ﰡ
في السورة تشريعات تكميلية وإيضاحية لأحكام الطلاق والعدة والرضاع.
وتوكيد وتشديد بالتزام الحدود التي رسمها القرآن في هذا الموضوع والتي تهدف إلى الرفق بالمرأة ورعاية الحياة الزوجية. والفصل الآخر منها وإن لم يكن متصلا بموضوع فصلها الأول المذكور آنفا اتصالا مباشرا فإن فيه تدعيما له على ما سوف يأتي شرحه. وهو مقفى بعض الشيء مثله مما يسوغ القول إنه نزل معه أو بعده كتعقيب عليه. وقد روي «١» عن ابن مسعود اسم آخر للسورة وهو (سورة النساء الصغرى) والراجح أن هذا الاسم مقتبس من موضوع السورة أيضا كما هو شأن اسمها المشهور.
وترتيب هذه السورة في المصحف الذي اعتمدناه يأتي بعد سورة الإنسان التي تأتي بعد سورة الرحمن التي تأتي بعد سورة الرعد التي تأتي بعد سورة محمد.
والسور الثلاث المذكورة قد فسرناها في سلسلة السور المكية لرجحان مكيتها على ما شرحناه قبل، فصار ترتيب هذه السورة بعد سورة محمد ﷺ مباشرة. وهي السورة الثانية التي تبدأ بتوجيه الخطاب إلى النبي ﷺ والأولى هي سورة الأحزاب.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ١ الى ٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣).وجّه الخطاب في الآيات إلى النبي ﷺ بصفته رئيس المسلمين كما هو المتبادر. مع توجيهه إلى المسلمين في الوقت نفسه. وقد تضمنت ما يلي:
(١) على الأزواج الذين يريدون تطليق زوجاتهم أن يطلقوهنّ في الوقت الذي يصحّ أن يكون بداية حساب العدة مع الاهتمام بإحصاء العدة.
(٢) ولا يصح للأزواج أن يخرجوا زوجاتهم من بيوتهن التي هنّ فيها قبل انتهاء عدتهن. كما لا يجوز لهن أن يخرجن منها. باستثناء حالة صدور فاحشة مبينة منهن، وفي جملة لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً ينطوي تعليل ذلك وهو- كما يستلهم من روحها- احتمال انبعاث رغبة المراجعة عند الزوجين والعدول عن الطلاق حيث يكون بقاء الزوجة في بيتها ميسرا لذلك.
(٣) وعلى الأزواج حينما تنتهي عدة الطلاق إما أن يعدلوا عن الطلاق ويبقوا على الرابطة الزوجية وإما أن يصمموا على الفراق فإذا عدلوا فيجب عليهم أن يكون إمساكهم لزوجاتهم بقصد الرغبة الصادقة في حسن المعاشرة على الوجه المتعارف عليه أنه الحق. أما إذا صمموا على الفراق فعليهم أن يسرحوا زوجاتهم بالحسنى وعلى الوجه المتعارف عليه أنه الحق كذلك.
(٤) ويجب استشهاد شاهدين عدلين من المسلمين على الطلاق والعدة والمراجعة.
ويجب على الشهود أن يؤدوا شهادتهم بدون محاباة. وأن يراقبوا الله وحده فيها.
وواضح أن التنبيهات التي شرحناها في الفقرة الخامسة هي بسبيل تدعيم ما احتوته الآيات من حدود وأحكام. وهي قوية نافذة إلى القلوب والعقول معا.
ولقد روى ابن كثير في سياق هذه الآيات عن أنس «أن رسول الله ﷺ طلق زوجته حفصة فأتت أهلها فأنزل الله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ الآية، فقيل له راجعها فإنما هي صوامة قوامة وهي من نسائك في الجنة فراجعها». وهذا النصّ لم يرد في كتب الأحاديث الصحيحة ولكن الخبر ورد فيها حيث روى أبو داود والنسائي عن عمر «أن النبي ﷺ طلّق حفصة ثم راجعها» «١» وليس في هذا النص إشارة إلى أن ذلك كان مناسبة لنزول الآيات.
