ﰡ
عقوبة الزناة
حرص الإسلام من أجل طهر المجتمع ونقائه، وقوته وبقائه على إشاعة الفضيلة، ومحاربة المنكر والرذيلة، وصيانة العلاقات الإنسانية من المعكرات والأمراض الضارة، ووضع حد ونظام متين لمجتمع يحيا حياة طيبة، وجيل نظيف خال من الشوائب والأخلاط، لذا حرّم الإسلام الفواحش، وحارب كل اعتداء على الأعراض والأخلاق والأنساب، ووفر الحرية الكريمة والحياة السوية للناس جميعا، قال الله تعالى في مطلع سورة النور المدنية:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)«١» «٢» [النور: ٢٤/ ١- ٣].
المعنى: هذه هي السورة الموحى بها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والمفروض فيها أحكام تتعلق بالأسرة، وفيها دلائل واضحة وعلامات بيّنة على توحيد الله وكمال قدرته، لتتذكروها، فتعتقدوا وحدانيته وقدرته تعالى.
(٢) أوحينا أحكامها.
ومن هذه الأحكام الأساسية في كيان المجتمع المسلم: أن عقوبة الزناة الأبكار غير المتزوجين هي الجلد مائة لكل من الزاني والزانية في دار الإسلام أيا كان. ولا يحملنكم العطف والرأفة على ترك هذا الحد فهو حكم الله تعالى، والواجب تنفيذه، والغيرة على حرمات الله، ما دمتم مؤمنين مصدقين بالله وبالآخرة التي يجري فيها الحساب والجزاء، وهذا حث شديد على تطبيق حدود الله وتنفيذها. وتكون إقامة الحد علانية أمام فئة من الناس المؤمنين، تحقيقا للزجر والردع، وبعدا عن التورط في الفاحشة، وتقريعا وتوبيخا لمن تدنّس بها.
والطائفة التي تشهد على إقامة الحد: أقلها واحد، وقيل: اثنان فأكثر، وقال قتادة: أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، أي نفر من المسلمين، ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالا.
ثم ذكر الله تعالى قبح مستنقع الفواحش، وأنه يجب تطويقه وعزله عن المجتمع، فأخبر خبرا خرج مخرج الغالب، من غير قصد التحريم الاصطلاحي، وإنما التنزه والابتعاد والترفع عن وسط الزناة، والمعنى: الشأن في الزاني الفاسق الفاجر ألا يرغب إلا في نكاح أمثاله من النساء الزانيات الفاسقات، فهو في العادة لا يرغب إلا في الزواج بأمثاله من الفواسق الخبائث أو المشركات، ممن لا يهتم بعرض ولا يأبه بتعفف، وذلك الزواج بأهل الفسق والبغايا، كان محرما على أهل الإيمان، فلا يتزوج زان إلا زانية، ولا يتلوث بذلك مؤمن. وهذا التحريم يراد به المبالغة في التنفير والتنزه والتعفف، بدليل إباحة الزواج بأي امرأة لا زوج لها، وهي الأيم وجمعها أيامى، لقول الله تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور: ٢٤/ ٣٢] فإنه يتناول البغايا.
طريق لتدمير الأمم والشعوب بإشاعة الانحراف، وتحطيم سياج الأعراض والأخلاق، وقد حرّم الزنا في كل الأديان، وازداد تحريمه والتشنيع عليه، وتبشيع أمره في القرآن الكريم، وجعل الزنا في مرتبة الشرك، وصنّف الزناة مع المشركين، ومن المعلوم أن الشرك أعظم المعاصي، فما يقترن به يكون قبيحا مثله. هذا فضلا عن أن تعاطي الفاحشة يعرّض صاحبها لألوان الاعتداءات والجنايات المختلفة، بل ويمهد للإصابة بأخطر الأمراض الفتاكة التي لا علاج لها، ومنها مرض فقد المناعة (الإيدز) فإن ٩٠ من حالاته بسبب الشذوذ أو الانحراف الجنسي.
عقوبة القاذفين
لقد طوّق التشريع القرآني مصادر الجريمة، وعمل على استئصال أسبابها، وحارب كل الوسائل المؤدية إليها، لأن المزالق والأساليب هي مبدأ التوجه نحو الغايات، فإذا أوصد الباب في وجه الوسيلة، امتنع تحقيق الغاية، وإذا حرّم الإسلام أمرا لقبحه وضرره، حرّم كل الوسائل المؤدية إليه، لأنها منافذ الخطر. وعلى هذا النهج ترى القرآن الكريم يحرم الزنا لفحشه وضرره البالغ، ويحرم كل ما أدى إليه، وسهّل إليه من كلام الفحش، وقذف الأعراض، وخدش الكرامات والخلوة بالمرأة، فتكون كلمة القذف، أي النسبة إلى الزنا من غير إثبات بالبينة أو الإقرار حراما وموجبا لحد مكمل لحد الزنا يسمى حد القذف. قال الله تعالى مبينا مقدار هذا الحد وطريق التخلص منه بالتوبة الصادقة:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤ الى ٥]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
«١»
نزلت هذه الآية في القاذفين، فبعد أن نفّر الله من نكاح الزانيات، وإنكاح الزناة، نهى الله تعالى عن القذف: وهو الرمي بالزنا، أي إلصاق التهمة بعفيف أو عفيفة من دون حجة ولا برهان، وهذا الاتهام وإن ظن بعض الناس أنه لا يستحق عقابا، فإنه في الواقع أمر خطير ربما يؤدي إلى القتل، أو تدمير كيان الأسرة، أو الإساءة الدائمة للسمعة، بسبب الاستفزاز وإثارة الأحقاد، وإيجاد العداوة والبغضاء، واحتدام السخط والغضب، والغالب أن الغضوب بعيد عن دواعي العقل والحكمة والرشد، فيسارع إلى اتخاذ موقف متهور، يؤدي إلى نتائج خطيرة، بسبب كلمة عابرة أو تهمة كاذبة. لذا طلب القرآن مزيدا من التثبت أو الإثبات للتهمة بأربعة شهود.
والمعنى: إن الذين يتهمون النساء العفيفات الحرائر المسلمات بالزنا، ولم يتمكنوا من إثبات التهمة بأربعة شهود، رأوهن متلبّسات بالزنا، أي لم يقيموا البينة على صحة القذف الذي تورطوا به، هؤلاء لهم عقوبات ثلاث:
أولها: أن يجلدوا، أي القذفة ثمانين جلدة.
وثانيها: أن تردّ شهادتهم أبدا، وتسقط عدالتهم، فلا تقبل شهادتهم بعدئذ في أي شيء، مدة العمر.
وثالثها: أن يصيروا فسقة فجرة، ليسوا عدولا، لا عند الله ولا عند الناس، سواء كانوا صادقين في القذف لكنهم لم يثبتوه، أو كاذبين، والفسق: الخروج عن طاعة الله تعالى. وهذا دليل على أن القذف إحدى الكبائر، لما يؤدي إليه من التشنيع، وهتك حرمة أعراض المؤمنات.
وقذف الرجال داخل في حكم الآية بالمعنى، وإجماع الأمة على ذلك، كالنص القرآني على لحم الخنزير، ودخول شحمه وغضاريفه ونحو ذلك بالمعنى وبالإجماع. وذكر الزهراوي: أن المعنى: الأنفس المحصنات، فهي تعم بلفظها الرجال والنساء. ويدل على ذلك قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ [النساء: ٤/ ٢٤]. والمحصنات في هذا الموضع: العفائف، لأن هذا هو الذي يجب به جلد القاذف. والعفة أعلى معاني الإحصان، وفي طيه الإسلام والحرية، ونزلت الآية في الحرائر، فيشترط في القاذف أن يكون من أهل التكليف، أي بالغا عاقلا مختارا عالما بالتحريم، وأن يكون المقذوف محصنا، وهو المكلف (البالغ العاقل) الحر، المسلم، العفيف عن الزنا.
ثم استثنى الله تعالى من تاب وأصلح من بعد القذف، فوعدهم بالرحمة والمغفرة، فمن رجع عن قوله، وندم على فعله، وأصلح حاله وعمله، فلم يعد إلى قذف المحصنات، فيسترد عدالته، ويرتفع عنه صفة الفسق، فإن جمهور العلماء قالوا:
الاستثناء المذكور عامل في رد الشهادة، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، وتوبته: إما بتكذيب نفسه في ذلك القذف الذي حدّ فيه في رأي جماعة، وإما بالاقتصار على إصلاح نفسه وتحسين حاله، وإن لم يرجع عن قوله بتكذيب.
قذف الرجل زوجته واللعان
لما نزلت آية رمي المحصنات، تناول ظاهرها الأزواج وغيرهن، مما أوجد الحرج في العلاقات الزوجية، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة (أي شهداء) ؟ والله لأضربنّه بالسيف غير مصفح عنه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتعجبون من غيرة سعد، لأنا أغير منه، والله أغير مني؟».
ثم
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦ الى ١٠]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
«١» [النور: ٢٤/ ٦- ١٠].
الأزواج في هذا الحكم يعم جميع الزوجات مسلمات وغير مسلمات، وإماء، وحرائر، فكلهن يلاعنهن الزوج لنفي الحمل، ويرفع القاذف الحر حد القذف عن نفسه باللعان، أي يلاعن امرأته لرفع حد القذف عن نفسه، فيكون حكم اللعان فرجا عن الأزواج.
والمعنى: إن الأزواج الذين يقذفون زوجاتهم بالزنا، ولم يتمكنوا من إحضار أربعة شهود، يشهدون بصحة قذفهم، فالحكم الواجب أن يشهد الواحد منهم أربع شهادات بالله، إنه لصادق فيما رمى زوجته من الزنا، والشهادة الخامسة: أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما اتهمها به. واللعن: الطرد من رحمة الله. فإذا أدى هذه الشهادات الخمس، بانت منه زوجته، وحرمت عليه حرمة مؤبدة بهذه الأيمان المسماة بأيمان اللعان، ويعطيها مهرها، ويسقط عنه حد القذف، وينفى الولد عنه إن وجد، ويتوجه عليها حد الزنا إذا لم تلاعن.
