ﰡ
وهي اثنتا عشرة آية مدنية
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤)ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ، فالخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلم والمراد به هو وأمته، بدليل قوله: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ، فذكر بلفظ الجماعة، فكأنه قال: يا أيها النبي ومن آمن بك، إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ يعني: أنت وأمتك. إذا أردتم أن تطلقوا النساء. وقال الكلبي: نزلت في النبي صلّى الله عليه وسلم، حين غضب على حفصة بنت عمر، فقال: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ. وقال:
طاهرات، من غير جماع.
وروى عكرمة عن ابن عباس قال: الطلاق على أربعة أوجه: وجهان حلال، ووجهان حرام. فأما الحلال، بأن يطلقها من غير جماع، أو يطلقها حاملاً. وأما الحرام، بأن يطلقها حائضاً، أو يطلقها حين جامعها. وقال الحسن: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ قال: إذا طهرن من الحيض من غير جماع. وقال الزهري، وقتادة: يطلقها لقبيل عدتها. وروى ابن طاوس، عن أبيه قال: حد الطلاق أن يطلقها قبل عدتها. قلت: وما قبل عدتها؟ قال: طاهرة من غير جماع.
ثم قال: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ يعني: واحفظوا العدة. فأمر الرجل بحفظ العدة، لأن في النساء غفلة، فربما لا تحفظ عدتها. ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ يعني: واخشوا الله ربكم، فأطيعوه فيما أمركم ولا تطلقوا النساء في غير طهورهن. فلو طلقها في الحيض، فقد أساء.
والطلاق واقع عليها في قول عامة الفقهاء. ثم قال: لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ يعني: اتقوا الله في إخراجهن من بيوتهن لأن سكناها على الزوج ما لم تنقض عدتها ثم قال: وَلا يَخْرُجْنَ يعني: ليس لهن أن يخرجن من البيوت. ثم قال: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يعني: إلا أن تزني فتخرج لأجل إقامة الحد عليها، وهو قول ابن مسعود. وقال الشعبي، وقتادة: خروجها في العدة فاحشة. وإخراج الزوج لها في العدة معصية وهكذا روي، عن ابن عمرو، وإبراهيم النخعي. وقال ابن عباس: الفاحشة أن تبذو على زوجها فتخرج. ثم قال:
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني: الطلاق بالسنة، وإحصاء العدة من أحكام الله تعالى. وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ يعني: يترك حكم الله فيما أمر من أمر الطلاق. فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ يعني: أضر بنفسه.
ثم قال: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً يعني: لا تطلقها ثلاثاً، فلعله يحدث من الحب أو الولد خير، فيريد أن يراجعها فلا يمكنه مراجعتها. وإن طلقها واحدة، يمكنه أن يراجعها. ثم قال: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يعني: إذا بلغن وقت انقضاء عدتهن، وهو مضي ثلاث حيض ولم تغتسل من الحيضة الثالثة، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ يعني: راجعوهن بإحسان، يعني: أن تمسكوهن بغير إضرار. أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ يعني: اتركوهن بإحسان. ويقال:
فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يعني: انقضت عدتهن، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ يعني: بنكاح جديد إذا طلقها واحدة أو اثنتين.
ثم قال: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ يعني: يا معشر الشهود، أدوا الشهادة عند الحاكم بالعدل على وجهها لحق الله تعالى ولسبب أمر الله تعالى. ثم قال: ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ يعني: هذا الذي يؤمر به. مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي: لا يكتم الشهادة. ثم قال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً يعني: يخشى الله ويطلق امرأته للسنة، يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً يعني:
المراجعة. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ يعني: في شأن المراجعة. ويقال: يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً يعني: ينجو من ظلمات يوم القيامة ويرزقه الجنة. ووجه آخر: أن من اتقى الله عند الشدة وصبر، يجعل له مخرجاً من الشدة وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ يعني: يوسع عليه من الرزق. وقال مسروق: يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً قال: مخرجه أن يعلم أن الله هو يرزقه، وهو يمنحه ويعطيه، لأنه هو الرازق وهو المعطي وهو المانع. كما قال الله تعالى: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ [فاطر: ٣] الآية.
ثم قال عز وجل: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ يعني: من يثق بالله في الرزق فَهُوَ حَسْبُهُ يعني: الله كافيه. وروى سالم بن أبي الجعد: أن رجلاً من أشجع أسره العدو، فجاء أبوه إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فشكا إليه، فقال: اصبر. فأصاب ابنه غنيمة، فجاء بهما جبريل- عليه السلام- وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً الآية.
