ﰡ
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه معنى تبارك، وذكر أقوال المفسرين واختلافهم في معناها. ورجّح أنه بحسب اللغة والاشتقاق أنه تفاعل من البركة، والمعنى : تكاثرت البركات والخيرات من قبله، وهذا يستلزم عظمته وتقديسه.. إلخ.
ثم ذكر تنبيهاً في عدم تصريفها واختصاصها بالله تعالى. وإطلاق العرب إياها على الله تعالى.
وقال في إملائه : الذي بيده الملك. أي نفوذ المقدور في كل شيء يتصرف في كل شيء بما يشاء لا معقب لحكمه ا ه.
والتقديم للموصول وصلته هنا بالصفة الخاصة به تعالى، وهي قوله تعالى :﴿ تَبَارَكَ ﴾ يدل على عظمة الموصول.
ويدل له قوله تعالى :﴿ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شيء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [ يس : ٨٣ ]، لأن التقديم بالتسبيح وهو التنزيه يساوي التقديم بقوله تعالى :﴿ تَبَارَكَ ﴾، والموصول بعد التسبيح بصلته كالموصول بعد } تبارك { وصلته سواء بسواء، وهذا يؤيد ما ذكره الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه. والله أعلم.
وقد تقدمت الإشارة إلى الفرق بين الملك والمالك عند قوله تعالى :﴿ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ ﴾ [ الحشر : ٢٣ ]، وهنا تجتمع الصفتان، فالذي بيده الملك وملكوت كل شيء هو المالك له الملك عليه، وهو رب العالمين سبحانه.
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه معنى هذه الآية الكريمة بما يوضحها من الآيات عند الكلام على قوله تعالى ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ]، وقبلها في سورة هود على قوله تعالى :﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ هود : ٧ ].
وقال رحمه الله في إملائه : جعل للعالم موتتين وإحياءتين، وبينه بقوله تعالى :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨ ] الآية.
والآية تدل عن أن الموت أمر وجودي لا عدمي كما زعم الفلاسفة، لأنه لو كان عدمياً، لما تعلق به الخلق.
ذكر خلق السماوات السبع الطباق على هذا النحو دون تفاوت أو فطور بعد ذكر أول السورة، يدل على أن خلق هذه السبع من كمال قدرته.
وقد بين الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، الحكمة في خلق السماوات والأرض ضمن تنبيه عقده في أواخر سورة الذاريات.
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه معنى الآية الكريمة، والآيات الموضحة لها عند الكلام على أول سورة ق عند قوله تعالى ﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ ﴾ [ ق : ٦ ] قال في إملائه : إن قوله تعالى في خلق الرحمن عام في جميع مخلوقاته، من معنى الاستواء والحكمة والدقة في الصنع، وتدخل السماوات في ذلك بدليل قوله تعالى :﴿ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شيء ﴾ [ النمل : ٨٨ ] وإتقان كل شيء بحسبه، كما في قوله :﴿ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شيء خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ [ طه : ٥٠ ].
وقوله :﴿ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شيء خَلَقَهُ ﴾ [ السجدة : ٧ ].
وبدأ خلق الإنسان من طين، وهذا الحال للسماء في الدنيا فقط، وستنفطر يوم القيامة، كما في قوله تعالى :﴿ إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ ﴾ [ الإنفطار : ١ ] ﴿ إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ ﴾ [ الانشقاق : ١ ] ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] ونحو ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ﴾.
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان ذلك عند قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً ﴾ [ الأنبياء : ٣٢ ] في سورة الأنبياء.
وعند قوله :﴿ أَفَلَمْ يَنظُرُواْ إِلَى السَّمَآءِ فَوْقَهُمْ ﴾ [ ق : ٦ ] في سورة ق.
ولعل مجيء هذه الآية بعد ﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ الملك : ٢ ] توجيه إلى حسن صنع الله وإبداعه في خلقه ﴿ مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْماَنِ مِن تَفَاوُتٍ ﴾ [ الملك : ٣ ].
الأولى في قوله :﴿ مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ﴾ [ الملك : ٣ ].
والثانية في قوله :﴿ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ﴾ [ الملك : ٣ ].
والثالثة والرابعة في قوله :﴿ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ ﴾ [ الملك : ٤ ].
وليس بعد معاودة النظر أربع مرات من تأكيد، والحسير : العي الكليل العاجز المتقطع دون غاية، كما في قول الشاعر :
من مد طرفاً إلى ما فوق غايته | ارتد خسآن من الطرف قد حسرا |
قال :
نظرت إليها بالمحصب من منى | فعاد إلي الطّرف وهو حسير |
فالدنيا تأنيث الأدنى أي السماء الموالية للأرض، ومفهومه أن بقية السماوات ليست فيها مصابيح، التي هي النجوم والكواكب كما قال :﴿ بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴾ [ الصافات : ٦ ] ويدل لهذا المفهوم ما جاء به عن قتادة : أن الله جعل النجوم لثلاثة أمور. أمران هنا، وهما زينة السماء الدنيا ورجوماً للشياطين. والثالثة علامات واهتداء في البر والبحر، وهذه الأمور الثلاثة تتعلق بالسماء الدنيا. لأن الشياطين لا تنفذ إلى السماوات الأخرى، لأنها أجرام محفوظة، كما في حديث الإسراء " لها أبواب وتطرق ولا يدخل منها إلا بإذن ".
وكقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ ﴾ [ الأعراف : ٤٠ ].
وكذلك ليس هناك من يحتاج إلى اهتداء بها في سيره، لأن الملائكة كل في وضعه الذي أوجده الله عليه، ولأن الزينة لن ترى لوجود جرم السماء الدنيا، فثبت أن النجوم خاصة بالسماء الدنيا.
وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ﴾ [ الصافات : ٦ -٧ ].
ومفهوم الدنيا عدم وجودها فيما بعدها، ولا وجود للشيطان في غير السماء الدنيا.
وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ﴾، وهي الشهب من النار، والشهب النار، كما في قوله :﴿ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ [ النمل : ٧ ]، والرجوم والشهب هي التي ترمى بها الشياطين عند استراق السمع، كما في قوله تعالى :﴿ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٩ ].
وقوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾ [ الصافات : ١٠ ].
وهنا سؤال، وهو إذا كان الجن من نار، كما في قوله :﴿ وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ﴾ [ الرحمان : ١٥ ]، فكيف تحرقه النار ؟
فأجاب عنه الفخر الرازي بقوله : إن النار يكون بعضها أقوى من بعض، فالأقوى يؤثر على الأضعف، ومما يشهد لما ذهب إليه قوله تعالى بعده ﴿ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ﴾ والسعير : أشد النار.
ومعلوم أن النار طبقات بعضها أشد من بعض، وهذا أمر ملموس، فقد تكون الآلة مصنوعة من حديد وتسلط عليها آلة من حديد أيضاً، أقوى منها فتكسرها.
كما قيل : لا يفل الحديد إلا الحديد، فلا يمنع كون أصله من نار ألا يتعذب بالنار، كما أن أصل الإنسان من طين من حمإٍ مسنون، ومن صلصال كالفخَّار، وبعد خلقه فإنه لا يحتمل التعذيب بالصلصال ولا بالفخار، فقد يقضى عليه بضربة من قطعة من فخَّار. والعلم عند الله تعالى.
الأولى في قوله :﴿ مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ﴾ [ الملك : ٣ ].
والثانية في قوله :﴿ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ﴾ [ الملك : ٣ ].
والثالثة والرابعة في قوله :﴿ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ ﴾ [ الملك : ٤ ].
وليس بعد معاودة النظر أربع مرات من تأكيد، والحسير : العي الكليل العاجز المتقطع دون غاية، كما في قول الشاعر :
من مد طرفاً إلى ما فوق غايته | ارتد خسآن من الطرف قد حسرا |
قال :
نظرت إليها بالمحصب من منى | فعاد إلي الطّرف وهو حسير |
فالدنيا تأنيث الأدنى أي السماء الموالية للأرض، ومفهومه أن بقية السماوات ليست فيها مصابيح، التي هي النجوم والكواكب كما قال :﴿ بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴾ [ الصافات : ٦ ] ويدل لهذا المفهوم ما جاء به عن قتادة : أن الله جعل النجوم لثلاثة أمور. أمران هنا، وهما زينة السماء الدنيا ورجوماً للشياطين. والثالثة علامات واهتداء في البر والبحر، وهذه الأمور الثلاثة تتعلق بالسماء الدنيا. لأن الشياطين لا تنفذ إلى السماوات الأخرى، لأنها أجرام محفوظة، كما في حديث الإسراء " لها أبواب وتطرق ولا يدخل منها إلا بإذن ".
وكقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ ﴾ [ الأعراف : ٤٠ ].
وكذلك ليس هناك من يحتاج إلى اهتداء بها في سيره، لأن الملائكة كل في وضعه الذي أوجده الله عليه، ولأن الزينة لن ترى لوجود جرم السماء الدنيا، فثبت أن النجوم خاصة بالسماء الدنيا.
وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ﴾ [ الصافات : ٦ -٧ ].
ومفهوم الدنيا عدم وجودها فيما بعدها، ولا وجود للشيطان في غير السماء الدنيا.
وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ﴾، وهي الشهب من النار، والشهب النار، كما في قوله :﴿ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ [ النمل : ٧ ]، والرجوم والشهب هي التي ترمى بها الشياطين عند استراق السمع، كما في قوله تعالى :﴿ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٩ ].
وقوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾ [ الصافات : ١٠ ].
