تفسير سورة النّور

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة النور من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
سورة النور
مدنية وآياتها ٦٤

تفسير سورة النّور
وهي مدنيّة
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)
قوله تعالى: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها... الآية معنى «فرضنا» : أوجبنا وأثبتنا، وقال الثَّعْلَبِيُّ والواحِدِيُّ: فَرَضْناها أي: أوجبنا ما فيها من الأحكامِ، انتهى، وقال البخاريُّ «١» : قال ابن عباس «٢» : سُورَةٌ أَنْزَلْناها: بَيَّنَّاها، انتهى. وما تقدم أَبْيَنُ.
ص: فَرَضْناها الجمهور: بتخفيف الراء أي: فرضنا أحكامها، وأبو عمرو وابن كثير: بتشدِيْدِ الراء: إما للمبَالَغَةِ في الإيجاب، وإما لأَنَّ فيها فرائضَ شَتَّى، انتهى.
والآيات البَيِّنَاتُ: أمثالُها ومواعِظُهَا وأحكامُها.
وقوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ... الآية، هذه الآية ناسخة لآية الحَبْسِ باتِّفاق، وحكم المُحْصَنِينَ منسوخٌ بآية الرجم والسُّنَّةِ المتواترة على ما تقدّم في سورة النساء، وقرأ الجمهور «٣» :«رَأْفَةٌ» بهمزة ساكنة من رَأَفَ إذا رَقَّ وَرَحِمَ، والرأفة المَنْهِيُّ عنها هي [في] «٤» إسقاط الحَدِّ، أي: أقيموه ولا بدّ، وهذا تأويل ابن عمر «٥» وغيره.
(١) ينظر: البخاري (٨/ ٣٠١) كتاب التفسير: باب سورة النور.
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٥٦) برقم (٢٥٧٠٦)، وذكره السيوطي (٥/ ٣٦)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حارثة عن ابن عباس.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٦١)، و «البحر المحيط» (٦/ ٣٩٤)، و «الدر المصون» (٥/ ٢٠٨).
(٤) سقط في ج.
(٥) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٥٦) برقم (٢٥٧٠٩، ٢٥٧١٠)، وذكره البغوي (٣/ ٣٢١)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٦١)، وابن كثير (٣/ ٢٦١، ٢٦٢)، والسيوطي (٥/ ٣٧)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
167
وقال قتادة وغيره: هي في تخفيف الضَّرْبِ عنِ الزُّنَاةِ «١»، ومِنْ رأيهم أَنْ يُخَفَّفَ ضربُ الخمر، والفِرْيَةِ دون ضرب الزنا.
وقوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أي: إغلاظاً على الزناة، وتوبيخاً لهم، ولا خلافَ أَنَّ الطائفة كُلَّمَا كَثُرَتْ فهو أليق بامتثال الأمر، واختلف في أَقَلِّ ما يجزِىءُ فقال الزُّهْرِيُّ: الطائفة: ثلاثةٌ فصاعداً «٢»، وقال عطاء: لا بُدَّ من اثنين «٣»، وهذا هو مشهورُ قول مالك فرآها موضع شهادة.
وقوله تعالى: الزَّانِي لاَ يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً مَقْصِدُ الآية تشنيع الزنا وتشنيع ٣٥ أأمره، وأَنَّهُ مُحَرَّمٌ على المؤمنين/ ويريد بقوله: لاَ يَنْكِحُ أي: لا يَطَأُ، فالنكاح هنا بمعنى: الجماع كقوله تعالى: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: ٢٣٠]. وقد بيّنه صلّى الله عليه وسلّم في الصحيح أَنَّه بمعنى الوطء، حيث قال:
«لا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ » «٤» الحديث، وتحتمل الآية وجوها هذا أحسنها.
(١) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٥٨) برقم (٢٥٧٢٢، ٢٥٧٢٤)، وذكره البغوي (٣/ ٣٢١)، وابن عطية (٤/ ١٦١)، والسيوطي (٥/ ٣٧)، وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن، وابراهيم، وعامر، ولابن أبي شيبة، وعبد بن حميد عن شعبة.
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٥٩) برقم (٢٥٧٣٦)، وذكره البغوي (٣/ ٣٢١)، وابن كثير (٣/ ٢٦٢)، والسيوطي (٥/ ٣٨) وعزاه لابن جرير عن الزهري.
(٣) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٥٩) برقم (٢٥٧٣٤)، وذكره البغوي (٣/ ٣٢١)، وابن كثير (٣/ ٢٦٢).
(٤) أخرجه مالك (٢/ ٥٣١) كتاب النكاح: باب نكاح المحلل وما أشبهه، حديث (١٧) من طريق المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير، أن رفاعة بن سموأل طلق امرأته...
ومن طريق مالك أخرجه الشافعي في «الأم» (٥/ ٢٤٨) باب نكاح المطلقة ثلاثا، وابن حبان (١٣٢٣- موارد)، والبيهقي (٧/ ٣٧٥) كتاب الرجعة: باب نكاح المطلقة ثلاثا.
قال السيوطي في «تنوير الحوالك» (٢/ ٦) قال ابن عبد البر: كذا لأكثر الرواة مرسل، ووصله ابن وهب عن مالك، فقال: عن أبيه، وابن وهب من أجل من روى عن مالك هذا الشأن، وأثبتهم فيه. وتابعه أيضا ابن القاسم وعلي بن زياد وإبراهيم بن طهمان وعبيد الله بن عبد المجيد الحنفي، كلهم عن مالك، وقالوا فيه: عن أبيه، وهو صاحب القصة ا. هـ.
ومن طريق ابن وهب أخرجه ابن الجارود (٦٨٢)، والبيهقي (٧/ ٣٧٥) كتاب «الرجعة» : باب نكاح المطلقة ثلاثا.
وأخرجه البزار (٢/ ١٩٤- كشف) رقم (١٥٠٤) من طريق عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي ثنا مالك بن أنس عن المسور بن رفاعة، عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير عن أبيه.
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٤/ ٣٤٣) : رواه البزار والطبراني، ورجالهما ثقات، وقد رواه مالك في «الموطأ» مرسلا، وهو هنا متصل ا. هـ.
168
- وقد ورد هذا الحديث موصولا من حديث عائشة:
أخرجه أحمد (٦/ ٢٢٦)، والبخاري (٥/ ٢٤٩) كتاب «الشهادات» : باب شهادة المختبئ، حديث (٢٦٣٩)، ومسلم (٢/ ١٠٥٥- ١٠٥٦) كتاب النكاح: باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، حديث (١١١/ ١٤٣٣)، والترمذي (٢/ ٢٩٣) كتاب النكاح: باب ما جاء فيمن يطلق امرأته ثلاثا حديث (١١١٨)، والنسائي (٦/ ١٤٨) كتاب الطلاق: باب إحلال المطلقة ثلاثا، وابن ماجه (١/ ٦٢١- ٦٢٢) كتاب النكاح: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا، حديث (١٩٣٢) والدارمي (٢/ ١٦١) كتاب الطلاق: باب ما يحل المرأة لزوجها الذي طلقها، والشافعي (٢/ ٣٤- ٣٥) كتاب الطلاق، حديث (١١٠)، والحميدي (١/ ١١١) رقم (٢٢٦)، وعبد الرزاق (٦/ ٣٤٦- ٣٤٧) رقم (١١١٣١)، والطيالسي (١/ ٣١٤- ٣١٥) رقم (١٦١٢، ١٦١٣)، وسعيد بن منصور (٢/ ٧٣- ٧٤)، رقم (١٩٨٥)، وأبو يعلى (٣٩٧)، رقم (٤٤٢٣)، وابن حبان (٤١٩٩- الإحسان)، والبيهقي (٧/ ٣٧٣- ٣٧٤)، والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ١٦٩- بتحقيقنا) من طريق الزهري عن عروة عن عائشة قالت:
جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
وللحديث طرق أخرى عن عائشة:
فأخرجه البخاري (٩/ ٢٨٤) كتاب الطلاق: باب من قال لامرأته: أنت عليّ حرام، حديث (٥٢٦٥)، ومسلم (٢/ ١٠٥٧) كتاب النكاح: باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، حديث (١١٤/ ١٤٣٣)، وأحمد (٦/ ٢٢٩)، والدارمي (٢/ ١٦٢) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به.
وأخرجه مسلم (٢/ ١٠٥٧) كتاب النكاح: باب لا تحل المطلقة ثلاثا لمطلقها حتى تنكح زوجا غيره، حديث (١١٥/ ١٤٣٣)، وأحمد (٦/ ١٩٣)، وأبو يعلى (٨/ ٣٧٣- ٣٧٤) رقم (٤٩٦٤) من طريق القاسم بن محمد عن عائشة.
وأخرجه أبو داود (١/ ٧٠٥) كتاب الطلاق: باب في المبتوتة لا يرجع إليها زوجها حتى تنكح زوجا غيره، حديث (٢٣٠٩)، وأحمد (٦/ ٤٢) من طريق الأسود عن عائشة.
وأخرجه البخاري (١٠/ ٢٩٣) من طريق عبد الوهاب عن أيوب عن عكرمة [ «أنّ رفاعة طلّق امرأته، فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير القرظيّ، قالت عائشة: وعليها خمار أخضر، فشكت إليها، وأرتها خضرة بجلدها فلما جاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- والنساء ينصر بعضهن بعضا- قالت عائشة: ما رأيت مثل ما يلقى المؤمنات لجلدها أشدّ خضرة من ثوبها. قال وسمع أنها قد أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء ومعه ابنان له من غيرها، قالت: والله ما لي إليه من ذنب، إلا أنّ ما معه ليس بأغنى عني من هذه- وأخذت هدبة من ثوبها- فقال: كذبت والله يا رسول الله، إني لأنفضها نفض الأديم، ولكنها ناشز تريد رفاعة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فإن كان ذلك لم تحلّي له أو تصلحي له حتى يذوق من عسيلتك. قال وأبصر معه ابنين له فقال: بنوك هؤلاء؟ قال: نعم. قال: هذا الذي تزعمين ما تزعمين؟ فو الله لهم أشبه به من الغراب بالغراب» ].
169

[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤ الى ٥]

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ... الآية نزلت بسبب القاذفين، وذكر تعالى في الآية: قَذْفَ النساءِ من حيث هو أَهَمُّ وأبشعُ، وقذفُ الرجال داخلٌ في حكم الآية بالمعنى والإجماع على ذلك، والْمُحْصَناتِ هنا: العفائف، وشَدَّدَ تعالى على القاذف بأربعة شهداء رحمةً بعباده، وستراً لهم، وحكم شهادة الأربعة أنْ تكونَ على معاينة مبالغة كالمِرْوَدِ في المَكْحَلَةِ في موطنٍ واحد، فإنِ اضطرب منهم واحد
- وفي الباب عن ابن عمر، وعبيد الله بن عباس، وأنس بن مالك، والفضل بن عباس.
حديث ابن عمر:
أخرجه أحمد (٢/ ٨٥)، والنسائي (٦/ ١٤٨- ١٤٩) كتاب النكاح: باب إحلال المطلقة ثلاثا، وابن ماجه (١/ ٦٢٢) كتاب النكاح: باب الرجل يطلق امرأته ثلاثا: فتتزوج فيطلقها (١٩٣٣) من طريق محمد بن جعفر: حدثنا شعبة عن علقمة بن مرثد: سمعت سالم بن رزين يحدث عن سالم بن عبد الله بن عمر عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر به.
وأخرجه أحمد (٢/ ٦٢)، والنسائي (٦/ ١٤٩)، والبيهقي (٧/ ٣٧٥) من طريق سفيان عن علقمة بن مرثد عن رزين بن سليمان عن ابن عمر.
قال النسائي: هذا أولى بالصواب.
وأخرجه أبو يعلى (٨/ ٣٧٤) رقم (٤٠٦٦) من طريق يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر.
قال الهيثمي في «المجمع» (٤/ ٣٤٣) : رواه الطبراني وأبو يعلى، ورجال أبي يعلى رجال الصحيح.
حديث عبيد الله بن عباس:
أخرجه أحمد (١/ ٢١٤)، والنسائي (٦/ ١٤٨) كتاب الطلاق: باب إحلال المطلقة ثلاثا، عنه أن «الغميصاء أو الرميصاء أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم تشتكي زوجها أنه لا يصل إليها، فلم يلبث أن جاء زوجها، فقال:
يا رسول الله هي كاذبة، وهو يصل إليها، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس ذلك حتى تذوفي عسيلته»
.
وأخرجه أبو يعلى (١٢/ ٨٥- ٨٦) رقم (٦٧١٨) عن عبيد الله بن عباس والفضل بن عباس به.
وقال الهيثمي في «المجمع» (٤/ ٣٤٣)، رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح.
حديث أنس بن مالك:
أخرجه أحمد (٣/ ٢٨٤)، والبزار (٢/ ١٩٥- كشف) برقم (١٥٠٥)، وأبو يعلى (٧/ ٢٠٧) رقم (٤١٩٩) عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت زوجا، فمات عنها قبل أن يدخل بها هل يتزوجها الأول؟ قال: «لا حتى يذوق عسيلتها».
