) :
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله ﷺ حتى شقّوا عليه، فأراد الله أن يخفف عن نبيه، فأنزل: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً فلما نزلت، صبر كثير من الناس، وكفّوا عن المسألة، فأنزل الله بعد ذلك: أَأَشْفَقْتُمْ الآية.
وأخرج الترمذي وحسّنه، وغيره عن علي قال: لما نزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قال لي النبي صلى الله عليه وسلم:
ما ترى، دينار؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار؟ قلت:
لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: إنك لزهيد، فنزلت:
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ الآية
، فبي خفف الله عن هذه الأمة.
وقال مقاتل بن حيان: نزلت الآية في الأغنياء، وذلك أنهم كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم، فيكثرون مناجاته، ويغلبون الفقراء على المجالس، حتى كره رسول الله ﷺ ذلك من طول جلوسهم ومناجاتهم، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية، وأمر بالصدقة عند المناجاة، فأما أهل العسرة، فلم يجدوا شيئا، وأما أهل الميسرة فبخلوا، واشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت الرخصة.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ كان لي دينار فبعته، وكنت إذا ناجيت الرسول ﷺ تصدقت بدرهم حتى نفد، فنسخت بالآية الأخرى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ؟.
45
المناسبة:
بعد بيان أدب الإسلام في المناجاة والمجالسة، أمر الله تعالى المؤمنين بتقديم صدقة قبل مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا يتنافسون في القرب من مجلس رسول الله ﷺ لسماع أحاديثه، وكانوا يكثرون من هذه المناجاة، فكان ذلك يشق على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد يستثقله الحاضرون، فأراد الله أن يحد من هذه المناجاة، ويخفف عن نبيه، فأمر بتقديم الصدقة قبل المناجاة، تعظيما للنبي ﷺ وإعظام مناجاته، ولنفع الفقراء بتلك الصدقات المقدمة قبل المناجاة، ولتمييز المنافقين الذين يحبون المال عن المؤمنين المخلصين. قال ابن عباس: إن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله ﷺ حتى شقوا عليه، وأراد الله أن يخفف عن نبيه، فلما نزلت هذه الآية، شحّ كثير من الناس، فكفّوا عن المسألة.
التفسير والبيان:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ، فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً أي يا أيها الذين أقروا بوجود الله ووحدانيته وصدقوا رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا أردتم مناجاة النبي ﷺ أو مساررته في أمر من أموركم، فقدموا قبل المناجاة صدقة، تصدقوا بها، لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم، والتخفيف عنه، ونفع الفقراء، وتمييز المؤمن الحق والمنافق.
ثم أبان الله تعالى حكمة الصدقة، فقال:
ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي إن تقديم الصدقة قبل النجوى خير لكم، لما فيه من طاعة الله وامتثال أمره، والثواب الأخروي، وأزكى لنفوسكم بتطهيرها من الشح والبخل وحب المال، ونفع الفقراء، وتضامن الأمة، وإعزاز شأنها ورفعة قدرها، فإن لم يجد أحدكم تلك
46
الصدقة، فلا حرج عليه في النجوى بدون صدقة، وقد رخص الله لكم في المناجاة بلا تقديم صدقة، لأن المأمور بها هو القادر عليها الغني.
وظاهر الآية يدل على أن تقديم الصدقة كان واجبا، لأن الأمر للوجوب، ويتأكد ذلك بقوله في آخر الآية: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فإن ذلك لا يقال إلا لترك الوجوب.
وقال بعضهم: إن الأمر هنا للندب والاستحباب، بقرينة ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الفرض، ولأنه لو كان ذلك واجبا لما أزيل وجوبه بكلام متصل به، وهو: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا. والجواب:
أن الواجب يوصف أيضا بأنه خير وأطهر كالمندوب، وأنه لا يلزم من كون الآيتين متصلتين في التلاوة، كونهما متصلتين في النزول، فتكون آية أَأَشْفَقْتُمْ ناسخة للوجوب الذي ثبت بالأمر.
