تفسير سورة المجادلة

بيان المعاني
تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

واجعله خالصا لوجهك الكريم، إنك على كلّ شيء قدير، وبالإجابة جدير. هذا والله أعلم. وأستغفر الله. ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم. وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدّين، ومن تبعهم بإحسان آمين.
تفسير سورة المجادلة عدد ١٩ و ١٠٥- ٥٨
نزلت بالمدينة بعد سورة المنافقين وهي اثنتان وعشرون آية وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة والف وسبعمئة واثنان وتسعون حرفا. ولا يوجد سورة مبدوءة بما بدئت غير سورة الجن كما لا يوجد سورة مختومة بما ختمت غير آل عمران ومثلها في عدد الآي سورة البروج.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما» مبادلتكما الكلام ومراجعتكما فيه يا سيد الرّسل أنت والمرأة «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لمن يناجيه «بَصِيرٌ» (١) بأمر من يشتكي إليه يجيب دعاء المضطر من عباده، وسبب نزول أوائل هذه السّورة هو أن خولة بنت ثعلبة قالت يا رسول الله إن زوجي أديس بن الصّامت تزوجني وأنا شابة غنية ذات أهل ومال، حتى إذا أكل مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلى وكبر سني ظاهرني وقد ندم، فهل من شيء يجمعني وإياه فتنعشني به؟ وذلك أن الظّهار الآتي بيانه كان زمن الجاهلية مما تحرم به المرأة على البتات، ولذلك لم يفتها حضرة الرّسول لأنه لم يتلق من ربه ما يبطله وقال لها صلّى الله عليه وسلم حرمت عليه، فقالت والذي بعثك بالحق وأنزل عليك الكتاب ما ذكر الطّلاق وأنه أبو ولدي وأحب النّاس إليّ، فقال حرمت عليه، فقالت أشكو إلى الله فاقني ووحدتي، ثم قالت يا رسول الله قد طالت له صحبتي ونثرت له بطني، فقال ما أراك إلّا حرمت عليه ولم أومر بشأنك بشيء، فجعلت تراجع الرسول، وكلما قال لها حرمت قالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي وشدّة حالي ثم قالت يا رسول الله إن لي منه صبية صغارا إن ضممتهم إليّ جاعوا، وإن ضممتهم إليه
201
ضاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السّماء وتقول اللهم إليك أشكو فأنزل الله أوائل هذه السّورة. روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة خولة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكلمته في جانب البيت وما أسمع ما تقول، فأنزل الله (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ) وذم الظّهار بقوله عزّ قوله «الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ» حتى يجعلوهن مثلهن «إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ» لا زوجاتهم «وَإِنَّهُمْ» المظاهرون الّذين يجعلون زوجاتهم كأمهاتهم «لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً» كذبا باطلا لأن الأمهات محرمات على التأبيد بتحريم الله تعالى، والزوجات لا يحرمن بمجرد تشبيههن بالأمهات «وَإِنَّ اللَّهَ»
المنفرد بأمر عباده كثير الصّفح والسّماح والمنّ والعفو عنهم وعما سلف مما وقع من المظاهرين «لَعَفُوٌّ غَفُورٌ».