قال الهيثمي في «المجمع» (٤/ ٣٤٣) : رواه أحمد، والبزار، وأبو يعلى، والطبراني في «الأوسط»، ورجاله رجال الصحيح خلا محمد بن دينار الطاحي، وقد وثقه أبو حاتم، وأبو زرعة، وابن حبان، وفيه كلام لا يضر.
حديث الفضل بن عباس: انظر حديث عبيد الله بن العباس. [.....]
170
جُلِدَ الثلاثة، والجلد: الضرب، ثم أمر تعالى: ألّا تقبل للقذفة المحدودين شهادة أبدا «١»،
(١) القاذف هو من يرمي محصنا أو محصنة بالزنى ولم يأت بأربعة شهداء يشهدون على صدق قوله، ولا خلاف بين العلماء في شهادة القاذف إذا شهد قبل إقامة الحدّ وبعد التوبة، أو بعد إقامة الحدّ وقبل التوبة فإنه في الصورة الأولى، تقبل شهادته إجماعا، وفي الثانية لا تقبل إجماعا إنّما الخلاف في شهادته بعد الحد وبعد التوبة.
فذهب الإمام الشافعيّ، ومالك، وأحمد، والبتيّ وإسحاق، وأبو عبيدة وابن المنذر إلى قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب، وروي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه وشريح والحسن والنّخعيّ وسعيد بن جبير والثوريّ إلى ردّ شهادة المحدود في القذف وإن تاب. وروي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما.
ومنشأ هذا الاختلاف هو: اختلافهم في فهم الآية الكريمة: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا. اختلفوا في الاستثناء: هل هو راجع إلى الكل أو إلى الأخيرة فقط؟ وهذه مسألة أصولية، وسنذكر فيما يلي خلاصة القول فيها: إنّ الاستثناء إذا وقع بعد جمل متعاطفة بالواو، ونحوها أمكن رده للجميع، وإلى الأخيرة خاصة بلا خلاف، وإنما الخلاف فيما هو ظاهر فيه، فالشافعية يقولون ظاهر في الكل، ولا يرجع للأخيرة فقط إلّا بقرينة. والحنفية يقولون: ظاهر في الأخيرة، ولا يرجع للكل إلا بدليل.
وأبو الحسين كالشافعية إلّا أنه فصل في القرينة فقال: إن قامت قرينة على الإضراب عن الأول فهو للأخير. وظهور الإضراب يكون باختلاف الجملتين نوعا: بأن تكون إحداهما خبرا والأخرى إنشاءا نحو العلماء مكرمون ولا تكرم الجهال إلّا خالدا.
أو تكون إحداهما أمرا والأخرى نهيا نحو: أكرم العلماء ولا تكرم الجهال إلّا من دخل الدار فالاستثناء من الأخير.
أو باختلافهما حكما: بأن يكون مضمون إحداهما غير مضمون الأخرى نحو: الرجال قائمون، والعلماء جالسون إلّا محمدا. أو باختلافهما اسما بأن يكون الاسم في الأولى غير صالح لتعلق الاستثناء به نحو:
أكرم الرجال وأعطف على النساء إلّا هندا. ففي هذا كلّه يرجع الاستثناء إلى الأخير، ظهور الإضراب.
لكن محل هذا ما لم يكن الاسم في الجملة الثانية ضمير الاسم في الأولى أو اتفقا في الغرض وإلّا كان الاستثناء راجعا للكل مطلقا وإن اختلفا نوعا أو حكما.
وأما الاختلاف في الاسم فلا يمكن معه رجوع الاستثناء للكل، لعدم صلاحيته للتعلق بالكل. مثال الأول: أكرم بني تميم وهم مكرمون إلّا بكرا، فهما مختلفان نوعا لكن الاسم في الثانية ضمير الأول فيرجع للكل. ومثال الثاني قوله تعالى: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فقد اتحدا في الغرض وهو الإهانة والانتقام وإن اختلفا نوعا فيرجع للكل.
وقال القاضي والغزاليّ: «بالوقف». وقال المرتضى: مشترك بين الكل والأخير، ويرجع مذهب الوقف والاشتراك إلى قول الحنفية، لأنّ مذهب الوقف معناه أنّ الاستثناء لا يعلم أهو موضوع للإخراج من الكل أو من الأخير؟ ومذهب المرتضى أنّه مشترك بين الإخراج من الكل ومن الأخير. فيلزم الرجوع للأخير عليهما لأنه إن كان موضوعا للأخير فظاهر، وإن كان للكل ففي ضمنه الأخير.
قال الشافعي: توبة القاذف إكذابه نفسه. وفسره الإصطخري (من أصحاب الشافعي) : بأن يقول: كذبت
171
وهذا يقتضي مُدَّةَ أعمارهم، ثم حكم بفسقهم، ثم استثنى تعالى مَنْ تاب وأصلح من بعد القذف، فالاستثناء غيرُ عامل في جلده بإجماع، وعامل في فسقه بإجماع، واخْتُلِفَ في عمله في رَدِّ الشهادة، والجمهور أَنَّه عامل في رَدِّ الشهادة، فإذا تاب القاذف قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، ثم اختلفوا في صورة توبته، فقيل بأن يُكَذِّبَ نَفْسَه، وإلاَّ لم تُقْبَلُ، وقالت فرقةٌ منها مالك:
توبته أن يَصْلُحَ وتَحْسُنَ حالُه «١». وإنْ لم يرجع عن قوله بتكذيب واختلف فقهاءُ المالكيَّةِ متى تسقط شهادة القاذفِ فقال ابن الماجشون: بنفس قَذَفِهِ، وقال ابن القاسم وغيره: لا تَسْقُطُ حتى يُجْلَدَ، فإن مَنَعَ من جلده مانع عفو أو غيره لم تُرَدَّ شهادَتُه، قال اللَّخْمِيَّ:
شهادته في مدة الأجل للإثبات موقوفة، وتابُوا معناه: رجعوا، وقد رَجَّحَ الطبريُّ «٢» وغيرُهُ قولَ مالك، واخْتُلِفَ أَيضاً على القول بجواز شهادته، فقال مالك: تجوزُ في كل شيء بإطلاق، وكذلك كُلُّ مَنْ حُدَّ في شيء.
وقال سحنون: مَنْ حُدَّ في شيء فلا تجوز شهادته في مثل ما حُدَّ فيه، واتفقوا فيما أحفظ على ولد الزنا أَنَّ شهادته لا تجوز في الزنا.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦ الى ١٠]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ...
الآية: لما رَمَى هلالُ بن أُمَيَّةَ الوَاقِفِيُّ زوجته بِشَرِيكِ بنِ سحماء- عزم النبي صلّى الله عليه وسلّم على ضَرْبِهِ حَدَّ القَذْفِ فَنَزَلَتْ هذه الآية حسبما هو مشروح في الصحاح، فجمعهما صلّى الله عليه وسلّم في المسجد،
- فيما قلت، فلا أعود إلى مثله. وقال أبو إسحاق المروزي (من أصحاب الشافعي) لا يقول كذبت، لأنه ربما يكون صادقا، فيكون قوله: «كذبت» كذبا، والكذب معصية. والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى، بل يقول: القذف باطل، وندمت على ما فعلت، ورجعت عنه، ولا أعود إليه.
وظاهر كلام أحمد والخرقي أن توبة القاذف (كما قال الشافعي) إكذاب نفسه، فيقول: كذبت فيما قلت.
وقال بعض العلماء: توبة القاذف كتوبة غيره، أمر بينه وبين ربه، ومرجعها إلى الندم على ما قال، والعزم على ألا يعود. والسر في أن الشافعية ومن وافقهم أدخلوا في معنى التوبة التلفظ باللسان مع أن التوبة من عمل القلب أن يترتب عليها حكم شرعي، وهو قبول شهادة المحدود في القذف إذا تاب، فلا بد أن يعلم الحاكم توبته حتى تقبل شهادته.
(١) في ج: وتحسن حالته.
(٢) ينظر: «الطبريّ» (٩/ ٢٦٥).
172
وَتَلاَعَنَا، وجاء أَيضاً عُوَيْمِرُ العَجْلاَنِيُّ فرمى امرأته ولا عن «١»، والمشهورُ: أَنَّ نازلةَ هلالٍ قبلُ، وأَنَّها سَبَبُ الآية، والأزواج في هذه الآية: يَعُمُّ المسلماتِ والكافرات والإماءِ فكُلُّهن يُلاعِنُهُنَّ الزوجُ للانتفاء من الحمل، وتختصُّ الحُرَّةُ بدفع حَدِّ القذف عن نفسها، وقرأ السبعة غيرَ نافعِ «٢» : أَنَّ لَعْنَتَ، وأَنَّ غَضَبَ بتشديد «أَنَّ» فيهما ونَصْبِ اللعنة والغضب، والعذاب المُدْرَأَ في قول الجمهور: هو الحَدُّ، وجُعِلَتْ اللعنة للرجل الكاذب لأَنَّهُ مفترٍ مُبَاهِتٌ، فَأُبْعِدَ باللعنة، وجُعِلَ الغَضَبُ، الذي هو أَشَدُّ على المرأة التي باشرت المعصية بالفعل ثم كذبت وباهتت- بالقول، والله أعلم، وأجمع مالك وأصحابه على وجوب اللعان بادِّعاء الرؤية زناً لا وطء من/ الزوج بعده، وذلك مشهور المذهب. ٣٥ ب وقال مالك: إنَّ اللعان يجب بنفي حمل يُدَّعَى قبله استبراءٌ والمُسْتَحَبُّ من ألفاظ اللعان أنْ يمشي مع ترتيب القرآن ولفظه، فيقول الزوج: أشهد بالله لرأيتُ هذه المرأة تزني،
(١) تقدم.
حديث ابن عباس في الملاعنة.
أخرجه أبو داود (٢/ ٦٨٨) كتاب الطلاق: باب في اللعان، حديث (٢٢٥٦)، وأحمد (١/ ٢٣٨- ٢٣٩)، والطيالسي (١/ ٣١٩- منحة) رقم (١٦٢٠)، والطبريّ في «تفسيره» (١٨/ ٦٥- ٦٦)، والبيهقي (٧/ ٣٩٤) كتاب «اللعان» : باب الزوج يقذف امرأته، كلهم من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس، وفيه: فقال: يا رسول الله، إني جئت أهلي عشاء، فوجدت عندها رجلا فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما جاء به، واشتد عليه، فنزلت: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٤٣)، وعزاه إلى أحمد، وعبد الرزاق، والطيالسي، وعبد بن حميد، وأبي داود، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس.
أما حديث عويمر: فرواه سهل بن سعد.
وأخرجه مالك (٢/ ٥٦٦- ٥٦٧) كتاب الطلاق: باب ما جاء في اللعان، حديث (٣٤)، والبخاري (٩/ ٣٦١) كتاب الطلاق: باب من جوز الطلاق الثلاث، حديث (٥٢٥٩)، ومسلم (٢/ ١١٢٩- ١١٣٠) كتاب «اللعان»، حديث (١/ ١٤٩٢)، وأبو داود (٢/ ٦٧٩- ٦٨٢) كتاب الطلاق: باب في اللعان، حديث (٢٢٤٥)، والنسائي (٦/ ١٧٠- ١٧١) كتاب الطلاق: باب بدء اللعان، وابن ماجه (١/ ٦٦٧) كتاب الطلاق: باب اللعان، حديث (٢٠٦٦)، وأحمد (٥/ ٣٣٦- ٣٣٧)، والدارمي (٢/ ١٥٠) كتاب النكاح: باب في اللعان، وابن الجارود في «المنتقى» برقم (٧٥٦)، وابن حبان (٤٢٧١- الإحسان)، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣/ ١٠٢)، والبيهقي (٧/ ٣٩٨- ٣٩٩) كتاب «اللعان» : باب سنة اللعان، والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ١٨١- بتحقيقنا) من طريق الزهري عن سهل بن سعد به.
(٢) ينظر: «السبعة» (٤٥٣)، و «الحجة» (٥/ ٣١٤)، و «إعراب القراءات» (٢/ ١٠١)، و «معاني القراءات» (٢/ ٢٠٢)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٨٤)، و «العنوان» (١٣٨)، و «حجة القراءات» (٤٩٤)، و «شرح شعلة» (٥١٢)، و «إتحاف» (٢/ ٢٩٢)، و «المحتسب» (٢/ ١٠٢).
173
وإنِّي في ذلك لمن الصادقين، ثم يقول في الخامسة: وأنّ لعنة الله علي إنْ كنتُ من الكاذبين، وأَمَّا في لعان نفي الحمل فيقول: ما هذا الولدُ مِنِّي، وتقول المرأة: أشهدُ بالله ما زنيتُ، وأَنَّهُ في ذلك لمن الكاذبين، ثم تقول: غَضِبَ الله عَلَيَّ إنْ كان من الصادقين، فإنْ مَنَعَ جَهْلُهُمَا من ترتيب هذه الألفاظ، وأتيا بما في معناها أجزأ ذلك، ومشهور المذهب: أَنَّ نفسَ تمام اللعان بينهما فُرْقَةٌ، ولا يحتاج معها إلى تفريق حاكم، وتحريم اللعان أَبَدِيٌّ باتفاق فيما أحفظ من مذهب مالك، وجواب لَوْلا محذوف تقديره: لكشف الزناةَ بأيسر من هذا، أو لأخذهم بعقابه ونحو هذا.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١١ الى ١٣]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ... الآية: نزلت في شأن أُمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها ففي «البخاريِّ» في غزوة بَنِي المُصْطَلِقِ عن عائشة رضي الله عنها قالت: وأَنْزَلَ اللهُ العَشْرَ الآياتِ في براءتي: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ... الآيات:
والإفك: الزُّورُ والكذب، وحديث الإفك في «البخاريّ» و «مسلم» وغيرهما مُسْتَوْعَبٌ، والعُصْبَةُ: الجماعة من العشرة إلى الأربعين.