وهنا سؤال، وهو إذا كان الجن من نار، كما في قوله :﴿ وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ﴾ [ الرحمان : ١٥ ]، فكيف تحرقه النار ؟
فأجاب عنه الفخر الرازي بقوله : إن النار يكون بعضها أقوى من بعض، فالأقوى يؤثر على الأضعف، ومما يشهد لما ذهب إليه قوله تعالى بعده ﴿ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ﴾ والسعير : أشد النار.
ومعلوم أن النار طبقات بعضها أشد من بعض، وهذا أمر ملموس، فقد تكون الآلة مصنوعة من حديد وتسلط عليها آلة من حديد أيضاً، أقوى منها فتكسرها.
كما قيل : لا يفل الحديد إلا الحديد، فلا يمنع كون أصله من نار ألا يتعذب بالنار، كما أن أصل الإنسان من طين من حمإٍ مسنون، ومن صلصال كالفخَّار، وبعد خلقه فإنه لا يحتمل التعذيب بالصلصال ولا بالفخار، فقد يقضى عليه بضربة من قطعة من فخَّار. والعلم عند الله تعالى.
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيان زينة السماء بالمصابيح، وجعلها رجوماً للشياطين بياناً كاملاً عند قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ ﴾ [ الحجر : ١٦ -١٨ ].
وقد ذكر طرفاً من هذا البحث في سورة الفرقان لا بد من ضمه لهذا المبحث هناك لارتباط بعضها ببعض.
تنبيه
فقد ظهرت تلك المخترعات الحديثة، ونادى أصحاب النظريات الجديدة، والناس ينقسمون إلى قسمين : قسم يبادر بالإنكار وآخر يسارع للتصديق، وقد يستدل كل من الفريقين بنصوص من القرآن أو السنة. ولعل من الأولى أن يقال : إن النظريات الحديثة قسمان : نظرية تتعارض مع صريح القرآن، فهذه مردودة بلا نزاع، كنظرية ثبوت الشمس مع قوله تعالى :﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ﴾ [ يس : ٣٨ ].
ونظرية لا تتعارض مع نص القرآن ولم ينص عليها، وليس عندنا من وسائل العلم ما يؤيدها ولا يرفضها، فالأولى أن يكون موقفنا موقف التثبت، ولا نبادر بحكم قاطع إيجاباً أو نفياً، وذلك أخذاً من قضية الهدهد وسبأ مع نبي الله سليمان لما جاء يخبرهم، وكان عليه السلام لم يعلم عنهم شيئاً، فلم يكذب الخبر بكونه من الهدهد، ولم يصدقه لأنه لم يعلم عنهم سابقاً، مع أنه وصف حالهم وصفاً دقيقاً.
وكان موقفه عليه السلام موقف التثبت مع ما لديه من إمكانيات الكشف والتحقيق من الريح والطير والجن، فقال للمخبر وهو الهدهد : سننظر، أصدقت أم كنت من الكاذبين.
ونحن في هذه الآونة لسنا أشد إمكانيات من نبي الله سليمان آنذاك، وليس المخبرون عن مثل هذه النظريات أقل من الهدهد. فليكن موقفنا على الأقل موقف من سينظر أيصدق الخبر أم يظهر كذبه ؟ والغرض من هذا التنبيه هو ألا نحمل لفظ القرآن فيما هو ليس صريحاً فيه ما لا يحتمله، ثم يظهر كذب النظرية أو صدقها، فنجعل القرآن في معرض المقارنة مع النظريات الحديثة، والقرآن فوق ذلك كله ﴿ لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [ فصلت : ٤٢ ].
الأولى في قوله :﴿ مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ﴾ [ الملك : ٣ ].
والثانية في قوله :﴿ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ﴾ [ الملك : ٣ ].
والثالثة والرابعة في قوله :﴿ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ ﴾ [ الملك : ٤ ].
وليس بعد معاودة النظر أربع مرات من تأكيد، والحسير : العي الكليل العاجز المتقطع دون غاية، كما في قول الشاعر :
من مد طرفاً إلى ما فوق غايته | ارتد خسآن من الطرف قد حسرا |
قال :
نظرت إليها بالمحصب من منى | فعاد إلي الطّرف وهو حسير |
فالدنيا تأنيث الأدنى أي السماء الموالية للأرض، ومفهومه أن بقية السماوات ليست فيها مصابيح، التي هي النجوم والكواكب كما قال :﴿ بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴾ [ الصافات : ٦ ] ويدل لهذا المفهوم ما جاء به عن قتادة : أن الله جعل النجوم لثلاثة أمور. أمران هنا، وهما زينة السماء الدنيا ورجوماً للشياطين. والثالثة علامات واهتداء في البر والبحر، وهذه الأمور الثلاثة تتعلق بالسماء الدنيا. لأن الشياطين لا تنفذ إلى السماوات الأخرى، لأنها أجرام محفوظة، كما في حديث الإسراء " لها أبواب وتطرق ولا يدخل منها إلا بإذن ".
وكقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَآءِ ﴾ [ الأعراف : ٤٠ ].
