تفسير سورة الملك

البحر المحيط في التفسير
تفسير سورة سورة الملك من كتاب البحر المحيط في التفسير .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ
سورة الملك
هذه السورة مكية.
ومناسبتها لما قبلها : أنه لما ضرب للكفار بتينك المرأتين المحتوم لهما بالشقاوة، وإن كانتا تحت نبيين، ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم، وهما محتوم لهما بالجنة، وإن كان قوماهما كافرين. كان ذلك تصرّفاً في ملكه على ما سبق قضاؤه

سورة الملك
[سورة الملك (٦٧) : الآيات ١ الى ٣٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩)
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (١١) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٣) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (١٤)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (١٥) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (١٦) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (١٧) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩)
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٢) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (٢٣) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢٦) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (٢٧) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠)
218
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ، الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ، وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ، وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ، تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ، وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ، فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ، إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ، وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ.
هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ. وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّهُ لَمَّا ضُرِبَ لِلْكَفَّارِ بِتَيْنِكَ الْمَرْأَتَيْنِ الْمَحْتُومِ لَهُمَا بِالشَّقَاوَةِ، وَإِنْ كَانَتَا تَحْتَ نَبِيِّينَ، ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم، وَهُمَا مَحْتُومٌ لَهُمَا
219
بِالْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ قَوْمَاهُمَا كَافِرِينَ. كَانَ ذَلِكَ تَصَرُّفًا فِي مُلْكِهِ عَلَى مَا سَبَقَ قَضَاؤُهُ، فَقَالَ:
تَبارَكَ: أَيْ تَعَالَى وَتَعَاظَمَ، الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ: وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحَاطَةِ وَالْقَهْرِ، وكَثِيرًا مَا جَاءَ نِسْبَةُ الْيَدِ إِلَيْهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ «١»، بِيَدِكَ الْخَيْرُ «٢»، وَذَلِكَ فِي حَقِّهِ تَعَالَى اسْتِعَارَةٌ لِتَحْقِيقِ الْمُلْكِ، إِذْ كَانَتْ فِي عُرْفِ الْآدَمِيِّينَ آلَةً لِلتَّمَلُّكِ، وَالْمُلْكُ هُنَا هُوَ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا يَبِيدُ وَلَا يَخْتَلُّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:
مَلِكُ الْمُلُوكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ «٣»، وَنَاسَبَ الْمُلْكَ ذِكْرُ وَصْفِ الْقُدْرَةِ وَالْحَيَاةِ مَا يَصِحُّ بِوُجُودِهِ الْإِحْسَاسُ. وَمَعْنَى خَلَقَ الْمَوْتَ: إِيجَادُ ذَلِكَ الْمُصَحِّحِ وَإِعْدَامُهُ، وَالْمَعْنَى: خَلَقَ مَوْتَكُمْ وَحَيَاتَكُمْ أَيُّهَا الْمُكَلَّفُونَ، وَسَمَّى عِلْمَ الْوَاقِعِ مِنْهُمْ بِاخْتِيَارِهِمْ بَلْوَى وَهِيَ الْحَيْرَةُ، اسْتِعَارَةً مِنْ فِعْلِ الْمُخْتَبِرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ فَسَّرَ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا: أَيْ أَحْسَنُ عَقْلًا وَأَشَدُّكُمْ خَوْفًا وَأَحْسَنُكُمْ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ نَظَرًا، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّكُمْ تَطَوُّعًا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالثَّوْرِيِّ: أَزْهَدُكُمْ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: كَنَّى بِالْمَوْتِ عَنِ الدُّنْيَا، إِذْ هُوَ وَاقِعٌ فِيهَا، وَعَنِ الْآخِرَةِ بِالْحَيَاةِ مِنْ حَيْثُ لَا مَوْتَ فِيهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: هُوَ الَّذِي خَلَقَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، وَصَفَهُمَا بِالْمَصْدَرَيْنِ، وَقَدَّمَ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ أَهْيَبُ فِي النفوس.
وليبلوكم متعلق بخلق. وأَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، فَقَدَّرَ الْحَوْفِيُّ قَبْلَهَا فِعْلًا تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ مَعْمُولِهِ، وَهُوَ مُعَلَّقٌ عَنْهَا تَقْدِيرُهُ: فَيَنْظُرُ، وَقَدَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ فَيَنْظُرُ أَوْ فَيَعْلَمُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مِنْ أَيْنَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا بِفِعْلِ الْبَلْوَى؟ قُلْتُ: مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَضَمَّنَ مَعْنَى الْعِلْمِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لِيَعْلَمَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَإِذَا قُلْتَ: علمته أَحْسَنُ عَمَلًا أَمْ هُوَ؟ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَاقِعَةً مَوْقِعَ الثَّانِي مِنْ مَفْعُولَيْهِ، كَمَا تَقُولُ: عَلِمْتُهُ هُوَ أَحْسَنُ عَمَلًا. فَإِنْ قُلْتَ: أَيُسَمَّى هَذَا تَعْلِيقًا؟ قُلْتُ: لَا، إِنَّمَا التَّعْلِيقُ أَنْ تُوقِعَ بَعْدَهُ مَا يَسُدُّ مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ جَمِيعًا، كَقَوْلِكَ: عَلِمْتُ أَيُّهُمَا عَمْرٌو، وَعَلِمْتُ أَزَيْدٌ مُنْطَلِقٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَصْلَ بَعْدَ سَبْقِ أَحَدِ الْمَفْعُولَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَقَعَ مَا بَعْدَهُ مُصَدَّرًا بِحَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ وَغَيْرَ مُصَدَّرٍ بِهِ؟ وَلَوْ كَانَ تعليقا لا فترقت الْحَالَتَانِ، كَمَا افْتَرَقَتَا فِي قَوْلِكَ:
عَلِمْتُ أَزَيْدٌ مُنْطَلِقٌ، وَعَلِمْتُ زَيْدًا مُنْطَلِقًا. انْتَهَى. وَأَصْحَابُنَا يُسَمُّونَ مَا مَنَعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ تَعْلِيقًا، فَيَقُولُونَ فِي الْفِعْلِ إِذَا عُدِّيَ إِلَى اثْنَيْنِ وَنُصِبَ الْأَوَّلُ، وَجَاءَتْ بَعْدَهُ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ، أَوْ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ، أَوْ بِحَرْفِ نَفْيٍ، كَانَتِ الْجُمْلَةُ مُعَلَّقًا عَنْهَا الْفِعْلُ، وَكَانَتْ فِي
(١) سورة يس: ٣٦/ ٨٣.
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ٢٦.
