تفسير سورة النّور

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة النور من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿وَفَرَضْنَاهَا﴾ أي فرضنا أحكامها ﴿وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ ظاهرات واضحات
﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾ قدم تعالى ذكر الزانية على الزاني: لأنها منشأ الجناية، ومبدأ الغواية فلو لم تطمع الزاني بلين كلامها، وتفتح له المجال بإشراق ابتسامها؛ وتخرجه عن طوره بإظهار محاسنها، وإبداء مفاتنها؛ وتمكنه - مع كل ذلك - بالاختلاء بها من غير محرم؛ لا ثالث لهما سوى الشيطان لولا ذلك لما اعتدى أحد على حرمتها، وأهدر كرامتها، وسلبها عزها وفخرها؛ وأخرجها من عداد العفائف الحرائر، إلى مصاف الزانيات الفواجر وجلد المائة: حكم غير المحصن «الأعزب» أما المحصن «المتزوج» فحده الرجم بالحجارة حتى الموت ومنهم من قال: يجلد المحصن والمحصنة مائة جلدة؛ ثم يرجم؛ على خلاف في ذلك. والاتفاق والإجماع على جلد غير المحصن، ورجم المحصن فحسب؛ وهل بعد الموت والتنكيل عبرة لمعتبر؟ (انظر آية ١٠٦ من سورة البقرة).
ويا لها من عدالة ظاهرة، وحكمة باهرة: ينتهك المسلم حرمة أخيه المسلم؛ فلا يجد قانوناً يردعه، ولا تشريعاً يمنعه؛ وذلك لأن القوانين الوضعية - في شتى بلدان العالم - قد أجمعت على ترك الزاني بلا رادع، ولا وازع؛ حتى تفشت بسبب ذلك الأمراض الخبيثة، وفتكت بالأجسام، وأطالت الأسقام؛ وما ذاك إلا لعدم تمسكنا بديننا الحنيف، وانصرافنا عن قانوننا السماوي؛ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (انظر آية ٣٢ من سورة الإسراء) ﴿وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ﴾ أي لا تأخذكم بهما شفقة حين ترون تألمهما من الجلد؛ فتجلدوهما جلداً هيناً ليناً - فما هكذا أرادالله؛ في تأديب عباده العصاة - بل الواجب شرعاً أن يجلدا بمنتهى الحزم والغلظة؛ ليكونا عبرة لغيرهما، ونكالاً لأمثالهما وكيف تأخذ الإنسان المسلم رأفة بمن لم تأخذه رأفة بأخيه المسلم؛ فانتهك حرمته، واستباح عرضه؟ بل انتهك حرمات الله تعالى، وطرح أوامره، ولم يعبأ بما أوعد به من عقاب وكيف تأخذ الإنسان المسلم
-[٤٢٣]- رأفة ﴿فِي دِينِ اللَّهِ﴾ وقد أمره بالجلد؛ وهو تعالى أحكم الحكماء، وأرحم الرحماء؛ ولأن الرحمة بالجاني: تحمل معنى عدم الرحمة بالمجنى عليه؛ سواء كان زوجاً، أو أباً، أو أخاً
﴿وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ﴾ جماعة ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ زيادة في فضيحتهما، والاعتبار بهما هذا ويجب أن يتقى في الجلد الوجه والمقاتل؛ والأصوب أن يكون الجلد على الظهر؛ بلا حائل من الملبس يحول دون العذاب المفروض
﴿الزَّانِي لاَ يَنكِحُ﴾ لا يتزوج ﴿إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾ أي أن الواجب ألا تزوج المسلمات العفيفات للزاني الفاجر، بل له أن يتزوج زانية مثله، أو مشركة تليق بشاكلته. ﴿وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ﴾ لا يتزوجها ﴿إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ﴾ أي يجب ألا يتزوج الحر العفيف زانية فاجرة وقد قال بعض الفقهاء بوجوب التفريق بين العفيفة إذا تزوجت بزان؛ لأنه غير كفء لها
﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ أي يقذفون العفائف المسلمات: بأن يرموهن بالزنا كيداً وظلماً ﴿وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً﴾ بعد أن ثبت فسقهم وزورهم؛ هذا ولا تقبل شهادتهم - ولو بعد توبتهم - للتأبيد الوارد في الآية «أبداً» أما قوله تعالى:
﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ﴾ فهو استثناء من قوله تعالى: ﴿وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ ولا يعمل الاستثناء فيما قبل ذلك؛ وإلا لتناول الجلد أيضاً؛ وهو حد من حدود الله تعالى؛ لا يسقط بالتوبة
﴿فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ وذلك بأن يقول أربع مرات: أشهد ب الله أني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي
﴿وَالْخَامِسَةَ﴾ أي يقول في الخامسة: عليّ لعنة الله تعالى إن كنت من الكاذبين
﴿وَيَدْرَؤُاْ﴾ يدفع ﴿عَنْهَا الْعَذَابَ﴾ الرجم الذي استحق عليها بشهادة زوجها ﴿أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ بأن تقول أربع مرات: أشهد ب الله أن زوجي لمن الكاذبين.
