تفسير سورة لقمان

نظم الدرر
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة لقمان عليه الصلاة والسلام١
مقصودها إثبات الحكمة للكتاب اللازم منه حكمة منزله سبحانه في أقواله وأفعاله، وقصة لقمان المسمى به٢ السورة دليل واضح على ذلك كأنه٣ سبحانه لما أكمل ما أراد من أول القرآن إلى آخر براءة التي هي سورة غزو الروم، وكان سبحانه قد ابتدأ القرآن [ بعد أم القرآن ٤ ] بنفي الريب عن هذا الكتاب، وأنه هدى للمتقين، واستدل على ذلك فيما تبعها من السور، ثم ابتدأ سورة٥ يونس بعد سورة غزو٦ الروم بإثبات حكمته، وأتبع ذلك دليله إلى ختم سورة الروم، ابتدأ دورا جديدا على وجه أضخم من الأول، فوصفه في أول هذه التالية للروم بما وصفه به في يونس التالية لغزو الروم، وذلك الوصف هو الحكمة وزاد أنه هدى وهداية للمحسنين، فهؤلاء أصحاب النهايات، والمتقون أصحاب البدايات.
ولما أثبت في آل عمران أنه أنزل بالحق، أثبتت في السجدة تنزيله ونفي الريب عن أنه من عنده، وأثبت أنه الحق، واستمر فيما بعد هذا من السور مناظراً في الأغلب لما مضى كما يعرف ذلك بالإمعان في التذكر والتأمل والتدبر :﴿ بسم الله ﴾ الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً ﴿ الرحمن ﴾ الذي بث٧ بعموم حكمته٨ شامل نعمته في سائر بريته ﴿ الرحيم * ﴾ الذي أنار لخاصته طريق جنته، فداموا ٩وهاموا١٠ في محبته.
١ الحادية والثلاثون من سورة القرآن، وعدد آيها ثلاث وثلاثون في المكي والمدني وأربع وثلاثون في عدد الباقين ـ كما في روح المعاني ٦/٤٦١..
٢ في مد: بها..
٣ سقط من ظ..
٤ زيد من ظ وم ومد..
٥ سقط من ظ وم ومد..
٦ من ظ وم ومد، وفي الأصل: غزوة..
٧ في ظ: ثبت..
٨ زيدت الواو في الأصل، ولم تكن في ظ وم ومد فحذفناها..
٩ في ظ وم ومد: فهاموا..
١٠ في ظ وم ومد: فهاموا..

ولما أثبت في آل عمران أنه أنزل بالحق، أثبتت في السجدة تنزيله ونفي الريب عن أنه من عنده، وأثبت أنه الحق، واستمر فيما بعد هذا من السور مناظراً في الأغلب لما مضى كما يعرف ذلك بالإمعان في التذكر والتأمل والتدبر: ﴿بسم الله﴾ الذي وسع رحمة وعلماً
140
﴿الرحمن﴾ الذي بث بعموم حكمته شامل نعمته في سائر بريته ﴿الرحيم *﴾ الذي أنار لخاصته طريق جنته، فداموا وهاموا في محبته.
لما ختمت الروم بالحث على العلم، وهو ما تضمنه هذا الكتاب العظيم، والأمر بالصبر والتمسك بما فيه من وعد، والنهي عن الإطماع لأهل الاستخفاف في المقاربة لهم في شيء من الأوصاف، وكان ذلك هو الحكمة، قال أول هذه: ﴿آلم﴾ مشيراً بها إلى أن الله الملك الأعلى القيوم أرسل - لأنه ظاهر مع أن الباطن - جبرائيل عليه السلام إلا محمد عليه الصلاة والسلام بوحي ناطق من الحكم والأحكام بما لم ينطق به من قبله إمام، ولا يلحقه في ذلك شيء مدى الأيام، فهو المبدأ وهو الختام، وإلى ذلك أو ما تعبيره بإداة البعد في قوله: ﴿تلك﴾ أي الآيات التي هي من العلو والعظمة بمكان لا يناله إلا من جاهد نفسه حتى هذبها بالتخلي عن جميع الرذائل، والتحلي بسائر الفضائل ﴿آيات الكتاب﴾ الجامع لجميع أنواع الخير ﴿الحكيم﴾ بوضع الأشياء في حواق مراتبها فلا يستطاع نقض شيء من إبرامه، ولا معارضة شيء ومن كلامه، الدال ذلك على تمام علم منزله وخبرته، وشمول عظمته وقدرته، ودقيق صنائعه
141
في بديع حكمته، فلا بد من نصر المؤمنين ومن داناهم في التمسك بكتاب له أصل من عند الله.
وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير: لما تكرر الأمر بالاعتبار والحض عليه والتنبيه بعجائب المخلوقات في سورة الروم كقوله سبحانه: ﴿أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق﴾ [الروم: ٨] وقوله: ﴿أو لم يسيروا في الأرض﴾ [الروم: ٩] وقوله: ﴿الله يبدؤا الخلق ثم يعيده﴾ [الروم: ١١] وقوله: ﴿يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي﴾ [الروم: ١٩] إلى قوله: ﴿كذلك نفصل الآيات لقوم يعقلون﴾ [الروم: ٢٨] وهي عشر آيات تحملت من جليل الاعتبار والتنبيه ما لا يبقى معه شبهة ولا توقف لمن وفق إلى ما بعد هذا من آيات التنبيه وبسط الدلائل وذكر ما فطر عليه العباد وضرب الأمثال الموضحة سواء السبيل لمن عقل معانيها وتدبر حكمها إلى قوله: ﴿ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل﴾ [الروم: ٥٨] وهي إشارة إلى ما أودع الله كتابه المبين من مختلف الأمثال وشتى العظات وما تحملت هذه السورة من ذلك، أتبع سبحانه ذلك بقوله الحق: ﴿الم تلك آيات الكتاب الحكيم﴾ أي دلائله وبراهينه لمن وفق وسبقت له الحسنى وهو المحسنون الذين ذكرهم بعد، ووصف الكتاب بالحكيم يشهد لما مهدناه، ثم أشار سبحانه إلى من حرم منفعته والاعتبار به، واستبدل الضلالة بالهدى، وتنكب عن سنن
142
فطرة الله التي فطر الناس عليها فقال: ﴿ومن الناس من يشتري لهو الحديث﴾ - الآيات، ثم أتبع ذلك بما يبكت كل معاند، ويقطع بكل جاحد، فذكر خلق السماوات بغير عمد مرئية مشاهدة لا يمكن في أمرها امتراء، ثم ذكر خلق الأرض وما أودع فيها، ثم قال سبحانه ﴿هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه﴾ ثم اتبع ذلك بذكر من هداه سبيل الفطرة فلم تزغ به الشبه ولا تنكب سواء السبيل فقال: ﴿ولقد آتينا لقمان الحكمة﴾ - الآية، لتأسيس من اتبع فطرة الله التي تقدم ذكرها في سورة الروم، ثم تناسق الكلام وتناسج - انتهى.
ولما كان الإحسان ما دعت إليه سورة الروم من الإيمان بلقاء الله، منزهاً عن شوائب النقص، موصوفاً بأوصاف الكمال، معبوداً بما شرعه على وجه الإخلاص، والانقياد مع الدليل كيفما توجه، والدوران معه كيفما دار، وكان ذلك هو عين الحكمة، قال تعالى: ﴿هدى﴾ أي حال كونها أو كونه بياناً متقناً ﴿ورحمة﴾ أي حاملاً على القيام بكل ما دعا إليه، والتقدير على قراءة حمزة بالرفع: هي أو
143
هو، وقال: ﴿للمحسنين﴾ إشارة إلى أن من حكمته أنه خاص في هذا الكمال وضعاً للشيء في محله بهذا الصنف، وهم الذين لزموا التقوى فأدتهم إلى الإحسان، وهو عبادته تعالى على المكاشفة والمراقبة فهي له أو هو لها آخر، ثم وصفهم في سياق الرحمة والحكمة والبيان بالعدل بياناً لهم بما دعت إليه سورة الروم من كمال الإحسان في معاملة الحق والخلق اعتقاداً وعملاً فقال: ﴿الذين يقيمون الصلاة﴾ أي يجعلونها كأنها قائمة بفعلها بسبب إتقان جميع ما آمر بعد فيها وندب إليه، وتوقفت بوجه عليه، على سبيل التجديد في الأوقات المناسبة لها والاستمرار، ولم يدع إلى التعبير بالوصف كالمقيمين داع ليدل على الرسوخ لأن المحسن هو الراسخ في الدين رسوخاً جعله كأنه يرى المعبود ودخل فيها الحج لأنه لا يعظم البيت في كل يوم خمس رات إلا معظم له بالحج فعلاً او قوة ﴿ويؤتون الزكاة﴾ أي كلها فدخل فيها الصوم لأنه لا يؤدي زكاة الفطر إلا من صامه قوة أو فعلاً.
ولما كان الإيمان أساس هذه الأركان، وكان الإيمان بالبعث جامعاً لجميع أنواعه، وحاملاً على سائر وجوه الإحسان، وكان قد ختم الروم بالإعراض أصلاً عمن ليس فيه أهلية الإيقان، قال: ﴿وهم﴾ أي خاصة
144
لكمالهم فيما دخلوا فيه من هذه المعاني ﴿بالآخرة﴾ التي تقدم أن المجرمين عنها غافلون ﴿هم يوقنون﴾ أي مؤمنون بها إيمان موقن فهم لا يفعل شيئاً الإيمان بها، ولا يغفل عنها طرفة عين، فهو في الذروة العليا من ذلك، فهو يعبد الله كأنه يراه، فآية البقرة بداية. وهذه نهاية.
145
ولما كانت هذه الخلال أمهات الأفعال، الموجبة للكمال، وكانت مساوية من وجه لآية البقرة ختمها بختامها، بعد أن زمها بزمامها، فقال: ﴿أولئك﴾ أي العالوا الرتبة الحائزون منازل القربة أعظم رتبة ﴿على هدى﴾ أي عظيم هم متمكنون منه تمكن المستعلي على الشيء، وقال: ﴿من ربهم﴾ تذكيرا لهم بأنه لولا إحسانه ما وصلوا إلى شيء. ليلزموا تمريغ الجباه على الأعتاب، خوفاً من الإعجاب ﴿وأولئك هم﴾ أي خاصة ﴿المفلحون *﴾ أي الظافرون بكل مراد.
ولما كان فطم النفس عن الشهوات. أعظم هدى قائد إلى حصول المرادات، وكان اتباعها الشهوات أعظم قاطع عن الكمالات، وكان في ختام الروم أن من وقف مع الموهومات عن طلب
145
المعلومات مطبوع على قلبه، وكان ما دعا إليه الكتاب هو الحكمة التي نتيجتها الفوز، وما دعا إليه اللهو هو السفه المضاد للحكمة، بوضع الأشياء في غير مواضعها، المثمر للعطب، قال تعالى معجباً ممن يترك الجد إلى اللهو، ويعدل عن جوهر العلم إلى صدق السهو، عاطفاً على ما تقديره: فمن الناس من يتحلى بهذا الحال فيرقى إلى حلبة أهل الكمال: ﴿ومن﴾ ويمكن أن يكون حالاً من فاعل الإشارة. أي أشير إلى آيات الكتاب الحكيم حال كونه هدى لمن ذكر والحال أن من ﴿الناس﴾ الذين هم في أدنى رتبة الإحساس، لم يصلوا إلى رتبة أهل الإيمان، فضلاً عن مقام أولي الإحسان.
ولما كان التقدير: من يسير بغير هذا السير، فيقطع نفسه عن كل خير، عبر عنه بقوله: ﴿من يشتري﴾ أي غير مهتد بالكتاب ولا مرحوم به ﴿لهو الحديث﴾ أي ما يلهي من الأشياء المتجددة التي تستلذ فيقطع بها الزمان من الغناء والمضحكات وكل شيء لا اعتبار فيه، فيوصل النفس بما أوصلها إليه من اللذة إلى مجرد الطبع
146
البهيمي فيدعوها إلى العبث من اللعب كالرقص ونحوه مجتهداً في ذلك معملاً الخيل في تحصيله باشتراء سببه، معرضاً عن اقتناص العلوم وتهذيب النفس بها عن الهموم والغموم، فينزل إلى أسفل سافلين كما علا الذي قبله بالحكمة إلى أعلى عليين - قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في رجل اشترى جارية تغنيه ليلاً ونهاراً، وقال مجاهد: في شرى القيان والمغنين والمغنيات، وقال ابن مسعود: اللهو الغناء، وكذا قال ابن عباس وغيره.
ولما كان من المعلوم أن عاقبة هذه الملاهي الضلال، بانهماك النفس في ذلك، لما طبعت عليه من الشهوة لمطلق البطالة، فكيف مع ما يثير ذلك ويدعو إليه من اللذاذة، فتصير أسيرة الغفلة عن الذكر، وقبيلة الإعراض عن الفكر، وكان المخاطب بهذا الكتاب قوماً يدعون العقول الفائقة، والأذهان الصافية الرائقة قال تعالى: ﴿ليضل﴾ من الضلال والإضلال على القراءتين، ضد ما كان عليه المحسنون من الهدى
147
﴿عن سبيل الله﴾ أي الطريق الواضح الواسع الموصل إلى رضى الملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال والجلال والجمال التي هم مقرّون بكثير منها، منبهاً لهم على أن هذا مضل عن السبيل ولا بد، وأن ذلك بحيث لا يخفى عليهم، فإن كان مقصوداً لهم فهو ما لا يقصده من له عداد البشر، وإلا كانوا من الغفلة سوء النظر وعمى البصيرة بمنزلة هي دون ذلك بمراحل.
ولما كان المراد: من قصد الضلال عن الشيء، ترك ذلك الشيء، وكان العاقل لا يقدم على ترك شيء إلا وهو عالم بأنه لا خير فيه قال: ﴿بغير علم﴾ ونكره ليفيد السلب العام لكل نوع من أنواع العلم، أي لأنهم لا علم لهم بشيء من حال السبيل ولا حال غيرها، علماً يستحق إطلاق العلم عليه بكونه يفيد ربحاً أو يبقى على رأس مال من دين أو دنيا، فإن هذا حال من استبدل الباطل بالحق والضلال بالهدى.
ولما كان المستهزئ بالشيء المحتقر له لا يتمكن من ذلك إلا بعد الخبرة التامة بحال ذلك الشيء وأنه لا يصلح لصالحه ولا يروج له حال بحال قال معجباً تعجيباً آخر أشد من الأول بالنصب عطفاً على «يضل»
148
في قراءة حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، وبالرفع للباقين عطفاً على ﴿يشتري﴾ :﴿ويتخذها﴾ أي يكلف نفسه ضد ما تدعوه إليه فطرته الأولى أن يأخذ السبيل التي لا أشرف منها مع ما ثبت له من الجهل الطلق ﴿هزواً﴾.
ولما أنتج له هذا الفعل الشقاء الدائم. بينه بقوله، جامعاً حملاً على معنى «من» بعد أن أفرد حملاً على لفظها، لأن الجمع في مقام الجزاء أهول، والتعجيب من الواحد أبلغ ﴿أولئك﴾ أي الأغبياء البعيدون عن رتبة الإنسان، وتهكم بهم التعبير باللام الموضوعة لما يلائم فقال: ﴿لهم عذاب مهين *﴾ أي يثبت لهم الخزي الدائم ضد ما كان للمحسنين من الرحمة.
ولما كان الإنسان قد يكون غافلاً، فإذا نبه انتبه، دل سبحانه على أن هذا الإنسان المنهمك في أسباب الخسران لا يزداد على مر الزمان إلا مفاجأة لكل ما يرد عليه من البيان بالبغي والطغيان، فقال مفرداً للضمير حملاً على اللفظ أيضاً لئلا يتعلق متمحل بأن المذموم إنما هو الجمع صارفاً الكلام إلى مظهر العظمة لما اقتضاه الحال من الترهيب:
149
﴿وإذا تتلى عليه آياتنا﴾ أي يتجدد عليه تلاوة ذلك مع ما له من العظمة من أيّ تال كان وإن عظم ﴿ولى﴾ أي بعد السماع، مطلق التولي سواء كان على حالة المجانبة أو مدبراً ﴿مستكبراً﴾ أي حال كونه طالباً موجداً له بالإعراض عن الطاعة تصديقاً لقولنا آخر تلك ﴿ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون﴾ [الروم: ٥٨].
