مكية وآياتها ثلاثون
ﰡ
﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) ﴾
﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ﴾ قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْمَوْتَ فِي الدُّنْيَا وَالْحَيَاةَ فِي الْآخِرَةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَرَادَ مَوْتَ الْإِنْسَانِ وَحَيَاتَهُ فِي الدُّنْيَا جَعَلَ اللَّهُ الدُّنْيَا دَارَ حَيَاةٍ وَفَنَاءٍ، وَجَعْلَ الْآخِرَةَ دَارَ جَزَاءٍ وَبَقَاءٍ (٢).
قِيلَ إِنَّمَا قَدَّمَ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ إِلَى الْقَهْرِ أَقْرَبُ: وَقِيلَ: قَدَّمَهُ لِأَنَّهُ أَقْدَمُ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَوْتِ كَالنُّطْفَةِ وَالتُّرَابِ وَنَحْوِهِمَا ثُمَّ اعْتَرَضَتْ عَلَيْهَا الْحَيَاةُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَلَقَ الْمَوْتَ عَلَى صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ لَا يَمُرُّ بِشَيْءٍ وَلَا يَجِدُ رِيحَهُ شَيْءٌ إِلَّا مَاتَ وَخَلَقَ الْحَيَاةَ عَلَى صُورَةِ فَرَسٍ بَلْقَاءَ [أُنْثَى] (٣) وَهِيَ الَّتِي كَانَ جِبْرِيلُ وَالْأَنْبِيَاءُ يَرْكَبُونَهَا لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ وَلَا يَجِدُ رِيحَهَا شَيْءٌ إِلَّا حَيِيَ، وَهِيَ الَّتِي أَخَذَ السَّامِرِيُّ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِهَا فَأَلْقَى عَلَى الْعِجْلِ فَحَيِيَ.
﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ فِيمَا بَيْنَ [الْحَيَاةِ إِلَى الْمَوْتِ] (٤) ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
(٢) انظر: الدر المنثور: ٨ / ٢٣٤.
(٣) ساقط من "أ".
(٤) في "ب" الموت والحياة.
وَقَالَ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ "أَحْسَنُ عَمَلًا" أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. وَقَالَ: الْعَمَلُ لَا يُقْبَلُ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا الْخَالِصُ: إِذَا كَانَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ: إِذَا كَانَ عَلَى السُّنَّةِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيُّكُمْ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَأَتْرَكُ لَهَا.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ يُوقِعِ الْبَلْوَى عَلَى "أَيٍّ" [إِلَّا] (١) وَبَيْنَهُمَا إِضْمَارٌ كَمَا تَقُولُ بَلَوْتُكُمْ لِأَنْظُرَ أَيُّكُمْ أَطْوَعُ (٢). وَمِثْلُهُ: "سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ" (الْقَلَمِ-٤٠) أَيْ: سَلْهُمْ وَانْظُرْ أَيَّهُمْ فَـ"أَيُّ": رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ "وَأَحْسَنُ" خَبَرُهُ ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ عَصَاهُ ﴿الْغَفُورُ﴾ لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ.
﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) ﴾
﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾ طَبَقًا عَلَى طَبَقٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ﴾ قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "مِنْ تَفَوُّتٍ" بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ بِلَا أَلِفٍ، وَقَرَأَ الْأَخَرُونَ بِتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَأَلِفٍ قَبْلَهَا. وَهُمَا لُغَتَانِ كَالتَّحَمُّلِ وَالتَّحَامُلِ وَالتَّطَهُّرِ وَالتَّطَاهُرِ. وَمَعْنَاهُ: مَا تَرَى يَا ابْنَ آدَمَ فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنَ اعْوِجَاجٍ وَاخْتِلَافٍ وَتَنَاقُضٍ بَلْ هِيَ مُسْتَقِيمَةٌ مُسْتَوِيَةٌ. وَأَصْلُهُ مِنَ "الْفَوْتِ" (٣) وَهُوَ أَنْ يَفُوتَ بَعْضُهَا بَعْضًا لِقِلَّةِ اسْتِوَائِهَا ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ﴾ كَرِّرِ النَّظَرَ، مَعْنَاهُ: انْظُرْ ثُمَّ ارْجِعْ ﴿هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ شُقُوقٍ وَصُدُوعٍ.