وهذه الآية مع الآيات الست التالية لها في صدد واحد. وفيها توضيح لمسائل عديدة مما قد يسوغ القول إن الأمر أعمّ من طلاق عادي صدر من رسول الله لبعض زوجاته. وأنه قد وقعت أحداث متنوعة لم تكن آيات سورة البقرة في الطلاق كافية لبيان الحكم فيها فاقتضت حكمة التنزيل إنزال الآيات. والله أعلم.
ولقد شرحنا كيفية الطلاق الرجعي ومسألة الطلاق الباتّ مرة واحدة. وأوردنا الأحاديث الواردة في ذلك في سياق شرح آيات الطلاق في سورة البقرة فلا نرى حاجة إلى الإعادة. وإنما نقول في مناسبة الآيات التي نحن في صددها إن فيها وبنوع خاص في الأولى منها دليلا قرآنيا ثانيا على أن التطليق الشرعي هو تطليق رجعي طهرا بعد طهر. وإن التطليق الباتّ مرة واحدة ليس تطليقا شرعيا قرآنيا. أما
وقد جعلت الآية [٢٢٧] من آيات البقرة عدة المطلقة ثلاثة قروء ليستطيع الزوجان المطلقان أن يتراجعا خلالها إذا تراضيا في حين أن عدة المبتوتة قرء واحد لاستبراء الرحم. وفي هذا تدعيم قرآني آخر. وفي جملة لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها تعليل بليغ من حيث احتمال طروء ما يغير رغبة الفراق خلال مدة العدة. وما جاء في الآيات من الأمر بإشهاد الشهود وإحصاء المعدة وأداء الشهادة على وجهها الحق. والتنبيه على أن ذلك حدود الله التي لا يجوز تعديها مما يدعم ما قلناه. أيضا فضلا عما ينطوي فيه من قصد التدقيق في الحساب وتجنيب الناس الوقوع في المحظور.
ولقد محصنا في سياق تفسير آيات سورة البقرة ما ورد من آثار في صدد نفاذ الطلاق الباتّ أو الطلاق الثلاث فنكتفي هنا بهذا التنبيه.
وجملة إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ تتحمل أن تكون بمعنى الزنا أو البذاءة على الزوج وأهله أو أذيتهم وسوء الخلق والسلوك معهم أو النشوز والتمرد على الزوج على ما ذكره المفسرون «١» عزوا إلى ابن عباس وبعض علماء التابعين. وهذا حقّ لأن فيه تعطيلا للغاية المستهدفة التي نبهنا عليها من بقاء المطلقة في بيت الزوجية فيصبح خروجها أو إخراجها منه أمرا لا مندوحة عنه.
وفي الآيات تكرار للمبدأ القرآني المقرر في آيات سورة البقرة [٢٢٩ و ٢٣١] وهو الإمساك بالمعروف أو المفارقة بالمعروف حيث ينطوي في ذلك عناية حكمة التنزيل في توكيد التزام هذا المبدأ في العلاقة الزوجية القائم على الحق والعدل وحفظ كرامة الزوجة في حالتي الإمساك والفراق.
ولقد روى المفسرون في صدد الفقرة وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ رواية تذكر أنها نزلت في مناسبة وقوع شاب مسلم في أسر
والفقرة جزء من آية، والآية جزء من آيات. والمتبادر من الآيات أن المعنى المنطوي في الفقرة متصل بها من حيث إن فيها أمرا بتقوى الله في معاملة الزوجات وطلاقهن وعدّتهن وإمساكهن بالمعروف أو مفارقتهن بالمعروف فاقتضت حكمة التنزيل أن ينبه المسلمون في سياق ذلك إلى ما في تقوى الله والتوكل عليه وتنفيذ أوامره والتزام حدوده من فوائد عظمى.
وهذا ليس من شأنه أن ينفي تلك الرواية. فمن المحتمل أن تكون صحيحة وإن لم ترد في كتب الصحاح. وأن رسول الله ﷺ تلافى مناسبة الموقف في الآية فالتبس الأمر على الرواة. والآية على كل حال قد انطوت على تطمين ربّاني لمن يكون تقوى الله والتوكل عليه ديدنه وشعاره في كل شيء ومن الجملة سلوكه مع زوجته.
هذا، وهناك حالة خطرت لنا. وهي أن يعرض للمطلقة حاجات تقتضيها الخروج أثناء عدتها من بيت زوجها مؤقتا إذا ما كانت تنوي العودة وعادت فعلا.
