تفسير سورة الملك

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الملك من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية، وتسمى : الواقية والمنجية، وتدعى في التوراة المانعة لأنها تقي وتنجي من عذاب القبر، وعن ابن شهاب أنه كان يسميها المجادلة لأنها تجادل عن صاحبها في القبر. وهي ثلاثون آية، وثلاثمائة وثلاثون كلمة، وألف وثلاثمائة حرف.
﴿ بسم الله ﴾ الذي خضعت لكمال عظمته الملوك، ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ بنعمة الإيجاد كل من في الوجود، ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أولياءه بالنعيم بدار الخلود.

﴿ تبارك ﴾، أي : تكبر وتقدس وتعالى وتعاظم، وثبت ثباتاً لا مثل له مع اليمن والبركة. وقيل : دام فهو الدائم الذي لا أول لوجوده، ولا آخر لدوامه. ﴿ الذي بيده ﴾ أي : بقدرته وتصرفه لا بقدرة غيره ﴿ الملك ﴾، أي : له الأمر والنهي، وملك السماوات في الدنيا والآخرة. وقال ابن عباس : بيده الملك يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع. قال الرازي : وهذه الكلمة تستعمل لتأكيد كونه تعالى ملكاً ومالكاً، كما يقال : بيد فلان الأمر والنهي والحل والعقد. وذكر اليد إنما هو تصوير للإحاطة ولتمام القدرة ؛ لأنها محلها مع التنزه عن الجارحة، وعن كل ما يفهم حاجة أو شبهها ﴿ وهو على كل شيء ﴾، أي : من الممكنات ﴿ قدير ﴾ أي : تام القدرة.
تنبيه : احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا يؤثر إلا قدرة الله تعالى، وأبطلوا القول بالطبائع كقول الفلاسفة، وأبطلوا القول بالتولدات كقول المعتزلة، وأبطلوا القول بكون العبد موجداً لأفعال نفسه، لقوله تعالى :﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾. ودلت هذه الآية على الوحدانية، لأنا لو قدرنا إلهاً ثانياً، فإمّا أن يقدر على إيجاد شيء أو لا، فإن لم يقدر على إيجاد شيء، لم يكن إلهاً، وإن قدر كان مقدور ذلك الإله الثاني شيئاً، فيلزم كون ذلك الشيء مقدوراً للإله الأول لقوله :﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾، فيلزم وقوع مخلوق من خالقين وإنه محال، لأنه إذا كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد، يلزم أن يستغني كل واحد منهما عن كل واحد منهما، فيكون محتاجاً إليهما وغنياً عنهما وذلك محال. وقرأ :﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾ ﴿ وهو العزيز الغفور ﴾ ﴿ وهو اللطيف ﴾ وما أشبه ذلك أبو عمرو وقالون والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها، وخرج بقولنا من الممكنات أنه تعالى ليس قادراً على نفسه، وأجاب بعضهم بأن هذا عام مخصوص.
ودل على تمام قدرته قوله تعالى :﴿ الذي خلق ﴾ أي : قدر وأوجد ﴿ الموت والحياة ﴾ قيل : خلق الموت في الدنيا والحياة في الآخرة، وقدم الموت على الحياة، لأنّ الموت إلى القهر أقرب، كما قدم البنات على البنين فقال :﴿ يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ﴾ [ الشورى : ٤٩ ] وقيل : قدمه لأنه أقدم، لأنّ الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت، كالنطف والتراب ونحوه. وقال قتادة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«إن الله أذل بني آدم بالموت وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء » وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لولا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه، الفقر والمرض والموت » وقيل : إنما قدم الموت على الحياة، لأن من نصب الموت بين عينيه كان أقوى الدواعي إلى العمل، وحكي عن ابن عباس والكلبي ومقاتل أنّ الموت والحياة جسمان، والموت في هيئة كبش، لا يمر بشيء ولا يجد ريحه إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء، وهي التي كان جبريل عليه السلام والأنبياء عليهم السلام يركبونها، خطوتها مدّ البصر فوق الحمار ودون البغل، لا تمر بشيء ولا يجد ريحها إلا حيي، ولا تطأ على شيء إلا حيي، وهي التي أخذ السامري من أثرها فألقاه على العجل فحيي، حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس.
وعن مقاتل :﴿ خلق الموت ﴾ يعني : النطفة والعلقة والمضغة، وخلق الحياة يعني : خلق إنساناً فنفخ فيه الروح فصار إنساناً. قال القرطبي : وهذا حسن يدل عليه قوله تعالى :﴿ ليبلوكم ﴾ أي : يعاملكم وهو أعلم بكم من أنفسكم معاملة المختبر، لإظهار ما عندكم من العمل بالاختبار ﴿ أيكم أحسن عملاً ﴾ أي : من جهة العمل، أي : عمله أحسن من عمل غيره، وروي عن عمر مرفوعاً :«أحسن عملاً أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله » وقال الفضيل بن عياض : أحسن عملاً، أخلصه وأصوبه. وقال : العمل لا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، فالخالص إذا كان لله، والصواب إذا كان على السنة. وقال الحسن : أيكم أزهد في الدنيا وأترك لها، وقال السدي : أيكم أكثر للموت ذكراً وأحسن استعداداً وأشد خوفاً وحذراً. وقيل : يعاملكم معاملة المختبر، فيبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره، وبالحياة ليبين شكره. وقيل : خلق الله تعالى الموت للبعث والجزاء، وخلق الله الحياة للابتلاء.
فإن قيل : الابتلاء هو التجربة والامتحان حتى يعلم أنه هل يطيع أو يعصي، وذلك في حق الله تعالى العالم بجميع الأشياء محال. أجيب : بأن الابتلاء من الله تعالى هو أن يعامل عبده معاملة تشبه المختبر كما مرّت الإشارة إليه.
﴿ وهو ﴾ أي : والحال أنه وحده ﴿ العزيز ﴾ أي : الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء. ﴿ الغفور ﴾ أي : الذي مع ذلك يفعل في محو الذنوب عيناً وأثراً فعل المبالغ في ذلك، ويتلقى من أقبل إليه أحسن تلق، كما قال تعالى في الحديث القدسي :«ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ».
