تفسير سورة الملك

الماوردي
تفسير سورة سورة الملك من كتاب النكت والعيون المعروف بـالماوردي .
لمؤلفه الماوردي . المتوفي سنة 450 هـ

قوله تعالى :﴿ تباركَ الذي بيدِهِ المُلْكُ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن التبارُك تفاعُل من البركة، قاله ابن عباس. وهو أبلغ من المبارك لاختصاص اللَّه بالتبارك واشتراك المخلوقين في المبارك.
الثاني : أي تبارك في الخلق بما جعل فيهم من البركة، قاله ابن عطاء.
الثالث : معناه علا وارتفع، قاله يحيى بن سلام.
وفي قوله « الذي بيده الملك » وجهان :
أحدهما : ملك السموات والأرض في الدنيا والآخرة.
الثاني : ملك النبوة التي أعزّ بها من اتبعه وأذل بها من خالفه، قاله محمد بن إسحاق.
﴿ وهو عَلى كُلِّ شَىْءٍ قَديرٌ ﴾ من إنعام وانتقام.
﴿ الذي خَلَقَ الموتَ والحياةَ ﴾ يعني الموت في الدنيا، والحياة في الآخرة.
قال قتادة : كان رسول اللَّه ﷺ يقول :« » إن اللَّه أذل بني آدم بالموت، وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء «.
الثاني : أنه خلق الموت والحياة جسمين، فخلق الموت في صورة كبش أملح، وخلق الحياة في صورة فرس [ أنثى بلقاء ]، وهذا مأثور حكاه الكلبي ومقاتل.
﴿ لِيَبْلُوكم أيُّكم أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ فيه خمسة تأويلات :
أحدها : أيكم أتم عقلاً، قاله قتادة.
الثاني : أيكم أزهد في الدنيا، قاله سفيان.
الثالث : أيكم أورع عن محارم اللَّه وأسرع إلى طاعة اللَّه، وهذا قول مأثور. الرابع : أيكم للموت أكثر ذِكْراً وله أحسن استعداداً ومنه أشد خوفاً وحذراً، قاله السدي.
الخامس : أيكم أعرف بعيوب نفسه.
ويحتمل سادساً : أيكم أرضى بقضائه وأصبر على بلائه.
﴿ الذي خَلَقَ سَبْعَ سمواتٍ طِباقاً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أي متفق متشابه، مأخوذ من قولهم هذا مطابق لهذا أي شبيه له، قاله ابن بحر.
الثاني : يعني بعضهن فوق بعض، قال الحسن : وسبع أرضين بعضهن فوق بعض، بين كل سماء وأرض خلق وأمر.
﴿ ما تَرَة في خَلْق الرحمنِ من تفاوُتٍ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : من اختلاَف، قاله قتادة، ومنه قول الشاعر :
متفاوتات من الأعنة قطّباً حتى وفي عشية أثقالها.
الثاني : من عيب، قاله السدي.
الثالث : من تفرق، قاله ابن عباس.
الرابع : لا يفوت بعضه بعضاً، قاله عطاء بن أبي مسلم.
قال الشاعر :
فلستُ بمُدْركٍ ما فاتَ مِنِّي بِلَهْفَ وَلاَ بِليْتَ ولا لَو أنِّي
﴿ فارْجِع البَصَرَ ﴾ قال قتادة : معناه فانظر إلى السماء.
﴿ هل تَرَى من فُطور ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : من شقوق، قاله مجاهد والضحاك.
الثاني : من خلل، قاله قتادة.
الثالث : من خروق قاله السدي.
الرابع : من وهن، قاله ابن عباس.
298
﴿ ثم ارْجع البَصَرَ كَرّتَيْنِ ﴾ أي انظر إلى السماء مرة بعد أخرى.
ويحتمل أمره بالنظر مرتين وجهين :
أحدهما : لأنه في الثانية أقوى نظراً وأحدّ بصراً.
الثاني : لأنه يرى في الثانية من سير كواكبها واختلاف بروجها ما لا يراه من الأولى فيتحقق أنه لا فطور فيها.
وتأول قوم بوجه ثالث : أنه عنى بالمرتين قلباً وبصراً.
﴿ ينْقَلِبْ إليك البَصَرُ خَاسئاً وهو حَسيرٌ ﴾ أي يرجع إليك البصر لأنه لا يرى فطوراً فيرتد.
وفي « خاسئاً » أربعة أوجه :
أحدها : ذليلاً، قاله ابن عباس.
الثاني : منقطعاً، قاله السدي.
الثالث : كليلاً، قاله يحيى بن سلام.