مطلب في الظّهار وحكمه والمخلص منه وكيفيته والمشاورة والنّجوى والتكلم بغير لغة القوم:
الحكم الشّرعي هو أن الظّهار من طلاق الجاهلية كالإيلاء راجع الآية ٢٢٧ من البقرة تجد بحثه وهو أن يقول الرّجل لزوجته أنت علي كظهر أمي، ومعناه علوّي عليك حرام كعلوي على أمي، وعلوه على أمه حرام لأنهم يريدون بهذا العلو الجماع، لأن الرّجل يعلو المرأة فيه، وكذلك لو قال كبطن أمي أو شبه عضوا منها بعضو أمه، وكذلك إذا شبهها بإحدى محرماته بلفظ من هذه الألفاظ فيكون مظاهرا من زوجته، ثم بين الله تعالى المخرج من مأزق هذا اليمين مما يجعله حلّا منه ويسترد به زوجته لعصمته فقال «وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا» أي يرجعون عن أقوالهم لنسائهم من الألفاظ التشبيهية لهن بأمهاتهم أو غيرهن من محارمهم ليحلوا ما حرموا على أنفسهم منهن، وكيفية العود أن يبقيها عنده ولا يخرجها من بيته، ولكن لا يعاملها معاملة الأزواج حتى يكفر عن يمينه بما ذكره الله، فيعد هذا رجوعا وندما على ما وقع منه. ثم ذكر الله تعالى الكفارة التي يتحلى بها يمينه بقوله أولا «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ» عتق عبد من عبيده إذا كان له عبيد، وإلّا فيشتري عبدا ويعتقه «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا»
202
إذ يجب عليه العتق أولا ثم يعامل زوجته معاملة الأزواج إذ لا يجوز له قربانها قبل التكفير «ذلِكُمْ» الحكم الشّرعي شرعه الله لكم في تحليل المظاهرات «تُوعَظُونَ بِهِ» أيها المؤمنون وتتأدبون من أن تعودوا لمثله «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (٣) لا يحتاج إلى إخبار لأن أعمالكم كلها من جملة معلوماته الأزلية وإنها معروفة عنده «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ» رقبة يعتقها ولم يقدر على شرائها لضيق ذات يده فصيام شهرين متتابعين تكون كفارته تخفيفا عليه وتبسيرا من ربه، وهذا الصّيام أيضا يجب أن يتمه «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا» مثل كفارة العتق «فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ» أن يصوم لكبره أو مرضه المزمن «فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً» كفارته تسهيلا عليه من لطف الله تعالى والإطعام يكون لكل مسكين نصف صاع من البر أو صاع من غيره وهو ما يغذي الرّجل يوما واحدا من أوسط الطّعام كما سيأتي بيانه مفصلا في الآية ٩٢ من سورة المائدة، وكذلك يجب أن يتصدق بهذا الإطعام قبل المجامعة «ذلِكَ» البيان الشّافي والتخفيف الكافي «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» وتزدادوا إيمانا وشكرا وحمدا إذ لم يجعل عليكم حرجا فيما شرعه لكم إكراما لرسولكم كما هو مدون في أزله وتعملوا بما أمرتم به عن اعتقاد ويقين وصدق وحزم وتتركوا ما كان عليه أسلافكم من أمور الجاهلية التي قلدتموهم بها. واعلم أن هذه لا تعد ناسخة لما كان في الجاهلية، لأن الظّهار لم يقرر في الإسلام كشرع ولم يعمل به كمأمور به، وإنما كان عادة مستقة من عوائد الجاهلية، والنّسخ لا يدخل إلا على ما كان مشروعا كما أشرنا إليه في الآيتين ١٧ و ١٥٠ من سورة البقرة، وما كان عليه عمل الجاهلية لا يسمى شرعا لأنهم لم يأخذوها من شرع قديم أو يكتسبوها من تعاليم الأنبياء، إذ لا شرع ولا كتاب لهم بل من عوائد آبائهم، لأن نبيهم إسماعيل عليه السّلام اندرست شريعته ولم يترك لهم كتابا يرجعون اليه، ولهذا لم يفت به حضرة الرّسول، لأنه حكم من الأحكام ولم ننزل عليه فيه شيء، وهو لا ينطق عن هوى. قال تعالى «تِلْكَ» الأحكام المتلوة عليكم أيها النّاس في «حُدُودُ اللَّهِ» التي لا يجوز تخطيها المفروض عليكم اتباعها «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ» (٤) يوم القيامة عدا ما ينالونه في الدّنيا تدل هذه الآية دلالة قاطعة
203
على أن من لم يقبل شيئا من أحكام الله منكرا صحته فهو كافر، وعليه فإن من يصلي بلا وضوء جاحدا فرضيته فهو كافر، وإلّا فيستحق العقاب، لأن الله أمره به عند الإقدام على الصّلاة كما سنبينه في الآية السّادسة من المائدة الآتية، وقد مر نهي الجنب عن الدّخول فيها في الآية ٢٣ من سورة النّساء، ولهذا عبّر ممن لم يتقيد بحدوده بالكافرين، وأعقبها بقوله عز قوله «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» بمخالفة أمرهما وانتهاك حرماتها ومعنى المحادة المعاداة والمشاقة لله ورسوله «كُبِتُوا» أحزوا وذلّوا وهلكوا منكبين على وجوههم «كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» بمعاداتهم الله ورسله رمشافقتهها هم «وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ» بمنع المخالفة والانقياد للشريعة والتباعد عن الشّقاق «وَلِلْكافِرِينَ» بها الجاحدين حقيقتها «عَذابٌ مُهِينٌ» (٥) لهم يشينهم مرآه بين النّاس في المشهد العظيم «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً» للحساب «فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» في دنياهم من خير
