تفسير سورة المجادلة

المحرر في أسباب نزول القرآن
تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب المحرر في أسباب نزول القرآن من خلال الكتب التسعة المعروف بـالمحرر في أسباب نزول القرآن .
لمؤلفه خالد بن سليمان المزيني .

سورة المجادلة
١٧٢ - قال اللَّه تعالى: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٤)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج أحمد والبخاري تعليقًا والنَّسَائِي وابن ماجه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: الحمد للَّه الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا).
957
٢ - أخرج أحمد وأبو داود عن خولة بنت ثعلبة قالت: والله فيَّ وفي أوس بن صامت أنزل الله - عزَّ وجلَّ - صدر سورة المجادلة. قالت: كنت عنده، وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه وضجر قالت: فدخل عليَّ يوماً فراجعته بشيء فغضب فقال: أنت عليَّ كظهر أمي. قالت: ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعةً ثم دخل عليَّ فإذا هو يريدني على نفسي قالت: فقلت: كلا والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إليَّ وقد قلتَ ما قلتَ حتى يحكم اللَّه ورسوله فينا بحكمه.
قالت: فواثبني فامتنعت منه فغلبته بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عني، قالت: ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابها ثم خرجت حتى جئت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه فجعلت أشكو إليه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما ألقى من سوء خلقه. قالت: فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه) قالت: فواللَّه ما برحت حتى نزلت فيَّ القرآن فتغشى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان يتغشاه، ثم سري عنه، فقال لي: (يا خويلة قد أنزل اللَّه فيك وفي صاحبك) ثم قرأ عليَّ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) - إلى قوله - (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مريه فليعتق رقبة) قالت: فقلت: واللَّه يا رسول اللَّه ما عنده ما يعتق. قال: (فليصم شهرين متتابعين) قالت: فقلت: واللَّه يا رسول اللَّه إنه شيخ كبير ما به من صيام قال: (فليطعم ستين مسكينًا وسقاً من تمر) قالت: قلت: والله يا رسول الله ما ذاك عنده. قالت: فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فإنا سنعينه بعرق من تمر)
959
قالت: فقلت: وأنا يا رسول الله سأعينه بعرق آخر. قال: (قد أصبت وأحسنت، فاذهبي فتصدقي عنه، ثم استوصي بابن عمك خيراً) قالت: ففعلت.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآيات الكريمة، وقد تنوعت اختيارات المفسرين لهذه الأسباب.
فمنهم من ذكر الحديثين كالطبري وابن كثير.
قال الطبري: (وكانت مجادلتها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في زوجها، وزوجها أوس بن الصامت، مراجعتها إياه في أمره، وما كان من قوله لها: أنت عليَّ كظهر أمي ومحاورتها إياه في ذلك وبذلك قال أهل التأويل، وتظاهرت به الرواية) اهـ.
أما ابن كثير فقد قال بعد سياق حديث خولة بنت ثعلبة - رضي الله عنها -: (هذا هو الصحيح في سبب نزول هذه السورة) اهـ.
ومنهم من ذكر حديث عائشة - رضي الله عنها - كابن العربي والقرطبي، وأضاف إلى ذلك روايات أخرى.
960
ومنهم من ذكر حديث خولة بنت ثعلبة - رضي الله عنها - كابن عاشور فقد قال: (وتلك هي قضية سبب النزول لأن المرأة ما جاءت مجادلة إلا لأنها علمت أن زوجها المظاهر منها لم يرد فراقها كما يدل عليه الحديث المروي في ذلك) اهـ.
أما البغوي وابن عطية فقد ذكرا روايات مشابهة للذي معنا.
قال البغوي: (نزلت في خولة بنت ثعلبة كانت تحت أوس بن الصامت) اهـ.
* النتيجة:
أن الأحاديث التي معنا سبب نزول الآية الكريمة لإجماع المفسرين على ذلك وموافقتها لسياق القرآن وتصريحها بالنزول، وصحة أسانيد بعضها. واللَّه أعلم.
* * * * *
961
١٧٣ - قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
١ - أخرج مسلم وأحمد والنَّسَائِي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أتى النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُناس من اليهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم قال: (وعليكم) قالت عائشة: قلت: بل عليكم السام والذام فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يا عائشة لا تكوني فاحشة) فقالت: ما سمعتَ ما قالوا؟ فقال: (أوليس قد رددتُ عليهم الذي قالوا؟ قلت: وعليكم).