وقوله تعالى :﴿ الذي خلق ﴾، أي : أبدع على هذا التقدير من غير مثال سبق ﴿ سبع سماوات ﴾ يجوز أن يكون تابعاً للعزيز الغفور نعتاً أو بياناً أو بدلاً، وأن يكون منقطعاً عنه خبر مبتدأ محذوف أو مفعول فعل مقدر. وقوله تعالى :﴿ طباقاً ﴾ صفة لسبع وفيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه جمع طبق نحو جبل وجبال. والثاني : أنه جمع طبقة نحو : رحبة ورحاب، والثالث : أنه مصدر طابق، يقال : طابق مطابقة وطباقاً. ثم إما أن يجعل نفس المصدر مبالغة وإما على حذف مضاف، أي : ذات طباق وإما أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر، أي : طوبقت طباقاً من قولهم : طابق النعل، أي : جعله طبقة فوق طبقة أخرى. وروي عن ابن عباس : طباقاً أي : بعضها فوق بعض، قال البقاعي : بحيث يكون كل جزء منها مطابقاً لجزء من الأخرى ولا يكون جزء منها خارجاً عن ذلك قال : وهي لا تكون كذلك إلا أن تكون الأرض كرة والسماء الدنيا محيطة بها إحاطة قشر البيضة من جميع الجوانب، والثانية : محيطة بالدنيا وهكذا إلى أن يكون العرش محيطاً بالكلّ.
والكرسي الذي هو أقربها بالنسبة إليه كحلقة ملقاة في فلاة فما ظنك بما تحته ؟ وكل سماء في التي فوقها بهذه النسبة، وقد قرر أهل الهيئة أنها كذلك وليس في الشرع ما يخالفه بل ظواهره توافقه ولاسيما التشبيه بالحلقة الملقاة في فلاة، فسبحان اللطيف الخبير، ولا شك أن من تفكر في هذه العظمة مع ما لطف بنا فيما هيأ فيها لنا من المنافع، آثره سبحانه بالحب وأفرده عن كل ضد، فانقطع باللجأ إليه ولم يعول إلا عليه في كل دفع ونفع، وسارع في مرضاته ومحابه في كل خفض ورفع.
تنبيه : دلت هذه الآية على القدرة من وجوه : أحدها : من حيث بقاؤها في جو الهواء معلقة بلا عماد ولا سلسلة. ثانيها : أنّ كلاً منها اختص بحركة خاصة متقدرة بقدر معين من السرعة والبطء إلى جهة معنية. ثالثها : كونها في ذاتها محدثة وكل ذلك يدل على إسنادها إلى قادر تام القدرة.
وقوله تعالى :﴿ ما ترى في خلق الرحمن ﴾ أي : للسماوات ولغيرها خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل مخاطب، وكذا القول في قوله تعالى :﴿ فارجع البصر ﴾ ﴿ ثم ارجع البصر ﴾ ﴿ ينقلب إليك البصر ﴾ ﴿ من تفاوت ﴾، أي : من اعوجاج ولا تناقض ولا تباين، بل هي مستقيمة مستوية دالة على خالقها وإن اختلفت صورها، وقيل : المراد بذلك السماوات خاصة، أي : ما ترى في خلق السماوات من عيب وأصله من الفوت وهو : أن يفوت بعضها بعضاً فيقع الخلل لعدم استوائها، يدل عليه قول ابن عباس : من تفرّق، وقال السدي : أي من اختلاف وعيب يقول الناظر : لو كان كذا لكان أحسن، وقيل : المراد من التفاوت الفطور لقوله تعالى بعد ذلك :﴿ فارجع البصر هل ترى من فطور ﴾ ونظيره قوله تعالى :﴿ وما لها من فروج ﴾ [ ق : ٦ ] قال القفال : ويحتمل أن يكون المعنى : ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت في الدلالة على حكم الصانع وأنه لم يخلقها عبثاً.
تنبيه : دلت هذه الآية على كمال علم الله تعالى، وذلك أن الحس دل على أن هذه السماوات السبع أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان، وكل فاعل كان فعله محكماً متقناً فلا بدّ وأن يكون عالما، فدلت الآية على كونه تعالى عالماً بالمعلومات فقوله تعالى :﴿ ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ﴾ إشارة إلى كونها محكمة متقنة.
وقرأ :﴿ ما ترى ﴾ و﴿ هل ترى ﴾ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بين بين، والباقون بالفتح، وأدغم لام هل في التاء أبو عمرو وهشام وحمزة والكسائي، وقرأ من تفوت حمزة والكسائي بغير ألف بعد الفاء وتشديد الواو، والباقون بألف بعد الفاء وتخفيف الواو.
وقوله تعالى :﴿ فارجع البصر ﴾ مسبب عن قوله تعالى :﴿ ما ترى ﴾ وقوله تعالى :﴿ هل ترى من فطور ﴾ جملة يجوز أن تكون معلقة لفعل محذوف يدل عليه فارجع البصر، أي : فارجع البصر فانظر هل ترى، وأن يكون فارجع البصر مضمناً معنى انظر لأنه بمعناه فيكون هو المعلق.
والفطور جمع فطر وهو الشق، يقال : فطره فانفطر، ومنه فطر ناب البعير كما يقال : شق ومعناه شق اللحم وطلع، قال المفسرون : الفطور : الصدوع والشقوق قال القائل :
شققت القلب ثم دررت فيه هواك فليط فالتام الفطور
﴿ ثم ارجع البصر ﴾ وقوله تعالى :﴿ كرتين ﴾ نصب على المصدر كمرتين وهو مثنى لا يراد به حقيقته بل التكثير بدليل قوله تعالى :﴿ ينقلب إليك البصر خاسئاً ﴾، أي : صاغراً ذليلاً بعيداً عن إصابة المطلوب كأنه طرد عنه طرداً بالصغار ﴿ وهو حسير ﴾، أي : كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتين ولا ثلاث، وإنما المعنى : كرات، وهذا كقولهم : لبيك وسعديك وحنانيك ودواليك وهذاذيك ؛ لا يريدون بهذه التثنية تشفيع الواحد إنما يريدون التكثير، أي : إجابة لك بعد إجابة وإلا لتناقض الغرض، والتثنية تفيد التكثير لقرينة كما يفيده أصلها وهو العطف لقرينة كقوله :
لو عدّ قبر وقبر كنت أكرمه ***
أي : قبور كثيرة ليتم المدح، وقال ابن عطية : كرتين معناه مرتين ونصبهما على المصدر. وقيل : الأولى : ليرى حسنها واستواءها، والثانية : ليبصر كواكبها في مسيرها وانتهائها، وهذا بظاهره يفهم التثنية فقط، وروى البغوي عن كعب أنه قال : السماء الدنيا موج مكفوف، والثانية : مرمرة بيضاء، والثالثة : حديد، والرابعة : صفر أو قال : نحاس، والخامسة : فضة، والسادسة : ذهب، والسابعة : ياقوتة حمراء، وبين السماء السابعة والحجب السبعة صحارى من نور.