وكذلك ليس هناك من يحتاج إلى اهتداء بها في سيره، لأن الملائكة كل في وضعه الذي أوجده الله عليه، ولأن الزينة لن ترى لوجود جرم السماء الدنيا، فثبت أن النجوم خاصة بالسماء الدنيا.
وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله تعالى :﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ﴾ [ الصافات : ٦ -٧ ].
ومفهوم الدنيا عدم وجودها فيما بعدها، ولا وجود للشيطان في غير السماء الدنيا.
وقوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ﴾، وهي الشهب من النار، والشهب النار، كما في قوله :﴿ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ ﴾ [ النمل : ٧ ]، والرجوم والشهب هي التي ترمى بها الشياطين عند استراق السمع، كما في قوله تعالى :﴿ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٩ ].
وقوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾ [ الصافات : ١٠ ].
وهنا سؤال، وهو إذا كان الجن من نار، كما في قوله :﴿ وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ﴾ [ الرحمان : ١٥ ]، فكيف تحرقه النار ؟
فأجاب عنه الفخر الرازي بقوله : إن النار يكون بعضها أقوى من بعض، فالأقوى يؤثر على الأضعف، ومما يشهد لما ذهب إليه قوله تعالى بعده ﴿ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ﴾ والسعير : أشد النار.
ومعلوم أن النار طبقات بعضها أشد من بعض، وهذا أمر ملموس، فقد تكون الآلة مصنوعة من حديد وتسلط عليها آلة من حديد أيضاً، أقوى منها فتكسرها.
كما قيل : لا يفل الحديد إلا الحديد، فلا يمنع كون أصله من نار ألا يتعذب بالنار، كما أن أصل الإنسان من طين من حمإٍ مسنون، ومن صلصال كالفخَّار، وبعد خلقه فإنه لا يحتمل التعذيب بالصلصال ولا بالفخار، فقد يقضى عليه بضربة من قطعة من فخَّار. والعلم عند الله تعالى.
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه في هذه الآية : إثبات أن للنار حساً وإدراكاً وإرادة، والقرآن أثبت للنار أنها تغتاظ وتبصر وتتكلم وتطلب المزيد، كما قال هنا :﴿ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ ﴾.
وقال :﴿ إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ﴾ [ الفرقان : ١٢ ].
وقال :﴿ يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ ﴾ [ ق : ٣٠ ].
قوله تعالى :﴿ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ ﴾.
بين تعالى أن للنار خزنة، وقد بين تعالى أن هؤلاء الخزنة هم الملائكة الموكلون بالنار، كما في قوله تعالى :﴿ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [ التحريم : ٦ ].
كما بين عدتهم في قوله تعالى :﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾ [ المدثر : ٣٠ ].
وقال :﴿ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ [ المدثر : ٣١ ].
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : دلت هذه الآية على أن أهل النار يدخلونها جماعة بعد جماعة، كما في قوله تعالى :﴿ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ].
قال رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : هذا سؤال الملائكة لأهل النار، والنذير بمعنى المنذر، فهو فعيل بمعنى مفعل، وإن ذكر عن الأصمعي إنكاره ونظيره من القرآن : بديع السماوات : بمعنى مبدع، وأليم : بمعنى مؤلم.
ومن كلام العرب قول عمرو بن معد يكرب :
أمن ريحانة الداعي السميع | يؤرقني وأصحابي هجوع |
وقول غيلان :
ويرفع من صدور شمردلات | يصد وجوهها وهج أليم |
وقال : وهذه الآية تدل على أن الله تعالى لا يعذب بالنار أحداً إلا بعد أن ينذره في الدنيا، وقد بين هذا المعنى بأدلته بتوسع عند قوله تعالى :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٥ ]، وساق هذه الآية هناك.
قد اعترفوا بمجيء النذير إليهم.
وقد بين تعالى ذلك في قوله :﴿ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ ﴾ [ فاطر : ٢٤ ].
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : أي قال أهل النار : لو كنا نسمع من يعقل عن الله حججه أو نعقل حجج الله، ما كنا في أصحاب السعير، أي النار، فهم يسمعون، ولكن لا يسمعون ما ينفعهم في الآخرة، ويعقلون ولكن لا يعقلون ما ينفعهم في الآخرة، لأن الله قال :﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ ﴾ [ البقرة : ٧ ].
وقال :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً ﴾ [ الكهف : ٥٧ ].
وقد بين هذا الذي ذكره رحمة الله تعالى علينا وعليه عدة نصوص صريحة في ذلك، منها أصل خلقتهم الكاملة في قوله تعالى ﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ [ الإنسان : ٢ ].
وفي آخر سورة الملك هذه قوله ﴿ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ ﴾ [ الملك : ٢٣ ].
ولكنهم سمعوا وعصوا، كما في قوله :﴿ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ﴾ [ البقرة : ٢١ ].
وهذا، وإن كان في بني إسرائيل، إلا أنه قال لهذه الأمة :﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾ [ الأنفال : ٢١ ].
