تفسير سورة النّور

زاد المسير
تفسير سورة سورة النور من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة النور
وهي مدنية كلها بإجماعهم
روى أبو عبد الله الحاكم في " صحيحه " من حديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :: لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة، وعلموهن المغزل وسوره النور " يعني : النساء.

سورة النّور
وهي مدنيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)
(١٠٢٠) روى أبو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا تُنْزِلُوهُنَّ الغُرَف ولا تُعَلمِّوهُنَّ الكتابة، وعلّموهنّ الغزل وسورة النّور»، يعني: النّساء.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: سُورَةٌ قرأ الجمهور بالرفع. وقرأ أبو رزين العقيلي، وابن أبي عبلة، ومحبوب عن أبي عمرو: «سورةً» بالنصب. قال أبو عبيدة: من رفع، فعلى الابتداء. وقال الزجاج: هذا قبيح، لأنها نكرة، وأَنْزَلْناها صفة لها، وإِنما الرفع على إِضمار: هذه سُورةٌ، والنصب على وجهين: أحدهما على معنى: أنزلنا سورة والثاني على معنى: أُتلُ سُورةً.
قوله تعالى: وَفَرَضْناها قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد. وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي والحسن وعكرمة والضحاك والزهري ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وابن يعمر والأعمش وابن أبي عبلة بالتخفيف. قال الزجاج: من قرأ بالتشديد فعلى وجهين: أحدهما:
على معنى التكثير، أي إِننا فرضنا فيها فروضاً. والثاني: على معنى: بيَّنَّا وفصَّلنا ما فيها من الحلال والحرام ومن قرأ بالتخفيف، فمعناه: ألزمناكم العمل بما فُرض فيها. وقال غيره: مَنْ شدَّد، أراد:
فصَّلنا فرائضها، ومَنْ خفَّف، فمعناه: فرضنا ما فيها.
قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي القراءة المشهورة بالرفع. وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو الجوزاء، وابن
موضوع. أخرجه الحاكم ٢/ ٣٩٦ والبيهقي في «الشعب» ٢٤٥٣ من حديث عائشة وفيه عبد الوهّاب بن الضحاك، وهو متروك متهم، ومع ذلك، صححه الحاكم! لكن تعقّبه الذهبي بقوله: بل موضوع، وآفته عبد الوهّاب. قال أبو حاتم: كذاب اه. وأخرجه الخطيب ١٣/ ٢٢٤ ومن طريقه ابن الجوزي والواحدي في «الوسيط» ٣/ ٣٠٢ والبغوي في «التفسير» ٣/ ٣٦٠ من طريقين عن محمد بن إبراهيم الشامي، وإسناده ساقط، فيه محمد بن إبراهيم الشامي، قال عنه الذهبي في «الميزان» ٣/ ٤٤٥- ٤٤٦: قال الدارقطني: كذاب، وقال ابن حبان: يضع الحديث، ثم ذكر الذهبي أحاديث ومنها حديث الباب هذا، وقال: صدق الدارقطني. وورد من حديث ابن عباس أخرجه ابن عدي ٢/ ١٥٣ ومن طريقه ابن الجوزي ٢/ ٢٦٨ وفيه جعفر بن نصر أعله ابن عدي به، وقال: حدّث عن الثقات بالبواطل، وله موضوعات. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٧٢٤ بتخريجنا.
275
أبي عبلة، وعيسى بن عمر: «الزانيةَ» بالنصب. واختاره الخليل وسيبويه والرّفع اختيار الأكثرين. قال الزجاج: والرفع أقوى في العربية، لأن معناه: من زنى فاجلدوه، فتأويله الابتداء، ويجوز النصب على معنى: اجلدوا الزانية. فأما الجَلْد، فهو ضرب الجِلْد، يقال: جَلَدَه: إِذا ضرب جِلْده، كما يقال:
بَطَنَه: إِذا ضَرَب بَطْنه. قال المفسرون: ومعنى الآية: الزانية والزاني إِذا كانا حُرّين بالغَين بِكْرَيْن، فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ.

فصل:


قال شيخنا علي بن عبيد الله: هذه الآية تقتضي وجوب الجَلْدِ على البِكْر والثَّيّب «١».
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حق البِكْر زيادة على الجَلْد بتغريب عام، وفي حق الثَّيِّب زيادة على الجلد بالرجم بالحجارة.
(١٠٢١) فروى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «البِكْر بالبِكْر جَلْدُ مائة وتغريب عامٍ، والثَّيِّب بالثَّيِّب جلد مائة ورجم بالحجارة». وممن قال بوجوب النَّفي في حق البِكْر: أبو بكر،
تقدم في سورة النساء: عند الآية ١٥ و ١٦ وقد خرجه مسلم وغيره.
__________
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٢/ ٣٧٠: الزنى حرام، وهو من الكبائر العظام وقد كان حد الزاني في صدر الإسلام الحبس للثيب، والأذى بالكلام من التقريع والتوبيخ للبكر. ثم نسخ بما روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وقد ذهب بعض أصحابنا بجواز نسخ القرآن بالسنة ومن منع ذلك قال: ليس هذا نسخا، وإنما هو تفسير للقرآن وتبيين له. ويمكن أن يقال إن نسخه حصل بالقرآن، فإن الجلد في كتاب الله تعالى، والرجم كان فيه، فنسخ رسمه، وبقي حكمه. وإذا زنى الحر المحصن، أو الحرة المحصنة، جلدا ورجما حتى يموتا، في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله رحمه الله، والرواية الأخرى، يرجمان ولا يجلدان.
وفي وجوب الرجم على الزاني المحصن، رجلا كان أو امرأة قول عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء الأمصار في جميع الأعصار ولا نعلم فيه مخالفا إلا الخوارج، فإنهم قالوا: الجلد للبكر والثيب، ولا يجوز ترك كتاب الله تعالى الثابت بطريق القطع واليقين بخبر الآحاد.
والرد عليهم- لقد ثبت الرجم عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقوله وفعله، في أخبار تشبه التواتر وأجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه قال: إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلّم بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم، فقرأتها وعقلتها ووعيتها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورجمنا بعده. فأخشى إن طال بالناس زمان، أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى، فالرجم حق على من زنى إذا أحصن، من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أو كان الحبل، أو الاعتراف وقد قرأتها: «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» متفق عليه.
وأما الجلد فنقول بها، إن الزاني يجب جلده، فإن كان ثيبا رجم مع الجلد والآية لم تتعرض لنفيه. في إحدى الروايتين، فعل ذلك علي رضي الله عنه، وبه قال ابن عباس وأبي بن كعب وأبو ذر وفي الرواية الثانية، يرجم ولا يجلد. روي عن عمر وعثمان وابن مسعود، والنخعي، والزهري والأوزاعي ومالك، والشافعي، وأبو ثور، وأصحاب الرأي.
وإذا زنى الحر البكر، جلد مائة، وغرّب عاما. ولا خلاف في وجوب الجلد على الزاني ويجب مع الجلد تغريبه عاما في قول جمهور العلماء. وقال مالك والأوزاعي: يغرّب الرجل دون المرأة، لأنها إن غرّبت بمحرم، أفضى إلى تغريب من ليس بزان، ونفي من لا ذنب له، وإن كلفت أجرته ففي ذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد الشرع به، ويلزم منه الزيادة على ذلك. وفوات حكمته. وفي تغريبها إغراء به، وتمكين منه. وقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن: لا يجب التغريب وقول مالك فيما يقع لي، أصح الأقوال وأعدلها. [.....]
276
وعمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وممن بعدهم عطاء، وطاوس، وسفيان، ومالك، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأحمد، وإِسحاق، وممن قال بالجمع بين الجلد والرجم في حق الثَّيِّب عليُّ بن أبي طالب، والحسن البصري، والحسن بن صالح، وأحمد، وإِسحاق. قال: وذهب قوم من العلماء إِلى أن المراد بالجَلْد المذكور في هذه الآية: البِكْر، فأما الثَّيِّب، فلا يجب عليه الجَلْد، وإِنما يجب الرجم، روي عن عمر، وبه قال النخعي والزهري والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك، وروي عن أحمد رواية مثل قول هؤلاء.
قوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو رزين والضحاك وابن يعمر والأعمش: «يَأْخُذْكُمْ» بالياء بِهِما رَأْفَةٌ قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي:
«رَأْفَةٌ» باسكان الهمزة. وقرأ أبو المتوكل ومجاهد وأبو عمران الجوني وابن كثير: بفتح الهمزة وقصرها على وزن رَعَفَة. وقرأ سعيد بن جبير والضحاك وأبو رجاء العطاردي: «رآفَةٌ» مثل سآمة وكآبة، وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: لا تأخذكم بهما رأفة، فتخفِّفوا الضرب، ولكن أوجعوهما، قاله سعيد بن المسيب والحسن والزهري وقتادة. والثاني: لا تأخذكم بهما رأفة فتعطِّلوا الحدود ولا تقيموها، قاله مجاهد والشعبي وابن زيد في آخرين.

فصل:


واختلف العلماء في شدة الضرب في الحدود، فقال الحسن البصري: ضرب الزنا أشد من القذف، والقذف أشد من الشُّرب، ويضرب الشارب أشد من ضرب التعزير، وعلى هذا مذهب أصحابنا، وقال أبو حنيفة: التعزير أشد الضرب، وضرب الزنى أشد من ضرب الشارب، وضرب الشارب أشد من ضرب القذف. وقال مالك: الضرب في الحدود كلِّها سواءٌ غير مبرِّح.

فصل:


فأما ما يُضرَب من الأعضاء، فنقل الميموني عن أحمد في جَلْد الزاني، قال: يجرَّد، ويعطى كل عضو حقَّه، ولا يضرب وجهه ولا رأسه. ونقل يعقوب بن بختان: لا يُضرب الرأس ولا الوجه ولا المذاكير، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: لا يُضرب إِلا في الظَّهر. وقال الشافعي: يُتَّقى الفرج والوجه.
قوله تعالى: فِي دِينِ اللَّهِ فيه قولان: أحدهما: في حُكمه، قاله ابن عباس. والثاني: في طاعة الله، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما قال الزجاج: القراءة باسكان اللام، ويجوز كسرها، والمراد بعذابهما ضربهما، وفي المراد بالطّائفة ها هنا خمسة أقوال «١» : أحدها: الرجل فما فوقه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. وقال النخعي: الواحد طائفة. والثاني: الاثنان فصاعدا، قاله
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٢٦٠: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قول: أقل ما ينبغي حضور ذلك من عدد المسلمين: الواحد فصاعدا، وذلك أن الله عمّ بقوله وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ والطائفة:
قد تقع عند العرب على الواحد فصاعدا، غير أنّي وإن كان الأمر على ما وصفت أستحب أن لا يقصر بعدد من يحضر ذلك الموضع عن أربعة أنفس، عدد من تقبل شهادته على الزنا لأن ذلك إذا كان كذلك، فلا خلاف بين الجميع أنه قد أدى المقيم الحدّ ما عليه في ذلك وهم فيما دون ذلك مختلفون.
277
سعيد بن جبير، وعطاء وعن عكرمة كالقولين. قال الزجاج: والقول الأول على غير ما عند أهل اللغة، لأن الطائفة في معنى جماعة، وأقل الجماعة اثنان. والثالث: ثلاثة فصاعداً، قاله الزهري.
والرابع: أربعة، قاله ابن زيد. والخامس: عشرة، قاله الحسن البصري.
قوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً.
(١٠٢٢) قال عبد الله بن عمرو: كانت امرأة تسافح، وتشترط للذي يتزوجها أن تكفيه النفقة فأراد رجل من المسلمين أن يتزوجها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية.
(١٠٢٣) وقال عكرمة: نزلت في بغايا، كُنَّ بمكة، ومنهن تسع صواحب رايات، وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية: المواخير، ولا يدخل عليهن إِلا زانٍ من أهل القِبلة، أو مشرك من أهل الأوثان، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن، فنزلت هذه الآية. قال المفسرون: ومعنى الآية: الزاني من المسلمين لا يتزوج من أولئك البغايا إِلا زانية أَوْ مُشْرِكَةً لأنهن كذلك كن وَالزَّانِيَةُ منهن لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ، ومذهب أصحابنا «١» أنه إِذا زنى بامرأة، لم يجز له أن يتزوّجها إلّا بعد التّوبة منهما.
حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» ٣٧٩ وأحمد ٢/ ١٥٩- ٢٢٥ والحاكم ٢/ ١٩٣ والطبري ٢٥٧٤٢ والواحدي في «الأسباب» ٦٣٢ والبيهقي ٧/ ١٥٣ كلهم من طريق المعتمر بن سليمان عن أبيه عن الحضرمي عن القاسم بن محمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص به مع اختلاف يسير في ألفاظهم. وإسناده ضعيف لجهالة الحضرمي هذا، وقد وثقه ابن حبان وحده. واعتمده الهيثمي، فقال في «المجمع» ٧/ ٧٤: رجال أحمد ثقات! وكذا صححه الحاكم! ووافقه الذهبي. وأخرجه الحاكم ٢/ ٣٩١ من طريق هشيم عن سليمان التيمي عن القاسم عن عبد الله بن عمرو به، وإسناده ضعيف، فقد سقط منه الحضرمي، ولعل ذلك بسبب عنعنة هشيم، فإنه مدلس، وقد جرى الحاكم على ظاهره، فصححه على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي! وليس كما قالا. وله شاهد من مرسل مجاهد، أخرجه الطبري ٢٥٧٤٩ ومع إرساله فيه راو لم يسم، ومع ذلك هذه الروايات تشهد للحديث الآتي وليست مخالفة له، والله أعلم فقد تكون الحادثة مكررة والسبب واحد. وانظر «أحكام القرآن» ١٥٤٩.
مرسل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٣١ عن عكرمة بدون إسناد. وانظر ما قبله.
__________
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٩/ ٥٦١: إذا زنت المرأة، لم يحل ذلك نكاحها إلا بشرطين:
أحدهما: انقضاء عدتها ولا يحل نكاحها قبل وضع حملها. وبهذا قال مالك وأبو يوسف وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وفي الأخرى قال: يحل نكاحها ويصح. وهو مذهب الشافعي لأنه وطء لا يلحق به النسب فلم يحرّم النكاح، كما لو لم تحمل. والثاني: أن تتوب من الزنى. وبه قال قتادة، وأبو عبيد، وإسحاق وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لا يشترط ذلك. وإذا وجد الشرطان حل نكاحها للزاني وغيره في قول أكثر العلم. وروي عن ابن مسعود وعائشة والبراء: أنها لا تحل للزاني بحال، قالوا: لا يزالان زانيين ما اجتمعا، ويحتمل أنهم أرادوا بذلك ما كان قبل التوبة. أو قبل استبرائها فيكون كقولنا. أما تحريمها على الإطلاق فلا يصح. هذا وإن عدة الزانية كعدة المطلقة، لأنه استبراء لحرة، فأشبه عدة الموطوءة بشبهة. وحكى ابن أبي موسى، أنها تستبرأ بحيضة. وأما التوبة، فهي الاستغفار والندم والإقلاع عن الذنب، كالتوبة من سائر الذنوب.
وهو الصحيح. وروي عن ابن عمر، أنه قيل له: كيف تعرف توبتها؟ قال يريدها على ذلك، فإن طاوعته لم تتب وإن أبت فقد تابت. فصار أحمد إلى قول ابن عمر اتباعا له. والصحيح الأول، فإنه لا ينبغي لمسلم أن يدعو امرأة إلى الزنا، ويطلبه منها، ولا تحل الخلوة بأجنبية ولو كان في تعليمها القرآن. فلا يحل التعرض لمثل هذا. قال الطبري رحمه الله ٩/ ٢٦٤: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: عني بالنكاح في هذا الموضع: الوطء، وأن الآية نزلت في البغايا المشركات وإنه لم يعن بالآية أن الزاني من المؤمنين لا يعقد عقد نكاح على عفيفة من المسلمات، ولا ينكح إلا بزانية أو مشركة. وإذا كان ذلك كذلك، فبين أن معنى الآية: الزاني لا يزني إلا بزانية لا تستحل الزنا، أو بمشركة تستحله. وقوله وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يقول: وحرّم الزنا على المؤمنين بالله ورسوله، وذلك هو النكاح الذي قال جل ثناؤه الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً. ووافقه ابن كثير رحمه الله ٣/ ٣٢٩ وقال: وهذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلا زانية أو مشركة، أي: لا يطاوعه على مراده من الزنا إلا زانية عاصية أو مشركة، لا ترى حرمة ذلك وكذلك:
الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أي: عاص بزناه أَوْ مُشْرِكٌ لا يعتقد تحريمه.
278
قوله تعالى: وَحُرِّمَ ذلِكَ وقرأ أُبيّ بن كعب وأبو المتوكل وأبو الجوزاء: «وحَرَّمَ اللهُ ذلك» بزيادة اسم الله تعالى مع فتح حروف «حَرَّمَ». وقرأ زيد بن علي: «وحَرُمَ ذلك» بفتح الحاء وضم الراء مخففة. ثم فيه قولان: أحدهما: أنه نكاح الزواني، قاله مقاتل. والثاني: الزنا، قاله الفراء.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤ الى ٥]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ شرائط الإِحصان في الزنا الموجب للرجم عندنا أربعة:
البلوغ، والحرية، والعقل، والوطء في نكاح صحيح. فأما الإِسلام، فليس بشرط في الإِحصان، خلافا لأبي حنيفة، ومالك. ومعنى الآية: يرمون المحصنات بالزنا، فاكتفى بذكره المتقدِّم عن إِعادته ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا على ما رمَوْهُنَّ به بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ عدول يشهدون أنهم رأوهنَّ يفعلْنَ ذلك فَاجْلِدُوهُمْ يعني القاذفين.