(٣) سورة آل عمران: ٣/ ٢٦.
220
مَوْضِعِ نَصْبٍ، كَمَا لَوْ وَقَعَتْ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولَيْنِ وَفِيهَا مَا يُعَلِّقُ الْفِعْلَ عَنِ الْعَمَلِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الْكَهْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «١»، وَانْتَصَبَ طِباقاً على الوصف لسبع، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَصْدَرَ طَابَقَ مُطَابَقَةً وَطِبَاقًا لِقَوْلِهِمْ: النَّعْلُ خَصْفُهَا طَبَقًا عَلَى طَبَقٍ، وُصِفَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ ذَا طِبَاقٍ وَإِمَّا جَمْعُ طَبَقٍ كَجَمَلٍ وَجِمَالٍ، أَوْ جَمْعُ طَبَقَةٍ كَرَحَبَةٍ وَرِحَابٍ، وَالْمَعْنَى: بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ.
وَمَا ذُكِرَ مِنْ مَوَادِّ هَذِهِ السموات. فَالْأُولَى مِنْ مَوْجٍ مَكْفُوفٍ، وَالثَّانِيَةُ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، وَالثَّالِثَةُ مِنْ حَدِيدٍ، وَالرَّابِعَةُ مِنْ نُحَاسٍ، وَالْخَامِسَةُ مِنْ فِضَّةٍ، وَالسَّادِسَةُ مِنْ ذَهَبٍ، وَالسَّابِعَةُ مِنْ زُمُرُّدَةٍ بَيْضَاءَ يَحْتَاجُ إِلَى نَقْلٍ صَحِيحٍ، وَقَدْ كَانَ بَعْضَ مَنْ يَنْتَمِي إِلَى الصَّلَاحِ، وَكَانَ أَعْمَى لَا يُبْصِرُ مَوْضِعَ قَدَمِهِ، يُخْبِرُ أَنَّهُ يُشَاهِدُ السموات عَلَى بَعْضِ أَوْصَافٍ مِمَّا ذَكَرْنَا. مِنْ تَفاوُتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ تَفَرُّقٍ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ عَيْبٍ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: مِنْ عَدَمِ اسْتِوَاءٍ. وَقَالَ ثَعْلَبٌ: أَصْلُهُ مِنَ الْفَوْتِ، وَهُوَ أَنْ يَفُوتَ شَيْءٌ شَيْئًا مِنَ الْخَلَلِ. وَقِيلَ:
مِنِ اضْطِرَابٍ. وَقِيلَ: مِنِ اعْوِجَاجٍ. وَقِيلَ: مِنْ تَنَاقُضٍ. وَقِيلَ: مِنِ اخْتِلَافٍ. وَقِيلَ: مِنْ عَدَمِ التَّنَاسُبِ وَالتَّفَاوُتُ، تَجَاوُزُ الْحَدِّ الَّذِي تَجِبُ لَهُ زِيَادَةٌ أَوْ نَقْصٌ. قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ:
تَنَاسَبَتِ الْأَعْضَاءُ فِيهِ فَلَا تَرَى بِهِنَّ اخْتِلَافًا بَلْ أَتَيْنَ عَلَى قَدَرِ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مِنْ تَفاوُتٍ، بِأَلِفٍ مَصْدَرُ تَفَاوَتَ وَعَبْدُ اللَّهِ وَعَلْقَمَةُ وَالْأَسْوَدُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ: بِشَدِّ الْوَاوِ، مَصْدَرُ تَفَوَّتَ. وَحَكَى أَبُو زَيْدِ عن الْعَرَبِيِّ: تَفَاوُتًا بِضَمِّ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا، وَالْفَتْحُ وَالْكَسْرُ شَاذَّانِ. وَالظَّاهِرُ عُمُومُ خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنَ الْأَفْلَاكِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّهُ لَا تَفَوُّتَ فِيهِ وَلَا فُطُورَ، بَلْ كُلٌّ جَارٍ عَلَى الْإِتْقَانِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ السموات فَقَطْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا تَرى اسْتِئْنَافُ أَنَّهُ لَا يُدْرَكُ فِي خَلْقِهِ تَعَالَى تَفَاوُتٌ، وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ صِفَةَ مُتَابَعَةٍ لِقَوْلِهِ: طِباقاً، أَصْلُهَا مَا تَرَى فِيهِنَّ مِنْ تَفَاوُتٍ، فَوَضَعَ مَكَانَ الضَّمِيرِ قَوْلَهُ: خَلْقِ الرَّحْمنِ تَعْظِيمًا لِخَلْقِهِنَّ وَتَنْبِيهًا عَلَى سَبَبِ سَلَامَتِهِنَّ مِنَ التَّفَاوُتِ، وَهُوَ أَنَّهُ خَلْقُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَّهُ بِبَاهِرِ قُدْرَتِهِ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَلْقِ الْمُنَاسِبِ. انْتَهَى. وَالْخِطَابُ فِي تَرَى لِكُلِّ مُخَاطَبٍ، أَوْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَمَّا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ فِي خَلْقِهِ، أَمَرَ بِتَرْدِيدِ الْبَصَرِ في الخلق المناسب
(١) سورة الكهف: ١٨/ ٧.
221
فَقَالَ: فَارْجِعِ، فَفِي الْفَاءِ مَعْنَى التَّسَبُّبِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ العيان يطابق الخبر.