وقوله سبحانه: لاَ تَحْسَبُوهُ خطاب لِكُلِّ مَنْ ساءه ذلك من المؤمنين.
وقوله تعالى: بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ معناه: أَنَّه تَبْرِئَةٌ في الدنيا، وترفيعٌ من الله تعالى في أنْ نَزَّلَ وَحْيَهُ بالبراءة من ذلك، وأجرٌ جزيلٌ في الآخرة، وموعظةٌ للمؤمنين في غابر الدهر، واكْتَسَبَ: مستعملة في المآثم، والإشارة بقوله تعالى: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ هي إلى: عبد الله بن أُبَيِّ ابن سلولَ وغيره من المنافقين، وكِبْرَهُ: مصدر كَبُرَ الشيء وعَظُمَ ولكنِ استعملتِ العربُ ضَمَّ الكاف في السِّنِّ.
وقوله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً... الآية:
الخطاب للمؤمنين حاشا مَنْ تولى كِبْرَهُ، وفي هذا عتابٌ للمؤمنين، أي: كان الإنكارُ واجباً عليهم، ويقيس فُضَلاَءُ المؤمنين الأمر على أنفسهم، فإذا كان ذلك يَبْعُدُ فيهم فَأُمُّ المؤمنين أبعد، لفضلها، ووقع هذا النّظر السديد من أبي أَيُّوبَ وامرأته وذلك أَنَّهُ دَخَلَ عليها فقالت له: «يا أبا أيوبَ، أَسَمِعْتَ ما قيل؟ فقال: نعم، وذلك الكذبُ أكنتِ أنت يا أمّ أيّوب
تفعلين ذلك؟ قالت: لا، والله، قال: فعائشة- والله- أفضلُ منك، قالتْ أُمُّ أيوب:
نعم» «١» فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله فيه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم، والضمير في قوله: لَوْلا جاؤُ للذين تولوا كبره.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٤ الى ١٨]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨)
وقوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ هذا عتاب من الله تعالى، بليغ في تعاطيهم هذا الحديثَ وإنْ لم يكن المُخْبِرُ والمُخْبَرُ مُصَدِّقِينَ، ولكنَّ نفس التعاطي والتلقي من لسانَ إلى لسان والإفاضة في الحديث- هو الذي وقع العتابُ فيه، وقرأ ابن يعمر «٢» وعائشة (رضي الله عنها) وهي أعلم الناس بهذا الأمر: «إذْ تَلِقُونَهُ» /- بفتح التاء، وكسر اللام، وضم القاف-، ومعنى ٣٦ أهذه القراءة من قول العرب: وَلَقَ الرجُل وَلْقاً إذا كَذِبَ، وحكى «٣» الطبريُّ: أن هذه اللفظة مأخوذةٌ من: الوَلْقِ الذي هو إسراعك بالشيء بعد الشيء يقال: ولق في سيره إذا أسرع، والضمير في: تَحْسَبُونَهُ للحديث والخوضِ فيه والإذاعةِ له.
وقوله تعالى: سُبْحانَكَ أي: تنزيهاً للَّه أَنْ يقع هذا من زوج نَبِيِّه صلّى الله عليه وسلّم وحقيقة البُهْتَانِ: أَنْ يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة: أَنْ يقال في الإنسان ما فيه، ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٩ الى ٢١]
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١)
(١) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٨٤) برقم (٢٥٨٥٩)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٧٠)، وابن كثير (٣/ ٢٧٣)، والسيوطي (٥/ ٦٠)، وعزاه لابن إسحاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر.
(٢) وقرأ بها ابن عباس، وعثمان الثقفي.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص ١٠٢، و «المحتسب» (٢/ ١٠٤)، و «الكشاف» (٣/ ٢١٩)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ١٧١)، و «البحر المحيط» (٦/ ٤٠٢)، و «الدر المصون» (٥/ ٢١٣).
(٣) ينظر: «الطبريّ» (٩/ ٢٨٥).
175
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا... الآية: قال مجاهد وغيره: الإشارة بهذه الآية إلى المنافقين، وعذابهم الأليم في الدنيا: الحدودُ، وفي الآخرة: النار «١»، وقالت فرقة: الآية عامَّةٌ في كلّ قاذف، و [هذا] «٢» هو الأظهر.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ معناه: يعلم البريءَ من المُذْنِبِ، ويعلم سائر الأمور، وجواب لَوْلا أيضاً محذوف تقديره: لَفَضَحَكُم بذنوبكم، أو لعذّبكم ونحوه.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ... الآية: خطوات جمع خُطْوَة، وهي ما بين القدمين في المشي، فكأنَّ المعنى: لا تمشوا في سُبُلِهِ وطُرُقِهِ.
قلت: وفي قوله سبحانه: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً: ما يردع العاقلَ عن الاشتغال بغيره، ويُوجِبُ له الاهتمامَ بإصلاح نفسه قبل هجوم مَنِيَّتِهِ وحُلُولِ رَمْسِهِ، وحَدَّثَ أَبو عمر في «التمهيد» بسنده عن إسماعيل بن كثير قال:
سمعت مجاهداً يقول: «إنَّ الملائكة مع ابن آدم، فإذا ذكر أخاه المسلم بخير، قالت الملائكة: ولك مِثْلُهُ، وإذا ذكره بشرٍّ، قالتِ الملائكةُ: ابنَ آدمَ المستور عورته، أَرْبِعْ على نفسك، واحْمَدِ الله الذي يستر عورتك» انتهى، ورُوِّينَا في «سنن أبي داودَ» عن سهل بن مُعَاذِ بن أنس الجهني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ حَمَى مُؤْمِناً مِنْ مُنَافِقٍ- أَرَاهُ قالَ:
بَعَثَ اللهُ مَلَكاً يَحْمِي لَحْمَةُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ رَمَى مُسْلِماً بشيء يريد به شينه، حبسه الله- عز وجل- عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ»
«٣»، وروينا أيضاً عن أَبي داودَ بسنده عن جابرِ بن عبد الله وأبي طلحةَ بن سهل الأنصارِيَّين أنَّهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «ما من امرئ يخذل أمرا مُسْلِماً في مَوْضِعٌ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ، وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ- إلاَّ خَذَلَهُ اللهُ في موطن يحبّ فيه نصرته، وما من امرئ يَنْصُرُ مُسْلِماً في مَوْضِع يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ- إلاَّ نَصَرَهُ الله في موضع يحبّ فيه
(١) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٨٧) برقم (٣٥٨٧٠) نحوه، وذكره ابن عطية (٤/ ١٧١)، والسيوطي (٥/ ٦١)، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والطبراني عن مجاهد بلفظ: «تظهر».
(٢) سقط في ج.
(٣) أخرجه أبو داود (٢/ ٦٨٧) كتاب الأدب: باب من رد على مسلم غيبة، حديث (٤٨٨٣)، وابن المبارك في «الزهد» (٢٣٩).
176
نُصْرَتَهُ»، انتهى «١»، ثم ذكر تعالى أَنَّه يزكى مَنْ شاء مِمَّنْ سبقت له السعادة، وكان عمله الصالح أمارة على سبق السعادة له.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٢]
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)
وقوله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ... الآية: المشهورُ من الروايات أَنَّ هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر رضي الله عنه ومِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ، وكان من قرابة أبي بكر، وكان أبو بكر ينفق عليه، لمسكَنَتِهِ، فلما وقع أمر الإفك بلغ أبا بكر أَنَّه: وقع مِسْطَحٌ مع مَنْ وقع فحلف أبو بكر: لا ينفق عليه، ولا ينفعه بنافعة أبدا، فجاء مسطح معتذرا/ ٣٦ ب وقال: إنَّما كُنْتُ أسمع ولا أقول، فنزلتِ الآية، والفضل: الزيادة في الدِّينِ، والسعة هنا:
هي المال، ثم قال تعالى: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ... الآية، أي: كما تحبون عفوَ الله لكم عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم، فيروى أنَّ أبا بكر قال: بلى، إنِّي أُحِبُّ أَنْ يغفر الله لي، ورَجَّعَ إلى مِسْطَحٍ ما كان يُجْرِي عليه من النفقة والإحسان «٢».
قال ابن العربيِّ في «أحكامه» : وفي هذه الآيةِ دليلٌ على أَنَّ الحنث إذا رآه الإنسان خيراً هو أولى من البر، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلّم: «فَرَأَى غَيْرُهَا خَيْراً مِنْها، فلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» انتهى «٣». وقال بعض الناس: هذه أرجى آيةٌ في كتاب الله عز وجل من
(١) أخرجه أبو داود (٢/ ٦٨٧) كتاب الأدب: باب من رد على مسلم غيبة، حديث (٤٨٨٤)، وأحمد (٣/ ٤٤١)، والبغوي في «شرح السنة» (٦/ ٤٩٥- ٤٩٦- بتحقيقنا).
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٨٩) برقم (٢٥٨٧٥)، وذكره البغوي (٣/ ٣٣٤)، وابن عطية (٤/ ١٧٢، ١٧٣)، وابن كثير (٣/ ٢٧٦)، والسيوطي (٥/ ٦٣)، وعزاه لابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان. [.....]
(٣) أخرجه مسلم (٣/ ١٢٧١- ١٢٧٢) كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا، فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، حديث (١١/ ١٦٥٠)، والبيهقي (١٠/ ٣٢) كتاب الأيمان، باب من حلف على يمين فرأى خَيْراً مِنْها، فلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ وَلْيُكَفِّرْ عن يمينه.
وأخرجه مسلم (٣/ ١٢٧٢) كتاب الأيمان، باب ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، حديث (١٣/ ١٦٥٠). ومن حديث عدي بن حاتم أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف»، وأبو داود الطيالسي (١/ ٢٤٧) كتاب «الأيمان والنذور»، باب من حلف على يمين فرأى خَيْراً مِنْها، فلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ، وَلْيُكَفِّرْ عن يمينه، حديث (١٢١٨)، وأحمد (٤/ ٢٥٦- ٢٥٧- ٢٥٨)، والدارمي (٢/ ١٨٦) كتاب «الأيمان والنذور»، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، ومسلم (٣/ ١٢٧٢- ١٢٧٣)، كتاب: الأيمان، باب: ندب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، حديث (١٦، ١٨/ ١٦٥١)، والنسائي (٧/ ١٠- ١١) كتاب «الأيمان والنذور»، باب الكفارة بعد الحنث، وابن ماجه (١/ ٦٨١) كتاب «الكفارات»، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، -
177
حيث لطفه سبحانه بالقَذَفَةِ العُصَاةِ بهذا اللفظ.
قال ع «١» : وإنَّما تعطى الآية تفضلاً من الله تعالى في الدنيا، وإنَّما الرجاءُ في الآخرة، أما أنَّ الرجاءَ في هذه الآية بقياسٍ، أي: إذا أُمِرَ أُولِي الفضل والسعة بالعفو، فطرد هذا التفضل بسعة رحمته سبحانه لا رَبَّ غيره، وإنَّما آيات الرجاء: قوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: ٥٣]. وقوله تعالى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ
- حديث (٢١٠٨)، والحاكم (٤/ ٣٠٠- ٣٠١) كتاب «الأيمان والنذور»، باب لا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم، والبيهقي (١٠/ ٣٢) كتاب «الأيمان» : باب من حلف على يمين فرأى خَيْراً مِنْها، فلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ وَلْيُكَفِّرْ عن يمينه، بلفظ «فلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرُ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ».
ومن حديث عبد الرحمن بن سمرة بلفظ «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها، فائت الذي هو خير وكفر عن يمينك».
ومنهم من قال: «فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير».
والحديث أخرجه أحمد (٥/ ٦٢- ٦٣)، والدارمي (٢/ ١٨٦) كتاب «الأيمان والنذر»، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، والبخاري (١١/ ٥١٦- ٥١٧) كتاب «الأيمان والنذور»، باب قول الله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ... حديث (٦٦٢٢)، ومسلم (٣/ ١٢٧٣- ١٢٧٤) كتاب «الأيمان»، باب ندب من حلف يمينا، فرأى غيرها خيرا منها، حديث (٩/ ١٦٥٢)، وأبو داود الطيالسي (١/ ٢٤٧) كتاب «الأيمان والنذور»، باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه، حديث (١٢١٩)، والنسائي (٧/ ١٢) كتاب «الأيمان والنذور»، باب الكفارة بعد الحنث، وأبو داود (٣/ ٥٨٤) كتاب «الأيمان والنذور»، باب الرجل يكفر قبل أن يحنث، حديث (٣٢٧٧)، وابن الجارود في «المنتقى» ص (٣١٠) : باب ما جاء في الأيمان، حديث (٩٢٩)، والبيهقي (١٠/ ٣١) كتاب «الأيمان»، باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه.
