ﰡ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿أَلَمْ (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) ﴾.تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ "الْبَقَرَةِ" عَامَّةُ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِصَدْرِ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا الْقُرْآنَ هُدًى وَشِفَاءً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ، وَهُمُ الَّذِينَ أَحْسَنُوا الْعَمَلَ فِي اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ، فَأَقَامُوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ بِحُدُودِهَا وَأَوْقَاتِهَا، وَمَا يَتْبَعُهَا مِنْ نَوَافِلَ رَاتِبَةٍ وَغَيْرِ رَاتِبَةٍ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ عَلَيْهِمْ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا، وَوَصَلُوا قُرَابَاتِهُمْ وَأَرْحَامَهُمْ، وَأَيْقَنُوا بِالْجَزَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَرَغِبُوا إلى الله في ثواب ذلك، لم يراؤوا بِهِ وَلَا أَرَادُوا جَزَاءً مِنَ النَّاسِ وَلَا شَكُورًا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أَيْ: عَلَى بَصِيرَةٍ وَبَيِّنَةٍ وَمَنْهَجٍ وَاضِحٍ وَجَلِيٍّ، ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٧) ﴾.
لَمَّا ذَكَّرَ تَعَالَى حَالَ السُّعَدَاءِ، وَهُمُ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَنْتَفِعُونَ بِسَمَاعِهِ، كَمَا قَالَ [اللَّهُ] (١) تَعَالَى: ﴿اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزُّمَرِ: ٢٣]، عَطَفَ بِذِكْرِ حَالِ الْأَشْقِيَاءِ، الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ الِانْتِفَاعِ بِسَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ، وَأَقْبَلُوا عَلَى اسْتِمَاعِ الْمَزَامِيرِ وَالْغَنَاءِ بِالْأَلْحَانِ وَآلَاتِ الطَّرَبِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ قَالَ: هُوَ -وَاللَّهِ-الْغِنَاءُ.
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ يُونُسَ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الْبَجَلِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ أَبِي الصَّهْبَاءِ الْبَكْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ -وَهُوَ يَسْأَلُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ -فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: الْغِنَاءُ، وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إلا هو، يرددها (٢) ثلاث مرات (٣).
(٢) في ت: "فرددها".
(٣) تفسير الطبري (٢١/٣٩).
وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَجَابِرٌ، وعِكْرِمة، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَمُجَاهِدٌ، وَمَكْحُولٌ، وَعَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، وَعَلِيُّ بْنُ بَذيمة.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أُنْزِلَتْ هذه الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ فِي الْغِنَاءِ وَالْمَزَامِيرِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: قَوْلُهُ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ : وَاللَّهِ لَعَلَّهُ لَا يُنْفِقُ فِيهِ مَالًا ولكنْ شِرَاؤُهُ اسْتِحْبَابُهُ، بِحَسْبِ الْمَرْءِ مِنَ الضَّلَالَةِ أَنْ يختارَ حديثَ الْبَاطِلِ عَلَى حَدِيثِ الْحَقِّ، وَمَا يَضُرُّ عَلَى مَا يَنْفَعُ.
وَقِيلَ: عَنَى بِقَوْلِهِ: ﴿يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ : اشْتِرَاءَ الْمُغَنِّيَاتِ مِنَ الْجَوَارِي.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الأحْمَسي: حَدَّثَنَا وَكِيع، عَنْ خَلاد الصَّفَّارِ، عَنْ عُبَيْد اللَّهِ بْنِ زَحْر، عَنْ عَلِيِّ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ (٢) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَحُلُّ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ وَلَا شِرَاؤُهُنَّ، وَأَكْلُ أَثْمَانِهِنَّ حَرَامٌ، وَفِيهِنَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيّ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾.
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ، مِنْ حَدِيثِ عُبَيد اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ بِنَحْوِهِ (٣)، ثُمَّ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. وضَعُفَ (٤) عَلِيَّ بْنَ يَزِيدَ الْمَذْكُورَ.
قُلْتُ: عَلِيٌّ، وَشَيْخُهُ، وَالرَّاوِي عَنْهُ، كُلُّهُمْ ضُعَفَاءُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ﴾ يَعْنِي: الشِّرْكُ. وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ؛ وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ كُلُّ كَلَامٍ يَصُدُّ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أَيْ: إِنَّمَا يَصْنَعُ هَذَا لِلتَّخَالُفِ لِلْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ.
وَعَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ الْيَاءِ، تَكُونُ اللَّامُ لَامَ الْعَاقِبَةِ، أَوْ تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ الْقَدَرِيِّ، أَيْ: قُيضوا لِذَلِكَ لِيَكُونُوا كَذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: وَيَتَّخِذُ سَبِيلَ اللَّهِ هُزُوًا، يَسْتَهْزِئُ بِهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي: وَيَتَّخِذُ آيَاتِ اللَّهِ هَزُّوا. وَقَوْلُ مُجَاهِدٍ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ أَيْ: كَمَا اسْتَهَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَسَبِيلِهِ، أُهِينُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْعَذَابِ الدَّائِمِ المستمر.
(٢) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(٣) سنن الترمذي برقم (٣١٩٥) وتفسير الطبري (٢١/٤٠).
(٤) في ت: "وفي إسناده"
عطف بذكر حال الأشقياء، الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ﴾ قال : هو - والله - الغناء.
قال ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يزيد بن يونس، عن أبي صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير، عن أبي الصهباء البكري، أنه سمع عبد الله بن مسعود - وهو يسأل عن هذه الآية :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ - فقال عبد الله : الغناء، والله الذي لا إله إلا هو، يرددها٢ ثلاث مرات٣.
حدثنا عمرو بن علي، حدثنا صفوان بن عيسى، أخبرنا حُمَيْد الخراط، عن عمار، عن سعيد بن جبير، عن أبي الصهباء : أنه سأل ابن مسعود عن قول الله :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ﴾ قال : الغناء٤.
وكذا قال ابن عباس، وجابر، وعِكْرِمة، وسعيد بن جُبَيْر، ومجاهد، ومكحول، وعمرو بن شعيب، وعلي بن بَذيمة.
وقال الحسن البصري : أنزلت هذه الآية :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ في الغناء والمزامير.
وقال قتادة : قوله :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ : والله لعله لا ينفق فيه مالا ولكنْ شراؤه استحبابه، بحسب المرء من الضلالة أن يختارَ حديثَ الباطل على حديث الحق، وما يضر على ما ينفع.
وقيل : عنى بقوله :﴿ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ﴾ : اشتراء المغنيات من الجواري.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحْمَسي : حدثنا وَكِيع، عن خَلاد الصفار، عن عُبَيْد الله بن زَحْر، عن علي بن يزيد، عن القاسم بن عبد الرحمن٥ عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يحل بيع المغنيات ولا شراؤهن، وأكل أثمانهن حرام، وفيهن أنزل الله عز وجل عَلَيّ :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ﴾.
وهكذا رواه الترمذي وابن جرير، من حديث عُبَيد الله بن زحر بنحوه٦، ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب. وضَعُفَ ٧ علي بن يزيد المذكور.
قلت : علي، وشيخه، والراوي عنه، كلهم ضعفاء. والله أعلم.
وقال الضحاك في قوله تعالى :﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ﴾ يعني : الشرك. وبه قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ؛ واختار ابن جرير أنه كل كلام يصد عن آيات الله واتباع سبيله.
وقوله :﴿ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ أي : إنما يصنع هذا للتخالف للإسلام وأهله.
وعلى قراءة فتح الياء، تكون اللام لام العاقبة، أو تعليلا للأمر القدري، أي : قُيضوا لذلك ليكونوا كذلك.
وقوله :﴿ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا ﴾ قال مجاهد : ويتخذ سبيل الله هزوا، يستهزئ بها.
وقال قتادة : يعني : ويتخذ آيات الله هزوا. وقول مجاهد أولى.
وقوله تعالى :﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾ أي : كما استهانوا بآيات الله وسبيله، أهينوا يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر.
٢ - في ت: "فرددها"..
٣ - تفسير الطبري (٢١/٣٩)..
٤ - تفسير الطبري (٢١/٣٩)..
٥ - في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده"..
٦ - سنن الترمذي برقم (٣١٩٥) وتفسير الطبري (٢١/٤٠)..
٧ - في ت: "وفي إسناده".
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) ﴾.
هَذَا ذِكْرُ مَآلِ الْأَبْرَارِ مِنَ السُّعَدَاءِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وصَدّقوا الْمُرْسَلِينَ، وَعَمِلُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الْمُتَابِعَةِ (١) لِشَرِيعَةِ اللَّهِ ﴿لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ﴾ أَيْ: يَتَنَعَّمُونَ فِيهَا بِأَنْوَاعِ الْمَلَاذِّ وَالْمَسَارِّ، مِنَ الْمَآكِلِ وَالْمُشَارِبِ، وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ، وَالْمَرَاكِبِ وَالنِّسَاءِ، وَالنَّضْرَةِ وَالسَّمَاعِ الَّذِي لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِ أَحَدٍ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ مُقِيمُونَ دَائِمًا فِيهَا، لَا يَظْعَنُونَ، وَلَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا﴾ أَيْ: هَذَا كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ، وَاللَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ؛ لِأَنَّهُ الْكَرِيمُ الْمَنَّانُ، الْفَعَّالُ لِمَا يَشَاءُ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾، الَّذِي قَدْ قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، وَدَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ، ﴿الْحَكِيمُ﴾، فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، الَّذِي جَعَلَ الْقُرْآنَ هُدًى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ [فُصِّلَتْ: ٤٤]، ﴿وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٨٢].
﴿خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١١) ﴾.
يُبَيِّنُ سُبْحَانَهُ بِهَذَا قدرته العظيمة على خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ: ﴿خَلَقَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ﴾، قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَيْسَ لَهَا عَمَد مَرْئِيَّةٌ وَلَا غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعكْرِمة، وَمُجَاهِدٌ: لَهَا عُمُدٌ لَا تَرَوْنَهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَقْرِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ "الرَّعْدِ" بِمَا أَغْنَى (٢) عَنْ إِعَادَتِهِ.
﴿وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ﴾ يَعْنِي: الْجِبَالُ أَرْسَتِ الْأَرْضَ وَثَقَّلَتْهَا لِئَلَّا تَضْطَرِبُ بِأَهْلِهَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ؛ ولهذا قال: ﴿أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ﴾ أي: لئلا تميد بكم.
وقوله: ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ أَيْ: وَذَرَأَ فِيهَا مِنْ أَصْنَافِ الْحَيَوَانَاتِ مِمَّا لَا يَعْلَمُ عدد أشكالها
(٢) في ت: "بما يغني".
وَلَمَّا قَرَّرَ أَنَّهُ الْخَالِقُ نَبَّهْ عَلَى أَنَّهُ الرَّازِقُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ أَيْ: مِنْ كُلِّ زَوْجٍ مِنَ النَّبَاتِ كَرِيمٍ، أَيْ: حَسَنِ الْمَنْظَرِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: وَالنَّاسُ -أَيْضًا -مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، فَمَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَهُوَ كَرِيمٌ، ومَنْ دَخَلَ النَّارَ فَهُوَ لَئِيمٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿هَذَا خَلْقُ اللَّهِ﴾ أَيْ: هذا الذي ذكره تعالى من خلق السموات، وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا، صَادِرٌ عَنْ فِعْلِ اللَّهِ وَخَلْقِهِ وَتَقْدِيرِهِ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ أَيْ: مِمَّا تَعْبُدُونَ وَتَدْعُونَ مِنَ الْأَصْنَامِ وَالْأَنْدَادِ، ﴿بَلِ الظَّالِمُونَ﴾ يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ بِاللَّهِ الْعَابِدِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ ﴿فِي ضَلالٍ﴾ أَيْ: جَهْلٍ وَعَمًى، ﴿مُبِينٍ﴾ أَيْ: وَاضِحٌ ظَاهِرٌ لَا خَفَاءَ به.
وقوله :﴿ وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ﴾ أي : هذا كائن لا محالة ؛ لأنه من وعد الله، والله لا يخلف الميعاد ؛ لأنه الكريم المنان، الفعال لما يشاء، القادر على كل شيء، ﴿ وَهُوَ الْعَزِيزُ ﴾، الذي قد قهر كل شيء، ودان له كل شيء، ﴿ الْحَكِيمُ ﴾، في أقواله وأفعاله، الذي جعل القرآن هدى للمؤمنين ﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ [ فصلت : ٤٤ ]، ﴿ وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا ﴾ [ الإسراء : ٨٢ ].
وقال ابن عباس، وَعكْرِمة، ومجاهد : لها عمد لا ترونها. وقد تقدم تقرير هذه المسألة في أول سورة " الرعد " بما أغنى١ عن إعادته.
﴿ وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ ﴾ يعني : الجبال أرست الأرض وثقلتها لئلا تضطرب بأهلها على وجه الماء ؛ ولهذا قال :﴿ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ﴾ أي : لئلا تميد بكم.
وقوله :﴿ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ﴾ أي : وذرأ فيها من أصناف الحيوانات مما لا يعلم عدد أشكالها وألوانها إلا الذي خلقها.
ولما قرر أنه الخالق نبه على أنه الرازق بقوله تعالى ﴿ وَأَنزلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴾ أي : من كل زوج من النبات كريم، أي : حسن المنظر.
وقال الشعبي : والناس - أيضًا - من نبات الأرض، فَمَنْ دخل الجنة فهو كريم، ومَنْ دخل النار فهو لئيم.
اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي لُقْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَلْ كَانَ نَبِيًّا، أَوْ عَبْدًا صَالِحًا مِنْ غَيْرِ نُبُوَّةٍ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، الْأَكْثَرُونَ عَلَى الثَّانِي.
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَشْعَثِ، عَنْ عِكْرِمَة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا نَجَّارًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: مَا انْتَهَى إِلَيْكُمْ مِنْ شَأْنِ لُقْمَانَ؟ قَالَ: كَانَ قَصِيرًا أَفْطَسَ مِنَ النُّوبَةِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ مِنْ سُودَانِ مِصْرَ، ذَا مَشَافِرَ، أَعْطَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ وَمَنَعَهُ النُّبُوَّةَ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلة قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ يَسْأَلُهُ، فَقَالَ لَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: لَا تَحْزَنْ مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ أَسْوَدَ، فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَخْيَرِ النَّاسِ ثَلَاثَةٌ مِنَ السُّودَانِ: بِلَالٌ، ومهْجَع مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَلُقْمَانُ الْحَكِيمُ، كَانَ أَسْوَدَ نُوبِيًّا ذَا مَشَافِرَ (١).
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَبِي الْأَشْهَبِ (٢)، عَنْ خَالِدٍ الرَّبَعِيّ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا حَبَشِيًّا نَجَّارًا، فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: اذْبَحْ لَنَا هَذِهِ الشَّاةِ. فَذَبَحَهَا، فَقَالَ: أخْرجْ أَطْيَبَ مُضغتين فِيهَا. فَأَخْرَجَ اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: اذْبَحْ لَنَا هَذِهِ الشَّاةَ. فَذَبَحَهَا، فَقَالَ: أَخْرِجْ أَخْبَثَ مُضْغَتَيْنِ فِيهَا. فَأَخْرَجَ اللِّسَانَ وَالْقَلْبَ، فَقَالَ لَهُ مَوْلَاهُ: أَمَرْتُكَ أَنْ تخرج أطيب
(٢) في أ: "الأشعث".
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُجَاهِدٍ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا صَالِحًا، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ لُقْمَانُ عَبْدًا أَسْوَدَ عَظِيمَ الشَّفَتَيْنِ، مُشَقَّقَ الْقَدَمَيْنِ.