فصل:


وقد أفادت هذه الآية أنَّ على القاذف إِذا لم يُقم البيِّنة، الحدَّ، وردَّ الشهادة وثبوتَ الفِسْق، واختلفوا هل يُحكَم بفسقه وردِّ شهادته بنفس القذف، أم بالحدِّ؟ فعلى قول أصحابنا: إِنه يُحكم بفسقه وردِّ شهادته إِذا لم يُقم البيِّنة، وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يُحكم بفسقه، وتقبل شهادته ما لم يُقَم الحدُّ عليه.

فصل:


والتعريض بالقذف- كقوله لمن يخاصمه: ما أنت بزانٍ، ولا أُمُّك زانية- يوجب الحدَّ في المشهور من مذهبنا. وقال أبو حنيفة: لا يوجب الحدَّ. وحدٌّ العبد في القذف نصف حدِّ الحُرِّ، وهو أربعون، قاله الجماعة، إِلا الأوزاعي فانه قال: ثمانون. فأما قاذف المجنون، فقال الجماعة: لا يُحَدُّ.
وقال الليث: يُحَدُّ. فأما الصبيّ، فان كان مثله يجامِع أو كانت صبيِّة مثلُها يجامَع، فعلى القاذف الحدُّ.
وقال مالك: يُحدُّ قاذف الصبيَّة التي يجامَع مثلُها، ولا يُحَدُّ قاذف الصبيّ. وقال أبو حنيفه، والشافعي:
لا يُحَدُّ قاذفهما. فان قذف رجلٌ جماعةً بكلمة واحدة، فعليه حدٌّ واحد، وإِن أفرد كلَّ واحد بكلمة، فعليه لكل واحد حدّ، وهو قول الشعبي، وابن أبي ليلى وقال أبو حنيفة وأصحابه: عليه حدّ واحد، سواء قذفهم بكلمة أو بكلمات.

فصل:


وحدُّ القذف حقٌّ لآدميّ، يصحّ أن يبرئ منه، ويعفو عنه، وقال أبو حنيفة: هو حقّ الله عزّ وجلّ وعندنا أنه لا يستوفى إِلا بمطالبة المقذوف، وهو قول الأكثرين. وقال ابن أبي ليلى: يحدّه
الإِمام وإِن لم يطالِب المقذوف.
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي: من القذف وَأَصْلَحُوا قال ابن عباس: أظهروا التوبة وقال غيره: لم يعودوا إِلى قذف المُحْصنَات، وفي هذا الإِستثناء قولان: أحدهما: أنه نسخ حدِّ القذف وإِسقاط الشهادة معاً، وهذا قول عكرمة، والشعبي، وطاوس، ومجاهد، والقاسم بن محمد، والزهري، والشافعي، وأحمد. والثاني: أنه يعود إِلى الفسق فقط، وأما الشهادة، فلا تُقْبَل أبداً، قاله الحسن، وشريح، وإِبراهيم، وقتادة. فعلى هذا القول انقطع الكلام عند قوله: «أبداً» وعلى القول الأول وقع الاستثناء على جميع الكلام، وهذا أصح، لأن المتكلّم بالفاحشة لا يكون جرماً من راكبها، فإذا قُبلت شهادةُ المقذوف بعد ثبوته، فالرامي أيسر جرماً، وليس القاذف بأشدَّ جرماً من الكافر، فإنه إِذا أسلم قبلت شهادته.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦ الى ١٠]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ.
(١٠٢٤) سبب نزولها أن هلال بن أُمية وجد عند أهله رجلاً، فرأى بعينه وسمع بأذنه، فلم يُهجْه حتى أصبح، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله: إِنِّي جئت أهلي، فوجدت عندها رجلاً، فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما جاء به، واشتد عليه، فقال سعد بن عبادة: الآن يَضْرِبُ رسولُ الله هلالاً ويُبطل شهادته، فقال هلال: والله إِنِّي لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجا، فو الله إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يريد أن يأمر بضربه إِذ نزل عليه الوحي، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
(١٠٢٥) وفي حديث آخر، أن الرجل الذي قذفها به شريك بن سحماء، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال
أخرجه أحمد ١/ ٢٣٨ والطبري ٢٥٨٢٨ من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس. وإسناده ضعيف لأجل عباد بن منصور، لكن أصله محفوظ، أخرجه البخاري وغيره. وانظر ما بعده وانظر «أحكام القرآن» ١٥٥٥.
صحيح. أخرجه البخاري ٢٦٧١ و ٤٧٤٧ وأبو داود ٢٢٥٤ والترمذي ٣١٧٩ وابن ماجة ٢٠٦٧ والبيهقي ٧/ ٣٩٣ والبغوي ٢٣٧٠ كلهم من حديث ابن عباس، أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلّم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «البينة أو حدّ في ظهرك» فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «البينة وإلا حد في ظهرك». فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد. فنزل جبريل وأنزل عليه وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ فقرأ حتى بلغ إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلّم فأرسل إليها. فجاء هلال فشهد. والنبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟» ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقّفوها وقالوا: إنها موجبة.
قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلّج الساقين فهو لشريك بن سمحاء» فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن». لفظ البخاري. وانظر «أحكام القرآن» ١٥٥٣ بتخريجنا.
280
لهلال حين قذفها: «ائتني بأربعة شهداء، وإِلا فحدٌّ في ظهرك»، فنزلت هذه الآية، فنُسخ حكم الجلد في حق الزوج القاذف.

فصل في بيان حكم الآية:


إِذا قذف الرجل زوجته بالزنا، لزمه الحدُّ، وله التخلُّص منه باقامة البيِّنة، أو باللِّعان، فإن أقام البيِّنة لزمها الحدّ، وإِن لاعنها، فقد حقَّق عليها الزّنا، ولها التّخليص منه باللّعان، فإن نكل الزوج عن اللعان، فعليه حدُّ القذف، وإِن نكلت الزوجة، لم تحدّ، وحُبست حتى تُلاعِن أو تُقِرَّ بالزنا في إِحدى الروايتين، وفي الأخرى: يُخلَّى سبيلُها، وقال أبو حنيفة: لا يُحَدُّ واحد منهما، ويُحبس حتى يُلاعِن. وقال مالك، والشافعي: يجب الحدُّ على الناكل منهما.

فصل:


ولا تصح الملاعنة إِلا بحضرة الحاكم. فان كانت المرأة خَفِرة، بعث الحاكم من يُلاعِن بينهما. وصفة اللعان أن يبدأ الزوج فيقول: أشهد بالله إِني لمن الصادقين فيما رميتُها به من الزنا، أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: ولعنة الله عليه إِن كان من الكاذبين، ثم تقول الزوجة أربع مرات: أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا، ثم تقول: وغضب الله عليها إِن كان من الصادقين. والسُّنة أن يتلاعنا قياماً، ويقال للزوج إِذا بلغ اللعنة: اتق الله فانها المُوجِبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وكذلك يقال للزوجة إِذا بلغت إِلى الغضب. فإن كان بينهما ولد، افتقر نفيه عن الأب إِلى ذِكْره في اللعان، فيزيد في الشهادة: وما هذا الولد ولدي، وتزيد هي: وإِن هذا الولد ولده.

فصل:


واختلف الفقهاء في الزوجين اللَّذين يجري بينهما اللعان، فالمشهور عن أحمد أن كل زوج صح قذفه صح لعانه، فيدخل تحت هذا المسلمُ والكافر والحرُّ والعبد، وكذلك المرأة، وهذا قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يجوز اللعان بين الحرِّ والأمَةَ، ولا بين العبد والحرة، ولا بين الذميَّين، أو إِذا كان أحدهما ذميّاً ونقل حرب عن أحمد نحو هذا، والمذهب هو الأول. ولا تختلف الرواية عن أحمد أن فُرقة اللعان لا تقع بلعان الزوج وحده. واختلفت هل تقع بلعانهما من غير فُرقة الحاكم على روايتين. وتحريم اللعان مؤبَّد، فان أكذب الملاعنُ نفسه لم تحلَّ له زوجته أيضاً، وبه قال عمر، وعلي، وابن مسعود، وعن أحمد روايتان، أصحهما: هذا، والثانية: يجتمعان بعد التكذيب، وهو قول أبي حنيفة.
قوله تعالى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ وقرأ أبو حنيفة وأبو المتوكل. وابن يعمر، والنخعي: «تكن» بالتاء. قوله تعالى: فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «أربعَ» بفتح العين. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: برفع العين. قال الزجاج: من رفع «أربعُ» فالمعنى: فشهادة أحدهم التي تدرأُ حَدَّ القذف أربعُ ومن نصب، فالمعنى:
فعليهم أن يشهد أحدهم أربعَ. قوله تعالى: وَالْخامِسَةُ قرأ حفص عن عاصم: «والخامسةَ» نصباً، حملاً على نصب «أربعَ شهادات». قوله تعالى: أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ قرأ نافع، ويعقوب، والمفضل:
281
«أنْ لعنةُ الله» و «أنْ غضبُ الله» بتخفيف النون فيهما وسكونهما ورفع الهاء من «لعنةُ» والباء من «غضبُ»، إِلا أن نافعاً كسر الضاد من «غَضِبَ» وفتح الباء. قوله تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا أي: ويَدفع عنها الْعَذابَ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحَدُّ. والثاني: الحبس ذكرهما ابن جرير. والثالث: العار.
قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي: ستره ونعمته. قال الزجاج: وجواب «لولا» ها هنا متروك، والمعنى: لولا ذلك لنال الكاذبَ منكم عذابٌ عظيم، وقال غيره: لولا فضل الله لبيّن الكاذب من الزوجين فأُقيم عليه الحدّ، وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ يعود على من رجع عن المعاصي بالرحمة حَكِيمٌ فيما فرض من الحدود.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١١ الى ٢٠]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ أجمع المفسرون أن هذه الآية وما يتعلق بها بعدها نزلت في قصة عائشة رضي الله عنها، وفي حديث الإِفك أن هذه الآية إِلى عشر آيات نزلت في قصة عائشة. وقد ذكرنا حديث الإِفك في كتاب «الحدائق» وفي كتاب «المغني في التفسير» فلم نطل بذكره، لأن غرضنا اختصار هذا الكتاب ليحفظ. فأما الإِفك، فهو الكذب، والعصبة: الجماعة. ومعنى قوله تعالى:
مِنْكُمْ أي: من المؤمنين.
(١٠٢٦) وروى عروة عن عائشة أنها قالت: هم أربعة: حسان بن ثابت، وعبد الله بن أبي بن سلول ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، وكذلك عدهم مقاتل.
قوله تعالى: لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ قال المفسرون: هذا خطاب لعائشة وصفوان بن المعطّل،
صحيح. أخرجه مسلم ٢٧٧٠ ح ٥٨ والترمذي ٣١٨٠ من طريق أبي أسامة عن هشام عن عروة عن عائشة، وهو طرف حديث. وانظر «أحكام القرآن» ١٥٦٦ بتخريجنا. وحديث الإفك، حديث صحيح مشهور. أخرجه البخاري ٢٦٦١ و ٤١٤١ و ٤٧٥٠، و ٦٦٧٩ ومسلم ٢٧٧٠ وأبو داود ٤٧٣٥ والترمذي ٣١٨٠ والنسائي في «عشرة النساء» ٤٥ وعبد الرزاق ٩٧٤٨ وأحمد ٦/ ١٩٧ وأبو يعلى ٤٩٢٧ و ٤٩٣٣ وابن حبان ٤٢١٢ والطبراني ٢٣/ ١٣٤ والبيهقي ٧/ ٣٠٢ من طرق كلهم من حديث عائشة.
282
وقيل: لرسول الله صلى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعائشة والمعنى: إٍنكم تؤجرون فيه، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يعني: من العصبة الكاذبة مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي: جزاء ما اجترح من الذنب على قدر خوضه فيه، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وعكرمة، ومجاهد وابن أبي عبلة، والحسن، ومحبوب عن أبي عمرو ويعقوب: «كُبْره» بضم الكاف. قال الكسائي: وهما لغتان. وقال ابن قتيبة: كِبْر الشيء: معظمه، ومنه هذه الآية. قال قيس بن الخطيم يذكر امرأة:
تنام عن كبر شأنها فإذا قامت رويدا تكاد تنغرف «١»
وفي المتولي لذلك قولان: «٢» أحدهما: أنه عبد الله بن أبي، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وعروة عن عائشة، وبه قال مجاهد، والسدي، ومقاتل. قال المفسرون: هو الذي أشاع الحديث، فله عذاب عظيم بالنار. وقال الضحاك: هو الذي بدأ بذلك. والثاني: أنه حسان.
(١٠٢٧) روى الشعبي أن عائشة قالت: ما سمعت أحسن من شعر حسان، وما تمثلت به إلا رجوت له الجنة فقيل: يا أم المؤمنين، أليس الله يقول: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ، فقالت: أليس قد ذهب بصره؟
(١٠٢٨) وروى عنها مسروق أنها قالت: وأي عذاب أشد من العمى، ولعل الله أن يجعل ذلك العذاب العظيم، ذهاب بصره، تعني: حسان بن ثابت.
ثم إنّ الله عزّ وجلّ أنكر على الخائضين في الإفك بقوله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ أي: هلا إذ سمعتم أيتها العصبة الكاذبة قذف عائشة ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ من العصبة الكاذبة، وهم حسّان ومسطح
أخرجه الطبري ٢٥٨٤٣ عن الشعبي عن عائشة، وهذا منقطع، وانظر ما بعده.
صحيح. أخرجه البخاري ٤١٤٦ و ٤٧٥٥ و ٤٧٥٦ ومسلم ٢٤٨٨ والطبري ٢٥٨٤٥ من طريق مسروق به.
قال مسروق، دخلنا على عائشة رضي الله عنها وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعرا يشبب بأبيات له وقال:
حصان رزان ما تزنّ بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت له عائشة: لكنك لست كذلك. قال مسروق: فقلت لها: لم تأذني له أن يدخل عليك وقد قال الله:
وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ فقالت: وأي عذاب أشد من العمى؟ قالت له: إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. ومعنى: حصان: عفيفة، رزان: ذات ثبات ووقار وعفة، ما تزن: ما تتهم، غرثى:
جائعة.
__________
(١) في «اللسان» : الغرف: التثني والانقصاف، وقال يعقوب: معناه تتثنى وقيل: معناه: تنقصف من دقة خصرها.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٤٠: وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ. ثم الأكثرون على أن المراد بذلك إنما هو عبد الله بن أبي ابن سلول- قبّحه الله ولعنه- وقولهم: حسان بن ثابت. وهو قول غريب، ولولا أنه وقع في صحيح البخاري ما قد يدل على ذلك لما كان لإيراده فائدة، فإنه من الصحابة الذين كان لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن محاسنه أنه كان يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم بشعره، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هاجم وجبريل معك- ولقد وافقه الطبري-.
وقال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٢٧٨: وأولى القولين في ذلك بالصواب: قول من قال: الذي تولى كبره من عصبة الإفك، كان عبد الله بن أبي، وذلك لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير الذي بدأ بذكر الإفك، وكان يجمع أهله ويحدثهم عبد الله بن أبي ابن سلول وفعله ذلك كان توليه كبر ذلك الأمر.
283
وَالْمُؤْمِناتُ وهي: حمنة بنت جحش بِأَنْفُسِهِمْ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: بأمهاتهم. والثاني:
بأخواتهم. والثالث: بأهل دينهم، لان المؤمنين كنفس واحدة، وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أي: كذب بيِّن. وجاء في التفسير أن أبا أيوب الأنصاري قالت له أمه:
(١٠٢٩) ألا تسمع ما يقول الناس في أمر عائشة؟! فقال: هذا إفك مبين، أكنت يا أمّاه فاعلته؟
فقالت: معاذ الله، قال: فعائشة والله خير منك فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: لَوْلا جاؤُ أي: هلا جاءت العصبة الكاذبة على قذفهم عائشة بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ وقرأ الضحاك، وعاصم الجحدري: «بأربعة» منونة والمعنى: يشهدون بأنهم عاينوا ما رموها به فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ أي: في حكمه هُمُ الْكاذِبُونَ. ثم ذكر القاذفين فقال: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي: لولا ما منَّ الله به عليكم، لَمَسَّكُمْ أي: لأصابكم فِيما أَفَضْتُمْ أي: أخذتم وخضتم فِيهِ من الكذب والقذف عَذابٌ عَظِيمٌ في الدنيا والآخرة. ثم ذكر الوقت الذي لولا فضله لأصابهم فيه العذاب فقال إِذْ تَلَقَّوْنَهُ وكان الرجل منهم يلقى الرجل فيقول: بلغني كذا، فيتلقاه بعضهم من بعض. وقرأ عمر بن الخطاب: «إذ تُلْقونه» بتاء واحدة خفيفة مرفوعة وإسكان اللام وقاف منقوطة بنقطتين مرفوعة خفيفة وقرأ معاوية، وابن السميفع مثله، إلا أنهما فتحا التاء والقاف. وقرأ ابن مسعود: «تَتَلَقَّونه» بتاءين مفتوحتين مع نصب اللام وتشديد القاف. وقرأ أبي بن كعب، وعائشة، ومجاهد، وأبو حيوة: «تَلِقُونه» بتاء واحدة خفيفة مفتوحة وكسر اللام ورفع القاف. وقال الزجاج:
«تُلْقونه» : يلقيه بعضكم إلى بعض وتلقونه معناه: إذ تسرعون بالكذب، يقال: قد ولق يلق: إذا أسرع في الكذب وغيره، قال الشاعر:
جاءَتْ به عَنْسٌ من الشَّامْ تلق
أي: تسرع. وقال ابن قتيبة: «تَلَقَّوْنَهُ» أي: تقبلونه، ومن قرأ: «تَلِقونَهُ» أخذه من الولق، وهو الكذب.
قوله تعالى: وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ أي: من غير أن تعلموا أنه حق وَتَحْسَبُونَهُ يعني: ذلك القذف هَيِّناً أي: سهلا لا إثم فيه وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ في الوزر. ثم زاد عليهم في الإنكار فقال: وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنا أي: ما يحل وما ينبغي لنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ وهو يحتمل التنزيه والتعجب. وروت عائشة أن امرأة أبي أيوب الأنصاري قالت له: ألم تسمع ما يتحدث الناس؟! فقال: «ما يكونُ لنا ان نَتَكَلَم بهذا... » الآية، فنزلت الآية، وقد روينا آنفا أن أمه ذكرت له ذلك، فنزلت الآية المتقدمة، وروي عن سعيد بن جبير أن سعد بن معاذ لما سمع ذلك قال سبحانك هذا بهتان عظيم، فقيل للناس: هلا قلتم كما قال سعد؟! قوله تعالى: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أي: ينهاكم الله أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أي: إلى مثله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ
أخرجه الطبري ٢٥٨٥٩ من طريق محمد بن إسحاق به، عن بعض رجال بني النجار، فهذا إسناد ضعيف.
وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٦٣٦ عن عروة عن عائشة رضي الله عنها حدثته بحديث الإفك وقالت فيه:
284
لأن من شرط الإيمان ترك قذف المحصنة وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ في الأمر والنهى.
ثم هدّد القاذفين بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ أي: يحبون أن يفشو القذف بالفاحشة، وهي الزنا فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا يعني: الجلد وَالْآخِرَةِ عذاب النار.
(١٠٣٠) وروت عمرة عن عائشة قالت: لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم على المنبر، فذكر ذلك، وتلا القرآن، فلما نزل أمر برجلين وامرأة، فضربوا حدهم.
(١٠٣١) وروى أبو صالح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جلد عبد الله بن أبيّ، ومسطح ابن أثاثة، وحسّان بن ثابت، وحمنة، فأما الثلاثة فتابوا، وأما عبد الله فمات منافقا وبعض العلماء ينكر صحة هذا، ويقول: لم يضرب أحدا.
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ شر ما خضتم فيه وما يتضمن من سخط الله وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ جوابه محذوف، تقديره: لعاقبكم فيما قلتم لعائشة. قال ابن عباس: يريد:
مسطحا، وحسّانا، وحمنة.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١)
قوله تعالى: لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي: تزيينه لكم قذف عائشة. وقد سبق شرح «خطوات الشيطان» وبيان «الفحشاء والمنكر» «١». قوله تعالى: ما زَكى مِنْكُمْ وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة: «ما زكَّى» بتشديد الكاف. وفيمن خوطب بهذا قولان: أحدهما: أنه عام في الخلق. والثاني: أن خاص للمتكلمين في الإفك. ثم في معناه أربعة أقوال: أحدها: ما اهتدى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: ما أسلم، قاله ابن زيد. والثالث: ما صلح، قاله مقاتل. والرابع: ما ظهر، قاله ابن قتيبة.
غير قوي. أخرجه أبو داود ٤٤٧٤ والترمذي ٣١٨١ وابن ماجة ٢٥٦٧ وأحمد ٦/ ٣٥ والطحاوي في «المشكل» ٢٩٦٣ والبيهقي في «الدلائل» ٤/ ٧٤ وفي «السنن» ٨/ ٢٥٠ من طرق عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت: «لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلّم على المنبر فذكر ذاك، وتلا- تعني القرآن- فلما نزل المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم».
وفي رواية الطحاوي «فأمر برجلين وامرأة، فضربوا حدهم ثمانين ثمانين». وفي إسناده محمد بن إسحاق، وهو مدلس، لكن صرّح بالتحديث في رواية الطحاوي والبيهقي. وأخرجه أبو يعلى ٤٩٣٢ عن عروة مرسلا.
وأخرجه عبد الرزاق ٩٧٥٠ عن الزهري مرسلا. وأخرجه أبو داود ٤٤٧٥ عن محمد بن إسحاق مرسلا.
وأخرجه عبد الرزاق ٩٧٤٩ من طريق ابن أبي يحيى عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة. وإسناده ضعيف جدا، فيه ابن أبي يحيى، وهو إبراهيم بن محمد، وهو متروك. فلا يقطع بصحة هذا الخبر بمثل هذه الروايات، والله أعلم.
لم يثبت أن ابن سلول، قد حدّ البتة، وأصح شيء ورد في ذلك هو ما تقدم. وهذا الطريق عن أبي صالح عن ابن عباس، ليس بشيء. لأن أبا صالح واه في ابن عباس، وراويته الكلبيّ، وهو ممن يضع الحديث.
__________
(١) في سورة البقرة عند الآيتان: ١٦٨ و ١٦٩.
قوله تعالى: وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أي: يطهّر من يشار من الإثم بالتوبة والغفران فالمعنى:
وقد شئت ان أتوب عليكم وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ علم ما في نفوسكم من التّوبة والنّدامة.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٢]
وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)
قوله تعالى: وَلا يَأْتَلِ وقرأ الحسن، وأبو العالية، وأبو جعفر، وابن أبي عبلة: «لا يتألَّ» بهمزة مفتوحة بين التاء واللام وتشديد اللام على وزن يَتَعلَّ.
(١٠٣٢) قال المفسرون: سبب نزولها أن أبا بكر الصديق كان ينفق على مسطح لقرابته وفقره، فلما خاض في أمر عائشة قال أبو بكر: والله لا أنفق عليه شيئا أبداً، فنزلت هذه الآية، فأما الفضل، فقال أبو عبيدة: هو التفضل والسعة. الجِدةْ. قال المفسرون: والمراد به: أبو بكر.
قوله تعالى: أَنْ يُؤْتُوا قال ابن قتيبة: معناه: أن لا يؤتوا، فحذف «لا». فأمّا قوله تعالى: أُولِي الْقُرْبى فانه يعنى مسطحا، وكان ابن خالة أبي بكر، وكان مسكيناً، وكان مهاجراً. قال المفسرون: فلما سمع أبو بكر أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ قال: بلى يا ربّ، وأعاد نفقته على مسطح.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يعني: العفائف الْغافِلاتِ عن الفواحش، لُعِنُوا فِي الدُّنْيا أي: عذبوا بالجلد، وفي الآخرة بالنار.
واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآية على أربعة أقوال «١» : أحدها: أنها نزلت في عائشة خاصة.
قال خصيف: سألت سعيد بن جبير عن هذه الآية، فقلت: من قذف محصنة لعنه الله؟ قال: لا، إنما أنزلت هذه الآية في عائشة خاصة. والثاني: أنها في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلّم خاصة، قاله الضحاك. والثالث:
أنها في المهاجرات. قال أبو حمزة الثمالي: بلغنا أن المرأة كانت إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة، قذفها المشركون من أهل مكة، وقالوا: إنما خرجت تفجر، فنزلت هذه الآية. والرابع: أنها عامة في أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلّم وغيرهن، وبه قال قتادة، وابن زيد.
فان قيل: لم اقتصر على ذكر المحصنات دون الرّجال؟
هو طرف حديث الإفك المتقدم برقم ١٠٤٥، وهو عند الطبري ٢٥٨٧٥ من طريق ابن إسحاق عن الزهري، وقد عنعن. لكن الحجة بما تقدم، ذكره البخاري ٤٧٥٧ من وجه آخر تعليقا، ووصله أحمد ٦/ ٥٩ والطبري ٢٥٢٥٧. وانظر «أحكام القرآن» ١٥٧١ بتخريجنا.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٢٩٢: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية في شأن عائشة، والحكم بها عام في كل من كان بالصفة التي وصفه بها فيها.
فالجواب: أن من رمى مؤمنة فلا بد أن يرمي معها مؤمناً، فاستغني عن ذكر المؤمنين، ومثله:
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «١» أراد: والبرد، قاله الزجاج.
قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: «يشهد» بالياء وهو إقرارها بما تكلموا به من الفرية. قال ابو سليمان الدمشقي: وهؤلاء غير الذين يختم على أفواههم.
وقال ابن جرير: المعنى: ان ألسنة بعضهم تشهد على بعض.
قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ أي: حسابهم العدل، وقيل: جزاءهم الواجب. وقرأ مجاهد، وأبو الجوزاء، وحميد بن قيس، والأعمش: «دينهم الحقُ» برفع القاف وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ قال ابن عباس: وذلك ان عبد الله بن ابي كان يشك في الدين، فإذا كانت القيامة علم حيث لا ينفعه.
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٦]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
قوله تعالى: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ فيه أربعة أقوال «٢» : أحدها: الكلمات الخبيثات لا يتكلم بها إلا الخبيث من الرجال والنساء، والكلمات الطيبات لا يتكلم بها إلا الطيبون من الرجال والنساء. والثاني:
الكلمات الخبيثات إنما تلصق بالخبيثين من الرجال والنساء، فأما الطيبات والطيبون، فلا يصلح أن يقال في حقهم إلا الطيبات. والثالث: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال. والرابع: الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس، والخبيثون من الناس للخبيثات من الأعمال، وكذلك الطيبات وقوله تعالى: أُولئِكَ يعني: عائشة وصفوان مُبَرَّؤُنَ: منزهون مِمَّا يَقُولُونَ من الفرية لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ في الجنّة.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)
قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ.
(١) سورة النحل: ٨١.
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٢٩٥: وأولى هذه الأقوال في تأويل الآية: قول من قال: عنى بالخبيثات: الخبيثات من القول، وذلك قبيحه وسيئه، للخبيثين من الرجال والنساء والخبيثون من الناس للخبيثات من القول، هم بها أولى، لأنهم أهلها.
والطيبات من القول وذلك حسنه وجميله، للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول، لأنهم أهلها، وأحق بها.
287
(١٠٣٣) ذكر أهل التفسير أن سبب نزولها أن امرأة من الانصار جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله، إني اكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، فلا يزال يدخل علي رجل من أهلي، فنزلت هذه الآية فقال ابو بكر بعد نزولها: يا رسول الله، أفرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن، فنزل قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ الآية.
ومعنى قوله تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ أي: بيوتاً ليست لكم.
واختلف القراء في باء البيوت، فقرأ بعضهم بضمها، وبعضهم بكسرها. وقد بيّنّا ذلك في سورة البقرة «١».
قوله تعالى: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا قال الفراء: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: حتى تسلموا وتستأنسوا. قال الزّجّاج: و «تستأنسوا» في اللغة، بمعنى تستأذنوا، وكذلك هو في التفسير، والاستئذان:
الاستعلام، تقول: آذنته بكذا، أي: أعلمته، وآنست منه كذا، أي: علمت منه، ومثله: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً «٢» أي: علمتم. فمعنى الآية: حتى تستعلموا، يريد أهلها ان تدخلوا، ام لا؟ قال المفسرون: وصفة الاستعلام أن تقول: السلام عليكم، أأدخل؟ ولا يجوز أن تدخل بيت غيرك إلا بالاستئذان، لهذه الآية، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من أن تدخلوا بغير إذن لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أن الاستئذان خير فتأخذون به، قال عطاء: قلت لابن عباس: أستأذن على أمي وأختي ونحن في بيت واحد؟ قال: أيسرُّكَ أن ترى منهنّ عورة؟ قال: لا،. قال: فاستأذن.
قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً أي: إن وجدتموها خالية فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا أي: إن ردوكم فلا تقفوا على أبوابهم وتلازموها، هُوَ أَزْكى لَكُمْ يعني:
الرجوع خير لكم وأفضل وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الدخول باذن وغير إذن عَلِيمٌ.