ثم ذكر تعالى دلالة أخرى بعد تلك الدلالة تدل على تمام قدرته بقوله تعالى :﴿ ولقد زينا ﴾ بما لنا من العظمة ﴿ السماء الدنيا ﴾ أي : القربى لأنها أقرب السماوات إلى الأرض وهي التي تشاهدونها ﴿ بمصابيح ﴾جمع مصباح وهو السراج أي : بنجوم متقدة عظيمة جداً تفوت الحصر، ظاهرة سائرة مضيئة ظاهرة زاهرة، وهي الكواكب التي تنوّر الأرض بالليل إنارة السرج التي تنوّرون بها سقوف دوركم، وسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها، وزينة لأن الناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح، فكأنه قال : ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح، والتزين بها لا يمنع أن تكون مركوزة فيما فوقها من السماوات، وهي تتراءى بحسب الشفوف، وبما لأجرام السماوات من الصفاء، ولتلك المصابيح من شدة الإضاءة.
﴿ وجعلناها ﴾ أي : المصابيح بما لنا من العظمة مع كونها زينة وإعلاماً للهداية ﴿ رجوماً للشياطين ﴾ أي : الذين يحق لهم الطرد من الجن، لما لهم من الاحتراق حراسة للسماء التي هي محل تنزل أمرنا بالقضاء والقدر، وإنزال هذا الذكر الحكيم، لئلا يفسدوا باستراق السمع فيها على الناس دينهم الحق ويلبسوا عليهم أمرهم بخلط الحق الذي قد ختمنا به الأديان بالباطل.
والرجوم جمع رجم، وهو مصدر في الأصل أطلق على المرجوم به كضرب الأمير، ويجوز أن يكون باقياً على مصدرتيه، ويقدر مضاف، أي : ذات رجوم، وجمع المصدر باعتبار أنواعه، والشهاب المرجوم به منفصل من نار الكوكب وهو قارّ في فلكه على حاله، كقبس النار يؤخذ منها وهي باقية لا تنقص، وذلك مسوغ لتسميتها بالنجوم، فمن لحقه الشهاب منهم قتله أو ضعضع أمره وخبله، وقال أبو علي جواباً لمن قال : كيف تكون زينة وهي رجوم ؟ : لا تنفي كيفية الرجم أن يؤخذ نار من ضوء الكوكب يرمى بها الشيطان والكوكب في مكانه لا يرجم به، وقيل : الرجوم هنا الظنون، والشياطين شياطين الإنس كما قال القائل :
وما هو عنها بالحديث المرجم ***
فيكون المعنى : جعلناها ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس، وهم المنجمون يتكلمون بها رجماً بالغيب في أشياء من عظيم الابتلاء، وعن قتادة : خلقت النجوم لثلاث : زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وتكلف ما لا علم له به وتعدى وظلم.
﴿ وأعتدنا ﴾ أي : هيأنا في الآخرة مع هذا الذي في الدنيا بما لنا من العظمة ﴿ لهم ﴾ أي : للشياطين ﴿ عذاب السعير ﴾ أي : التي في غاية الاتقاد في الآخرة قال المبرد : سعرت النار فهي مسعورة وسعير، مثل مقتولة وقتيل، وهذه الآية تدل على أن النار مخلوقة الآن، لأن قوله تعالى :﴿ وأعتدنا لهم ﴾ خبر عن الماضي.
ولما أخبر تعالى عن تهيئة العذاب لهم بالخصوص، أخبر عن تهيئته لكل عامل بأعمالهم على وجه اندرجوا هم فيه، فقال عز من قائل :﴿ وللذين كفروا ﴾ أي : أوقعوا التغطية لما من حقه أن يظهر ويشهر من الإذعان للإله، ﴿ بربهم ﴾ أي : الذي تفرد بإيجادهم والإحسان إليهم، فأنكروا إيجاده لهم بعد الموت كفراً بما شاهدوا من اختراعه لهم من العدم. ﴿ عذاب جهنم ﴾ أي : الدركة النارية التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والغضب ﴿ وبئس المصير ﴾ أي : هي.
﴿ إذا ألقوا ﴾ أي : طرح الكفار ﴿ فيها ﴾ أي : في نار جهنم من أيّ طارح أمرناه بطرحهم كما يطرح الحطب في النار العظيمة، ﴿ سمعوا لها ﴾ أي : جهنم نفسها ﴿ شهيقاً ﴾ أي : صوتاً هائلاً أشد نكارة من أول صوت الحمار، لشدة توقدها وغليانها، قال ابن عباس : الشهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها كشهيق البغلة للشعير، أو لأهلها على حذف مضاف كما قال عطاء : الشهيق للكفار، أي : سمعوا من أنفسهم شهيقاً كقوله تعالى :﴿ لهم فيها زفير وشهيق ﴾ [ هود : ١٠٦ ] قال القرطبي : الشهيق في الصدر، والزفير في الحلق، وقد مضى في سورة هود. ﴿ وهي تفور ﴾ أي : تغلي بهم ومنه قول حسان :
تركتم قدركم لا شيء فيها وقدر القوم حامية تفور
قال ابن عباس : تغلي بهم كغلي المراجل، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بكسرها.
﴿ تكاد تميز ﴾ أي : تقرب من أن ينفصل بعضها من بعض كما يقال : يكاد فلان ينشق من غيظه، وفلان غضب فطارت شقة منه في الأرض وشقة في السماء، كناية عن شدة الغضب. وقرأ البزي بتشديد التاء من تميز في الوصل، والسوسي على أصله بإدغام الدال في التاء ﴿ من الغيظ ﴾ أي : عليهم، وقال سعيد بن جبير :﴿ تكاد تميز من الغيظ ﴾ يعني : ينقطع وينفصل بعضها من بعض، وقال ابن عباس : تتمزق من شدة الغيظ على أعداء الله تعالى، وذلك كله لغضب سيدها. وتأتي يوم القيامة تقاد إلى المحشر بألف زمام، لكل زمام سبعون ألف ملك يقودونها به، وهي من شدة الغيظ تقوى على الملائكة وتحمل على الناس، فتقطع الأزمة جميعاً وتحطم أهل المحشر، فلا يردها عنهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم يقابلها بنوره فترجع، مع أن لكل ملك من القوة ما لو أمر أن يقلع الأرض وما عليها من الجبال ويصعد بها في الجو فعل من غير كلفة، وهذا كما أطفأها في الدنيا بنفخه، روى أبو داود عن ابن عمر أنه قال :«انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر صلاته إلى أن قال : ثم نفخ في آخر سجوده فقال : أف أف ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم، ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون ».