والفطور، قَالَ مُجَاهِدٌ: الشُّقُوقُ، فَطَرَ نَابُ الْبَعِيرِ: شَقَّ اللَّحْمَ وَظَهَرَ، قَالَ الشَّاعِرُ:
بَنَى لَكُمْ بِلَا عُمُدٍ سَمَاءً وَسَوَّاهَا فَمَا فِيهَا فُطُورُ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: صُدُوعٌ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ عُبَيْدِ بْنِ مَسْعُودٍ:
شَقَقْتُ الْقَلْبَ ثُمَّ رَدَدْتُ فِيهِ هَوَاكِ فَلِيطَ فَالْتَأَمَ الْفُطُورُ
وَقَالَ السُّدِّيُّ: خُرُوقٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: خَلَلٌ، وَمِنْهُ التَّفْطِيرُ وَالِانْفِطَارُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
وَهَنٌ وَهَذِهِ تَفَاسِيرٌ مُتَقَارِبَةٌ، وَالْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ: هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفِعْلٍ مُعَلَّقٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ فَانْظُرْ هَلْ تَرَى، أَوْ ضُمِّنَ مَعْنَى فَارْجِعِ الْبَصَرَ مَعْنَى فَانْظُرْ بِبَصَرِكَ هَلْ تَرَى؟ فَيَكُونُ مُعَلَّقًا. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ: أَيْ رَدِّدْهُ كَرَّتَيْنِ هِيَ تَثْنِيَةٌ لَا شَفْعُ الْوَاحِدِ، بَلْ يُرَادُ بِهَا التَّكْرَارُ، كَأَنَّهُ قَالَ: كَرَّةً بَعْدَ كَرَّةٍ، أَيْ كَرَّاتٍ كَثِيرَةً، كَقَوْلِهِ: لَبَّيْكَ، يُرِيدُ إِجَابَاتٍ كَثِيرَةً بَعْضُهَا فِي إِثْرِ بَعْضٍ، وَأُرِيدَ بِالتَّثْنِيَةِ التَّكْثِيرُ، كَمَا أُرِيدَ بِمَا هُوَ أَصْلٌ لَهَا التَّكْثِيرُ، وَهُوَ مُفْرَدٌ عُطِفَ عَلَى مُفْرَدٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ:
لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وَقَبْرٌ كَانَ أَكْرَمَهُمْ بَيْتًا وَأَبْعَدَهُمْ عَنْ مَنْزِلِ الزَّامِّ
يُرِيدُ: لَوْ عُدَّتْ قُبُورٌ كَثِيرَةٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَغَيْرُهُ: كَرَّتَيْنِ مَعْنَاهُ مَرَّتَيْنِ وَنَصَبَهَا عَلَى الْمَصْدَرِ. وَقِيلَ: أَمَرَ بِرَجْعِ الْبَصَرِ إِلَى السَّمَاءِ مَرَّتَيْنِ، غَلَّطَ فِي الْأُولَى، فَيَسْتَدْرِكُ بِالثَّانِيَةِ. وَقِيلَ: الْأُولَى لِيَرَى حُسْنَهَا وَاسْتِوَاءَهَا، وَالثَّانِيَةُ لِيُبْصِرَ كَوَاكِبَهَا فِي سَيْرِهَا وَانْتِهَائِهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَنْقَلِبْ جَزْمًا عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ والخوارزمي عَنِ الْكِسَائِيِّ: يَرْفَعُ الْبَاءَ، أَيْ فَيَنْقَلِبْ عَلَى حَذْفِ الْفَاءِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ مَوْضِعُ حَالٍ مُقَدَّرَةٍ، أَيْ إِنْ رَجَعْتَ الْبَصَرَ وَكَرَّرْتَ النَّظَرَ لِتَطْلُبَ فُطُورَ شُقُوقٍ أَوْ خَلَلًا أَوْ عَيْبًا، رَجَعَ إِلَيْكَ مُبْعَدًا عَمَّا طَلَبْتَهُ لِانْتِفَاءِ ذَلِكَ عَنْهَا، وَهُوَ كَالٌّ مِنْ كَثْرَةِ النَّظَرِ، وَكَلَالُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَرَّتَيْنِ لَيْسَ شَفْعَ الْوَاحِدِ، لِأَنَّهُ لَا يَكِلُّ الْبَصَرُ بِالنَّظَرِ مَرَّتَيْنِ اثْنَتَيْنِ. وَالْحَسِيرُ: الْكَالُّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
لَهُنَّ الْوَجَى لَمْ كر عَوْنًا عَلَى النَّوَى وَلَا زَالَ مِنْهَا ظَالِعٌ وَحَسِيرُ
يُقَالُ: حَسَرَ بَعِيرُهُ يَحْسِرُ حُسُورًا: أَيْ كَلَّ وَانْقَطَعَ فَهُوَ حَسِيرٌ وَمَحْسُورٌ، قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ نَاقَةً:
فَشَطْرُهَا نَظَرَ الْعَيْنَيْنِ مَحْسُورُ
222
أَيْ: وَنَحْرُهَا، وَقَدْ جُمِعَ حَسِيرٌ بِمَعْنَى أَعْيَا وَكَلَّ، قَالَ الشَّاعِرُ:
بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا الْبَيْتَ.
السَّماءَ الدُّنْيا: هِيَ الَّتِي نُشَاهِدُهَا، وَالدُّنُوُّ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ وَإِلَّا فَلَيْسَتْ قَرِيبَةً، بِمَصابِيحَ: أَيْ بِنُجُومٍ مُضِيئَةٍ كَالْمَصَابِيحِ، وَمَصَابِيحُ مُطْلَقُ الْأَعْلَامِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ سَمَاءِ الدُّنْيَا لَيْسَتْ فِيهَا مَصَابِيحُ. وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ: أَيْ جَعَلْنَا مِنْهَا، لِأَنَّ السَّمَاءَ ذَاتَهَا لَيْسَتْ يُرْجَمُ بِهَا الرُّجُومُ هَذَا إِنْ عَادَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْناها عَلَى السَّمَاءِ. وَالظَّاهِرُ عَوْدُهُ عَلَى مَصَابِيحَ. وَنَسَبَ الرَّجْمَ إِلَيْهَا، لِأَنَّ الشِّهَابَ الْمُتَّبِعَ لِلْمُسْتَرِقِ مُنْفَصِلٌ مِنْ نَارِهَا، وَالْكَوَاكِبُ قَارٌّ فِي مُلْكِهِ عَلَى حَالِهِ. فَالشِّهَابُ كَقَبَسٍ يُؤْخَذُ مِنَ النَّارِ، وَالنَّارُ بَاقِيَةٌ لَا تَنْقُصُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الشَّيَاطِينَ هُمْ مُسْتَرِقُو السَّمْعِ، وَأَنَّ الرَّجْمَ هُوَ حَقِيقَةٌ يُرْمَوْنَ بِالشُّهُبِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ وَسُورَةِ وَالصَّافَّاتِ. وَقِيلَ: مَعْنَى رُجُومًا: ظُنُونًا لِشَيَاطِينِ الْإِنْسِ، وَهُمُ الْمُنَجِّمُونَ يَنْسُبُونَ إِلَى النُّجُومِ أَشْيَاءَ عَلَى جِهَةِ الظَّنِّ مِنْ جُهَّالِهِمْ، وَالتَّمْوِيهِ وَالِاخْتِلَاقِ مِنْ أَزْكِيَائِهِمْ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَصَانِيفُ تَشْتَمِلُ عَلَى خُرَافَاتٍ يُمَوِّهُونَ بِهَا عَلَى الْمُلُوكِ وَضُعَفَاءِ الْعُقُولِ، وَيَعْمَلُونَ مَوَالِدَ يَحْكُمُونَ فِيهَا بِالْأَشْيَاءِ لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ.
