تفسير سورة المجادلة

تفسير الرازي
تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب مفاتيح الغيب المعروف بـتفسير الرازي .
لمؤلفه فخر الدين الرازي . المتوفي سنة 606 هـ
سورة المجادلة

بسم الله الرحمن الرّحيم

سورة المجادلة
وهي عشرون وآيتان مدنية
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١)
رُوِيَ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ امْرَأَةَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ أَخِي عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَآهَا زَوْجُهَا وَهِيَ تُصَلِّي، وَكَانَتْ حَسَنَةَ الْجِسْمِ، وَكَانَ بِالرَّجُلِ لَمَمٌ، فَلَمَّا سَلَّمَتْ رَاوَدَهَا، فَأَبَتْ، فَغَضِبَ، وَكَانَ بِهِ خِفَّةٌ فَظَاهَرَ مِنْهَا، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: إِنَّ أَوْسًا تَزَوَّجَنِي وَأَنَا شَابَّةٌ مَرْغُوبٌ فيَّ، فَلَمَّا خَلَا سِنِّي وَكَثُرَ وَلَدِي جَعَلَنِي كَأُمِّهِ، وَإِنَّ لِي صِبْيَةً صِغَارًا إِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيْهِ ضاعوا، وإن ضممتهم إليّ جاعوا، ثم هاهنا رِوَايَتَانِ: يُرْوَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهَا: «مَا عِنْدِي فِي أَمْرِكِ شَيْءٌ» وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهَا: «حَرُمْتِ عَلَيْهِ» فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّه مَا ذَكَرَ طَلَاقًا، وَإِنَّمَا هُوَ أَبُو وَلَدِي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَقَالَ: «حَرُمْتِ عَلَيْهِ» فَقَالَتْ: أَشْكُو إِلَى اللَّه فَاقَتِي وَوَجْدِي، وَكُلَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حَرُمْتِ عَلَيْهِ» هَتَفَتْ وَشَكَتْ إِلَى اللَّه، فَبَيْنَمَا هِيَ كَذَلِكَ إِذْ تَرَبَّدَ وَجْهُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرْسَلَ إِلَى زَوْجِهَا، وَقَالَ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: الشَّيْطَانُ فَهَلْ مِنْ رُخْصَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْأَرْبَعَ آيَاتٍ، وَقَالَ لَهُ: هَلْ تَسْتَطِيعُ الْعِتْقَ؟ فَقَالَ: لَا واللَّه، فَقَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ؟ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنِّي آكُلُ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لكلَّ بَصَرِي وَلَظَنَنْتُ أَنِّي أَمُوتُ، فَقَالَ لَهُ: هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ فَقَالَ: لَا واللَّه يَا رَسُولَ اللَّه إِلَّا أَنْ تُعِينَنِي مِنْكَ بِصَدَقَةٍ، فَأَعَانَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا، وَأَخْرَجَ أَوْسٌ مِنْ عِنْدِهِ مِثْلَهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا»
وَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الْخَبَرِ مَبَاحِثَ:
الْأَوَّلُ: قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي هَذَا الْخَبَرِ: (وَكَانَ بِهِ لَمَمٌ)، الْخَبَلَ وَالْجُنُونَ إِذْ لَوْ كَانَ بِهِ ذَلِكَ ثُمَّ ظَاهَرَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يَكُنْ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، بَلْ مَعْنَى اللَّمَمِ هُنَا: الْإِلْمَامُ بِالنِّسَاءِ، وَشِدَّةُ الْحِرْصِ، وَالتَّوَقَانُ إِلَيْهِنَّ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّ الظِّهَارَ كَانَ مِنْ أَشَدِّ طَلَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ، لِأَنَّهُ فِي التَّحْرِيمِ أَوْكَدُ مَا يُمْكِنُ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحُكْمُ صَارَ مُقَرَّرًا بِالشَّرْعِ كَانَتِ الْآيَةُ نَاسِخَةً لَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُعَدَّ نَسْخًا، لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَدْخُلُ فِي الشَّرَائِعِ لَا فِي عَادَةِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَكِنَّ الَّذِي
رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: «حَرُمْتِ»
أَوْ
قَالَ: «مَا أَرَاكِ إِلَّا قَدْ حَرُمْتِ»
كَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ شَرْعًا. وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي الْحُكْمِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذِهِ الْوَاقِعَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنِ انْقَطَعَ رَجَاؤُهُ عَنِ الْخَلْقِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ فِي مُهِمِّهِ أَحَدٌ سِوَى الْخَالِقِ كَفَاهُ اللَّه ذَلِكَ الْمُهِمَّ، وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ، أَمَّا قَوْلُهُ: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: قَدْ مَعْنَاهُ التَّوَقُّعُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّه وَالْمُجَادِلَةَ كَانَا يَتَوَقَّعَانِ أَنْ يَسْمَعَ اللَّه مُجَادَلَتَهَا وَشَكْوَاهَا، وَيُنَزِّلَ فِي ذَلِكَ مَا يُفَرِّجُ عَنْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ حَمْزَةُ يُدْغِمُ الدَّالَ فِي السِّينِ مِنْ: قَدْ سَمِعَ وَكَذَلِكَ فِي نَظَائِرِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى حَكَى عَنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَمْرَيْنِ أَوَّلُهُمَا: الْمُجَادَلَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها أَيْ تُجَادِلُكَ فِي شَأْنِ زَوْجِهَا، وَتِلْكَ الْمُجَادَلَةُ
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلَّمَا قَالَ لَهَا: «حَرُمْتِ عَلَيْهِ» قَالَتْ: واللَّه مَا ذَكَرَ طَلَاقًا
وَثَانِيهِمَا:
شَكْوَاهَا إِلَى اللَّه، وَهُوَ قَوْلُهَا: أَشْكُو إِلَى اللَّه فَاقَتِي وَوَجْدِي، وَقَوْلُهَا: إِنَّ لِي صِبْيَةً صِغَارًا، ثُمَّ قَالَ سُبْحَانَهُ:
وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما وَالْمُحَاوَرَةُ الْمُرَاجَعَةُ فِي الْكَلَامِ، مِنْ حَارَ الشَّيْءُ يَحُورُ حَوْرًا، أَيْ رَجَعَ يَرْجِعُ رُجُوعًا، وَمِنْهَا نَعُوذُ باللَّه مِنَ الْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ، وَمِنْهُ فَمَا أَحَارَ بِكَلِمَةٍ، أَيْ فَمَا أَجَابَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أَيْ يَسْمَعُ كَلَامَ مَنْ يناديه، ويبصر من يتضرع إليه.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ٢]
الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ فيه بحثان:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَبَاحِثِ اللُّغَوِيَّةِ وَالْفِقْهِيَّةِ، فَنَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَحْثَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الظِّهَارَ مَا هُوَ؟ الثَّانِي: أَنَّ الْمُظَاهِرَ مَنْ هُوَ؟ وَقَوْلُهُ: مِنْ نِسائِهِمْ فِيهِ بَحْثٌ: وَهُوَ أَنَّ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا مَنْ هِيَ؟.
أَمَّا الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنَّ الظِّهَارَ مَا هُوَ؟ فَفِيهِ مَقَامَانِ:
الْمَقَامُ الْأَوَّلُ: فِي الْبَحْثِ عَنْ هَذِهِ اللَّفْظَةِ بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلِ الرَّجُلِ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ صَاحِبُ «النَّظْمِ»، أَنَّهُ لَيْسَ مَأْخُوذًا مِنَ الظَّهْرِ الَّذِي هُوَ عُضْوٌ مِنَ الْجَسَدِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الظَّهْرُ أَوْلَى بِالذِّكْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ الَّتِي هِيَ مَوَاضِعُ الْمُبَاضَعَةِ، والتلذذ، بل الظهر هاهنا مَأْخُوذٌ مِنَ الْعُلُوِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الْكَهْفِ: ٩٧] أَيْ يَعْلُوهُ، وَكُلُّ مَنْ عَلَا شَيْئًا فَقَدْ ظَهَرَهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَرْكُوبُ ظَهْرًا، لِأَنَّ رَاكِبَهُ يَعْلُوهُ، وَكَذَلِكَ امْرَأَةُ الرَّجُلِ ظَهْرُهُ، لِأَنَّهُ يَعْلُوهَا بِمِلْكِ الْبُضْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ نَاحِيَةِ الظَّهْرِ، فَكَأَنَّ امْرَأَةَ الرَّجُلِ مَرْكَبٌ لِلرَّجُلِ وَظَهْرٌ لَهُ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ فِي الطَّلَاقِ: نَزَلْتُ عَنِ امْرَأَتِي أَيْ طَلَّقْتُهَا، وَفِي قَوْلِهِمْ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، حَذْفٌ وَإِضْمَارٌ، لِأَنَّ تَأْوِيلَهُ:
ظَهْرُكِ عَلَيَّ، أَيْ مِلْكِي إِيَّاكِ، وَعُلُوِّي عَلَيْكِ حَرَامٌ، كَمَا أَنَّ عُلُوِّي عَلَى أُمِّي وَمِلْكَهَا حَرَامٌ عَلَيَّ.
الْمَقَامُ الثَّانِي: فِي الْأَلْفَاظِ الْمُسْتَعْمَلَةِ بِهَذَا الْمَعْنَى فِي عُرْفِ الشَّرِيعَةِ. الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: أَنْتِ
478
عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الظَّهْرِ، وَلَفْظُ الْأُمِّ مَذْكُورَيْنِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأُمِّ مَذْكُورًا دُونَ لَفْظِ الظَّهْرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الظَّهْرِ مَذْكُورًا دُونَ لَفْظِ الْأُمِّ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَكُونَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَذْكُورًا، فَهَذِهِ أَقْسَامٌ أَرْبَعَةٌ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِذَا كَانَا مَذْكُورَيْنِ وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالِاتِّفَاقِ، ثُمَّ لَا مناقشة في الصلاة إِذَا انْتَظَمَ الْكَلَامُ، فَلَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ أَنْتِ مِنِّي كَظَهْرِ أُمِّي، فهذه الصلاة كُلُّهَا جَائِزَةٌ وَلَوْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ صِلَةً، وَقَالَ: أَنْتِ كَظَهْرِ أُمِّي، فَقِيلَ: إِنَّهُ صَرِيحٌ، وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ أَنَّهَا كَظَهْرِ أُمِّهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ كَمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ: أَرَدْتُ بِذَلِكَ الْإِخْبَارَ عَنْ كَوْنِهَا طَالِقًا مِنْ جِهَةِ فُلَانٍ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ مَذْكُورَةً، وَلَا يَكُونَ الظَّهْرُ مَذْكُورًا، وَتَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فِيهِ أَنَّ الْأَعْضَاءَ قِسْمَانِ، مِنْهَا مَا يَكُونُ التَّشْبِيهُ بِهَا غَيْرَ مُشْعِرٍ بِالْإِكْرَامِ، وَمِنْهَا مَا يكون التشبيه بها مشعر بِالْإِكْرَامِ، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَرِجْلِ أُمِّي، أَوْ كَيَدِ أُمِّي، أَوْ كَبَطْنِ أُمِّي، وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: الْجَدِيدُ أَنَّ الظِّهَارَ يَثْبُتُ، وَالْقَدِيمُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ، أَمَّا الْأَعْضَاءُ الَّتِي يَكُونُ التَّشْبِيهُ بِهَا سَبَبًا لِلْإِكْرَامِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَعَيْنِ أُمِّي، أَوْ رُوحِ أُمِّي، فَإِنْ أَرَادَ الظِّهَارَ كَانَ ظِهَارًا، وَإِنْ أَرَادَ الْكَرَامَةَ فَلَيْسَ بِظِهَارٍ، فَإِنَّ لَفْظَهُ مُحْتَمِلٌ لِذَلِكَ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَفِيهِ تَرَدُّدٌ، هَذَا تَفْصِيلُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَأَمَّا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» : إِذَا شَبَّهَ زَوْجَتَهُ بِعُضْوٍ مِنَ الْأُمِّ يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ظِهَارًا، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَيَدِ أُمِّي أَوْ كَرَأْسِهَا، أَمَّا إذا شببها بِعُضْوٍ مِنَ الْأُمِّ يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إِلَيْهِ كَانَ ظِهَارًا، كَمَا إِذَا قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَبَطْنِ أُمِّي أَوْ فَخِذِهَا، وَالْأَقْرَبُ عِنْدِي هُوَ الْقَوْلُ الْقَدِيمُ لِلشَّافِعِيِّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الظِّهَارُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ حِلَّ الزَّوْجَةِ كَانَ ثَابِتًا، وَبَرَاءَةَ الذِّمَّةِ عَنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ كَانَتْ ثَابِتَةً، وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ عَلَى مَا كَانَ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ فِيمَا إِذَا قَالَ:
أَنْتِ عَلَيَّ/ كَظَهْرِ أُمِّي لِمَعْنًى مَفْقُودٍ فِي سَائِرِ الصُّوَرِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمَعْهُودَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ هُوَ قَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ ظِهَارًا، فَكَانَ هَذَا اللَّفْظُ بِسَبَبِ الْعُرْفِ مُشْعِرًا بِالتَّحْرِيمِ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا الْمَعْنَى فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ، فَوَجَبَ الْبَقَاءُ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا إِذَا كَانَ الظَّهْرُ مَذْكُورًا وَلَمْ تَكُنِ الْأُمُّ مَذْكُورَةً، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى ثَلَاثَةِ مَرَاتِبَ: الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: أَنْ يَجْرِيَ التَّشْبِيهُ بِالْمُحَرَّمَاتِ مِنَ النَّسَبِ وَالرِّضَاعِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْقَدِيمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَالْقَوْلُ الْجَدِيدُ أَنَّهُ يَكُونُ ظِهَارًا، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ. الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: تَشْبِيهُهَا بِالْمَرْأَةِ الْمُحَرَّمَةِ تَحْرِيمًا مُؤَقَّتًا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ فُلَانَةَ، وَكَانَ طَلَّقَهَا وَالْمُخْتَارُ عِنْدِي أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذَا لَا يَكُونُ ظِهَارًا، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّالِفَةِ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ وَظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ يَقْتَضِي حُصُولَ الظِّهَارِ بِكُلِّ مُحَرَّمٍ فَمَنْ قَصَرَهُ عَلَى الْأُمِّ فَقَدْ خَصَّ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ بَعْدَهُ: مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الظِّهَارُ بِذِكْرِ الْأُمِّ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْأُمِّ أَشَدُّ مِنْ حُرْمَةِ سَائِرِ الْمَحَارِمِ، فَنَقُولُ: الْمُقْتَضِي لِبَقَاءِ الْحِلِّ قَائِمٌ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ، وَهَذَا الْفَارِقُ مَوْجُودٌ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ الْقِيَاسُ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا إِذَا لَمْ يَذْكُرْ لَا الظَّهْرَ وَلَا الْأُمَّ، كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَبَطْنِ أُخْتِي، وَعَلَى قِيَاسِ مَا تَقَدَّمَ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ ظِهَارًا.
