تفسير سورة النّور

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة النور من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿سُورَةٌ﴾ السورة في اللغة: المنزلة السامية والمكانة الرفيعة قال النابغة:
ألم تَرَ أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب
وسميت المجموعة من الآيات لها بدءٌ ونهاية سورة لشرفها وارتفاعها كما يسمى السور للمرتفع من الجدار ﴿الزاني﴾ الزنى: الوطء المحرم ويسمى الفاحشة لتناهي قبحه وهو مقصور وقد يمد على لغة أهل نجد فيقال الزناء قال الفرزدق:
أبا طاهر من يزن يعرف زناؤه ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكراً
﴿رَأْفَةٌ﴾ شفقة وعطف مأخوذ من رؤف إذا رق ورحم ﴿المحصنات﴾ العفيفات وأصل الإِحصان المنع سميت العفيفة محصنة لأنها منعت نفسها عن القبيح، ومنه الحصن لأنه يمنع من الأعداء ﴿يَدْرَؤُاْ﴾ يدفع والدرء: الدفع ﴿تَشِيعَ﴾ شاع الأمر شيوعاً إذا فشا وظهر وانتشر ﴿عُصْبَةٌ﴾
297
العصبة: الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض.
سَبَبُ النّزول: أ - روي أن امرأةً تُدعى «ام مهزول» كانت من البغايا فكانت تُسافح الرجل وتشرط أن تنفق عليه، فأراد رجل من المسلمين أن يتزوجها فذكر ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل الله ﴿الزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ﴾ الآية.
ب - عن ابن عباس أن «هلال بن أُمية» قذف امرأته عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ب «شريك بن سحماء» فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «البيتةُ أو حدٌّ في ظهرك» فقال يا رسول الله: إذا رأى أحدنا مع امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ والذي بعثك بالحق إني لصادقٌ، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت ﴿والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ..﴾ الآية.
التفسِير: ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا﴾ أي هذه سورة عظيمة الشأن من جوامع سور القرآن أوحينا بها إليك يا محمد ﴿وَفَرَضْنَاهَا﴾ أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجاباً قطعياً ﴿وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ أي أنزلنا فيها آياتٍ تشريعية، واضحات الدلالة على أحكامها، لتكون لكم - أيها المؤمنون - قبساً ونبراساً، وتكريرُ لفظ الإِنزال كمال العناية بشأنها فكأنه يقول: ما أنزلتها عليكم لمجرد التلاوة وإنما أنزلتها للعمل والتطبيق ﴿لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أي لكي تعتبروا وتتعظوا بهذه الأحكام وتعملوا بموجبها، ثم شرع تعالى بذكر الأحكام وبدأ بحد الزنى فقال ﴿الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾ أي فيما شرعت لكم وفرضت عليكم أن تجلدوا كل واحدٍ من الزانيين - غير المحصنين - مائة ضربة بالسوط عقوبة لهما على هذه الجريمة الشنيعة ﴿وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله﴾ أي لا تأخذكم بهما رقة ورحمة في حكم الله تعالى فتحففوا الضرب أو تنقصوا العدد بل أوجعوهما ضرباً قال مجاهد: لا تعطلوا حدود الله ولا تتركوا إقامتها شفقة ورحمة ﴿إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر﴾ هذا من باب الإِلهاب والتهييج أي إن كنتم مؤمنين حقاً تصدقون بالله وباليوم الآخر، فلا تعطلوا الحدود ولا تأخذكم شفقة بالزناة، فإن جريمة الزنى أكبر من أن تستدر العطف أو تدفع إلى الرحمة ﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين﴾ أي وليحضر عقوبة الزانيين جماعةٌ من المؤمنين، ليكون أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، فإنَّ الفضيحة قد تنكل أكثر مما ينكل التعذيب ﴿الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾ أي الزاني لا يليق به أن يتزوج العفيفة الشريفة، إنما ينكح مثله أو أخسَّ منه كالبغيّ الفاجر، أو المشركة الوثنية ﴿والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ﴾ أي والزانية لا يليق أن يتزوج بها المؤمن العفيف، إنما يتزوجها من هو مثلها أو أخسَّ منها، كالزاني الخبيث أو المشرك الكافر، فإن النفوس الطاهرة تأبى الزواج بالفواجر الفاسقات، قال الإِمام الفخر: «من أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية: أنَّ الفاسقَ الخبيث - الذي من شأنه الزنى والفِسق - لا يرغب في نكاحها الصوالح من النساء، وإنما يرغب في فاسقةٍ خبيثةٍ مثله أو في مشركة، والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من جنسها
298
من الفسقة والمشركين، وهذا على الأعم الأغلب كما يقال: لايفعل الخير إلا الرجل التقي، وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقيٍّ فكذا هنا» ﴿وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين﴾ أي وحرم الزنى على المؤمنين لشناعته وقبحه، أو حرم نكاح الزواني على المؤمنين لما فيه من الأضرار الجسيمة.
. ثم شرع تعالى في بيان حد القذف فقال ﴿والذين يَرْمُونَ المحصنات﴾ أي يقذفون بالزنى العفيفات الشريفات ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ﴾ أي ثم لم يأتوا على دعواهم بأربعة شهود عدول يشهدون عليهم بما نسبوا إليهم من الفاحشة ﴿فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ أي اضربوا كل واحدٍ من الرامين ثمانين ضربةً بالسوط ونحوه، لأنهم كذبة يتهمون البريئات، ويخوضون في أعراض الناس ﴿وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً﴾ أي وزيدوا لهم في العقوبة بإهدار كرامتهم الإِنسانية فلا تقبلوا شهادة أي واحدٍ منهم ما دام مصراً على كذبه وبهتانه ﴿وأولئك هُمُ الفاسقون﴾ أي هم الخارجون عن طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ لإِتيانهم بالذنب الكبير، والجرم الشنيع قال ابن كثير: أوجب تعالى على القاذف إذا لم يُقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام: أحدها أن يجلد ثمانين جلدة الثاني: أن ترد شهادته أبداً الثالث: أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس ﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك﴾ أي إلا الذين تابوا وأنابوا وندموا على ما فعلوا من بعد ما اقترفوا ذلك الذنب العظيم ﴿وَأَصْلَحُواْ﴾ أي أصلحوا أعمالهم فلم يعودوا إلى قذف المحصنات قال ابن عباس: أي أظهروا التوبة ﴿فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي فاعفوا عنهم واصفحوا وردُّوا إليهم اعتبارهم بقبول شهادتهم، فإن الله غفور رحيم يقبل توبة عبده إذا تاب وأناب وأصلح سيرته وحاله.
. ثم ذكر تعالى حكم من قذف زوجته وهو المعروف باللعان فقال ﴿والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ﴾ أي يقذفون زوجاتهم بالزنى ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ﴾ أي وليس لهم شهود يشهدون بما رموهنَّ به من الزنى سوى شهادة أنفسهم ﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله﴾ أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حدَّ القذف أربع شهادات بالله تقوم مقام الشهداء الأربعة ﴿إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين﴾ أي إنه صادقٌ فيما رمى به زوجته من الزنى ﴿والخامسة أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ﴾ أي وعليه أيضاً أن يحلف في المرة الخامسة بأن لعنة الله عليه ﴿إِن كَانَ مِنَ الكاذبين﴾ أي إن كان كاذباً في قذفه لها بالزنى ﴿وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب﴾ أي ويدفع عن الزوجة المقذوفة حدَّ الزنى الذي ثبت بشهادة الزوج ﴿أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الكاذبين﴾ أي أن تحلف أربع مرات إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنى ﴿والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصادقين﴾ أي وتحلف في المرة الخامسة بأنَّ غضب الله وسخطه عليها إن كان زوجها صادقاً في اتهامه لها بالزنى ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ أي ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم بالستر في ذلك، وجوابُ ﴿وَلَوْلاَ﴾ محذوف لتهويل الأمر تقديره: لهلكتم أو لفضحكم أو عاجلكم بالعقوبة، ورب مسكوتٍ عنه أبلغ من المنطوق ﴿وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ أي وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة، حكيم في ما شرع من الأحكام ومن جملتها حكم اللعان قال أبو السعود: وجواب لولا محذوف
299
لتهويله كأنه قيل: ولولا تفضله تعالى عليكم ورحمته بكم لكان ما كان ممّا لا يحيط به نطاق البيان ومن جملته أنه تعالى لو لم يشرع لهم ذلك لوجب على الزوج حدُّ القذف مع أن الظاهر صدقه لاشتراكه في الفضيحة، ولو جعل ضهاداته موجبةً لحد الزنى عليها لفات النظر لها، ولو جعل شهادتها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له، فسبحانه ما أعظم شأنه، وأوسع رحمته، وأدقَّ حكمته.. ثم بيَّن تعالى «قصة الإِفك» التي اتهمت فيها العفيفة البريئة الطاهرة أم المؤمنين عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها بالكذب والبهتان فقال ﴿إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك﴾ أي جاءوا بأسوء الكذب وأشنع صور البهتان وهو قذف عائشة بالفاحشة قال الإِمام الفخر: الإِفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وقد أجمع المسلمون على أن المراد ما أُفك به على عائشة وهي زوجة الرسول المعصوم ﴿عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ﴾ أي جماعة منكم أيها المؤمنون وعلى رأسهم «ابن سلول» رأس النفاق ﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ﴾ أي لا تظنوا هذا القذف والاتهام شراً لكم يا آل أبي بكر ﴿بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ لما فيه من الشرف العظيم بنزول الوحي ببراءة أم المؤمنين، وهذا غاية الشرف والفضل قال المفسرون: والخير في ذلك من خمسة أوجه: تبرئة أم المؤمنين، وكرامة الله لها بإنزال الوحي في شأنها، والأجر الجزيل لها في الفِرية عليها، وموعظة المؤمنين، والانتقام من المفترين ﴿لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم﴾ أي لك فردٍ من العُصبة الكاذبة جزاء ما اجترح من الذنب على قدر خوضه فيه ﴿والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ﴾ أي والذي تولى معظمه وأشاع هذا البهتان وهو «ابن سلول» رأس النفاق ﴿لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي له في الآخرة عذاب شديد في نار جهنم ﴿لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ أي هلاَّ حين سمعتم يا معشر المؤمنين هذا الافتراء وقذف الصديقة عائشة ﴿ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً﴾ أي هلاّ طنوا الخير ولم يسرعوا إلى التهمة فيمن عرفوا فيها النزاهة والطهارة؟ فإن مقتضى الإِيمان ألاّ يصدق مؤمنٌ على أخيه قوله عائب ولا طاعن قال ابن كثير: هذا تأديبٌ من الله تعالى للمؤمنين في قصة عائشة حين أفاض بعضهم في ذلك الكلام السُّوء، وهلا قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم فإن كان لا يليق بهم فأمُ المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى، وري أن امرأة «أبي أيوب» قالت له: أما تسمع ما يقول الناسُ في عائشة! قال: نعم وذلك الكذب، أكنت فاعلةً ذكل يا أم أيوب؟ قالت: لا والله قال فعائشة والله خير منك، ﴿وَقَالُواْ هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ أي قالوا في ذلك الحين هذا كذبٌ ظاهر مبين ﴿لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ﴾ أي هلاّ جاء أولئك المفترون بأربعة شهود يشهدون على ما قالوا ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ﴾ أي فإن عجزوا ولم يأتوا على دعواهم بالشهود ﴿فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون﴾ أي فأولئك هم المفسدون الكاذبون في حكم الله وشرعه، وفيه توبيخُ وتعنيف للذين سمعوا الإِفك ولم ينكروه أول وهلة ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدنيا والآخرة﴾ أي لولا فضله تعالى عليكم - أيها الخائضون في شأن عائشة - ورحمته بكم في الدنيا والآخرة حيث أمهلكم ولم يعاجلكم بالعقوبة ﴿لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ﴾ أي لأصابكم
300
ونالكم بسبب ما خضتم فيه من حديث الإِفك ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي عذاب شديد هائل يُستحقر دونه الجلد والتعنيف قال القرطبي: هذا عتابٌ من الله بليغُ لمن خاضوا في الإِفك، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا، ويرحم في الآخرة من أتاه تائباً ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾ أي وذلك حين تتلقونه ويأخذه بعضكم من بعض بالسؤال عنه قال مجاهد: أي يرويه بعضُكم عن بعض، يقول هذا سمعته من فلان، وقال فلانٌ كذا ﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ أي تقولون ما ليس له حقيقة في الواقع، وإنما هو محض كذبٍ وبهتان ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً﴾ أي وتظنونه ذنباً صغيراً لا يلحقكم فيه إثم ﴿وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ﴾ أي والحال أنه عند الله من أعظم الموبقات والجرائم لأنه وقوع في أعراض المسلمين قال في التسهيل: عابتهم تعالى على ثلاثة أشياء: الأول: تلقيه بالألسنة اي السؤال عنه والثاني: التكلم به والثالث: استصغاره حيث حسبوه هيناً وهو عند الله عظيم، وفائدة قوله بألسنتكم وبأفواهكم الإِشارة إلى أنَّ ذلك الحديث كان باللسان دون القلب لأنهم لم يعلموا حقيقته بقلوبهم ﴿ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا﴾ عتابٌ لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه أول ما سماعكم له وتقولوا لا ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد ﴿سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ أي سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسول الله الطاهرة البريئة فإن هذا الافتراء كذبٌ واضح، عظيم الرم قال الزمخشري: هو بمعنى العجب من عظيم الأمر والاستبعاد له، والأصل في ذلك أن يُسبَّح الله عند رؤية العجائب ﴿يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً﴾ أي يذكركم الله ويعظكم بالمواعظ الشافية لكي لا تعودوا إلى مثل هذا العمل أبداً ﴿إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ أي إن كنتم حقاً مؤمنين فإن الإيمان وازع عن مثل البهتان، وفيه حثٌ لهم على الاتعاظ وتهييج ﴿وَيُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات﴾ أي ويوضح لكم الآيات الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب، لتتعظوا وتتأدبوا بها ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي عالم بما يصلح العباد، حكيم في تدبيره وتشريعه ﴿إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة﴾ أي يريدون أن ينتشر الفعل القبيح المفرط في القبح كإشاعة الرذيلة والزنى وغير ذلك من المنكرات ﴿فِي الذين آمَنُواْ﴾ أي في المؤمنين الأطهار ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنيا والآخرة﴾ أي لهم عذاب موجع مؤلم في الدنيا فإقامة الحدِّ، وفي الآخرة بعذاب جهنم قال الحسن: عنى بهذا الوعيد واللعن المنافقين فإ نهم أحبوا وقصدوا إذاية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذلك كفرٌ وملعون صاحبه ﴿والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ أي هو تعالى عالمٌ بالخفايا والنوايا وأنتم لا تعلمون ذلك قال الإِمام الفخر: وهذه الجملة فيها حسنُ الموقع بهذا الموضع، لأنه محبة القلب كامنةٌ ونحن لا نعلمها إلاّ بالأمارات أما الله سبحانه فهو لا يخفى عليه شيء، فصار هذا الذكر نهايةً في الزجر لأن من أحبَّ إشاعة الفاحشة وإن بالغَ في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله تعالى يعلم ذلك منه ويعلم قدر الجزاء عليه ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ جواب ﴿لَوْلاَ﴾ محذوف لتهويل الأمر أي لولا فضله تعالى على عباده ورحمته بهم لأهلكهم وعذَّبهم، وكان
301
ما كان مما لا يكاد يتصوره الإِنسان لأنه فوق الوصف والبيان.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - التنكير للتفخيم ﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا﴾ أي هذه سورة عظيمة الشأن، جليلة القدر أنزلها الله.
٢ - الإِطناب بتكرير لفظ ﴿أَنزَلْنَا﴾ في قوله ﴿وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ لإِبراز كمال العناية بشأنها، وهو من باب ذكر الخاص بعد العام للعناية والاهتمام.
٣ - الاستعارة ﴿يَرْمُونَ المحصنات﴾ أصل الرمي القذفُ بالحجارة أو بشيء صلب ثم استعير للقذف باللسان لأنه يشبه الأذى الحسّي ففيه استعارة لطيفة.
٤ - التهييج والإِلهاب ﴿إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ﴾ كقولهم إن كنت رجلاً فاقدم.
٥ - صيغة المبالغة ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ و ﴿تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ فإن «فعول، وفعّال، وفعيل» من سيغ المبالغة وكلها تفيد بلوغ النهاية في هذه الصفات.
٦ - الطباق بين ﴿الصادقين﴾ و ﴿الكاذبين﴾.
٧ - حذف جواب ﴿لَوْلاَ﴾ للتهويل في ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ وذلك حتى يذهب الوهم في تقديره كل مذهب فيكون أبلغ في البيان وأبعد في التهويل والزجر.
٨ - الطباق ﴿لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ وكذلك ﴿وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ﴾ فقد طابق بين الشر والخير، وبين الهيّن والعظيم.
٩ - الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ﴿لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون﴾ والأصل أن يقال ظننتم وإنما عدل عنه مبالغة في التوبيخ وإشعاراً بأن الإيمان يقتضي ظنَّ الخير بالمؤمنين.
١٠ - التحضيض ﴿لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ﴾ أي هلاَّ جاءوا وغرضُه التوبيخ واللوم.
١١ - التعجب ﴿سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ ففيه تعجب ممن يقول ذلك والأصل في ذكر هذه الكلمة ﴿سُبْحَانَكَ﴾ أن يُسبح الله تعالى عند رؤية العجيب من صنائعه، تنزيهاً له من أن يخرج مثله عن قدرته ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه.
فَائِدَة: لماذا بدأ الله في الزنى بالمرأة، وفي السرقة بالرجل؟ والجواب أن الزنى من المرأة أقبح، وجرمه أشنع فبدأ بها، وأما لاسرقة فالرجل عليها أجرأ وهو عليها أقدر ولذلك بدأ به ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا﴾.
تنبيه: في التعبير بالإِحصان ﴿والذين يَرْمُونَ المحصنات﴾ إشارة دقيقة إلى أنَّ قذف العفيف من الرجال أو النساء موجب لحدِّ القذف، وأما إذا كان الشخص معروفاً بفجوره أو اشتهر بالاستهتار والمجون فلا حدَّ على قاذفه، لأنه لا كرامة للفاسق الماجن. فتدبر السر الدقيق.
لطيفَة: لماذا عدل عن قوله ﴿تَوَّابٌ رَّحِيمٌ﴾ إلى قوله ﴿تَوَّابٌ حَكِيمٌ﴾ كه م تلرجكو نمتسب تلنزبو؟ والجواب أن الله عَزَّ وَجَلَّ أراد الستر على العباد بتشريع اللعان بين الزوجين، فلو لم يكن اللعان مشروعاً لوجب على الزوج حدُّ القذف مع أن الظاهر صدقه، ولو اكتفى بلعانه لوجب على الزوجة حدُّ الزنى، فكان من الحكمة وحسن النظر لهما جميعاص أن شرع هذا الحكم، ودرأ عنهما
302
العذاب بتلك الشهادات، فسبحانه ما أوسع رحمته، وأجل حكمته!!.
303
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى حادثة الإفك، أبتعها بالتحذير من سلوك طريق الشيطان المتربص بالإِنسان الذي يدعو إلى السوء والشر والفساد، ثم ذكر تعالى آداب الاستئذان والزيارة لأن أهل الإِفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم ن حيث اتفقت الخلوة فصارت طريقاً للتهمة، فأوجب تعالى ألا يدخل إنسان ببيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام، ثم أبتعها بآيات غضِّ البصر.