وقال تعالى عنهم :﴿ قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَآ ﴾ [ الأنفال : ٣١ ].
وقوله عنهم :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ وألْغَوْاْ فِيهِ ﴾ [ فصلت : ٢٦ ].
وقد بين تعالى سبب عدم استفادتهم بما يسمعون في قوله تعالى :﴿ وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً ﴾ [ الجاثية : ٧ -٩ ].
وقوله :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ﴾ [ لقمان : ٧ ].
فقولهم هنا :﴿ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ﴾ أي سماع تعقل وتفهم.
قال رحمة الله تعالى علينا وعليه في إملائه : الاعتراف الإقرار، أي أقروا بذنبهم يوم القيامة حيث لا ينفع الإقرار والندم، وتقدم له رحمة الله تعالى علينا وعليه، بيان انتفاع الكفار بإقرارهم هذا بتوسع عند قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ].
واستدل بهذه الآية، آية الملك هناك.
والظاهر أن الأصل في ذلك كله، أن اعترافهم وإيمانهم بعد فوات الأوان بالمعاينة، كما جاء في حق فرعون في قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَآ أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ يونس : ٩٠ ]، فقيل له :﴿ الآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [ يونس : ٩١ ].
وجاء أصرح ما يكون في قوله :﴿ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ﴾ [ الأنعام : ١٥٨ ].
فلما جاء بعض آيات الله وظهر الحق، لم يكن للإيمان محل بعد المعاينة ﴿ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا ﴾ أي من قبل المعاينة كحالة فرعون المذكورة، لأن حقيقة الإيمان التصديق بالمغيبات، فإذا عاينها لم تكن حينذاك غيباً، فيفوت وقت الإيمان والعلم عند الله، وعليه حديث التوبة : ما لم يغرغر.
والخشية : شدة الخوف، كما قال تعالى :﴿ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٤٩ ].
وبين تعالى محل تلك الخشية في قوله :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [ فاطر : ٢٨ ] لأنهم يعرفون حق الله تعالى ويراقبونه.
وقد بين تعالى حقيقة خشية الله :﴿ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٧٤ ].
وقوله :﴿ لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ﴾ [ الحشر : ٢١ ].
فالذين يخشون ربهم بالغيب هم الذين يعرفون حق الله عليهم ومراقبته إياهم في السر والعلن، ويعلمون أنه مطلع عليهم مهما تخفوا وتستروا، وهم دائماً منيبون إلى الله، كما في قوله :﴿ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَّنْ خَشِي الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ﴾ [ ق : ٣٢ -٣٣ ]، وهذه أعلى درجات السلوك مع الله تعالى، كما بين أنها منزلة العلماء.
وقد عاب تعالى أولئك الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله، ويخشون الناس ولا يخشون الله، فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين.
وإفراد الله بالخشية منزلة الأنبياء، كما في قوله :﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ﴾ [ الأحزاب : ٣٩ ].
قال الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه : والعرب تمدح من يكون في خلوته كمشهده مع الناس.
ومنه قول مسلم بن الوليد :
يتجنب الهفوات في خلواته | عف السريرة غيبه كالمشهد |
وبمخافة الله بالغيب سيتجنب كل سوء، فيسلم ويتحصل له ما قال الله تعالى عنهم :﴿ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾، مغفرة من ذنوبه ﴿ وَأَجْرٌ عظيمٌ ﴾ على أعماله. رزقنا الله خشيته في السر والعلن.
وليعلم أن المراد بالغيب مما هو من جانب العبد لا سيده، كما في الحديث في الإحسان " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " وهذا الإحساس هو أقوى عامل على اكتساب خشية الله سبحانه.
فيه دلالة على أن السر والجهر عند الله وفي علم الله على حد سواء، لأنه عليم بذات الصدور، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وقوله تعالى :﴿ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ ﴾.
وقوله :﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾.
وتقدم للشيخ عند كل من الآيتين بيان هذه الآية.
وقد تقدم قوله تعالى :﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ﴾ [ ق : ١٦ ] الآية.
وتقدم في سورة التحريم قبل هذه السورة مباشرة قوله تعالى :﴿ وَإِذَ أَسَرَّ النَّبيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ﴾ [ التحريم : ٣ ] الآية، ففيه بيان عملي مشاهد بأنه تعالى يعلم السر وأخفى.
كما قال في سورة التحريم :﴿ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [ الملك : ١٤ ].
وقال القرطبي نقلاً عن أبي إسحاق الإسفرائيني : من أسماء صفات الذات ما هو للعلم منها العليم، ومعناه تفهيم جميع المعلومات، ومنها الخبير، ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون، ومنها الحكيم ويختص بأنه يعلم دقائق الأوصاف، ومنها الشهيد ويختص بأن يعلم الغائب والحاضر، ومعناه ألا يغيب عنه شيء. ومنها الحافظ ويختص بأنه لا ينسى، ومنها المحصي ويختص بأنه لا تشغله الكثرة عن العلم، مثل ضوء النهار واشتداد الريح وتساقط الأوراق، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق وقد قال :﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [ الملك : ١٤ ]، و من في قوله تعالى :﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ﴾ أجازوا فيها أن تكون فاعل يعلم، وهو الله تعالى، أي إن الذي خلق يعلم ما خلق ومنه ما في الصدور.