وأنكر أبو مسلم الأصفهاني وقوع النسخ، وقرر أن الأمر بتقديم الصدقة على النجوى لتمييز المؤمن المخلص من المنافق، فلما تحقق الغرض، انتهى الحكم، أي أن ذلك التكليف كان مقدرا بغاية مخصوصة، فوجب انتهاؤه بانتهاء تلك الغاية، فلا يكون هذا نسخا. قال الرازي: وهذا الكلام حسن ما به بأس، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله: أَأَشْفَقْتُمْ.
ثم رفع الله تعالى الحكم السابق، فقال:
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ؟ أي أخفتم تقديم الصدقات، لما فيه من إنفاق؟ قال مقاتل: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ.
وقال الكلبي: ما كان ذلك إلا ليلة واحدة.
فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ
47
وَرَسُولَهُ، وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ
أي حين لم تفعلوا ما أمرتكم به من الصدقة قبل النجوى لثقلها عليكم، ورخص الله لكم في الترك، والمناجاة من غير صدقة، فثابروا واثبتوا على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، والله خبير محيط بأعمالكم كلها ظاهرها وباطنها، فمجازيكم عليها. والإشفاق: الخوف من المكروه.
قال قتادة ومقاتل بن حيان: سأل الناس رسول الله ﷺ حتى أحفوه بالمسألة، ففطمهم الله بهذه الآية، فكان الرجل منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدّم بين يديه صدقة، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك.
وليس في الآية إشارة إلى وقوع تقصير من الصحابة في تقديم الصدقة، فقد يكون عدم الفعل، لأنهم لم يناجوا. ولا يدل أيضا قوله: تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ على أنهم قصروا، لأن المعنى أنه تاب عليهم برفع التكليف عنهم تخفيفا، ومثل هذا يجوز أن يعبر عنه بالتوبة.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيتان على ما يأتي:
١- أوجب الله تقديم الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، تعظيما لنبيه وتخفيفا عنه من كثرة الأسئلة، ثم خفف الله عن الأمة، ورفع التكليف.
والظاهر أن النسخ إنما وقع بعد فعل الصدقة، فقد تصدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه، كما تقدم، ولم يوجد مقتض للمناجاة لدى بقية الصحابة الذين تريثوا وفهموا علة التكليف.
وكان التكليف مقصورا على الأغنياء، لأنه تعالى جعل الصدقة بالمال خيرا
48
من إمساكها، وأطهر لقلوبهم من المعاصي والذنوب، فإن لم يجد الواحد ما يتصدق به، فإن الله غفور له، رحيم به.
٢- علم الله تعالى ضيق صدر كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل، مع كثرة المسائل، لو دام الوجوب، فخفف الله عنهم، وأمر بمتابعة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله تعالى في فرائضه، ورسوله ﷺ في سننه، والله محيط بأعمال عباده ونياتهم.
حال المنافقين الذين يوالون غير المؤمنين
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ١٤ الى ١٩]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩)
الإعراب:
ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ جملة حالية من فاعل تَوَلَّوْا أو استئنافية، والمعنى واحد، ويصح جعلها صفة لقوم.
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً جَمِيعاً منصوب على الحال من الهاء والميم في يَبْعَثُهُمُ وهو عامل الحال.
49
البلاغة:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ استفهام يراد منه التعجيب. يَعْلَمُونَ ويَعْمَلُونَ جناس ناقص لتغير الرسم.
أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ وأُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ بينهما ما يسمى بالمقابلة.
أَلا الشَّيْطانُ عَلَيْهِمُ في الجملتين السابقتين، تأكيدات متنوعة تفيد التقبيح في الأولى، والتحلية في الثانية.