اللغَة: ﴿يَأْتَلِ﴾ يحلف والأليَّةُ: اليمين ومنه ﴿يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٢٦] اي يحلفون ﴿المحصنات﴾ العفائف الشريفات الطاهرات جمع محصنة وهي العفيفة ﴿مُبَرَّءُونَ﴾ منزهون والبراءة: النزاهة مما نسب للإِنسان من تهمة ﴿تَسْتَأْنِسُواْ﴾ تستأذنوا وأصله في اللغة: طلبُ الأنس بالشيء قال الشاعر:
عوى الذئب فاستأنستُ للذئب إِذْ عوى وصوَّت إِنسانٌ فكدت أطير
﴿يَغُضُّواْ﴾ غضَّ بصره: خفضه ونكَّسه وأصله إطباق الجفن على الجفن قال جرير:
فغُضَّ الطّرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلابا
﴿بِخُمُرِهِنَّ﴾ جمع خمار وهو ما تغطي به المرأة رأسها، وخمّروا الآنية أي غطوها ﴿جُيُوبِهِنَّ﴾ جمع جيب وهو الصدر ﴿الإربة﴾ الحاجة إلى النساء.
سَبَبُ النّزول: أ - كان أبو بكر الصدّيق ينفق على «مسطح بن أُثاثة» لمسكنته وقرابته، فلما وقع أمر الإِفك وقال فيه مسطحٌ ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعةٍ أبداً فأنزل الله ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة..﴾ الآية فقال أبو بكر: واللهِ إني لأحبُ أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.
ب - عن علي كرم الله وجهه قال: مرَّ رجل على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في طريقٍ من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأةٍ ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم نيظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جانب حائط ينظر إليها إذ استقبله الحائط «أي صدمه الحائط» فشقَّ أنفه فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليهوسلم فأُعلمه أمري، فأتاه فقصَّ عليه قصته فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هذا عقوبة ذنبك فأنزل الله ﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ..﴾ الآيات.
التفسِير: ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ أي يا من صدَّقتم بالله ورسوله لا تتبعوا لآثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه بإِشاعة الفاحشة، والإِصغاء إِلى الإِفك والقول به ﴿وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ أي ومن يتبع سيرة الشيطان وطريقته ﴿فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشآء والمنكر﴾ أي فإِن الشيطان يضل الإِنسان ويغويه لأنه يأمر بالفحشاء وهي ما أفرط قبحه، والمنكر وهو ما ينكره الشرع وتنفر منه العقول السليمة ﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ أي لولا فضل الله عليكم أيها المؤمنون بالتوفيق للتوبة الماحية للذنوب، وبشرع الحدود المكفرة للخطايا ﴿مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً﴾ أي ما تطهر أحدٌ منكم من الأوزار أبد الدهر ﴿ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ﴾ أي ولكن الله بفضله ورحمته يطهر من يشاء بتوفيقه للتوبة النصوح وقبولها منه قال القرطبي: والغرض أن تزكيته لكم، وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم ﴿والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ أي سميع لأقوالكم عليم بنياتكم
304
وضمائركم ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة﴾ أي لا يحلف أهل الفضل في الدين وأصحاب الغنى واليسار ﴿أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله﴾ أي أن لا يؤتوا أقاربهم من الفقراء والمهاجرين ما كا نوا يعطونهم إيَّاه من الإِحسان لذنب فعلوه ﴿وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا﴾ أي وليعفوا عمّا كان منهم من جرم، وليصفحوا عما بدر منهم من إساءة، وليعودوا إلى ما كانوا عليه من الإِنعام والإِحسان ﴿أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ﴾ أي ألا تحبون أيها المؤمنون أن يغفر الله لكم على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم؟ روي أن أبا بكر لما سمع الآية قال: بلى أحب أن يغفر الله لي وأعاد النفقة إلى مسطح وكفَّر عن يمينه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً!! قال المفسرون: والآية دالة على فضل أبي بكر فإن الله تعالى امتدحه بقوله ﴿وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل﴾ وكفى به دليلاً على فضل الصدّيق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأرضاه ﴿والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي مبالغ في المغفرة والرحمة مع كمال قدرته على العقاب، ثم توعَّد تعالى الذين يرمون العفائف الطاهرات فقال ﴿إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات﴾ أي يقذفون بالزنى العفيفات، السليمات الصدور، النقيات القلوب عن كل سوء وفاحشة ﴿المؤمنات﴾ أي المتصفاب بالإيمان مع طهارة القلب ﴿لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة﴾ أي طردوا وأُبعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة قال ابن عباس: هذا اللعن فيمن قذف زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذْ ليس له توبة، ومن قذف مؤمنة جعل الله له توبه وقال أبو حمزة: نزلت في مشركي مكة، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا خرجت لتفجر ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ أي ولهم مع اللعنة عذاب هائل لا يكاد يوصف بسبب ما ارتكبوا من إثم وجريمة ﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي وذلك العذاب الشديد في ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - حين تشهد على الإِنسان جوارحه فتنطق الألسنة والأيدي والأرجل بما اقترف من سيء الأعمال ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق﴾ أي يوم القيامة ينالهم حسابهم وجزاؤهم العادل من أحكم الحاكمين ﴿وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين﴾ أي ويعلمون حينئذٍ أن الله هو العادل الذي لا يظلم أحداً، الظاهر عدله في تشريعه وحكمه.
. ثم ذكر تعالى بالدليل القاطع، والبرهان الساطع براءة عائشة ونزاهتها، فهي زوجة رسول الله الطيب الطاهر وقد جرت سنة الله أن يسوق الجنس إلى جنسه، فلو لم تكن عائشة طيبة لما كانت زوجة لأفضل الخلق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهذا قال ﴿الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ﴾ أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، وكذلك الطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء، وهذا كالدليل على براءة عائشة لأنها زوجة أشرف رسول وأكرم مخلوق على الله، وما كان الله ليجعلها زوجة لأحبِّ عباده لو لم تكن عفيفة طاهرة شريفة ﴿أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ﴾ أي أولئك الفضلاء منزهون ممَّا تقوَّله أهل الإِفك في حقهم من الكذب
305
والبهتان ﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ أي لهم على نالهم من الأذى مغفرة لذنوبهم، ورزقٌ كريم في جنات النعيم قال ابن كثير: وفيه وعدٌ بأن تكون زوجة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الجنة ﴿ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ﴾ لما حذَّر تعالى من قذف المحصنات وشدد العقاب فيه، وكان طريق هذا الاتهام مخالطة الرجال للنساء، ودخولهم عليهم في أوقات الخلوات أرشد تعالى إلى الآداب الشرعية في دخول البيوت فأمر الاستئذان قبل الدخول وبالتسليم بعده ﴿حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا﴾ أي لا تدخلوا بيوت الغير حتى تستأذنوا وتسلموا على أهل المنزل ﴿ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ أي ذلك الاستئذان والتسليم خير لكم من الدخول بغتة ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أي لتتعظوا وتعملوا بموجب هذه الآداب الرشيدة قال القرطبي: المعنى إن الاستئذان والتسليم خير لكم من الهجوم بغي إذن ومن الدخول على الناس بغتة أو من تحية الجاهلية فقد كان الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته قال: حُيّيتم صباحاً، وحُييتم مساءً ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحافٍ، وروي أرجلاً قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أأستأذن على أمي؟ قال نعم، قال ليس لها خادمٌ غيري، أأستأذن عليه ما كلما دخلتُ؟ قال: أتحب أن تراها عريانه؟ قال لا، قال فاستأذن عليها ﴿فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً﴾ أي فإن لم تجدوا في البيوت أحداً يأذن لكم بالجخول إليها ﴿فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمْ﴾ أي فاصبروا ولا تدخوها حتى يسمح لكم بالدخول، لأن للبيوت حرمة ولا يحل جخولها إلا بإذن أصحابها ﴿وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا﴾ أي وإن لم يؤذن لكم وطلب منكم الرجوع فارجعوا ولا تلحًّوا ﴿هُوَ أزكى لَكُمْ﴾ أي الرجوع أطهر وأكرم لنفوسكم وهو خير لكم من اللجاج والانتظار على الأبواب ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ أي هو تعالى عالم بالخفايا والنوايا وبجميع أعمالكم فيجازيكم عليها قال القرطبي: وفيه توعدٌ لأهل التجسس على البيوت، ثم إنه تعالى لما ذكر حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور غير المسكونة فقال ﴿لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ أي ليس عليكم إثمٌ وحرج ﴿أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ﴾ أي أن تدخلوا بغير استئذان بيوتاً لا تختص بسكنى أحد كالرباطات والفنادق والخانات قال مجاهد: هي الفنادق التي في طرق السابلة لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل ﴿فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ﴾ أي فيها منفعة لكم أو حاجة من الحاجات كالاستظلال من الحر، وإيواء الأمتعة والرحال ﴿والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ أي يعلم ما تظهرون وما تُسرون في نفوسكم فيجازيكم عليه قال ابو السعود: وهذا وعيدٌ لمن يدخل مدخلاً لفسادٍ أو اطلاع على عورات، ثم أرشد تعالى إلى الآجاب الرفيعة من غض البصر، وحفظ الفروج فقال ﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ أي قل يا محمد لأتباعك المؤمنين يكفوا أبصارهم عن النظر إلى الأجنبيات من غير المحارم، فإن النظرة تزرع في القلب الشهوة، ورُبَّ شهوة أورثت حزناً طويلاً
كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر
﴿وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ﴾ أي يصونوا فروجهم عن الزنى عن الإِبداء والكشف ﴿ذلك أزكى لَهُمْ﴾ أي ذلك الغضُّ والحفظ أطهرُ للقلوب، وأتقى للدين، وأحفظ من الوقوع في الفجور {إِنَّ الله
306
خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} أي هو تعالى رقيبٌ عليهم، مطلعٌ على أعمالهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم، فعليهم أن يتقوا الله في السر والعلن قال الإِمام الفخر: فإن قيل فلم قدم غضَّ الأبصار على حفظ الفروج؟ قلنا: لأن النظر بريد الزنى، ورائد الفجور، والبلوى فيه أشدُّ وأكثر، ولا يكاد يُحترس منه ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾ أي وقل أيضاً للمؤمنات يكففن أبصارهم عن النظر إلى ما لا يحل لهن النظر إليه، ويحفظن فروجهن عن الزنى وعن كشف العورات، قال المفسرون: أكد تعالى الأمر للمؤمنات بغض البصر وحفظ الفروج، وزادهن في التكليف على الرجال بالنهي عن إبداء الزينة إلا للمحارم والأقرباء فقال ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ أي ولا يكشفن زينتهن للأجانب إلا ما ظهر منها بدون قصدٍ ولا نية سيئة قال ابن كثير: أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه، كما قال ابن مسعود: الزينة زينتان: فزينةٌ لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار، وزينةٌ يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب، وقيل: المراد به الوجه والكفان فإنهما ليسا بعورة قال البيضاوي: والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ﴾ أي وليلقين الخمار وهو غطاء الرأس على صدورهم لئلا يبدو شيء من النحر والصدر، وفي لفظ الضر مبالغة في الصيانة والتستر، عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنها قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأُول لما أنزل الله ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ﴾ شققن مروطهن فاختمرن بها قال المفسرون: كانت المرأة في الجاهلية - كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة - تمر بين الرجال مكشوفة الصدر، بادية النحر، حاسرة الذراعين، وربما أظهرت مفاتن جسمها وذوائب وشعرها لتغري الرجال، وكنَّ يسدلن الخُمُر من ورائهن فتبقى صدورهن مكشوفة عارية، فأمرت المؤمنات بأن يلقينها من قدامهن حتى يغطينها ويدفعن عنهن شر الأشرار ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ أي ولا يظهرن زينتهن الخفية التي حرم الله كشفها إلا لأزواجهن ﴿أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ﴾ أي أو لآبائهن أن آباء أزواجهن وهو العم أبو الزوج فإنهما من المحارم، فإن الأب يصون عرض ابنته، ووالد الزوج يحفظ على ابنه ما يسوءه، ثم عدد بقية المحارم فقال ﴿أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ﴾ فذكر تعالى الأبناء، وأبناء الأزواج، والإِخوة من النفرة من مماسة القريبات ونكاحهن ﴿أَوْ نِسَآئِهِنَّ﴾ أي المسلمات وخرج بذلك النساء الكافرات قال مجاهد: المراد نساؤهن المسلمات، ليس المشركات من نسائهن، وليس يحل للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة وقال ابن عباس: هن المسلمات ولا تبدي زينتها أمام يهودية أو نصرانية ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ أي من الإِماء المشركات قال ابن جرير: يعني من
307
نساء المشركين فيجوز لها أن تظهر زينتها لها وإن كانت مشركة لأنها أمتها ﴿أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال﴾ أي الخدام غير أولي الميل والشهوة والحاجة إلى النساء كالبُلْهِ والحمقى والمغفلين الذين لا يدركون من أمور الجنس شيئاً قال مجاهد: هو الأبله الذي يريد الطعام ولا يريد النساء ولا يهمه إلا بطنه ﴿أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء﴾ أي الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا حدَّ الشهوة، ولا يعرفون أمور الجماع لصغرهم فلا حرج أن تظهر المرأة زينتها أمامهم ﴿وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ﴾ أي ولا يضربن بأرجلهن الأرض لئلا يسمع الرجال صوت الخلخال فيطمع الذي في قلبه مرض قال ابن عباس: كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجلها ليسمع صوت خلخالها، فنهى الله تعالى عن ذلك لأنه من عمل الشيطان ﴿وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى ربكم بامتثال الطاعات، والكفّ عن الشهوات، لتنالوا رضاه وتفوزوا بسعادة الدارين ﴿وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ﴾ أي زوجوا أيها المؤمنون من لا زوج له من الرجال والنساء من أحرار رجالكم ونسائكم قال الطبري: الأَيامي جمع أَيَّم، يوصف به الذكر والأنثى يقال: رجل أَيَّم وامرأة أَيمِّة إذا لم يكن لها زوج ﴿والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ﴾ أي وأنكحوا كذلك أهل التقى والصلاح من عبيدكم وجواريكم قال البيضاوي: وتخصيص الصالحين لأن إحصان دينهم والاهتمام بشأنهم أهمُّ، وفيه إشارة إلى مكانه التقى والصلاح في الإِنسان ﴿إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ أي إن يكن هؤلاء الذين تزوجونهم أهل فاقةٍ وفقر فلا يمنعكم فقرهم من إنكاهم، ففي فضل الله ما يغنيهم ﴿والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ أي واسع الفضل، جواد كريم، يعطي الرزق من يشاء وهو عليم بمصالح العباد قال القرطبي: وهذا وعدٌ بالغنى للمتزوجين طلباً لرضى الله، واعتصاماً من معاصيه وقال ابن مسعود: التمسوا الغنى في النكاح وتلا هذه الآية وفي الحديث
«ثلاثة حقٌّ على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله» ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً﴾ أي وليجتهد في العفة وقمع الشهوة الذين لا تتيسر لهم سبل الزواج لأسباب مادية ﴿حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ﴾ أي حتى يوسع الله عليهم ويسهل لهم أمر الزواج، فإن العبد إذا اتقى الله جعل له من أمره فرجاً ومخرجاً ﴿والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ أي والذين يريدون أن يتحرروا من رقِّ العبودية بمكاتبة أسيادهم من العبيد والأرقاء ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً﴾ أي فكاتبوهم على قدر من المال إن عرفتم منهم الأمانة والرشد ليصيروا أحراراً ﴿وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ﴾ أي أعطوهم مما أعطاكم الله من الرزق ليكون لهم عوناً على فكاك أنفسهم ﴿وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء﴾ أي لا تجبروا إماءكم على الزنى ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً﴾ أي إن أردن التعفف عن مقارفة الفاحشة، وليس هذا للقيد أو الشرط وإنما هو لبيان فظاعة الأمر وشناعته، فالأصل في المملوكة أن يُحصنها سيدها أمّا أن يأمرها بالزنى وتمتنع وتريد العفة فذلك منتهى الخسة والدناءة منه قال المفسرون: نزلت في «عبد الله بن سلول» المنافق كان له جاريتان إحداهما تسمى «مُسَيْكة» والثانية تسمى «أميمة» فكان
308
يأمرهما بالزنى للكسب ويضربهما على ذكل فشكتا ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزلت الآية ﴿لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا﴾ أي لأجل أن تنالوا حطام هذه الحياة الزائل، وتحصلوا على المال بطريق الفاحشة والرذيلة ﴿وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي ومن يجبرهن على الزنى فإن الله غفور لهن رحيم بهن لا يؤاخذهن بالزنى لأنهن أُكرهن عليه وسنيتقم ممن أكرههن شر انتقام ﴿وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ﴾ أي والله لقد أنزلنا إليكم أيها المؤمنون آيات واضحات وأحكاماً مفصلات ﴿وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ﴾ وضربنا لكم الأمثال بمن سبقكم من الأمم لتتعظوا وتعتبروا ﴿وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ﴾ أي وعظة وذكرى للمتقين.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الاستعارة اللطيفة ﴿لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان﴾ شبَّه سلوك طريق الشيطان والسير في ركابه بمن يتتبع خطوات الآخر خطوة خطوة بطريق الاستعارة.
٢ - الإِيجاز بالحذف ﴿أَن يؤتوا﴾ أي أن لا يؤتوا حذفت منه ﴿لا﴾ لدلالة المعنى وهو كثير في اللغة.
٣ - صيغة الجمع للتعظيم ﴿أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ﴾ والمراد به أبو بكر الصدّيق.
٤ - الجناس الناقص بين ﴿يَعْمَلُونَ﴾ و ﴿يَعْلَمُونَ﴾.
٥ - المقابلة اللطيفة بين ﴿الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ.. والطيبات لِلطَّيِّبِينَ﴾.
٦ - الطباق بين ﴿تُبْدُونَ.. تَكْتُمُونَ﴾.
٧ - الإِيجاز بالحذف ﴿يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ لأن المراد غض البصر عما حرَّم الله لا عن كل شيء فحذف ذلك اكتفاءً بفهم المخاطبين.
٨ - المجاز المرسل ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ المراد مواقع الزينة وهو من باب إطلاق اسم الحال على المحل قال الزمخشري: وذكرُ الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتستر والتصون.
فَائِدَة: قال بعض المحققين: إن يوسف لما رُمي بالفاحسة برّاه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رُميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى عليه السلام، وإن عائشة لما رُميت بالفاحشة برأها الله في كتابه العزيز، فما رضي الله لها ببراءة صبيٍّ ولا نبيّ حتى برّأها الله في القرآن من القذف والبهتان.
تنبيه: السرُّ في تقديم غضّ البصر على حفظ الفروج ﴿يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ﴾ هو أن النظر بريد الزنى ورائد الفجور، وهو مقدمة للوقوع في الخطر كما قال الشاعر:
وكنتَ إذا أَرسلتَ طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيتَ الذي لا كلَّه أنت قادرٌ عليه وعلى بعضه أنت صابر
لطيفَة: ذكر أن قسِّيساً أراد أن ينال من المسلمين بالطعن في أم المؤمنين السيدة عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، فقال: إن الناس رموها بالإِفك ولا ندري أهي بريئة أم متهمة؟ فأجابه بضع
309
الحاضرين بقوله: إسمعْ يا هذا، هناك امرأتان اتهمتا بالزنى وقد برأهما القرآن الكريم، إحداهما ليس لها زوج وقد جاءت بولد، والأخرى لها زوج ولم يأتها ولد - يقصد مريم وعائشة - فأيتهما أحرى بالتهمة؟ فخرس القسيس.