ولما كان السامع لآياته سبحانه جديراً بأن تكسبه رقة وتواضعاً، قال تعالى دالاً على أن هذا الشقي كان حاله عند سماعه وبعده كما كان قبل: ﴿كأن﴾ أي كأنه، أي مشبهاً حالة بعد السماع حاله حين ﴿لم يسمعها﴾ فدل ذلك على أنه لم يزل على حالة الكبر لآنه شبه حاله مع السماع بحاله مع عدم السماع، وقد بين أن حاله مع السماع الاستكبار فكان حاله قبل السماع كذلك.
ولما كان من لم يسمع الشيء قد يكون قابلاً للسمع، فإذا كلم من قد جرت العادة بأن يسمع منه سمع، بين أن حال هذا كما كان مساوياً لما قبل التلاوة فهو مساو لما بعدها، لأن سمعه مشابه لمن به صم، فالمضارع في «يتلى» مفهم لأن الحال في الاستقبال كهي في الحال فقال تعالى: ﴿كأن في أذنيه وقراً﴾ أي صمماً يستوي معه تكليم غيره له وسكوته.
150
ولما تسبب عن ذلك استحقاقه لما يزيل نخوته وكبره وعظمته، وكان استمرار الألم أعظم كاسرٍ لذوي الشمم، وكان من طبع الإنسان الاهتزاز لوعد الإحسان كائناً من كان نوع اهتزاز قال: ﴿فبشره﴾ فلما كان جديراً بأن يقبل - لا يولّي لظنه البشري - على حقيقتها لأن من يعلم أنه أهل للعذاب بأفعاله الصعاب لا يزال يتوالى عليه النعم مرة بعد مرة حتى يظن أو يكاد يقطع بأن المعاصي سبب لذلك وأنه - لما كان عند الله من عظيم المنزلة - لا يكره منه عمل من الأعمال، قرعة بقوله: ﴿بعذاب﴾ أي عقاب مستمر ﴿أليم *﴾.
ولما كانت معرفة ما لأحد الجزءين باعثة على السؤال عما للحزب الآخر، وكانت إجابة السؤال عن ذلك من أتم الحكمة، استأنف تعالى قوله مؤكداً لأجل إنكار الكفرة: ﴿إن الذين آمنوا﴾ أو اوجدوا الإيمان ﴿وعملوا﴾ أي تصديقاً له ﴿الصالحات﴾ وضعاً للشيء في محله عملاً بالحكمة ﴿لهم جنات﴾ أي بساتين ﴿النعيم﴾ فأفاد سبحانه بإضافتها إليه أنه لا كدر فيها أصلاً ولا شيء غير النعيم. ولما كان ذلك قد لا يكون دائماً. وكان لا سرور بشيء منقطع قال: ﴿خالدين فيها﴾ أي دائماً.
ولما كانت الثقة بالوعد على قدر الثقة بالواعد، وكان إنجاز الوعد
151
من الحكمة، قال مؤكداً لمضمون الوعد بالجنات: ﴿وعد الله﴾ الذي لا شيء أجل منه؛ فلا وعد أصدق من وعده، ثم أكده بقوله: ﴿حقاً﴾ أي ثابتاً ثباتاً لا شيء مثله، لأنه وعد من لا شيء مثله ولا كفوء له.
ولما كان النفس الغريب جديراً بالتأكيد، أتى بصفتين مما أفهمه الإتيان بالجلالة تصريحاً بهما تأكيداً لأن هذا لا بد منه فقال: ﴿وهو﴾ أي وعد بذلك والحال أنه ﴿العزيز﴾ فلا يغلبه شيء ﴿الحكيم*﴾ أي المحكم لما يقوله ويفعله، فلا يستطاع نقضه ولا نقصه.
ولما ختم بصفتي العزة - وهي غاية القدرة - والحكمة - وهي ثمرة العلم - دل عليها باتقان أفعاله وإحكامها فقال: ﴿خلق السماوات﴾ أي على علوها وكبرها وضخامتها ﴿بغير عمد﴾ وقوله: ﴿ترونها﴾ دال على الحكمة، إن قلنا إنه صفة لعمد أو استئناف، إما أن قلنا بالثاني فلكون مثل هذا الخلق الكبير الواسع يحمل بمحض القدرة، وإن قلنا بالأول فتركيب مثله على عمد تكون في العادة حاملة له وهي مع ذلك بحيث لا ترى أدخل في الحكمة وأدق في اللطافة والعظمة، لأنه
152
يحتاج إلى عملين: تخفيف الكثيف وتقوية اللطيف.
ولما ذكر العمد المقلة، اتبعه الأوتاد المقرة فقال: ﴿وألقى في الأرض﴾ أي التي أنتم عليها، جبالاً ﴿رواسي﴾ والعجب من فوقها وجميع الرواسي التي تعرفونها تكون من تحت، تثبتها عن ﴿أن تميد﴾ أي تتمايل مضطربة ﴿بكم﴾ كما هو شأن ما على ظهر الماء.
ولا ذكر إيجادها وإصلاحها للاستقرار. ذكر ما خلقت له من الحيوان فقال: ﴿وبث فيها﴾ أي فرق ﴿من كل دابة﴾ ولما ذكر ذلك ذكر ما يعيش به، فقال منبهاً لمظهر العظمة على أن ذلك وإن كان لهم في بعضه تسبب لا يقدر عليه إلا هو سبحانه: ﴿وأنزلنا﴾ أي بما لنا من العزة اللازمة للقدرة، وقدم ما لا قدرة لمخلوق عليه بوجه فقال: ﴿من السماء ماء﴾ ولما تسبب عن ذلك تدبير الأقوات، وكان من آثار الحكمة التابعة للعمل، دل عليه بقوله: ﴿فأنبتنا﴾ أي بما لنا من العلو في الحكمة ﴿فيها﴾ أي الأرض بخلط الماء بترابها ﴿من كل زوج﴾ أي صنف من النبات متشابه ﴿كريم*﴾ بما له من البهجة والنضرة الجالبة للسرور والمنفعة والكثرة الحافظة لتلك الدواب.
153
ولما ثبت بهذا الخلق العظيم على هذا الوجه المحكم عزته وحكمته، ثبتت ألوهيته فألزمهم وجوب توحيده في العبادة كما توحد بالخلق،
153
لأن ذلك عين الحكمة، كما كان خلقه لهذا الخلق على هذا النظام ليدل عليه سبحانه سر الحكمة، فقال ملقناً للمحسنين من حزبه ما ينبهون به المخالفين موبخاً لهم مقبحاً لحالهم في عدو لهم عنه مع علمهم بما له من التفرد بهذه الصنائع: ﴿هذا﴾ أي الذي تشاهدونه كله ﴿خلق الله﴾ أي الذي له جميع العظمة فلا كفوء له.
ولما كان العاقل بل وغيره لا ينقاد لشيء إلا أن رأى له فعلاً يوجب الانقياد له، نبه على ذلك بقوله جواباً لما تقديره: فإن ادعيتم لما دونه مما عبدتموه من دونه خلقاً عبدتموه لأجله: ﴿فأروني ماذا خلق الذين﴾ زاد اسم الإشارة زيادة في التقريع بتأكيد النفي المقصود من الكلام، ونبه على سفول رتبتهم بقوله مضمراً لأنه ليس فيما أسند إلى الاسم الأعظم حيثية يخشى من التقييد بها نقص: ﴿من دونه﴾ فسأله في رؤية ما خلقوا غبنه أحد أصلاً بأن انقدتم لما لا ينقاد له حيوان فضلاً عن إنسان بكونه لا فعل له أصلاً، فكان من حقكم - إن كانت لكم عقول - أن تبحثوا اولاً هل لهم أفعال أم لا؟ ثم إذا ثبت فهل هي محكمة أم لا، ثم إذا ثبت فهل شاركهم غيرهم أم لا، وإذا
154
ثبت أن غيرهم شاركهم فأيهما أحكم وأما أنكم تنقادون لهم ولا فعل لهم أصلاً ثم تقدرون أن لهم أفعالاً ترجونهم بها وتخشونهم، فهذا ما لا يتصوره حيوان أصلاً، ولذلك قال تعالى: ﴿بل﴾ منبهاً على أن الجواب: ليس لهم خلق، بل عبدتهم أو أنتم في جعلهم شركاء، هكذا كان الأصل، ولكنه قال: ﴿الظالمون﴾ أي العريقون في الظلم، تعميماً وتنبيهاً على الوصف الذي أوجب لهم كونهم ﴿في ضلال﴾ عظيم جداً محيط بهم ﴿مبين﴾ أي في غاية الوضوح، وهو كونهم يضعون الأشياء عنهم بجبال الهوى فلا حكمة لهم.
ولما ثبتت حكمته سبحانه وأنه أبعدهم عنها بما قضى عليهم من الجهل وغباوة العقل وآتاها من تاب، واعتصم بآيات الكتاب، توقع السامع الإخبار عن بعض من آتاه الحكمة من المتقدمين الذين كانوا من المحسنين، فوضعوا الأشياء في مواضعها بأن آمنوا على قوله: «وهو العزيز الحكيم» أو على مقدر تقديره: لأنا أضللناهم بحكمتنا وآتينا الحكمة الذين قبلوا آياتنا وأحسنوا التعبد لنا فما عبدوا صمناً ولا مالوا إلى لهو، لأن ذلك عين الحكمة لكونه وضعاً للشيء في محله، فهو
155
تقدير لتخصيص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
بالرسالة: ﴿ولقد آتينا﴾ بما لنا من العظمة والحكمة ﴿لقمان﴾ وهو عبد من عبيدنا ﴿الحكمة﴾ وهو العلم المؤيد بالعمل والعمل المحكم بالعلم، وقال الحرالي: هي العلم بالأمر الذي لأجله وجب الحكم، والحكم الحمل على جميع أنواع الصبر والمصابرة ظاهراً بالإيالة العالية، ولا يتم الحكم وتستوي الحكمة إلا بحسب سعة العلم، وقال ابن ميلق: إن مدارها على إصابة الحق والصواب في القول والعمل، ولهذا قال ابن قتيبة: لا يقال لشخص حكيماً حتى تجتمع له الحكمة في القول والفعل، قال: ولا يسمى المتكلم بالحكمة حكيماً حتى يكون عاملاً بها - انتهى.
ومن بليغ حكمته ما أسنده صاحب الفردوس عن ابن عمر رضي الله عنهما ان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «حقاً أقول! لم يكن لقمان نبياً، ولكن كان عبداً ضمضامة كثير التفكر حسن اليقين، أحب الله فأحبه، فمنّ عليه بالحكمة، كان نائماً نصف النهار إذ جاءه نداء، قيل: يا لقمان، هل لك أن يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحق، فأجاب: إن خيرني ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء، وإن عزم عليّ فسمعاً وطاعة، فإني أعلم أنه أن فعل ذلك ربي عصمني وأعانني، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم:
156
لم يا لقمان؟ قال: لأن الحاكم بأشد المنازل وأكدرها، يغشاه الظلم من كل مكان، إذ يعدل فبالحري أن ينجو، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنة، ومن يكن في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفاً، ومن تخير الدنيا على الآخرة تفتنه الدنيا ولا يصيب الآخرة، فعجبت الملائكة من حسن منطقه، فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه يتكلم بها» وفي الفردوس عن مكارم الأخلاق لأبي بكر بن لال عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الحكمة عشرة أجزاء تسعة منها في العزلة وواحد في الصمت»، وقال لقمان: لا مال كصحة ولا نعيم كطيب نفس، وقال: ضرب الوالد لولده كالسماء للزرع، وقيل له: أيّ الناس شر؟ قال: الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً، وقيل له: ما أقبح وجهك! فقال: تعيب النقش أو النقاش، وقال البغوي: إنه قيل له: لم بلغت ما بلغت؟ قال: بصدق الحديث وأداء الأمانة وترك ما لا يعنيني - انتهى. فهو سبحانه من حكمته وحكمه أن يرفع ما يشاء بما يعلمه منه سلامة الطبع وإن كان عبداً فلا يدع أن يختص
157
محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذا النسب العالي والمنصب المنيف في كل خلق شريف بالرسالة من بين قريش وإن لم يكن من أهل الدنيا المتعظمين بها، قال ابن ميلق: من حكمته سبحانه أن يجمع بين أثرى عدله وفضله، وأن يعاقب بينهما في الظهور فيذل ويعز ويفقر ويغني ويسقم ويشفي ويفني ويبقي إلى غير ذلك، فما من سابق عدل إلا له لاحق فضل، ولا سابق فضل إلا له لاحق عدل، غير أن أثر العدل والفضل قد يتعلق بالبواطن خاصة، وقد يتعلق أحدهما بالظاهر والآخر بالباطن، وقد يكون اختلاف تعلقمها في حالة واحدة، وقد يكون على البدل، وعلى قدر تعلق الأثر السابق يكون تعلق الأثر اللاحق.
ولما كانت الحكمة قاضية بذلك، أجرى الله سبحانه آثار عدله على ظواهر أصفيائه دون بواطنهم، ثم عقبت ذلك بإيراد آثار فضله على بواطنهم وظواهرهم حتى صار من قاعدة الحكمة الإلهية تفويض ممالك الأرض للمستضعفين فيها كالنجاشي حيث بيع في صغره، وذلك كثير موجود بالاستقراء، فمن كمال تربية الحكيم لمن يريد إعلاء شأنه أن يجري على ظاهره من أثر العدل ما فيه تكميل لهم وتنوير لمداركهم وتطهير لوجودهم وتهذيب وتأديب - إلى غير ذلك من فؤائد التربية، ومن تتبع أحوال الأكابر من آدم عليه السلام وهلم جراً رأى من حسن
158
بلاء الله سبحانه وتعالى لهم ما يشهد لما قررته بالصحة إن شاء الله تعالى - انتهى.
ولما كانت الحكمة هي الإقبال على الله قال: ﴿أن اشكر﴾ وهو وإن كان تقديره: قلنا له كذا، يؤول إلى «آتيناه الشكر» وصرف الكلام إلى الاسم الأعظم الذي لم يتسم به غيره سبحانه دفعاً للتعنت، ونقلاً عن مظهر العظمة إلى أعظم منها فقال: ﴿لله﴾ بأن وفقناه له بما سببناه له من الأمر به لأن الحكمة في الحقيقة هي القيام بالشكر لا الإيصاء به، ويمكن أن تكون «أن» مصدرية، ويكون التقدير: آتيناه إياها بسبب الشكر، وعبر بفعل الأمر إعلاماً بأن شكره كان لامتثال الأمر ليكون أعلى.
ولما كان التقدير: فبادر وشكر، فما نفع إلا نفسه، كما أنه لو كفر ما ضر إلا نفسه، عطف عليه معرفاً أنه غني عن شكر الشاكرين قوله معبراً بالمضارع الدال على أن من أقبل عليه - في أيّ زمان كان - يلقاه ويكون معروفه له دائماً بدوام العمل: ﴿ومن يشكر﴾ أي يجدد الشكر ويتعاهد به نفسه كائناً من كان ﴿فإنما يشكر﴾ أي يفعل ذلك ﴿لنفسه﴾ أي فإنما ينفع نفسه، فإن الله يزيده من فضله فإن الله
159
شكور مجيد ﴿ومن كفر﴾ فإنما يضر نفسه، وعبر بالماضي إشارة إلى أن من وقع منه كفر ولو مرة جوزي بالإعراض عنه ﴿فإن الله﴾ عبر بالاسم الأعظم لأنه في سياق الحكمة، والحكيم من أدام استحضار صفات الجلال والجمال فغلب خوفه رجاءه ما دام في دار الأكدار ﴿غني﴾ عن الشكر وغيره ﴿حميد *﴾ أي له جميع المحامد وإن كفره جميع الخلائق، فإن تقدير الكفر عليهم بحيث لا يقدرون على الانفكاك عنه من جملة محامدة بالقدرة والعزة والفهم والعظمة. ويجوز - وهو أقرب - أن يعود «غني» إلى الكافر و «حميد» إلى الشاكر، فيكون اسم فاعل، فيكون التقدير: ومن كفر فإنما يكفر على نفسه، ثم سبب عن الجملتين وهما كون عمل كل من الشاكر والكافر لا يتعداه قوله «فإن الله غني» أي عن شكر الكافر «حميد» للشاكر، والآية على الأول من الاحتباك: تخصيص الشكر بالنفس أولاً يدل على حذف مثله من الكفر ثانيا، وإثبات الصفتين يدل على حذف مثلهما أولاً.