وفي لفظ له ففطنت بهم عاثشة فسبَّتهم فقال رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مه يا عائشة فإن اللَّه لا يحب الفحش والتفحش) وزاد فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ).. إلى آخر الآية.
٢ - أخرج أحمد عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن اليهود كانوا يقولون لرسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سام عليك ثم يقولون في أنفسهم: (لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ)
962
فنزلت هذه الآية: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ.. ).
٣ - أخرج الترمذي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يهودياً أتى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، فقال: السام عليكم، فرد عليه القوا، فقال نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هل تدرون ما قال هذا؟) قالوا: الله ورسوله أعلم، سلَّم يا نبي الله. قال: (لا ولكنه قال كذا وكذا، ردوه عليَّ) فردوه فقال: (قلتَ: السام عليكم؟) قال: نعم، قال نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند ذلك: إذا سلَّم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: عليك ما قلتَ قال: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ).
963
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر جمهور المفسرين هذه الأحاديث على تفاوت بينهم في ذكر بعضها أو كلها منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية والقرطبي وابن كثير وابن عاشور.
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى) من اليهود (ثُمَّ يَعُودُونَ) فقد نهى الله - عَزَّ وَجَلَّ - إياهم عنها، ويتناجون بينهم بالإثم والعدوان ومعصية الرسول).
964
وقوله: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإذا جاءك يا محمد هؤلاء الذين نهوا عن النجوى، الذين وصف اللَّه جل ثناؤه صفتهم، حيوك بغير التحية التي جعلها اللَّه لك تحية، وكانت تحيتهم التي كانوا يحيونه بها التي أخبر الله أنه لم يحيه بها فيما جاءت به الأخبار أنهم كانوا يقولون: السام عليك) اهـ.
وقال البغوي: (نزلت في اليهود والمنافقين وذلك أنهم كانوا يتناجون فيما بينهم دون المؤمنين) اهـ.
وقال ابن العربي: (لا خلاف بين النقلة أن المراد بهم اليهود، كانوا يأتون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقولون السام عليك) اهـ.
وقال ابن عطية: (هذه الآية نزلت في قوم من اليهود نهاهم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التناجي بحضرة المؤمنين وإظهار ما يستراب منه من ذلك فلم ينتهوا فنزلت هذه الآية) اهـ.
وقال ابن كثير: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) أي كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين) اهـ.
وقال السعدي: (هؤلاء المذكورون إما أُناس من المنافقين يظهرون الإيمان ويخاطبون الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بهذا الخطاب الذي يوهمون أنهم أرادوا به خيراً وهم كذبة في ذلك.
وإما أُناس من أهل الكتاب، الذين سلموا على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالوا: (السام عليك يا محمد) يعنون: الموت) اهـ.
وقال ابن عاشور: (وفي قوله: (عَنِ النَّجْوَى) وقوله: (وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) دلالة على أنهم منافقون لا يهود؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان ينهى اليهود عن أحوالهم وهذا يرد قول من تأول الآية على اليهود، بل الحق ما في ابن عطية عن ابن عبَّاسٍ أنها نزلت في المنافقين).
ثم قال في قوله تعالى: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ): (لا يليق
965
حمله على أحوال اليهود كما علمت آنفاً ولو حمل ضمير (جَاءُوكَ) على اليهود لزم عليه تشتيت الضمائر) اهـ. بتصرف.
والراجح - والله أعلم - ما ذهب إليه بعض المفسرين من أن الآيات نزلت في المنافقين وليست في اليهود.
قال ابن عطية: (وقال ابن عبَّاسٍ هذه الآية كلها في منافقين، ويشبه أن من المنافقين من تخلق في هذا كله بصفة اليهود) اهـ.
والحجة في هذا ما يلي:
١ - أن آخر قبائل اليهود نقضاً للعهد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هم بنو قريظة بعد غزوة الأحزاب، وكان ذلك في سنة خمس من الهجرة.