والخطيب في «تاريخ بغداد» (٢/ ٤٠٠) من طرق عن الحسن عن عبد الرحمن به.
ومن حديث عبد الرحمن بن أذينة عن أبيه أخرجه الطيالسي (١/ ٢٤٧) كتاب «الأيمان والنذور»، باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها، فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه، حديث (١٢٢٠).
ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رواه أحمد (٢/ ٢٠٤) بلفظ «فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه»، ورواه الطيالسي (١/ ٢٤٧) كتاب «الأيمان والنذور»، باب من حلف على يمين فرأى خيرا منها، حديث (١٢٢١)، وأحمد (٢/ ٢١٢)، وأبو داود (٣/ ٥٨٢) كتاب «الأيمان والنذور»، باب اليمين في قطيعة الرحم، حديث (٣٢٧٤)، وابن ماجه (١/ ٦٨٢) كتاب «الكفارات»، باب من قال: كفارتها تركها، حديث (٢١١١) بلفظ «فليدعها وليأت الذي هو خير، فإن تركها كفارتها».
وقال أبو داود: الأحاديث كلها عن النبي صلى الله عليه وسلّم «وليكفر عن يمينه» إلا فيما لا يعبأ به.
ومن حديث مالك الجشمي رواه النسائي (٧/ ١١) كتاب «الأيمان والنذور»، باب الكفارة بعد الحنث، وابن ماجه (١/ ٦٨١) كتاب «الكفارات»، باب من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، حديث (٢١٠٩).
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٧٣).
178
[الشورى: ١٩]. وسمعت أبي رحمه الله يقول: أرجى آيةٌ في كتاب الله عندي قوله تعالى:
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً [الأحزاب: ٤٧]. وقال بعضهم: أرجى آية قولَهُ تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: ٥].
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ... الآيةَ: قال ابن جبير: هذه الآية خاصَّةٌ في رُمَاةِ عائشة «١»، وقال ابن عباس «٢» وغيره: بل ولجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم لمكانهن من الدِّينِ ولم يقرن بآخر الآية توبة.
قال ع «٣» : وقاذف غَيْرهِنَّ له اسم الفسق، وذكرت له التوبةُ، ولعن الدنيا:
الإِبعاد، وضربُ الحَدِّ، والعامل في قوله: يَوْمَ فعل مُضمَرٌ تقديره: يُعَذَّبُونَ يومَ أو نحو هذا، والدين في هذه الآية: الجزاء، وفي مصحف ابن مسعود «٤» وأُبَيٍّ: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ الحَقُّ دِينَهُمْ بتقديم الصفة على الموصوف.
وقوله: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ يُقِوِّي قولَ مَنْ ذهب: أَنَّ الآية في المنافقين عَبْدِ الله بن أبيّ وغيره.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨)
(١) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٩٠) برقم (٢٥٨٨١)، وذكره البغوي (٣/ ٣٣٤)، وابن عطية (٤/ ١٧٤)، وابن كثير (٣/ ٢٧٦)، والسيوطي (٥/ ٦٤)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني عن خصيف.
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٩١) برقم (٢٥٨٨٥)، وذكره البغوي (٣/ ٣٣٤)، وابن عطية (٤/ ١٧٤)، وابن كثير (٣/ ٢٧٦)، والسيوطي (٥/ ٦٤)، وعزاه لسعيد بن منصور، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٧٤).
(٤) ونسبها ابن خالويه إلى قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم. ولكنه ضبطها برفع كلمة «الحق».
ينظر: «المختصر» ص (١٠٣)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ١٧٤).
179
وقوله تعالى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ... الآية: قال ابن عباس «١» وغيره: الموصوف بالخُبْثِ والطيب: الأقوال والأفعال، وقال ابن زيد «٢» : الموصوفُ بالخُبْث والطيب، النساءُ والرجال، ومعنى هذا التفريقَ بَيْنَ حكم ابن أبيّ وأشباهه وبين حكم النبي صلى الله عليه وسلّم وفضلاء أصحابه وأمّته.
وقوله تعالى: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ إشارة إلى الطيبين المذكورين، وقيل:
الإشارة ب أُولئِكَ إلى عائشة- رضي الله عنها- ومَنْ في معناها.
وقوله تعالى: لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا سبب هذه الآية فيما روى الطبريُّ «٣» : أَنَّ امرأة من الأنصار قالت: يا رسولَ الله، إنِّي أَكونُ في منزلي على الحال الَّتي لاَ أُحِبُّ أَنْ يراني أحدٌ عليها، لاَ وَالَدٌ ولا وَلَد، وإنَّهُ لا يزالُ يدخلُ عليَّ رجلٌ مِنْ أهلي، وأنا على تلك الحال فنزلت هذه «٤» الآية، ثم هي عامَّةٌ في الأُمَّةِ غَابِرَ الدهر، وبيت الإنسان: هو الذي لا أحد معه فيه، أوِ البيتَ الذي فيه زوجته أو أَمَتُهُ، وما عدا هذا ٣٧ أفهو غير بيته، وتَسْتَأْنِسُوا معناه: تستعملوا/ مَنْ في البيت، وتستبصروا، تقول:
آنستُ: إذا علمَتُ عن حِسٍّ وإذا أبصرتُ ومنه قوله تعالى: آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء: ٦].
و «استأنس» وزنه: استفعل، فكأنَّ المعنى في تَسْتَأْنِسُوا: تطلبوا أنْ تعلموا ما يؤنسكم ويؤنس أهل البيت منكم، وإذا طلب الإنسان أن يعلم أمر البيت الذي يريد دخوله، فذلك يكون بالاستئذان على من فيه، أو بأنْ يتنحنح ويشعر بنفسه بأي وجه أمكنه، ويتأنّى قَدْرَ ما يتحفظ منه، ويدخل إثر ذلك.
وذهب الطبريُّ «٥» في: تَسْتَأْنِسُوا إلى أَنَّه بمعنى حتى تؤنسوا أهل البيت بأنفسكم بالتنحنح والاستئذان ونحوه، وتؤنسوا نفوسكم بأن تعلموا أنْ قد شعر بكم.
(١) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٩٣) برقم (٢٥٨٩١)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٧٤)، وابن كثير (٣/ ٢٨٧)، والسيوطي (٥/ ٦٦)، وعزاه لابن جرير، ولابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس.
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٩٥) برقم (٢٥٩٠٥)، وذكره البغوي (٣/ ٣٣٥)، وابن عطية (٤/ ١٧٤)، وابن كثير (٣/ ٢٧٨).
(٣) ينظر: «الطبريّ» (٩/ ٢٩٧).
(٤) أخرجه الطبريّ في «تفسيره» (٩/ ٢٩٧) رقم (٢٥٩٢١) عن عدي بن ثابت.
(٥) ينظر: «الطبريّ» (٩/ ٢٩٨).
180
قال ع «١» : وتصريف الفعل يأْبَى أَنْ يكون من أنس، وقرأ أُبَيُّ وابن عباس «٢» :
«حتى تَسْتَأْذِنُوا وَتُسَلِّمُوا» وصورة الاستئذان أَنْ يقول الإنسان: السلام عليكم، أأدخل؟ فإن أُذِنَ له دَخَل، وإنْ أُمِرَ بالرجوع انصرف، وإنْ سُكِتَ عنه استأذن ثلاثاً ثم ينصرف، جاءت في هذا كله آثار، والضمير في قوله: تَجِدُوا فِيها: للبيوت التي هي بيوتُ الغير، وأسند الطبريُّ «٣» عن قتادة أنه قال: قال رجل من المهاجرين: لقد طلبتُ عمري كُلَّه هذه الآيةَ فما أدركتها أن أستأذنَ على بعض إخواني فيقول لي: ارجع، فأرجع وأنا مُغْتَبِطٌ «٤» لقوله تعالى: هُوَ أَزْكى لَكُمْ.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تَوَعُّدٌ لأهل التجسّس.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
وقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ... الآية: أباح سبحانه في هذه الآية رفعَ الاستئْذان في كُلِّ بيت لا يسكنه أحد لأَنَّ العِلَّةَ في الاستئذان خوفُ الكشفة على المُحَرِّمَاتِ، فإذا زالت العِلَّةُ زال الحكم، وباقي الآية بَيِّنٌ ظاهر التوعد، وعن مالك رحمه الله: أَنه بلغه أَنَّهُ كان يُسْتَحَبُّ إذا دخل البيتَ غيرَ المسكون، أن يقول
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٧٥).
(٢) ينظر: «المحتسب» (٢/ ١٠٧)، و «مختصر شواذ ابن خالويه» ص ١٠٣، ولكنه حكاها هكذا: «حتى يسلموا على أهلها ويستأذنوا»، ونسبها إلى ابن مسعود وابن عباس. وأما قراءة أبي عنده- فهي: حتى يسلموا ويستأذنوا».
وينظر: «الكشاف» (٣/ ٢٢٧)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ١٧٥). [.....]
(٣) تقدم تخريجه.
(٤) أخرجه الطبريّ (٩/ ٢٩٩) برقم (٢٥٩٣٣)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٧٦)، وابن كثير (٣/ ٢٨١)، والسيوطي (٥/ ٧٢)، وعزاه لأبي يعلى، وابن مردويه عن أنس.
181
الذي يدخله: السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللهِ الصَّالِحِينَ، انتهى، أخرجه «١» في «المُوَطَّإِ».
وقوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ أظهر ما في مِنْ أَنْ تكون للتبعيض، لأَنَّ أول نظرة لا يملكها الإنسانُ وإنَّما يَغُضُّ فيما بعد ذلك، فقد وقع التبعيض بخلاف الفروج إذ حفظُها عامٌّ لها، والبصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذيرُ منه، وحفظُ الفرج هو عن الزنا وعن كشفه حيث لا يحل.
قلت: النواظر «٢» صوارمُ مشهورة فاغمدها في غِمْدِ الغَضِّ والحياء مِنْ نظر المولى وإلاَّ جرحك بها عَدُوُّ الهوى، لا ترسلْ بريد النظر فيجلبَ لقلبك رَدِيءَ الفكر، غُضُّ البصرِ يُورِثُ القلب نوراً، وإطلاقُه يَقْدَحُ في القلب ناراً. انتهى من «الكَلِمِ الفارقيَّة فِي الحِكَمِ الحقيقيَّة».
قال ابن العربيِّ»
في «أحكامه» : قوله تعالى: ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ يريد: أطهر وأنمى، يعني: إذا غَضَّ بصره كان أطهرَ له من الذنوب وأَنمى لعمله في الطاعة.
قال ابن العربي «٤» : ومِنْ غَضَّ البصر: كَفُّ التطلع إلى المُبَاحَاتِ من زينة الدنيا وجمالِها كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلّم: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ٣٧ ب زَهْرَةَ الْحَياةِ/ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه: ١٣١]. يريد ما عند الله تعالى، انتهى.
وقوله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ... الآية: أمر الله تعالى النساء في هذه الآية بِغَضِّ البصر عن كل ما يُكْرَهُ- من جهة الشرع- النظرُ إليه، وفي حديث أُمِّ سلمةَ قالت: كُنْتُ أنا وعائشة عند النّبيّ صلى الله عليه وسلّم فدخل ابن أمّ مكتوم فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلّم:
«احتجبن، فقلن: إنّه أعمى! فقال صلى الله عليه وسلّم: «أفعمياوان أنتما» «٥» ومِنْ الكلام فيها كالتي قبلها.
(١) أخرجه مالك (٢/ ٩٦٢) كتاب «السلام» : باب جامع السلام حديث (٨).
(٢) في ج: النظر.
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٣٦٦).
(٤) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٣٦٦).
(٥) أخرجه أبو داود (٢/ ٤٦٢) كتاب «اللباس» : باب قول الله تعالى: وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ حديث (٤١١٢)، والترمذي (٥/ ٩٤) كتاب «الأدب» : باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال، حديث (٢٧٧٨)، وأحمد (٦/ ٢٩٦)، والنسائي في «الكبرى» (٥/ ٣٩٣) كتاب «عشرة النساء» : باب نظر-
182
قال ابن العربي في «أحكامه» «١» : وكما لا يَحِلُّ للرجل أن ينظر إلى المرأة، لا يحل للمرأة أَنْ تنظر إلى الرجلِ، فإنَّ عَلاَقَتَهُ بها كعلاقتها به، وقصدَه منها كقصدها منه، ثم استدل بحديث أُمِّ سلمة المتقدم، انتهى. وحفظ الفرج يَعُمُّ الفواحش، وسترَ العورة، وما دون ذلك مِمَّا فيه حفظ، ثم أَمر تعالى بأَلاَّ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ ما يظهر من الزينة قال ابن مسعود «٢» : ظاهر الزينة: هو الثياب.
وقال ابن جبير وغيره «٣» : الوجه والكَفَّانِ والثيابُ.
وقيل: غير هذا.