وجعلت اللعنة للرجل الكاذب في يمينه الخامسة، لأنه مفتر مباهت بالقول، فأبعد باللعنة، وجعل الغضب الذي هو أشد على المرأة التي باشرت المعصية بالفعل، ثم كذبت وباهتت بالقول، وسبب التفرقة بين الرجل بتخصيصه باللعنة، وتخصيص المرأة بالغضب: هو التغليظ عليها، لأنها سبب الفجور ومنبعه عادة، بإطماعها الرجل في نفسها.
والعدول عن حد القذف إلى أيمان اللعان بين الزوجين في حال الاتهام بالزنا:
تخفيف ودفع للحرج عن الأزواج، وفضل ونعمة ورحمة من الله، إذ جعل اللعان للزوج من غير حاجة إلى إثبات قوله بأربعة شهود طريقا لتحقيق مراده، وللزوجة سبيلا إلى درء العقوبة عن نفسها، لذا عقب الله تعالى على حكم اللعان (أيمان الملاعنة بين الزوجين) بأنه لولا ما خصكم الله به من مزيد فضله ونعمته، وإحسانه، ورحمته ولطفه بهذا التشريع المخرج من الشدة والضيق إلى الأيسر والأخف، لولا ذلك لوقعتم في الحرج والمشقة في كثير من الأمور، وعوجلتم بعقاب حد القذف، ولكن الله ستركم، وأنقذكم من التورط بتهمة الزنا، بطريق شهادات أو أيمان اللعان، وذلك لأن من الصفات الذاتية لله سبحانه: أنه كتب الرحمة على نفسه، وأنه هو التواب الكثير القبول لتوبة عباده، وإن كان ذلك بعد الأيمان المغلظة، وأنه حكيم فيما يشرعه، ويأمر به، وينهى عنه، فإنه على الرغم من أن أحد الزوجين كاذب في يمينه، فإن عقاب الحد الدنيوي يدرأ عنه، ويستحق ما هو أشد منه وهو العقاب الأخروي. وعبّر الله تعالى في نهاية الآية بكلمة «حكيم» وليس بكلمة «رحيم» مع أن
وهكذا يجب اللعان بين الزوجين حين وجود الاتهام برؤية جريمة الزنا، أو من أجل نفي الحمل، فيسقط حد القذف عن الزوج، ويفرق بين المتلاعنين، فلا يجتمعان أبدا ولا يتوارثان.
إدانة المتورطين بقصة الإفك
الإفك: الزور والكذب، والأفّاك: الكذاب، والإفك: قلب الحقيقة عن حالها بالأقوال، وصرفها عن جهة الصواب، وبذلك شبّه بالكذب. وهو في الواقع اختلاف الكذب. وقد أنزل الله تعالى في سورة النور ست عشرة آية لتبرئة السيدة عائشة أمّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها، وما اتصل بذلك من أمر الإفك.
والقصة تدور على استغلال تخلف السيدة عائشة لقضاء حاجتها عن ركب الجند، وعودتها للبحث عن عقدها الذي أضاعته في غزوة، بني المصطلق سنة خمس من الهجرة، وهي غزوة المريسيع، والمريسيع: ماء لبني المصطلق، من ناحية قديد إلى الساحل ناحية البحر الأحمر. وكان قائد الفتنة الذي أشعل نارها: هو زعيم المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول، وتورط معه ثلاثة، وهم حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش. وقد استغل المنافق ابن أبي هذه الحادثة ليلصق التهمة بعائشة حين وجد صفوان بن المعطّل السّلمي يقود راحلته التي أركب عليها عائشة. فنزلت الآيات التي تبرئ السيدة عائشة، وتلوم مروجي الإشاعة الكاذبة، وتؤدب الصحابة بآداب عظيمة في مثل هذه الحادثة. قال الله تعالى مبينا إدانة المتورطين بهذه التهمة الخطيرة:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١١ الى ١٤]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤)«١» «٢» «٣» «٤» [النور: ٢٤/ ١١- ١٤].
هذه الآيات الكريمة لإحقاق الحق وإبطال الباطل، ودحض الافتراء الشنيع، وهي تبدأ في بيان القصة من أولها، وأولها: إن الذين فعلوا هذا الفعل جماعة محسوبون على المؤمنين، وهؤلاء الجماعة أتوا بأبلغ الكذب، وأعظم الافتراء، وهو الإفك، الذي كان وراءه ثلاثة بزعامة منافق، وهو عبد الله بن أبي، فإنه هو الذي اختلق الكذب على السيدة عائشة رضي الله عنها، وتواطأ مع جماعة صغيرة لترويج الخبر بين الناس، وإشاعته قريبا من شهر، حتى نزل القرآن الكريم مبينا أسبابه ودروسه ونتائجه.
واسى الله تعالى أسرة أبي بكر في هذه التهمة المفتراة فقال: لا تظنوا يا آل بكر بأن ذلك الافتراء شر محض لكم، وإساءة إليكم، بل هو خير لكم في الدنيا والآخرة، لإظهار مدى العناية بعائشة بنت الصدّيق رضي الله عنها، حين برأها الله في القرآن العظيم، وجعله حكما ونصا يتلى إلى يوم القيامة، ومن أجل كسبكم الثواب العظيم به في الدار الآخرة.
وأما دعاة الفتنة فلكل واحد تكلم في هذه الفرية ورمى أم المؤمنين عائشة بالفاحشة، فله نصيب من العذاب الشديد، بقدر ما خاض فيه.
(٢) عصبة: أي جماعة بدل من الضمير في «جاؤوا»، وجملة «لا تحسبوه» خبر «إن» والتقدير: إن فعل الذين.
(٣) تحمل معظمه وهو رأس المنافقين.
(٤) خضتم فيه.
ثم أدّب الله تعالى المؤمنين بمناسبة هذه القضية وزجرهم بتسعة أشياء: أذكر منها هنا أدبين وأمرين خالفوا بهما أحكام التشريع الأساسية. وهما: هلا حين سمعتم أيها المؤمنون كلام الأفاكين في أم المؤمنين عائشة، ظننتم بها خيرا بمقتضى الإيمان الذي يحمل على حسن الظن! وهلا بادرتم إلى القول صراحة: هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أي كذب مختلق، واضح مكشوف على أم المؤمنين رضي الله عنها! فإنها جاءت راكبة على راحلة صفوان بن المعطل في وقت الظهيرة، والجيش كله يشاهد ذلك، ولو كان فيه شيء من الريبة، لما تم الأمر هكذا جهارا نهارا.
وهلا أتى الأفاكون على ما قالوا بأربعة شهود، يشهدون على ثبوت التهمة، وصحة المعاينة، فحين لم يأتوا بالشهود لإثبات التهمة، فأولئك في حكم الله كاذبون فاجرون، وهذا من الزواجر، ومن التقصير في القيام بعبء الإثبات، عملا بالقاعدة الكبرى: «البيّنة على من ادعى، واليمين على من أنكر».
تأثيرات قصة الإفك في المؤمنين
إن الاتهام الرخيص سرعان ما يتبدد ويزول أثره، ولا سيما إذا تولى الله تعالى بنفسه الدفاع عن سمعة المؤمن، وحماه وبرّأه، وقد كان لقصة الإفك أبعاد أو أحكام تنفيذية سريعة: وهي أن زعيم المنافقين عبد الله بن أبي أرجئ عذابه، فكان العذاب المتوعد به هو عذاب الآخرة، وأن حسّان ومسطحا وحمنة بنت جحش أقيم عليهم
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٤ الى ٢٠]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
«١» »
[النور: ٢٤/ ١٤- ٢٠].
المعنى: لولا تفضل الله عليكم في الدنيا بأنواع النعم التي منها الإمهال للتوبة، ولولا رحمته بكم في الآخرة بالعفو والمغفرة، لعجّلت بكم العقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك، وهذا من الزواجر أيضا.
- ولولا فضل الله عليكم لمسكم العذاب حين تلقيتم أو تلقفتم بألسنتكم حديث الإفك وسؤال بعضكم عنه، وإكثار الكلام فيه، وقولكم ما لا تعلمون، وظنكم ذلك أنه أمر سهل يسير، وهو في حكم الله عظيم الخطر، ومن الكبائر. وهذا من الزواجر كذلك وعتاب على تناقل الأخبار، والإفاضة في الحديث، وإشاعة الكلام.
- وهلا حين سمعتم ما لا يليق من فحش الكلام وخبث المقال قلتم: ما ينبغي وما لا يصح لنا ولا يحل أن نتفوه بهذا الكلام، ونخوض في عرض النبي صلّى الله عليه وسلّم، فالعقل
(٢) كذب محيّر.
وهو أن يقول الإنسان في غيره ما ليس فيه. ويحذر الله المؤمنين من العود لمثله، أي ينهاكم الله متوعدا أن يقع منكم ما يشبه هذا في المستقبل، ما دمتم أحياء مكلفين، وكنتم من أهل الإيمان بالله وشرعه، وتعظيم رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ويوضح الله لكم الأحكام الشرعية والآداب الدينية والاجتماعية، والله تام العلم بما يصلح عباده، وكامل الحكمة في شرعه وقدره وتدبير شؤون خلقه، وهذا من الزواجر العظام.
- وإن الذين يشيعون الفاحشة عن قصد وإرادة في أوساط المؤمنين لهم عذاب مؤلم في الدنيا، وهو حد القذف، وفي الآخرة لهم عذاب النار، والله يعلم بحقائق الأمور علما تاما، فردوا الأمر إليه ترشدوا، وأنتم بسبب نقص علمكم لا تعلمون تلك الحقائق.
- ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم، لكان أمر آخر، أي لهلكتم أو لعذبكم الله واستأصلكم، ولكنه تعالى رؤف بعباده، رحيم بهم، فتاب على التائبين من هذه القضية، وأرشد إلى ما فيه الخير، وهدى إلى الطريق القويم، وأبان خطر هذا الفعل الشنيع، وهو الطعن بعرض بيت النبوة.
لقد تضمنت هذه الآيات في بدايتها وخاتمتها بيان سبق الرحمة الإلهية، وإسباغ الفضل الإلهي على الفئة التي تورطت في ترداد الأخبار الملفقة، وتناقل الحديث من لسان إلى لسان، وما بين البداية والنهاية لوم وتقريع، وعتاب وتوبيخ، وأن مجرد التحدث في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إيذاء كبير للنبي وزوجه ولآل أبي بكر. فيكون الخوض في مثل هذا ممنوعا، ويحتاج مثله إلى التثبت والروية، وتبيّن الحقيقة، كما قال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أو «فتثبتوا» [الحجرات: ٤٩/ ٦].
كان لآثار قصة الإفك آثار تربوية عظيمة، ونتائج إنسانية سامية، وأهمها ثلاثة:
التحذير من اتباع خطوات الشيطان أو وساوسه، وتدنيس سيرة المتورطين في هذا الذنب وإساءة سمعتهم، وحث أبي بكر على مواصلة مسطح ابن خالته، على الرغم من اشتراكه في ترويج أباطيل زعيم المنافقين: عبد الله بن أبي، وتجاوز هذه الآثار كان بفضل من الله ومغفرة وعفو عن المسيئين، وبه تنتهي فتنة ابن أبي التي روّجها بين المسلمين، فقال الله تعالى معددا هذه الآثار:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [النور: ٢٤/ ٢١- ٢٢].
- هذا خطاب لجميع المؤمنين، مطلعه التحذير من وساوس الشيطان، ومضمونه لا تمشوا في سبل الشيطان وطرقه وأفعاله الخبيثة، ولا تسمعوا لوساوسه، فإن من يتبع وساوس الشيطان خاب وخسر، لأن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء (وهو ما أفرط قبحه) والمنكر (ما أنكره الشرع وحرمه وقبحه العقل ونفر منه) فلا يصح لمؤمن إطاعة الشيطان، وهذا نهي لكل المؤمنين في كل زمان، وخوطب المؤمنون بهذا ليتشددوا في ترك المعاصي، ولئلا يتشبهوا بحال أهل الإفك.
- وكرر الله تعالى تأكيد منّته وفضله على عباده، فلولا تفضل الله على المؤمنين
(٢) ما تطهر من الذنوب.
(٣) أي لا يحتلف من الأليّة: وهي اليمين.
(٤) أهل التدين والإحسان.
(٥) الغنى. [.....]
ومن فضل الله تعالى أنه يطهر من يشاء من ذنبه بقبول توبته، وتوفيقه إلى ما يرضي ربه، ومن ذلك قبول توبة حسان ومسطح وغيرهما من أهل الإفك، والله سميع لأقوال عباده، عليم بمن يستحق الهدى والضلال، وبجميع الأقوال والأفعال، وهذا حث على التوبة المخلصة من كل الذنوب.
وآية وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ نزلت في أبي بكر حيث حلف على ألا ينفق على قريبه ابن خالته الفقير مسطح، وقد كان يتيما في حجره، وكان ينفق عليه وعلى أقاربه.
والمعنى: لا يحلف أصحاب الفضل في الدين والخلق والإحسان، وأصحاب السعة في المال والثراء: ألا يعطوا أقاربهم المساكين المهاجرين، كمسطح ابن خالة أبي بكر الذي كان فقيرا مهاجرا من مكة إلى المدينة، وشهد بدرا، وهذا حث على صلة الرحم، وتلك الصلة عمل إنساني كريم مبارك.
وليعف الأغنياء والأقوياء عن المسيء، وليصفحوا عن خطأ المذنب، فلا يعاقبونه ولا يحرمونه من عطائهم، فإن من أخطأ مرة لا يشدد عليه في العقاب.
ألا تريدون أن يغفر الله لكم، أي يستر عليكم ذنوبكم، فإن الجزاء من جنس العمل، فكما يغفر الإنسان ذنب المذنب يغفر الله له، وكما يصفح المرء عن المسيء يصفح الله عنه، والله تام الرحمة، وواسع المغفرة لذنوب عباده الطائعين التائبين، رحيم بهم، فلا يعذبهم بزلة حدثت، ثم تابوا عنها. وهذا ترغيب في العفو والصفح، ووعد كريم بمغفرة ذنوب التائبين، لذا بادر أبو بكر الصديق إلى القول: «بلى والله، إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا» ثم أعاد إلى مسطح النفقة التي كان ينفقها عليه، وقال:
«والله لا أنزعها منه أبدا».
إن الذين يقدحون في أعراض أهل العفة والصون من المؤمنات والمؤمنين يرتكبون جرما عظيما، وإثما كبيرا، يستحقون بموجبه العقاب في الدنيا والآخرة، وجاء الوعيد على ذلك بمناسبة قصة الإفك، وتورط بعض الناس بقذف السيدة عائشة رضي الله عنها، والوعيد لا يقتصر عليها، بل يشمل جميع أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم، غلّظ الله أمر رميهن لمكانهن من الدين، فلعن قاذفهن، ولم يقرن بآخر الآية توبة. وقال جماعة من العلماء: بل هي في شأن عائشة رضي الله عنها إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة، قال الله تعالى مبينا خطورة القذف، أي رمي النساء كذبا بالفاحشة:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٣ الى ٢٦]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
«١» [النور: ٢٤/ ٢٣- ٢٦].
هذا وعيد شديد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات المؤمنات العفيفات، خرج مخرج الغالب، ويشمل أيضا من رمى المحصن المؤمن العفيف.
والمعنى: إن الذين يتهمون النساء الحرائر، العفيفات، البعيدات عن المعاصي والفواحش، النقيات من كل تهمة باطلة، المؤمنات بالله ورسوله، لعنوا في الدنيا والآخرة، أي طردوا من رحمة الله في الآخرة، وعذّبوا في الدنيا بحد القذف، جزاء جرمهم وافترائهم. وهذا دليل على أن القذف من الكبائر.
أخرج الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
وهذا العقاب في الدرجة الأولى لزعيم المنافقين عبد الله بن أبي وأشباهه.
قال الإمام الزمخشري: «ولو قلّبت القرآن كله، وفتّشت عما أوعد به العصاة لم تر الله عز وجل قد غلظ في شيء تغليظه في الإفك، ولو لم ينزل إلا هذه الثلاث لكفى بها حيث جعل القذفة ملعونين في الدارين جميعا، وتوعدهم بالعذاب العظيم في الآخرة، وأن ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم تشهد عليهم، وأنه يوفيهم جزاء الحق الذي هم أهله حتى يعلموا أن الله هو الحق، فأوجز وأشبع، وفصّل وأجمل، وأكدّ وكرر، وجاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلا ما هو دونه في الفظاعة».
ثم أخبر الله تعالى أن عذاب القاذفين يوم القيامة يكون بشهادة أعضائهم عليهم، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما عملوا في الدنيا من قول أو فعل، بأن ينطقها الله بقدرته، كما جاء في آية أخرى: وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت: ٤١/ ٢١].
في ذلك اليوم الرهيب يوفيهم الله حسابهم، أو جزاءهم على أعمالهم، ويعلمون أن وعد الله ووعيده وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه.
ثم سنّ الله قانونا عاما يدل دلالة مادية حسية على براءة السيدة عائشة رضي الله عنها، وهو أن النساء الزواني الخبيثات للخبيثين من الرجال، والخبيثين الزناة من الرجال للخبيثات من النساء، فاللائق بكل واحد أمثاله، فشأن الخبيثات تزوج الخبيثين، وشأن الطيبين تزوج الطيبات. أولئك الطيبون والطيبات كصفوان بن معطّل المتهم البريء، وعائشة الصديقة التي هي أسمى وأرفع من التهمة، بعيدون مبرؤون عما يقوله أهل الإفك والبهتان، ممن تميزوا بالخبث والدنس والتلوث بالمنكرات.
إن هذه الآية تضع حدا فارقا بعيد الجانبين، بعد السماء عن الأرض بين حكم عبد الله بن أبي وأشباهه من المنافقين، وبين حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم وفضلاء الصحابة رضوان الله عليهم، وأمته، أي إن النبي صلّى الله عليه وسلّم طيب، فلم يجعل الله له إلا كل طيّبة، وأولئك خبيثون، فهم أهل النساء الخبيثات.
آداب الاستئذان
الساحة الإسلامية ملأى بالآداب والأخلاق الرفيعة ذات المعاني الحضارية السامية، والمقومات الأساسية لبناء المجتمع الفاضل، وإشاعة المودة والمحبة بين الناس، والحفاظ على الروابط الأسرية والاجتماعية، والقصد من تشريع هذه الآداب صون قاعدة الحرية، والاحتفاظ بالأسرار الشخصية، والترفع عن المباذل والدناءات وسفساف الأمور، ووضع الحواجز والموانع التي تمس العورات والأعراض، وتتعلق بخصوصيات الإنسان. قال الله تعالى مبينا حكم الاستئذان عند الدخول إلى بيوت الآخرين، وآدابه وضوابطه:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)
«١» «٢» «٣» «٤» [النور: ٢٤/ ٢٧- ٢٩].
(٢) أطهر لكم من الريبة.
(٣) إثم.
(٤) منفعة ومصلحة لكم.
وقوله تعالى: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا معناه: حتى تستعلموا من في البيت وتستبصروا وتستكشفوا الأمر، وتحصلوا على الإذن. ويكون الاستئذان ثلاث مرات فقط كما ورد في السنة الثابتة.