والذي يتبادر لنا أن الأمر بعدم إخراجها وبعدم خروجها هو في صدد الخروج النهائي الذي يفوت به فرصة سهولة المراجعة أثناء العدة على ما تلهمه الآيات.
وأن الخروج الموقت لحاجة طارئة والعودة بعد قضائها ليس من شأنه أن يتعارض مع ذلك وإن لها أن تفعله والله تعالى أعلم.
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ٤ الى ٥]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥).
الجزء الثامن من التفسير الحديث ٢٢
تعليق على الآية وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ | إلخ والآية التالية لها وما فيهما من أحكام وتلقين |
(١) تعيين مدة ثلاثة أشهر عدة للائي انقطع حيضهن إذا كان هناك ارتياب.
(٢) وتعيين نفس المدة للائي انقطع حيضهن أو لم يحضن بالمرة بسبب بنيوي.
(٣) وتعيين وضع الحمل عدة للحاملات.
وقد احتوت الفقرة الأخيرة من الآية ثم الآية الثانية توكيدا مكررا بوجوب تقوى الله وبيان ما يعود على المتقي من فوائد كبيرة حيث يجعل الله اليسر في أموره ويكفر سيئاته ويعظم له الأجر. وواضح أن هذا بسبيل تدعيم أوامر الله والتزام حدوده المرسومة في الآيات. وفيه ما هو ظاهر من توكيد العناية الربانية بالمرأة.
واليأس من المحيض في أصله هو وصول المرأة إلى السنّ التي ينقطع عنها الحيض فيها عادة وتنتهي فيها قابليتها للحمل أي تيأس بعدها من الحمل. ولهذا سمّى هذا السنّ بسنّ اليأس. غير أن المتبادر من فحوى العبارة القرآنية أنها بسبيل بيان لكون مدة الأشهر الثلاثة قد عنيت لحالة الارتياب فيما إذا كان انقطاع الحيض لغير سبب سنّ اليأس بالنسبة للمتقدمات في السنّ نوعا ما. أو بسبب بنيوي أو لسبب صغر السن بالنسبة لغير المتقدمات في السن نوعا ما. ولقد روى الطبري عن بعض التابعين قولا في مدى الارتياب وهو أن يكون فيها إذا كان الدم دم حيض أو دم استحاضة. والاستحاضة هي نوع من النزيف الدموي يكون في غير أوقات العادة الشهرية وقد يستمر على ما شرحناه في سياق آيات الطلاق في سورة البقرة.
والقول وجيه ولا يتعارض مع الشرح السابق.
والمتبادر أن الكلام عائد للمطلقات اللائي انقطع حيضهن أو كنّ حاملات.
والآيتان معطوفتان على ما قبلهما. واستمرار للسياق السابق في موضوع واحد. وهذا لا يمنع أن يكون قد وقع سؤال عن الأمور التي احتوتها الآية الأولى في جملة ما وقع من ذلك في صدد ما احتوته الآيات السابقة. وهذا مألوف في التنزيل القرآني مما مرّ منه أمثلة كثيرة.
والأمر بتطليق النساء لعدتهن هو بسبيل منح الزوج فرصة لمراجعة زوجته أثناء العدة. ولما كانت عدة الحامل هي وضع حملها فتكون هذه الفرصة للزوج ممتدة إلى هذا الوقت طال أو قصر كما هو المتبادر. فإذا لم يراجع الزوج زوجته قبل وضعها فيكون قد أضاع الفرصة وتكون قد طلقت منه طلقة بائنة أسوة بمن لا يراجع زوجته غير الحامل والتي يأتيها الحيض أثناء عدتها التي هي ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر. وحينئذ تتوقف مراجعة الزوج لزوجته على عقد جديد ومهر جديد وتراض بين الزوجين دون ما حاجة إلى أن تنكح زوجا آخر إذا لم تكن التطليقة هي الثالثة على ما شرحناه في سياق تفسير آية البقرة [٢٢٧] شرحا يغني عن التكرار.