160
ولما كان الإنسان لا يعرف حكمة الحكيم إلا بأقواله وأفعاله، ولا صدق الكلام وحكمته إلا بمطابقته للواقع، فكان التقدير: اذكر ما وصفنا به لقمان لتنزل عليه ما تسمع من أحواله وأفعاله في توفية حق الله وحق الخلق الذي هو مدار الحكمة، عطف عليه قوله: ﴿وإذ﴾
160
أي واذكر بقلبك لتتعظ وبلسانك لتعظ غيرك - بما أنك رسول - ما كان حين ﴿قال لقمان لابنه﴾ ما يدل على شكره في نفسه وامره به لغيره فإنه لا شكر يعدل البراءة من الشرك، وفيه حث على التخلق بما مدح به لقمان بما يحمل على الصبر والشكر والمداومة على كل خير، وعلى تأديب الولد، بسوق الكلام على وجه يدل على تكرير وعظه فقال: ﴿وهو يعظه﴾ أي يوصيه بما ينفعه ويرقق قلبه ويهذب نفسه، ويوجب له الخشية والعدل.
ولما كان أصل توفية حق الحق تصحيح الاعتقاد وإصلاح العمل، وكان الأول أهم، قدمه فقال: ﴿يا بني﴾ فخاطبه بأحب ما يخاطب به، مع إظهار الترحم والتحنن والشفقة، ليكون ذلك أدعى لقبول النصح ﴿لا تشرك﴾ أي لا توقع الشرك لا جليا ولا خفياً، ولما كان في تصغيره الإشفاق عليه، زاد ذلك بإبراز الاسم الأعظم الموجب لاستحضار جميع الجلال، تحقيقاً لمزيد الإشفاق. فقال: ﴿بالله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له، ثم علل هذا النهي بقوله: ﴿إن الشرك﴾ اي بنوعيه ﴿لظلم عظيم*﴾ أي فهو ضد الحكمة، لأنه وضع الشيء في غير محله، فظلمه ظاهر من جهات عديدة جداً، أظهرها أنه تسوية المملوك الذي ليس له من ذاته إلا العدم نعمة منه أصلاً بالمالك الذي له وجوب
161
الوجود، فلا خير ولا نعمة إلا منه، وفي هذا تنبيه لقريش وكل سامع على أن هذه وصية لا يعدل عنها، لأنها من أب حكيم لابن محنو عليه محبوب، وأن آباءهم لو كانوا حكماء ما فعلوا إلا ذلك، لأنه يترتب عليها ما عليه مدار النعم الظاهرة والباطنة الدينية والدنيوية، العاجلة والآجلة، وهو الأمن والهداية ﴿الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون﴾ [الأنعام: ٨٢] فإنه لما نزلت تلك الآية كما هو صحيح البخاري في غير موضع عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه شق ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقالوا: أيّنا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنه ليس بذاك، ألم تسمع إلى قول لقمان ﴿إن الشر لظلم عظيم﴾ ».
ولما ذكر سبحانه وتعالى ما أوصى به ولده من شكر المنعم الأول الذي لم يشركه في إيجاده أحد، وذكر ما عليه الشرك من الفظاعة والشناعة والبشاعة، أتبعه سبحانه وصيته للولد بالوالد لكونه المنعم الثاني المتفرد سبحانه بكونه جعله سبب وجود الولد اعترافاً بالحق
162
وإن صغر لأهله وإيذاناً بأنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس، وتفخيماً لحق الوالدين، لكونه قرن عقوقهما بالشرك، وإعلاماً بأن الوفاء شيء واحد متى نقص شيء منه تداعى سائره كما في الفردوس عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
«لو أن العبد لقي الله بكمال ما افترض عليه ما خلا بر الوالدين ما دخل الجنة، وإن بر الوالدين لنظام التوحيد والصلاة والذكر» ولذلك لفت الكلام إلى مظهر العظمة ترهيباً من العقوق ورفعاً لما لعله يتوهم من أن الانفصال عن الشرك لا يكون إلا بالإعراض عن جميع الخلق.
ولما قد يخيله الشيطان من أن التقيد بطاعة الوالد شرك، مضمناً تلك الوصية إجادة لقمان عليه السلام في تحسين الشرك وتقبيح الشرك لموافقته لأمر رب العالمين، وإيجاب امتثال ابنه لأمره، فقال مبيناً حقه وحق كل والد غيره، ومعرفاً قباحة من أمر ابنه بالشرك لكونه منافياً للحكمة التي أبانها لقمان عليه السلام، وتحريم امتثال الابن لذلك ووجوب مخالفته لأبيه فيه تقديماً لأعظم الحقين، وارتكاباً لأخف الضررين: ﴿ووصينا﴾ أي قال لقمان ذلك لولده نصحاً له والحال
163
أنا بعظمتنا وصينا ولده به بنحو ما أوصاه به في حقنا - هكذا كان الأصل، ولكنه عبر بما يشمل غيره فقال: ﴿الإنسان﴾ أي هذا النوع على لسان أول نبي أرسلنا وهلم جراً وبما ركزناه في كل فطرة من أنه ما جزاء الإحسان إلا الإحسان ﴿بوالديه﴾ فكأنه قال: إن لقمان عرف نعمتنا عليه وعلى أبناء نوعه لوصيتنا لأولادهم بهم فشكرنا ولقن عنا نهيهم بذلك عن الشرك لأنه كفران لنعمة المنعم، فانتهى في نفسه ونهى ولده، فكان بذلك حكيماً.
ولما كانت الأم في مقام الاحتقار لما للأب من العظمة بالقوة والعقل والكد عليها وعلى ولدها، نوه بها ونبه على ما يختص به من أسباب وجود الولد وبقائه عن الأب مما حصل لها من المشقة بسببه وما لها إليه من التربية. فقال معللاً أو مستأنفاً: ﴿حملته أمه وهناً﴾ أي حال كونها ذات وهن تحمله في أحشائها، وبالغ بجعلها نفس الفعل دلالة على شدة ذلك الضعف بتضاعفه كلما أثقلت ﴿على وهن﴾ أي هو قائم بها من نفس خلقها وتركيبها إلى ما يزيدها التمادي بالحمل، ثم أشار إلى ما لها عليه من المنة بالشفقة وحسن الكفالة وهو لا يملك
164
لنفسه شيئاً بقوله: ﴿وفصاله﴾ أي فطامه من الرضاعة بعد وضعه.
ولما كان الوالدان يعدان وجدان الولد من أعظم أسباب الخير والسرور، عبر في أمره بالعام الذي تدور مادته على السعة لذلك وترجية لهما بالعول عليه وتعظيماً لحقهما بالتعبير بما يشير إلى صعوبة ما قاسيا فيه باتساع زمنه فقال: ﴿في عامين﴾ تقاسي فيهما في منامه وقيامه ما لا يعلمه حق علمه إلا لله تعالى، وفي التعبير بالعام أيضاً إشارة إلى تعظيم منتهاه بكونها تعد أيام رضاعه - مع كونها أضعف ما يكون في تربيته - أيام سعة وسرور، والتعبير ب «في» مشيراً إلى أن الوالدين لهما أن يفطماه قبل تمامهما على حسب ما يحتمله حاله، وتدعو إليه المصلحة من أمره.
ولما ذكر الوصية وأشار إلى أمهات أسبابها، ذكر الموصى به فقال مفسراً ل «وصينا» :﴿أن اشكر﴾ ولما كان الشكر منظوراً إليه أتم نظر، قصر فعله، أي أوجد هذه الحقيقة ولتكن من همك. ولما كان لا بد له من متعلق، كان كأنه قال: لمن؟ فقال مقدماً ما هو أساس الموصى به في الوالدين ليكون معتداً به، لافتاً القول إلى ضمير الواحد من غير تعظيم
165
تنصيصاً على المراد: ﴿لي﴾ أي لأني المنعم بالحقيقة ﴿ولوالديك﴾ لكوني جعلتهما سبباً لوجودك والإحسان بتربيتك، وذكر الإنسان بهذا الذكر في سورة الحكمة إشارة إلى أنه أتم الموجودات حكمة قال الرازي في آخر سورة الأحزاب من لوامعه: الموجودات كلها كالشجرة، والإنسان ثمرتها، وهي كالقشور والإنسان لبابها، وكالمبادئ والإنسان كمالها، ومن أين للعالم ما للإنسان؟ بل العالم العلوي فيه، ليس في العالم العلوي ما فيه، فقد جمع ما بين العالمين بنفسه وجسده، واستجمع الكونين بعقله وحسه، وارتفع عن الدرجتين باتصال الأمر الأعلى به وحياً قولياً، وسلم لمن له الخلق والأمر تسليماً اختيارياً طوعياً. ثم علل الأمر بالشكر محذراً فقال: ﴿إليّ﴾ لا إلى غيري ﴿المصير*﴾ أي فأسألك عن ذلك كما كانت منهما البداءة ظاهراً بما جعلت لهما من التسبب في ذلك، فيسألانك عن القيام بحقوقهما وإن قصرت فيها شكواك إلى الناس وأقاما عليك الحجة وأخذا بحقهما.
ولما ذكر سبحانه وصيته بهما وأكد حقهما، أتبعه الدليل على ما ذكر لقمان عليه السلام من قباحة الشرك فقال: ﴿وإن جاهداك﴾ أي مع ما أمرتك به من طاعتهما، وأشار بصيغة المفاعلة إلى مخالفتهما وإن بالغا في الحمل على ذلك ﴿على أن تشرك بي﴾ وأشار بأداة
166
الاستعلاء إلى أنه لا مطمع لمن أطاعهما في ذلك ولو باللفظ فقط أن يكون في عداد المحسنين وإن كان الوالدان في غاية العلو والتمكن من الأسباب الفاتنة له بخلاف سورة العنكبوت فإنها لمطلق الفتنة، وليست لقوة الكفار، فعبر فيها بلام العلة، إشارة إلى مطلق الجهاد الصادق بقويه وضعيفه، ففي الموضعين نوع رمز إلى أنه إن ضعف عنهما أطاع باللسان، ولم يخرجه ذلك عن الإيمان، كما أخرجه هنا عن الوصف بالإحسان، ولذلك حذر في الأية التي بعد تلك من النفاق لأجل الفتنة، وأحال سبحانه على اتباع الأدلة على حكم ما وهب من العقل عدلاً وإنصافاً فقال: ﴿ما ليس لك به علم﴾ إشارة إلى أنه لا يمكن أن يدل علم من أنواع العلوم على شيء من الشرك بنوع من أنواع الدلالات بل العلوم كلها دالة على الوحدانية على الوجه الذي تطابقت عليه العقول، وتظافرت عليه من الأنبياء والرسل النقول، وأما الوجه الذي سماه أهل الإلحاد بمذهب الاتحاد توحيداً فقد كفى في أنه ليس به علم إطباقهم على أنه خارج عن طور العقل، مخالف لكل ما ورد عن الأنبياء من نقل، وإن لبسوا بإدعاء متابعة بعض الآيات كما بينه كتابي الفارض، فلا يمكن أن يتمذهب به أحد إلا بعد الانسلاخ من
167
العقل والتكذيب بالنقل، فلم يناد أحد على نفسه بالإبطال ما نادوا به على أنفسهم ولكن من يضلل الله فما له من هاد.
فلما قرر ذلك على هذا المنوال البديع، قال مسبباً عنه: ﴿فلا تطعهما﴾ أي في ذلك ولو اجتمعا على المجاهدة لك عليه، بل خالفهما، وإن أدى الأمر إلى السيف فجاهدهما به، لأن أمرهما بذلك مناف للحكمة حامل على محض الجور والسفه، ففيه تنبيه لقريش على محض الغلط في التقليد لآبائهم في ذلك.
ولما كان هذا قد يفهم الإعراض عنهما رأساً في كل أمر إذا خالفا في الدين، أشار إلى أنه ليس مطلقاً فقال: ﴿وصاحبهما في الدنيا﴾ أي في أمورها التي لا تتعلق بالدين ما دامت حياتهما.
ولما كان المبنى على النقصان عاجزاً عن الوفاء بجميع الحقوق، خفف عليه بالتنكير في قوله: ﴿معروفاً﴾ أي ببرهما إن كانا على دين يقران عليه ومعاملتهما بالحلم والاحتمال وما يقتضيه مكارم الأخلاق ومعالي الشيم، قال ابن ميلق: ويلوح من هذه المشكاة تعظيم الأشياخ الذين كانوا في العادة سبباً لإيجاد القلوب في دوائر التوحيد العلمية والعملية -
168
يعني ففي سوق هذه الوصية هذا المساق أعظم تنبيه على أن تعظيم الوسائط من الخلق ليس مانعاً من الإخلاص في التوحيد، قال ابن ميلق: ومن هنا زلت أقدام أقوام تعمقوا في دعوى التوحيد حتى أعرضوا عن جانب الوسائط فوقعوا في الكفر من حيث زعموا التوحيد فإن تعظيم المعظم في الشرع تعظيم لحرمات الله، وامتثال لأمر الله، ولعمري إن هذه المزلة ليتعثر بها أتباع إبليس حيث أبى أن يسجد لغير الله، ثم قال ما معناه: وهؤلاء قوم أعرضوا عن تعظيم الوسائط زاعمين الغيرة على مقام التوحيد، وقابلهم قوم أسقطوا الوسائط جملة وقالوا: إنه ليس في الكون إلا هو، وهم أهل الوحدة المطلقة، والكل على ضلال، والحق الاقتصاد والعدل في إثبات الخالق وتوحيده، وتعظيم من أمر بتعظيمه من عبيده.
ولما كان ذلك قد يجر إلى نوع وهن في الدين ببعض محاباة، نفى ذلك بقوله: ﴿واتبع﴾ أي بالغ في أن تتبع ﴿سبيل﴾ أي دين وطريق ﴿من أناب﴾ أي أقبل خاضعاً ﴿إليّ﴾ لم يلتفت إلى عبادة غيري، وهم المخلصون من أبويك وغيرهما، فإن ذلك لا يخرجك عن برهما ولا عن توحيد الله والإخلاص له، وفي هذا حث على معرفة الرجال بالحق، وأمر بحك المشايخ وغيرهم على محك الكتاب والسنة، فمن
169
كان عمله موافقاً لها اتبع، ومن كان عمله مخالفاً لهما اجتنب.
ولما كان التقدير: فإن مرجع أموركم كلها في الدنيا إليّ، عطف عليه قوله: ﴿ثم إليّ﴾ أي في الآخرة، لا إلى غيري مرجعك - هكذا كان الأصل، ولكنه جميع لإرادة التعميم فقال معبراً بالمصدر الميمي الدال على الحدث وزمانه ومكانه: ﴿مرجعكم﴾ حساً ومعنى، فأكشف الحجاب ﴿فأنبئكم﴾ أي أفعل فعل من يبالغ في التنقيب والإخبار عقب ذلك وبسببه، لأن ذلك أنسب شيء للحكمة وإن كان تعقيب كل شيء بحسب ما يليق به ﴿بما كنتم﴾ بما هو لكم كالجبلة ﴿تعملون*﴾ أي تجددون عمله من صغير وكبير، وجليل وحقير، وما كان في جبلاتكم مما لم يبرز إلى الخارج، فأجازي من أريد وأغفر لمن أريد، فأعد لذلك عدته، ولا تعمل عمل من ليس له مرجع يحاسب فيه ويجازي على مثاقيل الذر من أعماله، ولعله عبر عن الحساب بالتنبئة لأن العلم بالعمل سبب للمجازاة عليه أو لأنه جمع القسمين، ومحاسبة السعيد العرض فقط بدلالة التضمن ومحاسبة الشقي بالمطابقية.
170
ولما فرغ من تأكيد ما قاله لقمان عليه السلام في الشكر والشرك فعلم ما أوتي من الحكمة، وختمه بعد الوصية بطاعة الوالد بذكر دقيق الأعمال وجليلها، وأنها في علم الله سواء، حسن جداً الرجوع إلى تمام بيان حكمته، فقال بادئاً بما يناسب ذلك من دقيق العلم ومحيطه المكمل لمقام التوحيد، وعبر بمثقال الحبة لأنه أقل ما يخطر غالباً بالبال، وهي من أعظم حاث على التوحيد الذي مضى تأسيسه: ﴿يا بني﴾ متحبباً مستعطفاً، مصغراً له بالنسبة إلى حمل شيء من غضب الله تعالى مستضعفاً: ﴿إنها﴾ أي العمل، وأنث لأنه في مقام التقليل والتحقير، والتأنيث أولى بذلك، ولأنه يؤول بالطاعة والمعصية والحسنة والسيئة ﴿إن تك﴾ وأسقط النون لغرض الإيجار في الإيصاء بما ينيل المفاز، والدلالة على أقل الكون وأصغره ﴿مثقال﴾ أي وزن، ثم حقرها بقوله: ﴿حبة﴾ وزاد في ذلك بقوله: ﴿من خردل﴾ هذا على قراءة الجمهور بالنصب، ورفع المدنيان على معنى أن الشأن والقصة العظيمة أن توجد في وقت من الأوقات هنة هي أصغر شيء وأحقره - بما أشار إليه التأنيث.