وتقول في الخامسة: وعليّ غضب الله تعالى إن كان من الصادقين وباللعان هذا تحصل الفرقة الأبدية بين الزوجين: فلا يحل أحدهما للآخر أبد الدهر؛ فلا يجتمعان. ولا يتوارثان. وكيف يمسكها وهي بغي؟ أو كيف ترضى به وقد رماها بأقبح ما ترمى به امرأة، وأسوأ ما ينسب إلى حليلة؟
﴿إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ﴾ الإفك: أسوأ الكذب؛ وقد كذبوا على أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، ورموها بما هي منه براء
-[٤٢٤]- ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ﴾ أي تحمل معظم الإثم، وخاض أكثر الخوض. والكبر: الإثم الكبير ومعظم الشيء. وقرىء «كبره» بضم الكاف. والمقصود به عبد الله ابن أُبيبن سلول، وقيل: حسانبن ثابت. ولكنه رضي الله تعالى عنه كذب ما أشيع عنه بقصيدة عصماء نفى بها ما أشيع وأذيع، وأثنى على عائشة رضي الله تعالى عنها بما هي أهل له قال فيها:
حصان رزان ما تزن بريبة
وتصبح غرثى من لحوم الغوافلحليلة خير الناس ديناً ومنصباً
نبي الهدى والمكرمات الفواضلمهذبة قد طيب الله خيمها
وطهرها من كل شين وباطل
﴿لَّوْلا﴾ هلا ﴿إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ أي إذ سمعتم الإفك ﴿ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ﴾ الذين سمعوا الإفك ﴿بِأَنْفُسِهِمْ﴾ أي بالمفترى عليها؛ لأن جميع المؤمنين: كالنفس الواحدة ﴿وَقَالُواْ هَذَآ﴾ الذي سمعناه ﴿إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ كذب واضح؛ والإفك: أسوأ الكذب
﴿لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ﴾ أي هلا جاء العصبة على هذا الإفك؛ وهو قذف صريح ﴿بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ﴾ يشهدون على صدق ما زعموا
﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ لكم بتأخير العقوبة في ﴿الآخِرَةَ﴾ بالغفران لمن تاب ﴿لَمَسَّكُمْ﴾ أيها العصبة ﴿فِي مَآ أَفَضْتُمْ﴾ فيما خضتم
﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾ أي تتلقونه؛ يؤيده قراءة من قرأ «تتلقونه» والمعنى: «تتلقونه» بأسماعكم؛ فتذيعونه «بألسنتكم» فور سماعه؛ فكأنما تلقيتموه بألسنتكم؛ لا بأسماعكم؛ لسرعة إذاعته. وقرىء «تلقونه» بكسر اللام؛ من الولق: وهو الاستمرار في الكذب ﴿وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾ وفي هذا دليل قاطع على النهي عن التكلم في الجنايات بالسماع؛ بل يجب أن يكون التكلم عن بينة واضحة، وعن رؤية مثبتة؛ فليست دماء الناس، وأموالهم، وأعراضهم؛ بمثل هذا القدر من الهوان ﴿وَتَحْسَبُونَهُ﴾ أي تحسبون هذا الرمي
-[٤٢٥]- والقذف ﴿هَيِّناً﴾ سهلاً ﴿وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ﴾ مستوجب للحد والمقت
﴿وَلَوْلا﴾ وهلا ﴿إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ﴾ ما يصح ولا يجوز لنا ﴿أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا﴾ أن نتهم أحداً ظلماً؛ بغير دليل ولا بينة
﴿سُبْحَانَكَ﴾ يا ألله؛ تنزهت وتعاليت عن كل قبيح ﴿هَذَا بُهْتَانٌ﴾ زور وباطل ﴿عَظِيمٌ﴾ كبير
﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ﴾ ينهاكم ﴿أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ﴾ أن تقعوا فيما وقعتم فيه
﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ﴾ أن تذيع ظلماً وزوراً وبهتاناً ﴿فِي الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ وليس معنى ذلك أن يتستر الإنسان على ما ظهر من الفواحش وبدا للعيان؛ فذلك واجب المنع بكل لسان، والمحاربة بكل سنان؛ وهو يدخل في باب تغيير المنكر؛ الذي هو إحدى مراتب الإيمان وهذا بعيد كل البعد عمن يتسقط النبأ، فيذيعه على الملأ؛ فأولئك ﴿لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا﴾ بالجلد، والخزي، وسقوط العدالة، وعدم قبول الشهادة ﴿وَالآخِرَةِ﴾ بغضب الرحيم، وبالعذاب الأليم