فصل «٣» : وهل هذه الآية منسوخة، أم لا؟ فيها قولان: أحدهما: أن حكمها عام في جميع


ضعيف. أخرجه الواحدي ٦٣٨ من طريق الفريابي، والطبري ٢٥٩٢١ كلاهما عن أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت، وإسناده ضعيف لضعف أشعث بن سوار، ثم هو مرسل، عدي تابعي. وهو عند الطبري دون آخره، - وعند الواحدي قال: قال المفسّرون: فلما نزلت قال أبو بكر.. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٧٤٠ و «تفسير القرطبي» ٤٥١٣ كلاهما بتخريجنا.
__________
(١) عند الآية: ١٨٩.
(٢) سورة النساء: ٦.
(٣) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٤٧: هذه آداب شرعية، أدب الله بها عباده المؤمنين، وذلك في الاستئذان، أمر الله المؤمنين ألا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم حتى يستأنسوا، أي: يستأذنوا قبل الدخول، ويسلّموا بعده. وينبغي أن يستأذن ثلاثا، فإن أذن له وإلا انصرف، كما ثبت في الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إذا استأذن أحدكم ثلاثا، فلم يؤذن له، فلينصرف» ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل ألا يقف تلقاء الباب بوجهه، ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «لو أن امرءا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة، ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح». وقال مقاتل بن حيان في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها: كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه لا يسلّم عليه، ويقول: حييت صباحا وحييت مساء وكان ذلك تحية القوم بينهم، وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه فلا يستأذن حتى يقتحم ويقول: «قد دخلت» فيشق ذلك على الرجل، فغير الله ذلك كله، في ستر وعفة، وجعله نقيا نزها من الدنس والقذر والدرن، وهذا الذي قاله مقاتل حسن. ولهذا قال: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ يعني الاستئذان خير لكم، بمعنى هو خير للطرفين:
للمستأذن ولأهل البيت لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
288
البيوت، ثم نسخت منها البيوت التي ليس لها أهل يستأذنون بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ، هذا مروي عن الحسن، وعكرمة. والثاني: أن الآيتين محكمتان، فالاستئذان شرط في الأولى إذا كان للدار أهل، والثانية وردت في بيوت لا ساكن لها، والإذن لا يتصور من غير آذن، فاذا بطل الاستئذان، لم تكن البيوت الخالية داخلة في الأولى، وهذا أصح.
قوله تعالى: أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فيها خمسة اقوال «١» : أحدها: أنها الخانات والبيوت المبنية للسابلة ليأووا إليها، ويؤووا أمتعتهم، قاله قتادة. والثاني: أنها البيوت الخربة، والمتاع: قضاء الحاجة فيها من الغائط والبول، قاله عطاء. والثالث: أنها بيوت مكة، قاله محمد بن الحنفية. والرابع:
حوانيت التجار التي بالأسواق، قاله ابن زيد. والخامس: أنها جميع البيوت التي لا ساكن لها، لأن الاستئذان إنما جعل لأجل الساكن، قاله ابن جريج. فيخرّج في معنى «المتاع» ثلاثة أقوال: أحدها:
الأمتعة التي تباع وتشترى. والثاني: إلقاء الأذى من الغائط والبول. والثالث: الانتفاع بالبيوت لاتقاء الحرّ والبرد.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
قوله تعالى: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ في «من» قولان: أحدهما: أنها صلة. والثاني:
أنها أصل، لأنهم لم يؤمروا بالغض مطلقاً، وإنما أمروا بالغض عما لا يحلُّ.
وفي قوله تعالى: وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ قولان: أحدهما: عما لا يحل لهم، قاله الجمهور.
والثاني: عن أن تُرى، فهو أمر لهم بالاستتار، قاله أبو العالية، وابن زيد.
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٣٠١: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله عمّ بقوله لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ كل بيت لا ساكن فيه ولا مالك له، من بيت خراب قد باد أهله ولا ساكن فيه لمتاع له يؤويه إليه، أو لقضاء حقه.
وأما بيوت التجار، فإنه ليس لأحد دخولها إلا بإذن أربابها وسكانها، فإن ظن ظان أن التاجر إذا فتح دكانه وقعد للناس، فقد أذن لمن أراد الدخول عليه في دخوله، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن، وإن كان التاجر قد عرف منه أن فتحه حانوته إذن لمن أراد دخوله في الدخول، فذلك بعد راجع إلى ما قلنا. من أنه لم يدخله من دخله إلا بإذنه. فتبين أنه مما عنى الله من هذه الآية بمعزل.
289
قوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى الغض وحفظ الفروج أَزْكى لَهُمْ أي خير وأفضل إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ في الأبصار والفروج. ثم امر النساء بما امر به الرجال.
قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أي: لا يظهرنها لغير مَحْرَم. وزينتهن على ضربين: خفية كالسّوارين والقرطين والدّملج والقلائد ونحو ذلك، وظاهر وهي المشار إليها بقوله تعالى: إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها وفي سبعة أقوال «١» : أحدها: انها الثياب، رواه أبو الأحوص عن ابن مسعود وفي لفظ آخر قال هو الرداء. والثاني: أنها الأكفّ، والخاتم والوجه. والثالث: الكحل والخاتم، رواهما سعيد بن جبير عن ابن عباس. والرابع: القُلْبان، وهما السواران والخاتم والكحل، قاله المسور بن مخرمة. والخامس: الكحل والخاتم والخضاب، قاله مجاهد. والسادس: الخاتم والسوار، قاله الحسن. والسابع: الوجه والكفان، قاله الضحاك. قال القاضي أبو يعلى: والقول الاول أشبه، وقد نص عليه احمد، فقال: الزينة الظاهرة: الثياب، وكل شيء منها عورة حتى الظفر «٢»، ويفيد هذا تحريم النظر إلى شيء من الأجنبيات لغير عذر، مثل ان يريد أن يتزوجها أو يشهد عليها، فانه ينظر في الحالين إلى وجهها خاصّة فأما النّظر إليها لغير عذر، فلا يجوز لا لشهوة ولا لغيرها «٣»، وسواء في ذلك الوجه والكفان وغيرهما من البدن. فان قيل: فلم لا تبطل الصلاة بكشف وجهها؟! فالجواب: أن في تغطيته مشقة، فعفي عنه «٤».
(١) قال الطبري رحمه الله في في «تفسيره» : وأولى هذه الأقوال بالصواب: قول من قال: عني بذلك الوجه والكفان.
(٢) جاء في «المغني» ٢/ ٣٢٧- ٣٢٨: وقال بعض أصحابنا: المرأة كلها عورة، لأنه قد روي في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «المرأة عورة»، رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. لكن رخّص لها في كشف وجهها وكفيها، لما في تغطيته من المشقة، وأبيح النظر إليه لأجل الخطبة، لأنه مجمع المحاسن. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: المرأة كلها عورة حتى ظفرها لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم: «المرأة عورة».
وهذا عام يقتضي وجوب ستر جميع بدنها وترك الوجه للحاجة، ففيما عداه يبقى على الدليل. [.....]
(٣) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٩/ ٤٨٩: لا نعلم بين أهل العلم خلافا في إباحة النظر إلى المرأة لمن أراد نكاحها ولا خلاف في إباحة النظر إلى وجهها، وذلك لأنه ليس بعورة وهو مجمع المحاسن، وموضع النظر، ولا يباح له النظر إلى ما لا يظهر عادة. ولا بأس بالنظر إليها بإذنها أو غير إذنها، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا خطب أحدكم المرأة، فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها، فليفعل» وقد أمر بالنظر وأطلق. ولا يجوز له الخلوة بها، لأنها محرّمة، ولم يرد الشرع بغير النظر فبقيت على التحريم، ولأنه لا يؤمن مع الخلوة مواقعة المحظور، ولا ينظر إليها نظر تلذذ وشهوة، ولا لريبة، قال أحمد، في رواية صالح: ينظر إلى الوجه، ولا يكون عن طريق لذة. وله أن يردد النظر إليها، ويتأمل محاسنها، لأن المقصود لا يحصل إلا بذلك. فأما ما يظهر غالبا سوى الوجه، كالكفين والقدمين ونحو ذلك، مما تظهره المرأة في منزلها ففيه روايتان: إحداهما: لا يباح النظر إليه، لأنه عورة، فلم يبح النظر إليه كالذي لا يظهر ولأن الحاجة تندفع بالنظر إلى الوجه فيبقى ما عداه على التحريم. والثانية: له النظر إلى ذلك. وإلى ما يدعو إلى نكاحها، من يد أو جسم ونحو ذلك.
قال أبو بكر: لا بأس أن ينظر إليها عند الخطبة حاسرة. وقال الشافعي: فينظر إلى الوجه والكفين.
(٤) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٢/ ٣٢٨: لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشف وجهها في الصلاة ولا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم. وفي الكفين روايتان: إحداهما: يجوز كشفهما. وهو قول مالك والشافعي لقول ابن عباس قال، في قوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها قال: الوجه والكفين.
وقال أبو حنيفة: القدمان ليس من العورة لأنهما يظهران غالبا منها كالكفين والوجه. وإذا انكشف من المرأة أقل من ربع شعرها أو ربع فخذها أو ربع بطنها لم تبطل صلاتها. وأجمع أهل العلم على أن للمرأة الحرة أن تخمر رأسها إذا صلت، وعلى أنها إذا صلت وجميع رأسها مكشوف أن عليها الإعادة. والثانية: هما من العورة ويجب سترهما في الصلاة. وهذا قول الخرقي، ونحوه قال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي: من فقهاء التابعين بالمدينة وأحد الفقهاء السبعة، وكان يقال له: راهب قريش، توفي سنة ٩٤. انظر طبقات الفقهاء للشيرازي ٥٩، تهذيب التهذيب ١٢/ ٣٠- ٣٢.
290
قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ وهي جمع خِمار، وهو ما تغطى به المرأة رأسها، والمعنى:
وليُلْقِين مَقانِعَهن عَلى جُيُوبِهِنَّ ليسترن بذلك شعورهن وقرطهن وأعناقهن. وقرأ ابن مسعود، وأبي بن كعب، وإبراهيم النخعي، والأعمش: «على جِيوبهن» بكسر الجيم، وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ يعني:
الخفية، وقد سبق بيانها إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ قال ابن عباس: لا يضعن الجلباب والخمار إلا لأزواجهن.
قوله تعالى: أَوْ نِسائِهِنَّ يعني: المسلمات. قال أحمد: لا يحل للمسلمة ان تكشف راسها عند نساء أهل الذمة واليهودية والنصرانية لا تقبِّلان المسلمة «١».
قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ قال اصحابنا: المراد به: الإماء دون العبيد. وقال أصحاب الشّافعيّ: يدخل فيه العبيد، يجوز للمرأة عندهم أن تظهر لمملوكها ما تظهر لمحارمها، لأنّ مذهب الشّافعيّ رضي الله عنه أنه مَحْرم لها، وعندنا انه ليس بمحرم، ولا يجوز أن ينظر إلى غير وجهها وكفّيها، وقد نصّ أحمد على أنه لا يجوز أن ينظر إلى شعر مولاته. قال القاضي أبو يعلى: وإنما ذكر الإماء في الآية، لأنه قد يظن الظان أنه لا يجوز أن تبدي زينتها للإماء، لأن الذين تقدم ذكرهم احرار، فلما ذكر الإماء زال الإشكال.
قوله تعالى: أَوِ التَّابِعِينَ وهم الذين يتبعون القوم ويكونون معهم لإرفاقهم إياهم، او لأنهم تشؤوا فيهم. وللمفسرين في هذا التابع ستة اقوال: أحدها: أنه الأحمق الذي لا تشتهيه المرأة ولا يغار عليه الرجل، قاله قتادة، وكذلك قال مجاهد: هو الأبله الذي يريد الطعام ولا يريد النساء. والثاني: أنه العنين، قاله عكرمة. والثالث: المخنث، كان يتبع الرجل يخدمه بطعامه، ولا يستطيع غشيان النساء ولا يشتهيهن، قاله الحسن. والرابع: أنه الشيخ الفاني. والخامس: أنه الخادم، قالهما ابن السائب.
والسادس: أنه الذي لا يكترث بالنساء، إما لكبر أو لهرم أو لصغر، ذكره ابن المنادي من أصحابنا. قال الزجاج: «غير» صفة للتابعين. وفيه دليل على ان قوله: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ معناه: غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ فالمعنى: ولا يبدين زينتهن لمماليكهن، ولا لتُبَّاعِهن، إلا أن يكونوا غير أولي الإربة، والإربة: الحاجة، ومعناه: غير ذوي الحاجات إلى النساء «٢».
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٥٥: وقوله أَوْ نِسائِهِنَّ يعني: تظهر زينتها أيضا للنساء المسلمات دون نساء أهل الذمة، لئلا يصفن لرجالهن، وذلك وإن كان محذورا في جميع النساء، إلا أنه في نساء أهل الذمة أشد، فإنهن ما يمنعهن من ذلك مانع، فأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٥٥: في الصحيح من حديث الزهري عن عروة عن عائشة أن مخنثا كان يدخل على أهل رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة فدخل النبي صلى الله عليه وسلّم وهو ينعت امرأة: أنها إذا أقبلت بأربع وإذا أدبرت بثمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم ألا أرى هذا يعلم ها هنا، لا يدخلن عليكن فحجبوه، فكان بالبيداء يدخل كل جمعة يستطعم.
291
قوله تعالى: أَوِ الطِّفْلِ قال ابن قتيبة: يريد الأطفال، بدليل قوله تعالى: لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ أي: لم يعرفوها «١».
قوله تعالى: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ أي: باحدى الرجلين على الأخرى ليضرب الخلخال الخلخال فيعلم أنّ عليها خلخالين «٢».
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
قوله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى وهم الذين لا أزواج لهم من الرجال والنساء، يقال: رجل أيِّم وامرأة أيِّم، ورجل أرمل وامرأة أرملة، ورجل بِكر وامرأة بِكر: إِذا لم يتزوجا، وامرأة ثيِّب ورجل ثيِّب:
إِذا كانا قد تزوجا، وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ أي: من عبيدكم، يقال: عَبْد وعِبَاد وعَبِيد، كما يقال: كَلْب وكلاب وكليب. وقرأ الحسن، ومعاذ القارئ: «من عَبيدكم». قال المفسرون: والمراد بالآية الندب.
ومعنى الصّلاح ها هنا: الإِيمان. والمراد بالعباد: المملوكون، فالمعنى: زوِّجوا المؤمنين من عبيدكم وولائدكم. ثم رجع إِلى الأحرار فقال: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فأخبرهم أن النكاح سبب لنفي الفقر.
قوله تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أي: وليْطلب العِفَّة عن الزنا والحرام مَن لا يجد ما ينكح به من صداق ونفقة.
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٥٦: يعني لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم، وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن، فإذا كان الطفل صغيرا لا يفهم ذلك فلا بأس بدخوله على النساء، فأما إذا كان مراهقا أو قريبا منه بحيث يعرف ذلك ويدريه ويفرّق بين الشوهاء والحسناء، فلا يمكّن من الدخول على النساء.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله ٣/ ٣٥٦: كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوتها، ضربت برجلها الأرض فيسمع الرجال طنينه، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك وكذا إذا كان شيء من زينتها مستورا فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي، دخل في هذا النهي ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها فيشم الرجال طيبها.