310
المنَاسَبَة: لما وصف تعالى نفسه بأنه أنزل آياتٍ مبينات، وأقام دلائل واضحات على وحدانيته، واختصاصه بتشريع الأحكام التي بها سعادة المجتمع، عقَّبه بذكر مثلين: أحدهما في بيان أنَّ دلائل والحدانية والإيمان في غاية الظهور والثاني: في بيان أن أديان الفرة في نهاية الظلمة
310
والخفاء، وبالمقارنة بين المثلين يتضح الصبح لذي عينين.
اللغَة: ﴿مِشْكَاةٍ﴾ المشكاة: الكُوَّة في الحائط غير النافذة، وأصلها لاوعاء يجعل فيه الشيء ﴿دُرِّيٌّ﴾ متلألئ وقّد يشبه الدر في صفائه ولمعانه ﴿سَرَابٍ﴾ السرابُ: ما يتراءى للعين وسط النهار عند اشتداد الحر يشبه الماء الجاري وليس بماء، سمي سراباً لأنه يسرب أي يجري كالماء قال الشاعر:
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كلمع سراب بالفلا متألق
﴿قِيعَةٍ﴾ قال الفراء: هو جمع قاع مثل جار وجيرة، والقاعُ المنبسط المستوي من الأرض وقال الزمخشري: القيعةُ بمعنى القاع وليس جمعاً، وهكذا قال أبو عبيدة ﴿لُّجِّيٍّ﴾ اللُّجيُّ: الذي لا يدرك قعره لعمقه، واللُّجةُ معظم الماء، والجمع لُجَج، والتجَّ البحر: تلاطمت أمواجه ﴿يُزْجِي﴾ الإزجاء: سوقُ الشيء برفقٍ وسهولة ﴿رُكَاماً﴾ مجتمعاً يركب بعضه بعضاً ﴿الودق﴾ : المطر قال الليث: الودقُ المطر كله شديده وهينه ﴿سَنَا﴾ : السنا الضوء واللمعان قال الشماخ:
وما كادت إذا رفعت سناها ليبصر ضوءها إلاّ البصير
﴿مُذْعِنِينَ﴾ خاضعين منقادين، أذعن للأمر خضع له ﴿يَحِيفَ﴾ يجور ويظلم.
التفسِير: ﴿الله نُورُ السماوات والأرض﴾ أي الله جلَّ وعلا منور السماوات والأرض، أنار السماواتِ بالكواكب المضيئة، والأرض بالشرائع والأحكام وبعثة الرسل الكرام قال الطبري: أي هادي أهل السماوات والأرض فهم بنوره إلى الحق يهتدون، وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون وقال القرطبي: النور عند العرب: الضوء المدرك بالبصر واستعمل مجازاً في المعاني فيقال كلامٌ له نور قال الشاعر:
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
وقال جرير «وأنتَ لنا نورٌ وغيثٌ وعصمة» والناس يقولون: فلانٌ نور البلد، وشمسُ العصر وقمره، فيجوز أن يقال: الله نور على جهة المدح لأن جميع الأشياء منه ابتداؤها، وعنه صدورها، وبقدرته استقامت أمورها، وقال ابن عطاء الله: «الكون كله ظلمة أناره ظهور الحق فيه، إذ لولا وجود الله ما وجد شيء من العالم» وفي الحديث «اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن» وقال ابن مسعود: «ليس عند ربكم ليلٌ ولا نهار، نور السماوات والأرض نور وجهه» وقال ابن القيم: سمَّى الله سبحانه نفسه نوراً، وجعل كتابه نوراً، ورسوله نوراً، واحتجب عن خلقه بالنور، وقد فسرت الآية بأنه منور السماوات والأرض، وهادي أهل السماوات والأرض، وما قاله ابن مسعود أقرب إلى تفسير الآية من قول من فسرها بأنه هادي أهل السماوات والأرض، وأما من فسرها
311
بأنه منور السماوات والأرض فلا تنافي بينه وبين قول ابن مسعود ﴿مَثَلُ نُورِهِ﴾ أي مثل نور الله سبحانه في قلب عبده المؤمن ﴿كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ أي ككوة في الحائط لا منفذ لها ليكون أجمع للضوء وضع فيها سراج ثاقب ساطع قال في التسهيل: المعنى صفةُ نور الله وضوحه كصفة مشكاةٍ فيها مصباح على أحظم ما يتصوره البشر من الإضاءة والإِنارة، وإنما شبه بالمشكاة - وإن كان نورُ الله أعظم - لن ذلك هو ما يدركه الناس من الأنوار ضرب لهم به المثل ﴿المصباح فِي زُجَاجَةٍ﴾ أي في قنديل من الزجاج الصافي ﴿الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ أي تشبه الكوكب الدري في صفائها وحسنها ﴿يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ أي يشعل ذلك المصباح من زيت شجرة مباركة ﴿زَيْتُونَةٍ﴾ أي هي من شجر الزيتون الذي خصه الله بمنافع عديدة ﴿لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ﴾ أي ليست في حهة الشرق ولا في جهة الغرب، وإنما هي في صحراء منكشفة تصيبها الشمس طول انهار لتكون ثمرتها أن ضح، وزيتُها أصفى قال ابن عباس: هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر، ولا جبلٌ، ولا كهف، ولا يواريها شيء وهو أجود لزينها ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ مبالغة في وصف صفاء الزيت وحسنه وجودته أي يكاد زيتُ هذه الزيتونة يضيء من صفاته وحسن ضيائه ولو لم تمسَّه نار، فكيف إذا مسته النار؟ ﴿نُّورٌ على نُورٍ﴾ أي نور قوف نور فقد اجتمع نور السراج، وحسن الزجاجة، وصفاء الزيت، فاكتمل النور الممثل به ﴿يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ﴾ أي يوفق الله لاتباع نوره - وهو القرآن - من يشاء من عباده ﴿وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ﴾ أي يبين لهم الأمثال تقريباً لأفهامهم ليعتبروا ويتعظوا بما فيها من الأسرار والحكم ﴿والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ﴾ أي هو سبحانه واسع العلم لا يخفى عليه شيء من أمر الخلق، وفيه وعدٌ ووعيد قال الطبري: ذلك مثلٌ ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به فقال: مثل نور الله الذي أنار به لعباده سبيل الرشاد مثل كوة في الحائط لا منفذ لها فيها مصباح أي سراج، وجعل السراج مثلاً لما في قلب المؤمن من القرآن والآيات البينات ثم قال ﴿المصباح فِي زُجَاجَةٍ﴾ وذلك مثلٌ للقرآن في قلب المؤمن الذي أنار الله صدره فخلص من الكفر والشك، ثم قال ﴿الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ أي كأن الزجاجة في صفائها وضيائها كوكب يشبه الدر في الصفاء والضياء والحسن ﴿يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ﴾ أي تَوَقَّد هذا المصباح من دهن شجرة مباركة هي شجرة الزيتون، ليست شرقية تطلع عليها الشمس بالعشي دون الغداة، ولكن الشمس تشرق عليها وتغرب فيكون زيتها أجود وأصفى وأضوأ ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ أي يكاد زيت هذه الزيتونة يضيء م صفائه وحسن ضيائه وعنى بها أن حجج الله على خلقه تكاد من بيانها ووضوحها تضيء لمن فكر فيها ونظر ولو لم يزدها الله بياناً ووضوحاً بنزول هذا القرآن، فكيف وقد نبههم به وذكرهم بآياته فزادهم به حجة! وذلك بيانٌ من الله ونور على البيان.