يَعْمَلُونَ، خالِدُونَ، الْكاذِبُونَ، الْخاسِرُونَ، توافق الفواصل في الحرف الأخير.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ تنظر أو أخبرني، وهو أسلوب يراد به التعجيب للمخاطب من حال هؤلاء المنافقين. الَّذِينَ تَوَلَّوْا والوا وودّوا وأحبوا، وهم المنافقون. قَوْماً هم اليهود. غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سخط. ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ لأنهم منافقون مذبذبون بين ذلك. وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وهو ادعاء الإسلام وأنهم من المؤمنين. وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون فيه أي في المحلوف عليه.
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً نوعا من العذاب متفاقما. إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من المعاصي التي تمرنوا عليها وأصروا على فعلها. اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ أي التي حلفوا بها. جُنَّةً وقاية وسترا على أنفسهم من المؤاخذة. فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صدوا بأيمانهم الناس عن دين الله بالتحريش والتثبيط. فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وعيد ثان بوصف أخر لعذابهم، وهو أنه ذو إهانة.
مِنَ اللَّهِ من عذابه. شَيْئاً من الإغناء. يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ أي اذكر لهم ذلك اليوم. فَيَحْلِفُونَ لَهُ أنهم مؤمنون. وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ من نفع حلفهم في الآخرة كالدنيا. اسْتَحْوَذَ استولى عليهم وأحاط بهم وغلب على عقولهم. حِزْبُ الشَّيْطانِ أعوانه وأتباعه وأنصاره.
50
سبب النزول:
نزول الآية (١٤) :
أَلَمْ تَرَ..:
أخرج ابن أبي حاتم عن السدي ومقاتل في قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً الآية، قال: بلغنا أنها نزلت في عبد الله بن نبتل المنافق، كان يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله ﷺ في حجرة من حجره، إذ قال: يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبّار، وينظر بعيني شيطان، فدخل عبد الله بن نبتل وكان أزرق، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: فعلت، فانطلق، فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما سبّوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
نزول الآية (١٨) :
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ..:
أخرج أحمد والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: كان رسول الله ﷺ في ظل حجرة، وقد كاد الظل يتقلص، فقال: إنه سيأتيكم إنسان، فينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاءكم، لا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع عليهم رجل أزرق أعور، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له حين رآه: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فقال: ذرني آتك بهم، فانطلق، فدعاهم، فحلفوا له ما قالوا وما فعلوا، فأنزل الله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ الآية.
المناسبة:
بعد أمر المؤمنين بالصدقة قبل مناجاة النبي ﷺ تخفيفا عنه في طول مجالسته وكثرة التردد عليه، ذكر الله تعالى حال جماعة من المنافقين كانوا يتولون اليهود
51
ويودونهم، ويطلعونهم على أسرار المؤمنين، وهم في الواقع لا مع الكفار ولا مع المؤمنين، كما قال تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [النساء ٤/ ١٤٣].
وقد أنذرهم الله بالعذاب، وأبان بواعث أفعالهم واستيلاء الشيطان على عقولهم، فهم أتباع الشيطان وأنصاره.
التفسير والبيان:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ أي أخبرني عن حال هؤلاء المنافقين الذين تولوا اليهود ومالئوهم في الباطن، ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين، فموقفهم يستدعي التعجب، لذا سخط الله عليهم، وهم في الواقع، لا مع المؤمنين ولا مع اليهود، أي ليسوا في الحقيقة منكم أيها المؤمنون، ولا من الذين يوالونهم، وهم اليهود.
وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أي واتخذوا الأيمان الكاذبة ستارا لهم، فهم يحلفون أنهم مسلمون، أو ما نقلوا الأخبار إلى اليهود، وهم يعلمون بطلان ما حلفوا عليه، وأنه كذب لا حقيقة له.
ثم أنذرهم تعالى بالعذاب الشديد، فقال:
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً، إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي هيأ الله لهم، وأرصد لهم على هذا الصنيع العذاب الأليم على أعمالهم السيئة، وهي موالاة الكافرين ونصحهم، ومعاداة المؤمنين وغشّهم، وساء ما فعلوا من الأعمال القبيحة في الزمان الماضي، مصرّين على سوء العمل.