وقوله وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: افعلوا ما أمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة، فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله وترك ما نهيا عنه، والله تعالى هو المستعان وعليه التكلان.
292
(١٠٣٤) وقد روى ابن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «يا معشر الشباب عليكم بالباءة، فمن لم يجد فعليه بالصيام فانه له وجاء».
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ أي: يطلبون المكاتبة من العبيد والإِماء على أنفسهم، فَكاتِبُوهُمْ فيه قولان: أحدهما: أنه مندوب إِليه، قاله الجمهور. والثاني: أنه واجب، قاله عطاء، وعمرو بن دينار. وذكر المفسرون: أنها نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزَّى يقال له: صبيح، سأل مولاه الكتابة فأبى عليه، فنزلت هذه الآية، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين ديناراً.
قوله تعالى: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً فيه ستة أقوال «١» : أحدها: إِن علمتم لهم مالاً، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء، والضحاك. والثاني: إِن علمتم لهم حيلة، يعني: الكسب، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أن علمتم فيهم ديناً، قاله الحسن. والرابع: إِن علمتم أنهم يريدون بذلك الخير، قاله سعيد بن جبير. والخامس: إِن أقاموا الصلاة، قاله عبيدة السلماني. والسادس: إِن علمتم لهم صدقاً ووفاءً، قاله إِبراهيم. قوله تعالى: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ فيه قولان «٢» :
أحدهما: أنه خطاب للأغنياء الذين تجب عليهم الزكاة، أُمروا ان يعطوا المكاتبين من سهم الرِّقاب، روى عطاء عن ابن عباس في هذه الآية قال: هو سهم الرقاب يُعطى منه المكاتَبون. والثاني: أنه خطاب للسادة، أُمروا أن يعطوا مكاتبيهم من كتابتهم شيئاً. قال أحمد والشافعي: الإِيتاء واجب، وقدَّره أحمد بربع مال الكتابة. وقال الشافعي: ليس بمقدَّر. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجب الإِيتاء: وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه كاتب غلاماً له يقال له: أبو أميّة، فجاء بنجمه حين حلَّ فقال: اذهب يا أبا أميّة فاستعن به في مكاتبتك، قال: يا أمير المؤمنين لو أخَّرْتَه حتى يكون في آخر النجوم، فقال: يا أبا أُمية:
إِني أخاف أن لا أدرك ذلك، ثم قرأ: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ، قال عكرمة: وكان ذلك أول نجم أُدِّي في الإِسلام.
قوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ.
(١٠٣٥) روى مسلم في «صحيحه» من حديث أبي سفيان عن جابر، قال: كان عبد الله بن أبيّ
صحيح. أخرجه البخاري ٥٠٦٦ ومسلم ١٤٠٠ ح ٣ و ٤ والترمذي ١٠٨١ والنسائي ٤/ ١٦٩ و ٢٧٠ و ٦/ ٥٧ و ٥٨ وأحمد ١/ ٤٢٤ و ٤٢٥ و ٤٣٢ والدارمي ٢/ ١٣٢. والبيهقي ٧/ ٧٧ من طرق عن الأعمش به. وأخرجه البخاري ١٩٠٥ و ٥٠٦٥ ومسلم ١٤٠٠ وأبو داود ٢٠٤٦ وابن ماجة ١٨٤٥ والنسائي ٤/ ١٧١ و ٦/ ٥٧ و ٥٨ وأحمد ١/ ٣٧٨ و ٤٤٧ والطيالسي ١٩٠٥ وأبو يعلى ٥١١٠ و ٥١٩٢ والبيهقي ٧/ ٧٧ من طرق عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود به. وورد من حديث أبي هريرة عند الواحدي في «الوسيط» ٣/ ٣١٨.
حديث صحيح. أخرجه مسلم ٣٠٢٩ وأبو داود ٢٣١١ والنسائي في «التفسير» ٣٨٥ والطبري ٢٦٠٧٢ و ٢٦٠٧٣ والواحدي في «الأسباب» ٦٤٠ واستدركه الحاكم ٢/ ٣٩٧ كلهم عن جابر: أن جارية لعبد الله بن أبي ابن سلول يقال لها مسيكة، وأخرى يقال لها: أميمة، فكان يكرههما على الزنا، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلّم: فأنزل الله وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ- إلى قوله- غَفُورٌ رَحِيمٌ. لفظ مسلم في روايته الثانية، ورووه بألفاظ متقاربة بمثل سياق المصنف. وانظر «أحكام القرآن» ١٦٠٢ بتخريجنا.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٣١٥: وأولى هذه الأقوال في معنى ذلك عندي قول من قال: معناه:
فكاتبوهم إن علمتم فيهم القوة على الاحتراف والاكتساب، ووفاء بما أوجب على نفسه وألزمها، وصدق لهجة. وذلك أن هذه المعاني هي الأسباب التي بمولى العبد الحاجة إليها إذا كاتب عبده مما يكون في العبد، فأما المال فلا يكون في العبد، وإنما يكون عنده وله.
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٣١٧: وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي: قول من قال: عنى به إتياءهم سهمهم من الصدقة المفروضة.
293
يقول لجارية له: اذهبي فابغينا شيئاً، فنزلت هذه الآية.
(١٠٣٦) قال المفسرون: وكان له جاريتان، مُعاذة ومُسَيكة، فكان يكرههما على الزنا، ويأخذ منهما الضريبة، وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية، يؤاجرون إِماءهم، فلما جاء الإِسلام قالت معاذة لمسيكة: إِن هذا الأمر الذي نحن فيه إِن كان خيراً فقد استكثرنا منه، وإِن كان شرّاً فقد آن لنا أن نَدَعه، فنزلت هذه الآية. وزعم مقاتل أنها نزلت في ست جوارٍ كُنَّ لعبد الله بن أُبيّ، مُعاذة، ومُسَيكة، وأُميمة، وقُتيلة، وعمرة، وأروى «١».
فأما الفتيات، فهن الإِماء. والبِغاء: الزنا. والتحصن: التعفف. واختلفوا في معنى إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً على أربعة أقوال: أحدها: أن الكلام ورد على سبب، وهو الذي ذكرناه، فخرج النهي عن صفة السبب، وإِن لم يكن شرطاً فيه. والثاني: إِنه إِنما شرط إِرادة التحصُّن، لأن الإِكراه لا يُتَصور إِلا عند إِرادة التحصُّن، فأما إِذا لم ترد المرأة التحصُّن، فانها تبغي بالطبع. والثالث: أن «إِنْ» بمعنى «إِذ»، ومثله: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «٢» وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «٣». والرابع:
أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: «وأنكحوا الأيامى» إِلى قوله: «وإِمائكم» «إِن أردن تحصناً» ولا تُكرهوا فتياتكم على البغاء لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وهو كسبهن وبيع أولادهن وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ للمُكْرَهات رَحِيمٌ وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني، وجعفر بن محمد:
«من بعد إِكراههن لهن غفور رحيم».
قوله تعالى: آياتٍ مُبَيِّناتٍ قرأ ابن عامر، وأهل الكوفة غير أبي بكر، وأبان: «مبيِّنات» بكسر الياء في الموضعين في هذه السّورة «٤» وآخر سورة الطلاق «٥».
قوله تعالى: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا أي: شَبَهاً من حالهم بحالكم أيها المكذِّبون، وهذا تخويف لهم أن يلحقهم ما لحق المكذّبين قبلهم.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٥]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥)
ذكره الواحدي في «الأسباب» بإثر حديث ٦٤٣ بقوله: قال المفسّرون. وورد نحوه من مرسل عكرمة، أخرجه الطبري ٢٦٠٧٥. وانظر ما قبله.
__________
(١) تفرد مقاتل بذكر أسماء النساء الستة، ومقاتل ساقط، ليس بشيء.
(٢) سورة البقرة: ٢٧٨.
(٣) سورة آل عمران: ١٣٩.
(٤) سورة النور: ٣٤ و ٤٦.
(٥) سورة الطلاق: ١١.
294
قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيه قولان «١» : أحدهما: هادي أهل السموات والأرض، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال أنس بن مالك، وبيان هذا أن النُّور في اللغة: الضياء، وهو الذي تصل به الأبصار إلى مُبْصَراتها، فورد النُّور مضافاً إِلى الله تعالى، لأنه هو الذي يَهْدي المؤمنين ويبيِّن لهم ما يهتدون به. فالخلائق بنوره يهتدون. والثاني: مدبِّر السموات والأرض، قاله مجاهد، والزّجّاج. وقرأ أُبيُّ بن كعب، وأبو المتوكل، وابن السميفع: «اللهُ نَوَّرَ» بفتح النون والواو وتشديدها ونصب الراء «السمواتِ» بالخفض «والأرضَ» بالنصب.
قوله تعالى: مَثَلُ نُورِهِ في هاء الكناية أربعة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى الله عزّ وجلّ، قال ابن عباس: مَثَلُ هُدَاه في قلب المؤمن. والثاني: أنها ترجع إِلى المؤمن، فتقديره: مثل نور المؤمن، قاله أبيّ بن كعب. وكان أُبيّ وابن مسعود يقرآن: «مثل نور المؤمنين». والثالث: أنها ترجع إلى محمّد صلى الله عليه وسلّم، قاله كعب. والرابع: أنها ترجع إِلى القرآن، قاله سفيان.
فأما المشكاة، ففيها ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: أنها في موضع الفتيلة من القنديل الذي هو كالأنبوب، والمصباح: الضوء، قاله ابن عباس. والثاني: أنها القنديل، والمصباح: الفتيلة، قاله مجاهد. والثالث: أنها الكوّة التي لا منفذ لها، والمصباح: السراج، قاله كعب، وكذلك قال الفراء:
المشكاة: الكوّة التي ليست بنافذة. وقال ابن قتيبة: المشكاة: الكوّة بلسان الحبشة. وقال الزجاج: هي من كلام العرب، والمصباح: السراج. وإِنما ذكر الزُّجاجة، لأن النُّور في الزُّجاج أشد ضوءاً منه في غيره. وقرأ أبو رجاء العطاردي، وابن أبي عبلة: «في زَجاجة الزّجاجة» بفتح الزاء فيهما. وقرأ معاذ القارئ، وعاصم الجحدريّ، وابن يعمر: بكسر الزاء فيهما. وقال بعض أهل المعاني: معنى الآية:
كمَثَل مصباح في مشكاة، فهو من المقلوب.
فأما الدُّرِّيّ، فقرأ أبو عمرو، والكسائي وأبان عن عاصم «دِرِّيءٌ» بكسر الدال وتخفيف الياء ممدوداً مهموزاً. قال ابن قتيبة: المعنى على هذا: إِنه من الكواكب الدّراريء، وهي اللاتي يدرأن
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٣٢٠: يعني هادي من في السماوات والأرض، فهم بنوره إلى الحق يهتدون وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون. وإنما اخترنا القول الذي اخترنا، لأنه عقيب قوله وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ فكان ذلك بأن يكون خبرا عن موقع يقع تنزيله من خلقه ومن مدح ما ابتدأ بذكر مدحه أولى وأشبه.
فتأويل الكلام: ولقد أنزلنا إليكم أيها الناس، آيات مبينات الحق من الباطل، وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ فهديناكم بها، وبينا لكم معالم دينكم بها، لأني هادي أهل السماوات والأرض. [.....]
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٣٢٥: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال ذلك مثل ضربه الله للقرآن في قلب أهل الإيمان به. مثل المشكاة وهي عمود القنديل الذي فيه الفتيلة. وذلك نظير الكوة تكون في الحيطان لا منفذ لها. ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٦١ فقال: وتقديره: شبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى، وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه- كما قال تعالى: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري، وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل، الذي لا كدر فيه ولا انحراف. فقوله كَمِشْكاةٍ هو موضع الفتيلة من القنديل. هذا هو المشهور ولهذا قال بعده: فِيها مِصْباحٌ وهو الذّبالة التي تضيء. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ أي: هذا الضوء مشرق في زجاجة صافية.
295
عليك، أي: يطلعن. وقال الزّجّاج: هذا مأخوذ من درأ يدرأ: إِذا اندفع منقضّاً فتضاعف نوره، يقال:
تدارأ الرجلان: إِذا تدافعا. وروى المفضَّل عن عاصم كسر الدال وتشديد الياء من غير همز ولا مدٍّ، وهي قراءة عبد الله بن عمرو، والزهري. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم «دُرِّيٌّ» بضم الدال وكسر الراء وتشديد الياء من غير مدٍّ ولا همز، وقرأ عثمان بن عفان، وابن عباس، وعاصم الجحدري: «دَرِيءُ» بفتح الدال وكسر الراء ممدودا مهموزا. وقرأ أبيّ بن كعب، وسعيد بن المسيب، وقتادة: بفتح الدال وتشديد الراء والياء من غير مدٍّ ولا همز. وقرأ ابن مسعود، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، وابن يعمر: بفتح الدال وكسر الراء مهموزا مقصورا. قال الزّجّاج: والدّرّيء:
منسوب إِلى أنه كالدُّرّ في صفائه وحسنه. وقال الكسائيّ: الدّرّيّء: يشبه الدّرّ، والدّرّيء: جار، والدّرّء: يلتمع، وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم، والوليد بن عتبة عن ابن عامر: بضم الدال وتخفيف الياء مع إِثبات الهمزة والمدِّ، قال الزّجّاج: والنّحويون أجمعون لا يعرفون الوجه في هذا وقال الفراء:
ليس هذا بجائز في العربية، لأنه ليس في الكلام «فُعِّيل» إِلا أعجمي، مثل: مُرِّيق، وما أشبهه. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي: المُرّيق: العُصْفُر، أعجمي معرَّب، وليس في كلامهم اسم على زِنة فُعِّيْل. قال أبو علي: وقد حكى سيبويه عن أبي الخطّاب: كوكب دُرِّيء: من الصفات، ومن الأسماء:
المُرِّيق: العُصْفر.
قوله تعالى: «تَوَقَّدَ» قرأ ابن كثير. وأبو عمرو: بالتاء المفتوحة وتشديد القاف ونصب الدَّال، يريدان المصباح، لأنه هو الذي يوقد. وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: يُوقَدُ بالياء مضمومة مع ضم الدال، يريدون المصباح أيضاً. وقرأ حمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «تُوقَد» بضم التاء والدال، يريدون الزجاجة، قال الزجاج: والمقصود: مصباح الزجاجة، فحذف المضاف.
قوله تعالى: مِنْ شَجَرَةٍ أي: من زيت شجرة، فحذف المضاف، يدلُّك على ذلك قوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ والمراد بالشجرة ها هنا: شجرة الزيتون، وبَرَكَتُها من وجوه، فانها تجمع الأدم والدّهن والوقود، فيوقد بخطب الزيتون، ويُغسَل برمادة الإِبريسم، ويُستخرج دُهنه أسهل استخراج، ويورِق غصنه من أوله إِلى آخره. وإنما خصّت بالذّكر ها هنا دون غيرها، لأن دُهنها أصفى وأضوأ. قوله تعالى: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بين الشجر، فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس، قاله أبيّ بن كعب، ورواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنها في الصحراء لا يُظِلُّها جبل ولا كهف، ولا يواريها شيء، فهو أجود لزيتها، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والزجاج. والثالث: أنها من شجر الجنّة، لا من شجر الدُّنيا، قاله الحسن. قوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ أي: يكاد من صفائه يُضيء قبل أن تصيبه النار بأن يوقد به. نُورٌ عَلى نُورٍ قال مجاهد: النار على الزيت. وقال ابن السائب: المصباح نور، والزجاجة نور. وقال أبو سليمان الدمشقي: نور النار، ونور الزيت، ونور الزجاجة، يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ فيه أربعة أقوال: أحدها: لنور القرآن. والثاني: لنور الإيمان. والثالث: لنور محمّد صلى الله عليه وسلّم. والرابع: لدينه الإِسلام.