قال زينتها ع «٤» ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أَنَّ المرأة مأمورة بأَلاَّ تبديَ، وأَنْ تجتهدَ في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء في كُلِّ ما غلبها، فظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بُدَّ منه أو إصلاح شأن، فما ظهر على هذا الوجه فهو المَعفُوُّ عنه، وذكر أبو عمر: الخلاف في تفسير الآية كما تقدم قال: ورُوِيَ عن أبي هريرة في قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْها قال: القلب والفتخة.
- النساء إلى الأعمى، حديث (٩٢٤١، ٩٢٤٢)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (١/ ١١٦)، وأبو يعلى (١٢/ ٣٥٣) رقم (٦٩٢٢)، وابن حبان (١٩٦٨- موارد)، والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (١/ ٤١٦)، والبيهقي (٧/ ٩١- ٩٢)، وابن سعد في «الطبقات» (٨/ ١٢٦) كلهم من طريق الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عن أم سلمة به.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وصححه ابن حبان.
قال الحافظ في «الفتح» (٩/ ٣٣٧) : وهو حديث أخرجه أصحاب السنن من رواية الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عنها، وإسناده قوي، وأكثر ما علل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان، وليست بعلة قادحة، فإن من يعرفه الزهري ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة ولم يجرحه أحد لا ترد روايته ا. هـ.
(١) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٣٦٧).
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣٠٣، ٣٠٤) برقم (٢٥٩٥١، ٢٥٩٥٢، ٢٥٩٥٣، ٢٥٩٥٤، ٢٥٩٥٥)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٧٨)، وابن كثير (٣/ ٢٨٣) والسيوطي (٥/ ٧٤)، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحكم وصححه، وابن مردويه عن ابن مسعود.
(٣) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣٠٤) برقم (٢٥٩٦٣)، (٢٥٩٦٤) عن سعيد بن جبير، وبرقم (٢٥٩٦٥) عن عطاء، وذكره ابن عطية (٤/ ١٧٨)، وابن كثير (٣/ ٢٨٣)، والسيوطي (٥/ ٧٥)، وعزاه لابن جرير عن سعيد بن جبير.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٧٨).
183
قال جرير بن حازم: القُلْبُ: السِّوَارُ، والفتخة: الخاتم، انتهى من «التمهيد».
وقوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ.
قال ابن العربي «١» : الجيب هو الطَّوْقُ، والخمار: هو المِقْنَعَة، انتهى.
قال ع «٢» : سبب الآية أَنَّ النساء كُنَّ في ذلك الزمان إذا غَطَّيْنَ رؤوسهنَّ بالأخمرة سَدَلْنَهَا من وراء الظهر فيبقى النَّحْرُ والعُنُقُ والأُذُنَانِ لا سِتْرَ على ذلك، فأمر الله تعالى بِلَيِّ الخمار على الجيوب، وهَيْئَةُ ذلك يستر جميعَ ما ذكرناه، وقالت عائشة- رضي الله عنها- رُحِمَ اللهُ المُهَاجِرَاتِ الأُوَلَ لمَّا نزلت هذه الآية عَمَدْنَ إلى أكثف المروط «٣» فشققنها أخمرةً، وضربن بها على الجيوب «٤».
وقوله سبحانه: أَوْ نِسائِهِنَّ يعني جميع المؤمنات، ويخرج منه نساء المشركين، وكتب عمر إلى أبي عبيدةَ بن الجراح أَنْ يمنع نساءَ أهل الذِّمَّةِ أَنْ يدخلنَ الحَمَّامَ مع نساء المسلمين فامتثل «٥».
وقوله سبحانه: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ يدخل فيه الإماءُ الكتابِيَّاتُ والعبيد.
وقال ابن عباس وجماعة «٦» : لا يدخل العبد على سَيِّدته فيرى شعرها إلاَّ أن يكون وغْداً.
وقوله تعالى: أَوِ التَّابِعِينَ يريد الأتباع لِيُطْعَمُوا، وهم فُسُولُ الرجال الذين لا إرْبَةَ لهم في الوَطْءِ، ويدخل في هذه الصنيفة: المَجْبُوبُ، والشيخ الفاني، وبعضُ المَعْتُوهِينَ، والذي لا إرْبَةَ له من الرجال قليلٌ، والإربة: الحاجة إلى الوطء، والطفل اسم جنس،
(١) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٣٦٩).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٧٨). [.....]
(٣) المرط: كل ثوب غير مخيط. وبالفتح: كساء من خز أو صوف أو كتان، وقيل: هو الثوب الأخضر، وجمعه مرمط، ينظر: «لسان العرب» (٤١٨٣).
(٤) أخرجه البخاري (٨/ ٣٤٧) كتاب «التفسير» : باب وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ حديث (٤٧٥٨).
(٥) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣٠٧) برقم (٢٥٩٨٦)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٧٩)، وابن كثير (٣/ ٢٨٤)، والسيوطي (٥/ ٧٧)، وعزاه لسعيد بن منصور، والبيهقي في «سننه»، وابن المنذر عن عمر بن الخطاب.
(٦) ذكره ابن عطية (٤/ ١٧٩)، والسيوطي (٥/ ٧٧) وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه.
184
ويقال: طفل ما لم يراهق الحلم، ويَظْهَرُوا معناه: يطّلعوا بالوطء. ٣٨ أوقوله تعالى: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ... الآية، قيل: سببها أَنَّ امرأة مَرَّتْ على قوم فضربت برجلها الأرض فَصَوَّتَ الخَلْخَالُ، وسماعُ صوت هذه الزينة أَشَدُّ تحريكاً للشهوة من إبدائها ذكره الزَّجَّاجُ «١»، ثم أمر سبحانه بالتوبة مُطْلَقَةً عَامَّةٍ من كل شيء صغير وكبير.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
وقوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ الأَيِّمُ: مَنْ لا زوجةَ له أو لا زوجَ لها فالأَيِّمُ: يقال للرجل والمرأة.
وقوله: وَالصَّالِحِينَ يريد: للنكاح، وهذا الأمر بالنكاح يختلف بحسب شَخْصٍ شخْصٍ، ففي نازلة: يُتَصَوَّرُ وجوبُه، وفي نازلة: النَّدْبُ وغيرُ ذلك حسبما هو مذكور في كتب الفقه قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «٢» : قوله تعالى: وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ الأظهر فيه: أنه أمر بإنكاح العبيد والإماء كما أمر بإنكاح الأيامى، وذلك بيد السادَةِ في العبيد والإماء كما هو في الأحرار بيد الأولياء، انتهى. ثم وعد تعالى بإغناء الفقراء المتزوجين طَلَبَ رضا الله عنهم، واعتصاماً من معاصيه، ثم أمر تعالى كُلَّ مَنْ يَتَعَذَّرُ عليه النكاحُ أَنْ يستعفف حتى يُغْنِيَهُمُ الله من فضله، إذِ الغالب من موانع النكاح عَدَمُ المال، فوعد سبحانه المُتَعَفِّفُ بالغنى. والمكاتبة: مفاعلة من حيث يَكْتُبُ هذا على نفسه وهذا على نفسه، ومذهب مالك: أَنَّ الأَمرَ بالكتابة هو على الندب.
وقال عطاء: ذلك واجب، وهو ظاهرُ مذهب عمرَ بن الخطاب «٣» رضي الله عنه.
(١) ينظر: «معاني القران» (٤/ ٤٠).
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٣٧٨).
(٣) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣١٢) رقم (٢٦٠١٨)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٨١).
185
وقوله: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قالت فرقة: الخير هنا المال.
وقال مالك: إنَّه ليقال: القُوَّةُ والأداء، وقال عبَيْدَةُ السَّلْمانيَّ: الخير هو: الصلاح في الدّين.
وقوله تعالى: وَآتُوهُمْ قال المفسرون: هو أمر لكل مُكَاتِبِ أنْ يضع عن العبد من مال كتابته، ورأى مالك هذا الأمر على النَّدْبِ، ولم يَرَ لقدر الوضيعة حَدّاً، واستحسن «١» عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن يُوضَعَ عنه الرُّبُعُ، وقيل: الثُّلُثُ، وقيل: العشر، ورأى عمر «٢» أَنْ يكون ذلك من أَوَّلِ نُجُومِهِ مبادرةً إلى الخير، وخوفَ أَلاَّ يدركَ آخرها، ورأى مالك وغيره: أَنْ يكونَ الوضعُ من آخر نَجْمٍ وعِلَّةُ ذلك أَنَّه: ربما عجز العبدُ فرجع هو وماله إلى السَّيِّدِ، فعادت إليه وضيعته وهي شبه الصدقة.
قلت: والظاهر أَنَّ هذا لا يُعَدُّ رجوعاً كما لو رجع إليه بالميراث، ورأى الشافعيُّ وغيره: أَنَّ الوضيعة واجبةُ يُحكَمُ بها.
وقال الحسن «٣» وغيره: الخطاب بقوله تعالى: وَآتُوهُمْ: للناس أجمعين في أَنْ يتصدَّقُوا على المكاتَبِينَ.
وقال زيد بن أسلم «٤» : إنَّما الخطاب لولاة الأمور.
وقوله سبحانه: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً الآية: رُوِيَ أَنَّ سبب الآية هو أَن عبد الله بن أُبَيِّ ابن سلولَ كانت له أَمَةٌ، فكان يأمرُها بالزنا والكَسْبِ به، فشكَتْ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فنزلت الآية فيهِ، وفيمن فَعَلَ فعلَه من المنافقين «٥».
(١) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣١٥) برقم (٢٦٠٤٦، ٢٦٠٤٧، ٢٦٠٤٨، ٢٦٠٤٩)، وابن عطية (٤/ ١٨١)، والسيوطي (٥/ ٨٣) وعزاه لأبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب، وعزاه أيضا في رواية أخرى لعبد الرزاق، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والديلمي، وابن المنذر، والبيهقي، وابن مردويه.
(٢) ذكره ابن عطية (٤/ ١٨١).
(٣) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣١٧) برقم (٢٦٠٦٦)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٨٢)، والسيوطي (٥/ ٨٣)، وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن.
(٤) ذكره ابن عطية (٤/ ١٨٢)، والسيوطي (٥/ ٨٣)، وعزاه لابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم.
(٥) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣١٨) برقم (٢٦٠٧٣)، وذكره البغوي (٣/ ٣٤٤)، وابن عطية (٤/ ١٨٢)، والسيوطي (٥/ ٨٤)، وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي.
186
وقوله: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً راجع إلى الفتيات وذلك أَنَّ الفتاةَ إذا أَرادت التَّحَصُّنَ فحينئذ يمكن ويُتَصَوَّرُ أَنْ يكونَ السيد مُكْرِهاً، ويمكن أن ينهى عن الإكراه، وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصنَ فلا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُقَالَ للسيد: لا تُكْرِهها: لأَنَّ الإكراه لا يُتَصوَّرُ فيها وهي مريدة للفساد، فهذا أمر في سادة وفتياتٍ حالُهم هذه، وذهب هذا النظرُ عن كثير من المفسرين/: فقال بعضُهم: قولُه: إِنْ أَرَدْنَ راجِعٌ إلى الأيامى في قوله: وَأَنْكِحُوا ٣٨ ب الْأَيامى مِنْكُمْ، وقال بعضهم: هذا الشرط في قوله: إِنْ أَرَدْنَ مَلْغِيٌّ ونحو هذا مِمَّا هو ضعيف، والله الموفق للصواب برحمته.
قلت: وما اختاره ع «١» هو الذي عَوَّلَ عليه ابن العرَبيِّ «٢» وَنَصَّهُ، وإنما ذكر الله تعالى إِرادة التَّحَصّنِ من المرأة لأَنَّ ذلك هو الذي يصور الإكراه، فأَمَّا إذا كانت هي راغبةً في الزنا، لم يتحصل الإكراه فحصلوه إنْ شاء الله، انتهى من «الأحكام» وقرأ ابن مسعود «٣» وغيره: «فَإنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إكْرَاهِهِنَّ [لهُنَّ] «٤» غَفُورٌ رَحِيمٌ» ثم عَدَّد سبحانه نِعَمَهُ على المؤمنين في قوله: وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ليقع التحفظ ممّا وقع أولئك فيه.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧)
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٨٢).
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٣٨٦). [.....]
(٣) وقرأ بها ابن عباس، وسعيد بن جبير.
قال أبو الفتح: اللام في «لهن» متعلقة ب «غفور» لأنها أدنى إليها، ولأن فعولا أقعد في التعدي من فعيل، فكأنه قال: فإن الله من بعد إكراههن غفور لهن. ويجوز أن تكون أيضا متعلقة ب «رحيم»، وذلك أن ما لا يتعدى قد يتعدى بحرف الجر ألا تراك تقول: هذا مارّ بزيد أمس، فتعمل اسم الفاعل، وهو لما مضى؟ فكذلك يجوز تعلق اللام في «لهن» بنفس «رحيم».
ينظر: «المحتسب» (٢/ ١٠٨)، و «الكشاف» (٣/ ٢٤٠)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ١٨٢)، وزاد نسبتها إلى جابر بن عبد الله.
(٤) سقط في ج.