ومع أن الكلام هو في صدد عدة الزوجات المطلقات فقد روى المفسرون أحاديث نبوية تجعل عدة الحامل المتوفى عنها زوجها هي وضع حملها أيضا، وأحد هذه الأحاديث رواه البخاري عن أبي سلمة قال «جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالس عنده فقال أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة فقال ابن عباس آخر الأجلين قلت أنا وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ قال أبو هريرة أنا مع أبي سلمة فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها فقالت
وقد استند أئمة الفقه إلى هذا فأجازوا زواج الحامل المتوفى عنها زوجها عقب وضعها وإن كان ذلك بعد وفاته بمدة قصيرة. والمتبادر أن التشريع النبوي توضيح لما سكت عنه القرآن. لأن الآية [٢٣٤] من سورة البقرة التي جعلت عدة الزوجة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام جاءت مطلقة بحيث تصح على الحامل وعلى غير الحامل، وأنه استهدف التخفيف عن المرأة مما هو متسق مع روح الآيات القرآنية وتلقينها بصورة عامة.
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ٦ الى ٧]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧).
(٢) تفسير ابن كثير والخازن والبغوي. [.....]
(٢) ائتمروا: تشاوروا واتفقوا.
(٣) تعاسرتم: اختلفتم أو عسر عليكم الاتفاق.
(٤) قدر عليه رزقه: كان رزقه ضيقا، أو حالته المالية ضعيفة.
تعليق على الآية أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ | إلخ والآية التالية لها وما فيهما من أحكام |
(١) أمرا يوجب على الأزواج إسكان مطلقاتهم في زمن العدة حيث يسكنون وحسب الإمكان الذي يكون لهم.
(٢) ونهيا عن مضارّتهن قولا وفعلا بقصد التضييق عليهن.
(٣) وأمرا بالإنفاق عليهن إن كنّ حاملات إلى أن يضعن حملهن وبإعطائهن أجر الرضاعة إذا أرضعن المولود بمقدار يقدر بالتشاور والتراضي وحسب ما هو معروف أنه الحق، فإن تعسر الاتفاق عليه فترضعه غيرها.
(٤) وتنبيها على أن تكون النفقة متناسبة مع حالة الزوج المالية سعة وضيقا.
فذو السعة ينفق عن سعة. والذي حالته ضيقة ينفق بقدر ما يقدر عليه. فإن الله لا يكلّف إلّا بمقدار ما ييسره له. وهو القادر على أن يأتي باليسر بعد العسر.
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة خاصة لنزول الآيتين. والمتبادر أنها استمرار للسياق. وتتمة لما جاء في الآيات السابقة من أحكام وحدود. وهي صريحة بأنه ليس على الأم المطلقة أن ترضع مولودها إلّا بأجر ولها على زوجها
ومسألة إلزام الزوج بنفقة المطلقة رجعيا مدة العدة إذا لم تكن حاملا من المسائل المختلف فيها باستثناء حق السكن الذي نصّت عليه الآيات. فقد أوجبها بعض الفقهاء قائلين إن الله وقد أمر بعدم إخراجهن من بيوتهن وأوجب لهن السكنى قد أوجب لهن النفقة بالتبعية. ولم يوجبها بعضهم لأن النص القرآني لم يذكر هذا الحق صراحة إلّا للمطلقة الحامل. ولم نطلع على أثر نبوي. ولعل هذا هو سبب الخلاف.
وقد أسهب البغوي وابن كثير والخازن في هذه المسألة. ومما أوردوه من تدعيمات القائلين بالرأي الأول أن الآية إنما اختصت الحامل بالذكر لأن هناك احتمالا لطول مدة الحمل أكثر من مدة العدة. ونحن نرى القول الأول هو الأوجه.
فمن حكمة إبقاء المطلقة الرجعية في بيت الزوجية وهو ما انطوى في الآية الأولى والآية السادسة من السورة معا تيسير مراجعة زوجها لها أثناء العدة فصار من الحق والعدل أن تكون نفقتها عليه أسوة بسكنها وتبعا له طول مدة العدة. وليس في الآيات ما يمنع ذلك ونستطرد إلى مسألة أخرى وهي حق السكن والنفقة للمطلقة بائنا أو باتّا طول مدة العدة. وقد روى الطبري أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود كانا يوجبان ذلك.