ولما كان قد عرف أن السياق لماذا أثبت النون في قوله مسبباً عن صغرها: ﴿فتكن﴾ إشارة إلى ثباتها في مكانها. وليزداد تشوف النفس إلى محط الفائدة ويذهب الوهم كل مذهب لما علم من
171
أن المقصد عظيم بحذف النون وإثبات هذه، وعسرّها بعد أن حقرها بقوله معبراً عن أعظم الخفاء وأتم الإحراز: ﴿في صخرة﴾ أي أيّ صخرة كانت ولو أنها أشد الصخور وأقواها وأصغرها وأخفاها.
ولما أخفى وضيق، أظهر ووسع، ورفع وخفض، ليكون أعظم لضياعها لحقارتها فقال: ﴿أو في السماوات﴾ أي في أيّ مكان كان منها على سعة أرجائها وتباعد أنحائها، وأعاد «أو» نصاً على إرادة كل منهما على حدته، والجار تأكيداً للمعنى فقال: ﴿أو في الأرض﴾ أي كذلك، وهذا كما ترى لا ينفي أن تكون الصخرة فيهما أو في إحداهما، وعبر له بالاسم الأعظم لعلو المقام فقال: ﴿يأتِ بها الله﴾ بعظم جلاله، وباهر كبريائه وكماله، بعينها لا يخفى عليه ولا يذهب شيء منها، فيحاسب عليها، ثم علل ذلك من علمه وقدرته بقوله مؤكداً إشارة إلى أن إنكار ذلك لما له من باهر العظمة من دأب النفوس إن لم يصحبها التوفيق: ﴿إنّ الله﴾ فأعاد الاسم الأعظم تنبيهاً على استحضار العظمة وتعميماً للحكم ﴿لطيف﴾ أي عظيم المتّ
172
بالوجوه الخفية الدقيقة الغامضة في بلوغه إلى أمر أراده حتى بضد الطريق الموصل فيهما يظهر للخلق ﴿خبير *﴾ بالغ العلم بأخفى الأشياء فلا يخفى عليه شيء، ولا يفوته أمر.
ولما نبهه على إحاطة علمه سبحانه وإقامته للحساب، أمره مما يدخره لذلك توسلاً إليه، وتخضعاً لديه، وهو رأس ما يصلح به العمل ويصحح التوحيد ويصدقه، فقال: ﴿يا بني﴾ مكرراً للمناداة على هذا الوجه تنبيهاً على فرط النصيحة لفرط الشفقة ﴿أقم الصلاة﴾ أي بجميع حدودها وشروطها ولا تغفل عنها، سعياً في نجاة نفسك وتصفية سرك، فإن إقامتها - وهي الإيتان بها على النحو المرضي - مانعة من الخلل في العمل ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾ لأنها الإقبال على من وحدته فاعتقدت أنه الفاعل وحده وأعرضت عن كل ما سواه لأنه في التحقيق عدم، ولهذا الإقبال والإعراض كانت ثانية التوحيد، وترك ذكر الزكاة تنبيهاً على أن من حكمته تخليه وتخلي ولده من الدنيا حتى مما يكفيهم لقوتهم.
ولما أمر بتكميله في نفسه بتكميل نفسه توفية لحق الحق، عطف على ذلك تكميله لنفسه بتكميل غيره توفية لحق الخلق، وذلك أنه لما
173
كان الناس في هذه الدار سفراً، وكان المسافر إن أهمل رفيقه حتى أخذ أوشك أن يؤخذ هو، أمره بما يكمل نجاته بتكميل رفيقه، وقدمه - وإن كان من جلب المصالح - لأنه يستلزم ترك المنكر، وأما ترك المنكر فلا يستلزم فعل الخير، فإنك إذا قلت: لا تأت منكراً، لم يتناول ذلك في العرف إلا الكف عن فعل المعصية، لا فعل الطاعة، فقال: ﴿وأمر بالمعروف﴾ أي كل من تقدر على أمره تهذيباً لغيرك شفقة على نفسك بتخليص أبناء جنسك.
ولما كانت هذه الدار سفينة لسفر من فيها إلى ربهم، وكانت المعاصي مفسدة لها، وكان فساد السفينة مغرقاً لكل من فيها: من أفسدها ومن أهمل المفسد ولم يأخذ على يده، وكان الأمر بالمعروف نهياً عن المنكر، صرح به فقال: ﴿وانه﴾ أي كل من قدرت على نهيه ﴿عن المنكر﴾ حباً لأخيك ما تحب لنفسك، تحقيقاً لنصيحتك، وتكميلاً لعبادتك، لأنه ما عبد الله أحد ترك غيره يتعبد لغيره، ومن هذا الطراز قول أبي الأسود رحمه الله تعالى:
ابدأ بنفسك فانهها عن غيّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
لأنه أمره أولاً بالمعروف، وهو الصلاة الناهية عن الفحشاء والمنكر، فإذا أمر نفسه ونهاها، ناسب أن يأمر غيره ينهاه، وهذا وإن كان
174
من قول لقمان عليه السلام إلا أنه لما كان في سياق المدح له كنا مخاطبين به.
ولما كان القابض على دينه في غالب الأزمان كالقابض على الجمر، لأنه يخالف المعظم فيرمونه عن قوس واحدة لا سيما أن أمرهم ونهاهم، قال تعالى: ﴿واصبر﴾ صبراً عظيماً بحيث يكون مستعلياً ﴿على ما﴾ أي الذي، وحقق بالماضي أنه لا بد من المصيبة ليكون الإنسان على بصيرة، فقال: ﴿أصابك﴾ أي في عبادتك من الأمر بالمعروف وغيره سواء كان بواسطة العباد أو لا كالمرض ونحوه، وقد بدأ هذه الوصية بالصلاة وختمها بالصبر لأنها ملاك الاستعانة
﴿واستعينوا بالصبر والصلاة﴾ [البقرة: ٤٥] واختلاف المخاطب في الموضعين أوجب اختلاف الترتيبين، المخاطب هنا مؤمن متقلل، وهناك كافر متكثر.
ولما كان ما أحكمه له عظيم الجدوى، وجعل ختامه الصبر الذي هو ملاك الأعمال والتروك كلها، نبهه على ذلك بقوله على سبيل التعليل والاستئناف إيماء إلى التبجيل: ﴿إن ذلك﴾ أي الأمر العظيم الذي أوصيتك به لا سيما الصبر على المصائب: ﴿من عزم الأمور﴾ أي
175
معزوماتها، تسمية لاسم المفعول أو الفاعل بالمصدر، أي الأمور المقطوع بها المفروضة أو القاطعة الجازمة بجزم فاعلها، أي التي هي أهل لأن يعزم عليها العازم، وينحو إليها بكليته الجازم، فلا مندوحة في تركها بوجه من الوجوه في ملة من الملل.
ولما كان من آفات العبادة لا سيما الأمر والنهي - لتصورهما بصورة الاستعلاء - الإعجاب إلى الكبر، قال محذراً من ذلك معبراً عن الكبر بلازمه، لأن النفي الأعم نفي للأخص، منبهاً على أن المطلوب في الأمر والنهي اللين لا الفظاظة والغلظة الحاملان على النفور: ﴿ولا تصعر خدك﴾ أي لا تمله معتمداً إمالته بإمالة العنق متكلفاً لها صرفاً عن الحالة القاصدة، وأصل الصعر داء يصيب البعير يلوي منه عنقه، وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي: تصاعر، والمراد بالمفاعلة والتفعيل تعمد فعل ذلك لأجل الكبر حتى يصير خلقاً، والمراد النهي عما يفعله المصعر من الكبر - والله أعلم.
ولما كان ذلك قد يكون لغرض من الأغراض التي لا تذم، أشار إلى المقصود بقوله تعالى: ﴿للناس﴾ بلام العلة، أي لا تفعل ذلك
176
لأجل الإمالة عنهم، وذلك لا يكون إلا تهاوناً بهم من الكبر، بل أقبل عليهم بوجهك كله مستبشراً منبسطاً من غير كبر ولا علو، وأتبع ذلك ما يلزمه فقال: ﴿ولا تمش﴾ ولما كان في أسلوب التواضع وذم الكبر، ذكره بأن أصله تراب، وهو لا يقدر أن يعدوه فقال: ﴿في الأرض﴾ وأوقع المصدر موقع الحال أو العلة فقال: ﴿مرحاً﴾ أي اختيالاً وتبختراً، أي لا تكن منك هذه الحقيقة لأن ذلك مشي أشر وبطر وتكبر، فهو جدير بأن يظلم صاحبه ويفحش ويبغي، بل امش هوناً فأن ذلك يفضي بك إلى التواضع، فتصل إلى كل خير، فترفق بك الأرض إذا صرت فيها حقيقة بالكون في بطنها.
ولما كانت غاية ذلك الرياء للناس والفخر عليهم المثمر لبغضتهم الناشئة عن بغضة الله تعالى، علله بقوله مؤكداً لأن كثيراً من الناس يظن أن أسباغ النعم الدنيوية من محبة الله: ﴿إن الله﴾ أي الذي لا ينبغي الكبر إلا له لما له من العظمة المطلقة. ولما كان حب الله الذي يلزمه حب الناس محبوباً للنفوس، وكان فوات المحبوب أشق على النفوس من وقوع المحذور، وكانت «لا» لا تدخل إلا على المضارع المستقبل قال: ﴿لا يحب﴾ أي فيما يستقبل من الزمان، ولو قال «يبغض» لاحتمال التقييد بالحال، ولما كان النشر المشوش أفصح لقرب الرجوع
177
تدليا فيما ترقى فيه المقبل قال: ﴿كل مختال﴾ أي مراء للناس في مشيه تبختراً يرى له فضلاً على الناس فيشمخ بأنفه، وذلك فعل المرح ﴿فخور﴾ يعدد مناقبه، وذلك فعل المصعر، لأن ذلك من الكبر الذي تردى به سبحانه وتعالى فمن نازعه إياه قصمه.
178
ولما كان النهي عن ذلك امراً بأضداده، وكان الأمر بإطلاق الوجه يلزم منه الإنصاف في الكلام، وكان الإنصاف في الكلام والمشي لا على طريق المرح والفخر ربما دعا إلى الاستماتة في المشي والحديث أو الإسراع في المشي والسر والجهر بالصوت فوق الحد، قال محترساً في الأمر بالخلق الكريم عما يقارب الحال الذميم: ﴿واقصد﴾ أي اعدل وتوسط ﴿في مشيك﴾ لا إفراط ولا تفريط مجانباً لوثب الشطار ودبيب المتماوتين، وعن ابن مسعود: كانوا ينهون عن خبب اليهود ودبيب النصارى، والقصد في الأفعال كالقسط في الأوزان - قال الرازي في اللوامع، وهو المشي الهون الذب ليس فيه تصنع للخلق لا بتواضع ولا بتكبر ﴿واغضض﴾ أي انقص، ولأجل ما
178
ذكر قال: ﴿من صوتك﴾ بإثبات «من» أي لئلا يكون صوتك منكراً، وتكون برفع الصوت فوق الحاجة حماراً، وأما مع الحاجة كالأذان فهو مأمور به.
ولما كان رفع الصوت فوق العادة منكراً كما كان خفضه دونها تماوتاً أو دلالاً وتكبراً، وكان قد أشار إلى النهي عن هذا ب «من» فأفهم أن الطرفين مذمومان، علل النهي عن الأول دالاً بصيغة «أفعل» على اشتراك الرفع كله في النكارة ذاكراً أعلاها تصويراً له بأقبح صورة تنفيراً عنه فقال: ﴿إن أنكر﴾ أي أفظع وأبشع وأوحش ﴿الأصوات﴾ أي كلها المشتركة في النكارة برفعها فوق الحاجة، وأخلى الكلام عن لفظ التشبيه فأخرجه مخرج الاستعارة تصويراً لصوت الرافع صوته فوق الحاجة بصورة النهاق وجعل المصوت كذلك حماراً، مبالغة في التهجين، وتنبيهاً على أنه من كراهة الله له بمكان فقال: ﴿لصوت الحمير﴾ أي هذا الجنس، لما له من الغلو
179
المفرط من غير حاجة، وأوله زفير وآخره شهيق، وهما فعل أهل النار، وأفرده ليكون نصاً على إرادة الجنس لئلا يظن أن الاجتماع شرط في ذلك ولذكر الحمار مع ذلك من بلاغة الذم والشتم ما ليس لغيره ولذلك يستهجن التصريح باسمه، وهذا يفهم أن الرفع مع الحاجة غير مذموم فإنه ليس بمستنكر ولا مستبشع، ولقد دعت هذه الآيات إلى معالي الأخلاق، وهي أمهات الفضائل الثلاث: الحكمة والعفة والشجاعة، وأمرت بالعدل فيها، وهي وظيفة التقسيط الذي هو الوسط الذي هو مجمع الفضائل، ونهت عن مساؤى الأخلاق، وهي الأطراف التي هي مبدأ الرذائل الحاصل بالإفراط والتفريط، فإقامة الصلاة التي هي روح العبادة المبنية على العلم هي سر الحكمة والنهي، أمر بالشجاعة ونهى عن الجبن، وفي النهي عن التصعير وما معه نهي عن التهور، والقصد في المشي والغض في الصوت أمر بالعفة ونهي عن الاستماتة والجمود والخلاعة والفجور، وفي النهي عن الاستماتة نهي عما قد يلزمها من الجربزة، وهي الفكر بالمكر المؤدي إلى اللعنة، وعن الانحطاط إلى البله والغفلة، والكافل بشرح هذا ما قاله الشيخ سعد الدين التفتازاني في الكلام على الإجماع من تلويحه، قال: إن الخالق تعالى وتقدس قد ركب في الإنسان ثلاث قوى: إحداها
180
مبدأ إدراك الحقائق، والشوق إلى النظر في العواقب، والتمييز بين المصالح والمفاسد، ويعبر عنها بالقوة النطقية والعقلية والنفس المطمئنة الملكية، والثانية مبدأ جذب المنافع وطلب الملاذ من المآكل والمشارب وغير ذلك، وتسمى القوة الشهوية والبهيمية والنفس الأمارة، والثالثة مبدأ الإقدام على الأهوال والشوق إلى التسلط والترفع، وهي القوة الغضبية والسبعية والنفس اللوامة، ويحدث من اعتدال الحركة الأولى الحكمة، والثانية العفة، والثالثة الشجاعة، فأمهات الفضائل هي هذه الثلاث، وما سوى ذلك إنما هو من تفريعاتها وتركيباتها، وكل منها وكل منها محتوش بطر في إفراط وتفريط هما رذيلتان، أما الحكمة فهي معرفة الحقائق على ما هي بقدر الاستطاعة، وهي العلم النافع المعبر عنه بمعرفة النفس ما لها وما عليها المشار إليه بقوله تعالى:
﴿ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً﴾ [البقرة: ٢٦٩] وإفراطها الجربزة، وهي استعمال الفكر فيما لا ينبغي كالمتشابهات، وعلى وجه لا ينبغي، كمخالفة الشرائع - نعوذ بالله من علم لا ينفع قلت: وهي بجيم ثم مهملة ثم موحدة ثم زاي مأخوذة من الجربز - بالضم، وهو الخب، أي الخداع الخبيث -
181
والله أعلم، وتفريطها الغباوة التي هي تعطيل القوة الفكرية بالإرداة والوقوف عن اكتساب العلوم النافعة، وأما الشجاعة فهي انقياد السبعية للناطقة ليكون إقدامها على حسب الروية من غير اضطراب في الأمور الماثلة، حتى يكون فعلها جميلاً، وصبرها محموداً، وإفراطها التهور، أي الإقدام على ما لا ينبغي، وتفريطها الجبن، أي الحذر عما لا ينبغي، وأما العفة فهي انقياد البهيمة للناطقة، لتكون تصرفاتها بحسب اقتضاء الناطقة، لتسلم عن استعباد الهوى إياها، واستخدام اللذات، وإفراطها الخلاعة والفجور، أي الوقوع في ازدياد اللذات على ما يجب، وتفريطها الجمود، أي السكوت عن طلب الذات بقدر ما رخص فيه العقل والشرع إيثاراً لا خلقة، فالأوساط فضائل، والأطراف رذائل، وإذا امتزجت الفضائل الثلاث حصلت من اجتماعها حالة متشابهة هي العدالة، فبهذا الاعتبار عبر عن العدالة بالوساطة، أي في قوله تعالى: ﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطاً﴾ [البقرة: ١٤٣] وإليه أشير بقوله عليه الصلاة والسلام «خير الأمور أوساطها» والحكمة في النفس البهيمية بقاء البدن الذي هو مركب النفس الناطقة ليصل إلى كمالها اللائق بها، ومقصدها المتوجه إليه، وفي السبعية كسر البهيمية وقهرها ودفع الفساد المتوقع من استيلائها، واشترط التوسط في أفعالها لئلا تستعبد الناطقة هواهما وتصرفاها
182
عن كمالها ومقصدها - انتهى.