﴿وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾ اللعين ﴿فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ وكل صديق سوء أمر بمنكر، وزين معصية: فهو في حكم الشيطان؛ بل هو شر منه؛ ويجب اجتنابه والابتعاد عنه ﴿مَا زَكَا﴾ ما طهر ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ﴾ يطهر من أراد من دنس الفحش، وذل العصيان
﴿وَلاَ يَأْتَلِ﴾ ولا يقصر. وقرأ أبو جعفر «ولا يتأل» أي ولا يحلف ﴿أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ﴾ الغنى ﴿أَن يُؤْتُواْ أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ﴾ أي لا يقصر، ولا يحلف هؤلاء ألا يؤتوا الفقراء من أموالهم؛ لذنب جنوه، أو إثم ارتكبوه. قيل: نزلت هذه الآية حينما أقسم كثير من الصحابة - ومنهم أبو بكر - رضي الله تعالى عنهم؛ ألا يعطوا بعض من خاض في الإفك من الفقراء الذين كانوا يعطونهم. فلما نزل قوله تعالى: ﴿وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ قال أبو بكر: بلى؛ أنا أحب أن يغفر الله لي وأعاد ما كان يجريه على الفقراء الذين جاءوا بالإفك. وقد أراد الله تعالى أن يحفز السامع إلا ملازمة الصفح والعفو؛ بقوله:
﴿أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ أي حيث إنكم تحبون الغفران، وتطلبونه من الديان؛ فلم لا تغفرون للإخوان، وتصفحون عما كان؟ وفي قصة الإفك، وما أعقبها: دليل على وجوب إعطاء الفقير ولو عصى، والمسكين ولو أثم إذ أن مقياس العطاء: الحاجة؛ فإذا ما استوى فيها التقي والشقي: وجب تقديم الأول على الثاني
﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ﴾ أي يوفيهم جزاءهم الذي يستحقونه على أفعالهم
﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ﴾ أي إن الخبيثات لا يرغب فيهن إلا الخبيثون. والآية مبنية على قوله تعالى: ﴿الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً﴾ لأن الخبيثات والخبيثين: هم الزواني ﴿وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ﴾ وهم العفائف؛ فلا يجوز أن يتزوج عفيف إلا عفيفة مثله، ولا أن تتزوج عفيفة إلا عفيفاً مثلها. وهذه هي سنة النفوس الفاضلة، والخلق الكامل هذا ولم تخرج أوامره تعالى، وإرشاداته لخلقه عن أسمى الأخلاق التي تصبو إليها الإنسانية، وتنتظم بها الأسر: فلا يختلط الخبيث بالطيب، ولا يدنس العفيف نفسه بمخالطة البغي، ولا تنزل العفيفة إلى درك الزاني الفاجر ﴿أُوْلَئِكَ﴾ الطيبون والطيبات ﴿مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ﴾ أي مما يقوله فيهم الخبيثون والخبيثات، الوالغون في الأعراض، الطاعنون في الكرامات
﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ﴾ يعلمنا ربنا سبحانه وتعالى آداب الزيارة، وكيف أننا لا نلج بيتاً قبل أن نستأذن أهله في دخوله، ونأنس بهم، ويأنسوا بنا. وانظر - يا من تتوهم أن الحضارة والرقة نأخذهما عن الغربيين - إلى أي حد يعلمنا مربينا تعالى، وإلى أي مدى يؤدبنا قرآنه الكريم، وكتابه الحكيم؛ فيحسن تأديبنا وتربيتنا
﴿فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً﴾ من أهلها تستأذنونه وتستأنسون به ﴿فَلاَ تَدْخُلُوهَا﴾ وسواء كانت البيوت مفتوحة الأبواب، أو مغلقتها؛ فقد أغلقها الله تعالى بتحريم دخولها؛ وجعل مفتاحها الإذن من قاطنها، أو مالكها؛ و
﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾ إثم؛ في ﴿أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ﴾ أي غير معدة للسكن الخاص ﴿فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ﴾ وهو كل ما يتمتع به: من إيواء، واتقاء حر أو برد أو هي البيوت المستعملة لخزن البضائع وما شاكلها ويجوز أن يدخل في عموم ذلك الفنادق