وأجازوا أن تكون مفعولاً والفاعل ضمير مستتر في الفعل يعلم، ذكرهما القرطبي وأبو حيان، وهو واضح ومحتمل.
ولكن الذي تشهد له النصوص أنها مفعول كما في قوله :﴿ إِنَّهُ بِكُلِّ شيء عَلِيمٌ ﴾ [ الشورى : ١٢ ]، ﴿ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ [ غافر : ١٩ ].
وقوله :﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [ الصافات : ٩٦ ]، ومن أعمالهم ما يسرون، وما يجهرون. والعلم عند الله تعالى.
الذلول فعول بمعنى مفعول، وهو مبالغة في الذل.
تقول : دابة ذلول بينة الذل، وقيل في معنى تذليل الأرض عدة أقوال لا تنافي بينها، ومجموعها دائر على تمكين الانتفاع منها، عن تسهيل الاستقرار عليها وتثبيتها بالجبال، كقوله تعالى :﴿ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ ولأنعامكم ﴾ [ النازعات : ٣٢ -٣٣ ].
ومن إمكان الزرع فيها كقوله :﴿ فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً ﴾ إلى قوله أيضاً ﴿ مَّتَاعاً لَّكُمْ ولأنعامكم ﴾ [ عبس : ٢٧ -٣٢ ]، وقد جمع أكثرها في قوله : تعالى :﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتاً أَحْيَآءً وَأَمْواتاً وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِي شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً ﴾ [ المرسلات : ٢٥ -٢٧ ].
وكنت أسمع الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول في هذه الآية : إنها من تسخير الله تعالى للأرض، أن جعلها كفاتاً للإنسان في حياته، بتسهيل معيشته منها وحياته على ظهرها، فإذا مات كانت له أيضاً كفاتاً بدفنه فيها.
ويقول : لو شاء الله لجعلها حديداً ونحاساً، فلا يستطيع الإنسان أن يحرث فيها، ولا يحفر ولا يبني، وإذا مات لا يجد مدفناً فيها.
ومما يشير إلى هذه المعاني كلها قوله تعالى :﴿ فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ ﴾ لترتبه على ما قبله بالفاء، أي بسبب تذليلها بتيسير المشي في أرجائها، وطلب الرزق في أنحائها بالتسبب فيها، من زراعة وصناعة وتجارة إلخ.
والأمر في قوله تعالى :﴿ فَامْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ ﴾ للإباحة. ولكن التقديم لهذا الأمر بقوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً ﴾ فيه امتنان من الله تعالى على خلقه، مما يشعر أن في هذا الأمر مع الإباحة توجيهاً وحثاً للأمة على السعي والعمل والجد، والمشي في مناكب الأرض من كل جانب لتسخيرها وتذليلها، مما يجعل الأمة أحق بها من غيرها.
كما قال تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ﴾ [ الحج : ١٢ -١٤ ].
وفي قوله :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ ﴾ [ الحج : ٦٥ ] وغير ذلك من الآيات.
ومن رأى هذا التسخير، اعترف لله بالفضل، والقيام لله بالحمد، وتقديم الشكر، كما قال تعالى :﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ الحج : ٣٦ ]
وقوله :﴿ وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴾ [ الزخرف : ١٢ -١٤ ].
أي مع شكر النعمة الاتعاظ والعبرة، والاستدلال على كمال القدرة.
ومنها المعاد والمنقلب إلى الله تعالى، فقوله :﴿ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ بعد المشي في مناكب الأرض، وتطلب الرزق وما يتضمن من النظر والتأمل في مسببات الأسباب، وتسخير الله لها، كقوله تعالى :﴿ وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴾ [ الزخرف : ١٤ ] بعد ذكر ﴿ خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا ﴾ [ الزخرف : ١٢ ] أي الأصناف وتسخير الفلك والأنعام والبحر والبر، فيه ضمناً إثبات القدرة على البعث، فيكون المشي في مناكب الأرض، واستخدام مناكبها، واستغلال ثرواتها، والانتفاع من خيراتها، لا لطلب الرزق وحده، وإلا لكان يمكن سوقه إليهم، ولكن للأخذ بالأسباب أولاً، وللنظر في المسببات والعبرة بالمخلوقات والتزود لما بعد الممات، كما في آية الجمعة :﴿ فَانتَشِرُواْ فِي الأَرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [ الجمعة : ١٠ ].
أي عند مشاهدة آيات قدرته وعظيم امتنانه.