ولما انقضت هذه الجمل، رافعة أعناقها على المشتري وزحل، قابلة لمن يريد عملها مع الكسل، والضجر في الفكر والملل، وأين الثريا من يد المتناول، وكان قد أخبر سبحانه وتعالى في أول السورة أن الآيات المسموعة هدى لقوم وضلال لآخرين، وكان من الغرائب أن شيئاً واحداً يؤثر شيئين متضادين، وأتبع ذلك ما دل على أنه من بالغ الحكمة بوجوه مرضية مشرقة مضيئة، لكنها بمسالك دقيقة وإشارات خفية، إلى أن ختم بالنهي عن التكبر، ورفع الصوت فوق الحاجة، إشارة إلى أن فاعل ما لا حاجة إليه غير حكيم، وكان التكبر على الناس والتعالي عليهم من آثار الفضل في النعمة، وكانت العادة جارية بأن اللك يخضع له تارة لمجرد عظمته، وتارة خوفاً من سطوته، وتارة رجاء لنعمته، أبرز سبحانه وتعالى غيب ما وصف به الآيات المسموعة من تأثير الضدين في حالة واحدة في شاهد الآيات المرئية على وجه يدل على استحقاقه، لما أمر به لقمان عليه السلام من العبادة والتذلل، وأن إليه المرجع، وهو عالم على استحقاقه، لما أمر به لقمان شيء، وأن كل ما ترى خلقه مذكراً بأن النعمة إنما هي منه، فلا ينبغي لأحد أن يفخر بما آتاه غيره، ولو كل فيه إلى نفسه لم يقدر على شيء منه، محذراً من سلبها
183
عن المتكبر وإعطائها للذليل المحتقر، فقال: ﴿ألم تروا﴾ اي تعلموا علماً هو في ظهوره كالمشاهدة أيها المشترون لهو الحديث، المتكبرون علي المقبلين على الله، المتخلين عن الدنيا، الذين قلنا لهم رداً عن الشرك وإبعاداً عن الهوى والإفك ﴿هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه﴾ ﴿أن الله﴾ أي الحائز لكل كمال ﴿سخر لكم﴾ أي خاصة ﴿ما في السماوات﴾ بالإنارة والإظلام، والحر والبرد وغير ذلك من الإنعام، وأكده بإعادة الموصول والجار، لأن المقام حقيق به فقال: ﴿وما في الأرض﴾ بكل ما يصلحكم فتعلموا أن الكل خلقه، ما لأحد ممن دونه فيه شيء، وأنه محيط بكل شيء قدرة وعلماً، فهو قادر على تعسيره فينبئكم بما كنتم تعملون ويحضره لكم وإن كان في أخفى الأماكن ﴿وأسبغ﴾ أي أطال وأوسع وأتم وأفضل عن قدر الحاجة وأكمل ﴿عليكم﴾ أيها المكلفون ﴿نعمه﴾ أي
184
واحدة تليق بالدنيا - في قراءة الجماعة بإسكان العين وتاء تأنيث منصوبة منونة تنوين تعظيم، مشيراً إلى أنها ذات أنواع كثيرة جداً، بما دلت عليه قراءة المدنيين وأبي عمرو وحفص عن عاصم بجعل تاء التأنيث ضميراً له سبحانه مع فتح العين ليكون جمعاً ﴿ظاهرة﴾ وهي ما تشاهدونها متذكرين لها ﴿وباطنة﴾ وهي ما غابت عنكم فلا يحسونها، أو تحسونها وهي خفية عنكم، لا تذكرونها إلا بالتذكير، وكل منكم يعرف ذلك على الإجمال، فاعبدوه لما دعت إليه مجلة لقمان عليه السلام لتكونوا من المحسنين، حذراً من سلب نعمه، وإيجاب نقمه، ويجوز أن تكون الآية دليلاً على قوله تعالى: ﴿خلق السماوات بغير عمد ترونها﴾.
ولما كان التقدير: ومع كون كل منكم أيها الخلق يعرف أن ذلك نعمة منه سبحانه تعالى وحده فمن الناس من أذعن وأناب وسلم لكل ما دعا إليه كتابه الحكيم على لسان رسوله النبي الكريم فكان من الحكماء الحسنين فاهتدى عطف عليه قوله مظهراً موضع ضمير المخاطبين مما يشير إليه النوس: ﴿ومن الناس﴾ أي الذين هم أهل للاضطراب، ويمكن أن يكون حالاً من ﴿ألم تروا﴾ ويكون
185
﴿ألم تروا﴾ دليلاً على أول السورة، أي أشير إلى الآيات حال كونها هدى لمن ذكر والحال أن من الناس من يشتري اللهو، ألم تروا دليلاً على أن من الناس المعاند بعد وضوح الدليل أن الله سخر لكم جميع العالم وأنعم عليكم بما أنعم والحال أن من الناس ﴿من يجادل﴾ فلا لهو أعظم من جداله، ولا كبر مثل كبره، ولا ضلال مثل ضلاله، وأظهر لزيادة التشنيع على هذا المجادل، وإشارة إلى قبح المجادلة من غير نظر إلى النعم فقال تعالى: ﴿في الله﴾ المحيط بكل شيء علماً وقدرة.
ولما كان سبحانه في ظهور وجوده وأوصافه بحيث لا يخفى بوجه، وكان المجادل قد يكون فهماً، قال: ﴿بغير﴾ أي بكلام متصف بأنه غير ﴿علم﴾ أي بل بألفاظ هي في ركاكة معانيها لعدم استنادها إلى حس ولا عقل ملحقة بأصوات الحيوانات العحم، فكان بذلك حماراً تابعاً للهوى.
ولما كان المعنى قد يظهر لبعض القاصرين، لوروده على لسان من لا يعتبر، فإذا أضيف إلى كبير، تؤمل ولم يبادر إلى رده لاستعظامه، فظهر على طول حسه، قال معبراً بأداة النفي الحقيقة به، لأن الموضع لها، وعدل عنها اولاً لئلا يظن أن المذموم إنما هو المجادل إذا كان غير متصف بالعلم
186
وإن كان جداله متصفاً بالعلم: ﴿ولا هدى﴾ أي وارد عمن عهد منه سداد الأقوال والأفعال بما أبدى من المعجزات والآيات البينات، فوجب أخذ اقواله مسلمة وإن لم يظهر معناها.
ولما كان القول قد يكون مقبولاً لاستناده إلى الله تعالى وإن لم يكن اصلاً معقولاً، قال: ﴿ولا كتاب﴾ أي من الله؛ ووصفه بما هو لازمه لا ينفك عنه فقال: ﴿منير*﴾ أي بين غاية البيان، مبين لغيره على عادة بيان الله سبحانه وتعالى، أو يكون أريد بالوصف الإعجاز لإظهاره قطعاً أنه من الله، فإنه ليس كل كتاب الله كذلك.
187
ولما كان المجادل بغير واحد من هذه الثلاثة تابعاً هواه مقلداً مثله قطعاً، وكان حال المجادلين هذا لظهور أدلة الوحدانية عجباً، عجب منهم تعجيباً آخر بإقامتهم على الضلال مع إيضاح الادلة فقال: ﴿وإذا قيل﴾ أي من أيّ قائل كان. ولما كان ضلال الجمع أعجب من ضلال الواحد، وكان التعجيب من جدال الواحد تعجيباً من جدال الاثنين فأكثر من باب الأولى، أفرد أولاً وجمع هنا فقال: ﴿لهم﴾ أي للمجادلين هذا الجدال: ﴿اتبعوا ما﴾ أي ابذلوا جهدكم في تبع الذي، وأظهر لزيادة التشنيع أيضاً فقال: ﴿أنزل الله﴾ الذي خلقكم وخلق آباءكم الأولين، وهو الذي لا عظيم إلا هو ﴿قالوا﴾
187
جموداً: لا نفعل ﴿بل نتبع﴾ وإن جاهدنا بالأنفس والأموال ﴿ما وجدنا عليه آباءنا﴾ لأنهم أثبت منا عقولاً، وأقوم قيلاً، وأهدى سبيلاً.
ولما كانوا لا يسلكون طريقاً حسياً بغير دليل، كان التقدير: أتتبعونهم لو كان الهوى يدعوهم فيما وجدتموهم عليه إلى ما يظن فيه الهلاك، لكونه بغير دليل، فعطف عليه قوله: ﴿أو لو كان الشيطان﴾ أي البعيد من الرحمة المحترق باللعنة، وهو أعدى اعدائهم، دليللهم فهو ﴿يدعوهم﴾ إلى الضلال فيوقعهم فيما يسخط الرحمن فيؤديهم ذلك ﴿إلى عذاب السعير*﴾ وعبر بالمضارع تصويراً لحالهم في ضلالهم وأنه مستمر، وأطلق العذاب على سببه.
ولما كان التقدير: فمن جادل في الله فلا متمسك له، عطف عليه قوله في شرح حال أضدادهم: ﴿ومن يسلم﴾ أي في الحال أو الاستقبال ﴿وجهه﴾ أي قصده وتوجهه وذاته كلها. ولما كان مقصود السورة إثبات الحكمة، عدى الفعل ب «إلى» تنبيهاً على إتقان الطريق بالوسائط من النبي أو الشيخ وحسن الاسترشاد في ذلك، فقال معلقاً بما تقديره: ساتراً وواصلاً ﴿إلى الله﴾ الذي له صفات الكمال،
188
فلم يبق لنفسه أمر أصلاً، فهو لا يتحرك إلا بأمر من أوامره سبحانه ﴿وهو﴾ أي والحال أنه ﴿محسن﴾ أي مخلص بباطنه كما أخلص بظاهره فهو دائماً في حال الشهود ﴿فقد استمسك﴾ أي أوجد الإمساك بغاية ما يقدر عليه من القوة في بادئه الأمور لترقية نفسه من حضيضها إلى أوج الروح على أيدي المسلكين الذين اختارهم لدينه، العارفين بأخطار السير وعوائق الطريق ﴿بالعروة الوثقى﴾ التي هي أوثق ما يتمسك به فلا سقوط له أصلاً، فليسررك شكره فإن ربه يعليه إلى كل مراد ما دام متمسكاً بها تمثيلاً لحال هذا السائر بحال من سقط في بئر، أو أراد أن يرقى جبلاً، فادعى له صاحبه حبلاً ذا عرى فأخذ بأوثقها، فهو يعلو به إذا جره صديقه. وهو قادر على جره لا محالة من غير انفصام، لأن متمسكه في غاية الإحكام.
ولما كان الكل صائرين إليه، رافدين عليه: من استمسك بالأوثق، ومن استمسك بالأوهى، ومن لم يتمسك بشيء، إلا أن الأول صائر مع السلامة، وغيره مع العطب، قال مظهراً تعظيماً للأمر ولئلا يقيد بحيثية عاطفاً على ما تقديره: فيصير إلى الله سالماً، فإلى الله عاقبته لا محال: ﴿وإلى الله﴾ أي الملك الأعظم وحده تصير ﴿عاقبة الأمور *﴾ أي كما أنه كانت منه بادئتها، وإنما خص العاقبة لأنهم مقرون بالبادئة.
189
ولا ذكر المسلم ذكر الكافر فقال: ﴿ومن كفر﴾ أي ستر ما أداه إليه عقله من أن الله لا شريك له، وأنه لا قدرة لأحد سواه، ولم يسلم وجهه إليه، فتكبر على الدعاة وأبى أن ينقاد لهم، اتباعاً لما قاده إليه الهوى. بأن جعل لنفسه اختياراً وعملاً فعل القوي القادر، فقد ألقى نفسه في كل هلكة لكونه لم يتمسك شيء ﴿فلا يحزنك﴾ أي يهمك ويوجعك، وأفرد الضمير باعتبار لفظ من لإرادة التنصيص على كل فرد فقال: ﴿كفره﴾ كائناً من كان فإنه لم يَفُتك شيء فيه خير ولا معجز لنا ليحزنك، ولا تبعة عليك بسببه، وفي التعبير هنا بالماضي وفي الأول بالمضارع بشارة بدخول كثير في هذا الدين، وأنهم لا يرتدون بعد إسلامهم، وترغيب في الإسلام لكل من كان خارجاً عنه، فالآية من الاحتباك: ذكر الحزن ثانياً دليلاً على حذف ضده أولاً، وذكر الاستسماك أولاً دليلاً على حذف ضده ثانياً.
ولما كان الحزن بمعنى الهم، حسن التعليل بقوله التفاتاً إلى مظهر العظمة التي هذا من أخفى مواضعها، وجمع لأن الإحاطة بالجمع أدل على العظمة: ﴿إلينا﴾ أي خاصة بما لنا من العظمة التي لا تثبت لها الجبال
190
﴿مرجعهم﴾ أي رجوعهم وزمانه ومكانه أي معنى في الدنيا وحساً يوم الحساب، لا إلى غيرنا، ولما بين أنهم في قبضته، وأنه لا بد من بعثهم، بين أن السبب في ذلك حسابهم لتظهر الحكمة فقال: ﴿فننبئهم﴾ بسبب إحاطتنا بأمرهم وعقب رجوعهم ﴿بما عملوا﴾ أي ونجازيهم عليه إن أردنا.
ولما كان معنى التضعيف: نفعل معهم فعل منقب عن الأمور مفتش على جليها وخفيها، جليلها ودقيقها، فلا نذر شيئاً منها، علله بقوله معبراً بالاسم الأعظم المفهم للعظمة وغيرها من صفات الكمال التي من أعظمها العلم، لفتاً للكلام عن العظمة التي لا تدل على غيرها إلا باللزوم، مؤكداً لإنكارهم شمول علمه ﴿إن الله عليم﴾ أي محيط العلم بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿بذات الصدور*﴾ أي بالأعمال التي هي صاحبتها، ومضمرة ومودعة فيها، فناشئة عنها ومن قبل أن تبرز إلى الوجود، فكيف بذلك بعد عملها.
191
ولما تشوف المسلم إلى إهلاك من هذا شأنه وإلى العلم بمدة ذلك، وكان من طبع الإنسان العجلة، أجاب من يستعجل بقوله عائداً إلى مظهر العظمة التي يتقاضاها إذلال العدو وإعزاز الولي: ﴿نمتعهم قليلاً﴾
191
أي من الزمان ومن الحظوظ وإن جل ذلك عند من لا علم له، فلا تشغلوا أنفسكم بالاستعجال عليهم فإن كل آت قريب.
ولما كان إلجاء المتجبرين إلى العذاب امراً مستبعداً، أشار بأداة البعد إلى ما يحصل عنده من صفات الجلال، التي تذل الرجال، وتدك الجبال، وفيه أيضاً إشارة إلى استطالة المحسنين من تمتيعهم وإن كان قليلاً في الواقع، أو عند الله فقال: ﴿ثم نضطرهم﴾ أي نأخذهم اخذاً لا يقدرون على الانفكاك عنه بنوع حيلة، وأشار إلى طول إذلالهم في مدة السوق بحرف الغاية، فكان المعنى: فنصيرّهم بذلك الأخذ ﴿إلى عذاب غليظ *﴾ أي شديد ثقيل، لا ينقطع عنهم أصلاً ولا يجدون لهم منه مخلصاً من جهة من جهاته، فكأنه في شدته وثقله جرم غليظ جداً إذا برك على شيء لا يقدر على الخلاص منه.
ولما كان من أعجب العجب مجادلتهم مع إقرارهم بما يلزمهم به
192
قطعاً التسليم في أنه الواحد لا شريك له وأن له جميع صفات الكمال فله الحمد كله، قال: ﴿ولئن﴾ أي يجادلون أو يقولون: بل نتبع آباءنا والحال أنهم أن ﴿سألتهم من خلق السماوات﴾ بأسرها ﴿والأرض﴾ وجميع ما فيها ﴿ليقولن﴾ ولما كان الأنسب للحكمة التي هي مطلع السورة الاقتصار على محل الحاجة، لم يزد هنا على المسند إليه بخلاف الزخرف التي مبناها الإبانة، فقال لافتاً القول عن العظمة إلى أعظم منها فقال: ﴿الله﴾ أي «المسمى بهذا الاسم الذي جمع مسماه بين الجلال والإكرام» فقد أقروا بأن كل ما أشركوا به بعض خلقه ومصنوع من مصنوعاته.