أو شر جهرا أو سرا مباحا أو حراما إذ أَحْصاهُ اللَّهُ» عليهم كله فحفظه في كتابهم وَنَسُوهُ مع أنهم اقترفوه لعدم مبالاتهم به «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» بما يعمله خلقه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم خفيها وعلانيتها كيف وهو القائل (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) الآية ٢٨٥ من البقرة ولا تكون المحاسبة إلّا عن علم أي يعلمه ويحاسبكم عليه. فيا أيها الغافل «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» خفية وجلية لا يعزب عن علمه شيء وانه «ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى» تشاور وأسرار بين «ثَلاثَةٍ» من الخلق وحدهم «إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ» حاضر معهم يعلم ما يتناجون به كما هو عالم به أزلا من قبل مناجاتهم «وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ» اثنين أو واحد «وَلا أَكْثَرَ» سبعة فما فوق إلى ما لا نهاية «إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا» في الأرض أو السّماء أو فيما تحتها وفوقها وبينهما وما فوق الماء وتحته «ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا» في مناجاتهم ومكانها وزمانها كسائر أعمالهم الأخرى «يَوْمَ الْقِيامَةِ» حينما تنشر الأعمال بالصحف على أربابها كي يتحقق لديهم ذلك ويقولوا بعد أن كانوا ينكرون «إِنَّ
204
اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ»
(٧) لا تخفى عليه خافية، وإنما خص الثلاثة والخمسة في المشاورة لأن العددين أقل ما يكفي في المشاورة، ولأن الاثنين يوشك أن يتفقا على غلط أو يتخالفا في الرّأي فالثالث يكون كالحكم. ويوشك أن ينقسم كل اثنين من الخمسة فيذهب إلى رأي فيكون الخامس كالحكم أيضا يرجح رأي من ينضم إليها، فينم الغرض الذي من أجله شرعت المشاورة. قال تعالى «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى» وهم اليهود والمنافقون إذ كانوا إذا رأوا المؤمنين طفقوا يتناجون بينهم قصدا كي يظن المؤمنون أنهم قد علموا سوء بسراياهم وغزاتهم فيحزنون، فشكوهم إلى الرّسول فمنعهم من ذلك ولم يمتنعوا، فأنزل الله فيهم هذه الآية «ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ» من النّجوى ولم يمتثلوا أمر الرسول «وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ» إساءة له ولأصحابه «وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ» أولئك الخبثاء «بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ» فيقولون السّام عليك بدل السّلام وراعنا بدل انظرنا واسمع غير مسمع كما مر في الآية ١٠٤ من البقرة ومع هذا فإن الرّسول يغض عنهم ولا يرد عليهم مع علمه بنياتهم بذلك، ولذلك تمادوا في مثل هذه الألفاظ المراد بها غير ظاهرها المعروف «وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ» في شأن محمد وأصحابه وعليهم وهو يزعم أنه نبيه لفعل إذ لا يعجزه شيء ولا يغفل عما نقول، فلو كان نبيا لانتقم له منا ولكنه ليس بني قاتلهم الله، بلى والله إنه لنبي وإن الله معذبهم على ذلك ومنتقم لنبيه منهم إذ يقول جل قوله «حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ» عذابا يوم القيامة «يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ» (٨) هي لمن يصلى بها، روى البخاري ومسلم عن عائشة قالت دخل رهط من اليهود على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقالوا السام عليك، قالت عائشة رضي الله عنها فقلت عليكم السّام واللّعنة، قالت فقال رسول الله مهلا يا عائشة ان الله يحب الرّفق في الأمر كله، فقلت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا قال قد قلت وعليكم أي أنه سمع ويرد عليهم قولهم بحيث كأنه لم تحاشيا عن المقابلة بالسوء. قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم «إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ
205
الرَّسُولِ»
وهذا مما يؤيد ويؤكد أن المراد بهؤلاء المؤمنين، المنافقون لا المخلصون لأنهم لا يتصور عنهم مشاورة بمعصية الرّسول، وإنما سماهم مؤمنين بحسب الظّاهر وبمقتضى زعمهم، راجع الآية ١٥٩ من آل عمران المارة وما ترشدك اليه من المواضع في بحث الشّورى والمشاورة. والنّهي عام يدخل فيه المنافق دخولا أوليا وغيره بالتبعية، كما أن قوله تعالى «وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ» (٩) يوم القيامة فيحاسبكم على ما وقع منكم عام أيضا.