﴿قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ﴾ أي لا يتطلعوا بأبصارهم إلى النساء؛ لأن البصر رائد القلب؛ بل هو بريد الزنا؛ بل هو مجلبة لانطماس القلب وغضب الرب فانظر - كفاك الله كيد نفسك وشيطانك - أين تضع بصرك قال الشاعر:
وطرفك إن أرسلته لك رائداً
لقلبك يوماً: أتعبتك المناظررأيت الذي لا كله أنت قادر
عليه، ولا عن بعضه أنت صابر
﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ المراد بالزينة: مواضعها كالجيد، والمعصم، والساق، وما شاكلها، أو المراد نفس التزين: كالاكتحال، وتخضيب الكفين، ووضع المساحيق على الوجه، وتلوين الشفتين، وما أشبه ذلك ﴿إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ أي إلا المقدار الذي لا يمكن إخفاؤه: كالوجه والكفين؛ بغير زينة، ولا خضاب ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ أي وليضعن ما يتلفعن به على صدورهن؛ والجيب: فتحة الثوب مما يلي العنق؛ ومنه قوله تعالى لنبيه موسى عليه الصلاة والسلام ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ﴾ ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ الخفية؛ وهي ما عدا الوجه والكفين، أو هو كل ما يستحب رؤيته من المرأة، وما يجذب أبصار الرجال إليها؛ فكل ذلك حرام إبداؤه ﴿إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ أزواجهن؛ الذين تملكوهن بكلمة الله ولا يحل لامرأة تؤمن ب الله واليوم الآخر أن تبدي زينتها إلا لبعلها الذي أحلها الله تعالى له، أو لمحرم ممن ذكرهم الله جل شأنه في هذه الآية. وقد ذهب كثير من العلماء إلى حرمة كشف الوجه - إذا خيفت الفتنة - وذلك لأن الزينة منها ما هو خلقي: كالوجه، وما هو كسبي: كالثياب، والحلي، والكحل، والمساحيق، والأصباغ ﴿أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ﴾ من الإماء دون العبيد؛ ولو كانوا خصياناً ﴿أَوِ التَّابِعِينَ﴾ كالخدم، أو الفقراء؛ الذين يتبعونكم لأجل إطعامهم والتصدق عليهم؛ بشرط أن يكونوا من ﴿غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ﴾ وهم الذين ليس لهم مأرب في النساء: كالشيوخ الصلحاء، والمجبوبين؛ ومن شابههما ﴿وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ﴾ أي ليسمع صوت الخلخال
﴿وَأَنْكِحُواْ﴾ زوجوا ﴿الأَيَامَى﴾ جمع أيم؛ وهي من ليست بذات زوج: بكراً كانت، أو ثيباً؛ ويطلق الأيم على الذكر والأنثى ﴿وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ﴾
أي المسلمين من العبيد والإماء
﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً﴾ أي لا يستطيعون الزواج لفقرهم؛ والاستعفاف: الابتعاد عن الزنا، ومواطنه، وأسبابه، ومقدماته؛ ومدافعة الرغبة بالصوم؛ قال: «من استطاع الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإن الصوم له وجاء»
-[٤٢٨]- ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ﴾ يطلبون المكاتبة: وهم العبيد يكاتبون مواليهم على أداء شيء معلوم؛ يتحررون بعد أدائه ﴿وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ﴾ بناتكم، أو إمائكم، أو من تقومون بأمورهن مقام الولي والكفيل ﴿عَلَى الْبِغَآءِ﴾ الزنا؛ بتركهن بدون تزويج ﴿إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً﴾ تعففاً؛ بالزواج الحلال الطيب هذا وقد دأب أكثر الناس اليوم على التباطىء في تزويج بناتهم تباطؤاً أدى إلى الوقوع في الموبقات؛ بحجة عدم صلاحية طالب الزواج تارة، وبالتغالي في المهور تارة أخرى؛ مما يؤدي إلى الانصراف عن الفتيات، والرغبة عنهن، مكان الرغبة فيهن وفي هذا ما فيه من الانحراف، عن الاستعفاف، فليبادر من يتق الله تعالى إلى تزويج بناته؛ متى وجد الكفء لهن، الراغب فيهن، الحافظ لأعراضهن