الْبَحْثُ الثَّانِي: في المظاهر، وفيه مسائل:
479
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: الضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ، فَعَلَى هَذَا ظِهَارُ الذِّمِّيِّ عِنْدَهُ صَحِيحٌ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ تَأْثِيرَ الظِّهَارِ فِي التَّحْرِيمِ وَالذِّمِّيُّ أَهْلٌ لِذَلِكَ، بِدَلِيلِ صِحَّةِ طَلَاقِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنْهُ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ الثَّانِي: أَنَّ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُسْلِمِ زَجْرًا لَهُ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُنْكَرٌ مِنَ الْقَوْلِ وَزُورٌ، وَهَذَا الْمَعْنَى قَائِمٌ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ، وَاحْتَجُّوا لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: احْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ وَذَلِكَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ مَخْصُوصٌ بِالْمُؤْمِنِينَ الثاني: مِنْ لَوَازِمِ الظِّهَارِ الصَّحِيحِ، وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَى الْعَائِدِ الْعَاجِزِ عَنِ الْإِعْتَاقِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا- إِلَى قَوْلِهِ- فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ [الْمُجَادِلَةِ: ٣- ٤] وَإِيجَابُ الصَّوْمِ عَلَى الذِّمِّيِّ مُمْتَنِعٌ، لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَوَجَبَ، إِمَّا مَعَ الْكُفْرِ وَهُوَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، أَوْ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَهُوَ بَاطِلٌ،
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ»
وَالْجَوَابُ: عَنِ الْأَوَّلِ/ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ: مِنْكُمْ خِطَابُ مُشَافَهَةٍ فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْحَاضِرِينَ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ؟ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إِنَّ تَخْصِيصَهُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الذِّكْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَ غَيْرِهِمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ، لَا سِيَّمَا وَمِنْ مَذْهَبِ هَذَا الْقَائِلِ: أَنَّ التَّخْصِيصَ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَالَ مَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ، سَلَّمْنَا بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، لَكِنَّ دَلَالَةَ الْمَفْهُومِ أَضْعَفُ مِنْ دَلَالَةِ الْمَنْطُوقِ، فَكَانَ التَّمَسُّكُ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ أَوْلَى، سَلَّمْنَا الِاسْتِوَاءَ فِي الْقُوَّةِ، لَكِنَّ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَامَّ إِذَا وَرَدَ بَعْدَ الْخَاصِّ كَانَ نَاسِخًا لِلْخَاصِّ، وَالَّذِي تَمَسَّكْنَا بِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [الْمُجَادِلَةِ: ٣] مُتَأَخِّرٌ فِي الذِّكْرِ عَنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي النُّزُولِ أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلَهُ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ حُكْمِ الظِّهَارِ، وَقَوْلَهُ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ فِيهِ بَيَانُ حُكْمِ الظِّهَارِ، وَكَوْنُ الْمُبَيَّنِ مُتَأَخِّرًا فِي النُّزُولِ عَنِ الْمُجْمَلِ أَوْلَى وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ لَوَازِمَهُ أَيْضًا أَنَّهُ مَتَى عَجَزَ عَنِ الصَّوْمِ اكْتُفِيَ مِنْهُ بِالْإِطْعَامِ فَهَهُنَا إِنْ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ وَجَبَ أَنْ يُكْتَفَى مِنْهُ بالإطعام وإن لم يتحقق العجز فَقَدْ زَالَ السُّؤَالُ، وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّوْمَ يَدُلُّ عَنِ الْإِعْتَاقِ، وَالْبَدَلَ أَضْعَفُ مِنَ الْمُبْدَلِ، ثُمَّ إِنَّ الْعَبْدَ عَاجِزٌ عَنِ الْإِعْتَاقِ مَعَ أَنَّهُ يَصِحُّ ظِهَارُهُ، فَإِذَا كَانَ فَوَاتُ أَقْوَى اللَّازِمَيْنِ لَا يُوجِبُ الْمَنْعَ، مَعَ صِحَّةِ الظِّهَارِ، فَفَوَاتُ أَضْعَفِ اللَّازِمَيْنِ كَيْفَ يَمْنَعُ مِنَ الْقَوْلِ بِصِحَّةِ الظِّهَارِ الثَّالِثُ: قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ يُقَالُ: إِنْ أَرَدْتَ الْخَلَاصَ مِنَ التَّحْرِيمِ، فأسلم وصم، أما
قوله عليه وَالسَّلَامُ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ»
قُلْنَا: إِنَّهُ عَامٌّ، وَالتَّكْلِيفُ بِالتَّكْفِيرِ خَاصٌّ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ، وَأَيْضًا فَنَحْنُ لَا نُكَلِّفُهُ بِالصَّوْمِ بَلْ نَقُولُ: إِذَا أَرَدْتَ إِزَالَةَ التَّحْرِيمِ فَصُمْ، وَإِلَّا فَلَا تَصُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ رَحِمَهُمُ اللَّه: لَا يَصِحُّ ظِهَارُ الْمَرْأَةِ مِنْ زَوْجِهَا وَهُوَ أَنْ تَقُولَ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: هُوَ يَمِينٌ تُكَفِّرُهَا، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَلْزَمُهُ بِذَلِكَ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَهُوَ الْأَصْلُ فَكَيْفَ يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ ذَلِكَ؟ وَلِأَنَّ الظِّهَارَ يُوجِبُ تَحْرِيمًا بِالْقَوْلِ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَمْلِكُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الطَّلَاقَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِذَا قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي الْيَوْمَ، بَطَلَ الظِّهَارُ بِمُضِيِّ الْيَوْمِ،
480
وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، هُوَ مُظَاهِرٌ أَبَدًا لَنَا أَنَّ التَّحْرِيمَ الْحَاصِلَ بِالظِّهَارِ قَابِلٌ للتوقيت وإلا لما انحل بالتفكير، وَإِذَا كَانَ قَابِلًا لِلتَّوْقِيتِ، فَإِذَا وَقَّتَهُ وَجَبَ أَنْ يَتَقَدَّرَ بِحَسَبِ ذَلِكَ التَّوْقِيتِ قِيَاسًا عَلَى الْيَمِينِ، فَهَذَا مَا يَتَعَلَّقُ مِنَ الْمَسَائِلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ، أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْ نِسائِهِمْ فَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْمُظَاهَرِ مِنْهُ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ الظِّهَارُ عَنِ الْأَمَةِ؟ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَصِحُّ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ:
يَصِحُّ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْحِلَّ كَانَ ثَابِتًا، وَالتَّكْفِيرَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، وَالْأَصْلُ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ، وَالْآيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ [المجادلة: ٣] يَتَنَاوَلُ الْحَرَائِرَ دُونَ الْإِمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: أَوْ نِسائِهِنَّ [النُّورِ: ٣١] وَالْمَفْهُومُ مِنْهُ الْحَرَائِرُ/ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا صَحَّ عَطْفُ قَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُعْطَفُ عَلَى نفسه، وقال تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ [النساء: ٢٣] فَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجَاتِ دُونَ مِلْكِ الْيَمِينِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ ونافع وأبو عمر:
والذين يُظَهِّرُونَ بِغَيْرِ الْأَلِفِ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ: يُظاهِرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الظَّاءِ وَالْأَلِفِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَظَّاهَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَبِالْأَلِفِ مُشَدَّدَةَ الظَّاءِ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، ظَهَّرَ مِثْلُ ضَاعَفَ وَضَعَّفَ، وَتَدْخُلُ التَّاءُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَصِيرُ تَظَاهَرَ وَتَظَهَّرَ، وَيَدْخُلُ حرف المضارعة فيصير يتظاهر لِأَنَّهَا لِلْمُطَاوَعَةِ كَمَا يَفْتَحُهَا فِي يَتَدَحْرَجُ الَّذِي هُوَ مُطَاوِعُ، دَحْرَجْتُهُ فَتَدَحْرَجَ، وَإِنَّمَا فُتِحَ الْيَاءُ في يظاهر ويظهر، لِأَنَّهَا لِلْمُطَاوَعَةِ كَمَا يَفْتَحُهَا فِي يَتَدَحْرَجُ الَّذِي هُوَ مُطَاوِعُ، دَحْرَجْتُهُ فَتَدَحْرَجَ، وَإِنَّمَا فُتِحَ الْيَاءُ فِي يَظَّاهَرُ وَيَظَّهَّرُ لِأَنَّهُ الْمُطَاوِعُ كَمَا أَنَّ يَتَدَحْرَجُ كَذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ عَلَى وَزْنِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا لِلْإِلْحَاقِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ، عَاصِمٍ يُظَاهِرُونَ فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ ظَاهَرَ يُظَاهِرُ إِذَا أَتَى بِمِثْلِ هَذَا التَّصَرُّفِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: لَفْظَةُ: مِنْكُمْ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ تَوْبِيخٌ لِلْعَرَبِ وَتَهْجِينٌ لِعَادَتِهِمْ فِي الظِّهَارِ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَيْمَانِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْأُمَمِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ فِي رِوَايَةِ الْمُفَضَّلِ: أُمَّهاتِهِمْ بِالرَّفْعِ وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى لَفْظِ الْخَفْضِ، وَجْهُ الرَّفْعِ أَنَّهُ لُغَةُ تَمِيمٍ، قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَهُوَ أَقْيَسُ الْوَجْهَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّفْيَ كَالِاسْتِفْهَامِ فَكَمَا لَا يُغَيِّرُ الِاسْتِفْهَامُ الْكَلَامَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، فَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يُغَيِّرَ النَّفْيُ الْكَلَامَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ، وَوَجْهُ النَّصْبِ أَنَّهُ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْأَخْذُ فِي التَّنْزِيلِ بِلُغَتِهِمْ أَوْلَى، وَعَلَيْهَا جَاءَ قَوْلُهُ: مَا هَذَا بَشَراً [يُوسُفَ: ٣١] وَوَجْهُهُ مِنَ الْقِيَاسِ أَنَّ مَا تُشْبِهُ لَيْسَ فِي أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ: (مَا) تَدْخُلُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ، كَمَا أَنَّ (لَيْسَ) تَدْخُلُ عَلَيْهِمَا وَالثَّانِي: أَنَّ (مَا) تَنْفِي مَا فِي الْحَالِ، كَمَا أَنَّ (لَيْسَ) تَنْفِي مَا فِي الْحَالِ، وَإِذَا حَصَلَتِ الْمُشَابَهَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ وَجَبَ حُصُولُ الْمُسَاوَاةِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ، إِلَّا مَا خُصَّ بالدليل قياسا على باب مالا يَنْصَرِفُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي الْآيَةِ إِشْكَالٌ: وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَهُوَ شَبَّهَ الزَّوْجَةَ بِالْأُمِّ، وَلَمْ يَقُلْ: إِنَّهَا أُمٌّ، فَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يُقَالَ عَلَى سَبِيلِ الْإِبْطَالِ لِقَوْلِهِ: مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ وَكَيْفَ يَلِيقُ أَنْ يُقَالَ:
وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَالْجَوَابُ: أَمَّا الْكَذِبُ إِنَّمَا لَزِمَ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، إِمَّا أَنْ يَجْعَلَهُ إِخْبَارًا أَوْ إِنْشَاءً وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كَذِبٌ، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ مُحَلَّلَةٌ وَالْأُمُّ مُحَرَّمَةٌ، وَتَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ فِي وَصْفِ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ كَذِبٌ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ إِنْشَاءً كَانَ ذَلِكَ أَيْضًا كَذِبًا، لِأَنَّ كَوْنَهُ إِنْشَاءً مَعْنَاهُ أَنَّ
481
الشَّرْعَ جَعَلَهُ سَبَبًا فِي حُصُولِ الْحُرْمَةِ، فَلَمَّا لَمْ يُرِدِ الشَّرْعُ بِهَذَا التَّشْبِيهَ، كَانَ جَعْلُهُ إِنْشَاءً فِي وُقُوعِ هَذَا الْحُكْمِ يَكُونُ كَذِبًا وَزُورًا، وَقَالَ/ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ: مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً لِأَنَّ الْأُمَّ مُحَرَّمَةٌ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، وَالزَّوْجَةُ لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بِهَذَا الْقَوْلِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا، فَلَا جَرَمَ كَانَ ذَلِكَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا، وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَشْبِيهِ الزَّوْجَةِ بِالْأُمِّ فِي الْحُرْمَةِ تَشْبِيهُهَا بِهَا فِي كَوْنِ الْحُرْمَةِ مُؤَبَّدَةً، لِأَنَّ مُسَمَّى الْحُرْمَةِ أَعَمُّ مِنَ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ وَالْمُؤَقَّتَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً أَمَّا الْكَلَامُ فِي تَفْسِيرِ لَفْظَةِ اللَّائِي، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ [الأحزاب:
٤] ثُمَّ فِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: وَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَهَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا أُمَّ إِلَّا الْوَالِدَةُ، وَهَذَا مشكل، لأنه قال في آية أخرى:
وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النِّسَاءِ: ٢٣] وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الْأَحْزَابِ: ٦] وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُدْفَعَ هَذَا السُّؤَالُ بِأَنَّ الْمَعْنَى مِنْ كَوْنِ الْمُرْضِعَةِ أُمًّا، وَزَوْجَةِ الرَّسُولِ أُمًّا، حُرْمَةُ النِّكَاحِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا نَقُولُ: إِنَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْأُمُومَةِ الْحَقِيقِيَّةِ عَدَمُ الْحُرْمَةِ، فَإِذًا لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ كَوْنِ الزَّوْجَةِ أُمًّا عَدَمُ الْحُرْمَةِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ يُوهِمُ أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِعَدَمِ الْأُمُومَةِ عَلَى عَدَمِ الْحُرْمَةِ، وَحِينَئِذٍ يَتَوَجَّهُ السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ:
أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ ظَاهِرِ الْآيَةِ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ بَلْ تَقْدِيرُ الْآيَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ: الزَّوْجَةُ لَيْسَتْ بِأُمٍّ، حَتَّى تَحْصُلَ الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الْأُمُومَةِ، وَلَمْ يُرِدِ الشَّرْعُ بِجَعْلِ هَذَا اللَّفْظِ سَبَبًا لِوُقُوعِ الْحُرْمَةِ حَتَّى تَحْصُلَ الْحُرْمَةُ، فَإِذًا لَا تَحْصُلُ الْحُرْمَةُ هُنَاكَ الْبَتَّةَ فَكَانَ وَصْفُهُمْ لَهَا بِالْحُرْمَةِ كَذِبًا وَزُورًا.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ إِمَّا مِنْ غَيْرِ التَّوْبَةِ لِمَنْ شَاءَ كَمَا قَالَ: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ أَوْ بعد التوبة.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ٣]
وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا قَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِينَ رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ فَعَلَيْهِمْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ فِي الْكَلَامِ دَلِيلًا عَلَيْهِ، وَإِنْ شِئْتَ أَضْمَرْتَ فَكَفَّارَتُهُمْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ. أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَاعْلَمْ أَنَّهُ كَثُرَ اخْتِلَافُ النَّاسِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَلَا بُدَّ أَوَّلًا مِنْ بَيَانِ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَثَانِيًا مِنْ بَيَانِ أَقْوَالِ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ، وَفِيهَا مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا فَرْقَ فِي اللُّغَةِ بَيْنَ أَنْ يُقَالَ: يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا: وَإِلَى مَا قَالُوا وَفِيمَا قَالُوا، أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: كَلِمَةُ إِلَى وَاللَّامُ يَتَعَاقَبَانِ، كَقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا [الْأَعْرَافِ: ٤٣] وَقَالَ: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصَّافَّاتِ: ٢٣] وَقَالَ تَعَالَى: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ [هُودَ: ٣٦] وَقَالَ:
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها [الزَّلْزَلَةِ: ٥].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَفْظُ مَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لفظ الظهار،
482
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَعُودُونَ إِلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لِما قالُوا الْمَقُولَ فِيهِ، وَهُوَ الَّذِي حَرَّمُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِلَفْظِ الظِّهَارِ، تَنْزِيلًا لِلْقَوْلِ مَنْزِلَةَ الْمَقُولِ فِيهِ، وَنَظِيرُهُ قوله تعالى: وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ [مريم: ٨٠] أَيْ وَنَرِثُهُ الْمَقُولَ،
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ»
وَإِنَّمَا هُوَ عَائِدٌ فِي الْمَوْهُوبِ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَجَاؤُنَا، أَيْ مَرْجُوُّنَا، وَقَالَ تَعَالَى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحِجْرِ: ٩٩] أَيِ الْمُوقَنُ بِهِ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا أَيْ يَعُودُونَ إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي قَالُوا فِيهِ ذَلِكَ الْقَوْلَ، ثُمَّ إِذَا فَسَّرْنَا هَذَا اللَّفْظَ بِالْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَنَقُولُ: قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ، يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: عَادَ لِمَا فَعَلَ، أَيْ فَعَلَهُ مَرَّةً أُخْرَى، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: عَادَ لِمَا فَعَلَ، أَيْ نَقَضَ مَا فَعَلَ، وَهَذَا كَلَامٌ مَعْقُولٌ، لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ شَيْئًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُقَالَ مِثْلُهُ، فَقَدْ عَادَ إِلَى تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ لَا مَحَالَةَ أَيْضًا، وَأَيْضًا مَنْ فَعَلَ شَيْئًا ثُمَّ أَرَادَ إِبْطَالَهُ فَقَدْ عَادَ إِلَيْهِ، لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الشَّيْءِ بِالْإِعْدَامِ لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِالْعَوْدِ إِلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ظَهَرَ مِمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ قَوْلَهُ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ثُمَّ يَعُودُونَ إِلَيْهِ بِالنَّقْضِ وَالرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يكون المراد منه، ثم يعودون إلى تكون مِثْلِهِ مَرَّةً أُخْرَى، أَمَّا الِاحْتِمَالُ الْأَوَّلُ فَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ الْمُجْتَهِدِينَ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ مَعْنَى الْعَوْدِ لِمَا قَالُوا السُّكُوتُ عَنِ الطَّلَاقِ بَعْدَ الظِّهَارِ زَمَانًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا ظَاهَرَ فَقَدْ قَصَدَ التَّحْرِيمَ، فَإِنْ وَصَلَ ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ فَقَدْ تَمَّمَ مَا شَرَعَ مِنْهُ مِنْ إِيقَاعِ التَّحْرِيمِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، فَإِذَا سَكَتَ عَنِ الطَّلَاقِ، فَذَاكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا ابْتَدَأَ بِهِ مِنَ التَّحْرِيمِ، فَحِينَئِذٍ تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَاحْتَجَّ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تعالى قال: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا وثم تَقْتَضِي التَّرَاخِي، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْمُظَاهِرُ عَائِدًا عَقِيبَ الْقَوْلِ بِلَا تَرَاخٍ، وَذَلِكَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْآيَةِ الثَّانِي: أَنَّهُ شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ وَالْأُمُّ لَا يَحْرُمُ إِمْسَاكُهَا، فَتَشْبِيهُ الزَّوْجَةِ بِالْأُمِّ لَا يَقْتَضِي حُرْمَةَ إِمْسَاكِ الزَّوْجَةِ، فَلَا يَكُونُ إِمْسَاكُ الزَّوْجَةِ نَقْضًا لِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُفَسَّرَ الْعَوْدُ بِهَذَا الْإِمْسَاكِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ هَذَا أَيْضًا وَارِدٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ جَعَلَ تَفْسِيرَ الْعَوْدِ اسْتِبَاحَةَ الْوَطْءِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَمَكَّنَ الْمُظَاهِرُ مِنَ الْعَوْدِ إِلَيْهَا بِهَذَا التَّفْسِيرِ عَقِيبَ فَرَاغِهِ مِنَ التَّلَفُّظِ بِلَفْظِ الظِّهَارِ حَتَّى يَحْصُلَ التَّرَاخِي، مَعَ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْإِشْكَالَ وَارِدٌ عَلَيْهِ أَيْضًا، ثُمَّ نَقُولُ: إِنَّهُ مَا لَمْ يَنْقَضِ زَمَانٌ يُمْكِنُهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِيهِ، لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ عَائِدًا، فَقَدْ تَأَخَّرَ كَوْنُهُ عَائِدًا عَنْ/ كَوْنِهِ مُظَاهِرًا بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى كَلِمَةِ: ثُمَّ وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّ الْأُمَّ يَحْرُمُ إِمْسَاكُهَا عَلَى سَبِيلِ الزَّوْجِيَّةِ وَيَحْرُمُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا، فَقَوْلُهُ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ التَّشْبِيهَ وَقَعَ فِي إِمْسَاكِهَا عَلَى سَبِيلِ الزَّوْجِيَّةِ، أَوْ فِي الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ، فَقَوْلُهُ:
أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، يَقْتَضِي تَشْبِيهَهَا بِالْأُمِّ فِي حُرْمَةِ إِمْسَاكِهَا عَلَى سَبِيلِ الزَّوْجِيَّةِ، فَإِذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا فَقَدْ أَمْسَكَهَا عَلَى سَبِيلِ الزَّوْجِيَّةِ، فَكَانَ هَذَا الْإِمْسَاكُ مُنَاقِضًا لِمُقْتَضَى قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَوَجَبَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِكَوْنِهِ عَائِدًا، وَهَذَا كَلَامٌ مُلَخَّصٌ فِي تَقْرِيرِ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ الْعَوْدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالنَّظَرِ إِلَيْهَا بِالشَّهْوَةِ، قَالُوا: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ فِي حُرْمَةِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ قَصَدَ اسْتِبَاحَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَانَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا لِقَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ، لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ فِي أَيِّ الْأَشْيَاءِ شَبَّهَهَا بِهَا، فَلَيْسَ صَرْفُ هَذَا التَّشْبِيهِ إِلَى حُرْمَةِ
483
الِاسْتِمْتَاعِ، وَحُرْمَةِ النَّظَرِ أَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إِلَى حُرْمَةِ إِمْسَاكِهَا عَلَى سَبِيلِ الزَّوْجِيَّةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ هَذَا التَّشْبِيهُ عَلَى الْكُلِّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَإِذَا أَمْسَكَهَا عَلَى سَبِيلِ الزَّوْجِيَّةِ لَحْظَةً، فَقَدْ نَقَضَ حُكْمَ قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَوَجَبَ أَنْ يَتَحَقَّقَ الْعَوْدُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي تَفْسِيرِ الْعَوْدِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: أَنَّ الْعَوْدَ إِلَيْهَا عِبَارَةٌ عَنِ الْعَزْمِ عَلَى جِمَاعِهَا وهذا ضعيف، لأن القصة إِلَى جِمَاعِهَا لَا يُنَاقِضُ كَوْنَهَا مُحَرَّمَةً إِنَّمَا الْمُنَاقِضُ لِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً الْقَصْدُ إِلَى اسْتِحْلَالِ جِمَاعِهَا، وَحِينَئِذٍ نَرْجِعُ إِلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي تَفْسِيرِ الْعَوْدِ وَهُوَ قَوْلُ طَاوُسٍ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَنَّ الْعَوْدَ إِلَيْهَا عِبَارَةٌ عَنْ جِمَاعِهَا، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا بِفَاءِ التَّعْقِيبِ فِي قَوْلِهِ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ يَقْتَضِي كَوْنَ التَّكْفِيرِ بَعْدَ الْعَوْدِ، وَيَقْتَضِي قَوْلُهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أَنْ يَكُونَ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْجِمَاعِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ التَّكْفِيرُ بَعْدَ الْعَوْدِ، وَقَبْلَ الْجِمَاعِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَوْدُ غَيْرَ الْجِمَاعِ، وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَالُوا: الْعَوْدُ المذكور هاهنا، هَبْ أَنَّهُ صَالِحٌ لِلْجِمَاعِ، أَوْ لِلْعَزْمِ عَلَى الْجِمَاعِ، أَوْ لِاسْتِبَاحَةِ الْجِمَاعِ، إِلَّا أَنَّ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه، هُوَ أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ فَيَجِبُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بِهِ يَتَحَقَّقُ مُسَمَّى الْعَوْدِ، وَأَمَّا الْبَاقِي فَزِيَادَةٌ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا الْبَتَّةَ.
الِاحْتِمَالُ الثَّانِي: فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ أَيْ يَفْعَلُونَ مِثْلَ مَا فَعَلُوهُ، وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ فِي الْآيَةِ أَيْضًا وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الثَّوْرِيُّ: الْعَوْدُ هُوَ الْإِتْيَانُ بِالظِّهَارِ فِي الْإِسْلَامِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُطَلِّقُونَ بِالظِّهَارِ، فَجَعَلَ اللَّه تَعَالَى حُكْمَ الظِّهَارِ فِي الْإِسْلَامِ خِلَافَ حُكْمِهِ عِنْدَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ يُرِيدُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا أَيْ فِي الْإِسْلَامِ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْإِسْلَامِ مِثْلَ مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَفَّارَتُهُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ أَصْحَابُنَا هَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الظِّهَارَ وَذَكَرَ الْعَوْدَ بَعْدَهُ بِكَلِمَةِ: ثُمَّ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعَوْدِ شَيْئًا غَيْرَ الظِّهَارِ، فَإِنْ قَالُوا: الْمُرَادُ وَالَّذِينَ كَانُوا يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَالْعَرَبُ/ تُضْمِرُ لَفْظَ كان، كما في قوله: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ [البقرة: ١٠٢] أي ما كانت تتلوا الشَّيَاطِينُ، قُلْنَا: الْإِضْمَارُ خِلَافُ الْأَصْلِ الْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: إِذَا كَرَّرَ لَفْظَ الظِّهَارِ فَقَدْ عَادَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ يُكَرَّرُ لَمْ يَكُنْ عَوْدًا، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا يَدُلُّ عَلَى إِعَادَةِ مَا فَعَلُوهُ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِالتَّكْرِيرِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا لَكَانَ يَقُولُ، ثُمَّ يُعِيدُونَ مَا قَالُوا الثَّانِي: حَدِيثُ أَوْسٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُكَرِّرِ الظِّهَارَ إِنَّمَا عَزَمَ عَلَى الْجِمَاعِ وَقَدْ أَلْزَمُهُ رَسُولُ اللَّه الْكَفَّارَةَ، وَكَذَلِكَ
حَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرَةَ الْبَيَاضِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: كُنْتُ لَا أَصْبِرُ عَنِ الْجِمَاعِ فَلَمَّا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ ظَاهَرْتُ مِنِ امْرَأَتِي مَخَافَةَ أَنْ لَا أَصْبِرَ عَنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَظَاهَرْتُ مِنْهَا شَهْرَ رَمَضَانَ كُلِّهِ ثُمَّ لَمْ أَصْبِرْ فَوَاقَعْتُهَا فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّه فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ وَقُلْتُ: أَمْضِ فِيَّ حُكْمَ اللَّه، فَقَالَ: «أَعْتِقْ رَقَبَةً»
فَأَوْجَبَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ تَكْرَارَ الظِّهَارِ الْقَوْلُ الثَّالِثُ: قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: مَعْنَى الْعَوْدِ، هُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا قَالَ أَوَّلًا مِنْ لَفْظِ الظِّهَارِ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْلِفْ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ قِيَاسًا عَلَى مَا لَوْ قَالَ فِي بَعْضِ الْأَطْعِمَةِ، إِنَّهُ حَرَامٌ عَلَيَّ كَلَحْمِ الْآدَمِيِّ، فَإِنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، فَأَمَّا إِذَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَهَذَا أَيْضًا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ قَدْ تَجِبُ بِالْإِجْمَاعِ فِي الْمَنَاسِكِ وَلَا يَمِينَ هُنَاكَ وَفِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَلَا يَمِينَ هُنَاكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَفِيهِ مَسَائِلُ:
484
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفُوا فِيمَا يُحَرِّمُهُ الظِّهَارُ، فَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُحَرِّمُ الْجِمَاعَ فَقَطْ الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ يُحَرِّمُ جَمِيعَ جِهَاتِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه وَدَلِيلُهُ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَكَانَ ذَلِكَ عَامًّا فِي جَمِيعِ ضُرُوبِ الْمَسِيسِ، مِنْ لَمْسٍ بِيَدٍ أَوْ غَيْرِهَا وَالثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ أَلْزَمَهُ حُكْمَ التَّحْرِيمِ بِسَبَبِ أَنَّهُ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ الْأُمِّ، فَكَمَا أَنَّ مُبَاشَرَةَ ظَهْرِ الْأُمِّ وَمَسَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْحَالُ فِي الْمَرْأَةِ كَذَلِكَ الثَّالِثُ:
رَوَى عِكْرِمَةُ: «أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ ثُمَّ وَاقَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ اعْتَزِلْهَا حَتَّى تُكَفِّرَ».
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِيمَنْ ظَاهَرَ مِرَارًا، فقال الشافعي وأبو حنيفة: لكن ظاهر كَفَّارَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَأَرَادَ بِالتَّكْرَارِ التَّأْكِيدَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَيْهِ كَفَارَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ مِائَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، دَلِيلُنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ...