وحكمة الاستئذان واضحة: وهي توفير حرمة المسكن وحرية السكان، لذا قال الله تعالى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي إن الاستئذان خير وأفضل للطرفين، والمستأذن وأهل البيت، فهو خير من الدخول فجأة، وخير من تحية الجاهلية، وهي: أنعم صباحا، أو مساء، وقد أنزل الله عليكم هذا الأدب، وأرشدكم إليه، لتتذكروا وتتعظوا، وتعملوا بالأصلح لكم. فإن لم تجدوا في بيوت غيركم أحدا يأذن لكم، فلا تدخلوها حتى يأذن لكم صاحب الدار، فلا يحل الدخول في هذه الحالة، لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، ولأن للبيوت حرمة، وهي محل السكن الخاص والطمأنينة الشخصية، والراحة والوداعة.
وإن طلب منكم صاحب البيت الرجوع بعد الاستئذان، فارجعوا، فإن الرجوع هو خير لكم وأطهر في الدين والدنيا، ولا يليق بكم أيها المؤمنون الإلحاح في الاستئذان والوقوف على الأبواب، ففي ذلك ذل ومهانة. والله عليم بنياتكم وأقوالكم، وأفعالكم ونظراتكم.
ولا إثم ولا حرج عليكم من الدخول إلى بيوت لا تستعمل للسكنى الخاصة، كحوانيت التجار والحمامات العامة، والأماكن المخصصة للتسلية البريئة، وذلك إذا كان لكم فيها مصلحة أو انتفاع كالمبيت فيها، وتخبئة الأمتعة، والمعاملة بالبيع والشراء وغير ذلك.
يتبين من هذه الآية أنها تشتمل على حكمين:
الحكم الأول: وجوب الاستئذان حين الدخول إلى بيوت الآخرين المسكونة.
والحكم الثاني: السماح بالدخول إلى البيوت غير الآهلة بالسكان، وليس فيها أحد، إذا كان للداخل متاع فيها، وذلك بغير إذن، كالمضافة العامة، والنزل المخصصة للمسافرين والعابرين.
والمهم في الاستئذان: هو تجنب النظر إلى ما يؤذي أهل البيت،
فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي عن سهل بن سعد: «إنما جعل الاستئذان من أجل البصر».
وذلك للبعد عن المضايقات، وتربية الإنسان على الخلق الكريم، والحياء والأدب الجم، ورقابة الله في السر والعلن، فإن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
غض البصر والحجاب
لقد نظم الشرع الحنيف العلاقة بين الرجل والمرأة على أساس من الثقة والحياء والاحترام المتبادل، وترك الاسترسال في التفكير بالخصوصيات المتعلقة بكل منهما، والتي تحتاج إلى وجود مسوغ شرعي واضح ودائم، وبعيد عن ساحات الحياة العامة والأنظار الشائعة، ليكون كل شيء في وضعه السليم، وفي موضعه الملائم، لذا أمر الشرع بغض البصر من الجنسين، وبستر ما يجب ستره، منعا من التشبه بالبدائيين،
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [النور:
٢٤/ ٣٠- ٣١].
نزلت هذه الآية في رجل وامرأة تبادلا نظرات السوء، زاعمين أنهما نظرا إلى بعضهما إعجابا وإعظاما، بفعل وسوسة الشيطان، ولكن الحقائق أقوى من الوسواس، والله لا تخفى عليه خافية، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
لذا أمر الله تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يقول للمؤمنين: كفّوا أو غضوا أبصاركم، فلا تنظروا إلا إلى ما أبيح النظر إليه. والمعنى: قل لهم: غضوا يغضوا. والغض لبعض الأبصار، لتوبيخ من يكثر التأمل في الحرام. ومع غض البصر حفظ الفروج من ارتكاب الفواحش، فإن غض البصر وحفظ الفرج خير وأطهر لقلوبهم وأنقى لدينهم، فإن الله تام العلم بكل ما يصدر عن الناس من أفعال. وهذا تهديد ووعيد.
وخلافا للمعتاد في أن خطاب الرجال يتناول النساء، أفرد الله النساء أيضا
(٢) وليلقين.
(٣) أغطية رؤوسهن.
(٤) على صدورهن وما حولها.
(٥) لأزواجهن.
(٦) أصحاب الحاجة للنساء.
(٧) لم يطلعوا.
ثم أعقب الله ذلك الأمر المشترك بين الرجال والنساء ببيان أحكام خاصة بالنساء وهي:
١- ألا تظهر النساء شيئا من مواضع الزينة للأجانب غير المحارم، إلا ما جرت العادة بظهوره: وهو الوجه والكفان والثياب الظاهرة. وهذا دليل على أن الوجه والكفين ليسا بعورة إذا لم تحدث فتنة.
٢- وعلى النساء ستر الرأس وكامل الجسد، ولا سيما أجزاء الصدر لستر الشعر والعنق ونواحي الصدر. وسبب هذه الآية: أن النساء كن في الجاهلية إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة سدلنها من وراء الظهر.
٣- ولا تظهر النساء زينتهن الخفية إلا للمحارم ونحوهم وهم الأزواج وآباء الأزواج، والآباء والأبناء والبنات، وأبناء الأزواج والإخوة وبنو الإخوة وبنو الأخوات، والنساء من جنسهن، والمماليك من الرجال والنساء، والأطفال الصغار دون العاشرة، والتابعون غير أولي الرغبة أو الحاجة إلى النساء.
وتدل الآية على أن المرأة مأمورة بألا تبدي زينتها لغير المحارم وغير الأزواج والأتباع، وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، إلا ما غلب عليها، فظهر بحكم ضرورة حركة لا بد منها أو إصلاح شأن ونحو ذلك، فهذا الذي يظهر للضرورة من المعفو عنه، وغالب الأمر أن الوجه والكفين يكثر منهما الظهور، وهو الظاهر في الصلاة، ويحسن الاحتياط ومراعاة فساد الناس، واستتار الحسنة الوجه إلا من ذي رحم محرم.
ولا يجوز للمرأة أن تلفت النظر إليها أثناء المشي، فلا تدق الأرض برجلها،
الترغيب في الزواج والاستعفاف
ما من نهي عن شيء ضار في الإسلام إلا ويقابله الأمر بممارسة شيء نافع، فقد نهى الله تعالى عما لا يحل، مما يؤدي إلى الفاحشة من إرسال البصر والتلوث بالمنكر، ثم أعقبه ببيان طريق الحل وهو الزواج المؤدي للعفة والصون، وبقاء النوع الإنساني، وحفظ الأنساب، ودوام الألفة والمحبة، وبناء الأسرة القويمة، لذا رغب الشرع الحنيف بالزواج والاستعفاف، وحذر من البغاء، وحض على تحرير الأرقاء، وإعتاق العبيد، والتخلص من ظاهرة الرق الشاذة، وندب إلى مكاتبة ملك اليمين على عوض مقسط، إذا احتاج السيد لذلك، ورغّب الموسرين في مساعدة المكاتبين على أداء بدل الكتابة للتحرر السريع، قال الله تعالى مبينا هذه الأمور المتعلقة بالزواج والعفة وتحرير الأنفس:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٢ الى ٣٣]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣)
«١» «٢» «٣» «٤» [النور: ٢٤/ ٣٢- ٣٣].
(٢) يطلبون المكاتبة من مماليككم. [.....]
(٣) الزنا.
(٤) تعففا.
والصلحاء: هم القائمون بأوامر الدين، المبتعدون عن النواهي والمحظورات، وظاهر الآية: أن المرأة لا تتزوج إلا بولي، سواء كانت صغيرة أو كبيرة.
ولا يتعلل الأولياء بفقدان المال، فالله تبارك وتعالى وعد بإغناء الفقراء المتزوجين، طلبا لرضا الله عنهم، واعتصاما من معاصيه، فلا تنظروا إلى مشكلة الفقر، فقر الخاطب أو المخطوبة، فإن في فضل الله ما يغنيهم، والله غني ذو سعة، لا تنفد خزائنه، ويبسط الرزق لعباده على وفق الحكمة والمصلحة، ويخص الأزواج بمزيد من العطاء، لاستمرار الحياة الزوجية، قال عمر رضي الله عنه: عجبي ممن لا يطلب الغنى بالنكاح، وقد قال الله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ.
وأخرج ابن ماجه في سننه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاثة، كلهم حق على الله عونه: المجاهد في سبيل الله، والناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء».
ثم أمر الله تعالى كلّ من يتعذر عليه الزواج، ولا يجده بأي وجه تعذّر: أن يستعفّ، حتى يتيسر له الغنى، ويتفضل الله عليه بالإغناء، ولا يقنط من رحمة الله وفضله، فإن الله واسع الغنى، تام العلم بأحوال الناس، خلق الخلق وتكفل برزقهم، وإذا كان الإنسان محاطا بعلم الله، ومزودا بنعم الله، فلماذا يعصي ربه؟
ثم أمر الله تعالى المؤمنين كافة أن يكاتب السعادة مماليكهم، وعقد الكتابة:
الاتفاق على أداء مال معين في مدة معينة، يتحرر المملوك بعدها. فإن طلب المملوك الكتابة، وعلم سيده منه خيرا، فيستحب له الموافقة على مكاتبته.
ورغب القرآن الكريم السادة في ترك شيء للعبد المكاتب من أقساط الكتابة بقوله تعالى: وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ قال المفسرون: هو أمر لكل مكاتب أن يضع للعبد من مال كتابته. واستحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يكون ذلك ربع الكتابة. وهذا مروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث
روى عبد الرزاق وغيره عن علي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يترك للمكاتب الربع».
ثم نهى الله تعالى المؤمنين عن الكسب الحرام، فذكر: لا تجبروا إماءكم على الزنا، سواء أردن التعفف عنه أو لا، بقصد الحصول على أعواض مادية، وأما قوله سبحانه: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً فهو قيد لحكاية الحال التي كانت قائمة، وبيان الواقع الذي نزلت الآية بسببه، لما
أخرجه ابن مردويه عن علي رضي الله عنه: أنهم كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا، ليأخذوا أجورهن، فنهوا عن ذلك في الإسلام، ونزلت الآية.