وقيل: إنهم كانوا يكرهونهن على البغاء، لاجتلاب الرخاء؛ كما يفعل بعض من أعمى الله تعالى بصائرهم، وطمس على قلوبهم؛ وساقهم الشيطان إلى مهاوي الضلال، ومهامه الرذيلة ﴿وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ﴾ لهن ﴿رَّحِيمٌ﴾ بهن ﴿مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ﴾ مضوا
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ أي منورهما، والهادي فيهما إلى الطريق القويم، والصراط المستقيم
ولما كان النور: هو الذي يرشد الإنسان إلى مواطن الضرر والخطر، ويهديه إلى طرق الأمن والسلامة؛ ولولاه لتردى الإنسان في مهاوي البيداء، ومهامه الصحراء
ولما كان الله تعالى هو الهادي إلى أقوم الطرق، وأوضح السبل؛ كان وصفه جل شأنه بالنور: هو الجامع لصفاته العلية، الموضح لحاجة الكل إليه، واعتمادهم عليه وإلا فليس بعد النور الإلهي سوى دياجير الظلمات، المبعدة عن الرحمات والجنات فتمسك - يا رعاك الله - بنورالله: يهدك سبل الرشاد والسداد «ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور» ﴿مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ﴾ وهي الكوة غير النافذة في الجدار ﴿الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا﴾ في صفائه وبريقها ﴿كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ﴾ مضيء؛ نسبة إلى الدر الذي يضيء لشدة لمعانه ﴿يُوقَدُ﴾ ذلك الكوكب الدري ﴿مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ﴾ أي ليست كسائر الشجر؛ بل «من شجرة» بورك فيها وعليها ﴿لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ﴾ أي بينهما؛ فلا يتمكن منها حر ولا برد يضرانها ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا﴾ لشدة صفائها ﴿يُضِيءُ﴾ بنفسه ﴿نُّورٌ عَلَى نُورٍ﴾ ضوء الزيت، وضوء النار. أو هو نور الله تعالى - وهو هدايته للمؤمن - على نور المؤمن - وهو اهتداؤه بنفسه إلى خالقه، واختياره للإيمان. وانصرافه عن داعي الشيطان - وهو النور الذي يبدؤه المؤمن باختياره؛ فيذكيه مولاه تفضلاً وتكريماً منه تعالى لمن أكرم
-[٤٢٩]- نفسه، وسما بروحه؛ فينبثق النور من القلب؛ فتشتعل جذوة الإيمان، وتبعث الأعضاء على الانقياد والعبادة؛ فيصير الإنسان الترابي نورانياً: يأمر الأقدار فتطيعه، ويقسم فيبر الله قسمه، ويرغب فينقاد إليه كل شيء طوعاً وكرهاً بإذن الحنان المنان، الرحيم الرحمن ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ﴾ أي للإيمان به
﴿فِي بُيُوتٍ﴾ هي المساجد، أو هو كل بيت يقيم أهله الصلاة فيه، ويذكرون اسمه تعالى ويسبحونه ويقدسونه وهذه البيوت: هي محط نور الله تعالى، ومبعث هدايته ورحمته، والطريق إلى رضائه وجنته؛ وفيها المشكاة، ومنها ينبعث نور المصباح ﴿بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ﴾ أي في الصباح والمساء
﴿يَخَافُونَ يَوْماً﴾ هو يوم القيامة ﴿تَتَقَلَّبُ﴾ تضطرب
﴿فِيهِ الْقُلُوبُ﴾ من شدة الخوف والرعب، والتردد بين الهلاك والنجاة تتقلب فيه أيضاً ﴿الأَبْصَارِ﴾ حيرى بين الجنة والنار
﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ﴾ من فضله في الدنيا، ومن نعيمه في الآخرة ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ بلا حد، وبلا مقابل؛ فقد يرزق بالقناطير، جزاء للنزر اليسير، وقد يدخل الجنات، جزاء لصدق الطويات؛ فتعالى المعطي المانع، الضار النافع