ولما ذكر تعالى حالها أتبعه حالهم فقال تعالى :﴿ كلما ألقي فيها ﴾ أي : في جهنم بدفع الزبانية لهم﴿ فوج ﴾ أي : جماعة في غاية الإسراع، والأفواج الجماعات في تفرقة، ومنه قوله تعالى :﴿ فتأتون أفواجاً ﴾ [ النبأ : ١٨ ] والمراد هنا بالفوج جماعة من الكفار ﴿ سألهم ﴾ أي : ذلك الفوج ﴿ خزنتها ﴾ أي : النار، وهم مالك وأعوانه، سؤال توبيخ وتقريع ﴿ ألم يأتكم ﴾ أي : في الدنيا ﴿ نذير ﴾ أي : رسول يخوفكم هذا اليوم حتى تحذروا. قال الزجاج : وهذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب.
﴿ قالوا بلى ﴾ قرأه حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح والوقف عليها كما في الوصل ﴿ قد جاءنا نذير ﴾ أي : محذر بليغ التحذير.
تنبيه : في ذلك دليل على جواز الجمع بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها، إذ لو قالوا : بلى لفهم المعنى، ولكنهم أظهروه تحسراً وزيادة في نقمتهم على تفريطهم في قبول قول النذير، وليعطفوا عليه قولهم ﴿ فكذبنا ﴾ أي : فتسبب عن مجيئه أنا أوقعنا التكذيب بكل ما قاله النذير ﴿ وقلنا ﴾ أي : زيادة في التكذيب ﴿ ما نزل الله ﴾ أي : الذي له الكمال كله، عليكم ولا على غيركم، ﴿ من شيء ﴾ لا وحياً ولا غيره، وما كفانا هذا الفجور حتى قلنا مؤكدين :﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ أنتم ﴾ أي : أيها النذر المذكورون في نذير، المراد به الجنس ﴿ إلا في ضلال ﴾ أي : بعد عن الطريق ﴿ كبير ﴾، فبالغنا في التكذيب والسفه بالاستجهال والاستخفاف. وقيل : قوله تعالى :﴿ إن أنتم إلا في ضلال كبير ﴾ من كلام الملائكة للكفار حين أخبروا بالتكذيب.
﴿ وقالوا ﴾ أي : الكفار زيادة في توبيخ أنفسهم ﴿ لو كنا ﴾ أي : بما لنا من الغريزة ﴿ نسمع ﴾ أي : كلام الرسل فنقبله جملة من غير بحث وتفتيش، اعتماداً على ما لاح من صدقهم بالمعجزات، ﴿ أو نعقل ﴾ أي : بما أدته إلينا حاسة السمع، فنفكر في حكمه ومعانيه تفكر المستبصرين ﴿ ما كنا ﴾ أي : كونا دائماً ﴿ في أصحاب السعير ﴾ أي : في عداد من أعدت له النار التي هي في غاية الإيقاد.
تنبيه : في الآية أعظم فضيلة للعقل، روي عن أبي سعيد الخدري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :«لكل شيء دعامة ودعامة المؤمن عقله، فبقدر عقله تكون عبادته، أما سمعتم قول الفجار :﴿ لو كنا نسمع أو نعقل ﴾ » الآية
﴿ فاعترفوا ﴾ أي : بالغوا في الاعتراف حيث لا ينفعهم الاعتراف ﴿ بذنبهم ﴾ أي : في دار الجزاء كما بالغوا في التكذيب في دار العمل، والذنب لم يجمع لأنه في الأصل مصدر، والمراد به تكذيب الرسل، ﴿ فسحقاً ﴾ أي : فبعداً لهم من رحمة الله تعالى، وهو دعاء عليهم مستجاب، ﴿ لأصحاب السعير ﴾ أي : الذين قضت عليهم أعمالهم بملازمتها، وقال سعيد بن جبير وأبو صالح : هو واد في جهنم يقال : له السحق، وقرأ الكسائي بضم الحاء والباقون بسكونها.
ولما ذكر أصحاب السعير أتبعهم ذكر أضدادهم بقوله تعالى :﴿ إن الذين يخشون ﴾ أي : يخافون ﴿ ربهم ﴾ أي : المحسن إليهم، خوفاّ أرق قلوبهم وأرق أعينهم، بحيث لا يقر لهم قرار من توقعهم العقوبة، كلما ازدادوا طاعة ازدادوا خشية، ﴿ والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ﴾ [ المؤمنون : ٦٠ ]. ﴿ بالغيب ﴾ أي : حال كونهم غائبين عن عذابه سبحانه، أو وعيده غائباً عنهم، أو وهم غائبون عن أعين الناس، فهم مع الناس يتكلمون وقلوبهم تتلظى بنيران الخوف وتتكلم بسيوف الهيبة، فيتركون المعصية حيث لا يراهم أحد من الناس، ولا يكون لهم هذا إلا برياضة عظيمة. فعلى العاقل أن يطوع نفسه لترجع مطمئنة بأن ترضى بالله رباً لتدخل في رق العبودية، وبالإسلام ديناً ليصير غريقاً فيها، فلا ينازع الملك في ردائه الكبرياء، وإزاره العظمة، وتاجه الجلال، وحلته الجمال، ولا ينازعه فيما يدبره من الشرائع، ويظهره من المعارف، ويحكم به على عبيده من قضائه وقدره. ﴿ لهم مغفرة ﴾ أي : عظيمة تأتي على جميع ذنوبهم، ﴿ وأجر ﴾ أي : من فضل الله تعالى ﴿ كبير ﴾ يكون لهم به من الإكرام ما ينسيهم ما قاسوه في الدنيا من شدائد الإيلام، ويصغر في جنبه لذائذ الدنيا العظام.
﴿ وأسروا ﴾ أي : أيها الخلائق ﴿ قولكم ﴾ أي : خيراً كان أو شراً ﴿ أو اجهروا به ﴾ فإنه يعلمه ويجازيكم به، اللفظ لفظ الأمر، والمراد به الخبر، يعني : إن أخفيتم كلامكم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أو غيره، أو جهرتم به فسواء، ﴿ إنه ﴾ أي : ربكم ﴿ عليم ﴾ أي : بالغ العلم ﴿ بذات الصدور ﴾ أي : بحقيقتها وكنهها، وحالها وجبلتها، وما يحدث عنها من الخير والشر، وقال ابن عباس :«نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبي صلى الله عليه وسلم، فيخبره جبريل عليه السلام، فقال بعضهم لبعض : أسروا قولكم كي لا يسمع رب محمد ». فأسروا قولكم أو اجهروا به يعني : وأسروا قولكم في محمد صلى الله عليه وسلم، وقال غيره : إنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال، والمراد أن قولكم وعملكم على أيّ سبيل وجد، فالحال واحد في علمه تعالى، فاحذروا من المعاصي سراً، كما تحذرون عنها جهراً، فإنّ ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم الله تعالى.
