تفسير سورة الملك

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة الملك من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
بيان إجمالي للسورة
هذه السورة مكية وهي ثلاثون آية واسمها الواقية والمنجية والمانعة. فهي تقي صاحبها وتنجيه من عذاب النار وتمنعه من عذاب القبر. والسورة حافلة بألوان مثيرة وعجاب من المواعظ وصور التذكير والتحذير. وفيها من أخبار النار وما يكابده فيها العصاة والخاسرون من ضروب التنكيل ما يخيف القلب ويستديم في النفس طول التذكير والحذر. وهي مبدوءة بالإخبار من الله عن عظيم صنعه وبالغ قدرته في هذا الكون المنتظم الرتيب الذي لا خلل فيه ولا نشاز ولا تفاوت. كون هائل شاسع مديد، في غاية التماسك والتكامل والانسجام. وفي ذلك من عظيم البرهان ما يكشف عن عظمة الخالق المقتدر وأنه الإله الصانع الحكيم، المنفرد في الخلق والإلهية.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ١ الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور ٢ الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت فارجع البصر هلى ترى من فطور ٣ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ٤ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير ﴾.
ذلك تعظيم من الله لنفسه المباركة، فهو الله الغالب المقتدر، الذي خلق الكون والحياة والإنسان، وخلق السماوات السبع في غاية الإحكام والانتظام والجمال. وهو قوله سبحانه :﴿ تبارك الذي بيده الملك ﴾ يعني تقدس الله وتعاظم، الذي بيده مقاليد كل شيء وفي قبضته وسلطانه ملكوت السماوات والأرض. وهو سبحانه لا يعز عليه أن يفعل في الخلق ما يشاء.
قوله :﴿ الذي خلق الموت والحياة ﴾ وهاتان ظاهرتان كونيتان عظميان في غاية العجب. وهما ظاهرتا الموت وما يعنيه من حقائق مثيرة من الركود والجمود والهمود. ثم ظاهرة الحياة وما تعنيه من الحركة والسعي والجد وغير ذلك من وجوه النشاط والكد والنصب والتصرف. لقد خلق الله هاتين الظاهرتين ﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ ذلك قدر الله في خلقه. وهو سبحانه لا يسأل عما يفعل. فقد خلق الناس للامتحان والمساءلة ليستبين أيهم خير عملا ﴿ وهو العزيز الغفور ﴾ الله القوي الغالب، المنيع الجناب، الذي لا يغالب، وهو سبحانه يغفر الذنب لمن تاب إليه وأناب.
قوله :﴿ الذي خلق سبع سماوات طباقا ﴾ طباقا صفة لسبع جمع طبق. يعني طبقا فوق طبق، بعضها فوق بعض. وذلك من تقدير الله وعظيم صنعه في الخلق. إذ خلق السماوات طباقا سبعا وجعلها في غاية القوة والصلابة والإحكام، وفي غاية الاتساق والانسجام ﴿ ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت ﴾ ليس فيما خلق الله من تنافر أو اختلاف أو اعوجاج أو تناقض أو خلل. بل هو خلق مستو منسجم مستقيم، يدل على عظمة الله الصانع الخالق.
قوله :﴿ فارجع البصر هل ترى من فطور ﴾ يعني اردد بصرك في السماء المنسجمة المتسقة، هل ترى فيها من صدوع أو شقوق أو خروق أو خلل أو غير ذلك من وجوه الوهن والاختلال.
قوله :﴿ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير ﴾ يعني اردد البصر وقلبه في السماء مرتين، أو مرة بعد أخرى، فانظر هل ترى من شقوق أو فتوق أو خلل، ﴿ ينقلب إليك البصر خاسئا ﴾ أي يرجع إليك البصر ذليلا صاغرا مبعدا من رؤية أي تفاوت، ﴿ وهو حسير ﴾ من الحسور، وهو الإعياء. وحسير بمعنى كليل. أو بلغ الغاية في الإعياء من فرط النظر في السماء فلم يجد فيها أيما خلل أو اضطراب. بل سماء متينة التركيب، بالغة القوة والتماسك والتكامل، مما يدل على عظمة الصانع المقتدر ذي الجلال.