قال تعالى «إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ» إذا كانت بالسوء وإنها لا تضر المؤمن وانه يسوق اتباعه على فعلها «لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا» لأنهم يظنون أنها فيهم أو فيمن يتعلق بهم، ولذلك تغضبهم «وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ» أي نجوى الشّيطان واتباعه المتناجين لا تضر المؤمنين «شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ» لأن الضّر والنّفع منه وبيده أمرهما «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» (١٠) لا على غيره، وعليهم ألّا يلتفتوا إلى نجواهم، ولا يلقوا لها بالا، لأن من يتوكل على الله لا يخيّب أمله ولا يبطل سعيه. واعلم أن النّجوى تطلق غالبا على الشّر والمشاورة على الخير ويجوز استعمال كلّ منهما موضع الآخر، وهي من سوء أدب المجالسة التي نهى الله عنها وأدب عباده بها، ولذلك لا ينبغي أن يتشاور اثنان بحضرة واحد أو يتكلما بلغة لا يعرفها أو يرامزان بأي نوع من أنواع الإشارة، لأن هذا مما يقلقه ويغيظه ويسلب راحته، ولذلك نهى الشّارع عنه. روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال إذا كانوا ثلاثة فلا يتنج اثنان دون الثالث.
زاد ابن مسعود في رواية فإن ذلك يحزنه. وهذه الزيادة في سند أبي داود والكلام الذي لا يعرفه الثالث بمثابة المشاورة لما ورد من عرف العربية وتكلم بغيرها فذلك علامة النّفاق، أي إذا تكلم بغيرها اثنان بحضور ثالث لا يعرفها، أما إذا كان الكل يحسنونها فلا بأس. وهذا لا يعني تقبيح تعليم اللّغات الأجنبية، كلا، بل هو مطلوب، فقد ورد من تعلم لسان قوم أمن مكرهم. ولا يخفى أن كل لسان يتكلم به الرّجل بمقابلة انسان آخر لا يعرفه، فهو نصّ عنه، أما بحضور من يعرفه أو بحضور جماعة فلا بأس به. وقد نهى عنه إذا كان ينافق فيه ويتبجح
206
به أمام من يعرفه. أو أمام صاحب تلك اللّغة ليبين له أنه يعرف لغته وأنه يميل إليها بقصده التقرب منه، أما إذا كان التكلم بين جماعة لحاجة فجائز، والمذموم التكلم بها لغير حاجة يخشى من اطلاع الغير عليها بحضور من لا يعرفها، لأنه من علائم النّفاق. روى الحاكم في مستدركه بسند صحيح عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم من أحسن منكم أن يتكلم بالعربية فلا يتكلمن بالفارسية فإنه يورث النّفاق. ويدل هذا الحديث على أن جميع اللّغات غير العربية إذا تكلم بها بلا موجب من تعليم أو تفاهم أو حاجة كما مر يورث النّفاق، وإنما اختار الفارسية بحديثه صلّى الله عليه وسلم دون غيرها من اللّغات لأنها أقدس منها وأكثر أهل الشّرق يتكلمون بها.