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ يَقْتَضِي كَوْنَ الظِّهَارِ عِلَّةً لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ، فَإِذَا وُجِدَ الظِّهَارُ الثاني فقد وجدت علة وجوب الكفارة، والظاهر الثَّانِي إِمَّا أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِلْكَفَّارَةِ الْأُولَى، أَوْ لِكَفَّارَةٍ ثَانِيَةٍ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ وَجَبَتْ بِالظِّهَارِ الْأَوَّلِ وَتَكْوِينُ الْكَائِنِ مُحَالٌ، وَلِأَنَّ تَأَخُّرَ الْعِلَّةِ عَنِ الْحُكْمِ مُحَالٌ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الظِّهَارَ الثَّانِيَ يُوجِبُ كَفَّارَةً/ ثَانِيَةً، وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ يَتَنَاوَلُ مَنْ ظَاهَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمَنْ ظَاهَرَ مِرَارًا كَثِيرَةً، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ عَلَيْهِ تَحْرِيرَ رَقَبَةٍ، فَعَلِمْنَا أَنَّ التَّكْفِيرَ الْوَاحِدَ كَافٍ فِي الظِّهَارِ، سَوَاءٌ كَانَ مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ مِرَارًا كَثِيرَةً وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لَا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ [الْمَائِدَةِ: ٨٩] فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجِبَ فِي الْأَيْمَانِ الْكَثِيرَةِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمَّا كَانَ بَاطِلًا، فَكَذَا مَا قُلْتُمُوهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: رَجُلٌ تَحْتَهُ أَرْبَعَةُ نِسْوَةٍ فَظَاهَرَ مِنْهُنَّ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَالَ: أَنْتُنَّ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، لِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ، نَظَرًا إِلَى عَدَدِ اللَّوَاتِي ظَاهَرَ مِنْهُنَّ، وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرْنَا، أَنَّهُ ظَاهَرَ عَنْ هَذِهِ، فَلَزِمَهُ كَفَّارَةٌ بِسَبَبِ هَذَا الظِّهَارِ، وَظَاهَرَ أَيْضًا عَنْ تِلْكَ، فَالظِّهَارُ الثَّانِي لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجِبَ كَفَّارَةً أُخْرَى.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى إِيجَابِ الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْمُمَاسَّةِ، فَإِنْ جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إِلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَسُفْيَانَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ رَحِمَهُمُ اللَّه، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا وَاقَعَهَا قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ، وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ دَلِيلُنَا أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُظَاهِرِ كَفَّارَةٌ قَبْلَ الْعَوْدِ، فَهَهُنَا فَاتَتْ صِفَةُ الْقَبْلِيَّةِ، فَيَبْقَى أَصْلُ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ تَرْكَ التَّقْدِيمِ يُوجِبُ كَفَّارَةً أُخْرَى.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَدَعَهُ يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ، فَإِنْ تَهَاوَنَ بِالتَّكْفِيرِ حَالَ الْإِمَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَيُجْبِرُهُ عَلَى التَّكْفِيرِ، وَإِنْ كَانَ بِالضَّرْبِ حَتَّى يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا مِنَ الْجِمَاعِ، قَالَ الْفُقَهَاءُ: وَلَا شَيْءَ مِنَ الْكَفَّارَاتِ يُجْبَرُ عَلَيْهِ وَيُحْبَسُ إِلَّا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَحْدَهَا، لِأَنَّ تَرْكَ التَّكْفِيرِ إِضْرَارٌ بِالْمَرْأَةِ وَامْتِنَاعٌ مِنْ إِيفَاءِ حَقِّهَا.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه هَذِهِ الرَّقَبَةُ تُجْزِئُ سَوَاءٌ كَانَتْ مُؤْمِنَةً أَوْ كَافِرَةً، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَهَذَا اللَّفْظُ يُفِيدُ الْعُمُومَ فِي جَمِيعِ الرِّقَابِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً وَدَلِيلُهُ وَجْهَانِ
485
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُشْرِكَ نَجَسٌ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التَّوْبَةِ: ٢٨] وَكُلُّ نَجِسٍ خَبِيثٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَقَالَ تَعَالَى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ [الْبَقَرَةِ: ٢٦٧] الثَّانِي: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الرَّقَبَةَ فِي كَفَّارَةِ القتل مقيدة بالإيمان، فكذا هاهنا، وَالْجَامِعُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إِنْعَامٌ، فَتَقْيِيدُهُ بِالْإِيمَانِ يَقْتَضِي صَرْفَ هَذَا الْإِنْعَامِ إِلَى أَوْلِيَاءِ اللَّه وَحِرْمَانَ أَعْدَاءِ اللَّه، وَعَدَمُ التَّقْيِيدِ بِالْإِيمَانِ قَدْ يُفْضِي إِلَى حِرْمَانِ أَوْلِيَاءِ اللَّه، فَوَجَبَ أَنْ يَتَقَيَّدَ بِالْإِيمَانِ تَحْصِيلًا لِهَذِهِ الْمَصْلَحَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: إِعْتَاقُ الْمُكَاتَبِ لَا يُجْزِئُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّه، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه إِنْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا جَازَ عَنِ الْكَفَّارَةِ، وَإِذَا أَعْتَقَهُ بَعْدَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا، فَظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجْزِئُ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ رَقَبَةٌ/ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي الرِّقابِ [البقرة: ١٧٧] وَالرَّقَبَةُ مُجْزِئَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُقْتَضِيَ لِبَقَاءِ التَّكَالِيفِ بِإِعْتَاقِ الرَّقَبَةِ قَائِمٌ، بَعْدَ إِعْتَاقِ الْمُكَاتَبِ، وَمَا لِأَجْلِهِ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي مَحَلِّ الرِّقَابِ غَيْرُ مَوْجُودٍ هاهنا، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ، بَيَانُ الْمُقْتَضِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّابِتِ الْبَقَاءُ عَلَى مَا كَانَ، بَيَانُ الْفَارِقِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ كَالزَّائِلِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ، لَكِنَّهُ يُمْكِنُ نُقْصَانٌ فِي رِقِّهِ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ، وَيَمْتَنِعُ عَلَى الْمَوْلَى التَّصَرُّفَاتُ فِيهِ، وَلَوْ أَتْلَفَهُ الْمَوْلَى يَضْمَنُ قِيمَتَهُ، وَلَوْ وَطِئَ مُكَاتَبَتَهُ يُغَرَّمُ الْمَهْرَ، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ إِزَالَةَ الْمِلْكِ الْخَالِصِ عَنْ شَوَائِبِ الضَّعْفِ أَشَقُّ عَلَى الْمَالِكِ مِنْ إِزَالَةِ الْمِلْكِ الضَّعِيفِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ خُرُوجِ الرَّجُلِ عَنِ الْعُهْدَةِ بِإِعْتَاقِ الْعَبْدِ الْقِنِّ خُرُوجُهُ عَنِ الْعُهْدَةِ بِإِعْتَاقِ الْمُكَاتَبِ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يُجْزِئُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، فَكَذَا إِذَا أَعْتَقَهُ الْمُوَرِّثُ وَالْجَامِعُ كَوْنُ الْمِلْكِ ضَعِيفًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: لَوِ اشْتَرَى قَرِيبَهُ الَّذِي يعتق عليه بينة الْكَفَّارَةِ عَتَقَ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ لَا يَقَعُ عَنِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَقَعُ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ التَّمَسُّكُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ مَا تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْإِطْعَامُ فِي الْكَفَّارَاتِ يَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ مِنَ الطَّعَامِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَتَأَدَّى إِلَّا بِالتَّمْلِيكِ مِنَ الْفَقِيرِ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْإِطْعَامُ، وَحَقِيقَةُ الْإِطْعَامِ هُوَ التَّمْكِينُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ [الْمَائِدَةِ: ٨٩] وَذَلِكَ يَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ والتمليك، فكذا هاهنا، وحجة الشافعي القياس على الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ طَعَامِ بَلَدِهِ الَّذِي يَقْتَاتُ مِنْهُ حِنْطَةً أَوْ شَعِيرًا أَوْ أُرْزًا أَوْ تَمْرًا أَوْ أَقِطًا، وَذَلِكَ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا يُعْتَبَرُ مُدٌّ حَدَثَ بَعْدَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُعْطَى كُلُّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ دَقِيقٍ أَوْ سَوِيقٍ أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ وَلَا يُجْزِئُهُ دُونَ ذَلِكَ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَقْتَضِي الْإِطْعَامَ، ومراتب الإطعام مختلفة بالملكية وَالْكَيْفِيَّةِ، فَلَيْسَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْبَاقِي، فَلَا بُدَّ مِنْ حمله على أقل مالا بُدَّ مِنْهُ ظَاهِرًا، وَذَلِكَ هُوَ الْمُدُّ، حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ مَا
رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ: «لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ»
وَعَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ قَالَا: لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ مِنْ بُرٍّ،
وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَاجَةُ الْيَوْمِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ، فَيَكُونُ نَظِيرَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَلَا يَتَأَدَّى ذَلِكَ بِالْمُدِّ، بَلْ بِمَا قُلْنَا، فَكَذَلِكَ هُنَا.
الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: لَوْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا سِتِّينَ مَرَّةً لَا يُجْزِئُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يُجْزِئُ، حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ أَوْجَبَ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا، فَوَجَبَ رِعَايَةُ ظَاهِرِ الْآيَةِ، وَحُجَّةُ أَبِي
486
حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الْحَاجَةِ وَهُوَ حَاصِلٌ، وَلِلشَّافِعِيِّ أَنْ يَقُولَ: التَّحَكُّمَاتُ غَالِبَةٌ عَلَى هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ، فَوَجَبَ الِامْتِنَاعُ فِيهَا مِنَ الْقِيَاسِ، وَأَيْضًا فَلَعَلَّ إِدْخَالَ السُّرُورِ/ فِي قَلْبِ سِتِّينَ إِنْسَانًا، أَقْرَبُ إِلَى رِضَا اللَّه تَعَالَى مِنْ إِدْخَالِ السُّرُورِ فِي قَلْبِ الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ: عَشْرَةَ: قَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الرَّقَبَةِ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ وَقَالَ فِي الصَّوْمِ: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً فَذَكَرَ فِي الْأَوَّلِ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ وَفِي الثَّانِي: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَقَالُوا: مَنْ مَالُهُ غَائِبٌ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَى الصَّوْمِ بِسَبَبِ عَجْزِهِ عَنِ الْإِعْتَاقِ فِي الْحَالِ أَمَّا مَنْ كَانَ مَرِيضًا فِي الْحَالِ، فَإِنَّهُ يَنْتَقِلُ إِلَى الْإِطْعَامِ وَإِنْ كَانَ مَرَضُهُ بِحَيْثُ يُرْجَى زَوَالُهُ، قَالُوا: وَالْفَرْقُ أَنَّهُ قَالَ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى الْإِطْعَامِ: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ وَهُوَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ النَّاجِزِ، وَالْعَجْزِ الْعَاجِلِ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ، وَقَالَ فِي الرَّقَبَةِ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ وَالْمُرَادُ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رَقَبَةً أَوْ مَالًا يَشْتَرِي بِهِ رَقَبَةً، وَمَنْ مَالُهُ غَائِبٌ لَا يُسَمَّى فَاقِدًا لِلْمَالِ، وَأَيْضًا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ فِي الْفَرْقِ إِحْضَارُ الْمَالِ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِهِ وَأَمَّا إِزَالَةُ الْمَرَضِ فَلَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الشَّبَقُ الْمُفْرِطُ وَالْغُلْمَةُ الْهَائِجَةُ، عُذْرٌ فِي الِانْتِقَالِ إِلَى الْإِطْعَامِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَمَرَ الْأَعْرَابِيَّ بِالصَّوْمِ قَالَ لَهُ: وَهَلْ أُتِيتُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الصَّوْمِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ «أَطْعِمْ»
دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الشَّبَقَ الشَّدِيدَ عُذْرٌ فِي الِانْتِقَالِ مِنَ الصَّوْمِ إِلَى الْإِطْعَامِ، وَأَيْضًا الِاسْتِطَاعَةُ فَوْقَ الْوُسْعِ، وَالْوُسْعُ فَوْقَ الطَّاقَةِ، فَالِاسْتِطَاعَةُ هُوَ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْفِعْلِ عَلَى سَبِيلِ السُّهُولَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَتِمُّ مَعَ شِدَّةِ الشَّبَقِ، فَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُخْتَصَرَةٌ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِفِقْهِ الْقُرْآنِ في هذه الآية، واللَّه أعلم.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قَالَ الزَّجَّاجُ: ذلِكُمْ لِلتَّغْلِيظِ فِي الْكَفَّارَةِ تُوعَظُونَ بِهِ أَيْ أَنَّ غِلَظَ الْكَفَّارَةِ وَعْظٌ لَكُمْ حَتَّى تَتْرُكُوا الظِّهَارَ وَلَا تُعَاوِدُوهُ، وَقَالَ غَيْرُهُ ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ أَيْ تُؤْمَرُونَ بِهِ مِنَ الْكَفَّارَةِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ من التكفير وتركه.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ٤]
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤)
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى حُكْمَ الْعَاجِزِ عَنِ الرَّقَبَةِ فَقَالَ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ التَّتَابُعَ شَرْطٌ، وَذَكَرَ فِي تَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ وَالصَّوْمِ أَنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ يُوجَدَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهِ قَبْلَ الْمُمَاسَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ كَالْأَوَّلَيْنِ بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ، وَالْمَسَائِلُ الفقيهة الْمُفَرَّعَةُ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ كَثِيرَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كتاب الفقه.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ وَفِي قَوْلِهِ: ذلِكَ وَجْهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، وَالْمَعْنَى الْفَرْضُ ذَلِكَ الَّذِي وَضَعْنَاهُ، الثَّانِي: فَعَلْنَا ذَلِكَ الْبَيَانَ وَالتَّعْلِيمَ لِلْأَحْكَامِ لِتُصَدِّقُوا باللَّه وَرَسُولِهِ فِي الْعَمَلِ بِشَرَائِعِهِ، وَلَا تَسْتَمِرُّوا عَلَى أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ جَعْلِ الظِّهَارِ أَقْوَى أَنْوَاعِ الطَّلَاقِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: لِتُؤْمِنُوا عَلَى أَنَّ فِعْلَ اللَّه مُعَلَّلٌ بِالْغَرَضِ وَعَلَى أن
غَرَضَهُ أَنْ تُؤْمِنُوا باللَّه، وَلَا تَسْتَمِرُّوا عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْكُفْرِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْهُمُ الْإِيمَانَ وَعَدَمَ الْكُفْرِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّ مَنْ أَدْخَلَ الْعَمَلَ فِي مُسَمَّى الْإِيمَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ: أَمَرَهُمْ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِهَا لِيَصِيرُوا بِعَمَلِهَا مُؤْمِنِينَ، فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ مِنَ الْإِيمَانِ وَمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ قَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ: (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا باللَّه بِعَمَلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ)، وَنَحْنُ نَقُولُ الْمَعْنَى ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا باللَّه بِالْإِقْرَارِ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنَ الطَّاعَةِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ أَيْ لِمَنْ جَحَدَ هَذَا وكذب به.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ٥]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْمُحَادَّةِ قَوْلَانِ قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَصْلُ المحادة الممانعة، ومنه يقال للبواب: حداد، وللمنوع الرِّزْقِ مَحْدُودٌ، قَالَ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ: الْمُحَادَّةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ لَفْظِ الْحَدِيدِ، وَالْمُرَادُ الْمُقَابَلَةُ بِالْحَدِيدِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ مُنَازَعَةً شَدِيدَةً شَبِيهَةً بِالْخُصُومَةِ بِالْحَدِيدِ، أَمَّا الْمُفَسِّرُونَ فَقَالُوا:
يُحَادُّونَ أَيْ يُعَادُونَ وَيُشَاقُّونَ، وَذَلِكَ تَارَةً بِالْمُحَارَبَةِ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللَّه وَتَارَةً بِالتَّكْذِيبِ وَالصَّدِّ عَنْ دِينِ اللَّه.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: يُحَادُّونَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى الْمُنَافِقِينَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُوَادُّونَ الْكَافِرِينَ وَيُظَاهِرُونَ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَذَلَّهُمُ اللَّه تَعَالَى، وَيَحْتَمِلُ سَائِرَ الْكُفَّارِ فَأَعْلَمَ اللَّه رَسُولَهُ أَنَّهُمْ كُبِتُوا أَيْ خُذِلُوا، قَالَ الْمُبَرِّدُ: يُقَالُ: كَبَتَ اللَّه فُلَانًا إِذَا أَذَلَّهُ، وَالْمَرْدُودُ بِالذُّلِّ يُقَالُ لَهُ: مَكْبُوتٌ، ثُمَّ قَالَ:
كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ أَعْدَاءِ الرُّسُلِ: وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ/ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ:
وَلِلْكافِرِينَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ: عَذابٌ مُهِينٌ يَذْهَبُ بِعِزِّهِمْ وَكِبْرِهِمْ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ عَذَابَ هَؤُلَاءِ الْمُحَادِّينَ فِي الدُّنْيَا الذُّلُّ وَالْهَوَانُ، وَفِي الْآخِرَةِ الْعَذَابُ الشَّدِيدُ.
ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى مَا بِهِ يَتَكَامَلُ هَذَا الوعيد فقال:
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ٦]
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦)
يَوْمَ منصوب بينبئهم أو بمهين أَوْ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ، تَعْظِيمًا لِلْيَوْمِ، وَفِي قَوْلِهِ: جَمِيعاً قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: كُلَّهُمْ لَا يُتْرَكُ مِنْهُمْ أَحَدٌ غَيْرَ مَبْعُوثٍ وَالثَّانِي: مُجْتَمِعِينَ فِي حَالٍ واحدة، ثم قال: فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا تجليلا لَهُمْ، وَتَوْبِيخًا وَتَشْهِيرًا لِحَالِهِمُ، الَّذِي يَتَمَنَّوْنَ عِنْدَهُ الْمُسَارَعَةَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ، لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الخزي على رؤس الْأَشْهَادِ وَقَوْلُهُ: أَحْصاهُ اللَّهُ أَيْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ أحوال تلك الأعمال من المكية وَالْكَيْفِيَّةِ، وَالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْجُزْئِيَّاتِ، ثُمَّ قَالَ: وَنَسُوهُ لِأَنَّهُمُ اسْتَحْقَرُوهَا وَتَهَاوَنُوا بِهَا فَلَا جَرَمَ نَسُوهَا: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَيْ مُشَاهِدٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ ألبتة.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ٧]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧)
488

[في قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.]

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَكَّدَ بَيَانَ كَوْنِهِ عَالِمًا بكل المعلومات فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَمْ تَرَ أَيْ أَلَمْ تَعْلَمْ وَأَقُولُ هَذَا، حَقٌّ لِأَنَّ كَوْنَهُ تَعَالَى عَالِمًا بِالْأَشْيَاءِ لَا يُرَى، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ بِوَاسِطَةِ الدَّلَائِلِ، وَإِنَّمَا أُطْلِقَ لَفْظُ الرُّؤْيَةِ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى كَوْنِهِ عَالِمًا، هُوَ أَنَّ أَفْعَالَهُ مُحْكَمَةٌ مُتْقَنَةٌ مُنْتَسِقَةٌ مُنْتَظِمَةٌ، وَكُلُّ مَنْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ كَذَلِكَ فَهُوَ عَالِمٌ.
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى: فَمَحْسُوسَةٌ مشاهدة في عجائب السموات وَالْأَرْضِ، وَتَرْكِيبَاتِ النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ.
أَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: فَبَدِيهِيَّةٌ، وَلَمَّا كَانَ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى كَذَلِكَ ظَاهِرًا لَا جَرَمَ بَلَغَ هَذَا الْعِلْمُ وَالِاسْتِدْلَالُ إِلَى أَعْلَى دَرَجَاتِ الظُّهُورِ وَالْجَلَاءِ، وصار جَارِيًا مَجْرَى الْمَحْسُوسِ الْمُشَاهَدِ، فَلِذَلِكَ أَطْلَقَ لَفْظَ الرُّؤْيَةِ فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ وَأَمَّا أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَلِأَنَّ عِلْمَهُ عِلْمٌ قَدِيمٌ، فَلَوْ تَعَلَّقَ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ مِنْ أَنَّ جَمِيعَ الْمَعْلُومَاتِ مُشْتَرِكَةٌ فِي صِحَّةِ الْمَعْلُومِيَّةِ لَافْتَقَرَ ذَلِكَ الْعِلْمُ فِي ذَلِكَ التَّخْصِيصِ إِلَى مُخَصِّصٍ، وَهُوَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ فَلَا جَرَمَ وجب كونه تعايل عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَمْ يَقُلْ: يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْضِ وَمَا في السموات وَفِي رِعَايَةِ هَذَا التَّرْتِيبِ سِرٌّ عَجِيبٌ.
ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى خَصَّ مَا يَكُونُ مِنَ الْعِبَادِ مِنَ النَّجْوَى فَقَالَ:
مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ، وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ، وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا، ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ جِنِّي: قَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ مَا تَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ بِالتَّاءِ ثُمَّ قَالَ وَالتَّذْكِيرُ الَّذِي عَلَيْهِ الْعَامَّةُ هُوَ الْوَجْهُ، لِمَا هُنَاكَ مِنَ الشِّيَاعِ وَعُمُومِ الْجِنْسِيَّةِ، كَقَوْلِكَ: مَا جَاءَنِي مِنِ امْرَأَةٍ، وَمَا حَضَرَنِي مِنْ جَارِيَةٍ، وَلِأَنَّهُ وَقَعَ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ، وَهُوَ كَلِمَةُ مِنْ، وَلِأَنَّ النَّجْوَى تَأْنِيثُهُ لَيْسَ تَأْنِيثًا حَقِيقِيًّا، وَأَمَّا التَّأْنِيثُ فَلِأَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: مَا تَكُونُ نَجْوَى، كَمَا يُقَالُ: مَا قَامَتِ امْرَأَةٌ وَمَا حَضَرَتْ جَارِيَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: مَا يَكُونُ مِنْ كَانَ التَّامَّةِ، أَيْ مَا يُوجَدُ وَلَا يَحْصُلُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: النَّجْوَى التَّنَاجِي وَهُوَ مَصْدَرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ [النساء:
١١٤] وَقَالَ الزَّجَّاجُ: النَّجْوَى مُشْتَقٌّ مِنَ النَّجْوَةِ، وَهِيَ مَا ارْتَفَعَ وَنَجَا، فَالْكَلَامُ الْمَذْكُورُ سِرًّا لَمَّا خَلَا عَنِ اسْتِمَاعِ الْغَيْرِ صَارَ كَالْأَرْضِ الْمُرْتَفِعَةِ، فَإِنَّهَا لِارْتِفَاعِهَا خَلَتْ عَنِ اتِّصَالِ الْغَيْرِ، وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ تُجْعَلَ النَّجْوَى وَصْفًا، فَيُقَالُ: قَوْمٌ نجوى، وقوله تعالى: وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الإسراء: ٤٧] وَالْمَعْنَى، هُمْ ذَوُو نَجْوَى، فَحُذِفَ الْمُضَافُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَصْدَرٍ وُصِفَ بِهِ.
489
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: جَرُّ ثَلَاثَةٍ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَجْرُورًا بِالْإِضَافَةِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ النَّجْوَى بِمَعْنَى الْمُتَنَاجِينَ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: مَا يَكُونُ مِنْ مُتَنَاجِينَ ثَلَاثَةً فَيَكُونُ صِفَةً.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ (ثَلَاثَةً) وَ (خَمْسَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ، بِإِضْمَارِ يَتَنَاجَوْنَ لِأَنَّ نَجْوَى يَدُلُّ عَلَيْهِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ وَالْخَمْسَةَ، وَأَهْمَلَ أَمْرَ الْأَرْبَعَةِ فِي الْبَيْنِ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى كَمَالِ الرَّحْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ إِذَا اجْتَمَعُوا، فَإِذَا أَخَذَ اثْنَانِ فِي التَّنَاجِي وَالْمُشَاوَرَةِ، بَقِيَ الْوَاحِدُ ضَائِعًا وَحِيدًا، فَيَضِيقُ قَلْبُهُ فَيَقُولُ اللَّه تَعَالَى: أَنَا جَلِيسُكَ وَأَنِيسُكَ، وَكَذَا الْخَمْسَةُ إِذَا اجْتَمَعُوا بَقِيَ الْخَامِسُ وَحِيدًا فَرِيدًا، أَمَّا إِذَا كَانُوا أَرْبَعَةً لَمْ يَبْقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَرِيدًا، / فَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَنِ انْقَطَعَ عَنِ الْخَلْقِ مَا يَتْرُكُهُ اللَّه تَعَالَى ضَائِعًا وَثَانِيهَا: أَنَّ الْعَدَدَ الْفَرْدَ أَشْرَفُ مِنَ الزَّوْجِ، لِأَنَّ اللَّه وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، فَخَصَّ الْأَعْدَادَ الْفَرْدَ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَقَلَّ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْمُشَاوَرَةِ الَّتِي يَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهَا تَمْهِيدَ مَصْلَحَةِ ثَلَاثَةٍ، حَتَّى يَكُونَ الِاثْنَانِ كَالْمُتَنَازِعَيْنِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَالثَّالِثُ كَالْمُتَوَسِّطِ الْحَاكِمِ بَيْنَهُمَا، فَحِينَئِذٍ تَكْمُلُ تِلْكَ الْمَشُورَةُ وَيَتِمُّ ذَلِكَ الْغَرَضُ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ جَمْعٍ اجْتَمَعُوا لِلْمُشَاوَرَةِ، فَلَا بُدَّ فِيهِمْ مِنْ وَاحِدٍ يَكُونُ حَكَمًا مَقْبُولَ الْقَوْلِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ أَرْبَابُ الْمُشَاوَرَةِ عَدَدُهُمْ فَرْدًا، فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ الْفَرْدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَاكْتَفَى بِذِكْرِهِمَا تَنْبِيهًا عَلَى الْبَاقِي وَرَابِعُهَا: أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، اجْتَمَعُوا عَلَى التناجي مغايظة للمؤمنين، وكانوا على هذين العدين، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي رَبِيعَةَ وَحَبِيبٍ ابْنَيْ عَمْرٍو، وَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، كَانُوا يَوْمًا يَتَحَدَّثُونَ، فَقَالَ أَحَدُهُمْ: هَلْ يَعْلَمُ اللَّه مَا تَقُولُ؟
وَقَالَ الثَّانِي: يَعْلَمُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ، وَقَالَ الثَّالِثُ: إِنْ كَانَ يَعْلَمُ الْبَعْضَ فَيَعْلَمُ الْكُلَّ وَخَامِسُهَا: أَنَّ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّه: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا اللَّه رَابِعُهُمْ، وَلَا أَرْبَعَةٍ إِلَّا اللَّه خَامِسُهُمْ، وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا اللَّه سَادِسُهُمْ، وَلَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا اللَّه مَعَهُمْ إِذَا أَخَذُوا فِي التَّنَاجِي).
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قُرِئَ: وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّ لَا لِنَفْيِ الْجِنْسِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلا أَكْثَرَ بِالرَّفْعِ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ (لَا) مَعَ (أَدْنَى)، كَقَوْلِكَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةٌ إِلَّا باللَّه، بِفَتْحِ الْحَوْلِ وَرَفْعِ الْقُوَّةِ وَالثَّالِثُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَرْفُوعَيْنِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، كَقَوْلِكَ: لَا حَوْلٌ وَلَا قُوَّةٌ إِلَّا باللَّه وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ ارْتِفَاعُهُمَا عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ مِنْ نَجْوى كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا يَكُونُ أَدْنَى وَلَا أَكْثَرُ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ، وَالْخَامِسُ:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَجْرُورَيْنِ عَطْفًا عَلَى نَجْوى كَأَنَّهُ قِيلَ: مَا يَكُونُ مِنْ أَدْنَى وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قُرِئَ: ولا أكبر بالباء المنقطعة مِنْ تَحْتُ.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى رَابِعًا لَهُمْ، وَالْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى مَعَهُمْ كَوْنُهُ تَعَالَى عَالِمًا بِكَلَامِهِمْ وَضَمِيرِهِمْ وَسِرِّهِمْ وَعَلَنِهِمْ، وَكَأَنَّهُ تَعَالَى حَاضِرٌ مَعَهُمْ وَمَشَاهِدٌ لَهُمْ، وَقَدْ تَعَالَى عَنِ الْمَكَانِ وَالْمُشَاهَدَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: قَرَأَ بَعْضُهُمْ: ثُمَّ يُنْبِئُهُمْ بِسُكُونِ النُّونِ، وَأَنْبَأَ وَنَبَّأَ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ أَيْ يُحَاسِبُ عَلَى ذَلِكَ وَيُجَازِي عَلَى قَدْرِ الِاسْتِحْقَاقِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ
490
عَلِيمٌ
وَهُوَ تَحْذِيرٌ مِنَ الْمَعَاصِي وَتَرْغِيبٌ فِي الطاعات.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨)
[فِي قَوْلِهِ تَعَالَى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ حَالَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى فَقَالَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ/ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُمْ مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ الْأَكْثَرُونَ: هُمُ الْيَهُودُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فَرِيقٌ مِنَ الْكُفَّارِ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ فقال: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ، وَهَذَا الْجِنْسُ فِيمَا رُوِيَ وَقَعَ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَدْ كَانُوا إِذَا سَلَّمُوا عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، يَعْنُونَ الْمَوْتَ، وَالْأَخْبَارُ فِي ذلك متظاهرة، وقصة عائشة فيها مشهورة.
[في قوله تعالى وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ إلى قوله لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّهُ صَحَّ أَنَّ أُولَئِكَ الْأَقْوَامَ كَانُوا يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيُوهِمُونَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا يَسُوءُهُمْ، فَيَحْزَنُونَ لِذَلِكَ، فَلَمَّا أَكْثَرُوا ذَلِكَ شَكَا الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَتَنَاجَوْا دُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ وَعَادُوا إِلَى مُنَاجَاتِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ:
وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِثْمَ وَالْعُدْوَانَ هُوَ مُخَالَفَتُهُمْ لِلرُّسُلِ فِي النَّهْيِ عَنِ النَّجْوَى لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى الْمَنْهِيِّ يُوجِبُ الْإِثْمَ وَالْعُدْوَانَ، سِيَّمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْإِقْدَامُ لِأَجْلِ الْمُنَاصَبَةِ وَإِظْهَارِ التَّمَرُّدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِثْمَ وَالْعُدْوَانَ هُوَ ذَلِكَ السِّرُّ الَّذِي كَانَ يَجْرِي بَيْنَهُمْ، لِأَنَّهُ إِمَّا مَكْرٌ وَكَيْدٌ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْ شَيْءٌ يسوءهم.