وعليه، فقد وضع القرآن الأمة الإسلامية في أعز مواضع الغنى، والاستغناء والاستثمار والإنتاج، فما نقص عليها من أمور دنياها، إلا بقدر ما قصرت هي في القيام بهذا العمل، وأضاعت من حقها في هذا الوجود.
وقد قال النووي في مقدمة المجموع : إن على الأمة الإسلامية أن تعمل على استثمار وإنتاج كل حاجياتها، حتى الإبرة لتستغني عن غيرها، وإلا احتاجت إلى الغير بقدر ما قصرت في الإنتاج، وهذا هو واقع العالم اليوم، إذ القدرة الإنتاجية هي المتحكمة وذات السيادة الدولية.
وقد أعطى الله العالم الإسلامي الأولوية في هذا كله، فعليهم أن يحتلوا مكانهم، ويحافظوا على مكانتهم، ويشيدوا كيانهم بالدين والدنيا معاً. وبالله التوفيق.
ذكر أبو حيان في قراءة ﴿ آمِنتُمْ ﴾ عدة قراءات من تحقيق الهمزتين، ومن تسهيل الثانية ومن إدخال ألف بينهما وغير ذلك، والخسف ذهابها سفلاً، كما خسف بقارون، والمور الحركة المضطربة أو الحركة بسرعة، وقد ثبتها تعالى بالجبال أوتاداً كما قال :﴿ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ ﴾ [ النازعات : ٣٢ -٣٣ ]، و من في السماء. قال ابن جرير : هو الله تعالى ا ه.
وعزاه القرطبي لابن عباس، ويشهد لما قاله : ما جاء بعده من خسف الأرض وإرسال الحاصب، فإنه لا يقدر عليه إلا الله، كما أنه ظاهر النص، وبهذا يرد على الكسائي فيما ذهب إليه ومن تبعه عليه كأبي حيان، إذ قالوا : إنه على تقدير محذوف من قبيل المجاز، ومجازه عندهم أن ملكوته في السماء، أي على حذف مضاف، وملكوته في كل شيء، ولكن خص السماء بالذكر، لأنها مسكن ملائكته، وثم عزته وكرسيه واللوح المحفوظ. ومنها تتنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونهيه. إلخ.
وقيل : هو جبريل، لأنه الموكل بالخسف، وقيل : إنه مجاراة لهم في معتقدهم بأن الله في السماء. وهذه الأقوال مبناها على نفي صفة العلو لله تعالى، وفراراً من التشبيه في نظرهم، ولكن ما عليه السلف خلاف ما ذهبوا إليه، ومعتقد السلف هو طبق ما قاله ابن جرير لحديث الجارية : " أين الله ؟ قالت في السماء، قال : اعتقها فإنها مؤمنة " ولعدة آيات في هذا المعنى.
وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذا المبحث بأوسع وأوضح ما يمكن، مما لم يدع لبساً ولا يترك شبهة، ولا يستغني عنه مسلم عالماً كان أو متعلماً، فالعالم يأخذ منه منهج التعليم السليم، وأسلوب البيان الحكيم، والمتعلم يأخذ منه ما يجب عليه من معتقد قويم واضح جلي سليم.
وقد يقال : إن معنى في هو الظرفية، فنجعل السماء ظرفاً لله تعالى، وهذا يقتضي التشبيه بالمتحيز.
فيقال : إنه سبحانه منزه عن الظرفية بالمعنى المعروف والمنصوص في حق المخلوق.
وقد دلت النصوص من السنة على نفي ذلك عنه تعالى، واستحالته عقلاً عليه سبحانه في حديث : " ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة أو دراهم في ترس، وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة، وما العرش في كف الرحمن إلا كحبة خردل في كف أحدكم " فانتفت ظرفية السماء له سبحانه على المعروف لنا، ولأنه سبحانه مستو على عرشه.
وفيما قدمه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في هذا المبحث شفاء وغناء، ولله الحمد والمنة. قال القرطبي : إن في السماء بمعنى فوق السماء كقوله :﴿ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ ﴾ أي فوقها لا بالمماسة والتحيز. وقيل : في بمعنى على كقوله :﴿ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ﴾ أي عليها، إلى أن قال : والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة، منتشرة مشيرة إلى العلو، لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل أو معاند، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت، ووصفه بالعلو ا ه.
وهذا الذي ذكره هو عين مذهب السلف، وقد ذكر كلاماً آخر فيه التأويل وفيه التنزيه.
الطير صافات، أي مادات أجنحتها. ويقبضن : أي يضممنها إلى أجسامها.
قال أبو حيان : عطف بالفعل ويقبضن على الاسم، صافات، ولم يعطف باسم قابضات، لأن الأصل في الطيران هو بسط الجناح، والقبض طارئ، وهذا الذي قاله أبو حيان، جار على القاعدة عندهم من أن الاسم للدوام والثبوت، والفعل للتجدد والحدوث، فالحركة الدائمة في الطيران هي صف الجناح، والجديد عليه هو القبض.