ثم لما ذكر تعالى هدايته لمن يشاء من عباده، ذكر مواطن هذه العبادة وهي المساجد أحبُّ البقاع إلى الله فقال ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ﴾ أي أمر تعالى أن تبنى وتشاد على اسمه خاصة، وأن تعظَّم ويرفع شأنها لتكون مناراتٍ للهدى ومراكز للإشعاع الروحي قال ابن عباس: المساجد
312
بيوتُ الله في الأرض، تضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض ﴿وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه﴾ أي بعبد فيها الله بتوحيده، وذكره، وتلاوة آياته ﴿يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال﴾ أي يصلي لله تعالى في هذه المساجد في الصباح والمساء والمؤمنون قال ابن عباس: كلُّ تسبيح في القرآن فهو صلاة ﴿رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله﴾ أي لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها عن ذكر ربهم، ولا يليهيهم البيع والشراء عن طاعة الله قال المفسرون: نزلت هذه الآية في أهل الأسواق من الصحابة رضوان الله عليهم، كانوا إذا سمعوا النداء تركوا كل شغل وبادروا لطاعة الله ﴿وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة﴾ أي ولا تشغلهم الدنيا عن إقامة الصلاة في أوقاتها، ودفع الزكاة للفقراء والمستحقين بحدودها وشروطها ﴿يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار﴾ أي يخافون يوماً رهيباً تضطرب من شدة هوله وفزعه قلوب الناء وأبصارهم ﴿لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ﴾ أي ليكافئهم على أعمالهم في الدنيا بأحسن الجزاء، ويجزيهم على الإِحسان إحساناً، وعلى الإِساءة عفواً وغفراناً ﴿وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ﴾ أي يتفضل عليهم فوق ذلك الجزاء بما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر ﴿والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي يعطي من شاء من خلقه عطاءً واسعاً بدون حدٍّ ولا عدٍّ يقال فلان ينفق بغير حساب أي يوسع كأنه لا يحسب ما ينفقه قال الإِمام الفخر: نبه به على كمال قدرته، وكمال جوده، وسعة إحسانه، فإنه سبحانه يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم، ويزيدهم الفضل الذي لا حد له في مقابلة خوفهم، ولما ذكر تعالى حال المؤمن وسعادته، ذكر حال الكافر وخسارته، وضرب لذلك مثلين: الأول لعلمه والثاني لاعتقاده وتخبطه في الظلمات فقال ﴿والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾ أي إن أعمال الكفار التي عملوها في الدنيا وظنوها أعمالاً صالحة نافعة لهم في الآخرة كالسراب الذي يرى في القيعان وهو ما يرى في الفَلوات من ضوء الشمس في الهجيرة حتى يظهر كأنه ماء يجري على وجه الأرض ﴿يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً﴾ أي يظنه العطشان من بعيد ماءً جارياً ﴿حتى إِذَا جَآءَهُ﴾ أي حتى إذا وصل إليه ﴿لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾ أي لم ير ماءً ولا شراباًً، وإنما رآى سراباً فعظمت حسرته ﴿وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ أي وجدَ الله له بالمرصاد فوفّاه جزاء عمله، فكذلك الكافر يحسب أن عمله ينفعه حتى إذا مات وقدم على ربه لم يجد شيئاً من الأعمال لأنها ذهبت هباءً منثوراً ﴿والله سَرِيعُ الحساب﴾ أي يعجل الحساب لأنه لا يشغله محاسبة واحد عن آخر ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ﴾ هذا المثل الثاني لضلال الكفار والمعنى أو مثلهم كظلماتٍ متكاثفة في بحرٍ عميقٍ لا يدرك قعره ﴿يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ﴾ أي يغطي ذلك البحر ويعلوه موجٌ متلاطمٌ بعضه فوق بعض ﴿مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ﴾ أي من فوق ذلك الموج الثاني سحاب كثيف ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ أي هي ظلمات متكاثفة متراكمة بعضها فوق بعض قال قتادة: الكافر يتقلب في خمسٍ من الظلم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخلة ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار ﴿إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ هذا من تتمة التمثيل أي إذا أخرج ذلك الإِنسان
313
الواقع في هذه الظلمات يده لم يقارب رؤيتها فإن ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب قد تكاثفت حتى حجبت عنه رؤية أقرب شيء إليه من شدة الظلمة فكذلك شأن الكافر يتخبط في ظلمات الكفر والضلال ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ﴾ أي ومن لم يهده الله للإيمان وينور قلبه بنور الإسلام لم يهتد أبد الدهر، ذكر تعالى لعمل الكافر مثالين: الأول لعمله الصالح ومثَّل له بالسراب الخادع، والثاني لاعتقاده السيء ومثَّل له بالظلمات المتراكم بعضُها فوق بعض ثم ختم الآية الكريمة ذلك الختام الرائع ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ﴾ مقابل قوله في المؤمن ﴿نُّورٌ على نُورٍ﴾ فكان هذا التمثيل والبيان في غاية الحسن والجمال، فلله ما أروع تعبير القرآن!! ولما وصف سبحانه أنوار قلوب وظلمات قلوب الجاهلين أتبع ذلك بدلائل التوحيد فقال ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض﴾ أي ألم تعلم يا محمد علماً يقيناً أنَّ الله العظيم الكبير يسبح له كل من في الكون من ملك، وإنس، وجن، ينزهه ويقدسه ساكنوها؟ ﴿والطير صَآفَّاتٍ﴾ أي والطير باسطاتٍ أجنحتهن حال الطيران تسبح ربها وتعبده كذلك بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه تعالى ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ أي كلٌّ من الملائكة والإِنس والجن والطير قد أرشد وهدي إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله، وما كلف به من الصلاة والتسبيح ﴿والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ أي لا تخفى عليه طاعتهم ولا تسبيحهم ﴿وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ أي هو المالك والمتصرف في الكون، وجميعُ المخلوقات تحت ملكه يتصرف فيهم تصرف القاهر الغالب ﴿وإلى الله المصير﴾ أي وإليه مرجع الخلائق فيجازيهم على أعمالهم وهو تذكير يتضمن الوعيد، ثم أشار تعالى إلى ظاهره كونية تدل على قدرته ووحدانيته فقال ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً﴾ أي يسوق بقدرته السحاب إلى حيث يشاء ﴿ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾ أي يجمعه بعد تفرقه ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً﴾ أي يجعله كثيفاً متراكماص بعضه فوق بعض ﴿فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾ أي فترى المطر يخرج من بين السحاب الكثيف ﴿وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ﴾ أي وينزل من السحاب الذي هو كأمثال الجبال برداً ﴿فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ﴾ أي فيصيب بذلك البرد من شاء من العباد فيضره في زرعه وثمرته وماشيته ﴿وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ﴾ أي ويدفعه عمن يشاء فلا يضره قال الصاوي: كما ينزل المطر من السماء وهو نفعٌ للعباد كذلك ينزل منها البرد وهو ضرر للعباد، فسبحان من جعل السماء منشأ للخير والشر ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ﴾ أي يقرب ضوء برق السحاب ﴿يَذْهَبُ بالأبصار﴾ أي يخطف أبصار الناظرين من شدة إضاءته وقوة لمعانه ﴿يُقَلِّبُ الله الليل والنهار﴾ أي يتصرف فيهما بالطول والقصر، والظلمة والنور، والحر والبرد ﴿إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً﴾ أي إن فيما تقدم ذكره لدلالة واضحة، وعظة بليغة على وجود الصانع المبدع ﴿لأُوْلِي الأبصار﴾ أي لذوي البصائر المستنيرة، وخصهم بالذكر لأنهم المنتفعون حيث يتأملون فيجدون الماء والبرد، والظلمة والنور تخرج من شيء واحد، فسبحان القادر على كل شيء ﴿والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ﴾ استدل على وحدانيته بتسبيح أهل السماء والأرض، ثم بتصريف السحاب وإنزال المطر، ثم بأحوال الحيوانات قال ابن كثير: يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع
314
المخلوقات على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد ﴿فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ﴾ أي فمنهم من يزحف على بطنه كالحية والزواحف ﴿وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ﴾ كالإِنسان والطير ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ﴾ كالأنعام وسائر الدواب قال أبو حيان: قدم ما هو أظهر في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة من رجل وقوائم، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع ﴿يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ﴾ أي يخلق تعالى بقدرته ما يشاء من المخلوقات ﴿إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ أو هو قادر على ما يشاء لا يمنعه مانع، ولا يدفعه دافع قال الفخر: واعلم أنَّ العقول قاصرة عن الإِحاطة بأحوال أصغر الحيوانات على الكمال، والاستدلال بها على الصانع ظاهرٌ، لأنه لو كا الأمر بتركيب الطبائع الأربع لكان في الكل على لاسويّة، فاختصاص كل واحدٍ من هذه الحيوانات بأعضائها وأعمارها ومقادير أبدانها لا بدَّ وأن يكون بتدبير قاهرٍ حكيم، سبحانه وتعالى عما يقول الجاحدون ﴿لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ﴾ أي لقد أنزلنا إليكم أيها الناس آياتٍ واضحاتٍ، دالات على طريق الحق والرشاد ﴿والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ أي يرشد من يشاء من خلقه إلى الدين الحق وهو الإِسلام، ولما ذكر دلائل التوحيد حذَّر من النفاق والمنافقين فقال ﴿وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا﴾ أي يقول المنافقون صدقنا بالله وبالرسول وأطعنا الله ورسوله ﴿ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ﴾ أي ثم يعرض جماعة منهم عن قبول حكمه ﴿مِّن بَعْدِ ذلك﴾ أي من بعدما صدر منهم ما صدر من دعوى الإِيمان ﴿وَمَآ أولئك بالمؤمنين﴾ أي وليس أولئك الذين يدعون الإِيمان والطاعة بمؤمنين على الحقيقة قال الحسن: نزلت هذه الآية في المنافقين الذين كانوا يظهرون الإِيمان ويسرون الكفر ﴿وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ أي وإذا دعوا إلى حكم حكم الله أو حكم رسوله ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ أي استنكفوا وأعرضوا عن الحضور إلى مجلس الرسول ﴿وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ أي وإن كان الحقُّ بجانبهم جاءوا إلأى رسول الله طائعين منقادين لعلمهم أنه عليه السلام يحكم بالحقِّ قال الفخر: نبّه تعالى على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا أن الحق لغيرهم؛ أما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا على الإِعراض وأذعنوا ببذل الرضا ﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارتابوا﴾ أي هل في قلوبهم نفاقٌ؟ أم شكوا في نبوته عليه السلام؟ ﴿أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ الله عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ﴾ أي أم يخافون أن يظلمهم رسول الله في الحكم، والاستفهام للمبالغة في التوبيخ والذم كقول الشاعر:
ألستَ من القوم الذين تعاهدوا على اللؤم والفحشاء في سالف الدهر
﴿بَلْ أولئك هُمُ الظالمون﴾ أي بل هم الكاملون في الظلم والعناد لإِعراضهم عن حكم رسول الله ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ أن كان الواجب عليهم عندما يُدعون إلى رسول الله للفصل بينهم وبين خصومهم أن يسرعوا ويقولوا سمعاً وطاعة، فلو كان هؤلاء مؤمنين لفعلوا ذلك قال الطبري: ولم يقصد به الخبر ولكنه تأنيبٌ
315
من الله للمنافقين وتأدب منه لآخرين ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ أي وأولئك المسارعون إلى مرضاة الله هم الفائزون بسعادة الدارين ﴿وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ﴾ أي ومن يطع أمر الله وأمر رسوله في كل فعلٍ وعمل ﴿وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ﴾ أي ويخاف الله تعالى لما فرط منه الذنوب، ويمتثل أوامره ويجتنب زواجره ﴿فأولئك هُمُ الفآئزون﴾ أي هم السعداء الناجون من عذاب الله الفائزون برضوانه.. ذكر أن بعض بطارقة الروم سمع هذه الآية فأسلم وقال: إنها جمعت كل ما التوراة والإِنجيل.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - إطلاق المصدر على إسم الفاعل للمبالغة ﴿الله نُورُ السماوات﴾ بمعنى منوِّر لكل بحيث كأنه عين نوره قال الشريف الرضي: وفي الآية إستعارة - على تفسير بعض العلماء - والمراد عندهم أنه هادي أهل السماوات والأرض بصوادع برهانه، ونواصع بيانه كما يهتدى بالأنوار الثاقبة والشهب اللامعة.