وَقَدْ وَقَفْنَا عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ كَذِبِهِمْ فِي تِلْكَ الْمَوَالِدِ، وَمَا يَحْكُونَهُ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ وَغَيْرِهِ مِنْ شُيُوخِ السُّوءِ كَذِبٌ يُغْرُونَ بِهِ النَّاسَ الْجُهَّالَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى النُّجُومَ زِينَةً لِلسَّمَاءِ وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَلِيُهْتَدَى بِهَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ فَمَنْ قَالَ غَيْرَ هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ فَقَدْ تَكَلَّفَ وَأَذْهَبَ حَظَّهُ مِنَ الْآخِرَةِ. وَالضَّمِيرُ فِي لَهُمْ عَائِدٌ عَلَى الشَّيَاطِينِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: عَذابُ جَهَنَّمَ بِرَفْعِ الْبَاءِ وَالضَّحَّاكُ وَالْأَعْرَجُ وَأُسَيْدُ بْنُ أُسَيْدٍ الْمُزَنِيُّ وَالْحَسَنُ فِي رِوَايَةِ هَارُونَ عَنْهُ: بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى عَذابَ السَّعِيرِ، أَيْ وَأَعْتَدْنَا لِلَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابَ جَهَنَّمَ. إِذا أُلْقُوا فِيها: أَيْ طُرِحُوا، كَمَا يُطْرَحُ الْحَطَبُ فِي النَّارِ الْعَظِيمَةِ وَيُرْمَى بِهِ، وَمِثْلُهُ حَصَبُ جَهَنَّمَ، سَمِعُوا لَها: أَيْ لِجَهَنَّمَ، شَهِيقاً: أَيْ صَوْتًا مُنْكَرًا كَصَوْتِ الْحِمَارِ، تُصَوِّتُ مِثْلَ ذَلِكَ لِشِدَّةِ تَوَقُّدِهَا وَغَلَيَانِهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مضاف، أَيْ سَمِعُوا لِأَهْلِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ «١».
وَهِيَ تَفُورُ: تَغْلِي بِهِمْ غَلْيَ الْمِرْجَلِ. تَكادُ تَمَيَّزُ: أَيْ يَنْفَصِلُ بعضها من بعض
(١) سورة هود: ١١/ ١٠٦.
223
لِشِدَّةِ اضْطِرَابِهَا، وَيُقَالُ: فُلَانٌ يَتَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ إِذَا وَصَفُوهُ بِالْإِفْرَاطِ فِي الْغَضَبِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَمَيَّزُ بِتَاءٍ واحدة خفيفة، والبزي يشدّدها، وطلحة: بِتَاءَيْنِ، وَأَبُو عَمْرٍو:
بِإِدْغَامِ الدَّالِ فِي التَّاءِ، وَالضَّحَّاكُ: تَمَايَزُ عَلَى وَزْنِ تَفَاعَلُ، وأصله تتمايز بتاءين وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: تَمِيزُ مِنْ مَازَ مِنَ الْغَيْظِ عَلَى الْكَفَرَةِ، جُعِلَتْ كَالْمُغْتَاظَةِ عَلَيْهِمْ لِشِدَّةِ غَلَيَانِهَا بِهِمْ، وَمِثْلُ هَذَا فِي التَّجَوُّزِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فِي كَلْبٍ يَشْتَدُّ فِي جَرْيِهِ يَكَادُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ إِهَابِهِ
وَقَوْلُهُمْ: غَضِبَ فُلَانٌ، فَطَارَتْ مِنْهُ شُقَّةٌ فِي الْأَرْضِ وَشُقَّةٌ فِي السَّمَاءِ إِذَا أَفْرَطَ فِي الْغَضَبِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْ غَيْظِ الزَّبَانِيَةِ. كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ: أَيْ فَرِيقٌ مِنَ الْكُفَّارِ، سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها: سُؤَالَ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ، وَهُوَ مِمَّا يَزِيدُهُمْ عَذَابًا إِلَى عَذَابِهِمْ، وَخَزَنَتُهَا:
مالك وأعوانها، أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ: يُنْذِرُكُمْ بِهَذَا الْيَوْمِ، قالُوا بَلى: اعْتِرَافٌ بِمَجِيءِ النُّذُرِ إِلَيْهِمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: اعْتِرَافٌ مِنْهُمْ بِعَدْلِ اللَّهِ، وَإِقْرَارٌ بِأَنَّهُ عَزَّ وَعَلَا أَزَاحَ عِلَلَهُمْ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ وَإِنْذَارِهُمْ فِيمَا وَقَعُوا فِيهِ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يُؤْتَوْا مِنْ قُدْرَةٍ كَمَا تَزْعُمُ الْمُجْبِرَةُ، وَإِنَّمَا أَتَوْا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ، خِلَافَ مَا اخْتَارَ اللَّهُ وَأَمَرَ بِهِ وَأَوْعَدَ عَلَى ضِدِّهِ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقِ الْمُعْتَزِلَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ، مِنْ قَوْلِ الْكُفَّارِ لِلرُّسُلِ الَّذِينَ جَاءُوا نُذُرًا إِلَيْهِمْ، أَنْكَرُوا أَوَّلًا أَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ شَيْئًا، وَاسْتَجْهَلُوا ثَانِيًا مَنْ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ تَعَالَى أَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ، وَأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ فِي حَيْرَةٍ عَظِيمَةٍ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِ الْخَزَنَةِ لِلْكُفَّارِ إِخْبَارًا لَهُمْ وَتَقْرِيعًا بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا. أَرَادُوا بِالضَّلَالِ الْهَلَاكَ الَّذِي هُمْ فيه، أوسموا عِقَابَ الضَّلَالِ ضَلَالًا لَمَّا كَانَ نَاشِئًا عَنِ الضَّلَالِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ مِنْ كَلَامِ الرُّسُلِ لَهُمْ حَكَوْهُ لِلْخَزَنَةِ، أَيْ قَالُوا لَنَا هَذَا فَلَمْ نَقْبَلْهُ. انْتَهَى. فَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ فِي إِنْ أَنْتُمْ لِلرُّسُلِ، فَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ، وَلِذَلِكَ جَاءَ الْخِطَابُ بِالْجَمْعِ. وَقالُوا: أَيْ لِلْخَزَنَةِ حِينَ حَاوَرُوهُمْ، لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ سَمَاعَ طَالِبٍ لِلْحَقِّ، أَوْ نَعْقِلُ. عَقْلَ مُتَأَمِّلٍ لَهُ، لَمْ نَسْتَوْجِبِ الْخُلُودَ فِي النَّارِ. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ: أَيْ بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، فَسُحْقاً: أَيْ فَبُعْدًا لَهُمْ، وَهُوَ دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ، وَالسُّحْقُ: الْبُعْدُ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْمَصْدَرِ: أَيْ سَحَقَهُمُ اللَّهُ سُحْقًا، قَالَ الشَّاعِرُ:
يَجُولُ بِأَطْرَافِ الْبِلَادِ مُغَرِّبًا وَتَسْحَقُهُ رِيحُ الصَّبَا كُلَّ مَسْحَقِ
وَالْفِعْلُ مِنْهُ ثُلَاثِيٌّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ أَسْحَقُهُمُ اللَّهُ سُحْقًا، أَيْ بَاعَدَهُمْ بُعْدًا. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْقِيَاسُ إِسْحَاقًا، فَجَاءَ الْمَصْدَرُ عَلَى الْحَذْفِ، كَمَا قِيلَ:
224
وَإِنْ أَهْلِكْ فَذَلِكَ كَانَ قَدَرِي أَيْ تَقْدِيرِي. انْتَهَى، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى ادِّعَاءِ الْحَذْفِ فِي الْمَصْدَرِ لِأَنَّ فِعْلَهُ قَدْ جَاءَ ثُلَاثِيًّا، كَمَا أَنْشَدَ:
وَتَسْحَقُهُ رِيحُ الصَّبَا كُلَّ مَسْحَقِ وَقَرَأَ الجمهور: بسكون الحاء وعلي وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْكِسَائِيُّ، بِخِلَافٍ عَنْ أَبِي الْحَرْثِ عَنْهُ: بِضَمِّهَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَسُحْقاً: نَصْبًا عَلَى جِهَةِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ، وَجَازَ ذَلِكَ فِيهِ، وَهُوَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ هَذَا الْقَوْلِ فِيهِمْ مُسْتَقِرٌّ أَوَّلًا، وَوُجُودُهُ لَمْ يَقَعْ إِلَّا فِي الْآخِرَةِ، فَكَأَنَّهُ لِذَلِكَ فِي حَيِّزِ الْمُتَوَقَّعِ الَّذِي يُدْعَى بِهِ، كَمَا تَقُولُ: سُحْقًا لِزَيْدٍ وَبُعْدًا، وَالنَّصْبُ فِي هَذَا كُلِّهِ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، وَإِنْ وَقَعَ وَثَبَتَ، فَالْوَجْهُ فِيهِ الرَّفْعُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ «١»، وسَلامٌ عَلَيْكُمْ «٢»، وَغَيْرُ هَذَا مِنَ الْأَمْثِلَةِ. انْتَهَى. يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ: أَيِ الَّذِي أُخْبِرُوا بِهِ مِنْ أَمْرِ الْمَعَادِ وَأَحْوَالِهِ، أَوْ غَائِبِينَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، أَيْ فِي خَلَوَاتِهِمْ، كَقَوْلِهِ: وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ. وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ: خِطَابٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَسَبَبُهُ أَنَّ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ قَالَ لِبَعْضٍ: أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ لَا يَسْمَعُكُمْ إِلَهُ مُحَمَّدٍ. أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ: الهمزة للاستفهام ولا لِلنَّفْيِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ مَفْعُولٌ، وَالْمَعْنَى: أَيَنْتَفِي عِلْمُهُ بِمَنْ خَلَقَ، وَهُوَ الَّذِي لَطُفَ عِلْمُهُ وَدَقَّ وَأَحَاطَ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ وَجَلِيَّاتِهَا؟ وَأَجَازَ بَعْضُ النُّحَاةِ أَنْ يَكُونَ مَنْ فَاعِلًا وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا يَعْلَمُ الْخَالِقُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ؟ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ، أَيْ كَيْفَ لَا يَعْلَمُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ مِنْ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ وَأَوْجَدَهَا مِنَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ وَحَالُهُ أَنَّهُ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الْمُتَوَصِّلُ عِلْمُهُ إِلَى مَا ظَهَرَ مِنْ خَلْقِهِ وَمَا بَطَنَ؟
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا: مِنَّةٌ مِنْهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَالذَّلُولُ فَعُولٌ لِلْمُبَالِغَةِ، مِنْ ذَلِكَ تَقُولُ: دَابَّةٌ ذَلُولٌ: بَيِّنَةُ الذِّلِّ، وَرَجُلٌ ذَلِيلٌ: بَيِّنُ الذُّلِّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَالذَّلُولُ فَعُولٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَذْلُولَةٌ، فَهِيَ كَرَكُوبٍ وَحَلُوبٍ. انْتَهَى. وَلَيْسَ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ لِأَنَّ فِعْلَهُ قَاصِرٌ، وَإِنَّمَا تَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ كَقَوْلِهِ: وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ «٣»، وَإِمَّا بِالتَّضْعِيفِ لِقَوْلِهِ: وَذَلَّلْناها لَهُمْ «٤»، وَقَوْلُهُ: أَيْ مَذْلُولَةٌ يَظْهَرُ أَنَّهُ خَطَأٌ. فَامْشُوا فِي مَناكِبِها: أمر
(١) سورة المطففين: ٨٣/ ١. [.....]
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٤٦.
(٣) سورة آل عمران: ٣/ ٢٦.
(٤) سورة يس: ٣٦/ ٧٢.
225
بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا وَالِاكْتِسَابِ وَمَنَاكِبُهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَبِشْرُ بْنُ كَعْبٍ: أَطْرَافُهَا، وَهِيَ الْجِبَالُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكَلْبِيُّ وَمُنْذِرُ بْنُ سَعِيدٍ: جَوَانِبُهَا، وَمَنْكِبَا الرَّجُلِ: جَانِبَاهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: طَرَفُهَا وَفِجَاجُهَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَشْيُ فِي مَنَاكِبِهَا مَثَلٌ لِفَرْطِ التذليل ومجازوته الْغَايَةَ، لِأَنَّ الْمَنْكِبَيْنِ وَمُلْتَقَاهُمَا مِنَ الْغَارِبِ أَرَقُّ شَيْءٍ مِنَ الْبَعِيرِ وَأَنْبَأَهُ عَنْ أَنْ يَطَأَهُ الرَّاكِبُ بِقَدَمِهِ وَيَعْتَمِدَ عَلَيْهِ، فَإِذَا جَعَلَهَا فِي الذُّلِّ بِحَيْثُ يَمْشِي فِي مَنَاكِبِهَا لَمْ يَنْزِلْ. انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سَهَّلَ لَكُمُ السُّلُوكَ فِي جِبَالِهَا فَهُوَ أَبْلَغُ التَّذْلِيلِ. وَإِلَيْهِ النُّشُورُ: أَيْ الْبَعْثُ، فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ شُكْرِ هَذِهِ النِّعْمَةِ عليكم.
