تفسير سورة المجادلة

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني
تفسير سورة سورة المجادلة من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني .
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سورة المجادلة
مدنية، وهي اثنتان وعشرون آية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) عن عائشة رضي اللَّه عنها: تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء، لقد جاءت المجادلة خولة بنت ثعلبة زوجة أوس بن [الصامت] الأنصاري إلى رسول اللَّه - ﷺ - تشتكي زوجها وأنا في ناحية البيت يخفى علي بعض كلامها، وكان أوس ولاج الخوالف، وكان به حدة، فدعاها إلى الفراش فأبت فظاهر عنها، فاستفت رسول اللَّه - ﷺ - فقال: حرمت عليه، فقالت: إن لي منه صبية إن
105
ضممت إليه ضاعوا، وإن ضممت إلي جاعوا، فقال: قد حرمت، فقالت: أشكو إلى اللَّه فاقتي. فنزلت. روي أنها استوقفت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يوماً زماناً طويلاً، فدنا منها وأصغى إليها، فقال رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذه العجوز؟، قال: ويحك!، هذه خولة التي سمع اللَّه تعالى شكواها من فوق سبع سماوات، لو لم تنصرف لوقفت معها إلى الليل. وفي " قد " دلالة على أن رسول اللَّه - ﷺ - والمجادِلة كانا يتوقعان أن اللَّه سينزل في شأنها ما يفرج كربتها " (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) تراجعكما في الكلام. (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) للأقوال والأحوال.
106
(الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ... (٢) الظهار كان طلاقاً في الجاهلية مؤكداً باليمين. وفي إقحام منكم توبيخ للعرب، وتصوير لزيادة التهجين، لأنه كان مخصوصاً بهم.
وقرأ حمزة والكسائي. بفتح الياء والهاء والتشديد من " اظّاهر ". وعاصم بضم الياء وكسر الهاء والتخفيف من " ظاهر ". (مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ) حقيقة. بكسر التاء قراءة السبعة على أن " ما " عاملة. (إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ) والمرضعات وأزواج الرسول - ﷺ - ملحقات بهن احتراماً. قرأ الكوفيون وابن عامر: " اللائي " بالهمز والتاء، وأبو عمرو وابن كثير في رواإية قنبل: بالياء ساكنة. ونافع في رواية ورش: كالياء مكسوراً وفي رواية قالون وابن كثير في رواية البزي. بالهمز. (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا) باطلاً منحرفاً عن الصواب،
إذ بين الزوجات والأمهات أبعد مما بين الضب والنون. فإن قلت: الظهار كالطلاق، فكيف يوصف بالزور الذي هو من خواص الخبر؟ قلت: باعتبار ما تضمن من إلحاقها بالأم. (وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا... (٣) الظهار: قول الرجل لزوجته: أنت عليَّ كظهر أمي، أو كرأسها، أو كجسدها وسائر المحارم كالأم. الآية الأولى في ذم المظاهر، وهذه في بيان حكمه. ثم العود عند الظاهرية أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره. وعند أبي حنيفة - رحمه الله - باستباحة ما حرم [ولو بالنظر بشهوة]. وعند الشافعي رحمة اللَّه بأن يمسكها زماناً يمكنه أن يفارقها، وعند الإمام أحمد رحمه اللَّه أن يعود إلى الجماع، أو يعزم عليه. وعند مالك العزم على الوطئ أو الإمساك. (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) أي: كفارته تحرير رقبة. قيده الشافعي رحمه اللَّه بالمؤمنة بناء على أصله من حمل المطلق على
المقيد. والفاء للسببية، وفائدتها الدلالة على تكرر الكفارة بتكرر الظهار. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) يستمتع كل من المظاهِر والمظاهَر بالآخر لعموم اللفظ، أو أن يجامعها. وفيه دليل على حرمة ذلك قبل التكفير. (ذَلكُمْ) التكفير على هذا الوجه، (تُوعَظُونَ بِهِ) تزجرون به؛ لأن المظاهر إذا علم بوجوب الكفَّارة وهي إعتاق رقبة ينزجر. (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) حث على الإتيان به على الوجه الأكمل.
(فَمَنْ لَمْ يَجِدْ... (٤) مالاً يعتق به رقبة، ومَن مالُه غائب واجد فلا يعدل عن العتق (فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) فإن أفطر يوماً لغير عذر أو نسي النية، أو مرض بطل تتابعه دون الحيض. والقربان بالليل يقطعه عند أبي حنيفة ومالك دون الشافعي رحمهم اللَّه. (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) لفرط شبق، أو لهرم، أو مرض لا يرجى
109
زواله (فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا) وهو نصف صاع من بر، أو صاع من شعير اعتباراً بالفطرة.