ولما كانوا يعتقدون أن شركائهم تفعل لهم بعض الأفعال، فلذلك كانوا يرجونهم ويخافونهم، كما أن ذلك واضح في قصة عم أنس الصم وغيرها، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يعلمهم أنه لا خلق لغيره ولا أمر، بل هو مبدع كل شيء في السماوات والأرض كما أبدعهما، وأن من
193
جملة ذلك مما يستحق به الحمد سبحانه قهرهم على تصديقه صلى الله عليه السلام بمثل هذا الإقرار وهم في غاية التكذيب، فقال مستأنفاً: ﴿قل الحمد﴾ أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال ﴿لله﴾ أي الذي له الإحاطة الشاملة الكاملة من غير تقييد بخلق الخافقين ولا غيره «الأمر أعظم من مقالة قائل» كما أحاط بما تعلمونه من خلق السماوات والأرض، فهو فاعل الإفعال كلها، كما أنه خالق الذوات كلها، ولا شريك له في شيء من الأمر، كما أنه لا شريك له في شيء من الخلق.
ولما كانوا يظنون أن أصنامهم تصنع شيئاً كما قالت امرأة ذي النور الدوسي رضي الله عنه: هل يخشى على الصبية من ذي الشرى، وكما قال قوم ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه لما سب آلهتهم: اتق الجذام اتق البرص، وكما قال سادن العزى، وكما قالت ثقيف في طاغيتهم، حتى أنهم قالوا عندما سويت بالأرض، والله ليغضبن الأساس، حتى حمل ذلك المغيرة بن شعبة رضي الله عنه على أن حفر الأساس، وكانوا إذا مستهم الضراء لا سيما في البحر تبرؤوا منها، وأسندوا الأمر إلى من هو له كما هو مضمون التوحيد، فكان ربما قال قائل استناداً إلى ذلك:
194
إنهم ليعلمون ما أثبت بالتحميد، قال: ﴿بل أكثرهم لا يعلمون *﴾ أي إن الله هو المنفرد بكل شيء كما أنه تفرد بخلق السماوات والأرض، وأنه لا يكون شيء، إلا بإذنه لأنهم لا يعملون بما يعلمون من ذلك، وعلم لا يعمل به عدم، بل العدم خير منه، وكان القليل هم المقتصدون عند النجاة من الشدة كما سيأتي آنفاً، أو يكون المعنى أنه لا علم لهم أصلاً إذ لو كان لهم علم لنفعهم في علمهم بالله، أو في أنهم لا يقرون بتفرده سبحانه بالخلق والرزق، فيكون ذلك موجباً لتناقضهم وملزماً لهم بالإقرار بصدقك غي الحكم بوحدانيته على الإطلاق. ولما أثبت لنفسه سبحانه الإحاطة بأوصاف الكمال، شرع يستدل على ذلك، فقال مبيناً أن ما أخبر أنه صنعه فهو له: ﴿لله﴾ أي الملك الأعظم المحيط بجميع أوصاف الكمال خاصة دون غيره ﴿ما في السماوات﴾ كلها. ولما تحرر بما تقدم أنهم عالمون مقرون بما يلزم عنه وحدانيته، لم يؤكد بإعادة ﴿ما﴾ والجار، بل قال: ﴿والأرض﴾ أي كلها كما كانتا مما صنعه، فلا يصح أن يكون شيء من ذلك له شريكاً.
ولما ثبت ذلك أنتج قطعاً قوله: ﴿إن الله﴾ أي الملك الأعظم ﴿هو﴾ أو وحده، وأكد لأن ادعائهم الشريك يتضمن إنكار غناه،
195
ولذلك أظهر موضع الإضمار إشارة إلى أن كل ما وصف به فهو ثابت له مطلقاً من غير تقييد بحيثيته ﴿الغني﴾ مطلقاً، لأن جميع الأشياء له ومحتاجة إليه، وليس محتاجاً إلى شيء أصلاً. ولما كان الغني قد لا يوجب الحمد لله: ﴿الحميد *﴾ أي المستحق لجميع المحامد، لأنه المنعم على الإطلاق، المحمود بكل لسان ألسنة الأحوال والأقوال، ولو كان نطقها ذماً فهو حمد من حيث إنه هو الذي أنطقها، ومن قيد الخرس أطلقها.
ولما كان الغني قد يكون ماله محصوراً كما في السماوات والأرض الذي قدم أنه له، والمحمود قد يكون ما يحمد عليه مضبوطاً مقصوراً أثبتت أنه على غير ذلك، بل لا حد لغناه، ولا ضبط لمعلوماته ومقدوراته الموجبة لحمده ولا تناه، فقال: ﴿ولو﴾ أي له الصفتان المذكورتان والحال أنه لو ﴿أنّ ما في الأرض﴾ أي كلها، ودل على الاستغراق وتقصى كل فرد فرد من الجنس بقوله: ﴿من شجرة﴾ حيث وحدها ﴿أقلام﴾ أي والشجرة يمدها من بعدها على سبيل المبالغة سبع شجرات، وأن ما في الأرض من بحر مداد لتلك الأقلام ﴿والبحر﴾ أي والحال أن البحر، وعلى قراءة البصريين بالنصب التقدير: ولو أن البحر ﴿يمده﴾ أي يكون مدداً وزيادة فيه ﴿من بعده﴾ أي
196
من ورائه ﴿سبعة أبحر﴾ فكتب بتلك الأقلام وذلك المداد الذي الأرض كلها له دواة كلمات الله ﴿ما نفدت﴾ وكرر الاسم الأعظم تعظيماً للمقام فقال مظهراً للإشارة مع التبرك إلى عدم التقيد بشيء وإن جل: ﴿كلمات الله﴾ وفنيت الأقلام والمداد، وأشار بجمع القلة مع الإضافة إلى اسم الذات إلى زيادة العظمة بالعجز عن ذلك القليل فيفهم العجز عن الكلم من باب الأولى، ويتبع الكلمات الإبداع، فلا تكون كلمة إلا الأحداث شأن من الشؤون
﴿إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون﴾ [يس: ٨٢] وعلم من ذلك نفاد الأبحر كلها لأنها محصورة، فهي لا تفي بما ليس بمحصور، فيا لها من عظمة لا تتناهى! ومن كبرياء لا تجارى، ولا تضاهى، لا جرم كان نتيجة ذلك قوله مؤكداً لأن ادعاءهم الشريك إنكار للعزة، وعدم البعث إنكار للحكمة: ﴿إن الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً من غير قيد أصلاً ﴿عزيز﴾ أي يعجز كل شيء ولا يعجزه شيء ﴿حكيم *﴾ يحكم ما أراده، فلا يقدر أحد على نقضه، ولا علم لأحد من خلقه إلا ما علمه، ولا حكمة لأحد منهم إلا بمقدار ما أورثه، وقد علم أن الآية من الاحتباك: ذكر الأقلام دليلاً على
197
حذف مدادها، وذكر السبعة في مبالغة الأبحر دليلاً على حذفها في الأشجار، وهو من عظيم هذا الفن، وعلم أيضاً من السياق أن المراد بالسبعة المبالغة في الكثرة لا حقيقتها، وأن المراد بجمع القلة في «أبحر» الكثرة، لقرينة المبالغة، وبجمع القلة في ﴿كلمات﴾ حقيقتها لينتظم المعنى، وكل ذلك سائغ شائع في لغة العرب.
198
ولما ختم بهاتين الصفتين بعد إثبات القدرة على الإبداع من غير انتهاء، ذكر بعض آثارهما في البعث الذي تقدم أول السورة وأثناءها ذكره إلى حذرهم به في قوله «إلينا مرجعهم» فقال: ﴿ما خلقكم﴾ أي كلكم في عزته وحكمته إلا كخلق نفس واحدة، وأعاد النافي نصاًَ على كل واحد من الخلق والبعث على حدته فقال: ﴿ولا بعثكم﴾ كلكم ﴿إلا كنفس﴾ أي كبعث نفس، وبين الأفراد تحقيقاً للمراد، وتأكيداً للسهولة فقال: ﴿واحدة﴾ فإن كلماته مع كونها غير نافدة نافذة، وقدرته مع كونها باقية بالغة، فنسبه القليل والكثير إلى قدرته على حد سواء، لأنه لا يشغله شأن عن شأن، ثم دل على ذلك بقوله مؤكداً لأن تكذيبهم لرسوله وردهم لما شرفهم به يتضمن الإنكار لأن يكونوا بمرأى منه
198
ومسمع: ﴿إن الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة الشاملة ﴿سميع﴾ أي بالغ السمع يسمع كل ما يمكن سمعه من المعاني في آن واحد لا يشغله شيء منها عن غيره ﴿بصير*﴾ بليغ البصر يبصر كذلك كل ما يمكن أن يرى من الأعيان والمعاني، ومن كان كذلك كان المحيط العلم بالغه شامل القدرة تامها، فهو يبصر جميع الأجزاء من كل ميت، ويسمع كل ما يسمع من معانيه، فهو بإحاطة علمه وشمول قدرته يجمع تلك الأجزاء، ويميز بعضها من بعض، ويودعها تلك المعاني، فإذا هي أنفس قائمة كما كانت أول مرة في أسرع من لمح البصر.
ولما قرر هذه الآية الخارقة، دل عليها بأمر محسوس يشاهد كل يوم مرتين، مع دلالته على تسخير ما في السماوات والأرض، وإبطال قولهم: ﴿ما يهلكنا إلا الدهر﴾ [الجاثية: ٢٤] بأنه، هو الذي أوجد الزمان بتحريك الأفلاك، خاصاً بالخطاب من لا يفهم ذلك حق فهمه غيره، أو عاماً كل عاقل، إشارة إلى أنه في دلالته على البعث في غاية الوضوح فقال: ﴿ألم تر﴾ أي يا من يصلح لمثل هذا الخطاب، ويمكن أن يكون للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه لا يعلم ذلك من المخلوقين حق علمه غيره.
ولما كان كان البعث مثل إيجاد كل من الملوين بعد إعدامه، فكان إنكاره إنكارً لهذا، نبه على ذلك بالتأكيد فقال: ﴿أن الله﴾ أي
199
بجلاله وعز كماله ﴿يولج﴾ أي يدخل إدخالاً لا مرية فيه ﴿الليل في النهار﴾ فيغيب فيه بحيث لا يرى شيء منه، فإذا النهار قد عم الأرض كلها أسرع من اللمح ﴿ويولج النهار﴾ أي يدخله كذلك ﴿في الليل﴾ فيخفي حتى لا يبقى له أثر، فإذا الليل قد طبق الآفاق: مشارقها ومغاربها في مثل الظرف، فيميز سبحانه كلاً منهما - وهو معنى من المعاني - من الآخر بعد إضمحلاله، فكذلك الخلق والبعث في قدرته بعزته وحكمته لبلوغ سمعه ونفوذ بصره، ولما كان هذا معنى من المعاني يتجدد في كل يوم وليلة، عبر فيه بالمضارع.
ولما كان النيران جرمين عظيمين قد صرفنا على طريق معلوم بقدر لا يختلف، عبر فيهما بالماضي عقب ما هما آيتاه فقال: ﴿وسخر الشمس﴾ آية للنهار بدخول الليل فيه ﴿والقمر﴾ آية لليل كذلك! ثم استأنف ما سخرا فيه فقال: ﴿كل﴾ أي منهما ﴿يجري﴾ أي في فلكه سائراً متمادياً وبالغاً ومنتهياً.
ولما كان محط مقصود السورة الحكمة، وكانت هذه الدار مرتبطة بحكمة الأسباب والتطوير، والمد في الإبداع والتسيير، كان الموضع لحرف الغاية فقال: ﴿إلى أجل مسمى﴾ لا يتعداه في منازل معروفة في جميع الفلك لا يزيد ولا ينقص، هذا يقطعها في الشهر مرة وتلك
200
في السنة مرة، لا يقدر منهما أن يتعدى طوره، ولا أن ينقص دوره، ولا أن يغير سيره.
ولما بان بهذا التدبير المحكم، في هذا الأعظم، شمول علمه وتمام قدرته، عطف على «أن الله» قوله مؤكداً لأجل أن أفعالهم أفعال من ينكر علمه بها: ﴿وأن الله﴾ أي بما له من صفات الكمال المذكورة وغيرها، وقدم الجار إشارة إلى تمام علمه بالأعمال كما مضت الإشارة إليه غير مرة، وعم الخطاب بياناً لما قبله وترغيباً وترهيباً فقال: ﴿بما تعملون﴾ أي في كل وقت على سبيل التجدد ﴿خبير *﴾ لا يعجزه شيء منه ولا يخفى عنه، لأنه الخالق له كله دقه وجله، وليس للعبد في إيجاده غير الكسب لأنه لا يعلم مقدار الحركات والسكنات في شيء منه، ولو كان هو الموجد له لعلم ذلك لأنه لا يقدر على الإيجاد ناقص العلم أصلاً، وكم أخبر سبحانه في كتبه وعلى لسان أنبيائه بأشياء مستقبلية من أمور العباد، فكان ما قاله كما قاله، لم يقدر أحد منهم أن يخالف في شيء مما قاله، فتمت كلماته، وصدقت إشاراته وعباراته، وهذا دليل آخر على تمام القدرة على البعث وغيره باعتبار أن الخلائق في جميع الأرض يفوتون الحصر، وكل منهم
201
لا ينفك في كل لحظة عن عمل من حركة وسكون، وهو سبحانه الموجد لذلك كله في كل أن دائماً ما تعاقب الملوان، وبقي الزمان، لا يشغله شأن منه على شأن، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم لما خوطبوا بهذا في غاية العلم به. لما ذكر من دليله، ولما شاهدوا من إخبار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مغيبات تتعلق بأناس غائبين وأناس حاضرين، منهم البعيد جداً والمتوسط والقريب، وغير ذلك من أحوال توجب القطع لهم بذلك، هذا علمهم فكيف يكون عالم المخصوص في هذه الآية بالخطاب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع ما يشاهد من آثاره سبحانه وتعالى، ويطلع عليه من إبداعه في ملكوت السماوات والأرض وغير ذلك مما أطلعه عليه سبحانه وتعالى من عالم الغيب والشهادة.
ولما ثبت بهذه الأوصاف الحسنى والأفعال العلى أنه لا موجد بالحقيقة إلا الله قال: ﴿ذلك﴾ أي ذكره لما من الأفعال الهائلة والأوصاف الباهرة ﴿بأن﴾ أي بسبب أن ﴿الله﴾ أي الذي لا عظيم سواه ﴿هو﴾ وحده ﴿الحق﴾ أي الثابت بالحقيقة وثبوت غيره في الواقع عدم، لأنه مستفاد من الغير، وليس له الثبوت من ذاته، ومنه ما أشركوا به، ولذلك أفرده بالنص، فقال صارفاً للخطاب
202
الماضي إلى الغيبة على قراءة البصريين وحمزة وحفص عن عاصم إيذاناً بالغضب، وقراءة الباقين على الأسلوب الماضي ﴿وأنَّ ما يدعون﴾ أي هؤلاء المختوم على مداركهم، وأشار إلى سفول رتبتهم بقوله: ﴿من دونه﴾.
ولما تقدمت الأدلة الكثيرة على بطلان آلهتهم بما لا مزيد عليه، كقوله ﴿هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه﴾ وأكثر هنا من إظهار الجلالة موضع الإضمار تنبيهاً على عظيم المقام لم تدع حاجة إلى التأكيد بضمير الفصل فقال: ﴿الباطل﴾ أي العدم حقاً، لا يستحق أن تضاف إليه الإلهية بوجه من الوجوه، وإلا لمنع من شيء من هذه الأفعال مرة من المرات، فلما وجدت على هذا النظام علم أنه الواحد الذي لا مكافئ له.
ولما كانوا يعلونها عن مراتبها ويكبرونها بغير حق، قال: ﴿وأن الله﴾ أي الملك الأعظم وحده، ولما كان النيران مما عبد من دون الله، وكانا قد جمعاً علواً وكبراً، وكان ليس لهما من ذاتهما إلا العدم فضلاً عن السفول والصغر، ختم بقوله: ﴿هو العلي الكبير﴾ أي عن أن يداينه في عليائه ضد، أو يباريه في كبريائه ند.