الرابع : مبعداً، قاله الأخفش مأخوذ من خسأت الكلب إذا أبعدته.
وفي « حسير » ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه النادم، ومنه قول الشاعر :
ما أنا اليوم على شيء خلا يا ابنة القَيْنِ تَولّى بحَسيرْ
الثاني : أنه الكليل الذي قد ضعف عن إدراك مرآه، قاله ابن عباس ومنه قول الشاعر :
مَنْ مدّ طرْفاً إلى ما فوق غايته ارتدَّ خَسْآنَ مِنه الطّرْفُ قد حَسِرا
والثالث : أنه المنقطع من الإعياء، قاله السدي، ومنه قول الشاعر :
299
﴿ إذا أُلقُوا فيها ﴾ يعني الكفار ألقوا في جهنم.
﴿ سمعوا لها شهيقاً ﴾ فيه قولان :
أحدهما : أن الشهيق من الكفار عند إلقائهم في النار.
الثاني : أن الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها، قال ابن عباس : تشهق إليهم شهقة البغلة للشعير ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف.
وفي الشهيق ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الشهيق في الصدور، قاله الربيع بن أنس.
الثاني : أنه الصياح، قاله ابن جريج.
الثالث : أن الشهيق هو آخر نهيق الحمار، والزفير مثل أول نهيق الحمار، وقيل إن الزفير من الحلق، والشهيق من الصدر.
﴿ وهي تفورُ ﴾ أي تغلي، ومنه قول الشاعر :
والخيلُ شُعثٌ ما تزال جيادها حَسْرى تغادرُ بالطريق سخالها
تركتم قِدْرَكم لا شيىءَ فيها وقِدْرُ القوم حاميةٌ تفورُ
﴿ تكادُ تَمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ... ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : تنقطع، قاله سعيد بن جبير.
الثاني : تتفرق، قاله ابن عباس والضحاك.
وقوله « من الغيط » فيه ها هنا وجهان :
أحدهما : أنه الغليان، قال الشاعر :
فيا قلب مهلاً وهو غضبان قد غلا من الغيظ وسط القوم ألا يثبكا
الثاني : أنه الغضب، يعني غضباً على أهل المعاصي وانتقاماً للَّه منهم.
﴿ ألمْ يأتِكم نَذيرٌ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن النذر من الجن، والرسل من الإنس، قاله مجاهد.
الثاني : أنهم الرسل والأنبياء، واحدهم نذير، قاله السدي.
﴿ فسُحْقاً لأصحاب السّعيرٍ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : فبعداً لأصحاب السعير يعني جهنم، قاله ابن عباس.
الثاني : أنه وادٍ من جهنم يسمى سحقاً، قاله ابن جبير وأبو صالح، وفي هذا الدعاء إثبات لاستحقاق الوعيد.
﴿ إنّ الذين يَخْشَوْنَ ربَهم بالغَيْبِ ﴾ فيه ستة أوجه :
أحدها : أن الغيب اللَّه تعالى وملائكته، قاله أبو العالية.
الثاني : الجنة والنار، قاله السدي.
الثالث : أنه القرآن، قاله زر بن حبيش.
الرابع : أنه الإسلام لأنه يغيب، قاله إسماعيل بن أبي خالد.
الخامس : أنه القلب، قاله ابن بحر.
السادس : أنه الخلوة إذا خلا بنفسه فذكر ذنبه استغفر ربه، قاله يحيى بن سلام.
﴿ لهم مغْفرةٌ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : بالتوبة والاستغفار.
الثاني : بخشية ربهم بالغيب.
الثالث : لأنهم حلّوا باجتناب الذنوب محل المغفور له.
﴿ وأجرٌ كبيرٌ ﴾ يعني الجنة.
ويحتمل وجهاً آخر : أنه العفو عن العقاب ومضاعفة الثواب.
﴿ هو الذي جَعَلَ لكم الأرْضَ ذَلولاً ﴾ يعني مذللة سهلة.
حكى قتادة عن أبي الجلد : أن الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ، فللسودان اثنا عشر [ ألفاً ]، وللروم [ ثمانية آلاف ]، وللفرس ثلاثة آلاف وللعرب ألف. ﴿ فامْشُوا في مَنَاكِبِها ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : في جبالها، قاله ابن عباس وقتادة وبشير بن كعب.
الثاني : في أطرفاها وفجاجها، قاله مجاهد والسدي.
الثالث : في طرفها.
ويحتمل رابعاً : في منابت زرعها وأشجارها، قاله الحسن.
﴿ وكُلوا مِن رِزْقِهِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : مما أحله لكم، قاله الحسن.