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً، فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أي أظهروا الإيمان، وأبطنوا الكفر، واتقوا بالأيمان الكاذبة، واتخذوها وقاية وسترا
52
لدمائهم، فخدع بهم بعض الناس الذين لا يعرفون حقيقة أمرهم، وظنوا صدقهم، فحصل بهذا صدّ عن سبيل الله، بأن منعوا الناس عن الإسلام بسبب ما يصدر عنهم من التثبيط، وتهوين أمر المسلمين، وتضعيف شوكتهم، فلهم عذاب يلازمه الذل والهوان في نار جهنم بسبب أيمانهم الكاذبة بالله تعالى، وفي مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم الله العظيم في الأيمان الكاذبة الحانثة.
ثم ذكر الله تعالى مدى إفلاسهم يوم القيامة، فقال:
لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أي لن تفيدهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله، شيئا من الإفادة، وأولئك الموصوفون بهذه الصفات هم أهل النار، لا يفارقونها، وماكثون فيها، لا يخرجون منها ولا يموتون فيها.
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ أي اذكر لهم أيها النبي حين يبعثهم الله جميعا من قبورهم أحياء، ويحشرهم يوم القيامة عن آخرهم، فلا يغادر منهم أحدا، فيحلفون بالله عز وجل أنهم كانوا على الهدى والاستقامة، كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا، لأن من عاش على شيء مات عليه، وبعث عليه، ويظنون أن ذلك ينفعهم عند الله، كما كان ينفعهم عند الناس.
وهذا من شدة شقاوتهم، فإن الحقائق يوم القيامة قد انكشفت.
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ أي ويظنون في الآخرة أنهم بتلك الأيمان الكاذبة على شيء مما يجلب نفعا أو يدفع ضررا، كما كانوا يظنون ذلك في الدنيا، ألا إنهم بهذا التصور هم الكاذبون أشد الكذب فيما يحلفون عليه.
وحال هؤلاء كما أخبر الله تعالى عن المشركين حيث يقول: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ
53
فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ، انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
[الأنعام ٦/ ٢٣- ٢٤].
ثم ذكر الله تعالى سبب ضلالهم، فقال:
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ، فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ، أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ أي استولى عليهم وأحاط بهم وغلب على عقولهم، فتركوا أوامره والعمل بطاعاته، أولئك جنود الشيطان وأتباعه ورهطه، إلا إن أعوان الشيطان هم الخاسرون الهالكون، لأنهم باعوا الجنة بالنار، والهدى بالضلالة، وكذبوا على الله وعلى نبيه، وحلفوا الأيمان الفاجرة، فسوف يخسرون في الدنيا والآخرة، وليس العاقل من يقبل هذا ويرتضيه لنفسه.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- تحرم موادّة الكافرين أعداء المؤمنين، واطلاعهم على أسرار المسلمين، ومؤازرتهم ونصحهم.
٢- ليس المنافقون من اليهود ولا من المسلمين، بل هم مذبذبون بين ذلك، وكانوا يحملون أخبار المسلمين إليهم.
٣- لهؤلاء المنافقون عذاب شديد في جهنم، وهو الدّرك الأسفل من النار، وبئست الأعمال أعمالهم.
٤- اتخذ هؤلاء المنافقون أيمانهم جنّة أو ساترا ووقاية لهم من القتل، فلهم عذاب ذو إهانة في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار.
54
٥- لن تفيدهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا.
٦- لهم عذاب مهين يوم بعثهم من قبورهم وحشرهم يوم القيامة.
٧- إنهم يغالطون باليمين مغالطة ظاهرة، ظانين أن الأيمان الكاذبة تنفعهم في الآخرة كما تنفعهم في الدنيا، وهم يحسبون أنهم على شيء من النفع بإنكارهم وحلفهم، وهم في الواقع كاذبون، والمراد: أنهم كما عاشوا على النفاق والحلف الكاذب يموتون ويبعثون على ذلك الوصف.