203
ولما تضمنت الآية ثلاثة أشياء، أتبعها دليلها، فقال منبهاً على أن سيرنا في الفلك مثل سير النجوم في الفلك، وسير أعمارنا في فلك الأيام حتى يولجنا في بحر الموت مثل سير كل من الليل والنهار في فلك الشمس حتى يولجه في الآخر فيذهب حتى كأنه ما كان، ولولا تفرده بالحقية والعلو والكبر ما استقام ذلك، خاصاً بالخطاب أعلى الناس، تنبيهاً على أن هذه لكثرة الألف لها أعرض عن تأملها، فهو في الحقيقة حث على تدبرها، ويؤيده الإقبال على الكل عند تعليلها: ﴿ألم تر أن الفلك﴾ أي السفن كباراً وصغاراً ﴿تجري﴾ أي بكم حاملة ما تعجزون عن نقل مثله في البر، وعبر بالظرفية إشارة إلى أنه ليس لها من ذاتها إلا الرسوب في الماء لكثافتها ولطافته فقال: ﴿في البحر﴾ أي على وجه الماء، وعبر عن الفعل بأثره لأنه أحب فقال: ﴿بنعمت الله﴾ أي برحمة الملك الأعلى المحيط علماً وقدرة وإحسانه، مجدداً ذلك على مدى الزمان عليكم في تعليمكم صنعها حتى تهيأت لذلك على يدي أبيكم نوح العبد الشكور عليه السلام ﴿ليريكم من آياته﴾ أي عجائب قدرته ودلائله التي تدلكم على
204
أنه الحق الذي أثبت بوجوب وجوده ما ترون من الأحمال الثقال على وجه الماء الذي ترسب فيه الإبرة فما دونها، وهي مساوية لغيرها في أن الكل من التراب، فما فاوت بينها إلا هو بتمام قدرته وفعله بالاختيار.
ولما كان هذا أمراً إذا جرد النظر فيه عن كونه قد صار مألوفاً بهر العقول وحير الفهوم، أشار إليه بقوله مؤكداً تنبيهاً مما هم فيه من الغفلة عنه، لافتاً الخطاب بعد الجمع إلى الإفراد تنبيهاً على دقة الأمر وأنه - وإن كان يظن أنه ظاهر - لا يفهمه حق فهمه غيره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر الهائل البديع الرفيع ﴿لآيات﴾ أي دلالات واضحات على ما له من صفات الكمال في عدم غرقه وفي سيرة إلى البلاد الشاسعة، والأقطار البعيدة، وفي كون سيره ذهاباً وإياباً تارة بريحين، وأخرى بريح واحدة، وفي إنجاء أبيكم نوح عليه السلام ومن أراد الله من خلقه به وإغراق غيرهم من جميع أهل الأرض، وفي غير ذلك من شؤونه، وأموره وفنونه، ونعمه وفتونه وإن كان أكثر ذلك قد صار مألوفاً لكم فجهلتم أنه من خوارق العادات، ونواقض المطردات، وعلم من ختام التي قبلها أن
205
المراد - بقوله جامعاً لجميع الإيمان الذي هو نصفان: نصف صبر، ونصف شكر، وذلك تمام صفة المؤمن مظهراً موضع لك أو لكم - ما أفاد الحكم بكل من شاركه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الوصفين المذكورين: ﴿لكل صبار﴾ إدامة الفكر في هذه النعم واستحضارها في الشدة والرخاء، وأنها من عند الله، وأنه لا يقدر عليها سواه، والإذعان له في جميع ذلك، حفظاً لما دل عليه العقل من أخذ الميثاق بالشكر، وأن لا يصرف الحق إلى غير أهله، فيلزم عليه الإساءة إلى المحسن ﴿شكور *﴾ عليه مبالغ في كل من الصبر والشكر، وعلم من صيغة المبالغة في كل منهما أنه لا يعرف في الرخاء من عظمة الله ما كان يعرفه في الشدة إلا من طبعهم الله على ذلك ووفقهم له وأعانهم عليه بحفظ العهد وترك النقض جرياً مع ما تدعو إليه الفطرة الأولى السليمة، وقليل ما هم، وقال الرازي في اللوامع: وكيفما كان فالصبر هو الثبات في مراكز العبودية، والشكر رؤية النعمة من المنعم الحق وصرف نعمه إلى محابّه.
ولما كانوا يسارعون إلى الكفر بعد انفصالهم من هذه الآية العظمية، وإلباسهم ههذ النعمة الجسيمة، التي عرفتهم ما تضمنته الآية السالفة من حقيته وحده وعلوه وكبره وبطلان شركائهم، أعرض عنهم
206
وجه الخطاب لأنهم لم يرجعوا بعد الوضوح إيذاناً باستحقاق شديد الغضب والعذاب، فقال معجباً عاطفاً على ما تقديره: وأما غير الصبار الشكور فلا يرون ما في ذلك من الآيات في حال رخائهم: ﴿وإذا غشيهم﴾ أي علاهم وهم فيها حتى صار كالمغطى لهم، لأنه منعهم من أن تمتد أبصارهم كما كانت ﴿موج﴾ أي هذا الجنس، ولعله أفرده لأنه لشدة اضطرابه وإيتانه شيئاً في أثر شيء متتابعاً بركب بعضه كأنه شيء واحد، وأصله من الحركة والازدحام ﴿كالظلل﴾ أي حتى كان كأطراف الجبال المظلمة لمن يكون إلى جانبها، وللإشارة إلى خضوعهم غاية الخضوع كرر الأسم الأعظم فقال: ﴿دعوا الله﴾ أي مستحضرين لما يقدر عليه الإنسان من كماله بجلاله وجماله، عالمين بجميع مضمون الآية السالفة من حقيته وعلوه وكبره وبطلان ما يدعون من دونه ﴿مخلصين له الدين﴾ لا يدعون شيئاً سواه بألسنتهم ولا قلوبهم لما اضطرهم إلى ذلك من آيات الجلال، وقسرهم عليه من العظمة والكمال، واقتضى الحال في سورة الحكمة حذف ما دعوا به لتعظيم الأمر فيه لما اقتضاه من الشدائد لتذهب النفس فيه كل مذهب.
ولما كان القتل بالسيف أسهل عندهم من أن يقال عنهم: إنهم
207
أقروا بشيء هم له منكرون لأجل الخوف خوف السبة بذلك والعار حتى قال من قال: لولا أن يقال إني ما أسلمت إلا جزعاً من الموت فيسب بذلك بني من بعدي لأسلمت. بين لهم سبحانه أنهم وقعوا بما فعلوا عند خوف الغرق في ذلك، وأعجب منه رجوعهم إلى الكفر عند الإنجاء، لما فيه مع ذلك من كفران الإحسان الذي هو عندهم من أعظم الشنع، فقال دالاً بالفاء على قرب استحالتهم وطيشهم وجهالتهم: ﴿فلما نجّاهم﴾ أي خلصهم رافعاً لهم، تنجية لهم عظيمة بالتدريج من تلك الأهوال ﴿إلى البر﴾ نزلوا عن تلك المرتبة التي أخلصوا فيها الدين، وتنكبوا سبيل المفسدين وانقسموا قسمين ﴿فمنهم﴾ أي تسبب عن نعمة الإنجاء وربط بها إشارة إلى أن المؤثر لهذا الانقسام إنما هو الاضطرار إلى الإخلاص في البحر والنجاة منهم أنه كان منهم ﴿مقتصد﴾ متكلف للتوسط والميل للإقامة على الطريق المستقيم، وهو الإخلاص في التوحيد الذي ألجأه إليه الاضطرار، وهم قليل - بما دل عليه التصريح بالتبعيض، ومنهم جاحد للنعمة ملق لجلباب الحياة في التصريح بذلك،
208
وهو الأكثر - كما مضت الإشارة إليه ودل عليه ترك التصريح فيه بالتبعيض، وما يقتصد إلا كل صبار شكور، إما حالاً وإما مالاً ﴿وما يجحد﴾ وخوّف الجاحد بمظهر العظمة التي من شأنها الانتقام، فقال صارفاً القول إليه: ﴿بآياتنا﴾ أي ينكرها مع عظمها ولا سيما بعد الاعتراف بها ﴿إلا كل ختار﴾ أي شديد الغدر عظيمه لما نقض من العهد الهادي إليه العقل والداعي إليه الخوف ﴿كفور *﴾ أي عظيم الكفر لإحسان من هو متقلب في نعمه، في سره وعلنه، وحركاته وسكناته، ولا نعمة إلا وهي منه، ومن هنا جاءت المبالغة في الصفتين، وعلم أنهما طباق ومقابلة لختام التي قبلها، وأن الآية من الاحتباك: دل ذكر المقتصد أولاً على «ومنهم جاحد» ثانياً، وحصر الجحود في الكفور ثانياً على حصر الاقتصاد في الشكور أولاً، قال البغوي: قيل: نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين هرب رضي الله عنه عام الفتح إلى البحر فجاءهم ريح عاصف - يعني: فقال الركاب على عادتهم: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم ههنا شيئاً - فقال عكرمة رضي الله عنه: لئن أنجاني الله من هذا لأرجعن إلى محمد ولأضعن يدي في يده فسكنت الريح، فرجع عكرمة رضي الله عنه إلى مكة فأسلم وحسن إسلامه، وقال
209
مجاهد: مقتصد في القول مضمر للكفر، وقال الكلبي: مقتصد في القول أي من الكفار، لأن بعضهم كان أشد قولاً وأعلى في الافتراء من بعض.
210
ولما ظهرت بما ذكر في هذه السورة دقائق الحكمة، وانتشرت في الخافقين ألوية العظمة ونفوذ الكلمة، وأعربت ألسن القدرة عن دلائل الوحدانية، فلم تدع شيئاً من العجمة، فظهر كالشمس أنه لا بد من الصيرورة إلى يوم الفصل وختم بالمكذب، أمر سبحانه عباده عامة عاصيهم ومطيعهم بالإقبال عليه، وخوّفهم ما هم صائرون إليه، منادياً لهم بأدنى أوصافهم لما لهم من الذبذبة كما عرف به الحال الذي شرح آنفاً فقال: ﴿يأ أيها الناس﴾ أي عامة، ولفت الكلام إلى الوصف المذكر بالإحسان ترغيباً وترهيباً فقال: ﴿اتقوا ربكم﴾ أي والذي لا إله لكم غيره، لأنه لا محسن إليكم غيره، اتقاء يدوم وأنتم في غاية الاجتهاد فيه، لا كما فعلتم عند ما رأيتم من أهوال البحر.
ولما كانت وحدة الأله الملك توجب الخوف منه، لأنه لا مكافئ له، وكان أن عهد منه أنه لا يستعرض عبادة لمجازاتهم على
210
أعمالهم لا يخشى كما يخشى إذا علم منه أن يستعرضهم قال: ﴿واخشوا يوماً﴾ لا يشبه الأيام، ولا يعد هول البحر ولا غيره عند أدنى هول من أهواله شيئاً بوجه.
ولما كان المجرم إذا علم أن له عند الملك من يدفع عنه فتر ذلك من خوفه، وكان ما بين الوالد والولد من الحنو والشفقة والعطف والرحمة الداعية إلى المحاماة والنصرة والفداء بالنفس والمال أعظم مما بين غيرهما، فإذا انتفى إغناء أحدهما عن الآخر انتفى غيرهما بطريق الأولى قال: ﴿لا يجزي﴾ أي يغني فيه، ولعله حذف الصلة إشارة إلى أن هذا الحال لهم دائماً إلا أنه سبحانه أقام في هذه الدار أسباباً ستر قدرته بها، فصار الجاهل يحيل الأمر ويسنده إليها، وأما هناك فتزول الأسباب، وينجلي غمام الارتياب، ويظهر اختصاص العظمة برب الأرباب.
ولما كانت شفقة الوالد - مع شمولها لجميع أيام حياته - أعظم فهو يؤثر حياة ولده على حياته ويؤثر أن يحمل بنفسه الآلام والأموال بدأ به فقال: ﴿والد﴾ كائناً من كان ﴿عن ولده﴾ أي لا يوجد منه ولا يتجدد في وقت من الأوقات نوع من أنواع الجزاء
211
وإن تحقق أن الولد منه، والتعبير بالمضارع إشارة إلى أن الوالد لا يزال تدعوه الوالدية إلى الشفقة على الولد، وتجدد عنده العطف والرقة، والمفعول إما محذوف لأنه أشد في النفي وآكد، وإما مدلول عليه بما في الشق الذي بعده.
ولما كان الولد لا يتوقع منه الإغناء عن والده في الهزاهز إلا بعد بلوغه، أخره في عبارة دالة على ثبات السلب العام فقال: ﴿ولا مولود﴾ أي مولود كان ﴿هو جاز عن والده﴾ وإن علم أنه بعضه ﴿شيئاً﴾ من الجزاء، وفي التعبير ب «هو» إشعار بأن المنفي نفعه بنفسه، ففيه ترجية بأن الله قد يأذن له في نفعه إذا وجد الشرط، وعبر هنا بالاسم الفاعل لأن الولد من شأنه أن يكون ذلك له ديدناً لما لأبيه عليه من الحقوق، والفعل يطلق على من ليس من شأنه الاتصاف بمأخذ اشتقاقه، فعبر به في الأب لأنه لاحق للولد عليه يوجب عليه ملازمة الدفع عنه، ويكون ذلك من شأنه ومما يتصف به فلا ينفك عنه، وذلك كما أن الملك لو خاط صح أن يقول في تلك الحال: أنه يخيط، ولا يصح «خياط» لأن ذلك ليس من صنعته، ولا من شأنه.
ولما كان من المعلوم أن لسان حالهم يقول: هل هذا اليوم كائن
212
حقاً؟ أجيب هذا السؤال بقوله مؤكداً لمكان إنكارهم، لأفتاً القول إلى الاسم الأعظم لاقتضاء الوفاء له: ﴿إن وعد الله﴾ الذي له جميع معاقد العز والجلال ﴿حق﴾ يعني أنه سبحانه قد وعد به على جلال جلاله، وعظيم قدرته وكماله، فكيف يجوز أن يقع في وهم فضلاً عن أوهامكم أن يخلفه مع أن أدناكم - أيها العرب كافة - لا يرى أن يخلف وعده وإن ارتكب في ذلك الأخطار، وعانى فيه الشدائد الكبار، فلما ثبت أمره، وكان حبهم لسجن هذا الكون المشهود ينسيهم ذلك اليوم، لما جعل سبحانه في هذا الكون من المستلذات، تسبب عنه قوله: ﴿فلا تغرنكم﴾ مؤكداً لعظم الخطب ﴿الحياة الدنيا﴾ أي بزخرفها، ولا ما يبهج من لا تأمل له من فاني رونقها، وكرر الفعل والتأكيد إشارة إلى أن ما لهم من الألف بالحاضر مُعم لهم عما فيه من الزور، والخداع الظاهر والغرور، فقال مظهراً غير مضمر لأجل زيادةً التنبيه والتحذير: ﴿ولا يغرنكم بالله﴾ الذي لا أعظم منه ولا مكافئ له مع ولايته لكم ﴿الغرور *﴾ أي الكثير الغرور
213
المبالغ فيه، وهو الشيطان الذي لا أحقر منه، لما جمع من البعد والطرد والاحتراق مع عداوته بما يزين لكم من أمرها، ويلهيكم به من تعظيم قدرها، وينسيكموه من كيدها وغدرها، وتعبها وشرها، وأذاها وضرها، فيوجب ذلك لكم الإعراض عن ذلك اليوم، فلا تعدونه معاداً، فلا تتخذون له زاداً، لما اقترن بغروره من حلم الله وإمهاله، قال سعيد بن جبير رضي الله عنه: الغرة أن يعمل المعصية ويتمنى المغفرة.
ولما كان من الأمر الواضح أن لسان حالهم بعد السؤال عن تحقق ذلك اليوم يسأل عن وقته كما مضى في غير آية، ويأتي في آخر التي بعدها، إنا تعنتاً واستهزاء وإما حقيقة، أجاب عن ذلك ضاماً إليه أخواته من مفاتيح الغيب المذكورة في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الآتي، لما في ذلك من الحكمة التي سقيت لها السورة، مرتباً لها على الأبعد فالأبعد عن علم الخلق، فقال مؤكداً لما يعتقدون في كهانهم مظهراً الاسم الأعظم غير مضمر لشدة اقتضاء المقام له: ﴿إن الله﴾ أي بما له من العظمة وجميع أوصاف الكمال ﴿عنده﴾ أي خاصة، ولو قيل له مثلاً ما أفاد الحضور، ولو قيل «لديه» لأوهم التعبير بلدي
214
التي هي للحضور أن ذلك كناية عن قربها جداً، وأوهم أن علمه تعالى يتفاوت تعلقه بالأشياء بخصوص أو عموم لأجل أن «لدى» أخص من عند فكانت عند أوفق للمراد، فإنها أفادت التمكن من العلم مع احتمال تأخرها وسلمت من تطرق احتمال فاسد إليها ﴿علم الساعة﴾ أي وقت قيامها، لا علم لغيره بذلك أصلاً.