مطلب آداب المجالسة وفضل العلم والعلماء وما يتعلق بذلك:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ» التي أنتم جالسون بها لقدوم غيركم عليها «فَافْسَحُوا» وسعوا لهم ليجلسوا بينكم لأن هذا من آداب المجالسة وكرم الأخلاق التي يهذبكم الله بها ويريدكم إليها ويأمركم بها فإذا فعلتم ذلك «يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ» في جميع أموركم من الأمكنة والأعمال والأرزاق وغيرها لاطلاق اللّفظ «وَإِذا قِيلَ» لكم أيها المؤمنون «انْشُزُوا» ارتفعوا وانهضوا عن مواقعكم ليجلس فيها إخوانكم القادمين عليكم الّذين يرى النّاس لهم فضلا من علم أو فصاحة أو أدب أو شجاعة أو أمارة أو فعل ما «فَانْشُزُوا» وأخلوا لهم مواضعكم وأكرموهم بالجلوس فيها ولا تضاموا أو تغضبوا، وليكن ذلك عن طيب قلب منكم محافظة على التفاضل الذي سنة الله في خلقه المنوه به في قوله «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ» على غيرهم بكثرة الطّاعة وامتثال الأوامر «وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ» كثيرة يرفعهم على غيرهم في الدّنيا والآخرة قال تعالى (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الآية ٩ من سورة الزمر ج ٢، والآية ٢٥٤ من البقرة المارة، وهي مكررة في القرآن العظيم باللفظ وبالمعنى وهذا التفاضل نسبي بين النّاس أجمعين، حتى الأنبياء، قال تعالى (لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ) الآية ٥٦ من
207
سورة الإسراء ج ٢، وقال تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) الآية ٢٥٣ من البقرة المارة وفي الرّزق أيضا قال تعالى (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) الآية ٧١ من سورة النّحل ج ٢ «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» (١١) وسبب نزول هذه الآية على ما قالوا هو أنه جاء أناس من المهاجرين والأنصار إلى مجلس الرّسول فسلموا فرد عليهم السّلام ثم سلموا على الجالسين فردوا عليهم السّلام وبقوا قائمين حيال رسول الله لعدم وجود محل يجلسون فيه، لأن المجلس غاص بالناس، فشق قيامهم على حضرة الرسول لمكانتهم عنده، فقال لمن حوله قم يا فلان وأنت يا فلان فأقام من المجلس يقدر أولئك النّفر وأجلسهم، فشق ذلك على الّذين أقامهم وعرف الكراهية في وجوههم، فلما أنزل الله هذه الآية طابت نفوسهم وركنت إلى أمره الذي هو من أمر الله وفيها تعليم لعباده واخبارهم بأنهم متفاضلون، وإن من الأدب أن يحترم الأدنى الأفضل، قال صلّى الله عليه وسلم لا تزال أمتي بخير ما تفاضلت. ومن كمال الآداب احترام من هو دونه أيضا بالملاقاة والتكلم والمجالسة على أن لا يتجاوز فيه الحد بالنسبة له، مثل أن يقوم العالم أو الفاصل لمن هو دونه، فيقدم له الحداء فهذا بعد تخاسا لا أدبا، إذ لكل شيء حد يجب الوقوف عنده، لأن الإفراط والتفريط قد يقضيان للحط من كرامة الرّجل ويوجبان الغيبة له، ورحم الله امرأ جبّ الغيبة عن نفسه، بأن يتحاشى أن يفعل ما يغتاب عليه به فيقطع ألسنة الناس عنه، ومما جاء في فضل العلم ما أخرجه الترمذي عن بن كثير قال قدم رجل من المدينة على أبي الدّرداء وهو بدمشق، فقال ما أقدمك يا أخي؟ قال حديث بلغني انك تحدثه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال أما جئت لحاجة غيره؟ قال لا قال أما قدمت في تجارة؟ قال لا، قال ما جئت إلّا في طلب الحديث؟ قال نعم، قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من سلك طريقا يبتغي فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنّة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السّموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء،
208
وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم، فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر. وأخرج أبو داود نحوه وهذا الفضل لا يختص بمن يأتي لطلب العلم من مكان بعيد، بل إذا ذهب لطلبه من دار لأخرى في بلده أو حيه ينال هذا الأجر، والله ذو الفضل العظيم يضاعف لمن يشاء بحسب بعد المكان وقربه وحسب نية الطّالب، فأين من يطلبه ويتعرض لنفحاته. وجاء في بعض الأخبار كن عالما أو متعلما أو مستمعا ولا تكن الرّابعة فتهلك، أجارنا الله من الهلاك. وروى البخاري ومسلم عن معاوية ابن أبي سفيان قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين
. وأخرج الترمذي مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروى البغوي بسنده عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم مر بمجلسين في مسجده أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه، فقال كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه، وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلمونه الجاهل فهؤلاء أفضل. وإنما بعثت معلما. ثم جلس فيهم.