وعن عبد الله بن عباس- رضي الله عنه- قال: جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن ابني أسره العدو وجزعت الأم، فما تأمرني؟ فقال: آمرك وإياها أن تستكثرا من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. فرجع إلى منزله، فقالت له: بماذا أمرك رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: بكذا. فقالت: نعم ما أمرك به. فجعلا يقولان ذلك، فخرج ابنه بغنيمة كثيرة، فنزل قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ يعني: من يتق بالله في الشدة، يجعل له مخرجاً من الشدة. ويقال: المخرج على وجهين: أحدهما أن يخرجه من تلك الشدة، والثاني أن يكرمه فيها بالرضا والصبر. ثم قال: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ يعني: قاضياً أمره. قرأ عاصم في رواية حفص بالِغُ أَمْرِهِ بغير تنوين، بكسر الراء على الإضافة، والباقون بالتنوين أَمْرِهِ بالنصب، نصبه بالفعل بمعنى يمضي أمره في الشدة والرخاء أجلاً ووقتاً. ثم قال: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً يعني: جعل لكل شيء من الشدة والرخاء أجلاً ووقتاً، لا يتقدم ولا يتأخر.
وقام آخر وقال: لو كانت حاملاً، كيف عدتها؟ فنزل: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ يعني: المرأة التي لم تحض، فعدتها ثلاثة أشهر مثل عدة الآيسة. وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ يعني: عدتهن أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وقال عمر: لو وضعت ما في بطنها وزوجها على سريره، قبل أن يدفن في حفرته، لا نقضت عدتها وحلت للأزواج. وروى الزهري، عن عبد الله، عن أبيه: أن سبيعة بنت الحارث قد وضعت بعد وفاة زوجها بعشرين يوماً، فمر بها السنابل بن بعكك، فقال لها: أَتُرِيدِينَ أنْ نتزوج؟ فقالت: نعم. قال: لا حتى يأتي عليك أربعة أشهر وعشر. فأتت النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقال لها قد حللت للزواج يعني: انقضت عدتك.
ثم قال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يعني: يصبر على طاعة الله تعالى، يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً يعني: ييسر عليه أمره، ويوفقه ليعمل على طاعة الله تعالى، ويعصمه عن معاصيه. ثم قال:
ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ يعني: هذا الذي ذكره حكم الله وفريضته. أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ يعني: أنزله في القرآن على نبيكم. وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ ويعمل بأحكامه وفريضته، يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ في الدنيا، وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً يعني: ثواباً في الجنة. قرأ نافع، وابن عامر نَّكْفُرَ عَنْهُ بالنون، والباقون بالياء، ومعناهما: يرجع إلى شيء واحد. ثم رجع إلى ذِكْرِ المطلقات.
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ٦ الى ٧]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧)
فقال عز وجل: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ يعني: أنزلوهن من حيث تسكنون فيه.
مِنْ وُجْدِكُمْ يعني: من سعتكم. والوجد: القدرة والغنى. ويقال: افتقر فلان بعد وجده.
ثم قال: وَلا تُضآرُّوهُنَّ يعني: لا تظلموهن. لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ في النفقة والسكنى. وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ يعني: إن كن المطلقات ذوات حمل، فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وقد أجمعوا أن المطلقة إذا كانت حاملاً فلها النفقة، وأما إذا لم تكن حاملاً، فإن
ثم قال: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني: المطلقات إذا أرضعن أولادكم، فأعطوهن أجورهن، لأن النفقة على الأب. وأجر الرضاع من النفقة، فهو على الأب إذا كانت المرأة مطلقة. ثم قال: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ هموا به واعزموا عليه، ويقال هو أن لا تضار المرأة بالزوج ولا الزوج بالمرأة في الرضاع. ويقال: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ يعني: اتفقوا فيما بينكم يعني: الزوج والمرأة يتفقان على أمر واحد: بِمَعْرُوفٍ يعني: بإحسان. وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ يعني: تضايقتم، وهو أن يأبى أن يؤتي المرأة لأجل رضاعها، وأبت المرأة أن ترضعه. ويقال: يعني: أراد الرجل أقل مما طلبت المرأة من النفقة، ولم يتفقا على شيء واحد. فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى يعني: يدفع الزوج الصبي إلى امرأة أُخرى إن أرضعت بأقل مما ترضع الأم به. ثم قال عز وجل: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ يعني: ينفق على المرأة ذو الغنى على قدر غناه، وعلى قدر عيشه وسعته ويسره. وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ يعني: ضيق عليه رزقه، فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ يعني: على قدر ما أعطاه الله من المال. لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها يعني: لا يأمر الله نفساً في النفقة إلا ما أعطاها من المال سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً يعني: العسر ينتظر اليسر.