قوله عَزَّ وَجَلَّ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ، أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ، وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ، أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ، أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ، أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ، أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ، قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ، قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ.
قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْبَزِّيُّ: أَأَمِنْتُمْ بِتَحْقِيقِ الْأُولَى وَتَسْهِيلِ الثَّانِيَةِ، وَأَدْخَلَ أَبُو عَمْرٍو وَقَالُونُ بَيْنَهُمَا أَلِفًا، وقنبل: بِإِبْدَالِ الْأُولَى وَاوًا لِضَمَّةِ مَا قَبْلَهَا، وَعَنْهُ وَعَنْ وَرْشٍ أَوْجُهٌ غَيْرُ هَذِهِ وَالْكُوفِيُّونَ وَابْنُ عَامِرٍ بِتَحْقِيقِهِمَا. مَنْ فِي السَّماءِ: هَذَا مَجَازٌ، وَقَدْ قَامَ الْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ على أن تَعَالَى لَيْسَ بِمُتَحَيِّزٍ فِي جِهَةٍ، وَمَجَازُهُ أَنَّ مَلَكُوتَهُ فِي السَّمَاءِ لِأَنَّ فِي السَّمَاءِ هُوَ صِلَةُ مَنْ، فَفِيهِ الضَّمِيرُ الَّذِي كَانَ فِي الْعَامِلِ فِيهِ، وَهُوَ اسْتَقَرَّ، أَيْ مَنْ فِي السَّمَاءِ هُوَ، أَيْ مَلَكُوتُهُ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَمَلَكُوتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ. لَكِنْ خَصَّ السَّمَاءَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهَا مَسْكَنُ مَلَائِكَتِهِ وَثَمَّ عَرْشُهُ وَكُرْسِيُّهُ وَاللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَمِنْهَا تَنْزِلُ قَضَايَاهُ وَكُتُبُهُ وَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، أَوْ جَاءَ هَذَا عَلَى طَرِيقِ اعْتِقَادِهِمْ، إِذْ كَانُوا مُشَبِّهَةً، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ
226
تَزْعُمُونَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ؟ وَهُوَ الْمُتَعَالِي عَنِ الْمَكَانِ. وَقِيلَ: مَنْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ خَالِقُ مَنْ فِي السَّمَاءِ. وَقِيلَ: مَنْ هُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَقِيلَ: جِبْرِيلُ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالْخَسْفِ وَغَيْرُهُ. وَقِيلَ: مَنْ بِمَعْنَى عَلَى، وَيُرَادُ بِالْعُلُوِّ الْقَهْرُ وَالْقُدْرَةُ لَا بِالْمَكَانِ، وَفِي التَّحْرِيرِ: الْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي السَّمَاءِ بِمَعْنَى الِاسْتِقْرَارِ، لِأَنَّ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ وَالْمُجَسِّمَةِ أَنَّهُ عَلَى الْعَرْشِ لَا يَقُولُ بِأَنَّهُ فِي السَّمَاءِ. أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ وَهُوَ ذَهَابُهَا سَفَلًا، فَإِذا هِيَ تَمُورُ: أَيْ تَذْهَبُ أَوْ تَتَمَوَّجُ، كَمَا يَذْهَبُ التُّرَابُ فِي الرِّيحِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَاصِبِ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ، وَالنَّذِيرُ وَالنَّكِيرُ مَصْدَرَانِ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ وَالْإِنْكَارِ، وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
فَأَنْذَرَ مِثْلَهَا نُصْحًا قُرَيْشًا مِنَ الرَّحْمَنِ إِنْ قَبِلَتْ نذير
وَأَثْبَتَ وَرْشٌ يَاءَ نَذِيرِي وَنَكِيرِي، وَحَذَفَهَا بَاقِي السَّبْعَةِ. وَلَمَّا حَذَّرَهُمْ مَا يُمْكِنُ إِحْلَالُهُ بِهِمْ مِنَ الْخَسْفِ وَإِرْسَالِ الْحَاصِبِ، نَبَّهَهُمْ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِالطَّيْرِ وَمَا أَحْكَمَ مِنْ خَلْقِهَا، وَعَنْ عَجْزِ آلِهَتِهِمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَنَاسَبَ ذَلِكَ الِاعْتِبَارَ بِالطَّيْرِ، إِذْ قَدْ تَقَدَّمَهُ ذِكْرُ الْحَاصِبِ، وَقَدْ أَهْلَكَ اللَّهُ أَصْحَابَ الْفِيلِ بِالطَّيْرِ وَالْحَاصِبِ الَّذِي رَمَتْهُمْ بِهِ، فَفِيهِ إِذْكَارُ قُرَيْشٍ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَأَهْلَكَهُمْ بِحَاصِبٍ تَرْمِي بِهِ الطَّيْرُ، كَمَا فَعَلَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ. صافَّاتٍ: بَاسِطَةً أَجْنِحَتَهَا صَافَّتَهَا حَتَّى كَأَنَّهَا سَاكِنَةٌ، وَيَقْبِضْنَ: وَيَضْمُمْنَ الْأَجْنِحَةَ إِلَى جَوَانِبِهِنَّ، وَهَاتَانِ حَالَتَانِ لِلطَّائِرِ يَسْتَرِيحُ مِنْ إِحْدَاهُمَا إِلَى الْأُخْرَى. وَعَطَفَ الْفِعْلَ عَلَى الِاسْمِ لَمَّا كَانَ فِي مَعْنَاهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ «١»، عَطْفِ الْفِعْلِ عَلَى الِاسْمِ لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى: فَاللَّاتِي أَغَرْنَ صُبْحًا فَأَثَرْنَ، وَمِثْلُ هَذَا الْعَطْفِ فَصِيحٌ، وَعَكْسُهُ أَيْضًا جَائِزٌ إِلَّا عِنْدَ السُّهَيْلِيِّ فَإِنَّهُ قَبِيحٌ، نَحْوُ قوله:
بات يغشيها بغضب بَاتِرٍ يُقْصَدُ فِي أَسْوُقِهَا وَجَائِرُ
أَيْ: قَاصِدٌ فِي أَسْوُقِهَا وَجَائِرٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: صافَّاتٍ: بَاسِطَاتٍ أَجْنِحَتَهُنَّ فِي الْجَوِّ عِنْدَ طَيَرَانِهَا، لِأَنَّهُنَّ إِذَا بَسَطْنَهَا صَفَفْنَ قَوَادِمَهَا صفا، وَيَقْبِضْنَ: ويضمنها إِذَا ضَرَبْنَ بِهَا جُنُوبَهُنَّ. فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ قِيلَ وَيَقْبِضْنَ، وَلَمْ يَقُلْ: وَقَابِضَاتٍ؟ قُلْتُ: أَصْلُ الطَّيَرَانِ هُوَ صَفُّ الْأَجْنِحَةِ، لِأَنَّ الطَّيَرَانَ فِي الْهَوَاءِ كَالسِّبَاحَةِ فِي الْمَاءِ، وَالْأَصْلُ فِي السِّبَاحَةِ مَدُّ الْأَطْرَافِ وَبَسْطُهَا. وَأَمَّا القبض فطارىء عَلَى الْبَسْطِ لِلِاسْتِظْهَارِ بِهِ على
(١) سورة العاديات: ١٠٠/ ٣- ٤.