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ﴾ الصالحة؛ التي عملوها في الدنيا - كصلة الرحم، وحسن المعاملة، والصدقة، وأشباه ذلك - فإنها تصير يوم القيامة ﴿كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾ وهو شعاع يرى في الفلاة في وسط النهار ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً﴾ فيهرع إليه لشدة ظمئه ﴿حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾ مما أراده: لا ماء، ولا ري ﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ﴾ أي عند عمله؛ الذي هو كالسراب، والذي هو في مسيس الحاجة إلى أقل الجزاء عليه؛ وفاته أنه قد جوزي على إحسانه في دنياه؛ تفضلاً وعدلاً من الله فإذا ما طمع في الجزاء عليه يوم القيامة «وجد الله عنده» ﴿فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ﴾ من العذاب؛ جزاء فسقه وكفره
﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ﴾ أي إن أعمال الكفار «كسراب بقيعة، أو كظلمات» ﴿فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ﴾ عميق، بعيد الغور، كثير الماء ﴿يَغْشَاهُ﴾ أي يغطي هذا البحر العميق ﴿مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ﴾ أي من فوق هذا الموج ﴿مَوْجٌ﴾ آخر ﴿مِّن فَوْقِهِ﴾ أي من فوق هذا الموج؛ الذي هو فوق الموج الأول ﴿سَحَابٌ﴾ غيم؛ فتجتمع من هذه الظلمات، والبحر، والأمواج المتراكبة المتكاثرة، والغيوم المتكاثفة ﴿ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ﴾ الناظر، أو الواقع في هذا البحر ﴿يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ لما أحاط به من الظلمات
وهو مثل آخر ضربه الله تعالى لأعمال الكفار؛ فمثل أعمالهم بالظلمات؛ لأنها كلها مبنية على الخطإ والزيغ والفساد، ومثل اضطراب قلوبهم، وعدم استقرارها، وتغشيتها بالحيرة والضلالة: بالبحر اللجي
-[٤٣٠]- المتلاطم بالأمواج؛ إلى غير مقصد، وعلى غير هداية، ومثل جهلهم الذي غطى على عقولهم، وران على قلوبهم: بالسحاب ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً﴾ يسترشد به في الملمات، ويهتدي به في الظلمات ﴿فَمَا لَهُ مِن نُورٍ﴾ يوصله إلى الأمن والنجاة والسلامة
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ من ملك وإنس وجن ﴿وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ﴾ باسطات أجنحتهن بين السموات والأرض؛ فصار التسبيح شاملاً لما في السموات والأرض وما بينهما ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ أي قد علم الله تعالى صلاتهم وتسبيحهم، أو «كل قد علم» كيف يصلي، وكيف يسبح. (انظر آية ٤٤ من سورة الإسراء)
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي﴾ يسوق ﴿سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ﴾ يضم بعضه إلى بعض؛ بعد أن كان متفرقاً ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً﴾ متراكماً؛ بعضه فوق بعض ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ﴾ المطر. وقيل: البرق ﴿يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾ أي من ثنايا السحاب ﴿فَيُصِيبُ بِهِ﴾ أي بالبرد النازل من السماء ﴿مَن يَشَآءُ﴾ معاقبته: فيتلف به زرعه، ويهلك ضرعه ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ﴾ أي لمعان برق ذلك السحاب المزجي المتراكم ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ﴾ يعميها فلا ترى شيئاً
﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ يأتي بأحدهما مكان الآخر، أو ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر
﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ﴾ أي من نطفة؛ وذلك لأنها سائلة، وأغلبها ماء. والدابة: كل ما يدب على وجه الأرض من إنسان، أو حيوان أو طير، ونحوه. والدابة إجمالاً: كل مخلوق تدب فيه الحياة. حتى الطير فإنه يخلق من البيضة؛ والبيضة محتوية على ماء الذكر حتماً؛ وإلا فهي غير معدة للإنتاج. وبذلك اقتضت حكمة الحكيم