مطلب في تقديم الصّدقة عند مناجاة الرّسول وعفوها وبعض أحوال المنافقين في الدّنيا والآخرة:
قال تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ» أي إذا أردتم مناجاته والتكلم معه «فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً» أي قبل مناجاتكم له تصدقوا ثم ناجوه «ذلِكَ» التصدق قبل المناجاة لحضرته «خَيْرٌ لَكُمْ» في دينكم ودنياكم لما فيها من احترام الرّسول والثناء الحسن والأدب الوافر والأخلاق الكاملة والاعتراف بالفضل والمحبة الصّادقة لحضرته وفي آخرتكم لما فيها من طاعة الله ورسوله وامتثال أوامره عن طيب قلب «وَأَطْهَرُ» لأن الصدقة زكاة المال والمتصدق «فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا» ما تنصدقون به «فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (١٢) بعباده الفقراء، ومن رحمتة بهم عفوهم من تقديمها ولهم أن يناجوه بلا تصدق. لما أكثر النّاس من سؤال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الصّغيرة والكبيرة وشق ذلك عليه أراد الله تعالى أن يخفف عنه ويثبط النّاس عن ذلك فأمرهم
209
بالتصدق عند إرادة مناجاته لا عظامها ونفع الفقراء ولئلا يقوم كلّ أحد فيما أهمه وما لم يهمه على سؤاله وليختصروا على الأهم الذي لا بد لهم من معرفته أو القضاء به إلّا ببيان الرّسول، فنزلت هذه الآية، فتوقف النّاس لأنهم لم يعرفوا بعد هذه الجهة ولم يعلموا ما هي هذه الصّدقة وكم هي، قال علي كرم الله وجهه قال لي الرسول ما ترى في قدر هذه الصّدقة أدينار؟ قلت لا يطيقون، قال فكم؟ قلت شعيرة أي وزنها ذهبا، قال إنك لزهيد أي قليل المال قدرت على قدر حالك فتصدق علي بدينار، ونزلت الرّخصة في الآية الآتية، فكان عليه السّلام يقول في خفف الله عن هذه الأمة، وقال آية في كتاب الله لم يعمل بها أحد غيري وفيها منقبة عظيمة له عليه السّلام وهو أبو المناقب، وليس فيها طعن على أحد لأن الزمن لم يتسع للعمل بها، إذ نزلت الرّخصة بتركها فور اذاعة أمر الصّدقة بين النّاس والتحدث بها على أثر تصدق سيدنا علي كرم الله وجهه لأن القصد منها زيادة احترام حضرة الرّسول، وقد حصلت بمجرد نزول الآية ووقر في قلوب النّاس معناها وعرفوا المراد من مغزاها وتحاشوا عن كثرة المراجعة له. قال الكلبي ما كان إلّا ساعة من نهار، وقال مقاتل كان بين هذه الآية وبين آية الرّخصة عشرة أيّام. وهو الأصح إذ لا يمكن إذاعتها للآفاق دون هذه المدة بالنسبة لذلك الزمن. قال تعالى «أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ» مع حضرة الرّسول «صَدَقاتٍ» أي خفتم العيلة والفاقة أم بخلتم بهذه الصّدقة أو خشيتم من أدائها «فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا» ما أمرتم به من التصدق فقد خفف الله عنكم ويسر عليكم وأزال عنكم المؤاخذة على عدمها وسهل لكم مناجاة الرّسول بدونها وجعلها لكم مجانا كما كانت إذا حصل المقصود منها وهو تعظيم حضرة النّبي واحترامه والتباعد عن الإفراط في سؤاله والميزة بين المؤمن والمنافق من حيث تلقي هذا الأمر بالقبول «وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ» في عدم مسارعتكم إلى فعل هذه الصّدقة.