187
وقوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ... الآية: النور في كلام العرب الأضواء المُدْرَكَةُ بالبصر، ويُسْتَعْمَلُ مجازاً فيما صَحَّ من المعاني ولاح فيقال: كلام له نور، ومنه الكتاب المنير، والله تعالى ليس كمثله شيء فواضح أَنَّهُ ليس من الأضواء المُدْرَكَةِ، ولم يبقَ إلاَّ أَنَّ المعنى مُنَوِّرُ السموات والأرض، أي: به وبقدرته أنارت أضواؤها، واستقامت أمورها، كما تقول: الملك نور الأمة، أي: به قِوام أمورها وصلاحُ جملتها، والأمر في الملك مجاز، وهو في صفة الله تعالى حقيقة مَحْضَةٌ، وقرأ «١» أبو عبد الرحمن السلمي وغيره: «الله نَوَّرَ» - بفتح النون والواو المشددة وفتح الراء- والضمير في نُورِهِ يعود على الله تعالى قاله جماعة، وهو إضافة خلق إلى خالق، كما تقول: ناقة الله، وبيت الله، ثم اختلفوا في المراد بهذا النور، فقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلّم، وقيل: هو المؤمن، وقيل: هو الإيمان والقرآن، وفي قراءة أبيّ بن كعب: «مَثَلُ نُورِ المُؤْمِنِينَ» والمشكاة: هي الكُوَّةُ غير النافذة فيها القنديل ونحوه، وهذه الأقوال الثلاثة يطّرد فيها مقابلة جزء من المثال بجزء من المُمَثَّلِ، فعلى قول من قال: الممثّل محمد صلى الله عليه وسلّم- وهو قول كعب الأحبار- فرسول الله صلى الله عليه وسلّم هو المشكاة أو صدره، والمصباح هو النبوة وما يَتَّصِلُ بها من علمه وهداه، والزجاجة: قلبه، والشجرة المباركة: هي الوحي، والزيت: هو الحجج والبراهين. وعلى قول مَنْ قال: إنَّ المُمَثَّلَ به هو المؤمن- وهو قول أُبَيِّ بن كعب «٢» -، فالمشكاة صدره، والمصباح: الإيمان والعلم، والزجاجة: قلبه، والشجرة القرآن، وزيتها: هو الحجج، والحكمة التي تضمنها قولُ أُبَيٍّ فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي في قبور الأموات، وتحتمل الآية معنى آخر، وهو أَنْ يريدَ: مَثَلُ نورِ الله الذي هو هداه في الوضوح كهذه الجملة من النور، الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور، الذي هو بين أيديكم أَيُّها البشر وقال أبو موسى:
المشكاة: الحديدة أو الرَّصَاصَةُ التي يكون فيها القنديل في جوف الزجاجة، والأوّل أصحّ.
(١) وقرأ بها عبد الله بن أبي ربيعة.
ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٨٣)، و «البحر المحيط» (٦/ ٤١٨)، وزاد نسبتها إلى علي بن أبي طالب، وأبي جعفر، وعبد العزيز المكي، وزيد بن علي، وثابت بن أبي حفصة، والقورصي، ومسلمة بن عبد الملك.
وينظر: «الدر المصون» (٥/ ٢١٩).
(٢) أخرجه الطبريّ (٢٦٠٨٨)، وذكره البغوي (٣/ ٣٤٥)، وابن عطية (٤/ ١٨٣)، وابن كثير (٣/ ٢٨٩)، والسيوطي (٥/ ٨٧) وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم وصححه عن أبيّ بن كعب.
188
وقوله: فِي زُجاجَةٍ لأَنَّه جسم شَفَّافٌ، المصباحُ فيه أنور منه في غير الزجاجة، والمصباح: الفتيل بناره.
وقوله: كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ أي/ في الإنارة والضوء، وذلك يحتمل معنيين: إمَّا أن ٣٩ أيريد أَنَّها بالمصباح كذلك، وإمَّا أَنْ يريد أَنَّها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها، وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور قال الضَّحَّاكُ: الكوكب الدُّرِّيُّ: الزهرة «١».
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «٢» :«تَوَقَّدَ» - بفتح التاء والدال-، والمراد: المصباح، وقرأ نافع وغيره: «يُوقَدُ» أي: المصباح.
وقوله: مِنْ شَجَرَةٍ أي من زيت شجرة، والمباركة: المُنَمَّاةُ.
وقوله تعالى: لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ قال الحسن «٣» : أي: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا وإنَّما هو مَثَلٌ ضربه الله تعالى لنوره، ولو كانت في الدنيا لكانت إمَّا شرقِيَّةً وإمَّا غربِيَّةً، وقيل غيرُ هذا.
وقوله سبحانه:
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ الآية مبالغة في صفة صفاته وحُسْنِهِ.
وقوله: نُورٌ عَلى نُورٍ أي: هذه كلها ومعان تكامل بها هذا النورُ المُمَثَّلُ به، وفي هذا الموضع تمّ المثالُ، وباقي الآية بَيِّنٌ.
وقوله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ قال ابن عباس وغيره»
: هي المساجد المخصوصةُ بعبادة الله التي من عادتها أنْ تُنَوَّرَ بهذا النوع من المصابيح. وقوله:
أَذِنَ اللَّهُ: بمعنى: أمر وقضى، وتُرْفَعَ قيل: معناه تُبْنَى وتُعَلَّى قاله مجاهد «٥» وغيره كقوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ... [البقرة: ١٢٧].
(١) ذكره ابن عطية (٤/ ١٨٤)، والسيوطي (٥/ ٨٩)، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الضحاك.
(٢) ينظر: «السبعة» (٤٥٥- ٤٥٦)، و «الحجة» (٥/ ٣٢٤)، و «إعراب القراءات» (٢/ ١٠٩)، و «معاني القراءات» (٢/ ٢٠٧)، و «شرح الطيبة» (٥/ ٩٠)، و «العنوان» (١٣٩)، و «حجة القراءات» (٥٠٠)، و «شرح شعلة» (٥١٤) و «إتحاف» (٢/ ٢٩٨).
(٣) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣٢٧) برقم (٢٦١٢٤)، وذكره البغوي (٣/ ٣٤٧) وابن عطية (٤/ ١٨٥)، والسيوطي (٥/ ٩٠)، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن.
(٤) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣٢٩) برقم (٢٦١٢٩، ٢٦١٣٠)، وذكره البغوي (٣/ ٣٤٨)، وابن عطية (٤/ ١٨٥)، والسيوطي (٥/ ٩٠)، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(٥) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣٢٩) برقم (٢٦١٣١، ٢٦١٣٢، ٢٦١٣٣)، وذكره البغوي (٣/ ٣٤٨)، وابن عطية (٤/ ١٨٦)، والسيوطي (٥/ ٩١)، وعزاه لعبد بن حميد عن مجاهد.
189
وقال الحسن «١» : معناه تُعظَّم ويُرْفَعُ شأنها، وذكر اسمه تعالى هو بالصلاة والعبادة قولاً وفعلاً، ويُسَبِّحُ لَهُ فِيها أي: في المساجد، بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ قال ابن عباس «٢» :
أراد ركعتي الضُّحَى. [والعصر، وإنَّ ركعتي الضحى] «٣» لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلاَّ غَوَّاصٌ ثم وصف تعالى المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمرَ الله تعالى وطلبهم رضاه، لا يشغلهم عن الصلاة وذكرِ الله شيءٌ من أمور الدنيا.
قلت: وعن عمر- رضي الله عنه- أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يُجْمَعُ النَّاسُ فِي صَعِيدٍ وَاحَدٍ، يَنْفُذُهُمُ البَصَرُ، ويُسْمعُهُمُ الدَّاعِي، فَيْنَادِي مُنَادٍ: سَيَعْلَمُ أَهْلُ الْجَمْعِ لَمِنَ الْكَرَمُ اليَوْمَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانَتْ تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السجدة: ١٦]، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْنَ الَّذِينَ كَانُواْ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ إلى آخر الآية، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ: سَيَعْلَمُ أَهْلُ الجَمْعِ لَمِنِ الكَرَمُ اليَوْمَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيْنَ الحَمَّادُونَ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ رَبَّهمْ؟» مختصراً «٤» رواه الحاكم في «المستدرك على الصحيحين» وله طرق عن أَبي إسحاقَ، انتهى من «السلاح»، ورواه أيضاً ابن المبارك من طريق ابن عباس قال: «إذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ نادى مُنَادٍ: سَتَعْلَمُونَ اليَوْمَ منْ أَصْحَابُ الكَرَم، لِيَقُمْ الحَامِدُونَ لِلَّهِ تعالى على كُلِّ حَالٍ، فَيَقُومُونَ، فَيُسَرَّحُونَ إلَى الجَنَّةِ، ثُمَّ يُنَادِي ثَانِيَةً: سَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الكَرَمِ لِيَقُمِ الَّذِينَ كَانَتْ جُنُوبُهُمْ تتجافى عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ قَالَ: فَيَقُومُونَ، فَيُسَرَّحُونَ إلى الجنَّة، ثُمَّ يُنَادِي ثَالِثَةً: سَتَعْلَمُونَ اليَوْمَ مَنْ أَصْحَابُ الكَرَمِ لِيَقُمَ الَّذِينَ كَانَتْ: لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ
فيَقُومُونَ، فَيُسَرَّحُونَ إلى الجَنَّة»
. انتهى من «التذكرة». والزكاة هنا عند ابن عباس: الطاعة للَّه «٥».
وقال الحسن «٦» : هي الزكاةُ المفروضة في المال، واليوم المخوف: هو يوم القيامة،
(١) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣٣٠) برقم (٢٦١٤١)، وذكره البغوي (٣/ ٣٤٨)، وابن عطية (٤/ ١٨٦)، والسيوطي (٥/ ٩١)، وعزاه لعبد الرزاق عن الحسن.
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣٣١) برقم (٢٦١٤٤)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٨٦)، والسيوطي (٥/ ٩٣)، وعزاه لابن أبي شيبة، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عباس.
(٣) سقط في ج.
(٤) أخرجه الحاكم (٢/ ٣٩٩) من حديث عقبة بن عامر الجهني.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح، وله طرق عن أبي إسحاق ووافقه الذهبي.
(٥) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣٣٢) برقم (٢٦١٥٣)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٨٦). [.....]
(٦) ذكره ابن عطية (٤/ ١٨٦).
190
ومعنى الآية: إنَّ ذلك اليوم لِشِدَّةِ هوله القلوبُ والأبصارُ فيه مضطربةٌ قِلِقَةٌ متقلبة.
قلت: ومن «الكلم الفارقية» : سعادة القلبِ إقباله على مقلّبه والعالم بحال مآله ٣٩ ب ومُنْقَلَبهِ، القلوبُ بحارٌ جواهرُها المعارفُ، وسواحلها الألسنة وغواصها الفكرة النافذة، غَوَّاصُ بحر الصُّوَرِ يغوصُ بصورته في طلب مكسبه، والعارِفُ يغوص بمعنى قلبه في بحار غَيْبِ رَبِّهِ، فيلتقط جواهرَ الحكمة ودُرَرَ الدِّرَايَةِ، قلوبُ العارفين كالبحار، تنعقد في أصداف ضمائرهم جواهِرُ المعارف والأسرار، القلوب كالأراضي إلى من أسلمت إليه قلبك بذر فيه ما عنده، أَمَّا مَنْ بذر نفسه ووسواسه العفن المسوس، أو بذر فيه معرفته بالرب المقدس، انتهى.
قلت: فإنْ أردت سلامتك في ذلك اليوم فليكن قلبك الآن مقبلاً على طاعة مولاك فإنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلاَّ مَنْ أَتَى الله بقلب سليم.
قال الواحِدِيُّ: تتقلب فيه القلوبُ بين الطمع في النجاة والخوفِ من الهلاك، والأبصارُ تتقلَّبُ في أيِّ ناحية يؤخذ بهم أذاتَ اليمين أم ذاتَ الشمال، ومن أيّ جهة يؤتون كتبهم، انتهى.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
وقوله سبحانه: لِيَجْزِيَهُمُ أي فعلوا ذلك ليجزيهم «أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ» أي: ثواب أحسن ما عملوا، ولمّا ذكره تعالى حالة المؤمنين وتنويره قلوبَهم عَقَّبَ ذلك بذكر الكَفَرَةِ وأعمالهم، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ وهي جمع قاعٍ، والقاع:
المنخفض البساط من الأرض، ويريد ب جاءَهُ: جاء موضعه الذي تَخَيَّلَهُ فيه، ويحتمل أنْ يعودَ الضمير في: جاءَهُ على السراب ثم يكون في الكلام بعد ذلك متروك يَدُلُّ عليه الظاهر تقديره: فكذلك الكافر يومَ القيامة، يَظُنُّ عملَه نافعاً حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.
وقوله: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي بالمجازات والضمير في عِنْدَهُ عائد على العَمَلِ، وباقي الآية وعيد بيّن.
وقوله تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ عطف على قوله: كَسَرابٍ وهذا المثال الأخير تضمن صفة أعمالهم في الدنيا، أي أَنَّهم من الضلال في مثل هذه الظلمات المجتمعة من هذه الأشياء، وذهب بَعْضُ الناس إلى أَنَّ في هذا المثالَ أجزاءً تقابل أجزاءً من المُمَثَّلِ به فقال:
الظلمات: الأعمال الفاسدة والمُعْتَقَدَاتُ الباطلة، والبحر اللُّجِّيُّ: صَدْرُ الكافر وقلبه، واللجي معناه: ذو اللجة وهي مُعْظَمُ الماء وغَمْرُه، واجتماع ما به أَشَدُّ لظلمته، والموج: هو الضلال والجهالة التي قد غمرت قلبَه، والسحاب هو شهوتُه في الكفر وإعراضه عن الإيمان.