وكان عبد الله بن أبي بن سلول يأمر أمته محسيكة أو معاذة بالزنا والكسب به، وإذا كان تشغيل الأمة في البغاء لعوض مالي محرما شرعا، فمن باب أولى أن يكون طلب البغاء مجانا ممنوعا أيضا. وقوله تعالى: عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا في هذه الآية: الشيء الذي تكتسبه الأمة بفرجها.
ومن يقدم على إكراه الإماء على البغاء من غير رضا منهن، فإن الله تعالى بعد إكراههن غفور لهن، رحيم بهن، كما أنه سبحانه غفور للمكرهين إن تابوا وأنابوا.
لقد كانت وما زالت مهمة القرآن العظيم بيان نعم الله تعالى على عباده قاطبة، فالله سبحانه وتعالى أنزل القرآن آيات منيرات للنفوس، وهو عز وجل منوّر السموات والأرض بأنواره الذاتية، ليكون الناس على بيّنة من أمرهم، فإذا قدّروا نعمة الله، وتدبّروا آيات الله في قرآنه، وعرفوا مدى فضل الله في تنوير الكون سمائه وأرضه، وجب عليهم طبعا وعقلا وأدبا، شكر المنعم وعبادته وطاعته في كل ما أمر به ونهى عنه، لأن القصد من التنوير: هو هداية أهل السماوات والأرض، تلك الهداية التي بلغت الغاية في الظهور والجلاء، قال الله تعالى موضحا نعمته في التنوير أو الهداية:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٤ الى ٣٥]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤) اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [النور: ٢٤/ ٣٤- ٣٥].
هذه هي آيات التنوير الحسي والمعنوي، المادي والقلبي، فلقد وصف الله تعالى في الآية الأولى القرآن الكريم بصفات ثلاث وهي:
أولا- لقد أنزلنا في هذه السورة- سورة النور وغيرها آيات مفصّلات الأحكام والحدود والشرائع التي يحتاج الناس إليها، وموضحات الحق ومعالمه ودروبه.
ثانيا- أنزل الله في قرآنه أيضا أمثلة من أخبار الأمم المتقدمة، وضرب للناس من أمثال الماضين من الأمم، ليقع التحفظ والحذر مما وقع أولئك فيه.
(٢) أي قصة عجيبة من قصص الأمم الغابرة.
(٣) منورهما ومدبرهما.
(٤) أي كوّة أو طاقة مغلقة غير نافذة من الخلف.
(٥) مضيء.
ويكاد زيتها لصفائه وبريقه يضيء بنفسه، قبل إضاءته ومسّ النار له، لأن الزيت الصافي يرى من بعيد كأنه ذو شعاع، فإذا مسّته النار، ازداد ضوءا على ضوء، ومثل ذلك قلب المؤمن، يعمل بالهدى الإلهي قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم، ازداد نورا على نور، وهداية على هداية، لأن الله تعالى هو الذي أبدع الموجودات، وخلق العقل نورا هاديا، فالعاقل يدرك عظمة المخلوقات، ويهتدي إلى خالقها، فإذا اكتملت الهداية بالكتاب الإلهي المنزّل، واستنار الإنسان بإرشادات الرسول المرسل، وضحت الأمور وضوح الشمس.
وهكذا مثل المصباح بالزيت الصافي: هو نور متضاعف، اجتمعت المشكاة
ويرشد الله تعالى لهدايته ويوفق عباده لاختيار الصواب، بهذه الأمثلة كلها، وتتضح الرؤية للحق بالنظر والعقل وإعمال الفكر.
ويبين الله تعالى للناس الأمثلة الموضحة، ودلائل الإيمان، ووسائل الهداية الكافية، لترسيخها في الأذهان، من طريق تصوير المعاني بصور المحسوسات المألوفة، والله عالم تام العلم بكل الأشياء المعقولة والحسية، الباطنة والظاهرة، يمنح الهداية لأهلها، ويوفق للخير والحق المستعد لتلقيها.
المنتفعون بنور الله تعالى
الأنوار الإلهية الهادية إلى الحق وإلى صراط مستقيم ترشد العباد إلى ما يحقق لهم الخير والسعادة، فيكون هناك تلازم وتواصل بين النور والمنوّر عليهم، وإذا تحققت الاستنارة من الناس انتفعوا بالنور الإلهي، وبادروا لإعمار بيوت الله عمارة معنوية بالصلوات والأذكار وتلاوة القرآن، وأولئك هم الصفوة المختارة الباقية على منهج الحق إلى يوم القيامة، فهم لا ينشغلون بزينة الحياة الدنيا، ويخشون ربهم، ويبادرون إلى طاعة الله تعالى، ليقدّموا لآخرتهم أحسن الأعمال، ويستمتعوا بأفضال الله وكرمه، ويدوم عليهم إدرار الرزق والعطاء من غير انقطاع ولا منّة ولا زوال، قال الله تعالى واصفا أحوال المهتدين بالنور الإلهي:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨)«١» «٢» «٣» [النور: ٢٤/ ٣٦- ٣٨].
مطلع هذه الآية فِي بُيُوتٍ متعلقة بما قبلها، تقديره كمشكاة كائنة أو مصباح كائن في بيوت أمر الله برفعها بالبناء أو التعظيم، وتطهيرها من النجاسات الحسية كالقذر، والمعنوية كالشرك والوثنية. أو هي متعلقة بمتأخر وهو يسبّح، أي يسبح الله ويقدس له المسبحون في بيوت. والبيوت: هي المساجد المخصوصة لله تعالى التي من عادتها أن تنوّر بذلك النوع من المصابيح. والمعنى: ينزه الله تعالى ويقدسه في الصلاة في المساجد في أوائل النهار وأواخره بكرة وعشيا، صباحا ومساء، والمراد في كل وقت، وفي مجالس الوعظ والذكر، وقراءة العلم، والتفكر والتأمل في ملكوت الله وعظمته.
وقوله سبحانه: تُرْفَعَ معناه تبنى وتعلّى، كما في قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [البقرة: ٢/ ١٢٧]،
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وبقية الكتب الستة والدارمي: «من بنى مسجدا من ماله بنى الله له بيتا في الجنة».
ثم وصف الله تعالى المسبحين، بأنهم لمراقبتهم أمر الله تعالى، وطلبهم لرضاه، لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا، فهم رجال ليسوا ماديين نفعيين، بل هم قوم ذوو همة عالية، وعزيمة صادقة، لا تشغلهم تجارة، ولا بيع عن ذكر الله وتقديسه، بل يذكرون الله تعالى، ويقيمون الصلاة جماعة في المساجد،
(٢) أول النهار وآخره.
(٣) بلا نهاية للعطاء.
وذلك ليجزيهم الله الجزاء الأحسن، أي إن كلمة «ليجزيهم» متعلقة بفعل مضمر تقديره: فعلوا ذلك، من أجل أن يثيبهم الله ثوابا يكافئ حسن عملهم، فقوله تعالى: أَحْسَنَ ما عَمِلُوا فيه حذف مضاف، تقديره: ثواب أحسن ما عملوا.
ثم وعدهم الله عز وجل بالزيادة من فضله على ما تقتضيه أعمالهم، فأهل الجنة أبدا في مزيد، قال الله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: ١٠/ ٢٦].
وقال الله تعالى في الحديث القدسي- فيما رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
ثم ذكر الحق تعالى أنه سبحانه واسع الفضل والإحسان، يرزق من يشاء، ويخصه بما يشاء من رحمته، دون حساب ولا تعديد، وكل تفضل لله فهو بغير حساب، وكل جزاء على عمل فهو بحساب، والله على كل شيء قدير، يمنح من غير حدود، ويعطي من يشاء بلا قيود، وهذه النعمة من صفات الله عز وجل، لأن العطاء غير المحدود لا يكون من أحد من البشر أو من المخلوقات، وإنما يكون ممن اتصف بالألوهية، فهو وحده الذي لا تنفد خزائنه، ولا تفنى مصادر غناه.
والخلاصة: إن هاتين الآيتين لتبيان حالة الإيمان والمؤمنين وتنوير الله قلوبهم.
في كثير من الأحيان يعتمد الأسلوب القرآني عقد موازنة أو مقارنة بين المتقابلات، ليتبين الخير وأهله ومصيرهم، والشر وأهله وعاقبتهم، فبعد أن ذكر الله تعالى أحوال المؤمنين وحالة الإيمان، وتنوير قلوبهم بنور القرآن، ذكر الله الكفرة وأعمالهم في الدنيا والآخرة، فحال أعمالهم في الآخرة غير نافعة ولا مجدية، وحالها في الدنيا أنها في غاية الضلال والغمّة، مثل حالة تناهي الظلمة وحيرة المترددين فيها، وهذه عاقبة وخيمة، لا يرتضيها عاقل لنفسه، وصف الله سبحانه أحوال الكفار بقوله:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
«١» «٢» »
[النور: ٢٤/ ٣٩- ٤٠].
نزلت الآية في عتبة بن ربيعة بن أمية، قد كان تعبّد في الجاهلية، ولبس المسوح، والتمس الدّين، فلما جاء الإسلام كفر. أو إنها نزلت في شيبة بن ربيعة، وكلاهما مات كافرا.
هذه حالة الكافرين الجاحدين: ضلال وحيرة واضطراب في الدنيا، وخسارة شديدة في الآخرة، ولهم تمثيلان كما ذكر ابن عطية:
الأول منهما: يقتضي حال أعمالهم في الآخرة من أنها غير مجدية ولا نافعة.
(٢) عميق كثير الماء.
(٣) يغطّيه.