وتشير هذه الآية إلى تأخرهم عن أداء تلك الصّدقة حال نزول هذه الآية ذنب بالنسبة لمن هي لأجله وإلى زيادة تعظيم قدر الرّسول عند ربه عز وجل، ولهذا أمرهم بقوله جل قوله «فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ»
210
تداركا لما فاتكم في المسارعة لإنقاذ أمره قبل إنزال التخفيف والترخيص بعدمه أي إذ فاتكم التصدق في المناجاة وفرطتم بها فلا تفرطوا بإقامة الصّلاة وأداء الزكاة وطاعة الله ورسوله فيما يأمركم وينهاكم، بعد بل سارعوا له واغتنموا فعله ولا تقاعسوا ولا تتوانوا عنه أو تعتذروا منه وفيها إشارة إلى فعل أحد هذه الثلاثة قبل المناجاة لحضرة الرّسول بدلا من الصّدقة «وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» (١١) وهذه إحدى الآيات الثلاث التي نوهنا بها في المقدمة في بحث النّاسخ والمنسوخ وبينا توجيهها هناك وإنها غير ناسخة للآية قبلها والآية الثانية مرت في سورة المزمل ج ١ والثالثة في سورة الأنفال المارة، راجع بحث النّاسخ والمنسوخ في المقدمة ج ١ ولما اختلا المنافقون باليهود ونصحوهم (بل غشوهم) عن موالاة الرّسول ونقلوا إليهم أسرار المؤمنين وقالوا لهم نحن نتولاكم من دونه أنزل الله عز وجل «أَلَمْ تَرَ» يا سيد الرسل «إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» وهم اليهود «ما هُمْ» أولئك المنافقون «مِنْكُمْ» أيها المؤمنون لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان «وَلا مِنْهُمْ» أي اليهود الّذين ولوا أمرهم المنافقين وهم كما وصفهم الله مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء الآية ٤٣ من سورة النّساء المارة «وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ» بأنهم مؤمنون مثلكم «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» (١٤) انهم كاذبون يحلفهم «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً» في الآخرة لكذبهم وحلفهم على الكذب إنه ليس بكذب «إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» (١٥) في دنياهم هذه إذ «اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً» وقاية يتقون بها حفظ أنفسهم من الجلاء والأسر والقتل وأموالهم وأولادهم ونسائهم عن الاستيلاء عليها والسّبي «فَصَدُّوا» الناس «عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» وأعرضوا عن رسوله في الدّنيا «فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» (١٦) جزاء ذلك، قالوا إن حضرة الرّسول صلّى الله عليه وسلم قال لأحدهم عبد الله بن نبتل في قولهم لليهود لا توالوا الرّسول إلخ كما مر آنفا فحلف أنه لم يقل وجاء بأصحابه فحلقوا كذلك فكذبهم الله تعالى في هذه الآيات التي أنزلها على رسوله فيما وقع منهم قاتلهم الله ما أكذبهم، وهؤلاء أشد من مغالاتهم، لأن حب المال والدّنيا هو الذي حدا بهم إلى ذلك، ولا ريب أن الّذين لا يؤمنون بالآخرة يغريهم حب المال والرّئاسة
211
قال تعالى «لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ» المنافقون المتولون لليهود والحالفون كذبا متخذون إيمانهم وقاية لصون دمائهم وأموالهم وأولادهم، الصادون النّاس عن سبيل الله المعرضون عنه هم «أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» (١٧) أبدا لا يتحولون عنها. واعلم يا حضرة الرسول أن هؤلاء المنافقين وأصحابهم اليهود «يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً» في الموقف المهيب فيسألهم عما وقع منهم في الدّنيا من هذه الأحوال وغيرها وهو غني عن سؤالهم لأنه يعلم كلّ ما وقع منهم أزلا ولكن ليفضحهم على رؤوس الأشهاد «فَيَحْلِفُونَ لَهُ» في ذلك المشهد العظيم «كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ» يا أكمل الرسل بأنهم صادقون وهم كاذبون «وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ» من قبول أيمانهم الكاذبة عند الله كما كانت تقبل منهم بالدنيا