وَقَالَ حَكَّام بْنُ سَلْم، عَنْ سَعِيدِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنْ مُجَاهِدٍ: كَانَ لُقْمَانُ الْحَكِيمُ عَبْدًا حَبَشِيًّا غَلِيظَ الشَّفَتَيْنِ، مُصَفح الْقَدَمَيْنِ، قَاضِيًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَذَكَرَ غَيْرُهُ: أَنَّهُ كَانَ قَاضِيًا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ (٢) دَاوُدَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيد، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ قَيْسٍ قَالَ: كَانَ لُقْمَانُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَبْدًا أَسْوَدَ غَلِيظَ الشَّفَتَيْنِ، مُصَفَّح الْقَدَمَيْنِ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ وَهُوَ فِي مَجْلِسٍ أُنَاسٍ يُحَدِّثُهُمْ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى مَعِي الْغَنَمَ فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: فَمَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى؟ قَالَ: صِدْقُ الْحَدِيثِ، وَالصَّمْتُ عَمَّا لَا يَعْنِينِي (٣).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ، حَدَّثَنَا (٤) عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ (٥) عَنْ جَابِرٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ رَفَعَ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ بِحِكْمَتِهِ، فَرَآهُ رَجُلٌ كَانَ يَعْرِفُهُ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: أَلَسْتَ عَبْدَ بَنِي فُلَانٍ الَّذِي كُنْتَ تَرْعَى بِالْأَمْسِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى؟ قَالَ: قَدَرُ اللَّهِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ، وَصِدْقُ الْحَدِيثِ، وَتَرْكِي مَا لَا يَعْنِينِي.
فَهَذِهِ الْآثَارُ مِنْهَا مَا هُوَ مُصرَّح فِيهِ بِنَفْيِ كَوْنِهِ نَبِيًّا، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُشْعِرٌ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ عَبْدًا قَدْ مَسَّه الرِّقُّ يُنَافِي كَوْنَهُ نَبِيًّا؛ لِأَنَّ الرُّسُلَ كَانَتْ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا؛ وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَإِنَّمَا يُنْقَلُ كَوْنُهُ نَبِيًّا عَنْ عِكْرِمَةَ -إِنْ صَحَّ السَّنَدُ إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ حَدِيثِ وَكِيع (٦) عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ فَقَالَ: كَانَ لُقْمَانُ نَبِيًّا. وَجَابِرٌ هَذَا هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الْجُعْفِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَاللَّهُ (٧) أَعْلَمُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَيَّاشٍ القتْبَاني، عَنْ عُمَر مَوْلَى غُفرَة قَالَ: وَقَفَ رَجُلٌ عَلَى لُقْمَانَ الْحَكِيمَ فَقَالَ: أَنْتَ لُقْمَانُ، أَنْتَ عَبْدُ بَنِي الْحِسْحَاسِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَنْتَ رَاعِي الْغَنَمِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَنْتَ الْأَسْوَدُ؟ قَالَ: أَمَا سَوَادِي فَظَاهِرٌ، فَمَا الَّذِي يُعْجِبُكَ مِنْ أَمْرِي؟ قَالَ: وَطءْ النَّاسِ بسَاطك، وغَشْيُهم بَابَكَ، وَرِضَاهُمْ بِقَوْلِكَ. قَالَ: يَا بْنَ أَخِي (٨) إِنْ صَغَيتَ (٩) إِلَى مَا أَقُولُ لَكَ كُنْتَ كَذَلِكَ. قَالَ لُقْمَانُ: غَضِّي بَصَرِي، وَكَفِّي لِسَانِي، وَعِفَّةُ طُعْمَتِي، وَحِفْظِي فَرَجِي، وَقَوْلِي بِصِدْقٍ، وَوَفَائِي بِعَهْدِي، وَتَكْرِمَتِي ضَيْفِي، وَحِفْظِي جَارِي، وَتَرْكِي مَا لَا يَعْنِينِي، فَذَاكَ الَّذِي صَيَّرَنِي إِلَى مَا (١٠) تَرَى.
(٢) في أ: "زمان".
(٣) تفسير الطبري (٢١/٤٤).
(٤) في أ: "بن".
(٥) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".
(٦) في ت: "عن وكيع".
(٧) في ت: "فالله".
(٨) في ف، أ: "أبي".
(٩) في ف، أ: "إن صنعت".
(١٠) في ت، ف، أ: "كما".
وَقَدْ وَرَدَ أَثَرٌ غَرِيبٌ عَنْ قَتَادَةَ، رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، فَقَالَ:
حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدٍ الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ بَشِيرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: خَيّر اللَّهُ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، فَاخْتَارَ الْحِكْمَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ. قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ نَائِمٌ فَذرَّ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ -أَوْ: رَشَّ عَلَيْهِ الْحِكْمَةَ -قَالَ: فَأَصْبَحَ يَنْطِقُ بِهَا.
قَالَ سَعِيدٌ: فَسَمِعْتُ عَنْ قَتَادَةَ يَقُولُ: قِيلَ لِلُقْمَانَ: كَيْفَ اخْتَرْتَ الْحِكْمَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ وَقَدْ خَيَّرك رَبُّكَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ إليَّ بِالنُّبُوَّةِ عَزْمَة لَرَجَوْتُ فِيهِ الْفَوْزَ مِنْهُ، وَلَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ أَقُومَ بِهَا، وَلَكِنَّهُ خَيّرني فَخِفْتُ أَنْ أَضْعُفَ عَنِ النُّبُوَّةِ، فَكَانَتِ الْحِكْمَةُ أَحَبَّ إليَّ.
فَهَذَا مِنْ رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ، وَفِيهِ ضَعْفٌ قَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ بِسَبَبِهِ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالَّذِي رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبة، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ أَيِ: الْفِقْهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَمْ يَكُنْ نَبِيًّا، وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ﴾ أَيِ: الْفَهْمَ وَالْعِلْمَ وَالتَّعْبِيرَ، ﴿أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ﴾ أَيْ: أَمَرْنَاهُ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى مَا أَتَاهُ اللَّهُ وَمَنَحَهُ وَوَهَبَهُ مِنَ الْفَضْلِ، الَّذِي خصَّه (٣) بِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ مِنْ أَبْنَاءِ جِنْسِهِ وَأَهْلِ زَمَانِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ أَيْ: إِنَّمَا يَعُودُ نَفْعُ ذَلِكَ وَثَوَابُهُ عَلَى الشَّاكِرِينَ (٤) لِقَوْلِهِ (٥) تَعَالَى: ﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلأنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ [الرُّومِ: ٤٤].
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ أَيْ: غَنِيٌّ عَنِ الْعِبَادِ، لَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ، وَلَوْ كَفَرَ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا، فَإِنَّهُ الْغَنِيُّ عَمَّنْ سِوَاهُ؛ فَلَا إِلَهَ إِلَّا الله، ولا نعبد إلا إياه.
(٢) في ت: "ويعتب".
(٣) في أ: "خصصه".
(٤) في ت، ف: "الشاكر".
(٥) في ف: "كقوله".
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ وَصِيَّةِ لُقْمَانَ لِوَلَدِهِ -وَهُوَ: لُقْمَانُ بْنُ عَنْقَاءَ بْنِ سَدُونَ. وَاسْمُ ابْنِهِ: ثَارَانُ فِي قَوْلٍ حَكَاهُ السُّهَيْلِيُّ. وَقَدْ ذَكَرَهُ [اللَّهُ] (١) تَعَالَى بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ، فَإِنَّهُ آتَاهُ الْحِكْمَةَ، وَهُوَ يُوصِي وَلَدَهُ الَّذِي هُوَ أُشْفِقُ النَّاسِ عَلَيْهِ وَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ، فَهُوَ حَقِيقٌ أَنْ يَمْنَحَهُ أَفْضَلَ مَا يُعْرَفُ؛ وَلِهَذَا أَوْصَاهُ أَوَّلًا بِأَنْ يَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ مُحَذِّرًا لَهُ: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ أَيْ: هُوَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ (٢)، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٨٢]، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وَقَالُوا: أَيُّنَا لَمْ يَلْبس إِيمَانَهُ بِظُلْمٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنه لَيْسَ بِذَاكَ، أَلَا (٣) تَسْمَعَ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، بِهِ (٤).
ثُمَّ قَرَنَ بِوَصِيَّتِهِ إِيَّاهُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ الْبَرَّ بِالْوَالِدَيْنِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٢٣]. وَكَثِيرًا مَا يَقْرِنُ تَعَالَى بَيْنَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ.
وَقَالَ هَاهُنَا ﴿وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ﴾. قَالَ مُجَاهِدٌ: مَشَقَّةُ وَهْن الْوَلَدِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: جُهْدًا عَلَى جُهْدٍ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: ضَعْفًا عَلَى ضَعْفٍ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ أَيْ: تَرْبِيَتُهُ وَإِرْضَاعُهُ بَعْدَ وَضْعِهِ فِي عَامَيْنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٣].
وَمِنْ هَاهُنَا اسْتَنْبَطَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا﴾ [الْأَحْقَافِ: ١٥].
وَإِنَّمَا يَذْكُرُ تَعَالَى تربيةَ الْوَالِدَةِ وَتَعَبَهَا وَمَشَقَّتَهَا فِي سَهَرِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا، ليُذكّر الْوَلَدَ بِإِحْسَانِهَا الْمُتَقَدِّمِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٢٤] ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ أَيْ: فَإِنِّي سَأَجْزِيكَ (٥) عَلَى ذَلِكَ أَوْفَرَ الْجَزَاءِ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَة، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمَحْمُودُ بْنُ غَيْلان قَالَا حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، أَخْبَرْنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ (٦) عَنْ سَعِيدِ بن وَهْبٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَكَانَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إِنِّي [رَسُولُ] (٧) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تُطِيعُونِي لَا آلُوكُمْ خَيْرًا، وأن المصير إلى
(٢) في ت: "روى البخاري بسنده".
(٣) في أ: "ألم".
(٤) صحيح البخاري برقم (٤٧٧٦) وصحيح مسلم برقم (١٢٤).
(٥) في أ: "سأجازيك".
(٦) في ت: "روى ابن أبي حاتم بسنده".
(٧) زيادة من ت، أ.
وقال هاهنا ﴿ وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ ﴾. قال مجاهد : مشقة وَهْن الولد.
وقال قتادة : جهدًا على جهد.
وقال عطاء الخراساني : ضعفا على ضعف.
وقوله :﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ أي : تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين، كما قال تعالى :﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ].
ومن هاهنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ؛ لأنه قال تعالى في الآية الأخرى :﴿ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ﴾ [ الأحقاف : ١٥ ].
وإنما يذكر تعالى تربيةَ الوالدة وتعبها ومشقتها في سهرها ليلا ونهارًا، ليُذكّر الولد بإحسانها المتقدم إليه، كما قال تعالى :﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٢٤ ] ؛ ولهذا قال :﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ أي : فإني سأجزيك١ على ذلك أوفر الجزاء.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا عبد الله بن أبي شيبة، ومحمود بن غَيْلان قالا حدثنا عبيد الله، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق٢ عن سعيد بن وهب قال : قدم علينا معاذ بن جبل، وكان بعثه النبي صلى الله عليه وسلم، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إني [ رسول ] ٣ رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم : أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تطيعوني لا آلوكم خيرًا، وأن المصير إلى الله، وإلى الجنة أو إلى النار، إقامة فلا ظعن، وخلود فلا موت.
٢ - في ت: "روى ابن أبي حاتم بسنده"..
٣ - زيادة من ت، أ..
قال الطبراني في كتاب العشرة : حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أحمد بن أيوب بن راشد، حدثنا مسلمة بن علقمة، عن داود بن أبي هند [ عن أبي عثمان النهدي ]٢ : أن سعد بن مالك قال : أنزلت فيَّ هذه الآية :﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا ﴾ الآية، وقال : كنت رجلا برًا بأمي، فلما أسلمت قالت : يا سعد، ما هذا الذي أراك قد أحدثت ؟ لَتَدَعَنّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فَتُعَيَّر بي، فيقال :" يا قاتل أمه ". فقلت : لا تفعلي يا أمَه، فإني لا أدع ديني هذا لشيء. فمكثتْ يومًا وليلة لم تأكل فأصبحت قد جهدت، فمكثتْ يومًا [ آخر ]٣ وليلة أخرى لا تأكل، فأصبحتْ قد اشتد جهدها، فلما رأيت ذلك قلت : يا أمه، تعلمين والله لو كانت لكِ مائة نفس فخَرجت نَفْسا نَفْسًا، ما تركت ديني هذا لشيء، فإن شئت فكلي، وإن شئت لا تأكلي. فأكلتْ٤.
٢ - زيادة من أسد الغابة، والدر المنثور..
٣ - زيادة من ت، ف..
٤ - وذكره ابن الأثير في أسد الغابة (٢/٢١٦) عن داود بن أبي هند..
وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا﴾ أَيْ: إِنْ حَرَصَا عَلَيْكَ كُلَّ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ تُتَابِعَهُمَا (١) عَلَى دِينِهِمَا، فَلَا تَقْبَلْ مِنْهُمَا ذَلِكَ، وَلَا يمنعنَّك ذَلِكَ مِنْ أَنْ تُصَاحِبَهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا، أَيْ: مُحْسِنًا إِلَيْهِمَا، ﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ يَعْنِي: الْمُؤْمِنِينَ، ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ فِي كِتَابِ الْعِشْرَةِ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ رَاشِدٍ، حَدَّثَنَا مَسْلَمَةُ بْنُ عَلْقَمَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ [عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ] (٢) : أَنَّ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: أُنْزِلَتْ فيَّ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا﴾ الْآيَةَ، وَقَالَ: كُنْتُ رَجُلًا بَرًّا بِأُمِّي، فَلَمَّا أَسْلَمْتُ قَالَتْ: يَا سَعْدُ، مَا هَذَا الَّذِي أَرَاكَ قَدْ أَحْدَثْتَ؟ لَتَدَعَنّ دِينَكَ هَذَا أَوْ لَا آكُلُ وَلَا أَشْرَبُ حَتَّى أَمُوتَ، فَتُعَيَّر بِي، فَيُقَالُ: "يَا قَاتِلَ أُمِّهِ". فَقُلْتُ: لَا تَفْعَلِي يَا أمَه، فَإِنِّي لَا أَدْعُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ. فمكثتْ يَوْمًا وَلَيْلَةً لَمْ تَأْكُلْ فَأَصْبَحَتْ قَدْ جَهِدَتْ، فمكثتْ يَوْمًا [آخَرَ] (٣) وَلَيْلَةً أُخْرَى لَا تَأْكُلْ، فأصبحتْ قَدِ اشْتَدَّ جُهْدُهَا، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُلْتُ: يَا أُمَّهْ، تَعْلَمِينَ وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ لكِ مِائَةُ نَفْسٍ فخَرجت نَفْسا نَفْسًا، مَا تَرَكْتُ دِينِي هَذَا لِشَيْءٍ، فَإِنْ شِئْتِ فَكُلِي، وإن شئت لا تأكلي. فأكلتْ (٤).
﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (١٦) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (١٨) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩) ﴾.
هَذِهِ وَصَايَا نَافِعَةٌ قَدْ حَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ؛ لِيَمْتَثِلَهَا النَّاسُ وَيَقْتَدُوا بِهَا، فَقَالَ: ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ﴾ أَيْ: إِنَّ الْمَظْلَمَةَ أَوِ الْخَطِيئَةَ لَوْ كَانَتْ مِثْقَالَ حَبَّةٍ [مِنْ] (٥) خَرْدَلٍ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنَّهَا﴾ ضَمِيرَ الشَّأْنِ وَالْقِصَّةِ. وَجَوَّزَ عَلَى هَذَا رَفْعَ ﴿مِثْقَالَ﴾ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى.
وَقَوْلُهُ: ﴿يَأْتِ بِهَا اللَّهُ﴾ أَيْ: أَحْضَرَهَا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ، وَجَازَى عَلَيْهَا إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ: ٤٧]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزَّلْزَلَةِ: ٧، ٨]
(٢) زيادة من أسد الغابة، والدر المنثور.