﴿فَمِنْهُمْ﴾ أي من الدواب ﴿مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ﴾ كالثعبان ﴿وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ﴾ كالإنسان، والطائر ﴿وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾ كالأنعام والحيوان ﴿يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ﴾ كما شاء ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ أراده ﴿قَدِيرٌ﴾ على إيجاده؛ وإنما هي أسباب سببها، وأمور رتبها؛ وقد خلق تعالى كل شيء ابتداء من غير ماء ولا نطفة، وسيعيده انتهاء من غير سبب؛ فتعالى الخالق، وجل المبدع المصور
﴿لَّقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ﴾ حجج واضحات: هي آيات القرآن الكريم ﴿وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ﴾ طريق ﴿مُّسْتَقِيمٍ﴾ هو طريق الإسلام؛ الموصل إلى الجنة
﴿وَيِقُولُونَ﴾ أي يقول المنافقون ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى﴾ يعرض ﴿لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾ فيما عرض لهم من خلاف
﴿إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ﴾ عن هذه الحكومة يأبونها لأن الحق قد جانبهم، والصواب قد باعدهم؛ ولأن الرسول لا يقول إلا حقاً، ولا ينطق إلا صدقاً
﴿وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ﴾ أي في جانبهم ﴿يَأْتُواْ إِلَيْهِ﴾ أي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لعلمهم أنه سيحكم لهم؛ ما دام الحق معهم ﴿مُذْعِنِينَ﴾ طائعين مسرعين
﴿أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ﴾ المراد بالمرض: الرغبة في اغتيال الحقوق؛ أو المراد به الكفر ﴿أَمِ ارْتَابُواْ﴾ شكوا في صدقه ونبوته ﴿أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ﴾ يجور ويظلم ﴿بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ الكافرون
﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ أي الواجب على من يتصف بالإيمان
﴿وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ﴾ أي أقسم المنافقون ﴿جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ﴾ غايتها ونهايتها ﴿لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ﴾ بالخروج للجهاد ﴿لَيَخْرُجُنَّ﴾ معك ﴿قُل لاَّ﴾ حينما يقسمون لك، ويجهدون أنفسهم في خداعك ﴿تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ﴾ أي إن مبلغ طاعتكم وانقيادكم معروف لنا أيها المنافقون، وقد أطلعنا الله تعالى على ما في قلوبكم ﴿إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من طاعة باللسان، ومخالفة بالجنان
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ﴾ تتولوا؛ أي فإن تعرضوا ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ﴾ من التبليغ إليكم؛ وقد بلغ ﴿وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ﴾ من وجوب الإيمان والطاعة؛ وقد كفرتم وعصيتم
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ﴾ وهو أمر ظاهر: فقد تم للمؤمنين فتح فارس والروم، ودانت لهم البلاد والعباد ﴿كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ يعني بني إسرائيل: أهلك الله تعالى الجبابرة بمصر والشام؛ وأورثهم أرضهم وديارهم
-[٤٣٢]- ﴿وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾ وأي تمكين أكثر من أن شاع الإسلام وذاع، وملأ الأراضي والبقاع، ولم تبق بقعة على وجه الأرض تخلو من الإسلام والمسلمين؛ رغم محاربة الكافرين، ومعاداة المضلين ﴿وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً﴾ فقد كان السائر في الجاهلية لا يستطيع أن يمشي بضع خطوات؛ مطمئناً على نفسه، أو ماله؛ فجاء الإسلام فأحل الوئام مكان الخصام، والوفاق مكان الشقاق، والحب مكان الكراهية، والعطف والحنان مكان البغض والحقد ﴿وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ الخارجون على ربهم
﴿لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ﴾ أي لا نقدر على مؤاخذتهم والنيل منهم.