ولقد روى مسلم وأبو داود عن فاطمة بنت قيس قالت «طلّقني زوجي ثلاثا فلم يجعل لي رسول الله سكنى ولا نفقة» «١» غير أنه روي مع هذا الحديث حديث آخر مهم رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي إسحاق قال «كنت
وقد يكون حديث أبي إسحاق مؤيدا لقول من قال إن للمطلقة الرجعية حق النفقة بالإضافة إلى السكن. بل هو كذلك من باب أولى. وللحديث مغزى فقهي عظيم. وهو أن أصحاب رسول الله كانوا يتوقفون فيما يرويه البعض من أحاديث معزوة إلى النبي إذا ما رأوها متعارضة مع نصّ قرآني أو سنّة نبوية أخرى. ويوردون احتمال الغلط أو النسيان فيما ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم. والظاهر أن هذا الحديث وأمثاله هو الذي جعل أئمة الحديث يضعون قاعدة لصحة الأحاديث النبوية وهي عدم تعارضها مع النصوص القرآنية. والحديث الذي توقف عمر فيه من مرويات مسلم وأبي داود. وهذه نقطة مهمة في بابها والله تعالى أعلم.
هذا، وتوجيه الخطاب في أول السورة إلى النبي ﷺ قد ينطوي على تقرير لكونه هو ومن يتولى أمر المؤمنين من بعده ذا حقّ الإشراف على تنفيذ ما احتوته الآيات من حدود ورسوم. وهو ما انطوى في آيات البقرة والنساء العائدة إلى الشؤون الأسروية واستلهمنا منه صلاحية وحق القضاء الإسلامي في الإشراف على هذه الشؤون ومراقبتها وتنظيمها ومن ذلك الطلاق.
[سورة الطلاق (٦٥) : الآيات ٨ الى ١٢]
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢). (١) عتت: تمردت.
عبارة الآيات واضحة. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الفصل السابق. ومن المحتمل أن تكون نزلت معه أو نزلت عقبه. وقافيتها قد تدل على قوة الانسجام بينها وبين ما قبلها أيضا. وقد استهدفت التوكيد والتشديد في وجوب تقوى الله والتزام الحدود التي بلغها رسوله للمؤمنين في مسائل الطلاق والعدة والرضاع والرفق بالمرأة ورعاية حقوقها والحرص على الرابطة الزوجية حيث قررت أن الله إنما أرسل رسوله إليهم ليخرجهم بما يتلوه عليهم من الآيات المنزلة عليه من الظلمات إلى النور ومن الفوضى إلى النظام، وأهابت بهم إلى تقوى الله.
ووعدت من يلتزم أوامره نعيم الجنات وكريم الأجر والرزق، وأوعدت من يتمرد عليها بالعذاب الشديد الذي حلّ بكثير من القرى والأمم التي تمردت على الله وأوامره.
والآيات قوية الأسلوب موجهة إلى العقول والقلوب معا. ومن شأنها أن تنفذ إلى نفس المؤمن نفوذا قويا. وفيها دلالة مؤيدة للدلالات السابقة الكثيرة على ما أعاره القرآن لموضوع المرأة والحياة الزوجية من عناية كبرى. وتلقين بأن يكون القرآن أسوة المؤمن ونبراسه في هذا الموضوع الخطير.
وجملة وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ تأتي لأول مرة وللمرة الوحيدة في القرآن. وقد ذكرت الأرض في الآيات التي ورد ذكرها فيها في غير هذه الآية في صيغة المفرد.
وقد استنبط أهل التأويل من ذلك أن الأرض سبع كالسموات. وساقوا في تأييد ذلك أحاديث نبوية وصحابية وتابعته على ما جاء في كتب التفسير «١». ومن هذه الأحاديث ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ومنها ما لم يرد. من ذلك حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال «بينما نبيّ الله جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال نبي الله هل تدرون ما هذا. قالوا الله ورسوله أعلم. قال هذا العنان.
هذا روايا الأرض. يسوقه الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. ثم قال هل تدرون ما فوقكم. قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإنها سقف محفوظ وموج مكفوف. قال هل تدرون كم بينكم وبينها. قالوا الله ورسوله أعلم. قال بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك. قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإن فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدد سبع سموات ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض. ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك. قالوا الله ورسوله أعلم. قال فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين. ثم قال هل تدرون ما الذي تحتكم قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإنها الأرض ثم قال هل تدرون ما الذي تحت ذلك. قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم رجلا بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله ثم قرأ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ «٢» وحديث أورده ابن كثير عن ابن مسعود عن النبي ﷺ قال «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في
(٢) التاج ج ٤ كتاب التفسير ص ٢٢٦ و ٢٢٧.