(٣) زيادة من ت، ف.
(٤) وذكره ابن الأثير في أسد الغابة (٢/٢١٦) عن داود بن أبي هند.
(٥) زيادة من ت، أ.
وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ﴾ أَنَّهَا صَخْرَةٌ تَحْتَ الْأَرْضِينَ (٢) السَّبْعِ، ذَكَرَهُ السُّدِّي بِإِسْنَادِهِ ذَلِكَ الْمَطْرُوقِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ إِنْ صَحَّ ذَلِكَ، وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، والمِنهال بْنِ عَمْرٍو، وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ، كَأَنَّهُ مُتَلَقًّى مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ الَّتِي لَا تُصَدَّقُ، وَلَا تَكْذَّبُ، وَالظَّاهِرُ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -أَنَّ الْمُرَادَ: أَنَّ هَذِهِ الْحَبَّةَ فِي حَقَارَتِهَا لَوْ كَانَتْ دَاخِلَ صَخْرَةٍ، فَإِنَّ اللَّهَ سَيُبْدِيهَا وَيُظْهِرُهَا بِلَطِيفِ عِلْمِهِ، كَمَا قَالَ (٣) الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، حَدَّثَنَا دَراج، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاء، لَيْسَ لَهَا بَابٌ وَلَا كوَّة، لَخَرَجَ عَمَلُهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ" (٤).
ثُمَّ قَالَ: ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ﴾ أَيْ: بِحُدُودِهَا وَفُرُوضِهَا وَأَوْقَاتِهَا، ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ أَيْ: بِحَسَبِ طَاقَتِكِ وَجُهْدِكَ، ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾، عَلِمَ أَنَّ الْآمِرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِيَ عَنِ الْمُنْكَرِ، لَا بُدَّ أَنْ يَنَالَهُ مِنَ النَّاسِ أَذًى، فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ﴾ أَيْ: إِنَّ الصَّبْرَ عَلَى أَذَى النَّاسِ لَمِنْ عَزَمِ الْأُمُورِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ يَقُولُ: لَا تُعرِضْ بِوَجْهِكَ عَنِ النَّاسِ إِذَا كَلَّمْتَهُمْ أَوْ كَلَّمُوكَ، احْتِقَارًا مِنْكَ لَهُمْ، وَاسْتِكْبَارًا عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ ألِنْ جَانِبَكَ، وَابْسُطْ وَجْهَكَ إِلَيْهِمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِط، وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الْإِزَارِ فَإِنَّهَا مِنَ المِخيلَة، وَالْمَخِيلَةُ لَا يُحِبُّهَا اللَّهَ".
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ يَقُولُ: لَا تَتَكَبَّرُ فتحقِرَ (٥) عبادَ اللَّهِ، وَتُعْرِضَ عَنْهُمْ بِوَجْهِكَ إِذَا كَلَّمُوكَ. وَكَذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ وَعِكْرِمَةُ عَنْهُ.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ﴿وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ : لَا تكَلَّم وَأَنْتَ مُعْرِضٌ. وَكَذَا رُوي عَنْ مُجَاهِدٍ، وعِكْرِمة، وَيَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، وَأَبِي الْجَوْزَاءِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، وَالضَّحَّاكِ، وَابْنِ يَزِيدَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخعِي: يَعْنِي بذلك: التشديق في الكلام.
(٢) في ف، أ: "الأرض".
(٣) في ت: "كما روى".
(٤) المسند (٣/٢٨) وحسنه الهيثمي في المجمع (١٠/٢٢٥) وفيه ابن لهيعة عن دراج وهما ضعيفان.
(٥) في ت، أ: "فتحتقر".
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَأَصْلُ الصَّعَر: دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ فِي أَعْنَاقِهَا أَوْ رُؤُوسِهَا، حَتَّى تُلفَتَ (١) أعناقُها عَنْ رُؤُوسِهَا، فَشُبِّهَ بِهِ الرَّجُلُ الْمُتَكَبِّرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ حُني التَّغْلبي:
وَكُنَّا إذَا الجَبَّارُ صَعّر خَدّه | أقَمْنَا لَه مِنْ مَيْلِه فَتَقَوّمَا (٢) |
وَكُنَّا قَديمًا لَا نقرُّ ظُلامَة | إِذَا مَا ثَنوا صُعْر الرُّؤُوسِ نُقِيمها (٣) |
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي لَيْلَى، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى (٥) عَنْ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاس قَالَ: ذُكِرَ الْكِبْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَدَّدَ فِيهِ، فَقَالَ: "إِنِ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ". فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لِأَغْسِلُ ثِيَابِي فَيُعْجِبُنِي بَيَاضُهَا، وَيُعْجِبُنِي شِراك نَعْلِي، وعِلاقة سَوْطي، فَقَالَ: "لَيْسَ ذَلِكَ الْكِبْرُ، إِنَّمَا الْكِبْرُ أَنْ تَسْفه الْحَقَّ وتَغْمِط (٦) النَّاسَ" (٧).
وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى بِمِثْلِهِ، وَفِيهِ قِصَّةٌ طَوِيلَةٌ، وَمَقْتَلُ ثَابِتٍ وَوَصِيَّتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ (٨).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ أَيِ: امْشِ مَشْيًا مُقْتَصِدًا لَيْسَ بِالْبَطِيءِ الْمُتَثَبِّطِ، وَلَا بِالسَّرِيعِ الْمُفْرِطِ، بَلْ عَدْلًا وَسَطًا بَيْنَ بَيْنَ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾ أَيْ: لَا تُبَالِغْ فِي الْكَلَامِ، وَلَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ، أَيْ: غَايَةُ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ أَنَّهُ يُشَبه بِالْحَمِيرِ فِي عُلُوِّهِ وَرَفْعِهِ، وَمَعَ هَذَا هُوَ بَغِيضٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَهَذَا التَّشْبِيهُ فِي هَذَا بِالْحَمِيرِ يَقْتَضِي تَحْرِيمَهُ وَذَمَّهُ غَايَةَ الذَّمِّ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ، الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ".
وَقَالَ النَّسَائِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، (٩) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أَنَّهُ] (١٠) قَالَ: "إِذَا سمعتم صياح الديكة
(٢) البيت في مجاز القرآن لأبي عبيدة (٢/١٢٧).
(٣) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (١/٢٦٩).
(٤) في أ: "وقد قال الله تعالى".
(٥) في ت: "وروى الطبراني بإسناده".
(٦) في ت، ف: "تغمص".
(٧) المعجم الكبير (٢/٦٩) وفيه انقطاع بين ابن أبي ليلى وثابت.
(٨) المعجم الكبير (٢/٧٠) من طريق عبد الرحمن بن يزيد، عن عطاء، عن بنت ثابت بقصة أبيها، وقال الهيثمي في المجمع (٩/٣٢٢) :"وبنت ثابت بن قيس لم أعرفها، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(٩) في ت: "وروى النسائي عند تفسير هذه الآية بإسناده".
(١٠) زيادة من أ.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ بَقِيَّةُ الْجَمَاعَةُ سِوَى ابْنِ مَاجَهْ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ بِهِ، (٢) وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ: "بِاللَّيْلِ"، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَهَذِهِ وَصَايَا نَافِعَةٌ جِدًّا، وَهِيَ مِنْ قَصص الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَنْ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَوَاعِظِ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ، فَلْنَذْكُرْ مِنْهَا أُنْمُوذَجًا وَدُسْتُورًا إِلَى ذَلِكَ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، أَخْبَرَنِي نَهْشَل بْنُ مُجَمِّع الضَّبِّيُّ عَنْ قَزْعَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (٣) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (٤) قَالَ: أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا اسْتُودِعَ شَيْئًا حَفِظَهُ" (٥).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ مُوسَى بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْقَاسِمِ [بْنِ مُخَيْمِرة يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ] (٦) أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: " قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: يَا بُنَيَّ، إِيَّاكَ وَالتَّقَنُّعَ فَإِنَّهُ مَخْوَفَةٌ بِاللَّيْلِ، مَذَمَّةٌ بِالنَّهَارِ" (٧).
وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ ضَمْرَة، حَدَّثَنَا السَّريّ بْنُ يَحْيَى (٨) قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِنَّ الْحِكْمَةَ أَجْلَسَتِ الْمَسَاكِينَ مَجَالِسَ الْمُلُوكِ.
وَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْمَسْعُودِيِّ (٩)، عَنْ عَوْن بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِذَا أَتَيْتَ نَادِيَ قَوْمٍ فَارْمِهِمْ بِسَهْمِ الْإِسْلَامِ -يَعْنِي السَّلَامَ -ثُمَّ اجْلِسْ فِي نَاحِيَتِهِمْ، فَلَا تَنْطِقْ حَتَّى تَرَاهُمْ قَدْ نَطَقُوا، فَإِنْ أَفَاضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ فَأجِلْ سَهْمَكَ مَعَهُمْ، وَإِنْ أَفَاضُوا فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَتَحَوَّلْ عَنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ.
وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ دِينَارٍ، حَدَّثَنَا ضَمْرَةُ (١٠)، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: وَضَعَ لُقْمَانُ جِرَابًا مِنْ خَرْدَلٍ إِلَى جَانِبِهِ، وَجَعَلَ يَعِظُ ابْنَهُ وَعْظَةً وَيَخْرُجُ خَرْدَلَةً، حَتَّى نَفَذَ الْخَرْدَلُ، فَقَالَ: يَا بُنَيَّ، لَقَدْ وَعَظْتُكَ مَوْعِظَةً لَوْ وُعِظَها جَبَلٌ لَتَفَطَّرَ. قَالَ: فَتَفَطَّرَ ابْنُهُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي المِصِّيصي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحَرَّانِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الطَّرَائِفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبْيَنُ (١١) بْنُ سُفْيَانَ الْمَقْدِسِيُّ، عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ سَلَامٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ (١٢)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "اتخذوا
(٢) النسائي في السنن الكبرى (١١٣٩١) وصحيح البخاري برقم (٣٣٠١) وصحيح مسلم برقم (٢٧٧٩) وسنن أبي داود برقم (٥١٠٢) وسنن الترمذي برقم (٣٤٥٩).
(٣) في ت: "فروى الإمام أحمد بإسناده".
(٤) في ت، ف: "عنهما".
(٥) المسند (٢/٨٧).
(٦) زيادة من أ، والمستدرك.
(٧) ورواه الحاكم في المستدرك (٢/٤١١) وقال: "هذا متن شاهده إسناد صحيح" وأقره الذهبي.
(٨) في ت: "وروى أيضا بإسناده عن السري بن يحيى".
(٩) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن القاسم بن مخيمرة".
(١٠) في ت: "وروى أيضا".
(١١) في ت، أ، ف، هـ: "أنس" والتصويب من المعجم الكبير وكتب الرجال.
(١٢) في ت: "وروى الطبراني بسنده".
قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ: أَرَادَ الْحَبَشَ.
فَصْلٌ فِي الْخُمُولِ وَالتَّوَاضُعِ: وَذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِوَصِيَّةِ لُقْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِابْنِهِ، وَقَدْ جَمَعَ فِي ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا كِتَابًا مُفْرَدًا [وَ] (٢) نَحْنُ، نَذْكُرُ مِنْهُ مَقَاصِدَهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْمَدَنِيُّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "رُبَّ أشعثَ ذِي طِمْرَين يُصْفَح عَنْ أَبْوَابِ النَّاسِ، إِذَا (٣) أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ" (٤).
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ وَعَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَهُ، وَزَادَ، مِنْهُمُ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ (٥).
[وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "طُوبَى لِلْأَتْقِيَاءِ الْأَثْرِيَاءِ الَّذِينَ إِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، وَإِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، أُولَئِكَ مَصَابِيحُ مُجَرَّدُونَ مَنْ كُلِّ فِتْنَةٍ غَبْرَاءَ مُشِينَةٍ"] (٦). وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ سَهْلٍ التَّمِيمِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عَيَّاشِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ يَبْكِي عِنْدَ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: مَا يُبْكِيكَ يَا مُعَاذُ؟ قَالَ: حَدِيثٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "إِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ الْأَثْرِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِذَا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَنْجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ" (٧).
حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ، حَدَّثَنَا عَثَّام بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَطَاءٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "رُبَّ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤبَه لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، لَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ لَأَعْطَاهُ الْجَنَّةَ، وَلَمْ يُعْطِهُ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا" (٨).
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَوْ أَتَى بَابَ أَحَدِكُمْ يَسْأَلُهُ دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا أو
(٢) زيادة من ت، ف.
(٣) في ت، ف: "لو".
(٤) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٥٠٥٤) "مجمع البحرين" قال: "حدثنا أحمد بن يحيى الحلواني، حدثنا إبراهيم بن المنذر، فذكر مثله - ثم قال - لم يروه عن حفص إلا أسامة"، وله شاهد في صحيح مسلم برقم (٢٦٢٢) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. تنبيه: سقط هذا الحديث من مخطوطة التواضع والخمول لابن أبي الدنيا، وكذا الرواية بعده.
(٥) ورواه الترمذي في السنن برقم (٣٨٥٤) من طريق سيار عن جعفر بن سليمان به، وقال: "هذا حديث حسن صحيح من هذا الوجه".
(٦) زيادة من ت، أ.
(٧) التواضع والخمول لابن أبي الدنيا برقم (٨).
(٨) سقط الحديث من مخطوطة التواضع والخمول، ورواه الديلمي في مسند الفردوس برقم (٣٢٤٦) من طريق ابن أبي الدنيا.
وَهَذَا مُرْسَلٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ أَيْضًا: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عَوْف قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ مِنْ مُلُوكِ الْجَنَّةِ مَنْ هُوَ أَشْعَثُ أَغْبَرُ ذُو طِمْرَيْنِ لَا يُؤبَه لَهُ، الَّذِينَ إِذَا اسْتَأْذَنُوا عَلَى الْأُمَرَاءِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ، وَإِذَا خَطَبُوا النِّسَاءَ لَمْ يُنْكَحُوا، وَإِذَا قَالُوا لَمْ يُنصَت لَهُمْ، حَوَائِجُ أَحَدِهِمْ تَتَجَلْجَلُ فِي صَدْرِهِ، لَوْ قُسِّمَ نُورُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ النَّاسِ لَوَسِعَهُمْ" (٣). قَالَ: وَأَنْشَدَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، عَنِ ابْنِ عَائِشَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ:
أَلَا رُبّ ذِي طمْرَين فِي مَنزل غَدًا... زَرَابِيه مَبْثُوثةً ونَمَارقُه...
قَد اطَّرَدَتْ أَنْهَارُهُ حَْوَل قَصْره | وَأشرَقَ والتفَّتْ عَلَيه حَدَائقُه (٤) |
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: أَحَبُّ عِبَادِ اللَّهِ (٦) إِلَى اللَّهِ الْغُرَبَاءُ. قِيلَ: ومَنْ الْغُرَبَاءُ؟ قَالَ: الْفَرَّارُونَ بِدِينِهِمْ، يُجْمَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ (٧).
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: بَلَغَنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى (٨) يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَمْ أُنْعِمْ عَلَيْكَ؟ أَلَمْ أُعْطِكَ؟ أَلَمْ أَسْتُرْكَ؟ أَلَمْ.. ؟ أَلَمْ.. ؟ أَلَمْ أَخْمِلْ ذِكْرَكَ؟ ثُمَّ قَالَ الْفُضَيْلُ: إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا تُعرَف فَافْعَلْ، وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يُثنى عَلَيْكَ، وَمَا عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ مَذْمُومًا عِنْدَ النَّاسِ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ.
وَكَانَ ابْنُ مُحَيْرِيز يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ ذِكْرًا خَامِلًا.
وَكَانَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي عِنْدَكَ مَنْ أَرْفَعِ خَلْقِكَ، وَاجْعَلْنِي فِي نَفْسِي مَنْ أَوْضَعِ خَلْقِكَ، وَعِنْدَ النَّاسِ مِنْ أَوْسَطِ خَلْقِكَ.
ثُمَّ قَالَ (٩) : بَابُ مَا جَاءَ فِي الشُّهْرَةِ
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى الْمِصْرِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَارِثِ وَابْنِ لَهِيعة، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سِنَان بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "حَسْبُ امرئ من
(٢) التواضع والخمول لابن أبي الدنيا برقم (١)، وهو مرسل.
(٣) ورواه ابن أبي الدنيا في الأولياء برقم (٩) عن الحسن مرسلا بنحوه، وقد سقط هذا الحديث من مخطوطة التواضع والخمول.
(٤) التواضع والخمول لابن أبي الدنيا برقم (٥).
(٥) التواضع والخمول برقم (١٣) وقد قال ابن حبان: "إذا روى عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ زَحْرٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ يزيد عن القاسم فهو مما عملته أيديهم".
(٦) في أ: "أحب العباد".
(٧) التواضع والخمول برقم (١٦).
(٨) في ت، أ: "عز وجل".
(٩) أي ابن أبي الدنيا.
وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ، عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْك، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الأخْنَسِيّ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَرْفُوعًا، مِثْلُهُ (٢).
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ مُرْسَلًا نَحْوُهُ (٣)، فَقِيلَ لِلْحَسَنِ: فَإِنَّهُ يُشَارُ إِلَيْكَ بِالْأَصَابِعِ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا الْمُرَادُ مَنْ يُشَارُ إِلَيْهِ فِي دِينِهِ بِالْبِدْعَةِ وَفِي دُنْيَاهُ بِالْفِسْقِ (٤).
وَعَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: لَا تَبْدَأْ لِأَنْ تَشْتَهِرَ، وَلَا تَرْفَعْ شَخْصَكَ لِتُذْكَرَ، وَتَعَلَّمْ وَاكْتُمْ،
وَاصْمُتْ تَسْلَمْ، تَسُر الْأَبْرَارَ، وَتَغِيظُ الْفُجَّارَ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ، رَحِمَهُ اللَّهُ: مَا صَدَقَ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ الشُّهْرَةَ.
وَقَالَ أَيُّوبُ: مَا صَدَقَ اللَّهَ عَبْدُهُ إِلَّا سَرَّهُ أَلَّا يُشْعَرَ بِمَكَانِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ: مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ أَحَبَّ أَلَّا يَعْرِفَهُ النَّاسُ.
وَقَالَ سِمَاك بْنُ سَلَمَةَ: إِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الْأَخِلَّاءِ.
وَقَالَ أبَان بْنُ عُثْمَانَ: إِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يَسْلَمَ لَكَ دِينُكَ فَأَقِلَّ مِنَ الْمَعَارِفِ؛ كَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ إِذَا جَلَسَ إِلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ثَلَاثَةٍ نَهَضَ وَتَرَكَهُمْ.
وَقَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الجَعْد، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَوْف، عَنْ أَبِي رَجَاء قَالَ: رَأَى طَلْحَةُ قَوْمًا يَمْشُونَ مَعَهُ، فَقَالَ: ذُبَابُ طَمَعٍ، وَفَرَاشُ النَّارِ.
وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ (٥)، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ حَنْظَلَةَ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ حَوْلَ أَبِي إِذْ عَلَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: إِنَّهَا مَذَلَّةٌ لِلتَّابِعِ، وَفِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ.
وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ، عَنِ الْحَسَنِ: خَرَجَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَاتَّبَعَهُ أُنَاسٌ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أغلِقُ عَلَيْهِ بَابِي، مَا اتَّبَعَنِي مِنْكُمْ رَجُلَانِ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ: كُنَّا إِذَا مَرَرْنَا عَلَى الْمَجْلِسِ، وَمَعَنَا أَيُّوبُ، فَسَلَّمَ، رَدُّوا رَدًّا شَدِيدًا، فَكَانَ ذَلِكَ يَغُمه.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر: كَانَ أَيُّوبُ يُطِيلُ قَمِيصَهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: إِنِ الشُّهْرَةَ فِيمَا مَضَى كَانَتْ فِي طُولِ الْقَمِيصِ، وَالْيَوْمَ فِي تَشْمِيرِهِ. وَاصْطَنَعَ مَرَّةً نَعْلَيْنِ عَلَى حَذْوِ نَعْلَيِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَبِسَهُمَا أَيَّامًا ثُمَّ خَلَعَهُمَا، وَقَالَ: لَمْ أَرَ النَّاسَ يَلْبَسُونَهُمَا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعي: لَا تَلْبَسْ مِنَ الثِّيَابِ مَا يُشهر فِي الْفُقَهَاءِ، وَلَا مَا يَزْدَرِيكَ السُّفَهَاءُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: كَانُوا يَكْرَهُونَ مِنَ الثِّيَابِ الْجِيَادَ، الَّتِي يُشتَهر بِهَا، وَيَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ. وَالثِّيَابَ الرديئة التي يحتقر فيها، ويستذل دينه.
(٢) التواضع والخمول برقم (٣١) وقال العراقي: "ليس معروفا من حديث جابر إنما هو معروف من حديث أبي هريرة".
(٣) التواضع والخمول برقم (٣٢).
(٤) التواضع والخمول برقم (٣٣).
(٥) في أ: "هارون بن أبي عشيرة".
وَقَالَ الْحَسَنُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: إِنْ قَوْمًا جَعَلُوا الْكِبْرَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَالتَّوَاضُعَ فِي ثِيَابِهِمْ، فَصَاحِبُ الْكِسَاءِ بِكِسَائِهِ أَعْجَبُ مِنْ صَاحِبِ الْمِطْرَفِ بِمِطْرَفِهِ (١)، مَا لَهُمْ تَفَاقَدُوا.
وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ أَنَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: مَا لَكُمْ تَأْتُونِي عَلَيْكُمْ ثِيَابُ الرُّهْبَانِ، وَقُلُوبُكُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ، الْبَسُوا ثِيَابَ الْمُلُوكِ، وَأَلِينُوا قُلُوبَكُمْ بِالْخَشْيَةِ.
فَصْلٌ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ
قَالَ أَبُو الْتِّيَّاحِ: عَنْ أَنَسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا (٢).
وَعَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا" (٣).
وَعَنْ نُوحِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ الْآخِرَةِ وَشَرَفَ الْمَنَازِلِ، وَإِنَّهُ لَضَعِيفُ الْعِبَادَةِ. وَإِنَّهُ لَيَبْلُغُ بِسُوءِ خُلُقِهِ دَرَك جَهَنَّمَ وَهُوَ عَابِدٌ" (٤). وَعَنْ سِنَان بْنِ هَارُونَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا: "ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" (٥). وَعَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ قَائِمِ اللَّيْلِ وَصَائِمِ النَّهَارِ" (٦).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي أَبُو مُسْلِمٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهُ بْنُ إِدْرِيسَ، أَخْبَرَنِي أَبِي وَعَمِّي، عَنْ جَدِّي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سُئل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدخلُ الناسَ الْجَنَّةَ، فَقَالَ: "تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ". وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسُ النَّارَ، فَقَالَ: "الْأَجْوَفَانِ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ" (٧).
وَقَالَ أُسَامَةُ بْنُ شَرِيك: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَتْهُ الْأَعْرَابُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا خَيْرُ مَا أُعْطِيَ الْإِنْسَانُ؟ قَالَ: "حُسْنُ الْخُلُقِ" (٨).
وَقَالَ يَعْلَى بْنُ مَمْلَكٍ (٩) : عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -يُبَلِّغُ بِهِ -قَالَ: "مَا [مِنْ] (١٠) شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ" (١١)، وَكَذَا رَوَاهُ عَطَاءٌ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ، بِهِ (١٢).
وَعَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: "إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا" (١٣).
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَدْرٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ (١٤)، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَارَةَ، عَنِ الْحَسَنِ
(٢) التواضع والخمول برقم (١٦٣).
(٣) التواضع والخمول برقم (١٦٤).
(٤) التواضع والخمول برقم (١٦٨).
(٥) التواضع والخمول برقم (١٦٩).
(٦) التواضع والخمول برقم (١٦٦).
(٧) التواضع والخمول برقم (١٧٠).
(٨) التواضع والخمول برقم (١٧١).
(٩) في ت، أ، ف، هـ: "سماك" والصواب ما أثبتناه من كتب الرجال.
(١٠) زيادة من أ.
(١١) التواضع والخمول برقم (١٧٢).
(١٢) التواضع والخمول برقم (١٧٣).
(١٣) التواضع والخمول برقم (١٧٤).
(١٤) في ت، ف: "عنين" وفي أ: "عيسى" والصواب ما أثبتناه من التواضع والخمول لابن أبي الدنيا، وكتب الرجال.
وَعَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ مَرْفُوعًا: "إِنَّ أَحَبَّكُمْ إليَّ وَأَقْرَبَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا، أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إليَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ مُسَاوِيكُمْ أَخْلَاقًا، الثَّرْثَارُونَ الْمُتَشَدِّقُونَ الْمُتَفَيْهِقُونَ" (٢).
وَعَنْ أَبِي أُوَيْسٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المنْكَدِر، عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْمَلِكُمْ إِيمَانًا، أحاسنكم أخلاقا، الموطؤون أَكْنَافًا، الَّذِينَ يُؤْلفون ويَأْلفون" (٣).
وَقَالَ اللَّيْثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ بَكْرِ بْنِ أَبِي الْفُرَاتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا حَسَّن اللَّهُ خَلْق رَجُلٍ وخُلُقه فَتَطْعَمَه النَّارُ" (٤).
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَالِبٍ الحُدَّاني، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: "خَصْلَتَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مُؤْمِنٍ: الْبُخْلُ، وَسُوءُ الْخُلُقِ" (٥)، وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَان، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ ذَنْبٍ إِلَّا وَقَعَ فِي آخَرَ" (٦).
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ الأحْمَسِيّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ؛ إِنَّ الْخُلُقَ الْحَسَنَ لَيُذِيبَ الذُّنُوبَ كَمَا تُذِيبُ الشَّمْسُ الْجَلِيدَ، وَإِنَّ الْخُلُقَ السَّيِّئَ لَيُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ" (٧).
وَقَالَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: " إِنَّكُمْ لَا تَسَعُون النَّاسَ بِأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَسَعُهم مِنْكُمْ بَسْطُ وُجُوهٍ وَحُسْنُ خُلُقٍ" (٨).
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: حُسْنُ الْخُلُقِ عَوْنٌ عَلَى الدِّينِ.
فَصْلٌ فِي ذَمِّ الْكِبْرِ
قَالَ عَلْقَمَةُ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَفَعَهُ -: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ (٩) مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ كِبْر، وَلَا يُدْخِلُ النَّارَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ (١٠) مِنْ إِيمَانٍ" (١١).
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَبِي عَبْلَة، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا: "مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، أَكَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ" (١٢).
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: "لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَذْهَبُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْجَبَّارِينَ، فَيُصِيبُهُ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ" (١٣).
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: رَكِبَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَلَيْهِمَا (١٤) السَّلَامُ، ذَاتَ يوم البساط في مائتي
(٢) التواضع والخمول برقم (١٧٧).
(٣) التواضع والخمول برقم (١٧٨).
(٤) التواضع والخمول برقم (١٨٠).
(٥) التواضع والخمول برقم (١٨٢).
(٦) التواضع والخمول برقم (١٨٣).
(٧) التواضع والخمول برقم (١٨٤).
(٨) التواضع والخمول برقم (١٩٠).
(٩) في ت، ف، أ: "ذرة".
(١٠) في ف، أ: "ذرة".
(١١) التواضع والخمول برقم (١٩٢).
(١٢) التواضع والخمول برقم (١٩٦).
(١٣) التواضع والخمول برقم (١٩٨).
(١٤) في ت: "عليه".
حَدَّثَنَا أَبُو خَيثَمة، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَخْطُبُنَا فَيَذْكُرُ بَدْءَ خَلْقِ الْإِنْسَانِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا ليُقذر نَفْسَهُ، يَقُولُ: خَرَجَ مِنْ مَجْرَى الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ (١).
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: مَنْ قَتَلَ اثْنَيْنِ فَهُوَ جَبَّارٌ، ثُمَّ تَلَا ﴿أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ﴾ [الْقِصَصِ: ١٩] وَقَالَ الْحَسَنُ: عَجَبًا لِابْنِ آدَمَ، يَغْسِلُ الْخَرْءَ بِيَدِهِ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يَتَكَبَّرُ! يُعَارِضُ جَبَّارَ السموات، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ خِدَاش، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. ضَرَبَ مَثَلَ الدنيَا بِمَا يَخْرُجُ مِنَ ابْنِ آدَمَ (٢).
وَقَالَ الْحَسَنُ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ أَبِي قَالَ: إِنَّ مطعم بن آدَمَ ضَرْبُ مَثَلٍ لِلدُّنْيَا وَإِنْ قَزّحَه ومَلَّحه.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ -مِنْ وَلَدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَا دَخَلَ قلبَ رَجُلٍ شَيْءٌ مِنَ الْكِبْرِ إِلَّا نَقَصَ مِنْ عَقْلِهِ بِقَدْرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ: لَيْسَ مَعَ السُّجُودِ كِبْرٌ، وَلَا مَعَ التَّوْحِيدِ نِفَاقٌ.
وَنَظَرَ طَاوُسٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَهُوَ يَخْتَالُ فِي مِشْيَتِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَخْلَفَ، فَطَعَنَهُ طَاوُسٌ فِي جَنْبِهِ بِأُصْبُعِهِ، وَقَالَ: لَيْسَ هَذَا شَأْنُ (٣) مَنْ فِي بَطْنِهِ خَرْءٌ؟ فَقَالَ لَهُ كَالْمُعْتَذِرِ إِلَيْهِ: يَا عَمِّ، لَقَدْ ضُرِبَ كُلُّ عُضْوٍ مِنِّي عَلَى هَذِهِ الْمِشْيَةِ حَتَّى تَعَلَّمْتُهَا.
قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا: كَانَتْ بَنُو أُمَيَّةَ يَضْرِبُونَ أَوْلَادَهُمْ حَتَّى يَتَعَلَّمُوا (٤) هَذِهِ الْمِشْيَةَ.
فَصْلٌ فِي الِاخْتِيَالِ
عَنْ أَبِي لَيْلَى، عَنِ ابْنِ بُرَيْدة، عَنْ أَبِيهِ مَرْفُوعًا: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ" (٥).
وَرَوَاهُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا مِثْلَهُ (٦). وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكَّار، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: "لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ" (٧). وَ"بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدَيْهِ، أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ، خَسَفَ اللَّهُ بِهِ الْأَرْضَ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" (٨).
وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أبيه: "بينما رجل... " إلى آخره (٩).
(٢) التواضع والخمول برقم (٢١٠).
(٣) في ف، أ: "مشي".
(٤) في ف، أ: "يتعلمون".
(٥) التواضع والخمول برقم (٢٣٨).
(٦) التواضع والخمول برقم (٢٣٩).
(٧) التواضع والخمول برقم (٢٣٢).
(٨) التواضع والخمول برقم (٢٣٣).
(٩) التواضع والخمول برقم (٢٣٤).
وقوله :﴿ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ﴾ أي : إن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله :﴿ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ﴾ يقول : لا تتكبر فتحقِرَ١ عبادَ الله، وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك. وكذا روى العوفي وعكرمة عنه.
وقال مالك، عن زيد بن أسلم :﴿ وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ﴾ : لا تكَلَّم وأنت معرض. وكذا رُوي عن مجاهد، وعِكْرِمة، ويزيد بن الأصم، وأبي الجوزاء، وسعيد بن جُبَيْر، والضحاك، وابن يزيد، وغيرهم.