ولما كان سبحانه قد نصب عليها أمارات توجب ظنوناً في قربها، وكشف بعض أمرها، عبر تعالى بالعلم، ولما كانوا قد ألحوا في السؤال عن وقتها، وكانت أبعد الخمس عن علم الخلق، وكانت شيئاً واحداً لا يتجزى ﴿فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة﴾ [النازعات: ١٣] أبرزها سبحانه في جملة اسمية دالة على الدوام والثبوت على طريق الحصر، وهذا هو المفتاح الأول من مفاتيح الغيب ينفتح به من العلوم ما يجل عن الحصر عن قيام الأنفس بأبدانها، ماثلة على مذاقها بجميع أركانها، وأشكالها وألوانها، وسائر شأنها، وطيران الأرواح بالنفخ إليها واحتوائها عليها على اختلاف أنواعهم، وتغاير صورهم وأطوالهم، وتباين ألسنتهم وأعمالهم، إلى غير ذلك من الأمور، وعجائب المقدور، ثم سعيهم إلى الموقف ثم وقوفهم، ثم حسابهم إلى استقرار الفريقين في الدارين، هذا إلى موجهم
215
من شدة الزحام، والكروب العظام بعضاً في بعض. يطلبون من يشفع لهم في الحساب حتى يقوم المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون إلى انتقاض السماوات، وانكدار ما فيها من النيرات، ونزول الملائكة بعد قيامهم من منامهم، وهم من لا يحصى أهل سماء منهم، كثرة، كيف وقد أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم يصلي هذا إلى تبدل الأراضي وزوال الجبال، ونسف الأبنية والروابي والتلال، وغير ذلك مما لا يعلمه حق علمه إلا هو سبحانه.
﴿المفتاح الثاني﴾ : آية الله في خلقه على قيام الساعة، وأدل الأدلة عليه وهو إنزال المطر الذي يكشف عن الاختلاط في أعماق الأراضي بالتراب الذي كان نباتاً ثم إعادته نبتاً كما كان من قبل على اختلاف ألوانه، ومقاديره وأشكاله، وأغصانه وأفنانه، وروائحه وطعومه، ومنافعه وطبائعه - إلى غير ذلك من شؤونه، وأحواله وفنونه، التي لا يحيط بها علماً إلا خالقها ومبدعها وصانعها.
ولما كانوا ينسبون الغيث إلى الأنواء أسند الإنزال إليه سبحانه ليفيد الامتنان، وعبر بالجملة الفعلية للدلالة على التجدد فقال: ﴿وينزل الغيث﴾ بلام الاستغراق القائمة مقام التسوير ب «كل»
216
وقد أفاد ذلك الاختصاص بالعلم بوقته ومكانه ومقداره وغير ذلك من شؤونه، فإن من فعل شيئاً حقيقة لم يعلم أحد وقت فعله وقوعه إلا من قبله.
﴿المفتاح الثالث﴾ : علم الأجنة وهو الرتبة الثانية في الدلالة على البعث الكاشف عن تخطيطها وتصويرها، وتشكيلها وتقديرها، على وصفي الذكورة والأنوثة، مع الوضوح أو الإشكال، والوحدة أو الكثرة، والتمام أو النقص - إلى ما هناك من اختلاف المقادير والطبائع، والأخلاق والشمائل، والأكساب والصنائع، والتقلبات في مقدار العمر والرزق في الأوقات والأماكن - وغير ذلك من الأحوال التي لا يحصيها إلا بارئ النسم، ومحيي الرمم. ولما كانت للخلق في ذلك لكثرة الملابسات والمعالجات ظنون في وجود الحمل أولاً، ثم في كونه ذكراً أو أنثى ثانياً، ونحو ذلك بما ضرب عليه من الأمارات الناشئة عن طول التجارب، وكثرة الممارسة، عبر العلم فقال: ﴿ويعلم ما في الأرحام﴾ من ذكر أو أنثى حي أو ميت وغير ذلك، وصيغة المضارع لتجدد الأجنحة شيئاً فشيئاً وقتاً بعد وقت، والكلام في اللام والاختصاص
217
بالعلم كالذي قبله سواء.
﴿المفتاح الرابع﴾ : الكسب الناشئ عما في الأرحام الفاتح لكنوز السعادة وآفات الشقاوة والمسفر عن حقائق الضمائر في صدقها عند البلاء وكذبها، وعن مقادير العزائم ورتب الغرائز، وعن أحوال الناس عند ذلك في الصداقة والعداوة والذكاء والغباوة والصفاء والكدر والسلامة والحيل، وغير ذلك من الصحة والعلل، في اختلاف الأمور، وعجائب المقدور، في الخيور والشرور، مما لا يحيط به إلا مبدعه، وغارزه في عباده وودعه، ولكون الإنسان - مع أنه ألصق الأشياء وألزمه له - لا يعلمه مع إيساعه الحيلة في معرفته، عبر فيه بالدراية لأنها تدل على الحيلة بتصريف الفكر وإجالة الرأي - كما تقدم في سورة يوسف عليه السلام - أن مادة «درى» تدور على الدوران، ومن لوازمه إعمال الحيلة وإمعان النظر، فهي أخص من مطلق العلم فقال: ﴿وما تدري نفس﴾ أي من الأنفس البشرية وغيرها ﴿ما﴾ وأكد المعنى ب «ذا» وتجريد الفعل فقال: ﴿ذا تكسب غداً﴾ أي في المستقبل من خير أو شر بوجه من الوجوه، وفي نفي علم ذلك من العبد مع كونه ألصق الأشياء به دليل ظاهر على نفي علم ما قبله عنه لأنه أخفى منه، وقد تقدم إثبات علمه له سبحانه وتعالى، فصار على طريق الحصر،
218
وعلم أيضاً أنه لا يسند إلى العبد الأعلى طريق الكسب لأنه لو كان مخلوقاً له لعلمه قطعاً، فثبت أنه سبحانه وتعالى خالقه، فعلم اختصاصه بعلمه من هذا الوجه أيضاً.
﴿المفتاح الخامس﴾ : مكان الموت الذي هو ختام الأمر الدنيوي وطي سجل الأثر الشهودي، وابتداء الأمر الأخروي الظهر لأحوال البرزخ في النزول مع المنتظرين لبقية السفر إلى دائرة البعث وحالة الحشر إلى ما هنالك من ربح وخسران، وعز وهوان، وما للروح من الاتصال بالجسد والرتبة في العلو والسفول، والصعود والنزول، إلى ما وراء ذلك إلى ما لا آخر مما لا يعلم تفاصيله وجمله وكلياته وجزئياته إلا مخترعه وبارئه ومصطنعه.
ولما كان لا يعلمه الإنسان بنوع حيلة من شدة حذره منه وحبه لو أنفق جميع ما يمكله لكي يعلمه، عبر عنه عن الذي قبله فقال مؤكداً بإعادة النافي والمسند: ﴿وما تدري﴾ وأظهر لأنه أوضح وأليق بالتعميم فقال: ﴿نفس﴾ أي من البشر وغيره ﴿بأيّ أرض تموت﴾ ولم يقل: بأي وقت، لعدم القدرة على الانفكاك عن الوقت مع القدرة على الانفكاك عن مكان معين، وإحاطة العلم بكراهة كل أحد للموت، فكان ذلك أدل دليل على جهله بموضوع
219
موته إذ علم به لبعد عنه ولم يقرب منه، وقد روى البخاري حديث المفاتيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم قرأ ﴿إن الله عنده علم الساعة﴾ الآية»، وله عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث سؤال جبرئيل عليه السلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أشراط الساعة فأخبره ببعضها وقال: «خمس لا يعلمهن إلا الله ﴿إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيب﴾ » - إلى آخر السورة، فقد دل الحديث قطعاً على أن الآية فيما ينفرد سبحانه وتعالى بعلمه، وقد رتبها سبحانه هذا الترتيب لما تقدم من الحكمة وعلم سر إتيانه بها تارة في جملة اسمية وتارة في فعلية، وتارة ليس فيها ذكر للعلم، وأخرى يذكر فيها، ويسند إليه سبحانه، ولكن لا على وجه الحصر، وتارة بنفي العلم من غيره فقط من غير إسناد للفعل إليه، وعلم سر قوله «بأيّ أرض» دون أيّ وقت، كما في بعض طرق الحديث.
ولما كان قد أثبت سبحانه لنفسه اختصاص العلم عن الخلق بهذه الأشياء، أثبت بعدها ما هو أعلم لتدخل فيه ضمناً فيصير مخبراً
220
بعلمه لها مرتين، فقال على وجه التأكيد لأنهم ينكرون بعض ما يخبر به، وذلك يستلزم إنكارهم لبعض علمه: ﴿إنّ الله﴾ أي المختص بأوصاف الكمال والعظمة والكبرياء والجلال ﴿عليم﴾ أي شامل العلم للأمور كلها، كلياتها وجزئياتها، فأثبت العلم المطلق لنفسه سبحانه بعد أن نفاه على الغير في هذه الخمس تارة نصاً وأخرى بطريق الأولى أو باللازم، فانطبق الدليل على الدعوى - والله الموفق.
ولما أثبت العلم على هذا الوجه، أكده لأجل ما سيقت له السورة بقوله: ﴿خبير﴾ أي يعلم خبايا الأمور، وخفايا الصدور، كما يعلم ظواهرها وجلاياها، كل عنده على حد سواء، فهو الحكيم في ذاته وصفاته، ولذلك أخفى هذه المفاتيح عن عباده، لأنه لو أطلعهم عليها لفات كثير من الحكم، باختلاف هذا النظام، على ما فيه من الإحكام، فقد انطبق آخر السورة - بإثباته الحكمة بإثبات العلم والخبر مع تقرير أمر الساعة التي هي مفتاح الدار الآخرة - على أولها المخبر بحكمة صفته التي من علمها حق علمها، وتخلق بما دعت إليه وحضت عليه لا سيما الإيقان بالآخرة، كان حكيماً خبيراً عليماً مهذباً مهدياً مقرباً علياً، فسبحانه من هذا كلامه، وتعالى كبرياؤه وعز مرامه، ولا إله غيره وهو اللطيف.
221
مقصودها إنذار الكفار بهذا الكتاب السار للأبرار بدخول الجنة والنجاة من النار، واسمها السجدة منطبق على ذلك بما دعغت إليه آيتها من الإخبات وترك الاستكبار، وكذا تسميتها بآلم تنزيل فإنه مشير إلى تأمل جميع السورة، فهو في غاية الوضوح في هذا المقصود) بسم الله (ذي الجلال والإكرام العزيز الغفار) الرحمن (بعموم الشارة والنذارة) الرحيم (الذي أسكن في قلوب أحبابه الشوق إليه والخشوع بين يديه) آلم (تقدم في البقرة وغيرها شيء من أسرار هذه الأحرف، ومما لم يسبق أنها إشارة إلى أن اله المحيط في علمهه وقدرته وكل شأنه أرسل جبريل عليه السلام إلى محمد الفاتح الخاتم (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) بكتاب معجز دال بإعجازه على صحة رسالته، ووحدانية من أرسله، وعدله في العاصين، وفضله على المطيعين، وسرد سبحانه هذه الأحرف في أوائل أربع من هذه السور، فزادت على الطواسين بواحدة، وذلك بقدر العدد الذي يؤكد به، وزيادة مبدأ العدد إشارة إلى أن التكرير لم يرد به مطلق التأكيد، بل دوام التكرير،
222
إشارة إلى أن هذه المعاني يفي غاية الثبات لا انقطاع لها - والله الهادي.
ولما كانت المقصود في التي قبلها إثبات الحكمة لمنزل هذا الكتاب الذي هو بيان كل شيء الملزوم لتمام العلم وكمال الخبرة الذي ختمت به بعد أن أخبر أنه سبحانه مختص بعلم المفاتيح بعد أن أنذر بأمر الساعة، فثبت بذلك وما قبله أنه ما أثبت شيئا فقدر غيره من أهل الكتاب ولاغيرهم على نفيه، ولا نفي شيئا فقدر غيره على إثباته ولا إثبات شيء منه، كانت نتيجة ذلك أنه لا يكون شيء من الأشياء دقيقها وجليلها إلا يعلمه سبحانه وتعالى، وأجل ذلك إنزالا هذا الذكر الحكيم الذي فيه إثبات هذه العلوم مع شهادة العجز عن معارضته له بأنه من عند الله، فلذلك قال) تنزيل الكتاب (أيالجامع لكل هدى على ما ترون من التدريج من السماء) ولا ريب فيه) أي يفي كونه من السماء لأن نافي الريب وممطيه وهو الإعجاز معه لا ينفك عنه، فكل ما يقولونه مما يخالف ذلك تعنت أو جهل من غير ريب، حال كونه) من رب العالمين) أي الخالق لهم اللمدبر لمصالحهم، فلا يجوز في عقل ولا يخطر يفي بال ولا يقع يفي وهم ولا يتصور يفي خيال أنه يترك خلقه - وهو المدبر الحكيم -
223
من غير كتاب يكون سبب إبقائهم أو أن يصل شيء من كتابه إلى هذا النبي الكريم بغير أمره، فلا يتخيل أن شيئا من ليس بقول الله أن ثم لا يتخيل أنه كلامه تعالى ولكنه أخذه من بعض أهل الكتاب، لأن هذا يفعل مع ملك فكيف بملك الملوك، فكيف بمن هو عالم بالسر والجهر، محيط علمه بالخفي والجلي، فلو ادعى عليه أحد ما لم يأذن فيه لما أيده بالمعجزات.
ولما أقره على ذلك المدد المتطاولات، ولا سيما إعجاز، كل ما ينسبه إليه بالمعجزات، ويدعيه عليه، ما في آل عمران كمات كان أول لقمان غاية أول القرآن المطلق. وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما انطوت سورة الروم على ما قد أشير إليه من التنبيه بعجائب ما أودعه سبحانه وتعالى في عالم السماوات والأرض، وعلى ذكر الفطرة، ثم اتبعت بسورة لقمان تعريفا بأن مجموع تلك الشواهد من آيات الكتاب وشواهده ودلائله، وأنه قد هدى من شاء إلى سبيل الفطرة وإن لم يمتحنه بما امتحن به كثيرا ممن ذكر، فلم يغن عنه ودعى فلم يجب، وتكررت عليه الإنذارات فلم يصغ لها، لأن كل ذلك من الهدى والضلال واقع بمشيئته وسابق إرادته، واتبع سبحانه
224
ذلك بما ينبه المعغتبر على صحته فقلا: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى) [لقمان: ١١] فأعلم سبحانه أن الخلاص والسعادة يفي الاستسلام له ولما يقع من أحكامه، وعزى نبيه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وصبره بقوله: (ومن كفر فلا يحزنك كفره) [لقمان: ٢٣] ثم ذكر تعالى لجأ الكل قهرا ورجوعا يحاكم اضطرارهم لوضوح الأمر إليه تعالى فقال: (وائن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله (ثو وعظ تعالى الكل بقوله) ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة) أي إن ذلك لا يشق عليه سبحانه وتعالى ولا يصعب، والقليل والكثير سواء، ثم نبه بما يبين ذلك من إيلاج الليل يفي النهار والنهار قي الليل وجريان الفلك بنعمته) ذلك بأن الله هو الحق (، ثم أكد ما تقدم من رجوعهم يفي الشدائد إليه فقال: (وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصبن له الدين (فإذا خلصهم سبحانه وتعالة ونجاهم عادوا إلى سيئ أحوالهم، هذا وقد عاينوا رفقه بهم وأخذه عند الشدائد بأيديهم وقد اعترفوا بأنه خالق السماوات والأرض ومسخر الشمس والقمر، وذلك شاهد من حالهم بجريانهم على ما قدر لهم ووقوفهم عند حدود، السوابق) ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى (ثم عطف سبحانه على الجميع فدعاهم إلى تقواه، وحذرهم يوم المعاد وشدته، وحذرهم من الاغترار، وأعلمهم أنه المتفرد بعلم الساعة،
225
وإنزال الغيث، وعلم ما في الأرحام، وما يقع من المكتسبات، وحيث يموت كل من الخلوقات، فلما كانت سورة لقمان - بما بين من مضمنها - محتوية من التنبيه والتحريك على ما ذكر، ومعلمة بانفراده سبحانه بخلق الكل وملكهم ن اتبعها تعالى بما يحكم بتسجيل صحة الكتاب، وأنه من عنده وأن ما انطوى عليه من الدلائل والبراهين يرفع كل ريب، ويزيل كل شك،
226
Icon