قال ع «١» : وهذا التأويل سائغ وألّا يُقَدَّرُ هذا التقابل سائغ.
وقوله: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها لفظ يقتضي مبالغةَ الظلمة، واخْتُلِفَ في هذه اللفظة، هل معناها أَنَّهُ لم يريده البتَّة؟ أو المعنى أَنَّه رآها بعد عُسْرٍ وشِدَّةٍ وكاد أَلاَّ يراها، ووجه ذلك أَنَّ «كاد» إذا صَحِبَهَا حرف النفي، وَجبَ الفعل الذي بعدها، وإذا لم يصحبها انتفى الفعل، وكاد معناها: قارب.
وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ قالت فرقة: يريد في الدنيا، أي: مَنْ لم يهده الله لم يَهْتَدِ، وقالت فرقة: أراد في الآخرة، أي: مَنْ لم يرحمه الله ويُنَوِّرُ حاله بالمغفرة والرحمة فلا رحمة له.
٤٠ أقال ع «٢» : والأَوَّلُ أبينُ/ وأليق بلفظ الآية، وأيضاً فذلك متلازم، ونور الآخرة إنَّمَا هو لمن نوّر قلبه في الدنيا.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤)
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ... الآية: الرؤية هنا قلبية، والتسبيح: التنزيه والتعظيم، والآية عامَّةٌ عند المفسرين لكُلِّ شيء من العقلاء والجمادات.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٨٨).
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٨٨).
وقوله تعالى: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ قال الزَّجَّاجُ «١» وغيره: المعنى: كُلٌّ قد علم [اللهُ] «٢» صَلاَتَهُ وتسْبِيحَهُ.
وقال الحسن «٣» : المعنى: كُلٌّ قد علم صلاة نفسه وتسبيح نفسه.
وقالت فرقة: المعنى: كل قد علم صلاةَ اللهِ وتسبيحَ اللهِ اللَّذَيْنِ أمر بهما وهدى إليهما، فهذه إضافة خَلْقٍ إلى خالقٍ، وباقي الآية وعيد، ويُزْجِي معناه: يسوق، والرُّكام، الذي يركب بَعْضُه بعضاً ويتكاثف، والودق: المطر، قال البخارِيُّ: مِنْ خِلالِهِ أي: من بين أضعاف السحاب، انتهى.
وقوله تعالى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ قيل: ذلك حقيقةٌ، وقد جعل الله في السماء جبالاً من بَرَدٍ، وقالت فرقة: ذلك مجازٌ، وإنَّما أراد وصف كثرته، وهذا كما تقول: عند فلان جبال من مال وجبال من العلم.
قلت: وحَمْلُ اللفظ على حقيقته أولى إنْ لم يمنع من ذلك مانع، ومن كتاب «الفرج بعد الشدة» للقاضي أبي علي التنوخي، أحد الرواة عن أبي الحسن الدَّارَقُطْنِيِّ والمُخْتَصِّينَ به- قال: أخبرنا أَبو بكر الصوليُّ عن بعض العلماء قال: رأيتُ امرأةً بالبادية، وقد جاء البَرَدُ فذهب بزرعها، فجاء الناس يعزّونها، فرفعت رأسها إلى السماء، وقالت: اللهم أنتَ المَأْمُولُ لأَحْسَنِ الخَلَفِ وبيدك التعويضُ مِمَّا تَلِفَ، فافعل بنا ما أَنْتَ أهله، فإنَّ أرزاقنا عليك وآمالنا مصروفة إليك، قال: فلم أبرحْ حتى مَرَّ رجل من الأَجِلاَّءِ، فحُدِّث بما كان فَوَهَبَ لها خَمْسِمائَةٍ دينارٍ، فأجاب الله دعوتها وفرّج في الحين كربتها، انتهى. والسنا مقصوراً: الضوءُ، وبالمد: المَجْدُ، والباء في قوله بِالْأَبْصارِ يحتمل أن تكون زائدة.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٥ الى ٥١]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١)
(١) ينظر: «معاني القرآن» (٤/ ٤٨).
(٢) سقط في ج.
(٣) ذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (٤/ ١٨٩).
وقوله سبحانه: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ الآية آية اعتبار، والدابة: كُلُّ ما دَبَّ من جميع الحيوان، وقوله: مِنْ ماءٍ قال الجمهور: يعني أنَّ خلْقَةَ كُلِّ حيوان فيها ماء كما خُلِقَ آدمُ من الماء والطين، وقال النقاش: أراد منيَّ «١» الذكورِ، والمشي على البطن:
للحَيَّاتِ، والحُوتِ، والدُّودِ، وغيره، وعلى رجلين: للإنسان، والطَّيْرِ إذا مشى، وعلى أربع لسائر الحيوان، وفي مصحف أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي «٢» عَلَى أَكْثَرَ» فعَمَّمَ بهذه الزيادة جميعَ الحيوان.
وقوله تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ يَعُمُّ كل ما نصب الله تعالى من آية.
وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ يعني المنافقين رُوِيَ أَنَّ رجلاً من المنافقين اسمه بشر دعاه يهوديّ إلى التحاكم عند النّبيّ صلى الله عليه وسلّم وكان المنافق مُبْطِلاً، فَأبى، ودعا اليهودِيَّ إلى كعب بن الأشرف، فنزلت هذه الآية، فيه، والحيف: المَيْلُ.
وقوله سبحانه: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ... الآية المعنى: إنَّما كان الواجب أنْ يقوله المؤمنون إذا دُعُوا إلى حكم الله ورسوله- سمعنا وأطعنا.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٢ الى ٥٤]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤)
٤٠ ب وقولُهُ سبحانه: وَمَنْ يُطِعِ/ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ قال الغزاليُّ في «المنهاج» : التقوى في القرآن تُطْلَقُ على ثلاثة أشياء:
أحدها: بمعنى الخشية والهيبة قال الله عز وجل: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة: ٤١].
وقال سبحانه: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة: ٢٨١].
والثاني: بمعنى الطاعة والعبادة قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: ١٠٢]. قال ابن عباس: أطيعوا الله حَقَّ طاعته، وقال مجاهد: هو أنْ يُطَاع فلا يُعْصَى، وأنْ يُذْكَر فلا يُنْسَى، وأنْ يُشْكَرَ فلا يُكْفَرَ.
(١) في ج: أراد منية.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٩١)، و «البحر المحيط» (٦/ ٤٢٨).
والثالث: بمعنى تنزيه القلب عن الذنوب، وهذه هي الحقيقة في التقوى دون الأَولَيَيْنِ أَلا ترى أَنَّ الله تعالى يقول: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ ذَكَرَ الطاعة والخشية ثم ذكر التقوى، فعلمتَ أنَّ حقيقة التقوى معنى سوى الطاعةِ والخشيةِ، وهي تنزيهُ القلب عن الذنوب، انتهى.
وقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ....
الآية: جهد اليمين: بلوغ الغاية في تعقيدها، ولَيَخْرُجُنَ
معناه: إلى الغزو، وهذه في المنافقين الذين تولوا حين دُعُوا إلى الله ورسوله.
وقوله تعالى: قُلْ لاَّ تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
يحتمل معاني:
أحدها: النهي عن القَسَمِ الكاذب إذ قد عُرِفَ أَنَّ طاعتهم دغلة فكأنه يقول: لا تغالطوا فقد عُرِفَ ما أَنْتُمْ عليه.
والثاني: أَنَّ المعنى: لا تتكلَّفُوا القَسَمَ فطاعة معروفة على قدر الاستطاعة أَمْثَلُ وأجدر بكم، وفي هذا التأويل إبقاءٌ عليهم، وقيل غير هذا.
وقوله: تَوَلَّوْا معناه: تتولوا، والذي حمل النبي صلى الله عليه وسلّم هو التبليغ والذي حمل الناس هو السمعُ والطاعة واتباع الحق، وباقي الآية بيّن.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
وقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ...
الآيةُ عامَّةٌ لأُمَّةِ نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلّم في أنْ يُمَلِّكَهُمُ الله البلادَ كما هو الواقع، فسبحانه ما أصدق وعده! وقال الضَّحَّاكُ في كتاب «النقاش» «١» : هذه الآية تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، والصحيح في الآية أَنَّها في استخلاف الجمهور، واللام في لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ لأم القَسَم.
وقوله: يَعْبُدُونَنِي فعل مستأنف، أي: هم يعبدونني.
(١) ذكره ابن عطية (٤/ ١٩٣).
وقوله: وَمَنْ كَفَرَ يحتمل أنْ يريدَ كفر هذه النعم، ويحتمل الكفر المُخْرِجَ عن المِلَّةِ عياذاً بالله من سخطه! وباقي الآية بيِّن مما تقدَّم في غيرها.
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ الآية: قيل:
«الذين ملكت أيمانهم» : الرجال والنساء، ورَجَّحَهُ الطبريُّ، وقيل: الرجال خاصة، وقيل:
النساء خاصَّةً، ومعنى الآية عند جماعة من العلماء: أَنَّ الله تعالى أَدَّبَ عباده بأنْ يكونَ العبيدُ والأَطفَالُ الذين عقلوا معاني الكَشَفَةِ ونحوها- يستأذنون على أهليهم في هذه الأوقات الثلاث، وهي الأوقات التي تقتضي عادَةُ الناس الانكشافُ فيها وملازَمَةُ التَّعَرِّي في المضاجع، وهي: عند الصباح، وفي وقت القائلة وهي الظهيرة لأَنَّ النهار يظهر فيها إذا علا واشْتَدَّ حَرُّهُ، وبعدَ العشاء لأَنَّهُ وقتُ التعرِّي للنوم، وأما في غير هذه الأوقات فالعرف ٤١ أمن الناس التَّحَرُّزُ/ والتَّحَفُّظُ فلا حرجَ في دخول هذه الصنيفة بغير إذن إذ هم طَوَّافون يمضون ويجيئون، لا يجد الناس بُدّاً من ذلك.
وقوله: بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ بدل من قوله: طَوَّافُونَ، وثَلاثَ مَرَّاتٍ نُصِبَ على الظرف لأَنَّهم لم يُؤْمروا بالاستئذان ثلاثاً وإنَّما أُمِروا بالاستئذان في ثلاث مواطنَ، فالظرفية في ثلاث بَيِّنة.
وقوله سبحانه: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ بيّن للمتأمّل.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
وقوله سبحانه: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ... الآية: أَمَرَ تعالى في هذه الآية أَنْ يكونوا إذا بلغوا الحُلْمَ على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت، وهذا بيان من الله عز وجل.
وقوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ- بَيِّنٌ لا يحتاجُ إلى تفسير.
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ: هن اللواتي قد أسنّ وقَعَدْنَ عن الوِلْدِ، واحدتهن قَاعِدٌ، وقال ربيعة: هي هنا التي تُسْتَقْذَرُ من كِبرَهَا، قال غيره: وقد تَقْعُدُ المرأة عن الوِلْدِ وفيها مُسْتَمْتَعٌ، ولما كان الغالب من النساء أَنَّ ذواتَ هذا السِّنِّ لا مذهبَ للرجال فيهنَّ- أُبِيحَ لهنَّ ما لم يُبَحْ لغيرهنَّ، وقرأ «١» ابن مسعود وأبيّ: «أَنْ يَضَعْنَ مِنْ ثِيَابِهنَّ» والعرب تقول: امرأة، واضع للتي كَبُرَتْ، فوضعت خمارَها، ثم استثنى عليهن في وضع الثياب أَلاَّ يقصدنَ به التَّبَرُّجَ وإبداءَ الزينة فرُبَّ عجوزٍ يبدو منها الحِرْصُ على أَنْ يظهر لها جمال، والتبرج:
طلب البُدُوِّ والظهورِ للعين، ومنه: بُرُوجٌ مُشَيَّدة، والذي أبيح وضعه لهن الجِلبابُ الذي فوق الخمار والرداء، قاله ابن مسعود «٢» وغيره، ثم ذكر تعالى أَنَّ تَحَفُّظَ الجميعِ مِنْهُنَّ، واستعفافَهُنَّ عن وضع الثياب، والتزامهنَّ ما يلتزم الشَّوَابُّ من الستر- أفضلُ لَهُنَّ وخير.
وقوله تعالى: «والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ» : أي: سميع لما يقولُ كُلُّ قائل وقائلة، عليم بمقصد كل أحد، وفي هاتين الصفتين توعد وتحذير.
[سورة النور (٢٤) : آية ٦١]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
وقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ إلى قوله كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ظاهر الآية وأَمْرُ الشريعة: أَنَّ الحَرَجَ عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر، وتقتضي نيتهم الإتيان به بالأكمل، ويقتضي العذر أَنْ يقعَ منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا، وللناس أقوال في الآية وتخصيصات يطول ذكرها، وذكر الله تعالى
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٩٥).