فصل


: فأما وجه هذا المَثَل ففيه ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أنه شبَّه نور محمّد صلى الله عليه وسلّم بالمصباح النّير
(١) تقدم الكلام على أولى الأقوال بالصواب.
296
فالمشكاة جوف رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والمصباح النور الذي في قلبه، والزجاجة قلبه، فهو من شجرة مباركة، وهو إِبراهيم عليه السلام، سماه شجرة مباركة، لأن أكثر الأنبياء من صلبه «لا شرقية ولا غربية» لا يهوديّ ولا نصرانيّ، يكاد محمّد صلى الله عليه وسلّم يتبيَّن للناس أنه نبيٌّ ولو لم يتكلَّم. وقال القرظي: المشكاة:
إِبراهيم، والزجاجة: إِسماعيل، والمصباح: محمّد، صلوات الله عليهم أجمعين. وقال الضحاك: شبّه عبد المطلب بالمشكاة، وعبد الله بالزّجاجة، ومحمّدا صلى الله عليه وسلّم بالمصباح. والثاني: أنه شبّه نور الإِيمان في قلب المؤمن بالمصباح، فالمشكاة: قلبه، والمصباح: نور الإِيمان فيه. وقيل: المشكاة: صدره، والمصباح: القرآن والإِيمان اللَّذان في صدره، والزجاجة: قلبه، فكأنه مما فيه من القرآن والإِيمان كوكب مضيء تَوَقَّد من شجرة، وهي الإِخلاص، فمثل الإِخلاص عنده كشجرة لا تصيبها الشمس، فكذلك هذا المؤمن قد احترس من أن تصيبه الفتن، فان أُعطي شكر، وإِن ابتُلي صبر، وإِن قال صدق، وإِن حكم عدل، فقلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيَه العلم، فاذا جاءه العلم ازداد هدىً على هدىً كما يكاد هذا الزيت يضيء قبل أن تمسَّه النار، فاذا مسَّته اشتد نُوره، فالمؤمن كلامه نُور، وعمله نُور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إِلى نور يوم القيامة. والثالث: أنه شبّه القرآن بالمصباح يُستضَاء به ولا ينقص، والزجاجة: قلب المؤمن، والمشكاة: لسانه وفمه، والشجرة المباركة: شجرة الوحي، تكاد حُجج القرآن تتضح وإن لم يقرأ. وقيل: تكادُ حجج الله تضيء لمن فكَّر فيها وتدبَّرها ولو لم ينزل القرآن، نُورٌ عَلى نُورٍ أي: القرآن نُور من الله لخلقه «١» مع ما قد قام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن.
قوله تعالى: وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ أي: ويبيِّن الله الأشباه للناس تقريباً إِلى الأفهام وتسهيلا لسبل الإدراك.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨)
قوله تعالى: فِي بُيُوتٍ قال الزجاج: فِي مِن صلةِ قوله: كَمِشْكاةٍ، فالمعنى: كمشكاة في بيوت ويجوز أن تكون متصلة بقوله: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها فتكون فيها تكريراً على التوكيد والمعنى: يسبِّح لله رجال في بيوت. فان قيل: المشكاة إِنما تكون في بيت واحد، فكيف قال: «في بيوت» ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه من الخطاب المتلوِّن الذي يُفتح بالتوحيد ويُختم بالجمع، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ «٢». والثاني: أنه راجع إِلى كل واحد من البيوت، فالمعنى: في كل بيت مشكاة.
وللمفسرين في المراد بالبيوت ها هنا ثلاثة أقوال «٣» : أحدها: أنها المساجد، قاله ابن عباس،
(١) وإنما يستجيب له من نوّر الله قلبه، وهداه إلى صراطه المستقيم.
(٢) سورة الطلاق: ١.
(٣) قال الطبري رحمه الله ٩/ ٣٢٩: ذلك المصباح في بيوت أذن الله أن ترفع، وعني بالبيوت المساجد وإنما اخترنا هذا القول لدلالة قوله يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ على أنها بيوت بنيت للصلاة، وهي المساجد. ووافقه ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٦٤، وقال: لما ضرب الله مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقد من زيت طيب، وذلك كالقنديل مثلا، ذكر محلها وهي المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض، وهي بيوته التي يعبد فيها ويوحد.
297
والجمهور. والثاني: بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قاله مجاهد. والثالث: بيت المقدس، قاله الحسن.
فأما أَذِنَ فمعناه: أَمَر. وفي معنى أَنْ تُرْفَعَ قولان: أحدهما: أن تعظَّم، قاله الحسن، والضحاك. والثاني: أن تُبْنَى، قاله مجاهد، وقتادة.
وفي قوله تعالى: وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ قولان: أحدهما: توحيده رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: يُتلى فيها كتابُه، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
قوله تعالى: يُسَبِّحُ قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «يُسَبِّح» بكسر الباء وقرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: بفتحها. وقرأ معاذ القارئ، وأبو حيوة: «تُسَبِّحُ» بتاء مرفوعة وكسر الباء ورفع الحاء. وفي قوله تعالى: يُسَبِّحُ لَهُ فِيها قولان:
أحدهما: أنه الصلاة. ثم في صلاة الغُدُوِّ قولان: احدهما: أنها صلاة الفجر، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: صلاة الضحى، روى ابن أبي مُلَيكة عن ابن عباس قال: إِن صلاة الضحى لفي كتاب الله، وما يغوص عليها إلّا غوّاص، ثم قرأ «يُسَبِّح له فيها بالغدوّ والآصال». وفي صلاة الآصال قولان: أحدهما: أنها صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، قاله ابن السائب. والثاني: صلاة العصر، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والقول الثاني: أنه التسبيح المعروف، ذكره بعض المفسرين.
قوله تعالى: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ أي: لا تَشْغَلُهم «١» تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ قال ابن السائب: التُّجَّار:
الجلاّبون، والباعة: المقيمون. وقال الواقدي: التّجارة ها هنا بمعنى الشراء. وفي المراد بذِكْر الله ثلاثة أقوال: أحدها: الصلاة المكتوبة، قاله ابن عباس، وعطاء، وروى سالم عن ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر: فيهم نزلت «رجال لا تُلهيهم تجارة ولا بيع عن ذِكْر الله». والثاني: عن القيام بحق الله، قاله قتادة. والثالث: عن ذِكْر الله باللسان، ذكره أبو سليمان الدّمشقي.
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٦٧: فقوله رِجالٌ فيه إشعار بهممهم السامية ونياتهم وعزائمهم العالية، التي صاروا عمارا للمساجد، التي هي بيوت الله في أرضه، ومواطن عبادته وشكره، وتوحيده وتنزيهه. وقوله: لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، كقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فمعنى قوله تعالى: لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها، وملاذ بيعها وربحها، عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم، لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق، فيقدمون طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم. فأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن. قال: هذا ويجوز لها شهود جماعة الرجال بشرط أن لا تؤذي أحدا من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب.
298
قوله تعالى: وَإِقامِ الصَّلاةِ أي: أداؤها لوقتها وإِتمامها. فان قيل: إِذا كان المراد بذِكْر الله الصلاة، فما معنى إِعادتها؟ فالجواب: أنه بيَّن أنهم يقيمونها بأدائها في وقتها.
قوله تعالى: تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ في معناه ثلاثة أقوال: أحدها: أن من كان قلبه مؤمنا بالبعث والنشور، ازداد بصيرة برؤية ما وُعِد به ومن كان قلبه على غير ذلك، رأى ما يوقِن معه بأمر القيامة، قاله الزجاج. والثاني: أن القلوب تتقلَّب بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك، والأبصار تتقلَّب، تنظر من أين يؤتَون كتبهم، أَمِنْ قِبَل اليمين، أم مِنْ قِبَل الشمال؟ وأي ناحية يؤخذ بهم، أذات اليمين، أم ذات الشمال؟ قاله ابن جرير. والثالث: تتقلَّب القلوب فتبلغ إِلى الحناجر، وتتقلَّب الأبصار إِلى الزَّرَق بعد الكَحَل والعمى بَعْدَ النَّظر.
قوله تعالى: لِيَجْزِيَهُمُ المعنى: يسبِّحون الله ليَجزيَهم أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي: ليجزيهم بحسناتهم. فأما مساوئهم فلا يجزيهم بها وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ما لم يستحقُّوه بأعمالهم وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ قد شرحناه في آل عمران «١».
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
ثم ضرب الله مثلاً للكفار فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ قال ابن قتيبة: السراب: ما رأيته من الشمس كالماء نصف النهار، والآل «٢» : ما رأيته في أول النهار وآخره، وهو يرفع كل شيء، والقِيعة والقاع واحد. وقرأ أبيّ بن كعب، وعاصم الجحدري، وابن السميفع: «بِقِيعات». وقال الزجاج: القيعة جمع قاع، مثل جارٍ وجيرة، والقيعة والقاع: ما انبسط من الأرض ولم يكن فيه نبات، فالذي يسير فيه يرى كأن فيه ماءً يجري، وذلك هو السراب، والآل مثل السراب، إِلا أنه يرتفع وقت الضحى، كالماء، بين السماء والأرض يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ وهو الشديد العطش ماءً، حتى إِذا جاء إٍلى موضع السراب رأى أرضاً لا ماء فيها، فأعلم الله أن الكافر الذي يظن أن عمله قد نفعه عند الله، كظن الذي يظن السراب ماءً، وعملُه قد حبط.
قوله تعالى: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ أي: قَدِم على الله فَوَفَّاهُ حِسابَهُ أي: جازاه بعمله وهذا في الظاهر خبر عن الظمآن، والمراد به الخبر عن الكافر.
قوله تعالى: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ مفسّر في سورة البقرة «٣» :
(١) سورة آل عمران: ٢٧.
(٢) في «اللسان» الآل: السراب وقال الأصمعي: الآل والسراب واحد، وخالفه غيره فقال: الآل من الضحى إلى زوال الشمس، والسراب بعد الزوال إلى صلاة العصر، واحتجوا بأن الآل يرفع كل شيء حتى يصير آلا أي شخصا، والسراب الذي يجري على وجه الأرض كأنه الماء وهو نصف النهار.
(٣) سورة البقرة: ٢٠٢.
قوله تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ في هذا المثل قولان: أحدهما: أنه لعمل الكافر، قاله الجمهور، واختاره الزجاج. والثاني: أنه مَثَل لقلب الكافر في أنه لا يَعْقِل ولا يُبْصِر، قاله الفراء. فأما اللُّجِّيّ، فهو العظيم اللُّجَّة، وهو العميق. يَغْشاهُ أي: يعلو ذلك البحرَ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ أي: من فوق الموج موج، والمعنى: يتبع الموج موج، حتى كان بعضه فوق بعض، مِنْ فَوْقِهِ أي: من فوق ذلك الموج سَحابٌ. ثم ابتدأ فقال: ظُلُماتٌ يعني: ظلمة البحر، وظلمة الموج الأول، وظلمة الموج الذي فوق الموج، وظلمة السحاب. وقرأ ابن كثير، وابن محيصن: «سحابُ ظلماتٍ» مضافاً. إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ يعني: إِذا أخرجها مُخرِجٌ، لَمْ يَكَدْ يَراها فيه قولان: أحدهما: أنه لم يرها، قاله الحسن، واختاره الزجاج. قال: لأن في دون هذه الظلمات لا يرى الكفّ وكذلك قال ابن الأنباري: معناه: لم يرها البتَّة، لأنه قد قام الدليل عند وصف تكاثف الظلمات على أن الرؤية معدومة، فبان بهذا الكلام أن «يَكَد» زائدة للتوكيد، بمنزلة «ما» في قوله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ «١». والثاني: أنه لم يرها إِلا بعد الجهد، قاله المبرِّد. قال الفراء: وهذا كما تقول: ما كدت أبلغ إِليك، وقد بلغتَ، قال الفرّاء:
وهذا وجه العربية.