٢ - التشبيه التمثيلي ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ﴾ شبَّه نور الله الذي وضعه في قلب عبده المؤمن بالمصباح الوهّاج في كوة داخل زجاجة تشبه الكوكب الدري في الصفاء والحسن الخ سمي تمثيلياً لأن وجه الشبه منتزع من متعدد، وهو من روائع التشبيه.
٣ - الإِطناب بذكر الخاص بعد العام تنويهاً بشأنه ﴿عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة﴾ لأن الصلاة من ذكر الله.
٤ - جناس الاشتقاق ﴿تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب﴾.
٥ - التشبيه التمثيلي الرائع ﴿والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ﴾ الخ وكذلك في قوله ﴿كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ﴾ وهذا من روائع التشبيه وبدائع التمثيل.
٦ - الطباق بين ﴿يُصِيبُ.. وَيَصْرِفُهُ﴾.
٧ - الاستعارة اللطيفة ﴿يُقَلِّبُ الله الليل والنهار﴾ إذ ليس المراد التقليب المادي للأشياء الذاتية وإنما استعير لتعاقب الليل والنهار.
٨ - الجناس التام ﴿يَذْهَبُ بالأبصار﴾ ﴿لأُوْلِي الأبصار﴾ المراد بالأولى العيون وبالثانية الألباب.
لطيفَة: سمع بعض علماء الطبيعة من غير المسلمين هذه الآية ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ..﴾ الآية فسأل هل ركب محمد البحر؟ فقالوا: لا فقال أشهد أنه رسول الله قالوا: وكيف عرفت؟ فقال: إنَّ هذا الوصف للبحر لا يعرفه إلا من عاش عمره في البحار، ورأى الأهوال والأخطار، فلما أخبرت أنه لم يركب البحر عرفت أنه كلام الله تعالى.
316
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى المنافقين وما هم عليه من صفاتٍ قبيحة، أعقبه بذكر ما انطوت عليه نفوسهم من المكر والإِحتيال والحلف الكاذب بأغلظ الأيمان، وختم السورة الكريمة بالتحذير من سلوك طريق المنافقين.
317
اللغَة: ﴿الحلم﴾ : الاحتلام في المنام قال في القاموس: الحلم: الرؤيا جمعه أحلام، والحُلم والاحتلام: الجماع في النوم وقال الراغب: هو زمان البلوغ سمي به لكون صاحبه جديراً بالحلم أي الأناة وضبط النفس ﴿القواعد﴾ جمع قاعد بغير تاء لأنه خاصٌ بالنساء كحائض وطامث وهي المرأة التي قعدت عن الزواج وعن الولد ﴿أَشْتَاتاً﴾ متفرقين جمع شتّ وهو الافتراق، والشتاتُ: الفرقة ﴿يَتَسَلَّلُونَ﴾ التسلل: الخروج خفية يقال: انسلَّ وتسلل إذا خرج مستتراً بطريق الخفية ﴿لِوَاذاً﴾ اللواذ: أن يستتر بشيء مخافة من يراه.
سَبَبُ النّزول: روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث غلاماً من الأنصار يقال له: مُدْلج إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه فوجده نائماً، فدقَّّ عليه الغلام الباب ودخل، فاستيقظ عمر وجلس فانكشف منه شيء فقال: وددت أنَّ الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا عن الدخول في هذه الساعات إلا بإذن، ثم انطلق إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوجد الآية قد أنزلت ﴿ياأيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم..﴾ فخرَّ ساجداً شكراً الله تعالى.
التفسِير: ﴿وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمُْ﴾ أي حلف المنافقون بغاية الأيمان المغلَّظة ﴿لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ﴾ أي لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن معك قال مقاتل: لما بيَّن الله إعراض المنافقين وامتناعهم عن قبول حكمه عليه السلام أتوه فقالوا: لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، وإن أمرتنا بالجهاد لجاهدنا فنزلت ﴿قُل لاَّ تُقْسِمُواْ﴾ أي لا تحلفوا فإن أيمانكم كاذبة ﴿طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ﴾ أي طاعتُكم لله ورسوله معروفة فإنها باللسان دون القلب، وبالقول دون العمل ﴿إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي بصير لا يخفى عله شيء من خفاياكم ونواياكم ﴿قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول﴾ أي أطيعوا الله بإخلاص النية وترك النفاق، وأطيعوا الرسول الاستجابة لأمره والتمسّك بهديه ﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ أي فإن تتولَّوْا وتعرضوا عن طاعته ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ﴾ أي على الرسولما كلف به من تبليغ الرسالة ﴿وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ﴾ أي وعليكم ما كلفتم به من السمع والطاعة واتباع أمره عليه السلام ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ﴾ أي وإن أطعتم أمره فقد اهتديتم إلى طريق السعادة والفلاح ﴿وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين﴾ أي ليس عليه إلا التبليغ الواضح للأمة، ولا ضرر عيه إن خالفتم وعصيتم فإنه قد بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ﴿وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي وعد الله المؤمنين المخلصين الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي وعدهم بميراث الأرض وأن يجعلهم فيها خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في ممالكهم، كما استخلف المؤمنين قبلهم فملكهم ديار الكفار قال المفسرون: لما قدم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه المدينة رمتهم العرب عن قوسٍ واحدة، فكانوا لا يبتون إلا في السلاح، ولا يصبحون إلاّ في لأمتهم - أي سلاحهم - فقالوا أترون أنّا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلاّ الله عَزَّ وَجَلَّ!! فنزلت الآية، وهذا وعدٌ ظهر صدقُه بفتح مشارق الأض ومغاربها
318
لهذه الأمة وفي الحديث بشارة كذلك فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:
«إنَّ الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها» ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ﴾ أي وليجعلنَّ دينهم - الإِسلام - الذي ارتضاه لهم عزيزاً مكيناً عالياً على كل الأديان ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾ أي وليغيرن حالهم التي كانوا عليها من الخوف والفزع إلى الأمن والاستقرار كقوله ﴿وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: ٤] ﴿يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً﴾ استئنافٌ بطريق الثناء عليهم كالتعليل للاستخلاف ي الأرض أي يوحدونني ويهلصون لي العبادجة، لا يعبدون إلهاً غيري ﴿وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك﴾ أي فمن جحد شكر النعم ﴿فأولئك هُمُ الفاسقون﴾ هم الخارجون عن طاعة الله، العاصون أمر الله قال أبو العالية: أي من كفر بهذه النعمة وليس يعني الكفرَ بالله قال الطبري: وهو أشبه بتأويل الآية لأان اللهَ وعد الإِنعام على هذه الأمة بما أخبر في هذه الآية بأنه منعم به عليهم ثم قال ﴿وَمَن كَفَرَ﴾ أي كفر هذه النعمة ﴿فأولئك هُمُ الفاسقون﴾ ﴿وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة﴾ أي أقيموا أيها المؤمنون الصلاة وأُدوا الزكاة على الوجه الأكمل الذي يُرضي الله ﴿وَأَطِيعُواْ الرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ أي أطيعوا الرسول في سائر ما أمركم به رجاء الرحمة ﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض﴾ تسليةٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووعدٌ له بالنُّصرة اي لا تظننَّ يا محمد الكافرين الذين عاندوك وكذبوك معجزين لله في هذه الحياة بل الله قادرٌ عليهم في كل حين وأن ﴿وَمَأْوَاهُمُ النار﴾ أي مرجعهم نار جهنم ﴿وَلَبِئْسَ المصير﴾ أي بئس المرجع والمآل الذي يصيرون إليه ﴿ياأيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم﴾ أي يا أيها المؤمنون الذين صدَّقوا الله ورسوله وأيقنوا بشريعة الإِسلام نظاماً وحكماً ومنهاجاً ليستأذنكم في الدخول عليكم العبيدُ والاِماء الذين تملكونهم ملك اليمين ﴿والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم مِنكُمْ﴾ أي والأطفال الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال الأحرار ليستأذنوا أيضاً ﴿ثَلاَثَ مَرَّاتٍ﴾ أي في ثلاثة أوقات ﴿مِّن قَبْلِ صلاوة الفجر﴾ أي في الليل وقت نومك وخلودكم إلى الراحة ﴿وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مِّنَ الظهيرة﴾ أي وقت الظهر حين تخلعون ثيابكم للقيلولة ﴿وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء﴾ أي ووقت إرادتكم النوم واستعدادكم له ﴿ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ﴾ اي هي ثلاثة أوقات يختل فيها تستركم، العوراتُ فيها بادية والتكشف فيها غالب، فعلِّموا عبيدكم وخدمكم وصبيانكم ألاّ يدخلوا عليكم في هذه الأوقات إلا بعد الاستئذان ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾ أي ليس عليكم ولا على المماليك والصبيان حرجٌ في الدخول عليكم بغير استئذان بعد هذه الأوقات الثلاثة ﴿طوافون عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ﴾ أي لأنهم خدمكم يطوفون عليكم للخدمة وغير ذلك قال أبو حيان: أي يمضون ويجيئون ويدخلون عليكم في المنازل غدوةً وعشية بغير إذن إلا في تلك الأوقات ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الأيات﴾ أي مثل ذلك التوضيح والبيان يبيّن الله لكم الأحكام الشرعية لتتأدبوا بها ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي عالمٌ بأمور خلقه، حكيمٌ في تدبيره لهم ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم﴾ أي وإذا بلغ هؤلاء الأطفال الصغار مبلغ الرجال وأصبحوا في سنّ التكليف ﴿فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي فعلموهم الأدب السامي أن يستأذنوا في كل الأوقات