227
التَّحَرُّكِ، فَجِيءَ بِمَا هُوَ طَارِئٌ غَيْرُ أَصْلٍ بِلَفْظِ الْفِعْلِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُنَّ صَافَّاتٌ، وَيَكُونُ مِنْهُنَّ الْقَبْضُ تَارَةً بَعْدَ تَارَةٍ، كَمَا يَكُونُ مِنَ السَّابِحِ. انْتَهَى. وَمُلَخَّصُهُ أَنَّ الْغَالِبَ هُوَ الْبَسْطُ، فَكَأَنَّهُ هُوَ الثَّابِتُ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالِاسْمِ. وَالْقَبْضُ مُتَجَدِّدٌ، فَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْفِعْلِ بِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ: أَيْ بِقُدْرَتِهِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَبِمَا دَبَّرَ لَهُنَّ مِنَ الْقَوَادِمِ وَالْخَوَافِي، وَبَنَى الْأَجْسَامَ عَلَى شَكْلٍ وَخَصَائِصَ قَدْ يَأْتِي مِنْهَا الْجَرْيُ فِي الْجَوِّ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ: يَعْلَمُ كَيْفَ يَخْلُقُ وَكَيْفَ يُدَبِّرُ الْعَجَائِبَ. انْتَهَى، وَفِيهِ نُزُوعٌ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الطَّبِيعَةِ. وَنَحْنُ نَقُولُ:
إِنَّ أَثْقَلَ الْأَشْيَاءِ إِذَا أَرَادَ إِمْسَاكَهَا فِي الْهَوَاءِ وَاسْتِعْلَاءَهَا إِلَى الْعَرْشِ كَانَ ذَلِكَ، وَإِذَا أَرَادَ إِنْزَالَ مَا هُوَ أَخَفُّ سُفْلًا إِلَى مُنْتَهَى مَا يَنْزِلُ كَانَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مَعْذُوقًا بِشَكْلٍ، لَا مِنْ ثِقَلٍ وَلَا خِفَّةٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: مَا يُمْسِكُهُنَّ مُخَفَّفًا. وَالزُّهْرِيُّ مُشَدَّدًا. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: أَمَّنْ، بِإِدْغَامِ مِيمِ أَمْ فِي مِيمِ مَنْ، إِذِ الْأَصْلُ أَمْ مَنْ، وَأَمْ هُنَا بِمَعْنَى بَلْ خَاصَّةً لِأَنَّ الَّذِي بَعْدَهَا هُوَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَهَذَا خَبَرٌ، وَالْمَعْنَى: مَنْ هُوَ نَاصِرُكُمْ إِنِ ابْتَلَاكُمْ بِعَذَابِهِ وَكَذَلِكَ مَنْ هُوَ رَازِقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ، وَالْمَعْنَى: لَا أَحَدَ يَنْصُرُكُمْ وَلَا يَرْزُقُكُمْ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ: أَمَنْ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ وَنَقْلِهَا إِلَى الثَّانِيَةِ كَالْجَمَاعَةِ. قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَمَعْنَاهُ: أَهَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ، أَمِ الَّذِي يَرْزُقُكُمْ؟ فَلَفْظُهُ لَفْظُ الِاسْتِفْهَامِ، وَمَعْنَاهُ التَّقْرِيعُ وَالتَّوْبِيخُ. انْتَهَى. بَلْ لَجُّوا: تَمَادَوْا، فِي عُتُوٍّ: فِي تَكَبُّرٍ وَعِنَادٍ، وَنُفُورٍ: شِرَادٌ عَنِ الْحَقِّ لِثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَصْنَامِهِمْ.
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ، قَالَ قَتَادَةُ نَزَلَتْ مُخْبِرَةً عَنْ حَالِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْكُفَّارَ يَمْشُونَ فِيهَا عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَمْشُونَ عَلَى اسْتِقَامَةٍ.
وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ يَمْشِي الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ؟ فَقَالَ: «إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى رِجْلَيْهِ قَادِرٌ أَنْ يُمْشِيَهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى وَجْهِهِ».
فَالْمَشْيُ عَلَى قَوْلِ قَتَادَةَ حَقِيقَةٌ. وَقِيلَ: هُوَ مَجَازٌ، ضُرِبَ مَثَلًا لِلْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ فِي الدُّنْيَا. فَقِيلَ: عَامٌّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ، نَزَلَتْ فِيهِمَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَالرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَقِيلَ: فِي أَبِي جَهْلٍ وَحَمْزَةَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْكَافِرَ فِي اضْطِرَابِهِ وَتَعَسُّفِهِ فِي عَقِيدَتِهِ وَتَشَابُهِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ، كَالْمَاضِي فِي انْخِفَاضٍ وَارْتِفَاعٍ، كَالْأَعْمَى يَتَعَثَّرُ كُلَّ سَاعَةٍ فَيَخِرُّ لِوَجْهِهِ. وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ، فَإِنَّهُ لِطُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ بِالْإِيمَانِ، وَكَوْنِهِ قَدْ وَضَحَ لَهُ الْحَقُّ، كَالْمَاشِي صَحِيحَ الْبَصَرِ مُسْتَوِيًا لَا يَنْحَرِفُ عَلَى طَرِيقٍ وَاضِحِ الِاسْتِقَامَةِ لَا حُزُونَ فِيهَا، فَآلَةُ نَظَرِهِ صَحِيحَةٌ وَمَسْلَكُهُ لَا صعوبة فيه.