ظاهرا، كلّا ليسوا على شيء من ذلك أصلا «أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ» (١٨) في الدّنيا والآخرة تشير أداة التنبيه في مطلع هذه الآية والتوكيد بأن واللام على توغلهم بالنفاق والكذب وتعودهم عليهما وفساد ظنهم على رواج إيمانهم بين يدي علام الغيوب وفضيحتهم على رؤوس الأشهاد. قال تعالى «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ» أي استحوى واستولى عليهم فملك قلوبهم وغلبهم على أمرهم وأحاط بهم من كلّ جانب، وجاء هذا الفصل على خلاف قاعدة اللّغويين من أن الواو إذا تحركت بالفتحة تقلب الفاء على هذه القاعدة يكون استحاذ إلّا أنه جاء على الأصل، ومثله استصوب واستشوف، والأحوذي السّائس الضّابط للأمور، قالت عائشة رضي الله عنها كان عمر أحوذيا أي مدبرا للأمور ضابطها وهؤلاء الّذين استولى عليهم الشّيطان «فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ» إذ أشغل ليهم عن التفكير والمراقبة بجمع حطام الدّنيا وتدبير شئونها، فأشغل حواسهم الظّاهرة والباطنة وحصرها في أمور الدّنيا وصرفها عما يتعلق بالآخرة فلم يبق في
قلوبهم خطرة للتفكير في آلاء الله أو لمحة لشكر نعمائه أو حركة للنظر في ملكوت أرضه وسمائه وأشغل ألسنتهم عن ذكر الله بالغيبة والنميمة وقول الزور في الكذب والافتراء والبهتان، فلم يترك لها فسحة لتلاوة شيء من ذكره ولا فرجة لتحميده وتسبيحه، وأشغل جوارحهم بالأكل والشّرب واللّباس والمساكن
212
فلم يفسح لهم طريقا للانفاق وعمل الخير ومساواة الفقراء والمساكين «أُولئِكَ» الّذين هذه صفتهم هم «حِزْبُ الشَّيْطانِ» وأولياؤه وحلفاؤه وأنصاره «أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ» (١٩) في الدّارين. قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» يعادونهما وأوليائهما ويتعدون حدودها ولا يعملون بأوامرها «أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ» (٢٠) في جملة من أذلهم الله في الدّنيا وإن ما هم عليه من النّعم الفانية لا قيمة لها لأن مرجعهم للآخرة التي سيهانون فيها ويحقرون ويعلمون أن ما رأوه في الدّنيا هو ذلّ أيضا بسبب تكالبهم على جمعها وعدم مبالاتهم بجمعه إذ لا يتورعون عن مغصوب وحرام، فالعز الذي نالوه من هذا المال هو ذل أيضا من حيث النّتيجة.
قال تعالى «كَتَبَ اللَّهُ» في لوحه المحفوظ أذلا «لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» المحادين والمخالفين والمعرضين مهما كانوا عليه من قوّة ومنعة «إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ» لا يغلب منيع لا ينال «عَزِيزٌ» (٢١) لا يدرك عظيم لا يرام راجع الآية ١٧٢ من الصّافات في ج ٢ والآية ٥٦ من المائدة الآتية واعلم يا سيد الرّسل انك «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» فإذا رأيت متصفا بالإيمان موادا لهؤلاء فاحكم بنفاقه وبأن إيمانه صوريّ لا ينتفع به، لأن المؤمن لا يوالي الكافر ولا يخالف الله ورسوله ولا يحب أعدائهما، لذلك من الممتنع جدا أن تجد قوما مؤمنين متصفين بتلك الصّفات «وَلَوْ كانُوا» أي المحادون «آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ» فلا ينبغي أن يوالوهم، بل يجب عليهم أن يخذلوهم ولو كانوا أولى الناس بهم. ولهذا البحث صلة في الآية ٣٤ من سورة التوبة الآتية فراجعها.
ولهذا فإن عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قتل أباه يوم أحد، وعبد الله استأذن حضرة الرّسول بقتل أبيه عبيد الله أبي بن سلول كما مر في الآية ٨ من سورة المنافقين، وأبا بكر الصّديق رضي الله عنه أراد قتل ابنه يوم بدر فمنعه حضرة الرسول من مبارزته، ومصعب ابن عمر قتل أخاه عبد الله وأبو عبيدة بن الجراح وحمزة بن عبد المطلب وعلي كرم الله وجهه قتلوا عتبة وشيبة بن ربيعة، والوليد ابن عتبة يوم بدر وهم من عمومتهم، وعمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام
Icon