أما حال أعمال الكفار في الآخرة وهو المثل الأول، فإن أعمالهم الصالحة شبيهة بسراب يراه الإنسان العطشان من بعيد في فلاة من الأرض، فيحسبه ماء، فيأتيه، فلا يجد ما رجاه. والقيعة: هي المنبسط من الأرض، أو جمع قاع، وهكذا حال الكافرين يحسبون أعمالهم نافعة لهم في الآخرة، منجّية من عذاب الله، فإذا جاء يوم القيامة، وقوبلوا بالعذاب، فوجئوا بأن أعمالهم الصالحة مثل صلة الرحم والإحسان إلى الفقراء ونحو ذلك لم تنفعهم، وإنما يجدون زبانية جهنم تأخذهم وتسوقهم إليها سوقا عنيفا، فهم يجدون عذاب الله الذي توعد به الكافرين ينتظرهم، والله سريع الجزاء على العمل السيئ في الدنيا، وهو الكفر بالله، وعصيان أوامر الله، والانغماس في المنكرات.
وقوله تعالى: حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً يراد به: شيئا نافعا في العطش، أو شيئا موجودا، على العموم، أي فكذلك الكافر يوم القيامة يظن عمله نافعا، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، وقوله سبحانه: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ مجاز، وعنده عائد على العمل.
وفي ذلك توعد وبيان لسرعة الحساب. والمراد: أن الكفار سوف يصطدمون بالخيبة والخسارة في الآخرة، فلا يجدون ما ينفعهم ولا ما ينجيهم.
وأما المثل الثاني: وهو حال الكفار وأعمالهم في الدنيا: فهو أن مثل أو صفة أعمالهم التي يعملونها في الدنيا، مثل ظلمات ثلاث متراكمة، في بحر عميق بعضها فوق بعض، وهي ظلمة البحر، وظلمة الموج، وظلمة السحاب، أي إنهم من الضلال في العقيدة ونحوه في مثل هذه الظلمة المجتمعة من هذه الأشياء، وهم في الواقع في ظلمات ثلاث: ظلمة الاعتقاد الباطل، وظلمة القول الساقط، وظلمة العمل الفاسد.
ومن لم يهده الله لنوره، ولم يوفقه لهدايته، فهو هالك جاهل خاسر، في ظلمة الباطل لا نور له، ولا هادي له. والمراد أن من لم يهده الله في الدنيا لم يهتد، ويلزم منه أنه في الآخرة لا يجد رحمة من الله ولا عفوا، وهذا لا يقتضي الجبر والإكراه، لأن الإنسان في مثل هذا مخيّر، وإنما الضلال وما ينتج عنه من خسران بسبب اختيار وإرادة من الإنسان ذاته.
البراهين الكونية على وجود الله تعالى
أورد القرآن الكريم عدة أدلة على وجود الله، منها الخلق والإيجاد والإعدام للإنسان والحيوان، ومنها أفعال الموجودات في السماء والأرض، ومنها إنزال المطر، وتقليب الليل والنهار، وذلك كله لإقناع الإنسان وهدايته، وتوصله إلى الإقرار بوجود الله وتوحيده، ومعرفة عظمته وقدرته. ولولا فضل الله ورحمته بالناس جميعا، لما نبّه القرآن كلام الله على هذه الأدلة، واقتصر على تشريع الحلال والحرام، إلا أن القرآن العظيم شمل كل شيء من شؤون العقيدة والعبادة والأخلاق والمعاملة، وأرشد إلى أصول تنظيم المعاملات والعلاقات الاجتماعية، وحالة الوصية والميراث بعد الوفاة، قال الله تعالى مبينا أدلة أربعة على وجوده، منها ثلاثة في هذه الآيات:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤)«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [النور:
٢٤/ ٤١- ٤٤].
هذه بعض أدلة وجود الله وتوحيده وقدرته، أولها: تسبيح المخلوقات. والمعنى:
ألم تعلم بالدليل الواضح أيها النبي وكل مخاطب أن الله ينزهه ويقدسه كل من في السماوات والأرض، من العقلاء وغيرهم، من الملائكة والإنس والجن والجمادات، والطير باسطات قابضات أجنحتها حال طيرانها في جو السماء كيلا تسقط. والجمهور على أن تسبيح الطير والجمادات تسبيح حقيقي، ويراد به التعظيم والتقديس، وذلك بأسلوب يتفق مع طبيعة هذه المخلوقات، وكل واحد مما ذكر قد علم الله صلاته وتسبيحه، أي أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عز وجل، والله تام العلم بجميع ذلك، ولا يخفى عليه شيء من أفعالهم، وهو مجازيهم عليها.
والله تعالى مالك جميع ما في السماوات والأرض، وهو الحاكم المتصرف فيهما، بالخلق والإماتة، وإليه وحده مصير الخلائق ومعادهم يوم القيامة.
الدليل الثاني: إنزال المطر، ألم تعلم أيضا أيها النبي وكل إنسان مخاطب كيفية تكوين المطر وإنزاله، إن الله تعالى يسوق السحاب بقدرته، ثم يجمع ما تفرق من أجزائه في وحدة متضامة، ثم يجعل بعضه متراكما فوق بعض، حتى يتكون منه
(٢) يزجي: يسوق.
(٣) الركام: الذي يركب بعضه بعضا ويتكاثف.
(٤) الودق: المطر.
(٥) ضوء برقه.
وينزّل الله من السماء مطرا وبردا من سحب كثيفة متراكمة تشبه الجبال، فيصيب الله بالمطر من يشاء من عباده رحمة لهم، ويحجبه ويمنعه عمن يشاء، ويؤخر الغيث عمن يريد، إما نقمة وإما رحمة حفاظا على الأزهار والثمار والزروع. وجبال البرد إما حقيقة. وإما مجاز يراد به وصف كثرته.
والعجب في هذا خلق الشيء من ضده، وهو النار من البارد، حتى ليكاد برق اصطدام الغيوم من شدته، يخطف الأبصار إذا نظرت إليه، نظرة تحديق. وسنا برقه:
يراد به ضوء ذلك البرق الذي في السحاب. ويذهب بالأبصار: فيه تقدير أي يذهب النفوس بالأبصار.
والدليل الثالث: اختلاف الليل والنهار، أي إن الله عز وجل يتصرف في الليل والنهار بزيادة أحدهما ونقص الآخر، وتغير أحوالهما بالحرارة والبرودة، وتعاقبهما بنظام ثابت دقيق. إن في ذلك لدليلا على عظمة الله الباهرة، وعظة لمن تأمل من ذوي العقول والألباب. والتنبيه على تعاقب الليل والنهار واختلافهما طولا وقصرا وارد في كثير من الآيات، مثل قول الله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) [آل عمران: ٣/ ١٩٠].
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلّب الليل والنهار».
ضلال المنافقين والكافرين
من العجب الواضح أن بعض الناس يصرون على ضلالهم وكفرهم، على الرغم من الآيات الكونية الحسية والمعنوية الدالة على وجود الله وقدرته وتوحيده، وهؤلاء هم المنافقون وبعض الكافرين، فإن خلق الإنسان والحيوان وخلق الكائنات دليل ساطع على وجود الله وتوحيده، ومع ذلك ترى المنافقين يرفضون في أعماق قلوبهم الإقرار الصادق بالدين الحق، ويتظاهرون بالإسلام، ويبطنون الكفر والعداء، قال الله تعالى واصفا مرض أولئك المنافقين:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٥ الى ٥٠]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠)
«١» «٢» [النور: ٢٤/ ٤٥- ٥٠].
الدليل الرابع على وجود الله وتوحيده: خلق أنواع الدواب من الماء، الذي هو أصل الخلقة الأول، وتوقف حياة الحيوان عليه، وأن خلقة كل حيوان فيها ماء، وللدواب أنواع، فمنها ما يمشي زحفا على بطنه كالزواحف، ومنها ما يمشي على
(٢) أن يجور.
وقوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ تذكير الضمير لتغليب العقلاء، وبنى على تغليبهم في الضمير التعبير ب «من» الواقعة على من يعقل. وظاهر بعض العبارات يشعر باعتبار التغليب في «كل دابة» وليس بمراد، بل المراد أن ذلك لما شمل العقلاء وغيرهم على طريق الاختلاط، لزم اعتبار ذلك في الضمير العائد عليه وتغليب العقلاء فيه. «١»
ثم عقب الله تعالى على خلقه الأشياء بأنه سبحانه أنزل في القرآن آيات مفصلات، واضحات دالة على وجود الخالق المدبر للكون، وهي كل ما نصب الله تعالى من آية وصنعة للعبرة، وفي كل آية تنبيه وتذكير، والله يرشد إلى تفهم الآيات وتعقلها جميع أولي الألباب والبصائر، ويدلهم إلى الطريق القويم الذي لا اعوجاج فيه.
وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ.. نزلت في بعض المنافقين في بشر المنافق الذي أبى أن يحتكم لرسول الله في أرض، وأراد الاحتكام لكعب بن الأشرف، وخصمه اليهودي جعل يجرّه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليحكم بينهما.
والمعنى: يقول المنافقون أمام الناس: صدقنا بالله ربا، وبمحمد رسولا، وأطعنا الله فيما قضى، والرسول فيما حكم به، ثم يعرض فريق منهم عن قبول حكمه، فيناقض قولهم عملهم، وهم في الواقع ليسوا من المؤمنين، وإذا طلبوا إلى تحكيم كتاب الله واتباعه هديه، وإلى الرسول ليحكم بينهم في خصوماتهم، أعرضوا عن قبول حكم الله والرسول، واستكبروا عن اتباع حكمه، وهذا يدلنا على أن حكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو حكم الله القائم على الحق.
إن تردد المنافقين بين الإسلام والكفر لأحد الأسباب الآتية: وهي إما أنهم مرضى القلوب بالكفر والنفاق، والمرض ملازم لهم، وإما أنهم شكوا في الدين وفي نبوته صلّى الله عليه وسلّم، وإما إنهم يخافون أن يجور الله تعالى ورسوله عليهم في الحكم. وترداد هذه الأسباب توبيخ لهم، ليقروا بأحد هذه الأسباب.