وعنده الشافعي رحمه اللَّه مُدٌّ بمُدِّ رسول اللَّه - ﷺ - وهو رطل وثلث، وكل خمسة أرطال وثلث، ستمائة درهم وثلاثة وتسعون درهماً وثلث درهم. والدليل للشافعي حديث الأعرابي الذي جامع في رمضان. وإنَّما لم يعِد التماس؛ لتقدمه مكرراً، أو لجوازه في خلال الإطعام كما قال أبو حنيفة رحمه اللَّه. وأجراه بعضهم على الظاهر. (ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي: فرض ذلك لتصدقوا باللَّه ورسوله فيما شرعا من الأحكام، وتتركوا ما كنتم عليه في الجاهلية. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أي. الأحكام المذكورة فلا تتجاوزوها. (وَلِلْكَافِرِينَ) الذين لم يصدقوا. (عَذَابٌ أَلِيمٌ) جزاء لكفرهم.
110
(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... (٥) يشاقونهما. من الحد؛ لأن كلاً من المتعادين في حد، أو يقابلوهمما في شرع الحدود، وخلاف ما شرعا. (كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أُخْزوا وأهلكوا مثلهم. قيل: الضمير في (كبِتُوا) لبني قريظة. فإن رسول اللَّه - ﷺ - قتلهم وسبى ذراريهم بعد الخندق. و (مِنْ قَبْلِهِمْ) المشركون يوم بدر. (وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) واضحات لا لُبْس بها. (وَلِلْكَافِرِينَ) بتلك الآيات (عَذَابٌ مُهِينٌ) لاستكبارهم عن الإيمان بها.
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا... (٦) ظرف لـ (مُهِين)، لأن الخزي في الجمع الكثير أشق، أو منصوب بـ " اذكر ". (فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا) من التكذيب وسائر المعاصي على رؤوس الأشهاد؛ تكميلاً للخزي والإهانة (وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ) (أَحْصَاهُ اللَّهُ) علمه مفصلاً (وَنَسُوهُ) لتهاونهم. (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) كل ما يطلق عليه اسم الشيء من الذرات (شَهِيدٌ) حاضر يعلمه عياناً. ثم أقام البرهان عليه بقوله:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ... (٧) من الأجزاء والجزئيات. والخطاب عام. (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ) اسم من النَّجْوِ: وهو القطع؛ لأن السر منقطع عن الغير، أو من النجوة: وهي الارتفاع؛ لعدم وصول العين إليه. والمعنى: ما يكون شيء من نجوى ثلاثة نفر. على أن نجوى مضاف إلى الثلاثة، أو موصوف بها، أي: من
أهل نجوى. فحذف الأهل، وجعلوا نفس النجوى مبالغة. (إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ) في العلم. (وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ) كذلك. وتخصيص العددين إما نظراً إلى الواقع وهو ما روي أنها نزلت في حبيب وربيعة ابني عمرو، وصفوان بن أمية كانوا يتناجون بأحوال المؤمنين. وذكر معه الخمسة؛ لتناسب الوترين، أو لأن النجوى إنما تكون من ذوي الأحلام والنُّهَى، وهم قليلون في الأغلب لا يعدون عشرة، فذكر الوترين؛ لأن اللَّه وتر يحب الوتر. ثم أشار إلى الطرفين بقوله: (وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ) على أنه لو ذكر الأربعة لم يتناول الأدنى الإثنين إلا على التوسع. (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا) إذ علمه بالأشياء لا يتفاوت، والقرب والبعد منه محالان (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: يجازيهم عليه، أو يوبخهم به تفضيحاً. (إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ... (٨) تعجيب السامع لوقاحتهم. عن ابن عباس رضي اللَّه عتهما: نزلت في
112
المنافقين. وعن مجاهد: في اليهود، كانوا إذا رأوا المؤمنين سارَّ بعضهم بعضاً وغمزوهم، فشكوا ذلك إلى رسول اللَّه - ﷺ - فنهاهم فلم ينتهوا (وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ) بالكذب والظلم ومخالفة الرسول. بيان وكشف عن حال نجواهم بما يؤكد ذمهم، ْإذ لو كان تناجيهم بما فيه خير؛ كان أمر الرسول موجباً للانتهاء والامتثال. وقرأ حمزة (يَنتَجُونَ) مقصوراً. عن الفراء كلاهما بمعنى. (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) يقولون: السام عليكم والسام هو الموت. ويقول اللَّه: (وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) روى البخاري: " أَن يَهوديّاً مَرِّ بِرَسُولِ اللَّه - ﷺ - وَعَائِشَةُ عِنْدَهُ. فَقَالَ: السَّامُ عَلَيك فَقالَت عَائِشَة: وَعَلَيْكُمُ السَّام وَاللعْنُ. فَقَالَ رَسُول اللَّه - ﷺ - لا تَكُوني فَحَّاشة. قَالَتْ: أَلَمْ تَسمَع مَا قَال؟ قال: أَوَلمَ تسْمَعي مَا قُلتُ؟ قلتُ: وَعَلَيْكَ. فَيُسْتَجَابُ لي وَلا يُسْتَجَابُ ". لَهُ " (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) إن كان نبياً كما يزعم.
(حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) كافيهم في العذاب. (يَصْلَوْنَهَا) يدخلونها. (فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جهنم. والفاء للسببية، مبالغة في استحقاقهم. وليس في القرآن شيء غيره.
113
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ... (٩) صرح بما علم ضمنا؛ ليرتب عليه قوله: (وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى) بما فيه الثواب والاتقاء عن معصية الرسول. (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) في مجامع أموركم.
(إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَيْطَانِ... (١٠) أي: نجوى المنافقين. (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) الشيطان أو النجوى. وقرأ نافع " يُحْزِنَ " بضم الياء على أنهما لغتان. وقال الخليل: أحزنه: أدخل فيه الحزن، فهو أبلغ. (وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) فعلى المؤمن إذا رأي شيئاً من ذلك أن لا يحزن. (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، لعلمهم بأن لا ضار ولا نافع غيره.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ... (١١) توسعوا وتباعدوا. عن ابن عباس - رضي الله عنهما - نزلت في مواضع الحرب، كانوا يتنافسون فيها. وعن مقاتل: كان رسول اللَّه - ﷺ - في الصفة يوم الجمعة، فجاء البدريون والصفة غاصة بالناس فلم يجدوا موضع الجلوس فوقفوا. فأقام رسول اللَّه - ﷺ - طائفة حتى جلس البدريون. فنزلت. روى
114
البخاري ومسلم: " أَنَّ رَسُولَ اللَّه - ﷺ - قَالَ: لا يُقِمْ أَحَدُكم أَخَاهُ ثم يَجْلِس مَكَانَهُ وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا " وقرأ غير عاصم (المَجْلِس) مفرداً وعليه الرسم. (فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ) المجلس قيل: لم يضق المكان قط عمن جاء بعد التفسح، أو في أموركم كلها ببركة الامتثال.
(وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا) عن الحسن: انهضوا إلى الحرب. وعن قتادة: إلى كل معروف. وعن أبي زيد: ارتفعوا عن مجلسه. وقرأ نافع وابن عامر وحفص بضم الشين، وأبو بكر بخلاف عنه. وهما لغتان. والكسر أخف. (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ) جزم على الجواب أي: إن امتثلوا أمر اللَّه يرفع اللَّه لهم المنزلة لأجل تواضعهم. (وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) خاصة (دَرَجَاتٍ)؛ للجمع بين العلم والعمل. وفي الحديث: " فَضلُ العَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكمْ " (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ) من الامتثال. (خَبِيرٌ) فليكن ذلك عن إخلاص وصفاء قلب.
115
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً... (١٢) كان يخاطبه المؤمن والمنافق، وأجلاف البوادي، والإماء والعبيد، ويبرمون فيما لا طائل تحته. فأراد اللَّه إظهار كرامته، فأوجب لمن أراد أن يناجيه أن يتصدق أمام نجواه بشيء، فبقي الأمر على ذلك عشرة أيام، وقيل: ساعة، ثم نسخ بالذي بعدها. وعن علي بن أبي طالب: لم يعمل بها غيري، كان معي دينار فصرفته، وكنت إذا ناجيت تصدقت قبله بدرهم. وعن ابن عمر: كانت في عليٍّ ثلاث لو كانت فيَّ واحدة كانت أحب إليَّ من جميع النعم: صهارة رسول اللَّه - ﷺ - بفاطمة، والنجوى، والراية يوم خيبر. (ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ) أي: التصدق من الإمساك (وَأَطهَرُ) فإن الصدقة طهرة الذنوب، لا سيما في مناجاة رسول اللَّه - ﷺ -.
(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أباح المناجاة من غير تقديم صدقة.
(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ... (١٣) أي: أخفتم مما أمرتم به من الصدقة بين يدي النجوى؟. والجمع باعتبار كثرة المخاطبين. الهمزة للتقرير. ولم يرد نص على إظهارهم الخوف، ولكن اللَّه أخبر عما حدثت به أنفسهم. (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ) بأن رخص لكم ترك الصدقة أمام النجوى. الجمهور على أَن هذا ناسخ لوجوب الصدقة. وقيل: نسخت بوجوب الزكاة. (فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) مسبب عما قبله، كأنه قال: لا تقصروا في أدائهما كما قصرتم في الصدقة. وفيه نوع تعيير لهم. (وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ) في سائر الأمور وإن كانت شاقة عليكم. (وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ظاهراً وباطناً، فيجازيكم على حسب ذلك.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ... (١٤) تعجيب من حال المنافقين يتولون اليهود الذين غضب اللَّه عليهم (مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ) أي: المنافقون ليسوا من المسلمين، ولا من اليهود. (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) الذي هو ادِّعاء الإسلام. (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أنهم كاذبون فيتعمدون الكذب وهي اليمين الغموس.
(أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا... (١٥) نوعاً منه متفاقماً. (إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) في الأزمنة المتطاولة، أو هو حكاية ما يقال لهم يوم القيامة.
(اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً... (١٦) يستترون بها ويدفعون اطلاع المؤمنين على حالهم.
(فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) الذين يريدون الإسلام. يوهنون أمر الإسلام، وأنه لا بقاء له. عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: كَانَ رَسولُ اللَّه - ﷺ - جَالِسَاً في نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ - رضي الله عنهم - في ظِل حجْرَةٍ مِنْ حُجَرِهِ، فَقَالَ: سَيَأتيكمُ الآنَ رَجلٌ ينظرُ بِعَينِ شيطَان فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْد اللَّه بنُ نَبتل، فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللَّه - ﷺ -: عَلَامَ تَشْتمُني أَنت وأَصْحَابكَ؟. فَجَاءَ أَصْحَابُهُ فَحَلَفُوا أنهمْ لم يفْعَلُوا. فنزلَت. (فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) لكفرهم وصدهم. وقيل: الأول عذاب القبر. وهذا عذاب الآخرة.
(لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا... (١٧) من عذاب اللَّه أو شيئاً من الإغناء. وذلك أنهم كانوا يقولون: لنا الأموال والأولاد، إن كان لقول محمد أصل، نفتدي بها يوم القيامة (أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ) الملازمون لها (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أبداً.
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا... (١٨) مجتمعين (فَيَحْلِفُونَ لَهُ) أنهم مؤمنون حقاًّ. (كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ) في الدنيا. (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) أن تلك الأيمان تروج عنهم كما راجت في الدنيا جاهلين بعلم علام الغيوب. (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) الغالون في الكذب. كأن من عداهم ليس بكاذب.
(اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَيْطَانُ... (١٩) استولى على قلوبهم. بيان لذلك الكذب المفرط. (فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) فلا يتأملون في صفاته ليتميز لهم ما لا يليق بكبريائه. (أُولَئِكَ حِزْبُ الشَيْطَانِ) جنده. (أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) الكاملون في الخسران.
(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... (٢٠) أعاده؛ ليفصل أحوالهم المجملة في " كُبتوا "، ويقرن بها أحوال أضدادهم المؤمنين حزب الرحمن. (أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) في زمرة هم أذل خلق اللَّه.
(كَتَبَ اللَّهُ... (٢١) في اللوح (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) بالسيف والبرهان. وذكر اللَّه؛ لبيان أن الرسل عنده بمكان، كأنه معهم في المناظرة والمحاربه، (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ) ذو قدرة كاملة. (عَزِيزٌ) غالب قاهر.
(لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ... (٢٢) لأنه جمع بين الضدين. قال:
تَوِدُّ عَدوّي ثُمَّ تَزعُمُ أنني... صَديقُكَ لَيس النَّوكُ عَنكَ بِعازِب
والمعنى: لا ينبغي الوجدان. وإنما عبر عنه به؛ مبالغة. فإن الواقع عدم الانبغاء لا الوجدان، فصوِّر بصورته؛ إبرازاً بما لا يمتنع ممتنعاً. (وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ
119
إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) كما فعل أبو عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم بدر وكان أسيراً، ذكر رسول اللَّه - ﷺ - بما لا يليق به فضرب عنقه. وأبو بكر دعا ابنه إلى البراز يوم بدر. ومصعب بن عمير قتل أخاه يوم بدر. ولما استشار رسول اللَّه - ﷺ - عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في الأسرى قال: هؤلاء رؤوس الكفار، مكني من فلان لقريب له، ومكن علياً من عقيل،
120
وفلاناً من فلان، ليعلم المشركون أن لا هوادة في قلوبنا. (أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ) ألزمه فيها إلزام المكتوب في الرق. (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) بقوة من عنده حتى اجترأوا على قتل أعزتهم. أو بنور الإيمان فإنه حياة للقلوب. (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) وفيه دليل على أن الإيمان فعل القلب (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) قبل طاعاتهم (وَرَضُوا عَنْهُ) بما جاءهم به. (أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أولئك هم الفائزون في الدارين بالغلبة في الدنيا، والجنة في العقبى.
* * *
تمت المجادلة، والحمد لمن آلاؤه شاملة، والصَّلاة على سيد الزمرة الكاملة، وآله وصحبه دائمة متواصلة.
* * *
121
Icon