وأن سورة المجادلة من أواخر القرآن نزولاً حتى قال ابن عاشور: (وهي السورة المائة وثلاث في عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة المنافقين وقبل سورة التحريم) اهـ. فإذا كان اليهود جميعاً قد خلت المدينة منهم سنة خمس إما بالقتل أو الإجلاء، وكانت سورة المجادلة قد تأخر نزولها إلى هذا الحد، فكيف يكون الخطاب فيها موجهاً لليهود؟!
٢ - أن سياق الآيات القرآنية يميل إلى المنافقين من وجهين:
الأول: ذكره ابن عاشور بقوله: (إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان ينهى اليهود عن أحوالهم).
وهذا حق فإن الله قال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى) وهذا يعني أنه قد جرى نهي عن ذلك، واليهود كفار، والكفار لا يخاطبون بفروع الشريعة، فكيف يتوجه لهم الأمر والنهي، والحال ما ذُكر؟.
الثاني: أن اللَّه تعالى تحدث عن المنافقين بالأسلوب نفسه الذي تحدث به عن المتناجين فقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
وهذه الآية كقوله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا
966
إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (١٤٣).
وإذا كان أسلوب الحديث في الآيتين واحدًا فلماذا تكون الأولى في اليهود، والثانية في المنافقين؟
٣ - أن وصف المنافقين بذلك أقرب من وصف اليهود لأنهم يعرفون من أحوال المؤمنين ما لا يعرفه اليهود، ويشاهدون ما لا يشاهدون وذلك بسب القربى وإظهار الإيمان، وإذا كانوا كذلك فهم أقدر على المناجاة بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وقد حكى الله عنهم في سورة عُنيت بفضحهم بأنهم يتناجون بالإثم والعدوان فقال سبحانه: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٧٨) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)، ومعلوم أن اللمز والسخرية بالمؤمنين من الإثم والعدوان ومعصية الرسول. بينما لا أعرف بين دفتي المصحف آية تحدثت عن مناجاة اليهود في العصر النبوي.
وبناءً على ما تقدم يرد سؤالان اثنان:
الأول: ما الجواب عن قول عائشة - رضي الله عنها - فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ).
فالجواب: أن الآية لما تضمنت التحية وكانت عائشة - رضي الله عنها - سمعت اليهود يحيونه بالسام ظنت أنها نزلت فيهم فقالت: فأنزل الله. وليس الأمر في الواقع كذلك لأن الحديث عن التحية محدود جدًا في ضمن الحديث عن النجوى، والنهي عنها، وأنها من الشيطان، وأَمْرِ المؤمنين بالتناجي بالبر والتقوى.
فلماذا ينصبُّ الحديث على المحدود ويترك الكثير المبسوط؟ أليس هذا خلاف المعهود؟.
الثاني: إذا كان المراد بالآية المنافقين، فما المراد إذن بقوله: (حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ)؟.
فالجواب: ابن عاشور ذكر: (أنهم كانوا يقولون: أنعم صباحًا وهي تحية
967
العرب في الجاهلية لأنهم لا يحبون أن يتركوا عوائد الجاهلية) اهـ.
قلت: لو ذكر لهذا دليلاً لَسَلَّمنا أما مع عدم الدليل فلا.
وعندي - واللَّه أعلم - أن قاعدة النفاق الراسخة وجهان ولسانان وحالان باطن وظاهر، والمنافقون دومًا لا يستطيعون الفصل بينهما بل لا يحسنون إلا الجمع بينهما وقد دلَّ على هذا كتاب الله. قال الله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ).
وقال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥). ولك أن تعجب من اجتماع، حسن القول مع العداوة ولَيِّ الرؤوس.
وقال تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (١٤).
وقال تعالى: (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (٥٦) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (٥٧).
وقال تعالى: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
إلى غير ذلك من الأدلة الدالة على أن المنافقين يحسنون دورين ويلبسون قناعين. وإنما الغرض من عرض الآيات السابقة أن أبين أن منهج المنافقين لا يتفق مع ما ذكره المفسرون هنا في تفسير التحية، وإنما الذي يتفق مع منهجهم هنا أنهم كانوا يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وإذا أتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حيّوه بأحسن تحية، ثم يقولون لبعضهم: (لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) أي: لِجمعنا بين ضدين صلاح ظاهر، وفساد باطن. واللَّه أعلم.