قوله :﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح ﴾ مصابيح، جمع مصباح وهو السراج١ ويراد بالمصابيح هنا كواكب السماء ونجومها التي تضيء، فتملأ الآفاق ضياء وإشعاعا، وتثير في الحياة والكائنات آيات من الجمال والبهاء. ومن جملة ما سخّرت له الكواكب والنجوم، أن جعلها الله ﴿ رجوما للشياطين ﴾ أي ترجم الشياطين بشهبها المنفصلة عنها كلما دنت من السماء لتسترق السمع من الملأ الأعلى. وهي كلما اقتربت من قضاء بغيتها في الاستراق، دهمتها الشهب بسرعتها الخاطفة فاحترقت. وفي الآخرة أعد الله لها عذاب السعير. أي النار المتوقدة المستعرة يصلاها الشياطين، ثم يظلون فيها ماكثين دائمين٢.
١ مختار الصحاح ص ٣٥٤..
٢ تفسير ابن كثير جـ٤ ص ٣٩٦ وتفسير القرطبي جـ ١٨ ص ٢١٠، ٢١١..
قوله تعالى :﴿ وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير ٦ إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور٧ تكاد تميّز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتيكم نذير ٨ قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزّل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير ٩ وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ١٠ فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير ﴾.
يتوعد الله الكافرين الذين كذبوا بدينه وجحدوا رسله واتخذوا من دونه آلهة أخرى. أولئك لهم عذاب جهنم وساءت منقلبا ومآلا.
قوله :﴿ إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور ﴾ إذا ألقي الكفار في النار- وهي تتأجج وتتسعر وتضطرم- ﴿ سمعوا لها شهيقا ﴾، والشهيق والشهقة كالصيحة١، والمراد به الصوت أو الصياح الذي يصدر من النار لدى إلقاء الخاسرين فيها، ﴿ وهي تفور ﴾ أي تغلي بهم كغلي القدور أو الماء في المرجل.
١ مختار الصحاح ص ٣٥٠..
قوله :﴿ تكاد تميّز من الغيظ ﴾ أي تكاد النار تتقطع أو ينفصل بعضها من بعض، لشدة غيظها منهم وغضبها عليهم، ﴿ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير ﴾ كلما ألقي في النار طائفة من الظالمين الخاسرين، سألهم زبانية جهنم على سبيل التوبيخ وزيادة في التنكيل : ألم يأتكم رسل يبلّغونكم دعوة ربكم ويحذرونكم مثل هذا اليوم البئيس.
قوله :﴿ قالوا بلى قد جاءنا نذير ﴾ بلى جاءنا الرسول فحذرنا وخوفنا ﴿ فكذبنا وقلنا ما نزّل الله من شيء ﴾ أي جحدنا نبوة المرسلين وكذبنا بما جاءوا به وأنكرنا نزول الوحي عليهم وقلنا لهم ﴿ إن أنتم إلا في ضلال كبير ﴾ يعني ما أنتم إلا تائهون سادرون في البعد عن الحق.
قوله :﴿ وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ﴾ أي لو كانت لنا أسماع فنعي بها ما أنزل إلينا من الحق، أو كانت لنا عقول فنتدبر بها ونفهم ما كان يقوله النبيون، لما كنا اليوم من الكافرين فنصلى معهم عذاب السعير.
قوله :﴿ فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير ﴾ أقروا أنهم خاطئون وأنهم يستحقون العذاب في السعير ﴿ فسحقا لأصحاب السعير ﴾ سحقا منصوب على المصدر. أي أسحقهم سحقا١ والمعنى : بعدا لأهل النار. أو بعدا لهم من رحمة الله٢.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٤٥١..
٢ فتح القدير جـ ٥ ص ٢٦٠ وتفسير الطبري جـ ٢٩ ص ٤..
قوله تعالى :﴿ إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير ١٢ وأسرّوا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ١٣ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ١٤ هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور ﴾.
ذلك تذكير بأهمية التقوى واستدامة الخوف من الله، والاستشعار بأن الله رقيب عليم بالسر والعلن. وبذلك يبادر المرء لاجتناب المعاصي والمحظورات في غفلة الناس وغياب الناظرين. وهو قوله سبحانه :﴿ إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير ﴾ يبين الله لعباده المؤمنين الذين يخافونه ويعبدونه ويطيعونه وهم لا يرونه، أولئك يستر الله عليهم الذنوب بالعفو عنها، ويجزيهم حسن الجزاء.