وأيا كان السبب فهو كفر محض، والله عليم بكل منهم وبصفاتهم، لذا قال الله تعالى: بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي بل إنهم، أي المنافقون هم الظالمون الفاجرون الفاسقون يريدون أن يظلموا من له الحق عليهم، لا أنهم يخافون أن يحيف أو يجور الرسول صلّى الله عليه وسلّم، لمعرفتهم بأمانته وعدله في حكمه، وصونه عن الجور، والحيف: الميل.
أما الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنما يحكم دائما بأمر الله وشرعه، ولا يحيد عن الحق مقدار أنملة، سواء كان الحق لمنافق أو ليهودي أو لغيرهما.
الطاعة المتناهية عند المؤمنين
إن معرفة الله تعالى بوجوده ووحدانيته ونعمائه وأفضاله، تتطلب حبه حبا جما متناهيا، يفوق كل حب، ويسمو فوق كل حب، ويتجرد عن الهوى والمصلحة، والنفعية وتحقيق المطالب، والحب والمعرفة يتطلبان إقرارا وبرهانا واقعيا عليهما، ومحاولة التقرب من الله المحبوب حبا ذاتيا، وطاعة هذا المحبوب، وامتثالا لأوامره
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥١ الى ٥٤]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤)
«١» «٢» [النور: ٢٤/ ٥١- ٥٤].
هذه هي صفة المؤمنين المميزة لهم بحق، قورنت مع صفة المنافقين في آيات سابقة، أما المؤمنون فإنهم قولا وفعلا، ظاهرا وباطنا، يسمعون ويطيعون، وأما المنافقون فطاعتهم مجرد تصنع وتظاهر بالطاعة، مع خلو القلب والنفس من معاني الطاعة الحقيقية.
إن شأن أهل الإيمان الصادقين في إيمانهم: أنهم إذا طالبهم أحد إلى حكم الله ورسوله في منازعاتهم وإلى شرع الله ودينه أن يبادروا إلى القول: سمعنا وأطعنا، فاستحقوا الوصف بالفلاح والنجاة، ونيل الآمال المطلوبة، والسلامة من المرهوب وكل مخيف.
وأكد الله تعالى بشارة المؤمنين بالفلاح في الآخرة والدنيا، بالفوز بكل خير، والأمن من كل شر، في الدنيا والآخرة، فكل من يطيع الله ورسوله في كل ما أمر به وترك ما نهى عنه، وخاف الله فيما مضى من ذنوبه، واتقاه في مستقبل أيامه، فأولئك
(٢) طاعتكم معروفة وهي اللسان.
ثم قارن الله تعالى حال المؤمنين هذا، بحال المنافقين في كل زمن، فلقد كان أهل النفاق يحلفون للرسول صلّى الله عليه وسلّم مغلّظين الأيمان، مبالغين فيها إلى غايتها أو نهايتها، ومضمون حلفهم: لئن أمرتهم أيها الرسول بالجهاد، والخروج لمواجهة الأعداء، ليخرجن كما طلبت، فكذبهم الله تعالى في هذه الأيمان الكاذبة بقوله:
قل يا محمد لهم: لا تحلفوا، فإن المطلوب منكم طاعة معروفة: هي الصدق باللسان، وتصديق القلب والأفعال، طاعة تعرف منكم، وتظهر عليكم في الظاهر والباطن، هي المطلوبة منكم، أما طاعتكم التي تتظاهرون بها، فهي رديّة كاذبة لا قيمة لها، وأيمانكم كاذبة، واضحة الكذب، فكلما حلفتم كذبتم، كما قال الله تعالى: يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) [التوبة: ٩/ ٩٦].
إن الله مطلع على أعمالكم الظاهرة والباطنة، خبير بكم وبمن يطيع ممن يعصي، يعلم بأيمانكم الكاذبة، وبكل ما في ضمائر عباده من الكفر، والنفاق، وخداع المؤمنين، فيجازيكم على كل عمل سوء، وهذا تهديد ولوم ووعيد.
ثم فتح الله باب الأمل لهم، ورغّبهم ورهّبهم، فقل لهم أيها النبي: اتبعوا كتاب الله وسنة رسوله، والآية مخاطبة مباشرة لأولئك المنافقين وغيرهم من الكفار، وكلّ ممتنع عن أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وثمرة الطاعة الصادقة معروفة، فإنكم إن تطيعوا هذا الرسول، فيما أمركم به ونهاكم عنه، تهتدوا إلى الحق، لأنه يدعو إلى صراط مستقيم، وليس للرسول سلطان الإكراه والإجبار لأحد، فما على الرسول إلا التبليغ
تحدد هذه الآيات مهمتين أساسيتين للرسول وللناس، أما مهمة الرسول التي حمّله الله تعالى أمانتها وأوجبها عليه: فهي التبليغ لوحي الإله، ومحاولة إصلاح الناس بالرسالة الإلهية، وإعماله الجهد في إنذارهم وتحذيرهم من مغبة العصيان والمخالفة، وأما مهمة الناس: فهي السمع والطاعة لأمر الله ورسوله، واتباع الحق، وتجنب الظلم والباطل.
وإن الله تعالى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، فإنه سبحانه يعلم علما دقيقا تاما، بأحوال الأيمان الصادرة عن الإنسان، أهي صادقة معبرة عن الحقيقة والواقع أم كاذبة مناقضة لهما؟ ولا تفيد الأيمان الكاذبة شيئا، وإنما تكون وبالا على حالفيها لأنهم كاذبون، وللكذب جزاء مؤكد، كما لترك الإيمان ومعاداة رسالة الرسول صلّى الله عليه وسلّم جزاء آخر، وعقاب أليم في الدار الآخرة.
مقومات أهل الإيمان في الحكم
يتميز المؤمنون الصالحون بأنهم في جميع أحوالهم رسل هداية، ودعاة صلاح وإصلاح، يعبدون ربهم عبادة خالصة لا يشوبها شيء من الإشراك والضلال، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويطيعون رسول الحق والهداية، والعدل والفضيلة، ويتجنبون كل فساد وإفساد، وتخريب، وإهانة، وإذلال، أو امتهان لكرامة الإنسان. وهذه المقومات هي التي مكّنت للمؤمنين في الأرض، وعزّزت بقاء
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
[النور: ٢٤/ ٥٥- ٥٧].
سبب نزول هذه الآيات: هو ما
رواه الحاكم والطبراني عن أبي بن كعب قال: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه المدينة، وآوتهم الأنصار، رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه، فقالوا: ترون أنّا نعيش حتى نبيت آمنين مطمئنين، لا نخاف إلا الله، فنزلت آية: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ.. الآية.
لا يصح للمؤمنين المجاهدين أن يضجروا من مكافحة الأعداء، ولا ييأسوا من الحظوة بمظلة الإيمان، والبعد من الخوف على أنفسهم، حتى وإن استمروا في حمل السلاح، لأنه في النهاية ستتحقق لهم الثمرة اليانعة، وهي الاستخلاف في الأرض، فقد وعد الله الذين آمنوا بحق، وعملوا صالح الأعمال أن يستخلفهم في الأرض، واستخلافهم: هو أن يملّكهم البلاد، ويجعلهم أهلها، كما جرى في الشام والعراق وخراسان والمغرب، بدءا من خلافة الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، لأنهم أهل الإيمان وعمل الصالحات.
وذلك كاستخلاف الذين سبقوهم في الإيمان والصلاح على الأرض، كداود وسليمان عليهما السلام، وقد تحقق هذا الوعد الإلهي، لأن وعد الله منجّز،
ووعد ثالث: هو تحقيق الأمن ونشر ألوية السلام في ربوعهم، وتغيير حالهم من الخوف إلى الأمن والاستقرار، والسعة والرخاء.
ثم ذكر الله تعالى أحوال أمة القرآن بعد تحقيق العزة والسيادة والأمن، وأول هذه الأحوال: أنهم يعبدون الله وحده لا شريك له، فلا يخالط إيمانهم أيّ لون من الشرك الظاهر أو الخفي، أما من كفر النعمة، وجحد فضل الله، بعد هذه النعم، فأولئك هم المتصفون بالفسق البعيدون عن الرحمة، الغارقون في الضلال والعصيان.
وثاني أحوالهم في سلطانهم: أنهم يؤدون الصلاة في أوقاتها تامة الأركان والشروط، ويعطون الزكاة المفروضة عليهم، حتى يكون الجميع أقوياء غير فقراء، ويطيعون الرسول فيما أمر به أو نهى عنه، وذلك كله ليرحمهم ربهم، وينجّيهم من عذاب شديد الألم. وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي في حقكم ومعتقدكم، وإطاعة الرسول عامة لجميع الطاعات.
وأما المتنكرون لطاعة الله ورسوله، فهم في خطر وخسران ومصير سيء، فلا تظنن أيها الرسول أن الذين جحدوا برسالتك وكذبوك، يعجزون الله، ويفرون من سلطانه إذا أراد إهلاكهم، بل الله قادر عليهم، ومصيرهم إلى النار الحامية، وبئس هذا المصير مصيرهم، وقبح أو ساء هذا المرجع والخاتمة أو القرار والمهاد مرجعهم، وقوله تعالى: مُعْجِزِينَ معناه فائتين غير مقدور عليهم. والمصير: المرجع.
وهذا تنبيه وتقريع للكفرة، فإنهم ليسوا بمفلتين من عذاب الله تعالى خلافا لما يظنون أو يتوهمون.
للإنسان أحوال من صحو وانتعاش، وجدية وانهماك في العمل، واسترخاء وإيثار للراحة من بعد العناء، ولا شك أن حال الإنسان وقت العمل يختلف عن حالته وقت الراحة والنوم، ويؤثر كل إنسان عنده حياء وإيمان ألا يطلع عليه أحد ولو من أولاده، على حالته الخاصة، وظرفه غير المعتاد، لذا أمر الله تعالى الأولاد سواء في حال الصغر أو بعد بلوغ الحلم أن يستأذنوا على آبائهم وأمهاتهم في أوقات ثلاثة: في وقت النوم والراحة قبل صلاة الفجر، وأثناء القيلولة في الظهيرة، وبعد صلاة العشاء، وخفف الله تعالى عن العجائز بترك ارتداء الثياب الظاهرة في البيت.