٨- لقد غلب الشيطان عليهم بوسوسته في الدنيا، مما أدى بهم إلى ترك أوامر الله والعمل بطاعته، وهم رهط الشيطان وطائفته، وحزب الشيطان هم الخاسرون في بيعتهم، لأنهم باعوا الجنة بجهنم، وباعوا الهدى بالضلالة.
جزاء المعادين لله تعالى والرسول ﷺ والوعد بنصر المؤمنين وتحريم موالاة الأعداء
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)
55
الإعراب:
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ.. كَتَبَ: أجري مجرى القسم، لذا أجيب بجواب القسم في قوله: لَأَغْلِبَنَّ. وَرُسُلِي: في موضع رفع بالعطف على الضمير في لَأَغْلِبَنَّ. وإنما جاز العطف على الضمير المرفوع المستتر لتأكيده بقوله: أَنَا. وإذا أكد الضمير المنفصل أو المستتر، جاز العطف عليه.
فِي الْأَذَلِّينَ هي أفعل التفضيل.
البلاغة:
وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ مجاز مرسل، لأنه سبب للحياة الطيبة الأبدية.
المفردات اللغوية:
يُحَادُّونَ يعادون ويخالفون ويشاقون، فهم في حد، والشرع والهدى في حد. فِي الْأَذَلِّينَ في جملة المغلوبين أذل خلق الله. كَتَبَ اللَّهُ قضى وحكم. لَأَغْلِبَنَّ بالحجة والقوة. لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُوادُّونَ يصادقون، أي لا ينبغي أن تجدهم وادّين أعداء الله، والمراد: أنه لا ينبغي لهم أن يوادّوهم.
وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ولو كان المحادّون أقرب الناس إليهم.
أُولئِكَ أي الذين لم يوادّوهم. كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أثبت الإيمان في قلوبهم، وهو دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان، لأن أعمال الأعضاء لا تثبت في القلب.
وَأَيَّدَهُمْ قواهم. بِرُوحٍ مِنْهُ أي بنور من عند الله يقذفه في القلوب، لتطمئن وتسكن. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بطاعته. وَرَضُوا عَنْهُ بثوابه الذي وعدهم به. أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ جنده وأنصار دينه، يتبعون أمره ويجتنبون نهيه. هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بخير الدارين.
سبب النزول:
نزول الآية (٢١) :
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ.. قال مقاتل: لما فتح الله مكة للمؤمنين والطائف وخيبر وما حولها، قالوا: نرجو أن يظهرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله بن أبي: أتظنون الروم وفارس كبعض القرى التي غلبتم عليها، والله إنهم
56
لأكثر عددا وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك؟ فنزلت: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي.
نزول الآية (٢٢) :
لا تَجِدُ قَوْماً: أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه عن ابن عباس عن عبد الله بن شوذب قال: نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ الآية.
وأخرجه الطبراني والحاكم في المستدرك بلفظ: جعل والد أبي عبيدة بن الجراح يتصدى لأبي عبيدة يوم بدر، وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر، قصده أبو عبيدة، فقتله، فنزلت.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: حدّثت أن أبا قحافة سبّ النّبي صلى الله عليه وسلم، فقال: فصكّه أبو بكر صكّة، فسقط، فذكر ذلك للنّبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أفعلت يا أبا بكر؟ فقال: والله لو كان السيف قريبا مني لضربته به:
لا تَجِدُ قَوْماً.. الآية.
وقال الرازي: إن الأكثرين اتفقوا على أن قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً... نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وإخباره أهل مكة بمسير النّبي ﷺ إليهم، لما أراد فتح مكة.
المناسبة:
بعد بيان سوء حال المنافقين في الآخرة وخسارتهم الكبرى، أبان الله تعالى سبب خسارتهم وهو مشاقّة الله تعالى ورسوله ﷺ ومخالفة أوامرهما، ثم أخبر عن قضائه المبرم في نصر الرسل وهزيمة أعدائهم، ثم ذكر أن الإيمان لا يجتمع مع وداد أعداء الله وموالاتهم، لأن من أحبّ أحدا، امتنع أن يحب مع ذلك عدوه.