وهناك حديث رواه الشيخان فيه عبارة سبع أرضين هذا نصّه «من أخذ من الأرض شيئا بغير حق خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين وفي رواية من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوّقه يوم القيامة من سبع أرضين» «١» على أن هناك على ما ذكره المفسرون من قال إن الآية لا تفيد ذلك. وإنه ليس في القرآن أي دليل على أن الأرض سبع. وخرّج العبارة القرآنية تخريجين أحدهما أن يكون تقديرها اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ وثانيهما أن تكون مِنَ زائدة ويكون تقدير العبارة «الله الذي خلق سبع سموات والأرض خلقها مثلهن» «٢» والظاهر أن أصحاب هذا التأويل لم يثبت عندهم ما ورد من الأحاديث التي تذكر سبع أرضين.
وعلى كل حال فالملحوظ أن العبارة القرآنية جاءت عابرة وبسبيل بيان عظمة قدرة الله ومطلق تصرفه أي ليست بسبيل تقرير كون الأرض سبعا بل ولا تقرير كون السموات سبعا بصورة مباشرة مقصودة. وإذا صح حديثا أبي هريرة وابن مسعود فإنهما بسبيل التنويه بعظمة ملكوت الله تعالى ووجوده وإحاطته. وحديث ابن عمر هو من باب الإنذار والوعيد من جهة ومن مشاهد يوم القيامة وعلى سبيل التمثيل والترهيب من جهة أخرى كما هو المتبادر. وأن الأولى أن يقف المؤمن في صدد السموات والأرض ومشاهد الكون والمغيبات المتنوعة الأخرى التي أخبر بها القرآن أو جاءت فيه عرضا أو قصدا عند ما وقف عنده القرآن، والثابت من الحديث النبوي دون تزيد ولا تخمين مع استشفاف الحكمة من ذلك التي منها على ما هو المتبادر بيان عظمة ملكوت الله وقدرته وإحاطته بكل شيء، ومع ملاحظة كون هذه الآيات وأمثالها من المتشابهات التي يجب أن يترك تأويلها ما لم يعه عقل الإنسان إلى الله وأنها ليست من المحكمات التي يكون فهم كنهها من الضرورات الدينية على ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة سابقة والله تعالى أعلم.
(٢) انظر تفسير القاسمي محاسن التأويل.
في السورة تقرير لحالة أهل الكتاب والمشركين قبل البعثة وإشارة إلى ما كانوا ينتظرونه من رسول وكتاب من الله. ونعي على أهل الكتاب لأنهم قد جاءهم ذلك ثم تنازعوا واختلفوا وبيان لدعوة الله وتقرير بأنها لا تتحمل مكابرة ولا اختلافا. وتنديد بالكفار وإنذار لهم وتنويه وبشرى للمؤمنين.
وأسلوبها وانسجامها وتوازنها مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة.
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أنها مدنية نزلت بعد سورة الطلاق. وقد ذكر هذا في معظم روايات ترتيب النزول أيضا «١». وقد روى بعض المفسرين أنها مكية أو أنها مختلف في مكيتها ومدنيتها «٢». وفي مضامينها ما يرجح مدنيتها، حيث احتوت نعيا على أهل الكتاب لأنهم كفروا بالرسالة المحمدية. وجل الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب ووقفوا من هذه الرسالة موقف المناوأة هم اليهود الذين كانوا في المدينة وكان ذلك منهم في العهد المدني. وهناك آيات مدنية عديدة تلهم أن فئات من النصارى ناظروا النبي ولم يؤمنوا. وإن منهم من كان يصدّ عن سبيل الله. وقد مرّ بعضها في سور البقرة وآل عمران والنساء وبعضها في سورتي المائدة والتوبة.
وقد روى المفسرون للسورة أسماء أخرى وهي (لم يكن) و (البرية) و (القيّمة) «٣».
(٢) انظر تفسير الزمخشري والخازن والطبرسي.
(٣) انظر تفسير البغوي والزمخشري والقاسمي.