المسألة الثانية: قرأ حمزة وحده، (ويتنجون) بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْبَاقُونَ: يَتَناجَوْنَ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَنْتَجُونَ يَفْتَعِلُونَ مِنَ النَّجْوَى، وَالنَّجْوَى مَصْدَرٌ كَالدَّعْوَى وَالْعَدْوَى، فَيَنْتَجُونَ وَيَتَنَاجَوْنَ وَاحِدٌ، فَإِنَّ يَفْتَعِلُونَ، وَيَتَفَاعَلُونَ، قد يجريان مجرى واحد، كَمَا يُقَالُ: ازْدَوِجُوا، وَاعْتَوِرُوا، وَتَزَاوَجُوا وَتَعَاوَرُوا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها [الْأَعْرَافِ: ٣٨] وَادَّرَكُوا فأدركوا افتعلوا، وأدركوا تفاعلوا وحجة من قرأ:
يَتَناجَوْنَ، قوله: إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ [المجادلة: ١٢] وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى [المجادلة: ٩] فَهَذَا مُطَاوِعُ نَاجَيْتُمْ، وَلَيْسَ فِي هَذَا رَدٌّ لِقِرَاءَةِ حَمْزَةَ: يَنْتَجُونَ، لِأَنَّ هَذَا مِثْلُهُ فِي الْجَوَازِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ قَالَ صَاحِبُ «الكشاف» : قرئ (ومعصيات الرسول)، والقولان هاهنا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَقَوْلُهُ: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ يَعْنِي أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي تَحِيَّتِكَ، السَّامُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ وَالسَّامُ الْمَوْتُ، واللَّه تَعَالَى يَقُولُ: وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: ٥٩] ويا أَيُّهَا الرَّسُولُ ويا أَيُّهَا النَّبِيُّ ثم ذكر تعالى أنهم يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ يَعْنِي أَنَّهُمْ/ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ: إِنَّهُ لَوْ كَانَ رَسُولًا فَلِمَ لَا يُعَذِّبُنَا اللَّه بِهَذَا الاستخفاف.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ وَالْمَعْنَى أَنَّ تَقَدُّمَ الْعَذَابِ إِنَّمَا يَكُونُ بحسب
الْمَشِيئَةِ، أَوْ بِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ، فَإِذَا لَمْ تَقْتَضِ الْمَشِيئَةُ تَقْدِيمَ الْعَذَابِ، وَلَمْ يَقْتَضِ الصَّلَاحُ أَيْضًا ذَلِكَ، فَالْعَذَابُ فِي الْقِيَامَةِ كَافِيهِمْ فِي الرَّدْعِ عما هم عليه.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ٩]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى.
اعلم أن المخاطبين بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَوْلَيْنِ، وَذَلِكَ لِأَنَّا إِنْ حَمَلْنَا قَوْلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى [الْمُجَادِلَةِ: ٨] عَلَى الْيَهُودِ حَمَلْنَا فِي هَذِهِ الآية قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى الْمُنَافِقِينَ، أَيْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَإِنْ حَمَلْنَا ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، حَمَلْنَا هَذَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَمَّ الْيَهُودَ وَالْمُنَافِقِينَ عَلَى التَّنَاجِي بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، أَتْبَعَهُ بِأَنْ نَهَى أَصْحَابَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسْلُكُوا مِثْلَ طَرِيقَتِهِمْ، فَقَالَ: فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَهُوَ مَا يَقْبُحُ مِمَّا يَخُصُّهُمْ وَالْعُدْوانِ وَهُوَ يُؤَدِّي إِلَى ظُلْمِ الْغَيْرِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَهُوَ مَا يَكُونُ خِلَافًا عَلَيْهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَنَاجَوْا بِالْبَرِّ الَّذِي يُضَادُّ الْعُدْوَانَ وَبِالتَّقْوَى وَهُوَ مَا يُتَّقَى بِهِ مِنَ النَّارِ مِنْ فِعْلِ الطَّاعَاتِ وَتَرْكِ الْمَعَاصِي، وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ مَتَى تَنَاجَوْا بِمَا هَذِهِ صِفَتُهُ قَلَّتْ: مُنَاجَاتُهُمْ، لِأَنَّ مَا يَدْعُو إِلَى مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ يَدْعُو إِظْهَارَهُ، وَذَلِكَ يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِهِ:
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النِّسَاءِ: ١١٤] وَأَيْضًا فَمَتَى عَرَفْتَ طَرِيقَةَ الرَّجُلِ فِي هَذِهِ المناجاة لم يتأذ مِنْ مُنَاجَاتِهِ أَحَدٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أَيْ إِلَى حَيْثُ يُحَاسَبُ وَيُجَازَى وَإِلَّا فَالْمَكَانُ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّه تعالى.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١٠]
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا الْأَلِفُ وَاللَّامُ فِي لَفْظِ النَّجْوى لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، لِأَنَّ فِي النَّجْوَى مَا يَكُونُ مِنَ اللَّه وللَّه، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَعْهُودُ السَّابِقُ وَهُوَ النَّجْوَى بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى أَنْ يُقْدِمُوا عَلَى تِلْكَ النَّجْوَى الَّتِي/ هِيَ سَبَبٌ لِحُزْنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا رَأَوْهُمْ مُتَنَاجِينَ، قَالُوا: مَا نَرَاهُمْ إِلَّا وَقَدْ بَلَغَهُمْ عَنْ أَقْرِبَائِنَا وَإِخْوَانِنَا الَّذِينَ خَرَجُوا إِلَى الْغَزَوَاتِ أَنَّهُمْ قُتِلُوا وَهُزِمُوا، وَيَقَعُ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ ويحزنون له.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَيْسَ يَضُرُّ التَّنَاجِي بِالْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا وَالثَّانِي: الشَّيْطَانُ لَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّه، وَقَوْلُهُ: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَقِيلَ: بِعِلْمِهِ وَقِيلَ: بِخَلْقِهِ، وَتَقْدِيرِهِ لِلْأَمْرَاضِ وَأَحْوَالِ الْقَلْبِ مِنَ الْحُزْنِ وَالْفَرَحِ، وَقِيلَ: بِأَنْ يُبَيِّنَ كَيْفِيَّةَ مُنَاجَاةِ الْكُفَّارِ حَتَّى يَزُولَ الْغَمُّ.
ثُمَّ قَالَ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فَإِنَّ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ لَا يَخِيبُ أَمَلُهُ وَلَا يبطل سعيه.

[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١١]

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١)
قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا يَكُونُ سَبَبًا لِلتَّبَاغُضِ وَالتَّنَافُرِ، أَمَرَهُمُ الْآنَ بِمَا يَصِيرُ سَبَبًا لِزِيَادَةِ الْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَقَوْلُهُ: تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ تَوَسَّعُوا فِيهِ وَلْيُفْسِحْ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ، مِنْ قَوْلِهِمُ: افْسَحْ عَنِّي، أَيْ تَنَحَّ، وَلَا تَتَضَامُّوا، يُقَالُ: بَلْدَةٌ فَسِيحَةٌ، وَمَفَازَةٌ فَسِيحَةٌ، وَلَكَ فِيهِ فُسْحَةٌ، أَيْ سِعَةٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ الْحَسَنُ وَدَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ: (تَفَاسَحُوا)، قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا لَائِقٌ بِالْغَرَضِ لِأَنَّهُ إِذَا قِيلَ: (تَفَسَّحُوا)، فَمَعْنَاهُ لِيَكُنْ هُنَاكَ تَفَسُّحٌ، وَأَمَّا التَّفَاسُحُ فتفاعل، والمراد هاهنا الْمُفَاعَلَةُ، فَإِنَّهَا تَكُونُ لِمَا فَوْقَ الْوَاحِدِ كَالْمُقَاسَمَةِ وَالْمُكَايَلَةِ، وَقُرِئَ: فِي الْمَجْلِسِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْوَجْهُ التَّوْحِيدُ لِأَنَّ الْمُرَادَ مَجْلِسُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ وَاحِدٌ، وَوَجْهُ الْجَمْعِ أَنْ يُجْعَلَ لِكُلِّ جَالِسٍ مَجْلِسٌ عَلَى حِدَةٍ، أَيْ مَوْضِعُ جُلُوسٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرُوا فِي الْآيَةِ أَقْوَالًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَتَضَامُّونَ فِيهِ تَنَافُسًا عَلَى الْقُرْبِ مِنْهُ، وَحِرْصًا عَلَى اسْتِمَاعِ كَلَامِهِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ النُّزُولِ وُجُوهًا الْأَوَّلُ:
قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الصُّفَّةِ، وَفِي الْمَكَانِ ضِيقٌ، وَكَانَ يُكْرِمُ أَهْلَ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَجَاءَ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَقَدْ سَبَقُوا إِلَى الْمَجْلِسِ، فَقَامُوا حِيَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يُوَسَّعَ لَهُمْ، فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْقِيَامِ وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّسُولِ، فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنْ غير أهل بدر: قم يا فلان، قم يَا فُلَانُ، فَلَمْ يَزَلْ يُقِيمُ بِعِدَّةِ النَّفَرِ الَّذِينَ هُمْ قِيَامٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أُقِيمَ/ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَعُرِفَتِ الْكَرَاهِيَةُ فِي وُجُوهِهِمْ، وَطَعَنَ الْمُنَافِقُونَ فِي ذَلِكَ، وَقَالُوا: واللَّه مَا عَدَلَ عَلَى هَؤُلَاءِ، إِنَّ قَوْمًا أَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ، وَأَحَبُّوا الْقُرْبَ مِنْهُ فَأَقَامَهُمْ وَأَجْلَسَ مَنْ أَبْطَأَ عَنْهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
الثَّانِي: رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ أَخَذَ الْقَوْمُ مَجَالِسَهُمْ، وَكَانَ يُرِيدُ الْقُرْبَ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلْوَقْرِ الَّذِي كَانَ فِي أُذُنَيْهِ فَوَسَّعُوا لَهُ حَتَّى قَرَّبَ، ثُمَّ ضَايَقَهُ بَعْضُهُمْ وَجَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ كَلَامٌ، وَوَصَفَ لِلرَّسُولِ مَحَبَّةَ الْقُرْبِ مِنْهُ لِيَسْمَعَ كَلَامَهُ، وَإِنَّ فُلَانًا لَمْ يُفْسِحْ لَهُ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَأُمِرَ الْقَوْمُ بِأَنْ يُوَسِّعُوا وَلَا يَقُومَ أَحَدٌ لِأَحَدٍ، الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُحِبُّونَ الْقُرْبَ مِنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَكْرَهُ أَنْ يُضَيَّقَ عَلَيْهِ فَرُبَّمَا سَأَلَهُ أَخُوهُ أَنْ يُفْسِحَ لَهُ فَيَأْبَى فَأَمَرَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ يَتَعَاطَفُوا وَيَتَحَمَّلُوا الْمَكْرُوهَ وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَمَسَّهُ الْفُقَرَاءُ، وَكَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ وَلَهُمْ رَوَائِحُ، الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُرَادَ تَفَسَّحُوا فِي مَجَالِسِ الْقِتَالِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: مَقاعِدَ لِلْقِتالِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٢١] وَكَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي الصَّفَّ فَيَقُولُ تَفَسَّحُوا، فَيَأْبَوْنَ لِحِرْصِهِمْ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ جَمِيعُ الْمَجَالِسِ وَالْمَجَامِعِ، قَالَ الْقَاضِي: وَالْأَقْرَبُ أَنَّ الْمُرَادَ، مِنْهُ مَجْلِسُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْمَجْلِسَ عَلَى وَجْهٍ يَقْتَضِي كَوْنَهُ مَعْهُودًا، وَالْمَعْهُودُ فِي زَمَانِ نُزُولِ الْآيَةِ لَيْسَ إِلَّا مَجْلِسُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي يَعْظُمُ التَّنَافُسُ عَلَيْهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِلْقُرْبِ مِنْهُ مَزِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ سَمَاعِ حَدِيثِهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنَ المنزلة،
493
وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى»
وَلِذَلِكَ كَانَ يُقَدِّمُ الْأَفَاضِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَكَانُوا لِكَثْرَتِهِمْ يَتَضَايَقُونَ، فَأُمِرُوا بِالتَّفَسُّحِ إِذَا أَمْكَنَ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَدْخَلُ فِي التَّحَبُّبِ، وَفِي الِاشْتِرَاكِ فِي سَمَاعِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الدِّينِ، وَإِذَا صَحَّ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ، فَحَالَ الْجِهَادُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ الشَّدِيدَ الْبَأْسِ قَدْ يَكُونُ مُتَأَخِّرًا عَنِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ، وَالْحَاجَةُ إِلَى تَقَدُّمِهِ مَاسَّةٌ فَلَا بُدَّ مِنَ التَّفَسُّحِ، ثُمَّ يُقَاسُ عَلَى هَذَا سَائِرُ مَجَالِسِ الْعِلْمِ وَالذِّكْرِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ فَهُوَ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَا يَطْلُبُ النَّاسُ الْفُسْحَةَ فِيهِ مِنَ الْمَكَانِ وَالرِّزْقِ وَالصَّدْرِ وَالْقَبْرِ وَالْجَنَّةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَسَّعَ عَلَى عِبَادِ اللَّه أَبْوَابَ الْخَيْرِ وَالرَّاحَةِ، وَسَّعَ اللَّه عَلَيْهِ خَيْرَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُقَيِّدَ الْآيَةَ بِالتَّفَسُّحِ فِي الْمَجْلِسِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ إِيصَالُ الْخَيْرِ إِلَى الْمُسْلِمِ، وَإِدْخَالُ السُّرُورِ فِي قَلْبِهِ، وَلِذَلِكَ
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا يَزَالُ اللَّه فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا زَالَ الْعَبْدُ فِي عون أخيه المسلم».
[في قوله تعالى وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا إلى قوله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ] ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ/ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذا قيل لكم: ارفعوا فَارْتَفِعُوا، وَاللَّفْظُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أَحَدُهَا: إِذَا قِيلَ لَكُمْ: قُومُوا لِلتَّوْسِعَةِ عَلَى الدَّاخِلِ، فَقُومُوا وَثَانِيهَا: إِذَا قِيلَ: قُومُوا مِنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تُطَوِّلُوا فِي الْكَلَامِ، فَقُومُوا وَلَا تَرْكُزُوا مَعَهُ، كَمَا قَالَ: وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ [الْأَحْزَابِ: ٥٣] وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَثَالِثُهَا: إِذَا قِيلَ لَكُمْ: قُومُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَأَعْمَالِ الْخَيْرِ وَتَأَهَّبُوا لَهُ، فَاشْتَغِلُوا بِهِ وَتَأَهَّبُوا لَهُ، وَلَا تَتَثَاقَلُوا فِيهِ، قَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ قَوْمًا تَثَاقَلُوا عَنِ الصَّلَاةِ، فَأُمِرُوا بِالْقِيَامِ لَهَا إِذَا نُودِيَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قُرِئَ: انْشُزُوا بِكَسْرِ الشِّينِ وَبِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ: يَعْكُفُونَ ويعكفون [الأعراف: ١٣٨]، ويَعْرِشُونَ ويعرشون [الأعراف: ١٣٧].