ولما قال تعالى :﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ ذكر الدليل على أنه عالم فقال تعالى :﴿ ألا يعلم من خلق ﴾ أي : من خلق لا بدّ وأن يكون عالماً بما خلقه، لأن الخلق هو الإيجاد والتكوين على سبيل القصد، والقاصد إلى الشيء لابد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق كيفية وكمية. والمعنى : ألا يعلم السر من خلق السر، يقول : أنا خلقت السر في القلب، أفلا أكون عالماً بما في قلوب العباد. قال أهل المعاني : إن شئت جعلته من أسماء الخالق تعالى، ويكون المعنى : ألا يعلم الخالق خلقه، وإن شئت جعلته من أسماء المخلوق والمعنى : ألا يعلم الله من خلقه، ولا بد أن يكون الخالق عالماً بما خلقه وما يخلقه. قال ابن المسيب : بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير وقد عصفت الريح، فوقع في نفس الرجل أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق، فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم، ألا يعلم من خلق ﴿ وهو ﴾ أي : والحال أنه هو ﴿ اللطيف ﴾ الذي يعلم ما بثه في القلوب، ﴿ الخبير ﴾ أي : البالغ العلم بالظواهر والبواطن، فكيف يخفى عليه شيء من الأشياء.
وقال أبو إسحاق الاسفرايني : من أسماء صفات الذات ما هو للعلم منها العليم، ومعناه تعميم جميع المعلومات، ومنها الحكيم، ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف، ومنها الشهيد، ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر، ومعناه : أن لا يغيب عنه شيء، ومنها الحافظ، ويختص بأنه لا ينسى شيئاً، ومنها المحصي، ويختص بأنه لا يشغله الكثرة عن العلم، مثل ضوء النور، واشتداد الريح، وتساقط الأوراق، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق، وقد قال :﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ﴾.
ولما كان هذا أمراً غامضاً دل عليه بأمر مشاهد أبدعه بلطفه، وأتقنه بخبره، فقال مستأنفاً :﴿ هو ﴾ أي : وحده ﴿ الذي جعل لكم الأرض ﴾ على سعتها وعظمتها وحزونة كثير منها ﴿ ذلولاً ﴾ أي : مسخرة لا تمتنع لتتوصلوا إلى منافعكم فيها، قابلة للانقياد لما تريدون منها، من مشي وزرع حبوب وغرس أشجار وغير ذلك، وقيل : ثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها، ولو كانت متمايلة لما كانت منقادة لنا، وقيل : لو كانت مثل الذهب والحديد لكانت تسخن جداً في الصيف، وتبرد جداً في الشتاء.
تنبيه : في ذكر هذه الآية بعد الآية المتقدمة تهديد للكفرة، كقول السيد لعبده الذي أساء إليه سراً : يا فلان أنا أعرف سرك وعلانيتك، فاجلس في هذه الدار التي وهبتها لك، وكل هذا الخبز الذي هيأته لك، ولا تأمن مكري وتأديبي، فكأنه تعالى يقول : يا أيها الكفار أنا عالم بسركم وجهركم وضمائركم، فخافوني، فإن الأرض التي هي قراركم أنا ذللتها لكم، ولو شئت خسفت بكم.
وقوله تعالى :﴿ فامشوا ﴾، أي : الهوينا مكتسبين وغير مكتسبين إن شئتم، من غير صعوبة توجب لكم وثوباً أو حبواً. ﴿ في مناكبها ﴾ مثل لفرط التذلل ومجاوزته الغاية، لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير، وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك شيئاً، وهذا أمر إباحة، وفيه إظهار الامتنان. وقيل : خبر بلفظ الأمر، أي : لكي تمشوا في أطرافها ونواحيها، وآكامها وجبالها، وقال ابن عباس وبشير بن كعب وقتادة : في مناكبها في جبالها، وتذليلها أدل على تذليل غيرها، وليكن مشيكم فيها وتصرفاتكم بذل وإخبات وسكون، استصغاراً لأنفسكم، وشكراً لمن سخر لكم ذلك، وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها : إن أخبرتني ما مناكب الأرض فأنت حرة، فقالت : مناكبها جبالها، فقال لها : صرت حرة، فأراد أن يتزوجها فسأل أبا الدرداء فقال :«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » وقال مجاهد : في أطرافها، وعنه أيضاً في طرقها وفجاجها، وهو قول السدي والحسن، وقال الكلبي : في جوانبها، ومنكبا الرجل جانباه.
فائدة : حكى قتادة عن أبي الخلدان : الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ، للسودان اثنا عشر ألف، وللروم ثمانية آلاف، وللفرس ثلاثة آلاف، وللعرب ألف.
ثم ذكرهم تعالى بأنه سهلها لإخراج البركات بقوله تعالى :﴿ وكلوا ﴾ ودل على أن الرزق فوق الكفاية بقوله تعالى :﴿ من رزقه ﴾ الذي أودعه لكم فيها، قال الحسن : مما أحل لكم، وقيل : مما خلقه الله لكم رزقاً في الأرض ﴿ وإليه ﴾ أي : وحده ﴿ النشور ﴾ وهو إخراج جميع الحيوانات التي أكلتها الأرض وأفسدتها، يخرجها سبحانه في الوقت الذي يريده، على ما كان كل منها عليه عند الموت، كما أخرج تلك الأرزاق، لا فرق بين هذا وذاك، غير أنكم لا تتأملون، فيا فوز من شكر ويا هلاك من كفر، فعوّدوا أنفسكم بالخيرات لعلها تنقاد كما قيل :
هي النفس ما عودتها تتعود ***
ولما كان لم يكن بعد الاستعطاف إلا الإنذار، قال تعالى مهدداً للمكذبين :﴿ أأمنتم ﴾ قرأ قنبل في الوصل بإبدال الهمزة بعد راء النشور واواً، وسهل الهمزة الثانية نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بخلاف عنه، وحققها الباقون، وأدخل بينهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام، والباقون بغير إدخال، وقوله تعالى :﴿ من في السماء ﴾ فيه وجوه :
أحدها : من ملكوته في السماء، لأنها مسكن ملائكته، وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ، ومنها ينزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه.
والثاني : أن ذلك على حذف مضاف، أي : أأمنتم خالق من في السماء.
والثالث : أن في بمعنى على، أي : على السماء، كقوله :﴿ ولأصلبنكم في جذوع النخل ﴾ [ طه : ٧١ ] أي : على جذوع النخل، وإنما احتاج القائل بهذين الوجهين إلى ذلك، لأنه اعتقد أن من واقعة على الباري تعالى شأنه، وهو الظاهر، وثبت بالدليل القطعي أنه ليس بمتحيز لئلا يلزم التجسيم، ولا حاجة إلى ذلك، فإن من هنا المراد بها الملائكة سكان السماء، وهم الذين يتولون الرحمة والنقمة.
