تفسير سورة لقمان

فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن .
لمؤلفه زكريا الأنصاري . المتوفي سنة 926 هـ

قوله تعالى :﴿ ولّى مستكبرا كأن لم يسمعها كأن في أذنه وقرا... ﴾ [ لقمان : ٧ ].
قال هنا بزيادة ﴿ كأن في أذنه وقرا ﴾ وفي الجاثية( ١ ) بحذفه، مع أنهما نزلا في " النضر بن الحارث " ( ٢ ) حيث كان يعدل عن سماع القرآن، إلى اللهو وسماع الغناء، لأنه تعالى بالغ في ذمّه هنا، فناسب زيادة ذلك، بخلاف ما في الجاثية.
١ - في الجاثية: ﴿يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصرّ مستكبرا كأن لم يسمعها فبشّره بعذاب أليم﴾ آية (٨)..
٢ - هو أحد صناديد قريش وطغاتها، كان يشتري المغنيات، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام، إلا انطلق به إلى إحدى المغنيات، فيقول لها: أطعميه، واسقيه الخمر، وغنّيه، ثم يقول له: هذا خير مما يدعوك إليه محمد، من الصلاة، والصيام، والقتال بين يديه، حتى تُقتل، ففيه نزلت الآية..
قوله تعالى :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن... ﴾ [ لقمان : ١٤ ].
إن قلتَ : كيف وقعت الآيتان في أثناء وصية لقمان لابنه ؟
قلتُ : هما من الجمل الاعتراضية، التي لا محل لها من الإعراب، اعتُرض بها بين كلامين متّصلين معنى، تأكيدا لما في وصية لقمان لابنه، من النهي عن الشرك.
فإن قلتَ : لم فصل بين الوصية ومفعولها بقوله :﴿ حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين ﴾( ١ ) ؟ [ لقمان : ١٤ ].
قلتُ : تخصيصا للأم بزيادة التأكيد في الوصية، لما تكابده من المشاق.
١ - هذه الجملة ﴿حملته أمه.. ﴾ الخ وردت اعتراضية، ضمن الآية المعترضة، لبيان حق الأم العظيم على ولدها، حتى صار حقّها أعظم من حق الوالد، ولذلك ذكر قوله: ﴿حملته أمه وهنا على وهن... ﴾..
قوله تعالى :﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر... ﴾ [ لقمان : ٢٧ ].
إن قلت : المطابق لأولها أن يقال : وما في الأبحر من ماء مداد، فلم عدل عنه إلى قوله :﴿ والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ﴾ ؟
قلتُ : استغنى عن المِداد بقوله :﴿ يمدّه ﴾ من مدّ الدواة وأمدّها أي زادها مدادا، فجعل البحر المحيط بمنزلة الدّواة، والأبحر السبعة مملوءة مدادا أبدا، تنقل لا تنقطع، فصار نظير ما قلتم، ونظير قوله تعالى :﴿ قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربّي ﴾ [ الكهف : ١٠٩ ] الآية، وأشار ب " لو " إلى أن البحار غير موجودة، أي لو مُدَّت البحار الموجودة سبعة أبحر أخرى، وذكر السبعة ليس للحصر بل للمبالغة، وإنما خُصّت بالذكر لكثرة ما يُعدّ بها، كالكواكب السيارة، والسموات، والأرضين، وغيرها، ولأنها عدد تنحصر فيه المعدودات الكثيرة، إذ كلّ أحد يحتاج في حاجته إلى زمان ومكان، والزمان منحصر في سبعة أيام، والمكان في سبعة أقاليم.
فإن قلتَ : المقصود هنا التفخيم والتعظيم، فكيف أتى بجمع القلة في قوله :﴿ كلمات الله ﴾ ؟ [ لقمان : ٢٧[.
قلتُ : جمع القلّة هنا أبلغ في المقصود، لأن جمع القلّة إذا لم ينفذ بما ذُكر من الأقلام والمداد، فكيف ينفذ به جمع الكثرة ؟   !
قوله تعالى :﴿ كل يجري إلى أجل مسمى... ﴾ [ لقمان : ٢٩ ] الآية.
قاله هنا بلفظ " إلى " وفي فاطر( ١ )، والزمر بلفظ اللام، لأن ما هنا وقع بين اثنتين، دالّتين على غاية ما ينتهي إليه الخلق، وهما قوله تعالى :﴿ ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة ﴾ [ لقمان : ٢٨ ] وقوله :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوما ﴾ [ لقمان : ٣٣ ] الآية، فناسب ذكر " إلى " الدالة على الانتهاء، والمعنى : لا يزال كلّ من الشمس والقمر جاريا، حتى ينتهي إلى آخر وقت جريه، المسمّى له، وما في فاطر والزمر خال عن ذلك، إذْ ما في فاطر لم يُذكر مع ابتداء خلق ولا انتهاء به، وما في الزمر ذُكر مع ابتداء به فناسب ذكر اللام المعدّية، والمعنى : يجري كلّ مما ذُكر لبلوغ أجل.
١ - في فاطر ﴿وسخّر الشمس والقمر كلّ يجري لأجل مسمى... ﴾ آية (١٣)..
قوله تعالى :﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزّل الغيث ويعلم ما في الأرحام... ﴾ [ لقمان : ٣٤ ] الآية.
أضاف فيها العلم إلى نفسه، في الثلاثة من الخمسة المذكورة، ونفى العلم عن العباد في الأخيرين منها، مع أن الخمسة سواء في اختصاص الله تعالى بعلمها، وانتفاء علم العباد بها، لأن الثلاثة الأُوَلَ، أمرُها أعظم وأفخم، فخُصّت بالإضافة إليه تعالى، والأخيرين من صفات العباد، فخُصّا بالإضافة إليهم، مع انه إذا انتفى عنهم علمها، كان انتفاءُ علم ما عداها من الخمسة أولى.
فإن قلتَ : لم قال تعالى :﴿ بأيّ أرض تموت ﴾ [ لقمان : ٣٤ ] ولم يقل : بأي وقت تموت، مع أن كلا منهما غير معلوم لغيره، بل نفي العلم بالزمان أولى، لأن من الناس من يدّعي علمه، بخلاف المكان.
قلتُ : إنما خصّ المكان بنفي علمه، لأن وجوده في مكان دون مكان، في وسع الإنسان واختياره، فاعتقاده علم مكان موته أقرب، بخلاف الزمان، ولأن للمكان دون الزمان تأثيا في جلب الصحة والسُّقم، أو تأثيره فيهما أكثر.
Icon