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَاهُمْ أَوَّلًا عَنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ ثَانِيًا بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَعَدَهُمْ عَلَى الطَّاعَاتِ، فَقَالَ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ أَيْ يَرْفَعُ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِ رَسُولِهِ، وَالْعَالِمِينَ مِنْهُمْ خَاصَّةً دَرَجَاتٍ، ثُمَّ فِي الْمُرَادِ مِنْ هَذِهِ الرِّفْعَةِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْقَوْلُ النَّادِرُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الرِّفْعَةُ فِي مَجْلِسِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالثَّانِي: وَهُوَ الْقَوْلُ الْمَشْهُورُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الرِّفْعَةُ فِي دَرَجَاتِ الثَّوَابِ، وَمَرَاتِبِ الرِّضْوَانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّا أَطْنَبْنَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَةِ: ٣١] فِي فَضِيلَةِ الْعِلْمِ، وَقَالَ الْقَاضِي: لَا شُبْهَةَ أَنَّ علم العالم يقتضي لطاعته من المنزلة مالا يحصل للمؤمن، ولذلك فإنه يقتدي بالعلم فِي كُلِّ أَفْعَالِهِ، وَلَا يُقْتَدَى بِغَيْرِ الْعَالِمِ، لِأَنَّهُ يَعْلَمُ مِنْ كَيْفِيَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنِ الْحَرَامِ والشبهات، ومحاسبة النفس مالا يَعْرِفُهُ الْغَيْرُ، وَيَعْلَمُ مِنْ كَيْفِيَّةِ الْخُشُوعِ وَالتَّذَلُّلِ في العبادة مالا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ، وَيَعْلَمُ مِنْ كَيْفِيَّةِ التَّوْبَةِ وَأَوْقَاتِهَا وصفاتها مالا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُ، وَيَتَحَفَّظُ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنَ الْحُقُوقِ مالا يَتَحَفَّظُ مِنْهُ غَيْرُهُ، وَفِي الْوُجُوهِ كَثْرَةٌ، لَكِنَّهُ كما
494
تَعْظُمُ مَنْزِلَةُ أَفْعَالِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ فِي دَرَجَةِ الثَّوَابِ، فَكَذَلِكَ يَعْظُمُ عِقَابُهُ فِيمَا يَأْتِيهِ مِنَ الذُّنُوبِ، لِمَكَانِ عِلْمِهِ حَتَّى لَا يَمْتَنِعَ فِي كَثِيرٍ مِنْ صَغَائِرِ غَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ كَبِيرًا منه.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١٢]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذَا التَّكْلِيفُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنَ الْفَوَائِدِ أَوَّلُهَا: إِعْظَامُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِعْظَامُ مُنَاجَاتِهِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا وَجَدَ الشَّيْءَ مَعَ الْمَشَقَّةِ اسْتَعْظَمَهُ، وَإِنْ وَجَدَهُ بِالسُّهُولَةِ، اسْتَحْقَرَهُ وَثَانِيهَا: نَفْعُ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَرَاءِ بِتِلْكَ الصَّدَقَةِ الْمُقَدَّمَةِ قَبْلَ الْمُنَاجَاةِ وَثَالِثُهَا: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرُوا الْمَسَائِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى شَقُّوا عَلَيْهِ، وَأَرَادَ اللَّه أَنْ يُخَفِّفَ عَنْ نَبِيِّهِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ شَحَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَكَفُّوا عَنِ الْمَسْأَلَةِ وَرَابِعُهَا: قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: إِنَّ الْأَغْنِيَاءَ غَلَبُوا الْفُقَرَاءَ عَلَى مَجْلِسِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَكْثَرُوا مِنْ مُنَاجَاتِهِ حَتَّى كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُولَ جُلُوسِهِمْ، فَأَمَرَ اللَّه بِالصَّدَقَةِ عِنْدَ الْمُنَاجَاةِ، فَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ فَامْتَنَعُوا، وَأَمَّا الْفُقَرَاءُ فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا، وَاشْتَاقُوا إِلَى مَجْلِسِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَتَمَنَّوْا أَنْ لَوْ كَانُوا يَمْلِكُونَ شَيْئًا فَيُنْفِقُونَهُ وَيَصِلُونَ إِلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعِنْدَ هَذَا التَّكْلِيفِ ازْدَادَتْ دَرَجَةُ الْفُقَرَاءِ عِنْدَ اللَّه، وَانْحَطَّتْ دَرَجَةُ الْأَغْنِيَاءِ وَخَامِسُهَا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّخْفِيفَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ أَرْبَابَ الْحَاجَاتِ كَانُوا يُلِحُّونَ عَلَى الرَّسُولِ، وَيَشْغَلُونَ أَوْقَاتَهُ الَّتِي هِيَ مَقْسُومَةٌ عَلَى الْإِبْلَاغِ إِلَى الْأُمَّةِ وَعَلَى الْعِبَادَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ مَا يَشْغَلُ قَلْبَ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ، لِظَنِّهِ أَنَّ فُلَانًا إِنَّمَا نَاجَى رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَمْرٍ يَقْتَضِي شَغْلَ الْقَلْبِ فِيمَا يَرْجِعُ إِلَى الدُّنْيَا وَسَادِسُهَا:
أَنَّهُ يَتَمَيَّزُ بِهِ مُحِبُّ الْآخِرَةِ عَنْ مُحِبِّ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْمَالَ مِحَكُّ الدَّوَاعِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَقْدِيمَ الصَّدَقَةِ كَانَ وَاجِبًا، لِأَنَّ الْأَمْرَ لِلْوُجُوبِ، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي آخِرِ الْآيَةِ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَا بِفَقْدِهِ يَزُولُ وُجُوبُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّ ذَلِكَ مَا كَانَ وَاجِبًا، بَلْ كَانَ مَنْدُوبًا، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَهَذَا إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي التَّطَوُّعِ لَا فِي الْفَرْضِ وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَمَا أُزِيلَ وُجُوبُهُ بِكَلَامٍ مُتَّصِلٍ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا [المجادلة: ١٣] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمَنْدُوبَ كَمَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ خَيْرٌ وَأَطْهَرُ، فَالْوَاجِبُ أَيْضًا يُوصَفُ بِذَلِكَ وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْآيَتَيْنِ مُتَّصِلَتَيْنِ فِي التِّلَاوَةِ، كَوْنُهُمَا مُتَّصِلَتَيْنِ فِي النُّزُولِ، وَهَذَا كَمَا قُلْنَا فِي الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِ الِاعْتِدَادِ بأربعة أشهر وعشرا، إِنَّهَا نَاسِخَةٌ لِلِاعْتِدَادِ بِحَوْلٍ، وَإِنْ كَانَ النَّاسِخُ مُتَقَدِّمًا فِي التِّلَاوَةِ عَلَى الْمَنْسُوخِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ تَأَخُّرِ النَّاسِخِ عَنِ الْمَنْسُوخِ، فَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَا بَقِيَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ ثُمَّ نُسِخَ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: بَقِيَ ذَلِكَ التَّكْلِيفُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ نُسِخَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ فِي كِتَابِ اللَّه لَآيَةً مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي، وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي، كَانَ لِي دِينَارٌ فَاشْتَرَيْتُ بِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَكُلَّمَا نَاجَيْتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمْتُ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَايَ دِرْهَمًا، ثُمَّ نُسِخَتْ فَلَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ،
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالْكَلْبِيِّ وَعَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُمْ نُهُوا عَنِ
الْمُنَاجَاةِ حَتَّى يَتَصَدَّقُوا فَلَمْ يُنَاجِهِ أَحَدٌ إِلَّا/ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَصَدَّقَ بِدِينَارٍ، ثُمَّ نَزَلَتِ الرُّخْصَةُ.
قَالَ الْقَاضِي وَالْأَكْثَرُ فِي الرِّوَايَاتِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَفَرَّدَ بِالتَّصَدُّقِ قَبْلَ مُنَاجَاتِهِ،
ثُمَّ وَرَدَ النَّسْخُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنَّ أَفَاضِلَ الصَّحَابَةِ وَجَدُوا الْوَقْتَ وَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ، وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ اخْتَصَّ بِذَلِكَ فَلِأَنَّ الْوَقْتَ لَمْ يَتَّسِعْ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَإِلَّا فَلَا شُبْهَةَ أَنَّ أَكَابِرَ الصَّحَابَةِ لَا يَقْعُدُونَ عَنْ مِثْلِهِ، وَأَقُولُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ أَفَاضِلَ الصَّحَابَةِ وَجَدُوا الْوَقْتَ وَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ، فَهَذَا لَا يَجُرُّ إِلَيْهِمْ طَعْنًا، وَذَلِكَ الْإِقْدَامُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ مِمَّا يُضِيقُ قَلْبَ الْفَقِيرِ، فَإِنَّهُ لَا يقدر على مثله فيضيق قلبه، ويوحش قلب الْغَنِيَّ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَفْعَلِ الْغَنِيُّ ذَلِكَ وَفَعَلَهُ غَيْرُهُ صَارَ ذَلِكَ الْفِعْلُ سَبَبًا لِلطَّعْنِ فِيمَنْ لَمْ يَفْعَلْ، فَهَذَا الْفِعْلُ لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِحُزْنِ الْفُقَرَاءِ وَوَحْشَةِ الْأَغْنِيَاءِ، لَمْ يَكُنْ فِي تَرْكِهِ كَبِيرُ مَضَرَّةٍ، لِأَنَّ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِلْأُلْفَةِ أَوْلَى مِمَّا يَكُونُ سَبَبًا لِلْوَحْشَةِ، وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْمُنَاجَاةُ لَيْسَتْ مِنَ الْوَاجِبَاتِ وَلَا مِنَ الطَّاعَاتِ الْمَنْدُوبَةِ، بَلْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ إِنَّمَا كُلِّفُوا بِهَذِهِ الصَّدَقَةِ لِيَتْرُكُوا هَذِهِ الْمُنَاجَاةَ، وَلَمَّا كَانَ الْأَوْلَى بِهَذِهِ الْمُنَاجَاةِ أَنْ تَكُونَ مَتْرُوكَةً لَمْ يَكُنْ تَرْكُهَا سَبَبًا لِلطَّعْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ دَعَانِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «مَا تَقُولُ فِي دِينَارٍ؟ قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ، قَالَ: كَمْ؟ قُلْتُ: حَبَّةٌ أَوْ شَعِيرَةٌ، قَالَ: إِنَّكَ لَزَهِيدٌ»
وَالْمَعْنَى إِنَّكَ قَلِيلُ الْمَالِ فَقَدَّرْتَ عَلَى حَسَبِ حَالِكَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ أي ذلك التقديم فِي دِينِكُمْ وَأَطْهَرُ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ طُهْرَةٌ.
أَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَالْمُرَادُ مِنْهُ الْفُقَرَاءُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْكَرَ أَبُو مُسْلِمٍ وُقُوعَ النَّسْخِ وَقَالَ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَمْتَنِعُونَ مِنْ بَذْلِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنَّ قَوْمًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ تَرَكُوا النِّفَاقَ وَآمَنُوا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِيمَانًا حَقِيقِيًّا، فَأَرَادَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يُمَيِّزَهُمْ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، فَأَمَرَ بِتَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَى النَّجْوَى لِيَتَمَيَّزَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا حَقِيقِيًّا عَمَّنْ بَقِيَ عَلَى نِفَاقِهِ الْأَصْلِيِّ، وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّكْلِيفُ لِأَجْلِ هَذِهِ الْمَصْلَحَةِ الْمُقَدَّرَةِ لِذَلِكَ الْوَقْتِ، لَا جَرَمَ يُقَدَّرُ هَذَا التَّكْلِيفُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ، وَحَاصِلُ قَوْلِ أَبِي مُسْلِمٍ: أَنَّ ذَلِكَ التَّكْلِيفَ كَانَ مُقَدَّرًا بِغَايَةٍ مَخْصُوصَةٍ، فَوَجَبَ انْتِهَاؤُهُ عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إِلَى الْغَايَةِ الْمَخْصُوصَةِ، فَلَا يَكُونُ هَذَا نَسْخًا، وَهَذَا الْكَلَامُ حَسَنٌ مَا بِهِ بَأْسٌ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ: أَأَشْفَقْتُمْ وَمِنْهُمْ من قال: إنه منسوخ بوجوب الزكاة.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١٣]
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣)
وَالْمَعْنَى أَخِفْتُمْ تَقْدِيمَ الصَّدَقَاتِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِنْفَاقِ الْمَالِ، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ وَتَابَ اللَّه عَلَيْكُمْ وَرَخَّصَ لَكُمْ فِي أَنْ لَا تَفْعَلُوهُ، فَلَا تُفَرِّطُوا فِي الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَسَائِرِ الطَّاعَاتِ. فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى تَقْصِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذَلِكَ التَّكْلِيفِ، وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى تَقْصِيرِهِمْ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قُلْنَا: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قُلْتُمْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا كُلِّفُوا بِأَنْ يُقَدِّمُوا الصَّدَقَةَ وَيُشْغَلُوا بِالْمُنَاجَاةِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ، فَمَنْ تَرَكَ الْمُنَاجَاةَ
يَكُونُ مُقَصِّرًا، وَأَمَّا لَوْ قِيلَ بِأَنَّهُمْ نَاجَوْا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ، فَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ جَائِزٍ، لَأَنَّ الْمُنَاجَاةَ لَا تُمْكِنُ إِلَّا إِذَا مَكَّنَ الرَّسُولُ مِنَ الْمُنَاجَاةِ، فَإِذَا لَمْ يُمَكِّنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْمُنَاجَاةِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْآيَةَ لَا تَدُلُّ عَلَى صُدُورِ التَّقْصِيرِ مِنْهُمْ، فَأَمَّا قَوْلُهُ: أَأَشْفَقْتُمْ فَلَا يَمْتَنِعُ أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَلِمَ ضِيقَ صَدْرِ كَثِيرٍ مِنْهُمْ عَنْ إِعْطَاءِ الصَّدَقَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَوْ دَامَ الْوُجُوبُ، فَقَالَ هَذَا الْقَوْلَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُ تَابَ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذَا التَّقْصِيرِ، بَلْ يَحْتَمِلُ أَنَّكُمْ إِذَا كُنْتُمْ تَائِبِينَ رَاجِعِينَ إِلَى اللَّه، وَأَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ، فَقَدْ كَفَاكُمْ هَذَا التَّكْلِيفَ، أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يَعْنِي محيط بأعمالكم ونياتكم.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١٤]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤)
كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَتَوَلَّوْنَ الْيَهُودَ وَهُمُ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّه عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ [المائدة: ٦٠] وَيَنْقُلُونَ إِلَيْهِمْ أَسْرَارَ الْمُؤْمِنِينَ: مَا هُمْ مِنْكُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ وَلَا مِنَ الْيَهُودِ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْكَذِبِ إِمَّا ادِّعَاؤُهُمْ كَوْنَهُمْ مُسْلِمِينَ، وَإِمَّا أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتُمُونَ اللَّه وَرَسُولَهُ وَيَكِيدُونَ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْقَتْلِ، فَيَحْلِفُونَ أَنَّا مَا قُلْنَا ذَلِكَ وَمَا فَعَلْنَاهُ، فَهَذَا هُوَ الْكَذِبُ الَّذِي يَحْلِفُونَ عَلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْجَاحِظِ إِنَّ الْخَبَرَ الَّذِي يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ إِنَّمَا يَكُونُ كَذِبًا لَوْ عَلِمَ الْمُخْبِرُ كَوْنَ الْخَبَرِ مُخَالِفًا لِلْمُخْبَرِ عَنْهُ، وَذَلِكَ لَأَنَّ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ لَكَانَ قَوْلُهُ: وَهُمْ يَعْلَمُونَ تَكْرَارًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ،
يُرْوَى أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ نَبْتَلٍ الْمُنَافِقَ كَانَ/ يُجَالِسُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْفَعُ حَدِيثَهُ إِلَى الْيَهُودِ، فَبَيْنَا رسول اللَّه ﷺ في حُجْرَتِهِ إِذْ قَالَ: يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ يَنْظُرُ بِعَيْنِ شَيْطَانٍ- أَوْ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ- فَدَخَلَ رَجُلٌ عَيْنَاهُ زَرْقَاوَانِ فَقَالَ لَهُ: لِمَ تَسُبَّنِي فَجَعَلَ يَحْلِفُ فَنَزَلَ قَوْلُهُ: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١٥]
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥)
وَالْمُرَادُ مِنْهُ عِنْدَ بَعْضِ المحققين عذاب القبر. ثم قال تعالى:
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١٦]
اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦)
وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ الْحَسَنُ: اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، قَالَ ابْنُ جِنِّي: هَذَا عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيِ اتَّخَذُوا ظِهَارَ إِيمَانِهِمْ جُنَّةً عَنْ ظُهُورِ نِفَاقِهِمْ وَكَيْدِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ، أَوْ جُنَّةً عَنْ أَنْ يَقْتُلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَلَمَّا أَمِنُوا مِنَ الْقَتْلِ اشْتَغَلُوا بِصَدِّ النَّاسِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ بِإِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ فِي الْقُلُوبِ وَتَقْبِيحِ حَالِ الْإِسْلَامِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ أَيْ عَذَابُ الآخر، وَإِنَّمَا حَمَلْنَا قَوْلَهُ: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً على عذاب القبر، وقوله هاهنا: فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ على عذاب الآخر، لِئَلَّا يَلْزَمُ التَّكْرَارُ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْكُلِّ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ [النحل: ٨٨].