والرابع : أنهم خوطبوا بذلك على اعتقادهم، فإن القوم كانوا مجسمة مشبهة، وأنه في السماء، وأن الرحمة والعذاب نازلان منه، وكانوا يدعونه من جهتها، فقيل لهم على حسب اعتقادهم :﴿ أأمنتم من في السماء ﴾ أي : من تزعمون أنه في السماء. قال الرازي : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها بإجماع المسلمين، لأنّ ذلك يقتضي إحاطة السماء به من جميع الجوانب، فيكون أصغر منها، والعرش أكبر من السماء بكثير، فيكون حقيراً بالنسبة إلى العرش وهو باطل بالاتفاق، ولأنه تعالى قال :﴿ قل لمن ما في السماوات والأرض ﴾ [ الأنعام : ١٢ ] فلو كان فيها لكان مالكاً لنفسه، فالمعنى : إما من في السماء عذابه، وإما إن ذلك بحسب ما كانت العرب تعتقده، وإما من في السماء سلطانه وملكه وقدرته، كما قال تعالى :﴿ وهو الله في السماوات وفي الأرض ﴾ [ الأنعام : ٣ ] فإن الشيء الواحد لا يكون دفعة في مكانين، والغرض من ذكر السماء، تفخيم سلطان الله سبحانه وتعظيم قدرته، والمراد الملك الموكل بالعذاب، وهو جبريل عليه السلام.
وقوله تعالى :﴿ أن يخسف بكم الأرض ﴾ بدل من ﴿ من في السماء ﴾ بدل اشتمال، وقال القرطبي : يحتمل أن يكون المعنى : أأمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون، وقرأ :﴿ من في السماء أن ﴾ نافع وابن كثير وأبو عمرو بإبدال الهمزة الثانية المفتوحة بعد الكسرة ياء في الوصل والباقون بتحقيقهما ﴿ فإذا هي ﴾ أي : الأرض التي أنتم عليها ﴿ تمور ﴾ أي : تضطرب وهي تهوي بكم وتجري هابطة في الهواء، وتتكفأ إلى حيث شاء سبحانه، قال في «القاموس » : المور الاضطراب والجريان على وجه الأرض والتحرك، وقال الرازي : إن الله تعالى يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها يذهبون، والأرض فوقهم تمور فتقلبهم إلى أسفل السافلين.
وقال القرطبي : قال المحققون : أأمنتم من فوق السماء كقوله تعالى :﴿ فسيحوا في الأرض ﴾ [ التوبة : ٢ ]، أي : فوقها لا بالمماسة والتحيز، بل بالقهر والتدبير، والأخبار في هذا صحيحة كثيرة، منتشرة مشيرة إلى العلوّ، لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل أو معاند، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت، ووصفه بالعلوّ والعظمة، لا بالأماكن والجهات والحدود، لأنها صفات الأجسام، وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء، لأن السماء مهبط الوحي، ومنزل القطر، ومحل القدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، وإليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته، كما جعل الله تعالى الكعبة قبلة للصلاة، ولأنه تعالى خلق الأمكنة وهو غير متحيز، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان، ولا مكان له ولا زمان، وهو الآن على ما عليه كان.
وقوله تعالى :﴿ أم أمنتم ﴾ أي : أيها المكذبون ﴿ من في السماء أن يرسل ﴾ بدل من ﴿ من في السماء ﴾ بدل اشتمال. ﴿ عليكم ﴾ أي : من السماء ﴿ حاصباً ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي : حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل، وقيل : ريح فيها حجارة وحصباء، كأنها تقلع الحصباء لشدتها وقوتها، وقيل : هي سحاب فيها حجارة ﴿ فستعلمون ﴾ أي : عن قريب بوعد لا يخلف عند معاينة العذاب، ﴿ كيف نذير ﴾ أي : إنذاري البليغ إذا شاهدتم العذاب، وهو بحيث لا يستطاع، ولا تتعلق الأطماع بكشف له ولا دفاع. قال البقاعي : وحذف الياء منه ومن نكير، إشارة إلى أنه وإن كان خارجاً عن الطوق ليس منتهى مقدوره، بل لديه مزيد لا غاية له بوجه ولا تحديد، أي : على قراءة أكثر القراء، فقد قرأ ورش بالياء في الوصل فيهما دون الوقف، والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً.
﴿ ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير ﴾ أي : إنكاري عليهم لما أصبتهم به من العذاب.
ولما ذكر تعالى ما تقدم من الوعيد، ذكر البرهان على كمال قدرته بقوله تعالى :﴿ أو لم يروا ﴾ أجمع القراء على القراءة بالغيب، لأن السياق للرد على المكذبين، بخلاف ما في النحل. وأشار إلى بعد الغاية بحرف النهاية فقال تعالى :﴿ إلى الطير ﴾ وهو جمع طائر ﴿ فوقهم ﴾ أي : في الهواء، وقوله تعالى :﴿ صافات ﴾ أي : باسطات أجنحتهن، يجوز أن يكون حالاً من الطير، وأن يكون حالاً من فوقهم، إذا جعلناه حالاً فتكون متداخلة. وفوقهم ظرف لصافات على الأول أو ليروا.
وقوله تعالى :﴿ ويقبضن ﴾ عطفه الفعل على الاسم لأنه بمعناه، أي : وقابضات، فالفعل هنا مؤول بالاسم، عكس قوله تعالى :﴿ إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا ﴾ [ الحديد : ١٨ ] فإن الاسم هناك مؤول بالفعل، وقال أبو حيان : وعطف الفعل على الاسم، لما كان في معناه، ومثله قوله تعالى :﴿ فالمغيرات صبحاً ٣ فأثرن ﴾ [ العاديات، الآيات : ٣ ٤ ] عطف الفعل على الاسم لما كان المعنى : فاللاتي أغرن فأثرن، ومثل هذا العطف فصيح وكذا عكسه، إلا عند السهيلي فإنه قبيح، وقال الزمخشري :﴿ صافات ﴾ باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها ؛ لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً ﴿ ويقبضن ﴾ ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن.
فإن قلت : لم قال :﴿ ويقبضن ﴾ ولم يقل قابضات ؟ قلت : لأن أصل الطيران هو صف الأجنحة، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارئ على البسط، للاستظهار به على التحرك. فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل، على معنى أنهن صافات، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة، كما يكون من السابح. اه.