وقوله تعالى :﴿ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَانُ ﴾ دليل على قدرته تعالى وآية لخلقه، كما في قوله تعالى :﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ النحل : ٧٩ ].
فهي آية على القدرة، وقد جاء في آيات أخرى، أنه تعالى هو الذي يمسك السماوات والأرض بقدرته جل وعلا، كما في قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ﴾ [ فاطر : ٤١ ].
فهو سبحانه ممسكهما بقدرته تعالى عن أن تزولا، ولو قدر فرضاً زوالهما، لا يقدر على إمساكهما إلا هو، وكما في قوله :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ [ الحج : ٦٥ ].
تنبيه :
ولعل مما يستدعي الانتباه، توجيه النظر إلى الطير في الهواء صافات ويقبضن، ما يمسكهن إلا الرحمان، بعد التخويف بخسف الأرض، بأنها معلقة في الهواء كتعلق الطير المشاهد إليكم ما يمسكها إلا الله، وإيقاع الخسف بها، كإسقاط الطير من الهواء، لأن الجميع ما يمسكه إلا الله تعالى، وهو القادر على الخسف بها، وعلى إسقاط الطير.
يقول تعالى للمشركين : من هذا الذي غيره سبحانه يرزقكم، إن أمسك الله عنكم رزقه.
والجواب. لا أحد يقدر على ذلك ولا يملكه إلا الله.
وقد صرح تعالى بهذا السؤال وجوابه في قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ﴾ [ سبأ : ٢٤ ].
أي لا أحد سواه سبحانه لا إله إلا هو، قال تعالى :﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾ [ فاطر : ٣ ].
وذلك لأن الذي يقدر على الخلق، هو الذي يملك القدرة على الرزق، كما قال تعالى :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأرض أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبصار وَمَن يُخْرِجُ الْحَي مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَي وَمَن يُدَبِّرُ الأمر فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ [ يونس : ٣١ ].
وكقوله :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ [ الروم : ٤٠ ].
وهذا من كمال القدرة على الإحياء والإماتة والرزق، وقد بين تعالى أن ذلك لمن بيده مقاليد الأمور سبحانه، وتدبير شؤون الخلق كما في قوله تعالى :﴿ لَهُ مَقَلِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ثم قال :﴿ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شيء عَلِيمٌ ﴾ [ الشورى : ١٢ ]، أي يبسط ويقدر، يعلم لا عن نقص ولا حاجة، ولكن يعلم بمصالح عباده، ﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴾ [ الشورى : ١٩ ] أي يعاملهم بلطفه وهو قوي على أن يرزق الجميع رزقاً واسعاً، وهو العزيز في ملكه، فهو يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، كما قال تعالى :﴿ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ ﴾ [ الرعد : ٢٦ ] أي بمقتضى اللطف والعلم ﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [ هود : ٦ ].
ومن هذا كله يرد على أولئك الذين يطلبون عند غيره الرزق، كما في قوله :﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ﴾ [ النحل : ٧٣ ].
وقد جمع الأمرين توبيخهم وتوجيههم في قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [ العنكبوت : ١٧ ].
وقد بين تعالى قضية الخلق والرزق والعبادة كلها في قوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [ الذاريات : ٥٧ -٥٨ ].
وقد بين تعالى في الآيات المتقدمة أنه يرزق العباد من السماوات والأرض جملة.
وبين في آيات أخرى كيفية هذا الرزق تفصيلاً مما يعجز الخلق عن فعله، وذلك في قوله تعالى :﴿ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَّتَاعاً لَّكُمْ ولأنعامكم ﴾ [ عبس : ٢٤ -٣٢ ].
فجميع أنواع الرزق في ذلك ابتداء من إنزال الماء من السماء، ثم ينشأ عنه إشقاق الأرض عن النبات بأنواعه، حباً وعنباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق وفاكهة، وكلها للإنسان، وقضبا وأباً للأنعام، والأنعام أرزاق أيضاً لحماً ولبناً، وجميع ذلك قوامه إنزال الماء من السماء، ولا يقدر على شيء من ذلك كله إلا الله.
فإذا أمسكه الله عن الخلق لا يقوى مخلوق على إنزاله، فإذا علم المسلم أن الأرزاق بيد الخلاق، ومن بيده مقاليد السماوات والأرض، لن يتجه برغبة ولا يتوجه بسؤال إلا إلى الله تعالى، موقناً حق اليقين أنه هو سبحانه هو الرزاق ذو القوة المتين.
وكما قال تعالى :﴿ وَفِى السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ﴾ [ الذاريات : ٢٢ -٢٣ ].
وقد جاء عن عائشة رضي الله عنها قولها : " والله لا يكمل إيمان العبد حتى يكون يقينه بما عند الله أعظم مما بيده ".
تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه بيانه عند قوله تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١٨ ] في سورة المؤمنون.