وقال إبراهيم النَّخعِي : يعني بذلك : التشديق في الكلام.
والصواب القول الأول.
قال ابن جرير : وأصل الصَّعَر : داء يأخذ الإبل في أعناقها أو رؤوسها، حتى تُلفَتَ٢ أعناقُها عن رؤوسها، فشبه به الرجل المتكبر، ومنه قول عمرو بن حُني التَّغْلبي :
وَكُنَّا إذَا الجَبَّارُ صَعّر خَدّه | أقَمْنَا لَه مِنْ مَيْلِه فَتَقَوّمَا٣ |
وَكُنَّا قَديمًا لا نقرُّ ظُلامَة | إذا ما ثَنوا صُعْر الرؤوس نُقِيمها ٤ |
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي، حدثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، حدثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى٦ عن ثابت بن قيس بن شَمَّاس قال : ذكر الكبر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فشدد فيه، فقال :" إن الله لا يحب كل مختال فخو ". فقال رجل من القوم : والله يا رسول الله إني لأغسل ثيابي فيعجبني بياضها، ويعجبني شِراك نعلي، وعِلاقة سَوْطي، فقال :" ليس ذلك الكبر، إنما الكبر أن تَسْفه الحق وتَغْمِط٧ الناس " ٨.
ورواه من طريق أخرى بمثله، وفيه قصة طويلة، ومقتل ثابت ووصيته بعد موته٩.
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن إسحاق، أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا سفيان، أخبرني نَهْشَل بن مُجَمِّع الضبي عن قزعة، عن ابن عمر٥ رضي الله عنه٦ قال : أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن لقمان الحكيم كان يقول : إن الله إذا استودع شيئا حفظه»٧.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن موسى بن سليمان، عن القاسم [ بن مُخَيْمِرة يحدث عن أبي موسى الأشعري ]٨ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«قال لقمان لابنه وهو يعظه : يا بني، إياك والتقنع فإنه مخوفة بالليل، مذمة بالنهار»٩.
وقال : حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عثمان، عن ضَمْرَة، حدثنا السَّريّ بن يحيى١٠ قال : قال لقمان لابنه : يا بني، إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك.
وقال : حدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، أخبرنا ابن المبارك، حدثنا عبد الرحمن المسعودي ١١، عن عَوْن بن عبد الله قال : قال لقمان لابنه : يا بني، إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام - يعني السلام - ثم اجلس في ناحيتهم، فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا، فإن أفاضوا في ذكر الله فَأجِلْ سهمك معهم، وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم.
وحدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار، حدثنا ضمرة١٢ ( ١٠ )، عن حفص بن عمر، رضي الله عنه، قال : وضع لقمان جرابًا من خردل إلى جانبه، وجعل يعظ ابنه وعظة ويخرج خردلة، حتى نفذ الخردل، فقال : يا بني، لقد وعظتك موعظة لو وُعِظَها جبل لتفطر. قال : فتفطر ابنه.
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا يحيى بن عبد الباقي المِصِّيصي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الحراني، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي، حدثنا أبين١٣ ( ١١ ) بن سفيان المقدسي، عن خليفة بن سلام، عن عطاء بن أبي رباح١٤ ( ١٢ )، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة : لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذن»١٥.
قال أبو القاسم الطبراني : أراد الحبش.
فصل في الخمول والتواضع :
وذلك متعلق بوصية لقمان، عليه السلام، لابنه، وقد جمع في ذلك الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا كتابًا مفردًا [ و ] ١٦ نحن، نذكر منه مقاصده، قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا عبد الله بن موسى المدني، عن أسامة بن زيد، عن حفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«رُبَّ أشعثَ ذي طِمْرَين يُصْفَح عن أبواب الناس، إذا١٧ أقسم على الله لأبره»١٨.
ثم رواه من حديث جعفر بن سليمان، عن ثابت وعلي بن زيد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره، وزاد، منهم البراء بن مالك١٩.
[ وروي أيضا عن أنس، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«طوبى للأتقياء الأثرياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، أولئك مصابيح مجردون من كل فتنة غبراء مشينة» ]٢٠. وقال أبو بكر بن سهل التميمي : حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا نافع بن يزيد، عن عياش بن عباس، عن عيسى بن عبد الرحمن، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، رضي الله عنه، أنه دخل المسجد فإذا هو بمعاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له : ما يبكيك يا معاذ ؟ قال : حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول :«إن اليسير من الرياء شرك، وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الأثرياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، ينجون من كل غبراء مظلمة» ٢١.
حدثنا الوليد بن شجاع، حدثنا عَثَّام بن علي، عن حميد بن عطاء الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«رُبَّ ذي طمرين لا يُؤبَه له، لو أقسم على الله لأبره، لو قال : اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة، ولم يعطه من الدنيا شيئا»٢٢.
وقال أيضا : حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن من أمتي مَنْ لو أتى باب أحدكم يسأله دينارًا أو درهما أو فلسًا لم يعطه، ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها، ولو سأله٢٣ الدنيا لم يعطه إياها، ولم يمنعها إياه لهوانه عليه، ذو طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره»٢٤.
وهذا مرسل من هذا الوجه.
وقال أيضا : حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا جعفر بن سليمان، حدثنا عَوْف قال : قال أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن من ملوك الجنة من هو أشعث أغبر ذو طمرين لا يُؤبَه له، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا، وإذا قالوا لم يُنصَت لهم، حوائج أحدهم تتجلجل في صدره، لو قسم نوره يوم القيامة بين الناس لوسعهم»٢٥. قال : وأنشدني عمر بن شَبَّةَ، عن ابن عائشة قال : قال عبد الله بن المبارك :
ألا رُبّ ذي طمْرَين في مَنزل غَدًا | زَرَابِيه مَبْثُوثةً ونَمَارقُه... |
قَد اطَّرَدَتْ أنهاره حَْوَل قَصْره | وَأشرَقَ والتفَّتْ عَلَيه حَدَائقُه٢٦ |
وعن عبد الله بن عمرو قال : أحب عباد الله٢٨ إلى الله الغرباء. قيل : ومَنْ الغرباء ؟ قال : الفرارون بدينهم، يجمعون يوم القيامة إلى عيسى بن مريم٢٩.
وقال الفضيل بن عياض : بلغني أن الله تعالى٣٠ يقول للعبد يوم القيامة : ألم أنعم عليك ؟ ألم أعطك ؟ ألم أسترك ؟ ألم.. ؟ ألم.. ؟ ألم أخمل ذكرك ؟ ثم قال الفضيل : إن استطعت ألا تُعرَف فافعل، وما عليك ألا يُثنى عليك، وما عليك أن تكون مذموما عند الناس محمودًا عند الله.
وكان ابن مُحَيْرِيز يقول : اللهم إني أسألك ذكرا خاملا.
وكان الخليل بن أحمد يقول : اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك، واجعلني في نفسي من أوضع خلقك، وعند الناس من أوسط خلقك.
ثم قال٣١ : باب ما جاء في الشهرة
حدثنا أحمد بن عيسى المصري، حدثنا ابن وهب، عن عمر بن الحارث وابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سِنَان بن سعد، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :«حسب امرئ من الشر - إلا من عصم الله - أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه، وإن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم»٣٢.
وروي مثله عن إسحاق بن البهلول، عن ابن أبي فُدَيْك، عن محمد بن عبد الواحد الأخْنَسِيّ، عن عبد الواحد بن أبي كثير، عن جابر بن عبد الله مرفوعا، مثله٣٣.
وروي عن الحسن مرسلا نحوه٣٤، فقيل للحسن : فإنه يشار إليك بالأصابع ؟ فقال : إنما المراد من يشار إليه في دينه بالبدعة وفي دنياه بالفسق٣٥.
وعن علي، رضي الله عنه، قال : لا تبدأ لأن تشتهر، ولا ترفع شخصك لتذكر، وتعلم واكتم، واصمت تسلم، تَسُر الأبرار، وتغيظ الفجار.
وقال إبراهيم بن أدهم، رحمه الله : ما صدق الله من أحب الشهرة.
وقال أيوب : ما صدق الله عبده إلا سره ألا يشعر بمكانه.
وقال محمد بن العلاء : من أحب الله أحب ألا يعرفه الناس.
وقال سِمَاك بن سلمة : إياك وكثرة الأخلاء.
وقال أبَان بن عثمان : إن أحببت أن يسلم لك دينك فأقل من المعارف ؛ كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة نهض وتركهم.
وقال : حدثنا علي بن الجَعْد، أخبرنا شعبة، عن عَوْف، عن أبي رَجَاء قال : رأى طلحة قوما يمشون معه، فقال : ذباب طمع، وفراش النار.
وقال ابن إدريس، عن هارون بن عنترة٣٦، عن سليم بن حنظلة قال : بينا نحن حول أبي إذ علاه عمر بن الخطاب بالدرة وقال : إنها مذلة للتابع، وفتنة للمتبوع.
وقال ابن عون، عن الحسن : خرج ابن مسعود فاتبعه أناس، فقال : والله لو تعلمون ما أغلِقُ عليه بابي، ما اتبعني منكم رجلان.
وقال حماد بن زيد : كنا إذا مررنا على المجلس، ومعنا أيوب، فسلم، ردوا ردا شديدا، فكان ذلك يَغُمه.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر : كان أيوب يطيل قميصه، فقيل له في ذلك، فقال : إن الشهرة فيما مضى كانت في طول القميص، واليوم في تشميره. واصطنع مرة نعلين على حذو نعلي النبي صلى الله عليه وسلم، فلبسهما أياما ثم خلعهما، وقال : لم أر الناس يلبسونهما.
وقال إبراهيم النَّخَعي : لا تلبس من الثياب ما يُشهر في الفقهاء، ولا ما يزدريك السفهاء.
وقال الثوري : كانوا يكرهون من الثياب الجياد، التي يُشتَهر بها، ويرفع الناس إليه فيها أبصارهم. والثياب الرديئة التي يحتقر فيها، ويستذل دينه.
وحدثنا خالد بن خِدَاش : حدثنا حماد، عن أبي حسنة - صاحب الزيادي - قال : كنا عند أبي قِلابة إذ دخل عليه رجل عليه أكسية، فقال : إياكم وهذا الحمار النهاق.
وقال الحسن، رحمه الله : إن قوما جعلوا الكبر في قلوبهم، والتواضع في ثيابهم، فصاحب الكساء بكسائه أعجب من صاحب المطرف بمطرفه ٣٧، ما لهم تفاقدوا.
وفي بعض الأخبار أن موسى، عليه السلام، قال لبني إسرائيل : ما لكم تأتوني عليكم ثياب الرهبان، وقلوبكم قلوب الذئاب، البسوا ثياب الملوك، وألينوا قلوبكم بالخشية.
فصل في حسن الخلق
قال أبو التياح : عن أنس، رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا٣٨.
وعن عطاء، عن ابن عمر : قيل : يا رسول الله، أيّ المؤمنين أفضل ؟ قال :" أحسنهم خلقا " ٣٩.
وعن نوح بن عباد، عن ثابت، عن أنس مرفوعا :" إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجات الآخرة وشرف المنازل، وإنه لضعيف العبادة. وإنه ليبلغ بسوء خلقه دَرَك جهنم وهو عابد " ٤٠. وعن سِنَان بن هارون، عن حميد، عن أنس مرفوعا :" ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة " ٤١. وعن عائشة مرفوعا :" إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار " ٤٢.
وقال ابن أبي الدنيا : حدثني أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس، حدثنا عبد الله بن إدريس، أخبرني أبي وعمي، عن جدي، عن أبي هريرة، رضي الله عنه : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدخلُ الناسَ الجنة، فقال :«تقوى الله وحسن الخلق». وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال :«الأجوفان : الفم والفرج»٤٣.
وقال أسامة بن شَرِيك : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءته الأعراب من كل مكان، فقالوا : يا رسول الله، ما خير ما أعطي الإنسان ؟ قال :«حسن الخلق»٤٤.
وقال يعلى بن مملك٤٥ : عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء - يبلغ به - قال :" ما [ من ] ٤٦( ١٠ ) شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق " ٤٧ ( ١١ )، وكذا رواه عطاء، عن أم الدرداء، به٤٨ ( ١٢ ).
وعن مسروق، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا :" إن من خياركم أحاسنكم أخلاقا " ٤٩ ( ١٣ ).
حدثنا عبد الله بن أبي بدر، حدثنا
٢ - في ت: "تلتفت" وفي أ: "بلغت"..
٣ - البيت في مجاز القرآن لأبي عبيدة (٢/١٢٧)..
٤ - البيت في السيرة النبوية لابن هشام (١/٢٦٩)..
٥ - في أ: "وقد قال الله تعالى".
٦ - في ت: "وروى الطبراني بإسناده"..
٧ - في ت، ف: "تغمص"..
٨ - المعجم الكبير (٢/٦٩) وفيه انقطاع بين ابن أبي ليلى وثابت..
٩ - المعجم الكبير (٢/٧٠) من طريق عبد الرحمن بن يزيد، عن عطاء، عن بنت ثابت بقصة أبيها، وقال الهيثمي في المجمع (٩/٣٢٢): "وبنت ثابت بن قيس لم أعرفها، وبقية رجاله رجال الصحيح"..
وقوله :﴿ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ﴾ أي : لا تبالغ في الكلام، ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه ؛ ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ قال مجاهد وغير واحد : إن أقبح الأصوات لصوت الحمير، أي : غاية مَنْ رفع صوته أنه يُشَبه بالحمير في علوه ورفعه، ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى. وهذا التشبيه في هذا بالحمير يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه ».
وقال النسائي عند تفسير هذه الآية : حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، ١ عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ]٢ ( ١٠ ) قال :«إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، وإذا سمعتم نهيق الحمير٣ فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانًا ».
وقد أخرجه بقية الجماعة سوى ابن ماجه، من طرق، عن جعفر بن ربيعة به، ٤ وفي بعض الألفاظ :" بالليل "، فالله أعلم.
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن إسحاق، أخبرنا ابن المبارك، أخبرنا سفيان، أخبرني نَهْشَل بن مُجَمِّع الضبي عن قزعة، عن ابن عمر٥ رضي الله عنه٦ قال : أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إن لقمان الحكيم كان يقول : إن الله إذا استودع شيئا حفظه»٧.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن موسى بن سليمان، عن القاسم [ بن مُخَيْمِرة يحدث عن أبي موسى الأشعري ]٨ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«قال لقمان لابنه وهو يعظه : يا بني، إياك والتقنع فإنه مخوفة بالليل، مذمة بالنهار»٩.
وقال : حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عثمان، عن ضَمْرَة، حدثنا السَّريّ بن يحيى١٠ قال : قال لقمان لابنه : يا بني، إن الحكمة أجلست المساكين مجالس الملوك.
وقال : حدثنا أبي، حدثنا عبدة بن سليمان، أخبرنا ابن المبارك، حدثنا عبد الرحمن المسعودي ١١، عن عَوْن بن عبد الله قال : قال لقمان لابنه : يا بني، إذا أتيت نادي قوم فارمهم بسهم الإسلام - يعني السلام - ثم اجلس في ناحيتهم، فلا تنطق حتى تراهم قد نطقوا، فإن أفاضوا في ذكر الله فَأجِلْ سهمك معهم، وإن أفاضوا في غير ذلك فتحول عنهم إلى غيرهم.
وحدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار، حدثنا ضمرة١٢ ( ١٠ )، عن حفص بن عمر، رضي الله عنه، قال : وضع لقمان جرابًا من خردل إلى جانبه، وجعل يعظ ابنه وعظة ويخرج خردلة، حتى نفذ الخردل، فقال : يا بني، لقد وعظتك موعظة لو وُعِظَها جبل لتفطر. قال : فتفطر ابنه.