وقال أبو جعفر النحاس : يقال للطائر إذا بسط جناحيه : صاف، وإذا ضمهما فأصابا جنبيه : قابض، لأنه يقبضهما. وقيل : ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها، إذا أوقفن عن الطيران. ﴿ ما يمسكهن ﴾ أي : عن الوقوع في حال البسط والقبض ﴿ إلا الرحمن ﴾ أي : الملك الذي رحمته عامة لكل شيء، بأن هيأهن بعد أن أفاض عليهن رحمة الإيجاد، على أشكال مختلفة وخصائص مفترقة، هيأهن للجري في الهواء. ﴿ إنه ﴾ أي : الرحمن سبحانه ﴿ بكل شيء بصير ﴾ أي : بالغ البصر والعلم بظواهر الأشياء وبواطنها، فمهما أراد كان. والمعنى : أولم يستدلوا بثبوت الطير في الهواء، على قدرتنا أن نفعل بهم ما تقدم وغيره من العذاب.
وقوله تعالى :﴿ أمن ﴾ مبتدأ، وقوله تعالى :﴿ هذا ﴾ خبره، وقوله تعالى :﴿ الذي ﴾ بدل من هذا، وقوله تعالى :﴿ هو جند ﴾ أي : أعوان ﴿ لكم ﴾ صلة الذي، وقوله تعالى :﴿ ينصركم ﴾ صفة جند ﴿ من دون الرحمن ﴾ أي : غيره يدفع عنكم عذابه، أي : لا ناصر لكم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : جندٌ لكم، أي : حزب ومنعة لكم، ولفظ الجند يوحد، ولذلك قال تعالى :﴿ هذا الذي هو جند لكم ﴾ وهو استفهام إنكاري، أي : لا جند لكم يدفع عنكم عذاب الله من دون الرحمن، أي : من سوى الرحمن. وقرأ أبو عمرو بسكون الراء، وللدوري اختلاس الضمة أيضاً، والباقون بالرفع. ﴿ إن الكافرون ﴾ أي : ما الكافرون ﴿ إلا في غرور ﴾ أي : من الشيطان يغرّهم بأن لا عذاب ولا حساب.
قال بعض المفسرين : كان الكفار يمتنعون عن الإيمان، ويعاندون النبي صلى الله عليه وسلم، معتمدين على شيئين : أحدهما : قوتهم بمالهم وعددهم، والثاني : اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات، وتدفع عنهم جميع الآفات، فأبطل الله تعالى عليهم الأول بقوله تعالى :﴿ أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم ﴾ الآية، ورد عليهم الثاني بقوله تعالى :﴿ أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور ﴾.
﴿ أمن هذا الذي يرزقكم ﴾ أي : على سبيل التجدد والاستمرار ﴿ إن أمسك رزقه ﴾ بإمساك الأسباب التي ينشأ عنها كالمطر، ولو كان الرزق موجوداً وكثيراً وسهل التناول، فوضع الأكل في فمه فأمسك الله تعالى عنه قوة الازدراد، عجز أهل السماوات والأرض عن أن يسوغوه تلك اللقمة، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، أي : فمن يرزقكم، أي : لا رازق لكم غيره، ﴿ بل لجوا ﴾ أي : تمادوا سفاهة لا احتياطاً وشجاعة. قال الرازي في «اللوامع » : واللجاج تقحم الأمر مع كثرة الصوارف عنه، ﴿ في عتوّ ﴾ أي : مظروفين لعناد وتكبر عن الحق، وخروج إلى فاحش الفساد. ﴿ ونفور ﴾ أي : تباعد عن الحق، واستولى ذلك عليهم حتى أحاط بهم، مع أنه لا قوة لأحد منهم في جلب سارّ ولا دفع ضارّ، والداعي إلى ذلك الشهوة والغضب.
﴿ أفمن يمشي مكباً ﴾ أي : واقعاً ﴿ على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً ﴾ أي : معتدلاً ﴿ على صراط ﴾ أي : طريق ﴿ مستقيم ﴾ وخبر من الثانية محذوف دل عليه خبر الأولى، أي : أهدى، والمثل في المؤمن والكافر، أي : أيهما أهدى، وقيل : المراد بالمكب الأعمى، فإنه يتعسف فينكب وبالسوي البصير. وقيل : المكب هو الذي يحشر على وجهه إلى النار، ومن يمشي سوياً : الذي يحشر على قدميه إلى الجنة، وقال ابن عباس والكلبي رضي الله عنهم : عنى بالذي يمشي مكباً على وجهه أبا جهل، وبالذي يمشي سوياً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل : أبو بكر، وقيل : حمزة، وقيل : عمار بن ياسر، قال عكرمة : وقيل : عامٌّ في الكافر والمؤمن، أي : أن الكافر لا يدري أعلى حق هو أم على باطل، أي : أهذا الكافر أهدى أم المسلم الذي يمشي سوياً معتدلاً، يبصر الطريق وهو على صراط مستقيم، وهو الإسلام. وقرأ قنبل بالسين وقرأ خلف بالإشمام، أي : بين الصاد والزاي، والباقون بالصاد الخالصة.
﴿ قل ﴾ أي : يا أشرف الخلق وأشفقهم عليهم، مذكراً لهم بما رفع عنهم الملك من المفسدات وجمع لهم من المصلحات ليرجعوا إليه، ولا يعولوا في حال من أحوالهم إلا عليه. ﴿ هو ﴾ أي : الذي شرفكم بهذا الذكر وبين لكم هذا البيان، ﴿ الذي أنشأكم ﴾ أي : أوجدكم ودرجكم في مدارج التربية، حيث طوركم في الأطوار المختلفة في الرحم، ويسر لكم بعد الخروج اللبن حيث كانت المعدة ضعيفة عن أكثف منه ﴿ وجعل لكم السمع ﴾ أي : لتسمعوا ما تعقله قلوبكم فيهديكم، ووحده لقلة التفاوت فيه، ليظهر سر تصرفه سبحانه في القلوب بغاية المفاوتة، مع أنه أعظم الطرق الموصلة للمعاني إليها ﴿ والأبصار ﴾ لتنظروا صنائعه فتعتبروا وتزدجروا عما يرديكم ﴿ والأفئدة ﴾ أي : القلوب التي جعلها سبحانه في غاية التوقد بالإدراك، لما لا يدركه بقية الحيوان، لتتفكروا فتقبلوا على ما يعليكم، وجمعهما لكثرة التفاوت في نور الأبصار وإدراك الأفئدة. ﴿ قليلاً ما تشكرون ﴾ أي : باستعمالها فيما خلقت لأجله، وما مزيدة والجملة مستأنفة مخبرة بقلة شكرهم جداً على هذه النعم، وهم يدعون أنهم أشكر الناس للإحسان، وأعلاهم في العرفان.
﴿ قل هو ﴾ أي : وحده ﴿ الذي ذرأكم ﴾ أي : خلقكم وبثكم، ونشركم وكثركم، وأنشأكم بعدما كنتم كالذر أطفالاً ضعفاء، ﴿ في الأرض ﴾ التي تقدم أنه ذللها لكم، ورزقكم منها النبات وغيره، ﴿ وإليه ﴾ أي : وحده بعد موتكم، ﴿ تحشرون ﴾ شيئاً فشيئاً إلى البرزخ، ودفعة واحدة يوم البعث للحساب، فيجازى كلاً بعمله.