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ٨ الى ١٢]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢)
قوله تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ يعني: فكم من أهل قرية قرأ ابن كثير وَكَأَيِّنْ بغير الألف، والباقون بغير مد مع تشديد الياء، وهما لغتان ومعناهما واحد، يعني: وكم من قرية.
عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها يعني: أبت وعصت عن أمر ربها يعني: عن طاعة ربها. قال مقاتل:
العتو مجاوزة الحد في المعصية. ثم قال: وَرُسُلِهِ يعني: عن طاعة رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً يعني: جازاها الله بعملها. ويقال: حاسبناها في الآخرة حِساباً شَدِيداً. وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً يعني: عذاباً منكراً، على معنى التقديم يعني: عذبناها في الدنيا عذاباً شديداً، وحاسبناها في الآخرة حساباً شديداً. ويقال: وحاسبناها يعني: في الدنيا يعني: جازيناها وخذلناها وحرمناها. ثم قال عز وجل: فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها يعني: جزاء ذنبها. وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً يعني: أهل القرية، يعني: أن آخر أمرهم صار إلى الخسران والندامة.
ثم قال: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً يعني: ما أصابهم في الدنيا لم يكن كفارة لذنوبهم، ولكن مع ما أصابهم في الدنيا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً في الآخرة، لأنهم لم يرجعوا عن كفرهم. ثم أمر المؤمنين بأن يعتبروا بهم، ويثبتوا على إيمانهم، فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ يعني: اخشوا الله وأطيعوه يا ذوي العقول من الناس. الَّذِينَ آمَنُوا بالله يعني: الذين صدقوا بالله ورسوله. قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً يعني: كتاباً. ويقال: شرفاً وعزاً وهو القرآن. ثم قال: رَسُولًا يعني: أرسل إليكم رسولاً، يَتْلُوا عَلَيْكُمْ يعني: يقرأ عليكم ويعرض عليكم. ويقال: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا، يعني: كتاباً مع رسوله، ليتلو عليكم يعني: يقرأ عليكم آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ يعني: واضحات. ويقال: بيّن فيه الحلال والحرام. لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني: الذين صدقوا بتوحيد الله وطاعته وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني: الطاعات مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني: من الجهالة إلى البيان. ويقال: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا اللفظ لفظ المستقبل، والمراد به الماضي يعني: أخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور، يعني: من الكفر إلى الإيمان ويقال: هو المستقبل يعني:
يخرجهم من الشبهات والجهالات إلى الدلالات والبراهين ويقال: ليدعو النبيّ صلّى الله عليه وسلم، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان من قدرة الله الإيمان في سابق علمه.
ثم قال عز وجل: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يعني: يصدق بالله. ويقال: يثبت على الإيمان، وَيَعْمَلْ صالِحاً يعني: فرائض الله وسنن الرسول صلّى الله عليه وسلم. يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. قرأ نافع، وابن عامر: ندخله بالنون، والباقون بالياء يعني: يدخله الله تعالى في الآخرة. خالِدِينَ فِيها يعني: مقيمين في الجنة دائمين فيها. أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً يعني: أعد الله له ثواباً في الجنة.
ثم قال عز وجل: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يعني: خلق سبع أرضين مثل عدد السماوات. يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ يعني: ينزل الوحي من السموات. ويقال:
٧٦] والأمر: القيامة، كقوله: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل: ١] والأمر: الوحي، كقوله:
يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ [الطلاق: ١٢] يعني: الوحي. والأمر: الذنب، كقوله: فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها [الطلاق: ٩] أي: جزاء ذنبها. وأصل هذا كله واحد، لأن الأشياء كلها بأمر الله تعالى، فسميت الأشياء أموراً.
ثم قال: لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يعني: يمكنكم أن تعلموا أن الله على كل شىء قدير. وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً يعني: أحاط علمه بكل شيء. وروى معمر، عن قتادة في قوله: سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ قال: في كل سماء، وفي كل أرض من أرضه، وخلق من خلقه وأمر من أموره، وقضاء من قضائه سبحانه وتعالى.