فصل:


وأما وجه المَثَل، فقال المفسرون: لمّا ضَرب اللهُ للمؤمن مَثَلاً بالنُّور، ضَرب للكافر هذا المثل بالظلمات والمعنى: أن الكافر في حيرة لا يهتدي لرشدٍ. وقيل: الظُّلمات: ظُلمة الشِّرك وظُلمة المعاصي. وقال بعضهم: ضربَ الظلمات مثلاً لعمله، والبحر اللُّجِّيّ لقلبه، والموج لِما يغشى قلبه من الشِّرك والجهل والحيرة، والسحاب للرَّيْن والخَتْم على قلبه، فكلامه ظُلمة، وعمله ظُلمة، ومدخله ظُلمة، ومخرجه ظُلمة، ومصيره إِلى الظُّلمات يوم القيامة.
قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فيه قولان: أحدهما: دِيناً وإِيماناً، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: هداية، قاله الزّجّاج.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قد تقدّم تفسيره «٢».
قوله تعالى: وَالطَّيْرُ أي: وتسبّح له الطّير صَافَّاتٍ أي: باسطات أجنحتها في الهواء. وإنّما خصّ الطّير بالذّكر، لأنها تكون بين السماء والأرض إذا طارت، فهي خارجة عن جملة من في السّموات والأرض. قوله تعالى: كُلٌّ أي: من الجملة التي ذكرها قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ قال المفسّرون: الصّلاة، لبني آدم، والتّسبيح، لغيرهم من الخلق. وفي المشار إليه بقوله: «قد علم» قولان: أحدهما: أنه الله تعالى، والمعنى: قد علم الله صلاة المصلّي وتسبيحه، قاله الزّجّاج.
والثاني: أنه المصلّي والمسبّح. ثم فيه قولان: أحدهما: قد علم المصلّي والمسبّح صلاة نفسه وتسبيحه، أي: قد عرف ما كلّف من ذلك. والثاني: قد علم المصلّي صلاة الله وتسبيحه، أي: علم
(١) سورة المؤمنون: ٤٠.
(٢) سورة البقرة: ٣٠.
أنّ ذلك لله تعالى وحده. وقرأ قتادة، وعاصم الجحدريّ، وابن يعمر: «كلّ قد علم» برفع العين وكسر اللام «صلاته وتسبيحه» بالرّفع فيهما.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً أي: يسوقه ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي: يضم بعضه إِلى بعض، فيجعل القِطَع المتفرِّقة قطعة واحدة. والسحاب لفظه لفظ الواحد، ومعناه الجمع، فلهذا قال: يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً أي: يجعل بعض السحاب فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ وهو المطر. قال الليث:
الوَدْقُ: المطر كُلُّه شديدُه وهيِّنُه. قوله تعالى: مِنْ خِلالِهِ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والضحاك: «من خَلَلهِ» والخِلال: جمع خَلَل، مثل: جبال وجبل. وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مفعول الإِنزال محذوف، تقديره: وينزِّل من السماء من جبال فيها من بَرَدٍ بَرَداً، فاستغنى عن ذكر المفعول للدلالة عليه. و «مِنْ» الأولى، لابتداء الغاية، لأن ابتداء الإِنزال من السماء، والثانية، للتبعيض، لأن الذي ينزله الله بعض تلك الجبال، والثالثة، لتبيين الجنس، لأن جنس تلك الجبال جنس البَرَد، قال المفسرون: وهي جبال في السماء مخلوقة من بَرَد. وقال الزجاج: معنى الكلام: وينزِّل من السماء من جبال بَرَد فيها، كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد، المعنى: هذا خاتم حديد في يدي. قوله تعالى: فَيُصِيبُ بِهِ أي: بالبَرَد مَنْ يَشاءُ فيضرُّه في زرعه وثمره. والسنا: الضوء، يَذْهَبُ وقرأ مجاهد، وأبو جعفر: «يُذْهِبُ» بضم الياء وكسر الهاء. يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي:
يأتي بهذا، ويذهب بهذا إِنَّ فِي ذلِكَ التّقليب لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ أي: دلالة لأهل البصائر والعقول على وحدانيّة الله وقدرته.
[سورة النور (٢٤) : آية ٤٥]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥)
قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ وقرأ حمزة، والكسائيّ: «والله خالق كلّ دابّة من ماء» وفي الماء قولان: أحدهما: أنّ الماء أصل كلّ دابّة. والثاني: أنه النّطفة، والمراد به: جميع الحيوان المشاهد في الدنيا. وإنما قال: «فمنهم» تغليبا لما يعقل. وإنما لم يذكر الذي يمشي على أكثر من أربع، لأنه في رأي العين كالذي يمشي على أربع، وقيل: لأنه يعتمد في المشي على أربع. وإنما سمّى السّائر على بطنه ماشيا، لأنّ كلّ سائر ومستمرّ يقال له: ماش وإن لم يكن حيوانا، حتّى إنه يقال: قد مشى هذا الأمر، هذا قول الزّجّاج. وقال أبو عبيدة: إنما هذا على سبيل التشبيه بالماشي، لأنّ المشي لا يكون على البطن، إنما يكون لمن له قوائم، فإذا خلطوا ما له قوائم بما لا قوائم له، جاز ذلك، كما يقولون:
أكلت خبزا ولبنا، ولا يقال: أكلت لبنا.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٦ الى ٥٢]
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠)
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢)
301
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ.
(١٠٣٧) قال المفسرون: نزلت في رجل من المنافقين يقال له: بشر كان بينه وبين يهوديّ حكومة، فدعا اليهوديّ المنافق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليحكم بينهما، فقال المنافق لليهودي: إِن محمداً يَحِيف علينا، ولكن بيني وبينك كعب بن الأشرف، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ يعني المنافقين مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي: من بعد قولهم: آمَنَّا وَما أُولئِكَ يعني المُعْرِضين عن حُكم الله ورسوله بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ أي: إِلى كتابه وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ الرسول إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ومعنى الكلام: أنهم كانوا يُعْرِضُون عن حكم الرسول عليهم، لعِلمهم أنَّه يحكُم بالحق وإِن كان الحق لهم على غيرهم، أسرعوا إِلى حكمه مذعنين، لثقتهم أنه يحكم لهم بالحق. قال الزجاج: والإِذعان في اللغة: الإِسراع مع الطاعة، تقول: قد أذعن لي، أي:
قد طاوعني لِما كنتُ ألتمسه منه. قوله تعالى: أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي: كفر أَمِ ارْتابُوا أي: شكُّوا في القرآن؟ وهذا استفهام ذمّ وتوبيخ، والمعنى: إِنهم كذلك، وإِنما ذكره بلفظ الاستفهام ليكون أبلغ في ذمِّهم، كما قال جرير في المدح:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ من ركب المطايا «١» أي: أنتم كذلك. فأما الحَيْف، فهو: المَيْل في الحكم يقال: حاف في قضيَّته، أي: جار بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي: لا يَظْلِمُ اللهُ ورسولُه أحداً، بل هم الظالمون لأنفسهم بالكفر والإِعراض عن حُكم الرسول.
ثم نعت المؤمنين، فقال: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ قال الفراء: ليس هذا بخبرٍ ماضٍ، وإِنما المعنى: إِنما كان ينبغي أن يكون قول المؤمنين إِذا دعوا أن يقولوا سمعنا. وقرأ الحسن، وأبو الجوزاء:
«إِنما كان قولُ المؤمنين» بضم اللام. وقرأ أبو جعفر، وعاصم الجحدري، وابن أبي عبلة: «ليحكم بينهم» برفع الياء وفتح الكاف. قال المفسّرون: والمعنى: سمعنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأطعنا أمره، وإِن كان ذلك فيما يكرهونه. قوله تعالى: وَيَخْشَ اللَّهَ أي: فيما مضى من ذنوبه وَيَتَّقْهِ فيما بعدُ أن يعصيه. وقرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وورش عن نافع: «ويتّقهي» موصولة بياء. وروى قالون
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٤٥ بدون إسناد، وتقدم في سورة النساء عند الآية: ٦٧ باستيفاء.
__________
(١) هو صدر بيت وعجزه: «وأندى العالمين بطون راح».
302
عن نافع: «ويَتَّقْهِ فأولئك» بكسر الهاء لا يبلغ بها الياء. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: «ويَتَّقِهْ» جزماً.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤)
قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ
قال المفسرون: لمّا نزل في هؤلاء المنافقين ما نزل من بيان كراهتهم لحكم الله، قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلّم: والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، فكيف لا نرضى حكمك؟! فنزلت هذه الآية. وقد بيَّنَّا معنى جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
«١»، لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ
من أموالهم وديارهم، وقيل: ليخرجُنّ إِلى الجهاد قُلْ لا تُقْسِمُوا
هذا تمام الكلام ثم قال: طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
قال الزجاج: المعنى: أَمْثَلُ من قَسَمِكم الذي لا تصدُقون فيه طاعةٌ معروفة. قال ابن قتيبة: وبعض النحويين يقول: الضمير فيها: لتكن منكم طاعة معروفة، أي: صحيحة لا نِفاق فيها. قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا هذا خطاب لهم، والمعنى: فان تتولَّوا، فحذف إِحدى التاءين، ومعنى التولِّي: الإِعراض عن طاعة الله ورسوله، فَإِنَّما عَلَيْهِ يعني: الرسول ما حُمِّلَ من التبليغ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ من الطاعة وذكر بعض المفسّرين أن هذا منسوخ بآية السيف، وليس بصحيح. قوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ يعني:
رسول الله صلى الله عليه وسلّم تَهْتَدُوا، وكان بعض السلف يقول: مَنْ أمَّر السُّنَّة على نفسه قولاً وفعلاً، نطق بالحكمة، ومن أمّر البدعة الهوى على نفسه قولاً وفعلاً، نطق بالبدعة، لقوله تعالى: وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦)
قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ.
(١٠٣٨) روى أبو عبد الله الحاكم في «صحيحه» من حديث أُبيّ بن كعب، قال: لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار، رمتْهم العرب عن قوس واحدة، كانوا لا يبيتون إلّا في
أخرجه الحاكم ٢/ ٤٠١ والطبراني في «الأوسط» ٧٠٢٥ والواحدي في «أسباب النزول» ٦٤٧ والبيهقي في «الدلائل» ٣/ ٦- ٧ من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب. وإسناده لين. مداره على علي بن حسين بن واقد، وهو لين الحديث، ضعفه أبو حاتم، وقال النسائي وغيره: ليس به بأس. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في «المجمع» ١١٢٣٧: رجاله ثقات اه. وانظر «أحكام القرآن» ١٦١٠.
__________
(١) سورة المائدة: ٥٣.
السلاح، ولا يصبحون إِلا في لأْمتهم، فقالوا: أترون أنّا نعيش حتى نَبيت آمنين مطمئنين لا نخاف إلّا الله عزّ وجلّ؟! فنزلت هذه الآية. قال أبو العالية: لمّا أظهر الله عزّ وجلّ رسوله على جزيرة العرب، وضعوا السلاح وأمنوا، ثم قبض الله نبيّه، فكانوا آمنين كذلك في إِمارة أبي بكر، وعمر، وعثمان، حتى وقعوا فيما وقعوا فيه وكفروا بالنعمة، فأدخل الله عزّ وجلّ عليهم الخوف فغيَّروا، فغيَّر الله تعالى ما بهم. وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن هذا الوعد وعده الله أُمَّة محمد في التوراة والإِنجيل.
(١٠٣٩) وزعم مقاتل أن كفار مكّة لمّا صدّوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم والمسلمين عن العُمرة عام الحديبية، قال المسلمون. لو أن الله تعالى فتح علينا مكّة، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ أي: ليجعلنَّهم يخلفُون مَنْ قَبْلهم، والمعنى: ليورثنَّهم أرض الكفار من العرب والعجم، فيجعلهم ملوكها وساستها وسكَّانها. وعلى قول مقاتل: المراد بالأرض مكة. قوله تعالى: كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وقرأ أبو بكر عن عاصم: «كما استُخلِف» بضم التاء وكسر اللام يعني: بني إِسرائيل، وذلك أنه لمّا هلكت الجبابرة بمصر، أورثهم الله أرضهم وديارهم وأموالهم. قوله تعالى: وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ وهو الإِسلام، وتمكينه: إِظهاره على كل دين، وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ وقرأ ابن كثير، وأبو بكر، وأبان، ويعقوب: «وَليُبْدِلَنَّهم» بسكون الباء وتخفيف الدال مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً لأنهم كانوا مظلومين مقهورين، مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً لأنهم كانوا مظلومين مقهورين، يَعْبُدُونَنِي هذا استئناف كلام في الثناء عليهم، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ بهذه النِّعم، أي: من جحد حقَّها. قال المفسرون: وأوّلُ من كفر بهذه النّعم قتله عثمان.
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٧]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قرأ ابن عامر، وحمزة وحفص، عن عاصم: «لا يَحْسَبَنَّ» بالياء وفتح السين. وقرأ الباقون بالتاء وكسر السين.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
قوله تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ في سبب نزولها قولان:
(١٠٤٠) أحدهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وجَّه غلاماً من الأنصار يقال له: مُدْلج بن عمرو إلى
عزاه المصنف لمقاتل، ومقاتل ساقط الرواية ليس بشيء.
لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٤٨ عن ابن عباس بدون إسناد. وقال الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» ٣/ ٢٥٣: هكذا نقله الثعلبي والواحدي والبغوي عن ابن عباس رضي الله عنهما بغير سند اه. فالخبر لا أصل له، يعني: لا إسناد له. وانظر «أحكام القرآن» ١٦٢١ بتخريجنا.
304
عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل فرأى عمر على حالة كره عمرُ رؤيتَه عليها، فقال: يا رسول الله، وددت له لو أنّ الله تعالى أمرنا ونهانا في حال الاستئذان، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(١٠٤١) والثاني: أن أسماء بنت مرثد كان لها غلام، فدخل عليها في وقت كرهته، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقالت: إِنَّ خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حالة نكرهها، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى الآية: ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم وفيهم قولان «١» : أحدهما: أنه أراد الذكور دون الإِناث، قاله ابن عمر. والثاني: الذكور والإِناث، رواه أبو حصين عن أبي عبد الرحمن. ومعنى الكلام: ليستأذنكم مماليككم في الدخول عليكم. قال القاضي أبو يعلى: والأظهر أن يكون المراد:
العبيد الصغار والإِماء الصغار، لأن العبد البالغ بمنزلة الحر البالغ في تحريم النظر إلى مولاته، فكيف يضاف إِلى الصبيان الذين هم غير مكلفين؟! قوله تعالى: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ وقرأ عبد الوارث: «الحُلْم» باسكان اللام مِنْكُمْ أي: من أحراركم من الرجال والنساء ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي: ثلاثة أوقات ثم بيَّنها فقال: مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وذلك لأن الإِنسان قد يَبِيت عُرياناً، أو على حالة لا يحب أن يُطَّلع عليه فيها وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أي: القائلة وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ حين يأوي الرجل إِلى زوجته، ثَلاثُ عَوْراتٍ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم: «ثلاثُ عورات» برفع الثاء من «ثلاث»، والمعنى: هذه الأوقات هي ثلاث عورات، لأن الإِنسان يضع فيها ثيابه، فربما بدت عورته. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: «ثلاثَ عورات» بنصب التاء قال أبو عليّ: جعلوه بدلاً من قوله: «ثلاثَ مَرَّات» والأوقات ليست عورات، ولكن المعنى: أنها أوقات ثلاث عورات، فلما حذف المضاف أعرب باعراب المحذوف. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وسعيد بن جبير والأعمش «عَوَرات» بفتح الواو لَيْسَ عَلَيْكُمْ يعني المؤمنين الأحرار وَلا عَلَيْهِمْ يعني الخدم والغلمان جُناحٌ أي: حرج بَعْدَهُنَّ أي بعد مُضي هذه الأوقات في أن لا يستأذنوا، فرفع الحرج عن الفرقين طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي: هم طوافون عليكم بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي: يطوف بعضكم وهم المماليك على بعض وهم الأحرار.
كذا ذكره الواحدي في «الأسباب» ٦٤٩ عن مقاتل بدون إسناد، وهذا معضل، وهو بدون إسناد.
__________
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٧٧: هذه الآيات اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض.
وما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال: الأول من قبل صلاة الغداة، لأن الناس إذ ذاك يكونون نياما في فرشهم وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ أي: وقت القيلولة، لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ لأنه وقت نوم فيؤمر الخدم والأطفال ألا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال، لما يخشى من أن يكون الرجل مع أهله، أو نحو ذلك من الأعمال. وإذا دخلوا في غير هذه الأحوال فلا جناح عليكم في تمكينكم إياهم من ذلك، وقد أذن لهم في الهجوم. [.....]
305

فصل:


وأكثر علماء المفسرين على أن هذه الآية محكمة، وممن روي عنه ذلك ابن عباس، والقاسم بن محمد، وجابر بن زيد، والشعبي. وحكي عن سعيد بن المسيب أنها منسوخة بقوله: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا والأول أصح، لأن معنى هذه الآية: وإِذا بلغ الأطفال منكم، أو من الأحرار الحلم، فَلْيَسْتَأْذِنُوا، أي: في جميع الأوقات في الدخول عليكم كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: كما استأذن الأحرار الكبار، الذين هم قبلهم في الوجود، وهم الذين أُمروا بالاستئذان على كل حال فالبالغ يستأذن في كل وقت، والطفل والمملوك يستأذنان في العورات الثلاث. قوله تعالى: وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ قال ابن قتيبة: يعني: العُجْزَ، واحدها: قاعدٌ، ويقال: إِنما قيل لها:
قاعدٌ، لقعودها عن الحيض والولد، وقد تقعد عن الحيض والولد ومِثْلُها يرجو النكاح، ولا أُراها سميتْ قاعداً إِلا بالقعُود، لأنها إِذا أسَنَّتْ عجزتْ عن التصرُّف وكثرة الحركة، وأطالت القعود، فقيل لها: «قاعد» بلا هاء، ليدلّ حذف الهاء على أنه قعود كِبَر، كما قالوا: «امرأةٌ حاملٌ»، ليدلُّوا بحذف الهاء على أنه حمل حَبَل، وقالوا في غير ذلك: قاعدةٌ في بيتها، وحاملةٌ على ظَهرها. قوله تعالى: أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أي: عند الرجال ويعني بالثياب: الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخِمار، هذا المراد بالثياب، لا جميع الثياب، غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي: من غير أن يُرِدْنَ بوضع الجِلباب أن تُرى زينتُهن والتبرُّج: إِظهار المرأة محاسنها، وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ فلا يَضَعْنَ تلك الثياب خَيْرٌ لَهُنَّ، قال ابن قتيبة: والعرب تقول: امرأةٌ واضعٌ: إِذا كبِرتْ فوضعت الخِمار، ولا يكون هذا إِلا في الهرِمة. قال القاضي أبو يعلى: وفي هذه الآية دلالة على أنه يُباح للعجوز كشف وجهها ويديها بين يدي الرجال، وأما شعرها، فيحرم النظر إليه كشعر الشابّة.
[سورة النور (٢٤) : آية ٦١]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ في سبب نزولها خمسة أقوال:
(١٠٤٢) أحدها: أنه لما نزل قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «١» تحرَّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزَّمنى والعُمْي والعُرْج، وقالوا: الطعام أفضل الأموال، وقد نهى الله تعالى عن أكل المال بالباطل، والأعمى لا يُبْصِر موضع الطعام الطيِّب، والمريض لا يستوفي الطعام، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
أخرجه الطبري ٢٦٢١٩ عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به، ورجاله ثقات إلا أنه منقطع بين علي وابن عباس. والراجح هو الآتي، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» ٣/ ٤٢١ بتخريجنا.
__________
(١) سورة النساء: ٢٩.
306
(١٠٤٣) والثاني: أن ناساً كانوا إِذا خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم إِذا احتاجوا، فكانوا يَتَّقون أن يأكُلوا منها، ويقولون: نخشى أن لا تكون أنفُسُهم بذلك طيِّبة، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن المسيب.
والثالث: أن العُرجان والعُميان كانوا يمتنعون عن مؤاكلة الأصحاء، لأن الناس يتقذَّرونهم، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير، والضحاك «١». والرابع: أن قوماً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم كانوا إِذا لم يكن عندهم ما يُطعمون المريض والزَّمِن، ذهبوا به إِلى بيوت آبائهم وأمّهاتهم وبعض من سمّى الله عزّ وجلّ في هذه الآية، فكان أهل الزمَّانَة يتحرَّجون من أكل ذلك الطعام لأنه أطعمهم غير مالكه، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد «٢». والخامس: أنها نزلت في إِسقاط الجهاد عن أهل الزمَّانَة المذكورين في الآية، قاله الحسن، وابن زيد «٣».
فعلى القول الأول يكون معنى الآية: ليس عليكم في الأعمى حرج أن تأكلوا معه، ولا في الأعرج، وتكون «على» بمعنى «في»، ذكره ابن جرير. وكذلك يخرَّج معنى الآية على كل قول بما يليق به. وقد كان جماعة من المفسرين يذهبون إلى أن آخر الكلام «ولا على المريض حرج» وأن ما بعده مستأنَف لا تعلُّق له به، وهو يقوِّي قول الحسن، وابن زيد.
قوله تعالى: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ فيه ثلاثة أقوال «٤» : أحدها: أنها بيوت الأولاد. والثاني:
البيوت التي يسكنونها وهم فيها عيال غيرهم، فيكون الخطاب لأهل الرجل وولده وخادمه ومَن يشتمل
حسن. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٦٥٣ من طريق مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب مرسلا، ومراسيل سعيد جياد. وله شاهد من مرسل عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أخرجه الطبري ٢٦٢٢٤. وله شاهد موصول عن عائشة رضي الله عنها، أخرجه البزار ٢٢٤١ «كشف». وقال الهيثمي في «المجمع» ١١٢٣٨/ ٧: رجاله رجال الصحيح.
- الخلاصة: مرسل سعيد مع مرسل عبيد الله إذا انضم إليهما الموصول رقى بهما إلى درجة الحسن في أقل تقدير، وهذا القول أرجح الأقوال، ومع ذلك باقي الأقوال لا تعارضه، بل تشهد لبعضه، والله أعلم.
__________
(١) أخرجه الطبري ٢٦٢٢٠ عن الضحاك مرسلا.
(٢) أخرجه الطبري ٢٦٢٢١ و ٢٦٢٢٢ عن مجاهد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، لكن هذه الروايات متقاربة، سواء ما تقدم أو ما يأتي. وانظر أحكام القرآن ٣/ ٤٢٠ بتخريجنا.
(٣) أخرجه الطبري ٢٦٢٢٥ عن عبد الرحمن بن زيد، وهذا معضل، وابن زيد واه، والصواب في ذلك الحديث ١٠٦٢.
(٤) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٣/ ٣٧٩: وقوله تعالى: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ إنما ذكر هذا، وهو معلوم، ليعطف عليه غيره في اللفظ، وليساوي به ما بعده في الحكم. وتضمن هذا بيوت الأبناء، لأنه لم ينصّ عليهم. ولهذا استدل من ذهب إلى أن مال الولد بمنزلة مال أبيه، وقد جاء في المسند والسنن، من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «أنت ومالك لأبيك»، وقوله أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ إلى قوله أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ هذا ظاهر، وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، كما هو مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل في المشهور عنهما.
307
عليه منزله، ونسبها إِليهم لأنهم سكّانها. والثالث: أنها بيوتهم، والمراد أكلُهم من مال عيالهم وأزواجهم، لأن بيت المرأة كبيت الرجل. وإِنما أباح الأكل من بيوت القرابات المذكورين، لجريان العادة ببذل طعامهم لهم فإن كان الطعام وراء حِرْزٍ، لم يجز هتك الحرز.
قوله تعالى: أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الوكيل، لا بأس أن يأكل اليسير، وهو معنى قول ابن عباس. وقرأها سعيد بن جبير، وأبو العالية: «ما مُلِّكْتُمْ» بضم الميم وتشديد اللام مع كسرها على ما لم يسمَّ فاعله، وفسَّرها سعيد فقال: يعني القهرمان الذي بيده المفاتيح. وقرأ أنس بن مالك، وقتادة، وابن يعمر: «مِفْتَاحَه» بكسر الميم على التوحيد. والثاني: بيت الإِنسان الذي يملكه، وهو معنى قول قتادة. والثالث: بيوت العبيد، قاله الضحاك.
قوله تعالى: أَوْ صَدِيقِكُمْ. قال ابن عباس:
(١٠٤٤) نزلت هذه في الحارث بن عمرو، خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم غازيا، وخلّف خالد بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهوداً، فقال: تحرَّجْتُ أن آكل من طعامك بغير إِذنك، فنزلت هذه الآية. وكان الحسن وقتادة يريان الأكل من طعام الصَّديق بغير استئذان جائزاً.
قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً في سبب نزول هذا ثلاثة أقوال «١» :
(١٠٤٥) أحدها: أن حيّاً من بني كنانة يقال لهم: بنو ليث كانوا يتحرَّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده، فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إِلى الرَّواح، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة والضحاك.
والثاني: أن قوماً من الأنصار كانوا لا يأكلون إِذا نزل بهم ضيف إِلا مع ضيفهم، فنزلت هذه الآية، ورخِّص لهم أن يأكلوا جميعاً أو أشتاتاً، قاله عكرمة «٢». والثالث: أن المسلمين كانوا يتحرَّجون من مؤاكلة أهل الضُّرِّ خوفاً من أن يستأثروا عليهم، ومن الاجتماع على الطعام، لاختلاف الناس في مآكلهم وزيادةِ بعضهم على بعض، فوسِّع عليهم، وقيل: «ليس عليكم جُناح أن تأكُلوا جميعاً» أي:
مجتمعين «أو أشتاتاً» أي: متفرِّقين، قاله ابن قتيبة.
ذكره السيوطي في «أسباب النزول» ٨٠٧ وقال: أخرجه الثعلبي في «تفسيره» عن ابن عباس، ولم أقف على إسناده، وتفرّد الثعلبي به دليل وهنه.
ضعيف. أخرجه الطبري ٢٦٢٣٧ عن قتادة مرسلا و ٢٦٢٣٥ عن الضحاك مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. ولا يصح في سبب نزول هذه الآية خبرا، وإنما ذكرت على سبيل الإرشاد والإباحة. وانظر «أحكام القرآن» ٣/ ٤٢٥ بتخريجنا.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٣٥٥: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله وضع الحرج عن المسلمين، أن يأكلوا جميعا معا إذا شاءوا، أو أشتاتا متفرقين إذا أرادوا، وجائز أن يكون ذلك نزل بسبب من كان يتخوف من الأغنياء الأكل مع الفقير وبسبب غير ذلك، ولا خبر بشيء من ذلك يقطع العذر، ولا دلالة في ظاهر التنزيل على حقيقة شيء منه. والصواب التسليم لما دل عليه ظاهر التنزيل، والتوقف فيما لم يكن على صحته دليل.
(٢) ضعيف. أخرجه الطبري ٢٦٢٣٨ عن عكرمة مرسلا، فهو ضعيف.
308
قوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فيها ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أنها بيوت أنفسكم، فسلِّموا على أهاليكم وعيالكم، قاله جابر بن عبد الله، وطاوس، وقتادة. والثاني: أنها المساجد، فسلِّموا على مَنْ فيها، قاله ابن عباس. والثالث: بيوت الغير، فالمعنى: إِذا دخلتم بيوت غيركم فسلِّموا عليهم، قاله الحسن. قوله تعالى: تَحِيَّةً قال الزجاج: هي منصوبة على المصدر، لأن قوله: فَسَلِّمُوا بمعنى: فحيُّوا وَلْيُحَيِّ بعضكم بعضاً تحيَّةً، مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قال مقاتل: مُبارَكَةً بالأجر، طَيِّبَةً أي: حسنة.
[سورة النور (٢٤) : آية ٦٢]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢)
قوله تعالى: وَإِذا كانُوا مَعَهُ يعني: مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم عَلى أَمْرٍ جامِعٍ أي: على أمر طاعة يجتمعون عليها، نحو الجهاد والجمعة والعيد ونحو ذلك لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ.
(١٠٤٦) قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِذا صَعِد المنبر يوم الجمعة، وأراد الرجل أن يخرج من المسجد لحاجة أو عذر، لم يخرج حتى يقوم بحيال رسول الله صلى الله عليه وسلّم حيث يراه، فيعرف أنه إِنما قام ليستأذن، فيأذن لمن شاء منهم، فالأمر إِليه في ذلك. قال مجاهد: وإِذن الإِمام يوم الجمعة أن يشير بيده.
قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ أي: لخروجهم عن الجماعة إِن رأيتَ لهم عذرا.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ فيه ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: أنه نهي عن التّعرّض
ذكره الواحدي في «الوسيط» ٣/ ٣٣١ نقلا عن المفسّرين، ولم أقف على إسناده فهو مما لا أصل له، والمراد في ذلك الجهاد، ويدخل في ذلك كل أمر جامع، لكن سياق الآيات وسباقها يشير إلى الجهاد.
وانظر تفسير الطبري ٢٦٢٥٧ و ٢٦٢٥٨ و ٢٦٢٥٩.
__________
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٣٥٨: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: قول من قال معناه: فإذا دخلتم بيوتا من بيوت المسلمين، فليسلم بعضكم على بعض. تَحِيَّةً بمعنى: تحيّون أنفسكم تحية من عند الله السلام تحية، فكأنه قال: فليحيي بعضكم بعضاً تحيَّةً من عند الله.
(٢) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ٩/ ٣٦٠: وأولى التأولين في ذلك بالصواب عندي التأويل الذي قاله ابن عباس، وذلك أن الذي قبل قوله لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً
نهي من الله المؤمنين. أن يأتوا من الانصراف عنه، في الأمر الذي يجمع جمعهم، ما يكرهه، والذي بعده وعيد للمنصرفين بغير إذنه عنه، فالذي بينهما بأن يكون تحذيرا لهم سخطه، أن يضطره إلى الدعاء عليهم، أشبه من أن يكون أمرا لهم بما لم يجر له ذكر من تعظيمه وتوقيره بالقول والدعاء.
309
لإسخاط رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فانه إِذا دعا على شخص فدعوتُه موجبة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم أُمروا أن يقولوا: يا رسول الله، ونُهوا أن يقولوا: يا محمّد، قاله سعيد بن جبير، وعلقمة، والأسود، وعكرمة، ومجاهد. والثالث: أنه نهي لهم عن الإِبطاء إِذا أمرهم والتأخّرِ إِذا دعاهم، حكاه الماوردي.
وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وأبو المتوكّل، ومعاذ القارئ: «دعاء الرسولِ نبِيِّكم» بياء مشددة ونون قبل الباء.
قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ التسلل: الخروج في خفية. واللِّواذ: أن يستتر بشيء مخافة مَن يراه. والمُراد بقوله «قد يَعْلَمُ» التهديدُ بالمجازاة. قال الفراء: كان المنافقون يشهدون الجمعة فيذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويعيبهم بالآيات التي أُنزلت فيهم، فإن خفي لأحدهم القيام قام، فذلك قوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً أي: يلوذ هذا بهذا، أي: يستتر ذا بذا. وإِنما يقال:
«لواذاً» لأنها مصدر «لاوَذْتُ»، ولو كان مصدراً ل «لذت» لقلت: لذت لياذا، كما يقال: قُمْتُ قِيَاماً.
وكذلك قال ثعلب: وقع البناء على لاوَذَ مُلاوَذةً، ولو بني على لاذ يَلُوذ، لقيل: لياذاً. وقيل: هذا كان في حفر الخندق، كان المنافقون ينصرفون عن غير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم مختفين. قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله عزّ وجلّ، قاله مجاهد.
والثاني: إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قاله قتادة. وفي «عن» قولان: أحدهما: أنها زائدة، قاله الاخفش.
والثاني: أن معنى «يخالفون» : يُعْرِضون عن أمره. وفي الفتنة ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: الضلالة، قاله ابن عباس. والثاني: بلاء في الدّنيا، قاله قاله مجاهد. والثالث: كفر، قاله السدي، ومقاتل.
قوله تعالى: أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فيه قولان: أحدهما: القتل في الدنيا. والثاني: عذاب جهنم في الآخرة. قوله تعالى: قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي: ما في أنفسكم، وما تنطوي عليه ضمائركم من الإِيمان والنفاق وهذا تنبيه على الجزاء على ذلك. والله أعلم بالصّواب.
310
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
وكان أبو أيوب الأنصاري حين أخبرته امرأته وذكر الحديث وفي إسناده عطاء الخراساني، وهو ضعيف.