﴿ ويقولون ﴾ أي : يجددون هذا القول تجديداً مستمرا، ً استهزاء وتكذيباً ﴿ متى هذا ﴾ وزادوا في الاستهزاء بقولهم ﴿ الوعد ﴾ أي : يوم القيامة والعذاب الذي توعدوننا به ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أي : في أنه لابدّ لنا منه، وأنكم مقربون عند الله، فلو كان لهم ثبات الصبر، لما كانوا طاشوا هذا الطيش، بإبراز هذا القول القبيح.
ثم إنه تعالى أجاب عن هذا السؤال بقوله عز وجل :﴿ قل ﴾ أي : يا أكرم الخلق لهؤلاء البعداء ﴿ إنما العلم ﴾ أي : علم وقت قيام الساعة ونزول العذاب ﴿ عند الله ﴾ أي : الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال، فهو الذي يكون عنده وبيده جميع ما يراد منه، لا يطلع عليه غيره. ﴿ وإنما أنا نذير ﴾ أي : كامل في أمر النذارة التي يلزم منه البشارة لمن أطاع النذير، لا وظيفة لي عند الملك الأعظم غير ذلك، فلا وصول إلى سؤاله عما لا يؤذن لي في السؤال عنه. ﴿ مبين ﴾ أي : بين الإنذار بإقامة الأدلة حتى يصير ذلك كأنه مشاهدة لمن له قبول العلم.
﴿ فلما رأوه ﴾ أي : العذاب بعد الحشر ﴿ زلفة ﴾ أي : ذا قرب عظيم منهم ﴿ سيئت ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : أي : اسودّت ﴿ وجوه ﴾ وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف، فقال تعالى :﴿ الذين كفروا ﴾ أي : أظهروا السوء وغاية الكراهة في وجوه من أوقع هذا الوصف.
تنبيه : الأصل ساء، أي : أحزن وجوههم العذاب ورؤيته، ثم بني للمفعول، وساء هنا ليست المرادفة لبئس.
وأشم كسرة السين نافع وابن عامر والكسائي والباقون بإخلاص الكسرة. وقيل : أي : قال لهم الخزنة تقريعاً وتوبيخاً ﴿ هذا الذي كنتم ﴾ أي : جبلة وطبعاً ﴿ به ﴾ أي : بسببه ومن أجله ﴿ تدّعون ﴾ أي : تتمنون وتسألون وتزعمون أنكم لا تبعثون، وهذه حكاية حال تأتي، عبر عنها بطريق المضي لتحقق وقوعها، وقرأ هشام والكسائي بضم القاف، والباقون بكسرها.
﴿ قل ﴾ أي : يا أكرم الخلق لهؤلاء الذين طال تضجرهم منك وهم يتمنون هلاكك، كما قال تعالى :﴿ أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ﴾ [ الطور : ٣٠ ] ﴿ أرأيتم ﴾ أي : أخبروني خبراً أنتم في الوثوق به على ما هو كالرؤية ﴿ إن أهلكني الله ﴾ أي : أماتني بعذاب أو غيره، الذي له من الجلال والإكرام ما يعصم به وليه ويقصم عدوه.
وقرأ : قل أرأيتم في الموضعين، نافع بتسهيل الهمزة بعد الواو، ولورش أيضاً إبدالها ألفاً، وأسقطها الكسائي والباقون بالتحقيق، وإذا وقف حمزة سهل الهمزة، وقرأ :﴿ إن أهلكني الله ﴾ حمزة بسكون الياء والباقون بفتحها، ومن سكن الياء رقق اللام من الاسم الجليل، ومن فتحها فخم. ﴿ ومن معي ﴾ أي : من المؤمنين ﴿ أو رحمنا ﴾ أي : بالنصر وإظهار الإسلام كما نرجو، فأنجانا بذلك من كل سوء، ووقانا كل محذور، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص بفتح الياء، والباقون بالسكون. ﴿ فمن يجير الكافرين ﴾ أي : العريقين في الكفر، بأن يدفع عنهم ما يدفع الجار عن جاره، ﴿ من عذاب أليم ﴾ أي : لا مجير لهم منه.
﴿ قل ﴾ أي : يا خير الخلق ﴿ هو ﴾ أي : الله وحده ﴿ الرحمن ﴾ أي : الشامل الرحمة ﴿ آمنا به ﴾ أي : أنا ومن معي ﴿ وعليه ﴾ أي : وحده ﴿ توكلنا ﴾ أي : لأنه لا شيء في يد غيره، وإلا لرحم من يريد عذابه أو عذب من يريد رحمته، فكل ما جرى على أيدي خلقه من رحمة أو نقمة، فهو الذي أجراه، لأنه الفاعل بالذات المستجمع لما يليق به من الصفات، فنحن نرجو خيره ولا نخاف غيره. ﴿ فستعلمون ﴾ أي عند معاينة العذاب عما قليل، بوعد لا خلف فيه ﴿ من هو في ضلال مبين ﴾ أي : بين أنحن أم أنتم، وقرأ الكسائي بعد السين بياء الغيبة، نظراً إلى قول الكافرين، والباقون بتاء الخطاب إما على الوعيد، وإما على الالتفات من الغيبة المرادة في قراءة الكسائي، وهو تهديد لهم.
﴿ قل ﴾ أي : يا أعظم خلقنا وأعلمهم بنا ﴿ أرأيتم ﴾ أي : أخبروني إخباراً لا لبس فيه ﴿ إن أصبح ماؤكم ﴾ أي : الذي تعدّونه في أيديكم بما نبهت عليه الإضافة ﴿ غوراً ﴾ أي : غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الدلاء، وكان ماؤهم من بئرين : بئر زمزم وبئر ميمون ﴿ فمن يأتيكم ﴾ على ضعفكم حينئذ، وانخلاع قلوبكم واضطراب أفكاركم ﴿ بماء معين ﴾، أي : دائم لا ينقطع، وظاهر للأعين سهل المأخذ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بماء معين أي : ظاهر تراه العيون، فهو مفعول. وقيل : هو من معن الماء، أي : كثر، فهو على هذا فعيل، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً أن المعنى : فمن يأتيكم بماء عذب، أي : لا يأتيكم به إلا اللهن فكيف تنكرون أن يبعثكم ؟ !
ويستحب أن يقول القارئ عقب معين : الله رب العالمين، كما في الحديث. وتليت هذه الآية عند بعض المتجبرين فقال : تأتي به الفؤوس والمعاول، فذهب ماء عينيه وعمي، نعوذ بالله من الجراءة على الله وعلى آياته.
Icon