ومُكِبًّا: حَالٌ مِنْ أَكَبَّ، وَهُوَ لَا يَتَعَدَّى، وَكَبَّ مُتَعَدٍّ، قَالَ تَعَالَى: فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي
228
النَّارِ
«١»، وَالْهَمْزَةُ فِيهِ لِلدُّخُولِ فِي الشَّيْءِ أَوْ لِلصَّيْرُورَةِ، وَمُطَاوِعُ كَبَّ انْكَبَّ، تَقُولُ: كَبَبْتُهُ فَانْكَبَّ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا شَيْءَ مِنْ بِنَاءِ افعل مطوعا، وَلَا يُتْقَنُ نَحْوَ هَذَا إِلَّا حَمَلَةُ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ، وَهَذَا الرَّجُلُ كَثِيرُ التَّبَجُّحِ بِكِتَابِ سِيبَوَيْهِ، وَكَمْ مِنْ نَصٍّ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ عَمِيَ بَصَرُهُ وَبَصِيرَتُهُ! حَتَّى أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا الْحَجَّاجِ يُوسُفُ بْنُ مَعْزُوزٍ صَنَّفَ كِتَابًا يَذْكُرُ فِيهِ مَا غَلِطَ فِيهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَمَا جَهِلَهُ مِنْ نُصُوصِ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ. وَأَهْدَى: أَفْعَلُ تَفْضِيلٌ مِنَ الْهُدَى فِي الظَّاهِرِ، وَهُوَ نَظِيرُ: الْعَسَلُ أَحْلَى أَمِ الْخَلُّ؟ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ لَا تُرَادُ حَقِيقَتُهُ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ سَامِعٍ يُجِيبُ بِأَنَّ الْمَاشِيَ سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ أَهْدَى. وَانْتَصَبَ قَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، وما زائدة، وتشكرون مُسْتَأْنِفٌ أَوْ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ تَشْكُرُونَ شُكْرًا قَلِيلًا. وقال ابن عطية: ظاهر أَنَّهُمْ يَشْكُرُونَ قَلِيلًا، وَمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ لِلْكَافِرِينَ شُكْرٌ، وَهُوَ قَلِيلٌ غَيْرُ نَافِعٍ. وَأَمَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ نَفْيَ الشُّكْرِ جُمْلَةً فَعَبَّرَ بِالْقِلَّةِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ:
هَذِهِ أَرْضٌ قَلَّ مَا تُنْبِتُ كَذَا، وَهِيَ لَا تُنْبِتُهُ الْبَتَّةَ. انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ قَوْلِهِ وَالرَّدُّ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ. ذَرَأَكُمْ: بَثَّكُمْ، وَالْحَشْرُ: الْبَعْثُ، وَالْوَعْدُ الْمُشَارُ إِلَيْهِ هُوَ وَعْدُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَيْ مَتَى إِنْجَازُ هَذَا الْوَعْدِ؟.
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً: أَيْ رَأَوُا الْعَذَابَ وَهُوَ الْمَوْعُودُ بِهِ، زُلْفَةً: أَيْ قُرْبًا، أَيْ ذَا قُرْبٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: عَيَانًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَاضِرًا. وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ مَكَانًا ذَا زُلْفَةٍ، فَانْتَصَبَ عَلَى الظَّرْفِ. سِيئَتْ: أَيْ سَاءَتْ رُؤْيَتُهُ وُجُوهَهُمْ، وَظَهَرَ فِيهَا السُّوءُ وَالْكَآبَةُ، وَغَشِيَهَا السَّوَادُ كَمَنْ يُسَاقُ إِلَى الْقَتْلِ. وَأَخْلَصَ الْجُمْهُورُ كَسْرَةَ السِّينِ، وَأَشَمَّهَا الضَّمَّ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ وَشَيْبَةُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ. وَقِيلَ لَهُمْ، أَيْ تَقُولُ لَهُمُ الزَّبَانِيَةُ وَمَنْ يُوَبِّخُهُمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تَدَّعُونَ بِشَدِّ الدَّالِ مَفْتُوحَةً، فَقِيلَ: مِنَ الدَّعْوَى. قَالَ الْحَسَنُ: تَدَّعُونَ أَنَّهُ لَا جَنَّةَ وَلَا نَارَ. وَقِيلَ: تَطْلُبُونَ وَتَسْتَعْجِلُونَ، وَهُوَ مِنَ الدُّعَاءِ، وَيُقَوِّي هَذَا الْقَوْلَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ رَجَاءٍ وَالضَّحَّاكِ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَابْنِ يَسَارٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ وَسَلَّامٍ وَيَعْقُوبَ: تَدْعُونَ بِسُكُونِ الدَّالِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ أَبِي عَبْلَةَ وَأَبِي زَيْدٍ وَعِصْمَةُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ والأصمعي عَنْ نَافِعٍ. رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَدْعُونَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ بِالْهَلَاكِ. وَقِيلَ: كَانُوا يَتَآمَرُونَ بَيْنَهُمْ بِأَنْ يُهْلِكُوهُمْ بِالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ، فَأُمِرَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ كَمَا تُرِيدُونَ، أَوْ رَحِمَنا بِالنَّصْرِ عَلَيْكُمْ، فَمَنْ يَحْمِيكُمْ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي سَبَّبَهُ كُفْرُكُمْ؟ وَلَمَّا قَالَ: أَوْ رَحِمَنا قَالَ: هُوَ الرَّحْمنُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا بِهِ
(١) سورة النمل: ٢٧/ ٩٠.
229
النَّجَاةُ وَهُوَ الْإِيمَانُ وَالتَّفْوِيضُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَسَتَعْلَمُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ، والكسائي: بِيَاءِ الْغَيْبَةِ نَظَرًا إِلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ «١».
وَلَمَّا ذَكَرَ الْعَذَابَ، وَهُوَ مُطْلَقُ، ذِكْرِ فَقْدِ مَا بِهِ حَيَاةُ النُّفُوسِ وَهُوَ الْمَاءُ، وَهُوَ عَذَابٌ مَخْصُوصٌ. وَالْغَوْرُ مَشْرُوحٌ فِي الْكَهْفِ، وَالْمَعِينُ فِي قَدْ أَفْلَحَ، وَجَوَابُ إِنْ أَهْلَكَنِيَ:
فَمَنْ يُجِيرُ، وَجَوَابُ إِنْ أَصْبَحَ: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ، وَتُلِيَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عِنْدَ بَعْضِ الْمُسْتَهْزِئِينَ فقال: تجيء به النفوس وَالْمَعَاوِيلُ، فَذَهَبَ مَاءُ عَيْنَيْهِ.
(١) سورة الملك: ٢٨/ ٦٧.
230
Icon