الثاني : مما أنبته لكم، قاله ابن كامل.
﴿ وإليه النشور ﴾ أي البعث.
﴿ أأمِنتُم مَنْ في السماءِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنهم الملائكة، قاله ابن بحر.
الثاني : يعني أنه اللَّه تعالى، قاله ابن عباس.
﴿ أنْ يَخْسِفَ بكم الأرضَ فإذا هي تمورُ ﴾ فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : تتحرك، قاله يحيى.
الثاني : تدور، قاله قطرب وابن شجرة.
الثالث : تسيل ويجري بعضها في بعض، قاله مجاهد، ومنه قول الشاعر :
﴿ أفمن يْمشيِ مُكِبّاً على وَجْهِه أهْدَى ﴾ هذا مثل ضربه اللَّه تعالى للهدى والضلالة، ومعناه ليس من يمشي مُكباً على وجهه ولا ينظر أمامه ولا يمينه ولا شماله. كمن يمشي سوياً معتدلاً ناظراً ما بين يديه وعن يمينه وعن شماله، وفيه وجهان :
أحدهما : أنه مثل ضربه اللّه للمؤمن والكافر، فالمكب على وجهه الكافر يهوي بكفره، والذي يمشي سوّياً المؤمن يهتدي بإيمانه، ومعناه : أمَّن يمشي في الضلالة أهدى أم من يمشي مهتدياً، قاله ابن عباس.
الثاني : أن المكب على وجهه أبو جهل بن هشام، ومن يمشي سوياً عمار بن ياسر، قاله عكرمة.
﴿ على صراطٍ مستقيم ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أن الطريق الواضح الذي لا يضل سالكه، فيكون نعتاً للمثل المضروب.
الثاني : هو الحق المستقيم، قاله مجاهد، فيكون جزاء العاقبة الاستقامة وخاتمة الهداية.
﴿ قُلْ هو الذي ذَرَأَكُمْ في الأرضِ ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : خلقكم في الأرض، قاله ابن عباس.
الثاني : نشركم فيها وفرّقكم على ظهرها، قاله ابن شجرة.
ويحتمل ثالثاً : أنشأكم فيها إلى تكامل خلقكم وانقضاء أجلكم.
﴿ وإليهِ تُحْشَرون ﴾ أي تُبْعثون بعد الموت.
﴿ فلما رأَوْه زُلْفَةً سِيئَتْ وُجوهُ الذين كَفروا ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ظهرت المساءة على وجوههم كراهة لما شاهدوا، وهو معنى قول مقاتل.
الثاني : ظهر السوء في وجهوههم ليدل على كفرهم، كقوله تعالى :﴿ يوم تبيضُّ وجوه وتسْوَدُّ وجوه ﴾ [ آل عمران : ١٠٦ ].
﴿ وقيل هذا الذي كُنْتُمْ به تَدَّعُونَ ﴾ وهذا قول خزنة جهنم لهم، وفي قوله ﴿ كنتم به تدّعون ﴾ أربعة أوجه :
أحدها : تمترون فيه وتختلفون، قاله مقاتل.
الثاني : تشكّون في الدنيا وتزعمون أنه لا يكون، قاله الكلبي.
الثالث : تستعجلون من العذاب، قاله زيد بن أسلم.
الرابع : أنه دعاؤهم بذلك على أنفسهم، وهو افتعال من الدعاء، قاله ابن قتيبة.
﴿ قُلْ أرَأَيْتُمْ إنْ أصْبَحَ ماؤكم غُوْراً ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : ذاهباً، قاله قتادة.
الثاني : لا تناله الدِّلاء، قاله ابن جبير، وكان ماؤهم من بئر زمزم وبئر ميمون.
﴿ فَمَنْ يأتيكم بماءٍ مَعِينٍ ﴾ فيه أربعة أوجه :
أحدها : أن معناه العذب، قاله ابن عباس.
الثاني : أنه الطاهر، قاله الحسن وابن جبير ومجاهد.
الثالث : أنه الذي تمده العيون فلا ينقطع.
الرابع : أنه الجاري، قاله قتادة، ومنه قول جرير :
رَمَيْن فأقصدْن القلوب ولن ترى دماً مائراً إلا جرى في الخيازم
إنّ الذين غدوا بُلبِّك غادَروا وشَلاً بعيْنِك لا يزال مَعِيناً
روى عاصم عن رُزين عن ابن مسعود قال : سورة الملك هي المانعة من عذاب القبر، وهي في التوراة تسمى المانعة، وفي الإنجيل تسمى الواقية، ومن قرأها من كل ليلة فقد أكثر وأطاب.
Icon