57
التفسير والبيان:
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ أي إن الكفار المعاندين المخالفين أوامر الله ونواهيه، والذين يجانبون الحق ويعادون الإسلام، فيجعلون أنفسهم في حد، وشرع الله ورسوله في حد آخر، هم في جملة المغلوبين وفي جملة من هم أذلّ خلق الله تعالى، لا ترى أحدا أذلّ منهم، سواء في الدنيا بالقتل والأسر والطرد من الديار، كما حصل للمشركين واليهود، وفي الآخرة بالخزي والنكال والعذاب، كما قال تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ، وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [آل عمران ٣/ ١٩٢]. وهذا إنذار بهزيمة أعداء الله، والآية جملة استئنافية لتعليل خسرانهم.
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أي حكم الله وقضى في سابق علمه الأزلي أن الله ورسله هم الغالبون بالحجة والسيف ونحوهما، إن الله قوي على نصر رسله، غالب لأعدائه، وهذا- كما قال ابن كثير- قدر محكم، وأمر مبرم أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة. وهذا بشارة بنصر المؤمنين على الكافرين، وقد تحقق ذلك مرارا، فنصر رسله الكرام على أقوامهم، كقوم نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم ممن مضى، ونصر رسوله محمد ﷺ ومن آمن معه على المشركين في الجزيرة العربية، وعلى دولتي الروم والفرس.
ونظير الآية قوله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [٣٧/ ١٧١- ١٧٣].
ثم بيّن الله تعالى شأن المؤمنين في أنهم لا يوادون أعداء الله، فقال:
لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أي لا ينبغي للمؤمنين بالله واليوم الآخر أن يحبوا ويصادقوا ويوالوا من عادى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم
58
وشاقهما، ولو كان المحادّون المعادون لله تعالى ورسوله ﷺ أقرب الناس إليهم، كالآباء الذين يجب برّهم وطاعتهم، والأبناء فلذات الأكباد، والإخوان الناصرين لهم، والعشيرة أو القبيلة التي ينتمون إليها ويتآزرون بها.
أخرج الترمذي والحاكم والطبراني مرفوعا: «يقول الله تبارك وتعالى:
وعزتي لا ينال رحمتي من لم يوال أوليائي، ويعاد أعدائي»
.
وأخرج أحمد وغيره عن البراء بن عازب مرفوعا: «أوثق الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله».
وأخرج الديلمي من طريق الحسن عن معاذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم لا تجعل لفاجر- وفي رواية: ولا لفاسق- علي يدا ولا نعمة، فيودّه قلبي، فإني وجدت فيما أوحيت إلي: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ».
ثم بيّن الله تعالى سبب الامتناع من موادّة الأعداء وجزاء الممتنعين، فقال:
أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ، وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ، خالِدِينَ فِيها، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أي أولئك الذين لا يوادّون من حادّ الله تعالى ورسوله ﷺ أثبت الله الإيمان الصحيح في قلوبهم، وقواهم بنصر منه على عدوهم في الدنيا، وسمي نصره لهم روحا، لأن به يحيا أمرهم، ويدخلهم الجنان التي تجري الأنهار من تحت قصورها وأشجارها، ماكثين فيها على الأبد، وقد قبل أعمالهم، وأفاض عليهم آثار رحمته العاجلة والآجلة، وفرحوا بما أعطاهم عاجلا وآجلا.
أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي أولئك أنصار الله وجنده الذين يمتثلون أوامره، ويقاتلون أعداءه، وينصرون أولياءه، ألا إن هؤلاء الأنصار هم الفائزون بسعادة الدنيا والآخرة.
59
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي من الموضوعات الأربعة:
١- إن الكفار المعاندين الذين يشاقون الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويعادون شرع ربهم، وسنة رسولهم، من جملة الأذلّاء، فلا أذلّ منهم.