968
* النتيجة:
أن الأحاديث المذكورة ليست سببًا لنزول الآية لمخالفتها السياق القرآني من عدة وجوه وإنما المراد منها الحديث عن حال المنافقين مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه في إظهار مودتهم مع ما تنطوي عليه قلوبهم من الحقد الدفين والشر المستطير. واللَّه أعلم.
* * * * *
969
١٧٤ - قال الله تعالى: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٣)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج الترمذي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) قال لي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (ما ترى. دينار؟) قلت: لا يطيقونه، قال: (فنصف دينار؟) قلت: لا يطيقونه. قال: (فكم؟) قلت: شعيرة. قال: (إنك لزهيد) قال: فنزلت: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ) قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة.
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية. وقد ذكر جمع من المفسرين هذا الحديث منهم الطبري والبغوي وابن العربي وابن عطية وابن كثير.
970
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره: أشق عليكم وخشيتم أيها المؤمنون بأن تقدموا بين يدي نجواكم رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقات الفاقة) اهـ.
وقال البغوي: (قال ابن عبَّاسٍ: وذلك أن الناس سألوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأكثروا حتى شقوا عليه فأراد اللَّه أن يخفف على نبيه ويثبطهم ويردعهم عن ذلك فأمرهم أن يقدموا صدقة على المناجاة مع رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) اهـ.
والظاهر - واللَّه أعلم - أن هذا الحديث لا يصح أن يكون سبباً لنزول الآية لما يلي:
١ - أن إسناد الحديث ضعيف وتفصيله في موضعه من الحاشية.
٢ - أن سياق الحديث يقتضي أن الذي أشفق من ذلك هو علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والناظر في سياق الآية من أولها إلى آخرها يجد أن حديثها بصيغة الجمع مما يدل على أن الإشفاق منهم وليس من علي وحده.
٣ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي: إنك لزهيد لما اقترح شعيرة وهذا يعني وبقتضي أن علياً أرحم بالناس من رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليس الأمر والله كذلك فليس أرحمَ بالناس من الناس أحدٌ من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول اللَّه تعالى عنه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨).
٤ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استشار علياً في مقدار الصدقة وهذا يخالف المعهود عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من استشارة صاحبيه الكبيرين أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - جميعاً.
وبناءً على ما تقدم فليس الحديث المذكور سبب نزولها بل ربما نزل التخفيف لمجرد علم اللَّه بمشقة ذلك عليهم من غير طلب منهم أو من أحدهم واللَّه أعلم.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور ليس سبب نزولها لضعف إسناده، وعدم موافقته السياق القرآني والمشهور من حال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عدة وجوه واللَّه أعلم.
971
١٧٥ - قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (١٨)
* سَبَبُ النُّزُولِ:
أخرج أحمد عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالسًا في ظلِّ حجرته - قال يحيى: قد كاد يقلص عنه - فقال لأصحابه: (يجيئكم رجل ينظر إليكم بعين شيطان، فإذا رأيتموه فلا تكلموه) فجاء رجل أزرق، فلما رآه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعاه، فقال: (علام تشتمني أنت وأصحابك)؟ قال: كما أنت حتى آتيك بهم. قال: فذهب فجاء بهم، فجعلوا يحلفون باللَّه ما قالوا، وما فعلوا وأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ).
وفي رواية له: فنزلت هذه الآية التي في المجادلة: (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
972
* دِرَاسَةُ السَّبَبِ:
هكذا جاء في سبب نزول هذه الآية الكريمة. وقد ذكر بعض المفسرين هذا الحديث عند تفسيرها كالطبري والبغوي والقرطبي وابن كثير.
قال الطبري: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ألم تنظر بعين قلبك يا محمد فترى إلى القوم الذين تولوا قوماً غضب الله عليهم وهم المنافقون تولوا اليهود وناصحوهم) اهـ.
وقال البغوي: (نزلت في المنافقين تولوا اليهود وناصحوهم ونقلوا أسرار المؤمنين إليهم) اهـ.
وقال ابن كثير: (يقول اللَّه تعالى منكراً على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن وهم في نفس الأمر لا معهم ولا مع المؤمنين كما قال تعالى: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (١٤٣)) اهـ.
* النتيجة:
أن الحديث المذكور سبب نزول الآية الكريمة لصحة سنده، وصراحة لفظه واحتجاج المفسرين به واللَّه أعلم.
* * * * *
973
سورة الحشر
975
Icon