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣٤٩) برقم (٢٦٢٠٦، ٢٦٢٠٧)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٩٥)، وابن كثير (٣/ ٣٠٤)، والسيوطي (٥/ ١٠٤)، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في «السنن» عن ابن مسعود.
197
بيوتَ القراباتِ، وسقط منها بيوت الأبناء فقال المفسرون: ذلك لأَنَّها داخلة في قوله:
مِنْ بُيُوتِكُمْ لأنَّ بيت ابن الرجل بيتُه.
وقوله تعالى: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ يريد ما خزنتم وصار في قبضتكم، فمعظمه ما ملكه الرجلُ في بيته وتحت غلقه، وهو تأويل الضَّحِّاكِ ومجاهد «١»، وعند جمهور المفسرين: يدخل في الآية الوكلاءُ والعبيدُ والأُجراءُ بالمعروف. وقرأ «٢» ابن جبير: «ملكتم مفاتيحه» مبنيا للمفعول وزيادة ياء بين التاء والحاء، وقَرَنَ تعالى في هذه الآية الصديقَ بالقرابة المَحْضَةِ الوكيدة لأَنَّ قُرْبَ المودة لصيق قال معمر: قلت لقتادَة: أَلاَ أشرب من هذا الجُبِّ؟ قال: أنت لي صديق، فما هذا الاستئذان؟ «٣» قال ابن عباس «٤» في «كتاب النقاش» : الصديق أوكد من القرابة ألا ترى استغاثة الجهنميين: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [الشعراء: ١٠٠، ١٠١].
وقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً: ردّ لمذهب جماعة ٤١ ب من العرب كانت/ لا تأكل أفذاذاً البتَّةَ، نحت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في إلزامه، وأَنَّ إحضار الأكيل لَحَسَنٌ ولكن بأَلاَّ يحرم الانفرادُ، قال البخاريُّ «٥» : أشتاتاً وشتى واحد، انتهى.
وقال بعض أهل العلم: هذه الآية منسوخة بقوله عليه السلام: [ «إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» «٦» الحديث، وبقوله تعالى: لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
(١) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣٥٣) برقم (٢٦٢٢٨) عن الضحاك، (٢٦٢٣٠) عن مجاهد، وذكره البغوي (٣/ ٣٥٨) عن الضحاك، وابن عطية (٤/ ١٩٦)، والسيوطي (٥/ ١٠٩)، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(٢) ينظر: «مختصر الشواذ» ص (١٠٤)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ١٩٦)، و «البحر المحيط» (٦/ ٤٣٤)، و «الدر المصون» (٥/ ٢٣٦).
(٣) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣٥٤) برقم (٢٦٢٣١)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٩٦)، والسيوطي (٥/ ١٠٧)، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة بنحوه. [.....]
(٤) ذكره ابن عطية (٤/ ١٩٦).
(٥) ينظر البخاري (٨/ ٣٠١) كتاب «التفسير» : باب سورة النور.
(٦) أخرجه البخاري (١/ ١٩٠) كتاب «العلم» : باب قول النبي صلى الله عليه وسلّم «ربّ مبلغ أوعى من سامع»، حديث (٦٧)، (١/ ٢٤٠) كتاب: العلم، باب: «ليبلّغ العلم الشاهد الغائب»، حديث (١٠٥)، (٤/ ٦٧٠) كتاب «الحج» : باب الخطبة أيام منى، حديث (١٧٤١)، (٦/ ٣٣٨) كتاب «بدء الخلق» : باب ما جاء في سبع أرضين، حديث (٣١٩٧)، (٧/ ٧١١) كتاب «المغازي» : باب حجة الوداع، حديث (٤٤٠٦)، (١٠/ ١٠) كتاب «الأضاحي» : باب الأضحى يوم النحر، حديث (٥٥٥٠)، (١٣/ ٢٩) كتاب «الفتن» : باب-
198
الآية، وبقوله عليه السلام] «١» من حديث ابن عمر: «لاَ يَجْلِبَنَّ أَحَدُكُمْ مَاشِيَةَ أَحَدٍ إلاَّ بِإذْنِهِ... » «٢» الحديث.
قلت: والحق أَنْ لا نسخَ في شيءٍ مِمَّا ذُكِرَ، وسيأتي مزيد بيان لهذا المعنى.
وقوله سبحانه: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً: قال النَّخَعِيُّ: أراد المساجد «٣»، والمعنى:
سُلِّمُوا على مَنْ فيها، فإنْ لم يكن فيها أحد فالسلام أنْ يقول: السلامُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلّم السلامُ علينا وعلى عبادِ الله الصالحين.
وقال ابن عباس «٤» وغيره: المراد البيوتُ المسكونة، أي: سلِّموا على مَنْ فيها، [قالوا: ويدخل في ذلك غيرُ المسكونة] «٥»، ويُسَلِّم المرءُ فيها على نفسه بأنْ يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
قلت: وفي «سلاح المؤمن»، وعن ابن عباس في قوله عز وجل: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً
- قول النبي- صلى الله عليه وسلّم- «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض... »، حديث (٧٠٧٨)، (١٣/ ٤٣٣- ٤٣٤) كتاب «التوحيد» : باب قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، حديث (٧٤٤٧)، ومسلم (٣/ ١٣٠٥- ١٣٠٧) كتاب «القسامة» : باب تغليظ تحريم الدماء، حديث (٢٩، ٣٠، ٣١/ ١٦٧٩)، وأبو داود (١/ ٥٩٩) كتاب «المناسك» : باب الأشهر الحرم، حديث (١٩٤٨)، وابن ماجه مختصرا (١/ ٨٥) المقدمة: باب من بلغ علما، حديث (٢٣٣)، وأحمد (٥/ ٣٧، ٤٥، ٤٩)، وابن الجارود في «المنتقى» برقم (٨٣٣)، والبيهقي (٥/ ١٤٠) كتاب «الحج» : باب الخطبة يوم النحر، كلهم من طريق محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه مرفوعا.
تنبيه: سقط من إسناد ابن الجارود «أبو بكرة» ولعله سهو من طابع أو ناسخ، فوقع محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وعبد الرحمن ليس هو القائل وليست له صحبة.
(١) سقط في ج.
(٢) أخرجه البخاري (٥/ ٨٨) كتاب «اللقطة» : باب لا تحتلب ماشية أحد بغير إذنه، حديث (٢٤٣٥)، ومسلم (٣/ ١٣٥٢) كتاب «اللقطة» : باب تحريم حلب الماشية بغير إذن مالكها، حديث (١٣/ ١٧٢٦)، وأبو داود (٢/ ٤٦) كتاب «الجهاد» : باب فيمن قال: لا يحلب، حديث (٢٦٢٣) كلهم من طريق مالك، وهو في «الموطأ» (٢/ ٩٧١) كتاب «الاستئذان» : باب ما جاء في أمر الغنم، حديث (١٧) عن نافع عن ابن عمر به. وأخرجه أحمد (٢/ ٦) من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر، وأخرجه أيضا (٢/ ٥٧) من طريق عبيد الله عن نافع عن ابن عمر بلفظ: نهى أن تحتلب المواشي بغير إذن أهلها. وأخرجه الحميدي في «مسنده» (٢/ ٣٠٠) رقم (٦٨٣) من طريق إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر.
(٣) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣٥٧) رقم (٢٦٢٤٧)، وذكره ابن عطية (٤/ ١٩٦).
(٤) ذكره السيوطي (٥/ ١٠٧)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن ابن عباس.
(٥) سقط في ج.
199
فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ قال: هو المسجدُ إذا دخلته فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» «١» رواه الحاكم في «المستَدْرَكِ» وقال: صحيحٌ على شرط الشيخين، يعني البخاريَّ ومسلماً، انتهى، وهذا هو الصحيح عن ابنِ عباس، وفَهِمَ النوويُّ أَنَّ الآية في البيوت المسكونة، قال: ففي الترمذيِّ عن أنس قال: قال لي النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «يَا بُنَيَّ، إذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ، فَسَلِّمْ، يَكُنْ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ» «٢» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وفي أبي داودَ عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة كلّهم ضامن على الله عز وجل: [رجل خرج غازيا في سبيل الله عز وجل] «٣» فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللهِ تعالى حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، وَرَجُلٌ رَاحَ إلَى المَسْجِدِ فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى اللهِ تعالى حَتَّى يَتَوَفَّاهُ فيدخله الجنة أو يرده بما نال من أَجْرٍ وَغَنِيمَةٍ وَرَجُلٌ دَخَلَ بَيْتَهُ بِسَلامٍ فَهُو ضَامِنٌ عَلَى اللهِ تعالى» «٤»، حديث حسن رواه أَبو داودَ بإسناد حسن، ورواه آخرون، والضمان: الرعاية للشيء، والمعنى: أَنَّه في رعاية الله عز وجل، انتهى.
وقوله تعالى: تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً وصفها تعالى بالبركة لأَنَّ فيها الدعاءَ واستجلابَ مودَّةِ المسلم عليه.
قلت: وقد ذكرنا في سورة النساءِ: ما ورد في المصافحة من رواية ابن السُّنِّيِّ قال النووي: وَرُوِّينَا في «سنن» أَبي داودَ والترمذيِّ وابن ماجه عَنِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ قال: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلّم: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إلاَّ غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا» «٥» انتهى.
والكاف من قوله: كَذلِكَ: كافُ تشبيهٍ وذلك: إشارة إلى هذه السنن.
وقال أيضاً بعضُ الناس في هذه الآية: أَنَّها منسوخة بآية الاستئذان المتقدمة.
قال ع «٦» : والنسخ لا يُتَصَوَّرُ في شيءٍ من هذه الآيات، بل هي مُحْكَمَةٌ، أَمَّا
(١) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣٥٧) برقم (٢٦٢٤٦)، وذكره البغوي (٣/ ٣٥٩)، والسيوطي (٥/ ١٠٨)، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي عن ابن عباس.
(٢) أخرجه الترمذيّ (٥/ ٥٩) كتاب «الاستئذان» : باب ما جاء في التسليم إذا دخل بيته، حديث (٢٦٩٨) من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن أنس. وقال الترمذيّ: هذا حديث حسن غريب.
(٣) سقط في ج.
(٤) أخرجه أبو داود (٢/ ١٠) كتاب «الجهاد» : باب فضل الغزو في «البحر»، حديث (٢٤٩٤)، والحاكم (٢/ ٧٣)، وابن حبان (٤١٦- موارد)، والبيهقي (٩/ ١٦٦) كتاب «السير» : باب فضل من مات في سبيل الله، من حديث أبي أمامة وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وصححه أيضا ابن حبان.
(٥) تقدم تخريجه. [.....]
(٦) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ١٩٧).
200
قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: ١٨٨] ففي التعدي والخدع ونحوه، وأمَّا هذه الآية ففي إباحة طعام هذه الأصناف التي يسرها- استباحَةُ طعامها على هذه الصفة، وأمَّا آية الإذن فعلة إيجاب الاستئذان خوف الكَشَفَةِ، فإذا استأذن المرءُ ودخل المنزل بالوجه المباح صَحَّ له بعد ذلك أكل الطعام بهذه الإباحة، وليس يكون في الآية نسخ فتأمله.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
وقوله/ تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ... الآية: إنّما هنا: ٤٢ أللحصر، والأمر الجامع يُرَادُ به ما للإمام حاجة إلى جمع الناس فيه لمصلحة، فالأدب اللازم في ذلك ألّا يذهب أحد لعذر إلّا بإذنه، والإمام الذي يُتَرَقَّبُ إذنه هو إمام الإمارة، وروي: أنَّ هذه الآية نزلت في وقت حفر النبي صلى الله عليه وسلّم خندقَ المدينة، فكان المؤمنون يستأذنون، والمنافقون يذهبون دون إذن، ثم أمر تعالى نَبِيَّهُ عليه السلام بالاستغفار لصنفي المؤمنين: مَنْ أَذِنَ له، ومَنْ لم يُؤْذن [له] «١». وفي ذلك تأنيس للمؤمنين ورأفة بهم.
وقوله تعالى: لاَّ تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً أي: لا تخاطبوه كمخاطبة بعضكم لبعض، وأمرهم تعالى في هذه الآية وفي غيرها أنْ يدعوا رسول الله بأشرف أسمائه وذلك هو مُقْتَضَى التوقير، فالأدب في الدعاء أنْ يقول: يا رسولَ الله، ويكون ذلك بتوقير وبِرٍّ، وخفض صوت، قاله مجاهد «٢»، واللواذ: الرَّوْغَانُ، ثم أمرهم تعالى بالحذر من عذاب الله ونِقْمَتِهِ إذا خالفوا أمره ومعنى يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي: يقع خلافهم بعد أمره، ثم أخبر تعالى أَنَّهُ قد علم ما أهلُ الأرض والسماء عليه، وباقي الآية بيّن، والحمد لله.
(١) سقط في ج.
(٢) أخرجه الطبريّ (٩/ ٣٦٠) برقم (٢٦٢٦٢، ٢٦٢٦٣)، وذكره البغوي (٣/ ٣٥٩)، وابن عطية (٤/ ١٩٨)، وابن كثير (٣/ ٣٠٦)، والسيوطي (٥/ ١١١)، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
Icon