٢- قضى الله وحكم في اللوح المحفوظ أنه سيغلب أعداءه بالحجة والسيف ونحوهما، فمن تهيأ للحرب غلب بالحرب، ومن استعد للحجة والبيان غلب بالحجة.
٣- لا يجتمع الإيمان الحق مع وداد أعداء الله، لأن من أحب أحدا، امتنع أن يحب مع ذلك عدوه، حتى ولو كان الأعداء من الأقربين، ومن أنعم الله عليه بنعمة الإيمان العظمى، كيف يمكن أن يحصل في قلبه مودة أعداء الله؟! ٤- وصف الله تعالى هؤلاء المؤمنين المجتنبين مصادقة الأعداء بأن الله غرس الإيمان في قلوبهم، وأيدهم بنصر من عنده، ثم بيّن جزاءهم الأخروي وهو دخول الجنان مع الخلود فيها، والحظوة برضوان الله وثوابه، والفرح بما أمدهم الله به من النعم في الدنيا والآخرة من نصر ورزق وخير، ونور وإيمان وبرهان وهدى، وجنان، ثم وصفهم الله بأنهم حزب الله الغالب، وحزب الله هم المفلحون الفائزون، وهذا المعنى الأخير بيان لاختصاص هؤلاء بسعادة الدنيا والآخرة.
والخلاصة: ذكر الله أربع نعم على من ترك موادة الأعداء وهي:
أولا- إثبات الإيمان في قلوبهم.
ثانيا- تأييدهم بروح من عند الله، أي بنصرهم على عدوهم، وبروح من الإيمان.
60
ثالثا- إدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها.
رابعا- ينعمون بنعمة الرضوان، ويفرحون بما أعطاهم الله تعالى.
وذكر الله تعالى أيضا أربعة أمور توجب ترك المودة وهي:
أولا- إن الإيمان ومودة الأعداء لا يجتمعان في القلب.
ثانيا- نفورهم من موادة الأعداء، ولو كانوا من الأقربين: وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ... إلخ.
ثالثا- إنه تعالى عدّد نعمه على المؤمنين، وهي توجب ترك مودة أعداء الله: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ إلخ.
رابعا- وصفهم بأنهم حزب الله الغالب: أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ، أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
61

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الحشر
مدنيّة، وهي أربع وعشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة الحشر، لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ.. أي الحشر الأول وهو الجمع الأول الذي حشروا فيه وأخرجوا في عهد النبوة من المدينة إلى بلاد الشام، والحشر الثاني:
إجلاؤهم وإخراجهم في عهد عمر من خيبر إلى الشام.
وتسمى أيضا سورة بني النضير، لاشتمالها على قصة إجلاء يهود بني النضير، في غزوة بني النضير، وهم اليهود الذين نقضوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأجلاهم عن المدينة المنورة.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من وجوه ثلاثة:
١- ذكر في السورة السابقة من حادّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن قتل من الصحابة أقرباءه يوم بدر، وفي أول هذه السورة ذكر من شاقّ الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما جرى بعد غزوة بني النضير من إجلاء اليهود، وقد حدثت الغزوة بعد بدر.
٢- أخبر الله في آخر السابقة عن نصر الرسل: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي وأفاد في أول هذه إنجاز النصر على اليهود: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ
62
يَحْتَسِبُوا، وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ.
٣- كشف الله في السورة المتقدمة حال المنافقين واليهود وموادة بعضهم بعضا، وذكر في هذه السورة ما حلّ بيهود بني النضير.
ما اشتملت عليه السورة:
سورة الحشر كسائر السور المدنية عنيت بالأحكام التشريعية، مثل إجلاء يهود بني النضير من المدينة، وأحكام الفيء والغنائم، والأمر بالتقوى. كما أن فيها تحليلا لعلاقة المنافقين باليهود، وبيان عظمة القرآن، وإيراد بعض أسماء الله الحسنى.
افتتحت السورة بتنزيه الله نفسه عن كل نقص، وتمجيده من جميع ما في الكون من إنسان وحيوان ونبات وجماد، وشهادتهم بوحدانيته وقدرته، والنطق بعظمته.