319
كما يستأذن الرجال البالغون ﴿كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ﴾ اي يفصّل لكم أمور الشريعة والدين ﴿والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ أي عليم بخلقه حكيم في تشريعه قال البيضاوي: كرره تأكيداً ومبالغة في الأمر بالاستئذان ﴿والقواعد مِنَ النسآء﴾ أي والنساء العجائز اللواتي قعدن عن التصرف وطلب الزواج لكبر سنهن ﴿اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً﴾ أي لا يطمعن في الزواج ولا يرغبن فيه لانعدام دوافع الشهوة فيهن ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ﴾ اي لا حرج ولا إثم عليهنَّ في ان يضعن بعض ثيابهم كالرداء والجلباب، ويظهرن أمام الرجال بملابسهن المعادة التي لا تلفت انتباهاً، ولا تثير شهوة ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾ أي غير متظاهرات بالزينةليظر إليهن قال أبو حيان: وحقيقة التبرج إظهار ما يجب إخفاؤُه، وربَّ عجوزٍ شمطاء يبدو منها الحرصُ على أن يظهر بها جمال ﴿وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ﴾ أي وأن يستترن بارتداء الدلباب ولبس الثياب كا تلبسه الشابات من النساء، مبالغةً في التستر والتعفف خيرٌ لهنَّ وأكرم، وأزكى عند الله وأطهر ﴿والله سَمِيعٌ عِلِيمٌ﴾ أي يعلم خفايا النفوس ويجازي كل إنسان بعمله، وفيه وعدٌ وتحذير ﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ﴾ أي ليس على أهل الأعذار «الأعمى، والأعرج، والمريض» حرج ولا إثم في القعود عن الغزو لضعفهم وعجزهم ﴿وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ﴾ أي وليس عليكم أيها الناس إثم أن تأكلوا من بيوت أزواجكم وعيالكم قال البيضاوي: فيدخل فيها بيوت الأولاد لأن بيت الولد كبيته لقوله عليه السلام: إن أطيبَ ما يأكل المرءُ م كسبه، وإنَّ ولده من كسبه ﴿أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ﴾ أي لا حرج في الأكل من بيوت هؤلاء الأقارب قال الرازي: والظاهر أن إباحة الأكل لا تتوقف على الاستئذان لأن العادةأن هؤلاء القوم تطيب أنفسهم بأكل الأقارب ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ﴾ أي البيوت التي توكّلون عليه وتملكون مفاتيحها في غياب أهلها قال عائشة: كان المسلمون يذهبون مع رسول الله في الغزو ويدفعون مفاتحهم إلى ضمنائهم ويقولون: قد أحللنا لكم الأكل منها فكانوا يقولون: إنه لا يجل لنا ان نأكل، إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم وإنما نحن أمناء فأنزل الله ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ﴾ ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ أي أو بيوت أصدقائكم وأصحابكم قال قتادة: إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً﴾ أي ليس عليكم إثم أو حرج أن تأكلوا مجتمعين أو متفرقين قال المفسرون: نزلت ف حيٍ من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده، يمكث يومه فإن لم يجد من يؤاكله لم يأكل شيئاً: وربما كان معه الإِبل الحُفَّل فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فأخبرهم تعالى بأن الرجل إذا أكل وحده لا حرج عليه ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ﴾ أي
320
إذا دخلتم بيوتاً مسكونة فسلموا على من فيها من الناس ﴿تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ أي حيُّوهم بتحية الإِسلام «السلام عليكم» وهي التحية المباركة الطيبة التي شرعها الله لعباده المؤمنين قال القرطبي: وصفها بالبركة لأنه فيها الدعاء واستجلاب المودة، ووصفها بالطيب لأن سامعها يستطيبها ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ قال ابن كثير: لما ذكر تعالى في هذه السورة الكريمة من الأحكام المحمة، والشرائع المُبْرمة، نبَّه عباده على أنه يبين لهم الآيات بياناً شافياً ليتدبروها ويتعقلوها لعلهم يعقلون ﴿إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ﴾ أي إنما المؤمنون الكاملون في الإِيمان الذي صدقوا الله ورسوله تصديقاً جازماً لا يخالجه شك ﴿وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ﴾ أي وإذا كانوا مع الرسول في أمرٍ هام فيه مصلحة للمسلمين ﴿لَّمْ يَذْهَبُواْ حتى يَسْتَأْذِنُوهُ﴾ أي لم يتركوا مجلسه حتى يستأذنوه فيأذن لهم قال المفسرون: نزلت هذه الآية في وقت حفر الخندق، فإن بعض المؤمنين كانوا يستأذنون في الانصراف لضرورة، وكان المنافقون يذهبون بغير استئذان فنزلت تمدح المؤمنين الخالصين، وتعُرِّض بذم المنافقين ﴿إِنَّ الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ أولئك الذين يُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ﴾ هذا توكيدٌ لما تقدم ذكره تفخيماً وتعظيماً لشأن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي إن الذين يستأذنونك يا محمد أولئك هم المؤمنون حقاً قال البيضاوي: أعاده مؤكداً على أسلوب أبلغ فإِن جعل المستأ ذنين هم المؤمنين عكس الأسلوب الأول وفيه تأكيد للأول بذكر لفظ الله ورسوله فيكون مصداقاً ودليلاً على صحة الإِيمان ﴿فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ﴾ أي فإِذا استأذنك هؤلاء المؤمنون لبعض شئونهم ومهامهم ﴿فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ أي فاسمح لمن أحببت بالانصراف إِن كان فيه حكمه ومصلحة ﴿واستغفر لَهُمُ الله﴾ أي وادع الله له بالعفو والمغفرة فإِن الاستئذان ولو لعذرٍ قصورٌ لأنه تقديم لأمر الدنيا على أمر الدين ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي عظيم العفو واسع الرحمة ﴿لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً﴾ أي لا تنادوا الرسول باسمه كما ينادي بعضكم بعضاً باسمه بل قولوا: يا نبيَّ الله ويا رسول الله تفخيماً لمقامه وتعظيماً لشأنه قال أبو حيان: لمّا كان التداعي بالأسماء على عادة البداوة أُمروا بتوقير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودعائه بأحسن ما يدعى به نحو يا رسول الله، يا نبيَّ الله، ألا ترى إِلى بعض جفاةِ من أسلم كان يقول يا محمد فنهوا عن ذلك قال قتادة: أمرهم تعالى أن يفخموه ويشرّفوه ﴿قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً﴾ أي قد علم الله الذين ينسلُّون قليلاً ويخرجون من الجماعة في خفية يستتر بعضهم ببعض قال الطبري: واللواذ هو أن يلوذ القوم بعضُهم ببعض، يستتر هذا بهذا وهذا بهذا ﴿فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ أي فليخف الذين يخالفون أمر الرسول ويتركون سبيه ومنهجه وسنته ﴿أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ أي تنزل بهم محنة عظيمة في الدنيا أو ينالهم عذاب شديد في الآخرة {ألا إِنَّ للَّهِ مَا فِي
321
السماوات والأرض} أي له جل وعلا ما في الكون ملكاً وخلقاً وعبيداً ﴿قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ﴾ أي قد علم ما نفوسكم من الإِيمان أو النفاق، والإخلاص أو الرياء ﴿وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ﴾ أي ويوم القيامة يرجعون إِليه فيخبرهم بما فعلوا في الدينا من صغيرٍ وكبير، وجليل وحقير ويجازي كلا بعمله ﴿والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ﴾ أي لا يخفى عليه خافية لأن الكل خلقه وملكه.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات وجوهاً من البلاغة والبيان نوجزها فيما يلي:
١ - الاستعارة اللطيفة ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ شبَّه الأيمان التي يحلف بها المنافقون بالغين فيها أقصى المراتب في الشدة والتوكيد بمن يجهد نفسه في أمر شاقّ لا يستطيعه ويبذل أقصى وسعه وطاقته بطريق الاستعارة.
٢ - المشاكلة ﴿عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ﴾ أي عليه أمرُ التبليغ وعليكم وزر التكذيب.
٣ - الطباق بين الخوف والأمن ﴿مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾ وكذلك بين الجميع والأشتات ﴿جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً﴾ لأن المعنى مجتمعين ومتفرقين.
٤ - الإِطناب بتكرير لفظ الحرج لترسيخ الحكم في الأذهان ﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ﴾.
٥ - صيغة المبالغة ﴿غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
فَائِدَة: قال بعض السلف: من أمَّر السُنَّة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمَّر والهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة لقوله تعالى ﴿وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ﴾.
لطيفَة: قيل لبعضهم: من أحبُّ إليك أخوك أم صديق؟ فقال: لا أحب أخي إذا لم يكن صديقي. وقال ابن عباس: «الصديق أوكد من القريب ألا ترى استغاثة الجهنمييَّن حين قالوا ﴿فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ [الشعراء: ١٠٠ - ١٠١] ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات».
تنبيه: كان بعض العرب يرى أحدهم أن عاراً وخزياً عليه أن يأكل وحده ويبقى جائعاص حتى يجد من يؤاكله ويشاربه واشتهر هذا عن حاتم فكان يقول:
إذا ما صنعتِ الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست أكله وحدي
وهذا من مآثر العرب ومفاخرهِم، فقد اشتهروا بالجود والكرم، وقرى الضيف.
322
Icon