قوله :﴿ وأسرّوا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ﴾ سواء عليكم أأسررتم كلامكم فقلتموه في خفية واستتار، أو قلتموه في إعلان وجهار، فإن الله عليم بذلك كله. وهو سبحانه يستوي عنده السر والعلن، وهو عليم بما تكنه القلوب من خفايا وأسرار.
قوله :﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ﴾ الاستفهام للإنكار. ومن، في موضوع رفع فاعل ﴿ يعلم ﴾ والمفعول محذوف. أي ألا يعلم الخالق خلقه ؟ ١ فالله خالق كل شيء، وخالق الناس، أفلا يعلم ما تخفيه صدورهم وهو خالقهم، ﴿ وهو اللطيف الخبير ﴾ الجملة في محل نصب حال : أي وهو العليم بلطائف الأمور ودقائقها، الخبير بما يفعله العباد أو يسرّونه.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٤٥١..
قوله :﴿ وهو الذي جعل لكم الأرض ذلولا ﴾ ذلولا، من الذّلة بكسر الذال أي اللين. ذلت الدابة ذلاّ بالكسر وذللت تذليلا أي سهلت وانقادت ١ والمعنى أن الله سهّل لكم الأرض وسخرها لكم تسخيرا، إذ جعلها سهلة مستقرة لا تميد بكم ولا تضطرب، وهيأ لكم فيها أسباب الحياة والعيش والقرار، من الماء والهواء والتراب، والجبال والسهول، والنار والمعادن، وغير ذلك من لوازم الحياة والاستقرار على هذه الأرض. ﴿ فامشوا في مناكبها ﴾ أي امشوا في أطراف الأرض ونواحيها، أو في طرقها وفجاجها، ﴿ وكلوا من رزقه ﴾ والأمر للإباحة، أي كلوا من رزق الله الذي آتاكم، وأخرجه لكم من مناحي الأرض، ومن فجاجها وسهولها وجبالها، ﴿ وإليه النشور ﴾ أي يخرجكم الله من القبور أحياء، ثم تنتشرون في المحشر لتلاقوا الحساب والجزاء٢.
١ مختار الصحاح ص ٢٢٣ والمصباح المنير جـ ٢ ص ٢٢٥..
٢ الكشاف جـ ٤ ص ١٣٨ وتفسير الطبري جـ ٢٩ ص ٥، ٦..
قوله تعالى :﴿ أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور ١٦ أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير ١٧ ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير ١٨ أولم يروا إلى الطير فوقهم صافّات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمان إنه بكل شيء بصير ﴾.
ذلك تخويف من الله للمكذبين الجاحدين، إذ ينذرهم عقابه بخسفهم وتدميرهم. فقال سبحانه :﴿ أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض ﴾ يعني أأمنتم عقوبة من في السماء وهو الله، أو قدرته وسلطانه ﴿ أن يخسف بكم الأرض ﴾ من الخسف وهو الذهاب في الأرض. خسف الله به الأرض أي غاب به فيها١ ﴿ فإذا هي تمور ﴾ أي تذهب وتجيء من المور وهو الاضطراب.
١ مختار الصحاح ص ١٧٥..
قوله :﴿ أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا ﴾ حاصبا أي ريحا فيها حصباء صغار، أو حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل. ﴿ فستعلمون كيف نذير ﴾ يعني : إذا نزل بكم العذاب فعاينتموه فستعلمون حينئذ كيف عاقبة إنذاري ووعيدي لكم بالعقاب.
قوله :﴿ ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير ﴾ يعني لقد كذب المشركون من الأمم السالفة، كقوم نوح وعاد وثمود، وقوم لوط وأصحاب مدين وغيرهم من الظالمين المكذبين :﴿ فكيف كان نكير ﴾ أي فكيف كان إنكاري عليهم، وعقابي لهم بسبب كفرهم وتكذيبهم.