وأردفت ذلك بالإشادة بالنصر على أعداء الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم، وإجلاء يهود بني النضير من المدينة المنورة، وتهديم قلاعهم وحصونهم.
ثم أبانت حكم الفيء وهو الأراضي والدور والأموال الآيلة من العدو للمسلمين من غير قتال، ببيان مصارفه وتوزيعه على مختلف فئات المسلمين، وحكمة ذلك التوزيع.
وفي ثنايا آيات الفيء امتدح الله تعالى مواقف المهاجرين، وأشاد بمآثر الأنصار، وانتدب الذين جاؤوا من بعدهم للثناء على من سبقهم والدعاء لهم بالمغفرة.
وقارن ذلك بعلاقة المنافقين باليهود، وتحالفهم على الباطل، وكشف أخلاق الفريقين، ومنها خذلان المنافقين من يحالفونهم وقت الأزمة، وجبن
63
اليهود وخوفهم من مواجهة المؤمنين، وتشبيه المنافقين بالشيطان الذي يغري الإنسان بالسوء والضلال، ثم يتخلى عنه في الوقت العصيب.
ثم أمر الله المؤمنين بالتقوى، والاستعداد ليوم القيامة وما فيه من أهوال جسام، والاعتبار بأحوال الماضين، وتذكر الفرق العظيم بين أهل الجنة وأهل النار، ومصير السعداء والأشقياء في دار الخلود.
وختمت السورة ببيان عظمة القرآن الكريم، وعظمة من أنزله واتصافه بأوصاف الجلال، وتسميته بالأسماء الحسنى.
سبب نزول السورة:
روى سعيد بن منصور والبخاري ومسلم عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر؟ قال: أنزلت في بني النضير، وفي رواية: سورة بني النضير.
وقال ابن عباس ومجاهد والزهري وغير واحد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما قدم المدينة، هادنهم وأعطاهم عهدا وذمّة على ألا يقاتلهم ولا يقاتلوه، فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه، فأحلّ الله بهم بأسه، الذي لا مرد له، وأنزل عليهم قضاءه الذي لا يصدّ، فأجلاهم النّبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ما طمع فيها المسلمون، وظنوا هم أنها مانعتهم من بأس الله، فما أغنى عنهم من الله شيئا، وجاءهم من الله ما لم يكن ببالهم، وسيّرهم رسول الله ﷺ وأجلاهم من المدينة، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أالي الشام، وهي أرض المحشر والمنشر، ومنهم طائفة ذهبوا إلى خيبر، وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حملت إبلهم، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي يمكن أن تحمل معهم، ولهذا قال تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ أي تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله تعالى، وخالف رسوله صلى الله عليه وسلم،
64
وكذب كتابه، كيف يحل به من بأسه المخزي له في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم «١».
فضل السورة:
أخرج الثعالبي عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: «من قرأ سورة الحشر، لم يبق شيء من الجنة والنار والعرش والكرسي والسموات والأرض والهوامّ والريح والسحاب والطير والدوابّ والشجر والجبال والشمس والقمر والملائكة إلا صلّوا عليه، واستغفروا له، فإن مات من يومه أو ليلته، مات شهيدا».
وأخرج الثعالبي أيضا عن يزيد الرقاشي عن أنس أن رسول الله ﷺ قال: «من قرأ آخر سورة الحشر:
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ - إلى آخرها- فمات من ليلته، مات شهيدا» «٢».
وأخرج أحمد والترمذي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال حين يصبح ثلاث مرات: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكلّ الله به سبعين ألف ملك يصلّون عليه حتى يمسي، وإن مات في يومه، مات شهيدا، ومن قرأها حين يمسي، فكذلك»
قال الترمذي: حديث حسن غريب.
(١) تفسير ابن كثير: ٤/ ٣٣٠
(٢) تفسير القرطبي: ١٨/ ١
65
Icon