أي لا يجوز أن يدخل عليكم خدمكم، ولا أطفالكم بدون استئذان في هذه الأوقات الثلاثة: وهي قبل صلاة الفجر؛ لأنه وقت طرح ثياب النوم واستبدالها بغيرها، وحين تخلعون ثيابكم لتناموا ظهراً؛ لأنه وقت القائلة وتخفيف الثياب، ومن بعد صلاة العشاء؛ لأنه وقت التجرد من الثياب
﴿ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ﴾ أي هذه الأوقات المذكورة «ثلاث عورات لكم» لأنكم تحتاجون فيها إلى خلع الثياب؛ وبذلك يبدو منكم ما تحرصون على ستره، وتكرهون أن يراه أحد من الناس وقيل: أصل العورة من العار؛ وذلك لما يلحق في ظهورها من العار والمذمة (انظر آية ٨ من سورة النساء) ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ﴾ جناح في ترك دخول خدمكم عليكم بغير استئذان؛ في غير هذه الأوقات الثلاثة ﴿وَلاَ﴾ حرج ﴿عَلَيْهِمْ﴾ في دخولهم عليكم. وهذا الحكم قبل أن تكون للبيوت أبواب أو ستور؛ أما عند وجود الأبواب أو الستر؛ فالإذن واجب في كل الأوقات، وسائر الحالات ﴿طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ يعني الخدم يطوفون عليكم بحوائج البيت، وتطوفون عليهم بطلب ما يلزمكم
﴿فَلْيَسْتَأْذِنُواْ﴾ أي في كل الأوقات ﴿كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ﴾ بلغوا الحلم ﴿مِن قَبْلِهِمْ﴾ وهم الذين تناولتهم الأحكام السابقة
﴿وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلاَتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً﴾ وهن اللائي قعدن عن الحيض والولد لكبرهن. وهم لذلك لا يطمعون في الزواج ولا يطلبونه؛ بعد أن بلغن ما بلغن ﴿غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ﴾ التبرج: إظهار ما خفي من الزينة ﴿وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ﴾ عن التبرج والتزين ﴿خَيْرٌ لَّهُنَّ﴾ في الدنيا؛ لأنه موجب للإكبار والاحترام، و «خير لهن» في الآخرة؛ لأنه مدعاة لرضا الرب سبحانه وتعالى
﴿وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ﴾ أي بيوت أبنائكم؛ لأن بيت الإنسان لا يحتاج إلى إذن ورفع حرج. ولأنه تعالى لم يذكر بيت الأبناء؛ وهو أولى البيوت بالأكل منه؛ وعبر تعالى عنها بلفظ «بيوتكم» لأن بيت الابن ليس كبيت الإنسان فحسب؛ بل هو بيته فعلاً؛ قال: «أنت ومالك لأبيك» ﴿أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ﴾ أي خزنتموه لغيركم، وكنتم وكلاء على إدارته؛ كناظري الزراعات، ومديري المطاعم، وأشباههم. ويجب - في هذه الحال - أن يكون المالك عالماً بذلك. وقيل: إن هذا خاص بمن يقوم بعمله من غير أجر ﴿أَوْ صَدِيقِكُمْ﴾ أي ليس عليكم جناح في أن تأكلوا من بيوت من ذكر؛ ولو بغير حضورهم. هذا وقد يرتاح الإنسان في الأكل من بيت صديقه؛ أكثر من راحته في الأكل من بيت نفسه فكم من حبيب، أعز من القريب؛ وكم من أخ لك لم تلده أمك و ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً﴾ مجتمعين ﴿أَوْ أَشْتَاتاً﴾ متفرقين ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾ بأن تقولوا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ فإن الملائكة ترد عليكم. هذا إذا لم يكن بها إنسان
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ﴾ حقاً: هم ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ﴾ أي أمر هام يحتاج للاجتماع: كخطبة الجمعة، ودراسة الدين والقرآن
﴿تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ﴾ أي نداءه ﴿كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً﴾ بأن تقولوا: يا محمد. بل قولوا: يا نبيالله، يا رسول الله ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً﴾ أي يخرجون مستخفين متسترين؛ يلوذ بعضهم ببعض ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ﴾ أي يخالفون أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، أو أمره جل شأنه ﴿أَن تُصِيبَهُمْ﴾ بسبب هذه المخالفة ﴿فِتْنَةٌ﴾ عذاب، أو زلازل وأهوال، أو سلطان جائر
﴿قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ﴾ «قد» للتحقيق؛ أي قد علم ﴿فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ﴾ من خير فيثيبهم عليه، ومن شر فيأخذهم به.
434
سورة الفرقان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

434
Icon