قوله :﴿ أولم يروا إلى الطير فوقهم صافّات ويقبضن ﴾ صافات، أي باسطات أجنحتهن في الجو عند الطيران، ﴿ ويقبضن ﴾ أي يضممن أجنحتهن إذا ضربن بها جنوبهن، ﴿ ما يمسكهن إلا الرحمان ﴾ أي ما يمسكهن في الهواء عند الطيران إلا الله. وذلك بما بث في الطير من القدرة على الطيران، وبما ركب فيهن من أسباب تمكنهن من ذلك. كالهواء الذي يحمل الطير فيسبح فيه، وبما خوّلها الله من أجنحة فتبسطها وتضمها لتمكث في الجو وقتا غير قصير. إن هذه العجيبة لهي من صنع الله الذي خلق كل شيء، ﴿ إنه بكل شيء بصير ﴾ الله مطلع على الأسرار والخفايا، فلا يعزب عن علمه أيما شيء.
قوله تعالى :﴿ أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمان إن الكافرون إلا في غرور ٢٠ أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لّجّوا في عتو ونفور ٢١ أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صرط مستقيم ٢٢ قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون ٢٣ قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ٢٤ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ٢٥ قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين ٢٦ فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدّعون ﴾.
يندد الله بالمشركين الخاطئين الساربين في الجهالة والضلالة، إذ يرجون النصر والعون والرزق من غير الله. أولئك خاطئون متشبثون في الباطل، موغلون في الوهم والغرور. فقال سبحانه :﴿ أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمان ﴾ أم، حرف عطف، ومن، في موضع رفع مبتدأ. وهذا مبتدأ ثان، والذي خبره والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للمبتدأ الأول١ والاستفهام في الآية يراد به الإنكار والتوبيخ للمشركين الجاهلين، الذين يظنون أن آلهتهم المزعومة، تهرع لنجدتهم ونصرتهم إذا نزل بهم بلاء. والمعنى : من ذا الذي يستطيع من الخلق أن يدفع عنكم عذاب الله إن أحاط بكم. إنه ليس لكم أيها المشركون الضالون من جند، أي حزب ومنعة ينصرونكم من بأس الله إن جاءكم.
قوله :﴿ إن الكافرون إلا في غرور ﴾ يعني ما الكافرون إلا واهمين وقد غرهم الشيطان، إذ سوّل لهم أن آلهتهم المزعومة تنصرهم من بأس الله وعذابه إن نزل بهم.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٤٥٢..
قوله :﴿ أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ﴾ يعني أم من ذا الذي يعطيكم طعامكم وشرابكم وأقواتكم إن أمسك الله ذلك فمنعه عنكم ﴿ بل لّجّوا في عتو ونفور ﴾ يعني بل تمادوا في الطغيان والتمرد والاستكبار عن الحق.
قوله :﴿ أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم ﴾. ذلك مثل ضربه الله للكافر والمؤمن. فالأول مكبّ على وجهه يمشي معتسفا في مكان مضطرب غير مستو ولا مستقيم، فيه انخفاض وارتفاع. فما يمشي فيه ساعة حتى يعثر ويخرّ على وجهه ساقطا. وهذا نقيض الثاني الذي يمشي سويا، أي قائما معتدلا سالما من التعثر والخرور، أو السقوط على وجهه. فهو مستقيم في مشيه، غير معتسف ولا مضطرب ولا متعثر. أو أنه يراد بالأول، الأعمى الذي لا يهتدي إلى الطريق، فهو بذلك يعتسف في مشيه ويتخبط وينكب على وجهه ساقطا. وهو ليس كالثاني السوي البصير، الذي يمشي في طريقه ضالا هائما متلجلجا.
وتلك هي حال الكافرين في كل زمان. فإنهم ضالون يساقون في حياتهم الدنيا إلى ما تسوّله الأهوال والشهوات. فما يطغى على أنفسهم وطبائعهم إلا الأثرة والطمع والغريزة. أولئك هم الضالون من الناس الذين تسوقهم الشياطين إلى الضلال والمفاسد والشرور وظلم الإنسان للإنسان، أما المؤمنون الصادقون الذين يستضيئون بنور العقيدة الربانية السمحة، ويستظلون بظل الإسلام الرخيّ الحاني، لا جرم أنهم في حياتهم آمنون سالمون أسوياء، غير مضطربين ولا متعثرين ولا مذعورين.