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا يحيى بن عبد الباقي المِصِّيصي، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الحراني، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن الطرائفي، حدثنا أبين١٣ ( ١١ ) بن سفيان المقدسي، عن خليفة بن سلام، عن عطاء بن أبي رباح١٤ ( ١٢ )، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«اتخذوا السودان فإن ثلاثة منهم من سادات أهل الجنة : لقمان الحكيم، والنجاشي، وبلال المؤذن»١٥.
قال أبو القاسم الطبراني : أراد الحبش.
فصل في الخمول والتواضع :
وذلك متعلق بوصية لقمان، عليه السلام، لابنه، وقد جمع في ذلك الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا كتابًا مفردًا [ و ] ١٦ نحن، نذكر منه مقاصده، قال : حدثنا إبراهيم بن المنذر، حدثنا عبد الله بن موسى المدني، عن أسامة بن زيد، عن حفص بن عبيد الله بن أنس بن مالك : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«رُبَّ أشعثَ ذي طِمْرَين يُصْفَح عن أبواب الناس، إذا١٧ أقسم على الله لأبره»١٨.
ثم رواه من حديث جعفر بن سليمان، عن ثابت وعلي بن زيد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره، وزاد، منهم البراء بن مالك١٩.
[ وروي أيضا عن أنس، رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«طوبى للأتقياء الأثرياء الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، أولئك مصابيح مجردون من كل فتنة غبراء مشينة» ]٢٠. وقال أبو بكر بن سهل التميمي : حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا نافع بن يزيد، عن عياش بن عباس، عن عيسى بن عبد الرحمن، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، رضي الله عنه، أنه دخل المسجد فإذا هو بمعاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له : ما يبكيك يا معاذ ؟ قال : حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعته يقول :«إن اليسير من الرياء شرك، وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الأثرياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، ينجون من كل غبراء مظلمة» ٢١.
حدثنا الوليد بن شجاع، حدثنا عَثَّام بن علي، عن حميد بن عطاء الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«رُبَّ ذي طمرين لا يُؤبَه له، لو أقسم على الله لأبره، لو قال : اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة، ولم يعطه من الدنيا شيئا»٢٢.
وقال أيضا : حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن من أمتي مَنْ لو أتى باب أحدكم يسأله دينارًا أو درهما أو فلسًا لم يعطه، ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها، ولو سأله٢٣ الدنيا لم يعطه إياها، ولم يمنعها إياه لهوانه عليه، ذو طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره»٢٤.
وهذا مرسل من هذا الوجه.
وقال أيضا : حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا جعفر بن سليمان، حدثنا عَوْف قال : قال أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن من ملوك الجنة من هو أشعث أغبر ذو طمرين لا يُؤبَه له، الذين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا، وإذا قالوا لم يُنصَت لهم، حوائج أحدهم تتجلجل في صدره، لو قسم نوره يوم القيامة بين الناس لوسعهم»٢٥. قال : وأنشدني عمر بن شَبَّةَ، عن ابن عائشة قال : قال عبد الله بن المبارك :
ألا رُبّ ذي طمْرَين في مَنزل غَدًا | زَرَابِيه مَبْثُوثةً ونَمَارقُه... |
قَد اطَّرَدَتْ أنهاره حَْوَل قَصْره | وَأشرَقَ والتفَّتْ عَلَيه حَدَائقُه٢٦ |
وعن عبد الله بن عمرو قال : أحب عباد الله٢٨ إلى الله الغرباء. قيل : ومَنْ الغرباء ؟ قال : الفرارون بدينهم، يجمعون يوم القيامة إلى عيسى بن مريم٢٩.
وقال الفضيل بن عياض : بلغني أن الله تعالى٣٠ يقول للعبد يوم القيامة : ألم أنعم عليك ؟ ألم أعطك ؟ ألم أسترك ؟ ألم.. ؟ ألم.. ؟ ألم أخمل ذكرك ؟ ثم قال الفضيل : إن استطعت ألا تُعرَف فافعل، وما عليك ألا يُثنى عليك، وما عليك أن تكون مذموما عند الناس محمودًا عند الله.
وكان ابن مُحَيْرِيز يقول : اللهم إني أسألك ذكرا خاملا.
وكان الخليل بن أحمد يقول : اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك، واجعلني في نفسي من أوضع خلقك، وعند الناس من أوسط خلقك.
ثم قال٣١ : باب ما جاء في الشهرة
حدثنا أحمد بن عيسى المصري، حدثنا ابن وهب، عن عمر بن الحارث وابن لَهِيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن سِنَان بن سعد، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :«حسب امرئ من الشر - إلا من عصم الله - أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه، وإن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم وأعمالكم»٣٢.
وروي مثله عن إسحاق بن البهلول، عن ابن أبي فُدَيْك، عن محمد بن عبد الواحد الأخْنَسِيّ، عن عبد الواحد بن أبي كثير، عن جابر بن عبد الله مرفوعا، مثله٣٣.
وروي عن الحسن مرسلا نحوه٣٤، فقيل للحسن : فإنه يشار إليك بالأصابع ؟ فقال : إنما المراد من يشار إليه في دينه بالبدعة وفي دنياه بالفسق٣٥.
وعن علي، رضي الله عنه، قال : لا تبدأ لأن تشتهر، ولا ترفع شخصك لتذكر، وتعلم واكتم، واصمت تسلم، تَسُر الأبرار، وتغيظ الفجار.
وقال إبراهيم بن أدهم، رحمه الله : ما صدق الله من أحب الشهرة.
وقال أيوب : ما صدق الله عبده إلا سره ألا يشعر بمكانه.
وقال محمد بن العلاء : من أحب الله أحب ألا يعرفه الناس.
وقال سِمَاك بن سلمة : إياك وكثرة الأخلاء.
وقال أبَان بن عثمان : إن أحببت أن يسلم لك دينك فأقل من المعارف ؛ كان أبو العالية إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة نهض وتركهم.
وقال : حدثنا علي بن الجَعْد، أخبرنا شعبة، عن عَوْف، عن أبي رَجَاء قال : رأى طلحة قوما يمشون معه، فقال : ذباب طمع، وفراش النار.
وقال ابن إدريس، عن هارون بن عنترة٣٦، عن سليم بن حنظلة قال : بينا نحن حول أبي إذ علاه عمر بن الخطاب بالدرة وقال : إنها مذلة للتابع، وفتنة للمتبوع.
وقال ابن عون، عن الحسن : خرج ابن مسعود فاتبعه أناس، فقال : والله لو تعلمون ما أغلِقُ عليه بابي، ما اتبعني منكم رجلان.
وقال حماد بن زيد : كنا إذا مررنا على المجلس، ومعنا أيوب، فسلم، ردوا ردا شديدا، فكان ذلك يَغُمه.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر : كان أيوب يطيل قميصه، فقيل له في ذلك، فقال : إن الشهرة فيما مضى كانت في طول القميص، واليوم في تشميره. واصطنع مرة نعلين على حذو نعلي النبي صلى الله عليه وسلم، فلبسهما أياما ثم خلعهما، وقال : لم أر الناس يلبسونهما.
وقال إبراهيم النَّخَعي : لا تلبس من الثياب ما يُشهر في الفقهاء، ولا ما يزدريك السفهاء.
وقال الثوري : كانوا يكرهون من الثياب الجياد، التي يُشتَهر بها، ويرفع الناس إليه فيها أبصارهم. والثياب الرديئة التي يحتقر فيها، ويستذل دينه.
وحدثنا خالد بن خِدَاش : حدثنا حماد، عن أبي حسنة - صاحب الزيادي - قال : كنا عند أبي قِلابة إذ دخل عليه رجل عليه أكسية، فقال : إياكم وهذا الحمار النهاق.
وقال الحسن، رحمه الله : إن قوما جعلوا الكبر في قلوبهم، والتواضع في ثيابهم، فصاحب الكساء بكسائه أعجب من صاحب المطرف بمطرفه ٣٧، ما لهم تفاقدوا.
وفي بعض الأخبار أن موسى، عليه السلام، قال لبني إسرائيل : ما لكم تأتوني عليكم ثياب الرهبان، وقلوبكم قلوب الذئاب، البسوا ثياب الملوك، وألينوا قلوبكم بالخشية.
فصل في حسن الخلق
قال أبو التياح : عن أنس، رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا٣٨.
وعن عطاء، عن ابن عمر : قيل : يا رسول الله، أيّ المؤمنين أفضل ؟ قال :" أحسنهم خلقا " ٣٩.
وعن نوح بن عباد، عن ثابت، عن أنس مرفوعا :" إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجات الآخرة وشرف المنازل، وإنه لضعيف العبادة. وإنه ليبلغ بسوء خلقه دَرَك جهنم وهو عابد " ٤٠. وعن سِنَان بن هارون، عن حميد، عن أنس مرفوعا :" ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة " ٤١. وعن عائشة مرفوعا :" إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار " ٤٢.
وقال ابن أبي الدنيا : حدثني أبو مسلم عبد الرحمن بن يونس، حدثنا عبد الله بن إدريس، أخبرني أبي وعمي، عن جدي، عن أبي هريرة، رضي الله عنه : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدخلُ الناسَ الجنة، فقال :«تقوى الله وحسن الخلق». وسئل عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال :«الأجوفان : الفم والفرج»٤٣.
وقال أسامة بن شَرِيك : كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءته الأعراب من كل مكان، فقالوا : يا رسول الله، ما خير ما أعطي الإنسان ؟ قال :«حسن الخلق»٤٤.
وقال يعلى بن مملك٤٥ : عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء - يبلغ به - قال :" ما [ من ] ٤٦( ١٠ ) شيء أثقل في الميزان من حسن الخلق " ٤٧ ( ١١ )، وكذا رواه عطاء، عن أم الدرداء، به٤٨ ( ١٢ ).
وعن مسروق، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا :" إن من خياركم أحاسنكم أخلاقا " ٤٩ ( ١٣ ).
حدثنا عبد الله بن أبي بدر، حدثنا
٢ - (١٠) زيادة من أ..
٣ - في ت: "الحمار"..
٤ - النسائي في السنن الكبرى (١١٣٩١) وصحيح البخاري برقم (٣٣٠١) وصحيح مسلم برقم (٢٧٧٩) وسنن أبي داود برقم (٥١٠٢) وسنن الترمذي برقم (٣٤٥٩)..
يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا خَلْقَهُ عَلَى نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، بِأَنَّهُ سَخَّرَ لَهُمْ مَا في السموات مِنْ نُجُومٍ يَسْتَضِيئُونَ بِهَا فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ، وَمَا يُخْلَقُ فِيهَا مِنْ سَحَابٍ وَأَمْطَارٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ، وَجَعْلِهِ إِيَّاهَا لَهُمْ سَقْفًا مَحْفُوظًا، وَمَا خَلَقَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ قَرَارٍ وَأَنْهَارٍ وَأَشْجَارٍ وَزُرُوعٍ وَثِمَارٍ. وَأَسْبَغَ عَلَيْهِمْ نِعَمَهُ الظَّاهِرَةَ وَالْبَاطِنَةَ مِنْ إِرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَإِزَاحَةِ الشبَه وَالْعِلَلِ، ثُمَّ مَعَ هَذَا كُلِّهِ مَا آمَنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ، أَيْ: فِي تَوْحِيدِهِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ. وَمُجَادَلَتِهِ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَلَا مُسْتَنَدٍ مِنْ حُجَّةٍ صَحِيحَةٍ، وَلَا كِتَابٍ مَأْثُورٍ صَحِيحٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ﴾ أَيْ: مُبِينٍ مُضِيءٍ.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ﴾ أَيْ: لِهَؤُلَاءِ الْمُجَادِلِينَ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ: ﴿اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ﴾ أَيْ: عَلَى رَسُولِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ الْمُطَهَّرَةِ، ﴿قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ أَيْ: لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حُجَّةٌ إِلَّا اتِّبَاعَ الْآبَاءِ الْأَقْدَمِينَ، قَالَ اللَّهُ: ﴿أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ﴾ [الْبَقَرَةِ: ١٧٠] أَيْ: فَمَا ظَنُّكُمْ أَيُّهَا الْمُحْتَجُّونَ بِصَنِيعِ آبَائِهِمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ وَأَنْتُمْ خَلَفٌ لَهُمْ فِيمَا كَانُوا فِيهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾.
﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ (٢٢) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (٢٤) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ، أَيْ: أَخْلَصَ لَهُ الْعَمَلَ وَانْقَادَ لِأَمْرِهِ وَاتَّبَعَ شَرْعَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أَيْ: فِي عَمَلِهِ، بِاتِّبَاعِ مَا بِهِ أُمِرَ، وَتَرْكِ مَا عَنْهُ زُجِرَ، ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى﴾ أَيْ: فَقَدْ أَخَذَ مُوَثِقًا مِنَ اللَّهِ مَتِينًا أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُ، ﴿وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ. وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ﴾ أَيْ: لَا تَحْزَنْ يَا مُحَمَّدُ عَلَيْهِمْ فِي كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ؛ فَإِنَّ قَدَرَ اللَّهِ نَافِذٌ فِيهِمْ، وَإِلَى اللَّهِ مَرْجِعُهُمْ فَيُنْبِئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا، أَيْ: فَيَجْزِيهِمْ عَلَيْهِ، ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾، فَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا﴾ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، ﴿ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ﴾ أَيْ: نُلْجِئُهُمْ ﴿إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ أَيْ: فَظِيعٍ صَعْبٍ مُشِقٍّ عَلَى النُّفُوسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾ [يونس: ٦٩، ٧٠].
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِهِ: إِنَّهُمْ يعرفون أن الله خالقُ السموات وَالْأَرْضَ، وحدَه لَا شَرِيكَ لَهُ، وَمَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ شُرَكَاءَ يَعْتَرِفُونَ أَنَّهَا خَلْقٌ لَهُ وَمِلْكٌ لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ [أَيْ: إذْ قَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةُ بِاعْتِرَافِكُمْ]، (١) ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
ثُمَّ قَالَ: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ﴾ أَيْ: هُوَ خَلْقُهُ وَمُلْكُهُ، ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ أَيِ: الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، الْحَمِيدُ فِي جَمِيعِ ما خلق، له الحمد في السموات وَالْأَرْضِ عَلَى مَا خَلَقَ وَشَرَعَ، وَهُوَ الْمَحْمُودُ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا.
﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٧) مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ وَجَلَالِهِ، وَأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَا وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّةِ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا أَحَدٌ، وَلَا اطِّلَاعَ لِبِشْرٍ عَلَى كُنْهِهَا وَإِحْصَائِهَا، كَمَا قَالَ سَيِّدُ الْبَشَرِ وَخَاتَمُ الرُّسُلِ: "لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ"، فَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ﴾ [أَيْ: وَلَوْ أَنَّ جَمِيعَ أَشْجَارِ الْأَرْضِ جُعِلَتْ أَقْلَامًا، وَجُعِلَ الْبَحْرُ مِدَادًا ومَده سَبْعَةُ أَبْحُرٍ] (٢) مَعَهُ، فَكُتِبَتْ بِهَا كَلِمَاتُ اللَّهِ الدَّالَّةُ عَلَى عَظْمَتِهِ وَصِفَاتِهِ وَجَلَالِهِ لَتَكَسَّرَتِ الْأَقْلَامُ، ونَفدَ مَاءُ الْبَحْرِ، وَلَوْ جَاءَ أَمْثَالُهَا مَدَدا.
وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ "السَّبْعَةُ" عَلَى وَجْهِ الْمُبَالِغَةِ، وَلَمْ يُرِدِ الْحَصْرَ وَلَا [أَنَّ] (٣) ثَمَّ سَبْعَةَ أَبْحُرٍ مَوْجُودَةً تُحِيطُ بِالْعَالَمِ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ تَلَقَّاهُ مِنْ كَلَامِ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ الَّتِي لَا تُصَدَّقُ وَلَا تُكَذَّبُ، بَلْ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ [الْكَهْفِ: ١٠٩]، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: ﴿بِمِثْلِهِ﴾ آخَرَ فَقَطْ، بَلْ بِمِثْلِهِ ثُمَّ بِمِثْلِهِ ثُمَّ بِمِثْلِهِ، ثُمَّ هَلُمَّ جَرًّا؛ لِأَنَّهُ لَا حَصْرَ لِآيَاتِ اللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَوْ جُعِلَ شَجَرُ الْأَرْضِ أَقْلَامًا، وَجُعِلَ الْبَحْرُ مِدَادًا، وَقَالَ اللَّهُ: "إِنَّ مِنْ أَمْرِي كَذَا، وَمِنْ أَمْرِي كَذَا" لَنَفِدَ مَا فِي الْبُحُورِ، وَتَكَسَّرَتِ الْأَقْلَامُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّمَا هَذَا كَلَامٌ يُوشِكُ أَنْ يَنْفَدَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ﴾ أَيْ: لَوْ كَانَ شَجَرُ الْأَرْضِ أَقْلَامًا، وَمَعَ الْبَحْرِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ، مَا كَانَ لِتَنْفَدَ عَجَائِبُ رَبِّي وَحِكْمَتُهُ وَخَلْقُهُ وَعِلْمُهُ.
(٢) زيادة من ت، ف، أ.
(٣) زيادة من ت، ف، أ.
يَقُولُ: لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَالْأَشْجَارِ كُلُّهَا أَقْلَامًا، لَانْكَسَرَتِ الْأَقْلَامُ، وَفَنِيَ مَاءُ الْبَحْرِ، وَبَقِيَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ قَائِمَةً لَا يُفْنِيهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقْدُرَ قَدْرَهُ، وَلَا يُثْنِيَ عَلَيْهِ كَمَا يَنْبَغِي، حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يُثْنِي عَلَى نَفْسِهِ. إِنَّ رَبَّنَا كَمَا يَقُولُ، وَفَوْقَ مَا نَقُولُ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ جَوَابًا لِلْيَهُودِ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ أَحْبَارَ يَهُودَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ: يَا مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ قَوْلَكَ: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلا قَلِيلا﴾ ؟ [الْإِسْرَاءِ: ٨٥]، إِيَّانَا تُرِيدُ أَمْ قَوْمَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَلَّا". فَقَالُوا: أَلَسْتَ تَتْلُو فِيمَا جَاءَكَ أَنَّا قَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ فِيهَا تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ قَلِيلٌ، وَعِنْدَكُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا يَكْفِيكُمْ". وَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ: ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ﴾ الْآيَةَ.
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ، وَعَطَاءِ بْنِ يَسَار. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ لَا مَكِّيَّةٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَاللَّهُ (١) أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أَيْ: عَزِيزٌ قَدْ عَز كلَّ شَيْءٍ وَقَهَرَهُ وَغَلَبَهُ، فَلَا مَانِعَ لِمَا أَرَادَ وَلَا مُخَالِفَ وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، ﴿حَكِيمٌ﴾ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَشَرْعِهِ وَجَمِيعِ شُؤُونِهِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ أَيْ: مَا خَلْقُ جَمِيعِ النَّاسِ وَبَعْثُهُمْ يَوْمَ الْمَعَادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ إِلَّا كَنِسْبَةِ [خَلْقِ] (٢) نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، الْجَمِيعُ هَيِّنٌ عَلَيْهِ وَ ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢]، ﴿وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [الْقَمَرِ: ٥٠] أَيْ: لَا يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَيَكُونُ ذَلِكَ الشَّيْءُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكَرُّرِهِ وَتَوَكُّدِهِ (٣). ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾ [النَّازِعَاتِ: ١٣، ١٤].
وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ أَيْ: كَمَا هُوَ سَمِيعٌ لِأَقْوَالِهِمْ بَصِيرٌ بِأَفْعَالِهِمْ كَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ كَذَلِكَ قُدْرَتُهُ عَلَيْهِمْ كَقُدْرَتِهِ عَلَى نَفْسٍ وَاحِدَةٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ] ﴾ (٤).
(٢) زيادة من ت، ف، أ.
(٣) في ت، ف، أ: "وتوكيده".
(٤) زيادة من ت، ف، أ، وفي هـ: "الآية".
وإنما ذكرت " السبعة " على وجه المبالغة، ولم يرد الحصر ولا [ أن ]٢ ثم سبعة أبحر موجودة تحيط بالعالم، كما يقوله من تلقاه من كلام الإسرائيليين التي لا تصدق ولا تكذب، بل كما قال تعالى في الآية الأخرى :﴿ قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾ [ الكهف : ١٠٩ ]، فليس المراد بقوله :﴿ بِمِثْلِهِ ﴾ آخر فقط، بل بمثله ثم بمثله ثم بمثله، ثم هلم جرا ؛ لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته.
وقال الحسن البصري : لو جعل شجر الأرض أقلاما، وجعل البحر مدادا، وقال الله :" إن من أمري كذا، ومن أمري كذا " لنفد ما في البحور، وتكسرت الأقلام.
وقال قتادة : قال المشركون : إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، فقال الله تعالى :﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ﴾ أي : لو كان شجر الأرض أقلاما، ومع البحر سبعة أبحر، ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه.
وقال الربيع بن أنس : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنزل الله ذلك :﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ﴾ الآية.
يقول : لو كان البحر مدادا لكلمات الله والأشجار كلها أقلاما، لانكسرت الأقلام، وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء ؛ لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره، ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه. إن ربنا كما يقول، وفوق ما نقول.
وقد روي أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود، قال ابن إسحاق : حدثني ابن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس ؛ أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة : يا محمد، أرأيت قولك :﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلا قَلِيلا ﴾ ؟ [ الإسراء : ٨٥ ]، إيانا تريد أم قومك ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كلا ". فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إنها في علم الله قليل، وعندكم من ذلك ما يكفيكم ». وأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك :﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ﴾ الآية.
وهكذا روي عن عكرمة، وعطاء بن يَسَار. وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية لا مكية، والمشهور أنها مكية، والله٣ أعلم.
وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ أي : عزيز قد عَز كلَّ شيء وقهره وغلبه، فلا مانع لما أراد ولا مخالف ولا معقب لحكمه، ﴿ حَكِيمٌ ﴾ في خلقه وأمره، وأقواله وأفعاله، وشرعه وجميع شؤونه.
٢ - زيادة من ت، ف، أ..
٣ - في ت، ف: "فالله"..
وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ أي : كما هو سميع لأقوالهم بصير بأفعالهم كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة ؛ ولهذا قال :﴿ مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ] ﴾٣.
٢ - في ت، ف، أ: "وتوكيده"..
٣ - زيادة من ت، ف، أ، وفي هـ: "الآية"..
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ ﴿يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ﴾ بِمَعْنَى: يَأْخُذُ مِنْهُ فِي النَّهَارِ، فيطولُ ذَلِكَ وَيَقْصُرُ هذا،
وَقَالَ ابْنُ أَبِي الْحَاتِمِ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنُ جُرَيْج، عَنْ عَطَاء بْنِ أَبِي رَبَاحٍ (٢)، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الشَّمْسُ بِمَنْزِلَةِ السَّاقِيَةِ، تَجْرِي بِالنَّهَارِ فِي السَّمَاءِ فِي فَلَكِهَا، فَإِذَا غَرَبَتْ جَرَتْ بِاللَّيْلِ فِي فَلَكِهَا تَحْتَ الْأَرْضِ حَتَّى تَطْلُعَ مِنْ مَشْرِقِهَا، قَالَ: وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ. إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، كَقَوْلِهِ: ﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ﴾ [الْحَجِّ: ٧٠]. (٣) وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّهُ تَعَالَى الْخَالِقُ الْعَالِمُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، كَقَوْلِهِ: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطَّلَاقِ: ١٢].
وَقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾ أَيْ: إِنَّمَا يُظْهِرُ لَكُمْ آيَاتِهِ لِتَسْتَدِلُّوا بِهَا عَلَى أَنَّهُ الْحَقُّ، أَيِ: الْمَوْجُودُ الْحَقُّ، الْإِلَهُ الْحَقُّ، وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ الْغَنِيُّ عَمَّا سِوَاهُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَقِيرٌ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ما (٤) في السموات وَالْأَرْضِ الْجَمِيعُ خَلْقُهُ وَعَبِيدُهُ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى تَحْرِيكِ ذَرّة إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَوِ اجْتَمَعَ كُلُّ أَهْلِ الْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا لَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ أَيِ: الْعَلِيُّ: الَّذِي لَا أَعْلَى مِنْهُ، الْكَبِيرُ: الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فكل (٥) شيء خاضع حقير بالنسبة إليه.
(٢) في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".
(٣) في ت: "السموات" وهو خطأ.
(٤) في ت: "من".
(٥) في ت، ف: "وكل".
٢ - في ت، ف: "وكل"..
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَخَّر الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ فِيهِ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ، أَيْ: بِلُطْفِهِ وَتَسْخِيرِهِ؛ فَإِنَّهُ لَوْلَا مَا جَعَلَ فِي الْمَاءِ مِنْ قُوَّةٍ يَحْمِلُ بِهَا السُّفُنَ لَمَا جَرَتْ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ﴾ أَيْ: مِنْ قُدْرَتِهِ، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ أَيْ: صَبَّارٌ فِي الضَّرَّاءِ، شَكُورٌ فِي الرَّخَاءِ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ﴾ أَيْ: كَالْجِبَالِ وَالْغَمَامِ، ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٦٧]، وَقَالَ ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٥].
ثُمَّ قَالَ: ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ قَالَ مُجَاهِدٌ: أَيْ كَافِرٌ. كَأَنَّهُ فَسَرَّ الْمُقْتَصِدَ هَاهُنَا بِالْجَاحِدِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ: ٦٥].
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الْمُتَوَسِّطُ فِي الْعَمَلِ.
وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ هُوَ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ [فَاطِرٍ: ٣٢]، فَالْمُقْتَصِدُ هَاهُنَا هُوَ: الْمُتَوَسِّطُ فِي الْعَمَلِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هُنَا أَيْضًا، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ شَاهَدَ تِلْكَ الْأَهْوَالَ وَالْأُمُورَ الْعِظَامَ وَالْآيَاتِ الْبَاهِرَاتِ فِي الْبَحْرِ، ثُمَّ بَعْدَمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ مِنَ الْخَلَاصِ، كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَابِلَ ذَلِكَ بِالْعَمَلِ التَّامِّ، وَالدَّؤُوبِ فِي الْعِبَادَةِ، وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى الْخَيْرَاتِ. فَمَنِ اقْتَصَدَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مُقَصِّرًا وَالْحَالَةُ هَذِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾ : فَالْخَتَّارُ: هُوَ الغَدَّار. قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ عَنْ (١) زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَهُوَ الَّذِي كُلَّمَا عَاهَدَ نَقَضَ عَهْدَهُ، والخَتْر: أتَم الغدر وأبلغه، قال عمرو بن معد يكرب:
وَإنَّكَ لَو رَأيتَ أبَا عُمَير | مَلأتَ يَديْكَ مِنْ غَدْر وَخَتْر (٢) |
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (٣٣) ﴾.
يَقُولُ تَعَالَى مُنْذِرًا لِلنَّاسِ يَوْمَ الْمَعَادِ، وَآمِرًا لَهُمْ بِتَقْوَاهُ وَالْخَوْفِ مِنْهُ، وَالْخَشْيَةِ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ حَيْثُ ﴿لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ﴾ أَيْ: لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِنَفْسِهِ لَمَا قُبِلَ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ الْوَلَدُ لَوْ أَرَادَ فَدَاءَ وَالِدِهِ بِنَفْسِهِ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْهُ.
ثُمَّ عَادَ بِالْمَوْعِظَةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ [أَيْ: لَا تُلْهِيَنَّكُمْ بِالطُّمَأْنِينَةِ فِيهَا عَنِ الدَّارِ الْآخِرَةِ] (٣). ﴿وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾ يَعْنِي: الشَّيْطَانُ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وَقَتَادَةُ. فَإِنَّهُ يَغُرُّ ابْنَ آدَمَ ويَعدهُ وَيُمَنِّيهِ، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ بَلْ كَمَا قال تعالى:
(٢) البيت في تفسير الطبري (٢١/٥٤).
(٣) زيادة من ت، ف، أ.
ثم قال :﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ﴾ قال مجاهد : أي كافر. كأنه فسر المقتصد هاهنا بالجاحد، كما قال تعالى :﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ].
وقال ابن زيد : هو المتوسط في العمل.
وهذا الذي قاله ابن زيد هو المراد في قوله :﴿ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ ﴾ [ فاطر : ٣٢ ]، فالمقتصد هاهنا هو : المتوسط في العمل. ويحتمل أن يكون مرادًا هنا أيضا، ويكون من باب الإنكار على من شاهد تلك الأهوال والأمور العظام والآيات الباهرات في البحر، ثم بعدما أنعم عليه من الخلاص، كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام، والدؤوب في العبادة، والمبادرة إلى الخيرات. فمن اقتصد بعد ذلك كان مقصرا والحالة هذه، والله أعلم.
وقوله :﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ﴾ : فالختار : هو الغَدَّار. قاله مجاهد، والحسن، وقتادة، ومالك عن١ زيد بن أسلم، وهو الذي كلما عاهد نقض عهده، والخَتْر : أتَم الغدر وأبلغه، قال عمرو بن معد يكرب :
وَإنَّكَ لَو رَأيتَ أبَا عُمَير | مَلأتَ يَديْكَ مِنْ غَدْر وَخَتْر٢ |
٢ - البيت في تفسير الطبري (٢١/٥٤)..
ثم عاد بالموعظة عليهم بقوله :﴿ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ﴾ [ أي : لا تلهينكم بالطمأنينة فيها عن الدار الآخرة ]١. ﴿ وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ يعني : الشيطان. قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة. فإنه يغر ابن آدم ويَعدهُ ويمنيه، وليس من ذلك شيء بل كما قال تعالى :﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ﴾ [ النساء : ١٢٠ ].
قال وهب بن منبه : قال عزير، عليه السلام : لما رأيت بلاء قومي اشتد حزني وكثر همي، وأرق نومي، فضرعت٢ إلى ربي وصليت وصمت فأنا في ذلك أتضرع أبكي إذ أتاني الملك فقلت له : أخبرني هل تشفع أرواح المصدقين٣ للظلمة، أو الآباء لأبنائهم ؟ قال : إن القيامة فيها ٤ فصل القضاء وملك ظاهر، ليس فيه رخصة، لا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الرحمن، ولا يؤخذ فيه والد عن ولده، ولا ولد عن والده، ولا أخ عن أخيه، ولا عبد عن سيده، ولا يهتم أحد بغيره٥ ولا يحزن لحزنه، ولا أحد يرحمه، كل مشفق على نفسه، ولا يؤخذ إنسان عن إنسان، كل يَهُم همه ويبكي عَوله، ويحمل وزره، ولا يحمل وزره معه غيره. رواه ابن أبي حاتم.
٢ - في ت، ف: "الصديقين"..
٣ - في ف: "وتضرعت"..
٤ - في ت، ف، أ: "إن يوم القيامة فيه"..
٥ - في ت "ولا يهتم بهم أحدا"..
قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: قَالَ عُزَيْرٌ، عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَمَّا رَأَيْتُ بَلَاءَ قَوْمِي اشْتَدَّ حُزْنِي وَكَثُرَ هَمِّي، وَأَرِقَ نَوْمِي، فَضَرِعْتُ (١) إِلَى رَبِّي وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ فَأَنَا فِي ذَلِكَ أَتَضَرَّعُ أَبْكِي إِذْ أَتَانِي الْمَلَكُ فَقُلْتُ لَهُ: أَخْبِرْنِي هَلْ تَشْفَعُ أَرْوَاحُ الْمُصَدِّقِينَ (٢) لِلظَّلَمَةِ، أَوِ الْآبَاءِ لِأَبْنَائِهِمْ؟ قَالَ: إِنِ الْقِيَامَةَ فِيهَا (٣) فَصْلُ الْقَضَاءِ وَمُلْكٌ ظَاهِرٌ، لَيْسَ فِيهِ رُخْصَةٌ، لَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِ الرَّحْمَنِ، وَلَا يُؤْخَذُ فِيهِ وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ، وَلَا وَلَدٌ عَنْ وَالِدِهِ، وَلَا أَخٌ عَنْ أَخِيهِ، وَلَا عَبْدٌ عَنْ سَيِّدِهِ، وَلَا يَهْتَمُّ أَحَدٌ بِغَيْرِهِ (٤) وَلَا يَحْزَنُ لِحُزْنِهِ، وَلَا أَحَدَ يَرْحَمُهُ، كُلٌّ مُشْفِقٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يُؤْخَذُ إِنْسَانٌ عَنْ إِنْسَانٍ، كَلٌّ يَهُم هَمَّهُ وَيَبْكِي عَوله، وَيَحْمِلُ وَزْرَهُ، وَلَا يَحْمِلُ وِزْرَهُ مَعَهُ غَيْرُهُ. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (٣٤) ﴾.
هَذِهِ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا، فَلَا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلَّا بَعْدَ إِعْلَامِهِ تَعَالَى بِهَا؛ فَعِلْمُ وَقْتِ السَّاعَةِ لَا يَعْلَمُهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَلَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، ﴿لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ﴾ [الْأَعْرَافِ: ١٨٧]، وَكَذَلِكَ إِنْزَالُ الْغَيْثِ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ، وَلَكِنْ إِذَا أَمَرَ بِهِ عَلِمَتْهُ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ ومَنْ شَاءَ اللَّهُ مَنْ خَلْقِهِ. وَكَذَلِكَ لَا يَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ مِمَّا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَهُ [اللَّهُ] (٥) تَعَالَى سِوَاهُ، وَلَكِنْ إِذَا أَمَرَ بِكَوْنِهِ ذِكْرًا أَوْ أُنْثَى، أَوْ شَقِيًّا أَوْ سَعِيدًا عَلِمَ الْمَلَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِذَلِكَ، ومَنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ. وَكَذَلِكَ لَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا فِي دُنْيَاهَا وَأُخْرَاهَا، ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ فِي بَلَدِهَا أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَيِّ بِلَادِ اللَّهِ كَانَ، لَا عِلْمَ لِأَحَدٍ بِذَلِكَ. وَهَذِهِ شَبِيهَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ﴾ الْآيَةَ [الْأَنْعَامِ: ٥٩]. وَقَدْ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِتَسْمِيَةِ هَذِهِ الْخَمْسِ: مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيدة، سَمِعْتُ أَبِي -بُرَيدة - (٦) يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (٧).
هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ (٨) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٩) مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾.
(٢) في ت، ف: "الصديقين".
(٣) في ت، ف، أ: "إن يوم القيامة فيه".
(٤) في ت "ولا يهتم بهم أحدا".
(٥) زيادة من ت، ف، أ.
(٦) في ت: "ورى الإمام أحمد بإسناده عن بريدة".
(٧) المسند (٥/٣٥٣) وقال الهيثمي في المجمع (٧/٩٠) "رجال أحمد رجال الصحيح".
(٨) في ت: "وروى البخاري عن عبد الله بن عمر".
(٩) في ت: "النبي".
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ". ثُمَّ قَرَأَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ﴾ انْفَرَدَ بِهِ أَيْضًا (٢).
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ غُنْدَر، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ؛ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يُحَدِّثُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُوتِيتُ مَفَاتِيحَ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا الْخَمْسَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (٣).
[حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، حَدَّثَنِي عَمْرِو بْنِ مُرَّة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ (٤) : أُوتِيَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَفَاتِيحَ كُلِّ شَيْءٍ غَيْرَ خَمْسٍ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ ] (٥) (٦).
وَكَذَا رَوَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، بِهِ. وَزَادَ فِي آخِرِهِ: قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ مَرَّةً (٧).
وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ وَكِيع، عَنْ مِسْعَر، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ بِهِ (٨).
وَهَذَا إِسْنَادٌ حَسَنٌ عَلَى شَرْطِ أَصْحَابِ السُّنَنِ وَلَمْ يُخَرِّجُوهُ.
حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ الْبُخَارِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (٩) ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمًا بَارِزًا لِلنَّاسِ، إِذْ أَتَاهُ رَجُلٌ يَمْشِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "الْإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَلِقَائِهِ، وَتُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ الْآخَرِ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: "الْإِسْلَامُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ: "الْإِحْسَانُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: "مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ سَأُحَدِّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتِ الأمَةُ رَبَّتَهَا، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا. وَإِذَا كَانَ الْحُفَاةُ
(٢) صحيح البخاري برقم (٤٦٩٧).
(٣) المسند (٢/٨٥).
(٤) في ت: "وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال".
(٥) زيادة من ف، أ.
(٦) المسند (١/٣٨٦).
(٧) المسند (١/٤٣٨).
(٨) المسند (١/٤٤٥).
(٩) في ت: "وروى البخاري".
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي "كِتَابِ الْإِيمَانِ"، وَمُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ أَبِي حَيَّانَ، بِهِ (٣). وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عَلَيْهِ فِي أَوَّلِ شَرْحِ الْبُخَارِيِّ. وَذَكَرْنَا ثَمَّ حَدِيثَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي ذَلِكَ بِطُولِهِ، وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِ مُسْلِمٍ (٤).
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ، حَدَّثَنَا شَهْر، حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا لَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (٥) وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى رُكْبَتِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، [حَدِّثْنِي] (٦) مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْإِسْلَامُ أَنْ تُسْلِمَ وَجْهَكَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَتَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ". قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَقَدْ أَسْلَمْتُ؟ قَالَ: "إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ أَسْلَمْتَ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فحدِّثني مَا الْإِيمَانُ؟ قَالَ: "الْإِيمَانُ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْكِتَابِ، وَالنَّبِيِّينَ، وَتُؤْمِنَ بِالْمَوْتِ، وَبِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتُؤْمِنَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ". قَالَ: فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَقَدْ آمَنْتُ؟ قَالَ: "إِذَا (٧) فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ آمَنْتَ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَدِّثْنِي مَا الْإِحْسَانُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ كُنْتَ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَحَدِّثْنِي مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سُبْحَانَ اللَّهِ. فِي خَمْسٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا هُوَ: (٨) ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾، وَلَكِنْ إِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُكَ بِمَعَالِمَ لَهَا دُونَ ذَلِكَ؟ ". قَالَ: أَجَلْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَحَدِّثْنِي. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا رَأَيْتَ الأمَة وَلَدَتْ رَبَّتَها -أَوْ: رَبَّهَا -وَرَأَيْتَ أَصْحَابَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ، وَرَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْجِيَاعَ الْعَالَةَ [كَانُوا رُؤُوسَ النَّاسِ، فَذَلِكَ مِنْ مَعَالِمِ السَّاعَةِ وَأَشْرَاطِهَا". قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ومَنْ أَصْحَابُ الشَّاءِ وَالْحُفَاةِ الْجِيَاعِ الْعَالَةِ؟ قَالَ: "الْعَرَبُ"] (٩) (١٠).
حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَلَمْ يُخْرِّجُوهُ.
حَدِيثُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ: رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شعبة، عن مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعي بْنِ حِرَاش، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ؛ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَأَلِجُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَادِمِهِ: "اخرُجي إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَا يُحْسِنُ الِاسْتِئْذَانَ فَقُولِي لَهُ: فَلْيَقُلْ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ " قَالَ: فسَمعتهُ يَقُولُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ فَأَذِنَ، فَدَخَلْتُ، فَقُلْتُ: بِمَ أَتَيْتَنَا بِهِ؟ قَالَ: "لَمْ آتِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، أَتَيْتُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ لا شريك له، وأن
(٢) صحيح البخاري برقم (٤٧٧٧).
(٣) صحيح البخاري برقم (٥٠) وصحيح مسلم برقم (٩).
(٤) صحيح مسلم برقم (٨).
(٥) في ف، أ: "بين يديه".
(٦) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(٧) في ف: "فإذا".
(٨) في أ: "الله".
(٩) زيادة من ت، ف، أ، والمسند.
(١٠) المسند (١/٣١٨).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيِح، عَنْ مُجَاهِدٍ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقَالَ: إِنِ امْرَأَتَيْ حُبْلَى، فَأَخْبِرْنِي مَا تَلِدُ؟ وَبِلَادُنَا جَدبَةٌ، فَأَخْبِرْنِي مَتَّى يَنْزِلُ الْغَيْثُ؟ وَقَدْ عَلمتُ مَتَى وُلدتُ فَأَخْبَرَنِي مَتَى أَمُوتُ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [وَيُنزلُ الْغَيْثَ] ﴾ (٢)، إِلَى قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهِيَ (٣) مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ﴾ [الْأَنْعَامِ: ٥٩]. رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾ (٤).
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ : قَالَ قَتَادَةُ: أَشْيَاءُ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِنَّ، فَلَمْ يُطلع عَلَيْهِنَّ مَلَكا مُقَرَّبًا، وَلَا نَبِيًّا مُرْسَلًا ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾، فَلَا يَدْرِي أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ، فِي أَيِّ سَنَةٍ أَوْ فِي أَيِّ شَهْرٍ، أَوْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، ﴿وَيُنزلُ الْغَيْثَ﴾، فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَتَّى يَنْزِلُ الْغَيْثُ، لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ﴾، فَلَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَا فِي الْأَرْحَامِ، أَذَكُرٌ أَمْ أُنْثَى، أَحْمَرُ أَوْ أَسْوَدُ، وَمَا هُوَ، ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾، أَخَيْرٌ أَمْ شَرٌّ، وَلَا تَدْرِي يَا ابْنَ آدَمَ مَتَى تَمُوتُ؟ لَعَلَّكَ الْمَيِّتُ غَدًا، لَعَلَّكَ الْمُصَابُ غَدًا، ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يَدْرِي أَيْنَ مَضْجَعُهُ مِنَ الْأَرْضِ، أَفِي بَحْرٍ أَمْ بَرٍّ، أَوْ سَهْلٍ أَوْ جَبَلٍ؟
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِذَا أَرَادَ اللَّهُ قبض عبد بأرض، جعل له إليها حاجة"، فَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ، فِي مُسْنَدِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ:
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ أُسَامَةَ (٥) بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا جَعَلَ اللَّهُ ميتَة (٦) عَبْدٍ بِأَرْضٍ إِلَّا جَعَلَ لَهُ فِيهَا حَاجَةً" (٧).
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو داود الحَفَريّ، عن
(٢) زيادة من ت، ف، أ.
(٣) في أ: "وهن".
(٤) تفسير الطبري (٢١/٥٦).
(٥) في ت: "فروى أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِيرِ فِي مسند أسامة".
(٦) في ت، ف، أ: "منية".
(٧) المعجم الكبير (١/١٧٨) وقال الهيثمي في المجمع (٧/١٩٦) "ورجاله رجال الصحيح" وفيها: "منية" بدل "ميتة".
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي "الْقَدَرِ"، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، بِهِ (٢). ثُمَّ قَالَ: "حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَلَا يُعْرَفُ لِمَطَرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي "الْمَرَاسِيلِ"، (٣) فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ (٤) عَنْ أَبِي عَزَّةَ (٥) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إذا أَرَادَ اللَّهُ قَبْضَ رُوحِ عَبْدٍ بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ فِيهَا -أَوْ قَالَ: بِهَا -حَاجَةً".
وَأَبُو عَزَّةَ هَذَا هُوَ: يَسَار (٦) بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَيُقَالُ: ابْنُ عَبْدٍ الهُذَلي.
وَأَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ [بْنِ إِبْرَاهِيمَ -وَهُوَ ابْنُ عُلَيّة (٧)، وَقَالَ: صَحِيحٌ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِصَامٍ الْأَصْفَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ] (٨)، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ أَبِي عَزَّةَ الْهُذَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: "إذا أراد الله قبض عبد بأرض، جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً، فَلَمْ يَنْتَهِ حَتَّى يَقْدُمَهَا". ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (٩).
حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ ثَابِتٍ الجَحْدَري وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى القُطَعي قَالَا حَدَّثَنَا عُمَر بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "إذا أراد الله قبض عبد بِأَرْضٍ جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً". ثُمَّ قَالَ الْبَزَّارُ: وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُ أَحَدًا يَرْفَعُهُ إِلَّا عُمَر بْنَ عَلِيٍّ المُقَدميّ. (١٠) وَقَالَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي مَسِيحٍ (١١) قَالَ: أَنْشَدَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَكَمِ لِأَعْشَى هَمْدان:
فَمَا تَزَوّدَ ممَّا كَانَ يَجْمَعُه... سِوَى حَنُوط غَدَاةَ البَيْن مَع خرَق...
وَغَيْرِ نَفْحة أعْوَاد تُشَبّ لَُه... وَقلّ ذَلكَ مِنْ زَاد لمُنْطَلق!...
لَا تَأسَيَنّ عَلَى شَيْء فَكُلّ فَتَى | إلَى مَنيّته سَيَّارُ فِي عَنَق (١٢) |
(٢) زوائد المسند (٥/٢٢٧) وسنن الترمذي برقم (٢١٤٦).
(٣) لم أجده في المطبوع من المراسيل.
(٤) في ت: "وروى الإمام أحمد".
(٥) في أ: "عن أبي عزة الهذلي".
(٦) في ف: "بشار".
(٧) المسند (٣/٤٢٩) وسنن الترمذي برقم (٢١٤٧).
(٨) زيادة من ت، ف، أ.
(٩) ورواه الطبراني في الأوسط برقم (٣٢٤٨) "مجمع البحرين" من طريق عباد بن صهيب، عن عبيد الله بن أبي حميد به، وعباد ابن صهيب متروك.
(١٠) ورواه الحاكم في المستدرك (١/٣٦٧) من طريق محمد بن خالد الوهبي، عن إسماعيل بن أبي خالد بنحوه.
(١١) في ت، ف، أ: "شيخ".
(١٢) في ت: "يسير في غنق".
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ ثَابِتٍ وعُمَر بْنِ شَبَّة، كِلَاهُمَا عَنْ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ (٢) مَرْفُوعًا: "إِذَا كَانَ أَجَلُ أَحَدِكُمْ بِأَرْضٍ أوثَبَتْه (٣) إِلَيْهَا حَاجَةٌ، فَإِذَا بَلَغَ أَقْصَى أَثَرَهُ (٤)، قَبَضَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَتَقُولُ الْأَرْضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَبِّ، هَذَا مَا أَوْدَعْتَنِي" (٥).
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ، عَنْ أُسَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا جَعَلَ اللَّهُ مَنِيَّةَ عَبْدٍ بِأَرْضٍ، إِلَّا جَعَلَ لَهُ إِلَيْهَا حَاجَةً" (٦).
[آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "لُقْمَانَ" وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وهو حسبنا ونعم الوكيل] (٧)
(٢) في ت، ف: "عكرمة".
(٣) في ف: "أتت".
(٤) في ت، ف: "أمره".
(٥) سنن ابن ماجه برقم (٤٢٦٣) وقال البوصيري في الزوائد (٢/٢٦٤) :"هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات". والكلام هنا متعلق برواية البزار ولم أستسغ تقديمها؛ لورودها هكذا في النسخ.
(٦) المعجم الكبير (١/١٧٨) وقد مر ذكره.
(٧) زيادة من ت، ف، أ.