﴿ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ﴿يَنْقَلِبْ﴾ يَنْصَرِفْ وَيَرْجِعْ ﴿إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا﴾ صَاغِرًا ذَلِيلًا مُبْعَدًا لَمْ يَرَ مَا يَهْوَى ﴿وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ كَلِيلٌ مُنْقَطِعٌ لَمْ يُدْرِكْ مَا طَلَبَ. وَرُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: السَّمَاءُ الدُّنْيَا مَوْجٌ مَكْفُوفٌ وَالثَّانِيَةُ مَرْمَرَةٌ بَيْضَاءُ وَالثَّالِثَةُ حَدِيدٌ وَالرَّابِعَةُ [صَفْرَاءُ] (٤) وَقَالَ: نُحَاسٌ وَالْخَامِسَةُ فِضَّةٌ وَالسَّادِسَةُ ذَهَبٌ وَالسَّابِعَةُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ بَيْنَ [السَّمَاءِ] (٥) السَّابِعَةِ إِلَى الْحُجُبِ السَّبْعَةِ صَحَارِي مِنْ نُورٍ (٦).
(٢) معاني القرآن للفراء: ٣ / ١٦٩.
(٣) في "أ" القرب: وهو تصحيف.
(٤) في "ب" صفر.
(٥) ساقط من "ب".
(٦) انظر: البحر المحيط: ٨ / ٢٩٨ وقد عقب على الرواية فقال: "... والسابعة من زمردة بيضاء، يحتاج إلى نقل صحيح، وقد كان بعض من ينتمي إلى الصلاح - وكان أعمى لا يبصر موضع قدميه - يخبر أنه يشاهد السماوات على بعض أوصاف مما ذكرنا ".
﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا﴾ أَرَادَ الْأَدْنَى مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ الَّتِي يَرَاهَا النَّاسُ. ﴿بِمَصَابِيحَ﴾ [أَيِ: الْكَوَاكِبَ وَاحِدُهَا: مِصْبَاحٌ وَهُوَ السِّرَاجُ سُمِّيَ الْكَوْكَبُ مِصْبَاحًا] (١) لِإِضَاءَتِهِ ﴿وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا﴾ مَرَامِيَ ﴿لِلشَّيَاطِينِ﴾ إِذَا اسْتَرَقُوا السَّمْعَ ﴿وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ﴾ فِي الْآخِرَةِ ﴿عَذَابَ السَّعِيرِ﴾ النَّارَ الْمُوقَدَةَ. ﴿وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا﴾ وَهُوَ أَوَّلُ نَهِيقِ الْحِمَارِ وَذَلِكَ أَقْبَحُ الْأَصْوَاتِ ﴿وَهِيَ تَفُورُ﴾ تَغْلِي بِهِمْ كَغَلْيِ الْمِرْجَلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَفُورُ بِهِمْ كَمَا يَفُورُ الْمَاءُ الْكَثِيرُ بِالْحَبِّ الْقَلِيلِ.
﴿تَكَادُ تَمَيَّزُ﴾ تَنْقَطِعُ ﴿مِنَ الْغَيْظِ﴾ مِنْ تَغِيُّظِهَا عَلَيْهِمْ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: تَكَادُ تَنْشَقُّ غَيْظًا عَلَى الْكُفَّارِ ﴿كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ﴾ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ ﴿سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا﴾ سُؤَالَ تَوْبِيخٍ ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ﴾ رَسُولٌ يُنْذِرُكُمْ.
﴿قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا﴾ لِلرُّسُلِ (٢) ﴿مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ﴾
﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ﴾ مِنَ الرُّسُلِ مَا جَاءُونَا بِهِ ﴿أَوْ نَعْقِلُ﴾ مِنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ الْهُدَى أَوْ نَعْقِلُهُ فَنَعْمَلُ بِهِ ﴿مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ قَالَ الزَّجَّاجُ: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ سَمْعَ مَنْ يَعِي وَيَتَفَكَّرُ أَوْ نَعْقِلُ عَقْلَ مَنْ يُمَيِّزُ وَيَنْظُرُ مَا كُنَّا مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا﴾ بُعْدًا ﴿لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْكِسَائِيُّ "فَسُحُقًا"
(٢) في "أ" للرسول.
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) ﴾
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَنَالُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرُهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا قَالُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ كَيْ لَا يَسْمَعَ إِلَهُ مُحَمَّدٍ (١).
فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ﴾ أَلَّا يَعْلَمُ مَا فِي الصُّدُورِ مَنْ خَلَقَهَا ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ لَطِيفٌ عِلْمُهُ فِي الْقُلُوبِ الْخَبِيرُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْوَسْوَسَةِ. وَقِيلَ "مَنْ" يَرْجِعُ إِلَى الْمَخْلُوقِ، أَيْ أَلَّا يَعْلَمَ اللَّهُ مَخْلُوقَهُ؟
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا﴾ سَهْلًا لَا يَمْتَنِعُ الْمَشْيُ فِيهَا بِالْحُزُونَةِ ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: فِي جِبَالِهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي آكَامِهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي طُرُقِهَا وَفِجَاجِهَا. قَالَ الْحَسَنُ: فِي سُبُلِهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فِي أَطْرَافِهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي نَوَاحِيهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي جَوَانِبِهَا (٢) وَالْأَصْلُ فِي الْكَلِمَةِ الْجَانِبُ، وَمِنْهُ مَنْكِبُ الرَّجُلِ وَالرِّيحُ النَّكْبَاءُ وَتَنَكَّبَ فُلَانٌ [أَيْ جَانَبَ] (٣) ﴿وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ مِمَّا خَلَقَهُ رِزْقًا لَكُمْ فِي الْأَرْضِ. ﴿وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ أَيْ: وَإِلَيْهِ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ. ثُمَّ خَوَّفَ الْكُفَّارَ فَقَالَ: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ: عَذَابَ مَنْ فِي السَّمَاءِ إِنْ عَصَيْتُمُوهُ ﴿أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ قَالَ الْحَسَنُ: تَتَحَرَّكُ بِأَهْلِهَا. وَقِيلَ: تَهْوِي بِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحَرِّكُ الْأَرْضَ عِنْدَ الْخَسْفِ بِهِمْ حَتَّى تُلْقِيَهُمْ إِلَى أَسْفَلَ، تَعْلُو عَلَيْهِمْ وَتَمُرُّ فَوْقَهُمْ. يُقَالُ: مَارَ يَمُورُ، أَيْ: جَاءَ وَذَهَبَ.
(٢) معاني القرآن للفراء: ٣ / ١٧١.
(٣) ما بين القوسين ساقط من "أ".
﴿أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ رِيحًا ذَاتَ حِجَارَةٍ كَمَا فَعَلَ بِقَوْمِ لُوطٍ. ﴿فَسَتَعْلَمُونَ﴾ فِي الْآخِرَةِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ ﴿كَيْفَ نَذِيرِ﴾ أَيْ إِنْذَارِي إِذَا عَايَنْتُمُ الْعَذَابَ.
﴿وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ يَعْنِي كُفَّارَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ أَيْ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ.
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ﴾ تَصُفُّ أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ ﴿وَيَقْبِضْنَ﴾ أَجْنِحَتَهَا بَعْدَ الْبَسْطِ ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ﴾ فِي حَالِ الْقَبْضِ [وَالْبَسْطِ] (١) أَنْ يَسْقُطْنَ ﴿إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾
﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ﴾ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مَنَعَةٌ لَكُمْ ﴿يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ﴾ يَمْنَعُكُمْ مِنْ عَذَابِهِ وَيَدْفَعُ عَنْكُمْ مَا أَرَادَ بِكُمْ. ﴿إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ﴾ أَيْ فِي غُرُورٍ مِنَ الشَّيْطَانِ يَغُرُّهُمْ بِأَنَّ الْعَذَابَ لَا يَنْزِلُ بِهِمْ.
﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ﴾ أَيْ مِنَ الَّذِي يَرْزُقُكُمُ الْمَطَرَ إِنْ أَمْسَكَ اللَّهُ [عَنْكُمْ] (٢) ﴿بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ﴾ تَمَادٍ فِي الضَّلَالِ ﴿وَنُفُورٍ﴾ تَبَاعُدٍ مِنَ الْحَقِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُفُورٍ. ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلًا فَقَالَ: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ﴾ رَاكِبًا رَأْسَهُ فِي الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ أَعْمَى الْقَلْبِ وَالْعَيْنِ لَا يُبْصِرُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَهُوَ الْكَافِرُ. قَالَ قَتَادَةُ: أكبَّ على ١٧٠/ب الْمَعَاصِي فِي الدُّنْيَا فَحَشَرَهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ
(٢) في "ب" عليكم.
﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) ﴾
﴿قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَشْكُرُونَ رَبَّ هَذِهِ النِّعَمِ. ﴿قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ، عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ﴾ يَعْنِي: الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ -عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ -وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْعَذَابَ بِبَدْرٍ ﴿زُلْفَةً﴾ أَيْ قَرِيبًا وَهُوَ [اسْمٌ يُوصَفُ بِهِ الْمَصْدَرُ يَسْتَوِي فِيهِ] (١) الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ [وَالْجَمِيعُ] (٢) ﴿سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ اسْوَدَّتْ وَعَلَيْهَا كَآبَةٌ، وَالْمَعْنَى قُبِّحَتْ وُجُوهُهُمْ بِالسَّوَادِ، يُقَالُ: سَاءَ الشَّيْءُ يَسُوءُ فَهُوَ سَيِّئٌ إذا قبح، وسيئ يُسَاءُ إِذَا قُبِّحَ ﴿وَقِيلَ﴾ لَهَا أَيْ قَالَ الْخَزَنَةُ ﴿هَذَا﴾ أَيْ هَذَا الْعَذَابُ ﴿الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ﴾ تَفْتَعِلُونَ مِنَ الدُّعَاءِ تَدَّعُونَ وَتَتَمَنَّوْنَ أَنَّهُ يُعَجَّلُ لَكُمْ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ تَدْعُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ قَتَادَةَ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ مِثْلُ تَذْكُرُونَ وَتَذَكَّرُونَ.
﴿قُلْ﴾ يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ الَّذِينَ يَتَمَنَّوْنَ [هَلَاكَكَ] (٣) ﴿أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ﴾ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿أَوْ رَحِمَنَا﴾ فَأَبْقَانَا وَأَخَّرَ آجَالنَا ﴿فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ فَإِنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ فَعَذَّبَنِي وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَغَفَرَ لَنَا فَنَحْنُ -مَعَ إِيمَانِنَا -خَائِفُونَ أَنْ يُهْلِكَنَا بِذُنُوبِنَا لِأَنَّ حُكْمَهُ نَافِذٌ فِينَا فَمَنْ يُجِيرُكُمْ وَيَمْنَعُكُمْ مِنْ عَذَابِهِ وَأَنْتُمْ كَافِرُونَ؟ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
(٢) في "ب" والجمع.
(٣) في "أ" هلاكهم. والصحيح ما أثبت من "ب".
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (٣٠) ﴾
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا﴾ غَائِرًا ذَاهِبًا فِي الْأَرْضِ لَا تَنَالُهُ الْأَيْدِي وَالدِّلَاءُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي مَاءَ زَمْزَمٍ ﴿فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ ظَاهِرٍ تَرَاهُ الْعُيُونُ وَتَنَالُهُ [الْأَيْدِي] (١) وَالدِّلَاءُ. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَعِينٍ أَيْ جَارٍ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْفَارِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْبَزَّازُ، حَدَّثَنَا [مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى] (٢) حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبَّاسٍ الْجُشَمِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ سُورَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا هِيَ إِلَّا ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرِجْلٍ فَأَخْرَجَتْهُ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ، وَهِيَ سُورَةُ تَبَارَكَ" (٣).
(٢) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(٣) أخرجه أبو داود في الصلاة (أبواب قراءة القرآن) باب في عدد الآي: ٢ / ١١٦، والترمذي في فضائل القرآن، باب ما جاء في سورة الملك: ٨ / ٢٠٠-٢٠١ وقال: "هذا حديث حسن" والنسائي في التفسير: ٢ / ٤٥٤، وابن ماجه في الأدب، باب ثواب القرآن برقم: (٣٧٨٦) ٢ / ١٢٤٤، وعبد بن حميد في المنتخب ص (٤٢١). وروى له الطبراني شاهدا في "الصغير" و"الأوسط" عن أنس ورجاله رجال الصحيح: انظر: مجمع الزوائد: ٧ / ١٢٧. قال المنذري: وقد ذكره البخاري في التاريخ الكبير من رواية عباس الجشمي عن أبي هريرة كما أخرجه أبو داود ومن ذكره معه. وقال: لم يذكر سماعا من أبي هريرة، يريد أن عباسا الجشمي روى هذا الحديث عن أبي هريرة ولم يذكر فيه أنه سمعه من أبي هريرة.