قوله :﴿ قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ﴾ يبين الله لعباده مننه عليهم، إذ بدأ خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئا، ثم جعل لهم السمع ليسمعوا به، والأبصار ليبصروا بها، والعقول ليتفكروا بها ويفهموا.
قوله :﴿ قليلا ما تشكرون ﴾ قليلا، منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف. وما، زائدة، للتأكيد. والمعنى : لا تشكرون الله على ما أنعم به عليكم من صنوف النعم، إلا شكرا قليلا. فأنتم تكفرون نعم الله عليكم، وتسخّرونها في العصيان والباطل.
قوله :﴿ قل هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ﴾ أي أخبرهم يا محمد بأن الله هو الذي خلقهم وبثهم في أقطار الأرض على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وصورهم، ثم يحشرهم إليه يوم القيامة للحساب والجزاء.
قوله :﴿ ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ﴾ يسأل المشركون على سبيل التكذيب والاستسخار : متى تقوم القيامة، ومتى يكون العذاب الذي تخوفوننا به. وهم بذلك يخاطبون الرسول والذين آمنوا معه.
قوله :﴿ قل إنما العلم عند الله ﴾ أي لا يعلم أوان الساعة أحد غير الله، فهو سبحانه مستأثر بعلمها لنفسه وحده. ﴿ وإنما أنا نذير مبين ﴾ لست إلا مبعوثا لكم من الله، أبلغكم رسالة ربي، وأحذركم الكفر والضلال والعصيان.
قوله :﴿ فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا ﴾ يعني لما رأى الكافرون الوعد، وهو قيام الساعة أو العذاب ﴿ زلفة ﴾ أي قريبا فعاينوه ﴿ سيئت وجوه الذين كفروا ﴾ أي ساءت معاينة العذاب وجوه الكافرين المكذبين، فغشيها من الاغتمام والكلوح والعبوس والتجهم ما غشيها ﴿ وقيل هذا الذي كنتم به تدعون ﴾ أي تقول لهم زبانية جهنم : هذا العذاب الذي كنتم تطلبونه وتستعجلونه١
١ الكشاف جـ ٤ ص ١٣٩ وفتح القدير جـ ٥ ص ٢٦٥..
قوله تعالى :﴿ قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ٢٨ قل هو الرحمان آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين ٢٩ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ﴾.
كان المشركون من أهل مكة يتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم الموت ويدعون عليه وعلى المؤمنين بالهلاك، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : إن أماتني الله أيها الناس ومن معي من المؤمنين، أو رحمنا فأخّر آجالنا، فمن ذا الذي يمنعكم من عذاب الله إن جاءكم. فلا فائدة لكم في التربص بنا، أو استعجال الموت لنا، وإنه لا مناص لكم من نزول النكال الأليم بكم.
قوله :﴿ قل هو الرحمان آمنا به وعليه توكلنا ﴾ يعني ربنا الرحمان، صدّقنا به واعتمدنا عليه، وفوضنا كل أمورنا إليه ﴿ فستعلمون من هو في ضلال مبين ﴾ سوف تعلمون أيها المشركون المكذبون المتربصون، يوم الحشر، من هو تائه عن الحق، موغل في الضلالة والعماية، ومن هو مهتد رشيد، ماض في طريق الله المستقيم.
قوله :﴿ قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ﴾، غورا أي غائر، وصف بالمصدر للمبالغة١ يعني، قل لهم : أرأيتم أيها المشركون إن أصبح ماؤكم الذي تشربونه غائرا، ذاهبا في الأرض حتى عزّ عليكم إخراجه أو بلوغه، ﴿ فمن يأتيكم بماء معين ﴾ من ذا الذي يأتيكم بماء ظاهر سائح جار قريب، تشربون منه وتسقون حرثكم وأنعامكم. فإن أقروا أنه لا يأتيهم به إلا الله، فَلِمَ يشركون به ويتخذون معه أو من دونه الأنداد والأرباب٢
١ مختار الصحاح ص ٤٨٤..
٢ الكشاف جـ ٤ ص ١٤٠ وتفسير الطبري جـ ٢٩ ص ٨ وتفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٤٠٠..
Icon