قال الله تعالى مبينا هذه الأحكام:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [النور: ٢٤/ ٥٨- ٦٠].
نظّم الله تعالى في هذه الآيات علاقات أفراد الأسرة الواحدة فيما بينهم، فأمر بالاستئذان عند دخول بعضهم على بعض في البيوت، فيجب على الخدم في المنازل من
(٢) وقت الظهر.
(٣) حرج في الدخول بلا إذن.
(٤) العجائز.
(٥) مظهرات للزينة الخفية. [.....]
إن هذه الأوقات المذكورة هي ثلاث عورات، والعورة: كل ما يجب ستره، ولا يجوز النظر إليه، ولا إثم ولا حرج في ترك الاستئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة، وإنما الأمر على الإباحة، تيسيرا للتطواف وأداء الخدمات، فإن هؤلاء الخدم والأطفال الصغار يطوفون عليكم معشر الوالدين في الخدمة وغير ذلك، ويترددون عليكم في الإيناس والمعاشرة، وقضاء الحاجات.
ومثل ذلك التبيين لهذه الأحكام السامية المقصد، يبين الله لكم الشرائع والأنظمة في آياته البينة الواضحة الدلالة على المعاني والمقاصد، والله عليم بأحوال عباده وبما يصلحهم وما يفسد أحوالهم، حكيم في تدبير أمورهم، وتشريع الأصلح لهم.
ويجب أيضا على الأطفال البالغين أن يستأذنوا في المرات الثلاث الآنفة الذكر، سواء مع الأباعد أو الأقارب، وكما بيّن الله هذه الآداب والأحكام بيانا شافيا كافيا، يبين لكم معشر المسلمين أحكاما أخرى، لتحقيق الطمأنينة والاستقرار، والبعد عن المنغصات والأكدار، والله عليم بأحوال عباده، حكيم في معالجة أوضاعهم، وهذا تأكيد لإتمام النعمة من الله بتشريع هذه الأحكام، وتوكيد لمضمون الآية السابقة في حكمها السديد.
ثم أبان الله تعالى حكما خاصا بعجائز النساء في المنازل، وهو أنه لا إثم ولا حرج على كبيرات السن، اللاتي انقطع حيضهن، ويئسن من الولد، ولم يبق لديهن رغبة في الزواج، لا إثم عليهن في تخفيف الملابس، وترك الارتداء الثياب الظاهرة، كالجلباب والرداء والقناع
أي الظهور والتكشف، ولم يكن فيهن جمال أو حسن ظاهر، ولكن الاستعفاف، والاحتياط بالستر، وإبقاء الثياب المعتادة خير وأفضل لهن، والله سميع لأحاديثهن، وكلامهن مع الرجال، عليم بمقاصدهن، ولا تخفى عليه خافية من أمورهن.
رفع الحرج عن ذوي الأعذار في الجهاد وغيره
لا تكلّف ولا مشقة في شرع الله ودينه، وإنما الطاعة بقدر الطاقة، وتزول الكلفة بالألفة أو المحبة، والقرابة والصداقة، سواء في الأكل من البيوت بلا إذن، أو تناول الطعام جماعة أو فرادى، والتحية المتبادلة: عنوان المحبة والسلام والاطمئنان، حتى في حال الدخول إلى منزل الإنسان، وتلك شريعة الخلود وشريعة أحكم الحاكمين التي تنبئ عن التسامح والتيسير، والتآلف وحسن الظن، وإشاعة المحبة، ودفع الحرج والمشقة التي قامت عليها الشريعة الإسلامية. قال الله تعالى مبينا هذه الآداب:
[سورة النور (٢٤) : آية ٦١]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
«١» [النور: ٢٤/ ٦١].
وسبب النزول كما اختار ابن جرير الطبري: قال سعيد بن المسيب: أنزلت هذه الآية في أناس كانوا إذا خرجوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم، وكانوا يأمرونهم أن يأكلوا مما في بيوتهم إذا احتاجوا إلى ذلك، وكانوا يتقون أن يأكلوا منها ويقولون: نخشى ألا تكون أنفسهم بذلك طيبة، فأنزل الله تعالى هذه الآية: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ.
وظاهر الآية وأمر الشريعة: أن الحرج مرفوع عن ذوي الأعذار (الأعمى والأعرج والمريض) ولا سيما في القيام بواجب الجهاد، والأكل من بيوت الأقارب والأصدقاء من غير استئذان.
والمعنى: ليس على الأعمى والأعرج والمريض إثم ولا ذنب في ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم، وتعذر الاسهام بشيء من واجبات الجهاد في ساحات الوغى ومواجهة الأعداء، كما أنه لا إثم عليهم في الأكل من بيوت القرابات والأصدقاء، في حال غيبتهم عن دورهم، وائتمان أحد هؤلاء على المفاتيح ونحوها.
كذلك لا إثم على الناس في الأكل من بيوتهم الخاصة، ويشمل ذلك بيوت الأبناء، وإن لم يرد ذكر لها في الآية، لأن بيت ابن الرجل بيته، ومال الولد بمنزلة مال أبيه، ولا حرج أيضا على الأصحاء في أن يأكلوا مع أصحاب الأعذار، مواساة لهم، وتواضعا معهم، وإشعارا بأنهم سواء مع غيرهم دون وجود نظرة ترفع أو تأفف أو تخوف من المرض وغيره.
وأباح الله تعالى الأكل من بيوت أحد عشر موضعا: وهي بيوت الآباء،
وأباح الله سبحانه أيضا تناول الأكل مجتمعين على طعام واحد، أو فرادى متفرقين.
روى ابن ماجه عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلوا جميعا، ولا تفرقوا، فإن البركة مع الجماعة».
ويستحب للداخل على بيته: السلام على أهل البيت الذين هم بمنزلة الداخل في الدين والقرابة، فتكون التحية بركة عليهم، لأنها تحية ثابتة بأمر الله تعالى، مشروعة من لدنه، مباركة، أي يرجى منها زيادة الخير والثواب، وطيبة، أي يطيب بها قلب المستمع وتهدأ نفسه، والتحية: دعاء بالسلامة والأمن، والخير، وزيادة الرزق للمسلّم عليه.
وكما بيّن الله تعالى بيانا شافيا شرائعه وأحكامه في الاستئذان عند الدخول وغير ذلك من الآداب الإسلامية، يبين ويفصل لكم أيها المؤمنون الآيات التي تحل الحلال، وتوضح المأذون فيه، لكي تتدبروها وتفهموها وتعقلوا حكمتها التشريعية.
الاستئذان عند الخروج أو الوداع
أحاط الله تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بهالة من الهيبة والتشريف والتقدير، لأنه رسول الله، فأدّب المؤمنين في خطابه والتحدث معه، فلا يخاطب باسمه بأن يقال: يا محمد، وإنما يقال: يا رسول الله، ويغضّ الصوت أثناء مكالمته، فلا يجهر المتحدث فوق
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [النور: ٢٤/ ٦٢- ٦٤].
نزلت هذه الآيات أثناء حفر الخندق حول المدينة المنورة، بجهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وتعاون أصحابه، فكان الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة، من الحاجة التي لا بد منها، يذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويستأذنه في اللحوق لحاجته، فيأذن له، وإذا قضى حاجته رجع، فأنزل الله في أولئك المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ...
ونزول آية لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ.. نزلت حينما كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم، فأنزل الله: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً فقالوا: يا نبي الله، يا رسول الله.
(٢) نداءكم له صلّى الله عليه وسلّم.
(٣) أي يخرجون خفية، متسترين بعضهم ببعض.
(٤) معرضين.
(٥) أي بلاء ومحنة وامتحان في الدنيا.
أولا- استئذان النبي عند الخروج: إنما المؤمنون كاملو الإيمان إذا كانوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أمر اجتماعي ذي مصلحة عامة، كصلاة جمعة أو جماعة أو عيد، أو مشاركة في قتال عدو، أو تشاور في أمر خطير، فعليهم استئذان النبي، حين انصرافهم من مجلسه كالاستئذان عند الدخول، فأولئك المستأذنون هم المصدقون حقا بالله ورسوله، فأدب الإسلام اللازم في ذلك ألا يذهب أحد لعذر إلا بإذنه.
فإذا استأذنوك لبعض شؤونهم أو مهامهم، فأذن لمن تشاء منهم، على وفق الحكمة والمصلحة، فقد استأذن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، في غزوة تبوك في الرجوع إلى أهله، فأذن له. ومع الإذن للمستأذن اطلب أيها الرسول من الله تعالى أن يغفر للمؤمنين ما قد يصدر عنهم، من زلات أو هفوات، إن الله واسع المغفرة لذنوب عباده المؤمنين التائبين، وواسع الرحمة بهم، فلا يعاقبهم بعد التوبة.
ثانيا- أدب الخطاب مع النبي: أيها المؤمنون لا تدعوا رسول الله في خطابه باسمه بأن تقولوا: يا محمد، يا ابن عبد الله، ولكن عظمّوه، وقولوا له: يا نبي الله، يا رسول الله، مع التوقير والتعظيم، والصوت المنخفض والتواضع، فإن الله تعالى يعلم يقينا- وقد في الآية: للتحقيق- أولئك الذين يتسللون من المسجد أو غيره، أي يخرجون خفية، واحدا بعد الآخر، دون استئذان من النبي، يتستر بعضهم ببعض أو بشيء آخر، لأن الله تعالى لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء. وسبب ذلك أنه إذا استأذن مسلم للخروج، قام المنافق إلى جنبه يستتر به، فأنزل الله الآية.
ثالثا- التحذير من المخالفة: ليحذر أو ليخش من خالف شريعة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باطنا وظاهرا، وليحذر كل إنسان مخالفة أمر الرسول وطاعته، فمن خالف أمر الله ورسوله، تعرض لعذاب الله ونقمته، وهذا عام لكل مخالف.