[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١٧]

لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧)
رُوِيَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ قَالَ: لَنُنْصَرَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْفُسِنَا وَأَوْلَادِنَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١٨]
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْمُنَافِقَ يَحْلِفُ للَّه يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذِبًا كَمَا يَحْلِفُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي الدُّنْيَا كَذِبًا أَمَّا الْأَوَّلُ:
فَكَقَوْلِهِ: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الْأَنْعَامِ: ٢٣]. وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ [البقرة: ٥٦] وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لِشِدَّةِ تَوَغُّلِهِمْ فِي النِّفَاقِ ظَنُّوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُمْ تَرْوِيجُ/ كَذِبِهِمْ بِالْأَيْمَانِ الْكَاذِبَةِ عَلَى عَلَّامِ الْغُيُوبِ، فَكَانَ هَذَا الْحَلِفُ الذَّمِيمُ يَبْقَى مَعَهُمْ أَبَدًا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الْأَنْعَامِ: ٢٨] قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي: إِنَّ أَهْلَ الْآخِرَةِ لَا يَكْذِبُونَ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُمْ يَحْلِفُونَ فِي الْآخِرَةِ أَنَّا مَا كُنَّا كَافِرِينَ عِنْدَ أَنْفُسِنَا، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ هَذَا الْحَلِفُ كَذِبًا، وَقَوْلُهُ: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ أَيْ فِي الدُّنْيَا، وَاعْلَمْ أَنَّ تَفْسِيرَ الْآيَةِ بِهَذَا الْوَجْهِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَقْتَضِي رَكَاكَةً عَظِيمَةً فِي النَّظْمِ، وَقَدِ اسْتَقْصَيْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: ٢٣].
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ١٩]
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩)
قَالَ الزَّجَّاجُ: اسْتَحْوَذَ فِي اللُّغَةِ اسْتَوْلَى، يقال: حاوزت الْإِبِلَ، وَحُذْتُهَا إِذَا اسْتَوْلَيْتَ عَلَيْهَا وَجَمَعْتَهَا، قَالَ الْمُبَرِّدُ: اسْتَحْوَذَ عَلَى الشَّيْءِ حَوَاهُ وَأَحَاطَ بِهِ، وَقَالَتْ عَائِشَةُ فِي حَقِّ عُمَرَ: كَانَ أَحْوَذِيًّا، أَيْ سَائِسًا ضَابِطًا لِلْأُمُورِ، وَهُوَ أَحَدُ مَا جَاءَ عَلَى الْأَصْلِ نَحْوَ: اسْتَصْوَبَ وَاسْتَنْوَقَ، أَيْ مَلَكَهُمُ الشَّيْطَانُ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ، ثُمَّ قَالَ:
فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ وَاحْتَجَّ الْقَاضِي بِهِ فِي خَلْقِ الْأَعْمَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ الْأَوَّلُ: ذَلِكَ النِّسْيَانُ لَوْ حَصَلَ بِخَلْقِ اللَّه لَكَانَتْ إِضَافَتُهَا إِلَى الشَّيْطَانِ كَذِبًا وَالثَّانِي: لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ بِخَلْقِ اللَّه لَكَانُوا كَالْمُؤْمِنِينَ فِي كَوْنِهِمْ حِزْبَ اللَّه لَا حِزْبَ الشَّيْطَانِ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:
[سورة المجادلة (٥٨) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١)
أَيْ فِي جُمْلَةِ مَنْ هُوَ أَذَلُّ خَلْقِ اللَّه، لِأَنَّ ذُلَّ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى حَسَبِ عِزِّ الْخَصْمِ الثَّانِي، فَلَمَّا كَانَتْ عِزَّةُ اللَّه غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ، كَانَتْ ذِلَّةُ مَنْ يُنَازِعُهُ غَيْرَ مُتَنَاهِيَةٍ أَيْضًا، وَلَمَّا شَرَحَ ذُلَّهُمْ، بَيَّنَ عِزَّ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ: أَنَا وَرُسُلِي بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ لَا يُحَرِّكُونَ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ:
التَّحْرِيكُ وَالْإِسْكَانُ جَمِيعًا جَائِزَانِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: غَلَبَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ بِالْحُجَّةِ مُفَاضَلَةٌ، إِلَّا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ ضَمَّ إِلَى الْغَلَبَةِ بِالْحُجَّةِ الْغَلَبَةَ بِالسَّيْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَلَى نُصْرَةِ أَنْبِيَائِهِ: عَزِيزٌ غَالِبٌ لَا يَدْفَعُهُ أَحَدٌ عَنْ مُرَادِهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ، وَالْوَاجِبُ لِذَاتِهِ يَكُونُ غَالِبًا لِلْمُمْكِنِ/ لِذَاتِهِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: إن
الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: إِنَّا لَنَرْجُو أَنْ يُظْهِرَنَا اللَّه عَلَى فَارِسَ وَالرُّومِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّه بْنُ أُبَيٍّ: أَتَظُنُّونَ أَنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ كَبَعْضِ الْقُرَى الَّتِي غَلَبْتُمُوهُمْ، كَلَّا واللَّه إِنَّهُمْ أَكْثَرُ جَمْعًا وعدة فأنزل اللَّه هذه الآية.
[سورة المجادلة (٥٨) : آية ٢٢]
لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)
الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ مَعَ وِدَادِ أَعْدَاءِ اللَّه، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أحب أحدا امتنع أن يجب مَعَ ذَلِكَ عَدُوَّهُ وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْقَلْبِ، فَإِذَا حَصَلَ فِي الْقَلْبِ وِدَادُ أَعْدَاءِ اللَّه، لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الْإِيمَانُ، فَيَكُونُ صَاحِبُهُ مُنَافِقًا وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا يجتمعان ولكنه معصية وكبيرة، وَكَبِيرَةٌ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يَكُونُ صَاحِبُ هَذَا الْوِدَادِ كَافِرًا بِسَبَبِ هَذَا الْوِدَادِ، بَلْ كَانَ عَاصِيًا فِي اللَّه، فَإِنْ قِيلَ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ تَجُوزُ مُخَالَطَتُهُمْ وَمُعَاشَرَتُهُمْ، فَمَا هَذِهِ الْمَوَدَّةُ الْمُحَرَّمَةُ الْمَحْظُورَةُ؟ قُلْنَا: الْمَوَدَّةُ الْمَحْظُورَةُ هِيَ إِرَادَةُ مُنَافِسِهِ دِينًا وَدُنْيَا مَعَ كَوْنِهِ كَافِرًا، فَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ فَلَا حَظْرَ فِيهِ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَالَغَ فِي الْمَنْعِ مِنْ هَذِهِ الْمَوَدَّةِ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا: مَا ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَوَدَّةَ مَعَ الْإِيمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَيْلَ إِلَى هَؤُلَاءِ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْمَيْلِ، وَمَعَ هَذَا فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَيْلُ مَغْلُوبًا مَطْرُوحًا بِسَبَبِ الدِّينِ،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ قَتَلَ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّه بْنَ الْجَرَّاحِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَتَلَ خَالَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَبِي بَكْرٍ دَعَا ابْنَهُ يَوْمَ بَدْرٍ إِلَى الْبِرَازِ، فَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَتِّعْنَا بِنَفْسِكَ» وَمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ قَتَلَ أَخَاهُ عُبَيْدَ بْنَ عمير، / وعلي بن أبي طالب وَعُبَيْدَةَ قَتَلُوا عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ يَوْمَ بَدْرٍ،
أَخْبَرَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يُوَادُّوا أَقَارِبَهُمْ وَعَشَائِرَهُمْ غَضَبًا للَّه وَدِينِهِ وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى عَدَّدَ نِعَمَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَبَدَأَ بِقَوْلِهِ: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمَعْنَى أَنَّ مَنْ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْصُلَ فِي قَلْبِهِ مَوَدَّةُ أَعْدَاءِ اللَّه، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: كَتَبَ أَمَّا الْقَاضِي فَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ عَلَى وَفْقِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَحَدُهَا:
جَعَلَ فِي قُلُوبِهِمْ عَلَامَةً تَعْرِفُ بِهَا الْمَلَائِكَةُ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَثَانِيهَا: الْمُرَادُ شَرَحَ صُدُورَهُمْ لِلْإِيمَانِ بِالْأَلْطَافِ وَالتَّوْفِيقِ وَثَالِثُهَا: قِيلَ فِي: كَتَبَ قَضَى أَنَّ قُلُوبَهُمْ بِهَذَا الْوَصْفِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْوُجُوهَ الثَّلَاثَةَ نُسَلِّمُهَا لِلْقَاضِي وَنُفَرِّعُ عَلَيْهَا صِحَّةَ قَوْلِنَا، فَإِنَّ الَّذِي قَضَى اللَّه بِهِ أَخْبَرَ عَنْهُ وَكَتَبَهُ فِي اللوح المحفوظ، لو لم يقع لا نقلب خَبَرُ اللَّه الصِّدْقُ كَذِبًا وَهَذَا مُحَالٌ، وَالْمُؤَدِّي إِلَى الْمُحَالِ مُحَالٌ، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ مَعْنَاهُ: جَمَعَ، وَالْكَتِيبَةُ: الْجَمْعُ مِنَ الْجَيْشِ، وَالتَّقْدِيرُ أُولَئِكَ الَّذِينَ جَمَعَ اللَّه فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ، أَيِ اسْتَكْمَلُوا فَلَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَقُولُونَ: نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ [النِّسَاءِ: ١٥٠] وَمَتَى كَانُوا كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَحْصُلَ فِي قُلُوبِهِمْ مَوَدَّةُ الْكُفَّارِ، وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: كَتَبَ مَعْنَاهُ أَثْبَتَ وَخَلَقَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُمْكِنُ كَتْبُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْإِيجَادِ وَالتَّكْوِينِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى الْمُفَضَّلُ عَنْ عَاصِمٍ: كُتِبَ عَلَى فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَالْبَاقُونَ: كَتَبَ على
499
إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ وَالنِّعْمَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
نَصَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَسَمَّى تِلْكَ النُّصْرَةَ رُوحًا لِأَنَّ بِهَا يَحْيَا أَمْرُهُمْ وَالثَّانِي: قَالَ السُّدِّيُّ: الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ:
مِنْهُ عَائِدٌ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْمَعْنَى أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنَ الْإِيمَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورة: ٥٢] النِّعْمَةُ الثَّالِثَةُ: وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى نِعْمَةِ الْجَنَّةِ النِّعْمَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَهِيَ نِعْمَةُ الرِّضْوَانِ، وَهِيَ أَعْظَمُ النِّعَمِ وَأَجَلُّ الْمَرَاتِبِ، ثُمَّ لَمَّا عَدَّدَ هَذِهِ النِّعَمَ ذَكَرَ الْأَمْرَ الرَّابِعَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُوجِبُ تَرْكَ الْمُوَادَّةِ مَعَ أَعْدَاءِ اللَّه فَقَالَ:
أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَهُوَ فِي مُقَابَلَةِ قَوْلِهِ فِيهِمْ: أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ [المجادلة: ١٩].
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَإِخْبَارِهِ أَهْلَ مَكَّةَ بمسير النبي صلى اللَّه عليه وسلم إليهم لَمَّا أَرَادَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَتِلْكَ الْقِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ وَبِالْجُمْلَةِ فَالْآيَةُ زَجْرٌ عَنِ التَّوَدُّدِ إِلَى الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ.
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ لِفَاجِرٍ وَلَا لِفَاسِقٍ عِنْدِي نِعْمَةً فَإِنِّي وَجَدْتُ فِيمَا أو حيث لَا تَجِدُ قَوْماً إِلَى آخِرِهِ»
واللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَالْحَمْدُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَاتُهُ وَسَلَامُهُ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
500
Icon