تفسير سورة المائدة

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة المائدة مدنية، نهارية كلها، عشرون ومائة آية كوفية
إلا قوله تعالى :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم ﴾ الآية، فإنها نزلت بعرفة

قال مقاتل: قوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ ﴾، يعنى بالعهود التى بينكم وبين المشركين.
﴿ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ ٱلأَنْعَامِ ﴾، يعنى أحل لكم أكل لحوم الأنعام، الإبل، والبقر، والغنم، والصيد كله.
﴿ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾، يعنى غير ما نهى الله عز وجل عن أكله مما حرم الله عز وجل، من الميتة، والدم، ولحم الخنزير، والمنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، ثم قال: ﴿ غَيْرَ مُحِلِّي ٱلصَّيْدِ ﴾، يقول: من غير أن تستحلوا الصيد.
﴿ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾، يقول: إذا كنت محرماً بحج أو عمرة، فالصيد عليك حرام كله، غير صيد البحر، فإنه حلال لك.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ﴾ [آية: ١]، فحكم أن يجعل ما شاء من الحلال حراماً، وجعل ما شاء مما حرم فى الإحرام من الصيد حلالاً.
قال تعالى ذكره: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى مناسك الحج والعمرة، وذلك أن الحمس، قريشاً، وخزاعة، وكنانة، وعامر بن صعصعة، كانوا يستحلون أن يغير بعضهم على بعض فى الأشهر الحرم وغيرها، وكانوا لا يسعون بين الصفا والمروة، وكانوا لا يرون الوقوف بعرفات من شعائر الله، فلما أسلموا أخبرهم الله عز وجل بأنها من شعائر الله، فقال عز وجل:﴿ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ ﴾[البقرة: ١٥٨].
وأمر سبحانه أن يسعى بينهما، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ ﴾ ﴿ وَلاَ ٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَلاَ ٱلْهَدْيَ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ ﴾، يقول: لا تستحلوا القتل فى الشهرا الحرام، وذلك أن أبا ثمامة جنادة بن عوف بن أمية من بنى كنانة كان يقوم كل سنة فى سوق عكاظ، فيقول: ألا إنى قد أحللت المحرم، وحرمت صفراً، وأحللت كذا، وحرمت كذا، ما شاء، وكانت العرب تأخذ به، فأنزل الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، يعنى جنادة بن عوف.
﴿ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ ﴾، يعنى خلافاً على الله جل اسمه وعلى ما حرم،﴿ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ ﴾[التوبة: ٣٧] من الأشهر الحرم. ثم رجع إلى الآية الأولى فى التقديم، فقال تعالى: ﴿ وَلاَ ٱلْقَلاۤئِدَ ﴾، كفعل أهل الجاهلية، وذلك أنهم كانوا يصيبون من الطريق، قال: وكان فى الجاهلية من أراد الحج من غير أهل الحرم، يقلد نفسه من الشعر والوبر، فيأمن به إلى مكة، وإن كان من أهل الحرم، قلد نفسه وبعيره من لحيا شجر الحرم، فيأمن به حيث يذهب، فهذا فى غير أشهر الحرم، لم يقلدوا أنفسهم ولا أباعرهم وهم يأمنون حيث ما ذهبوا. قال عز وجل: ﴿ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ ﴾، يعنى متوجهين نحو البيت، نزلت فى الخطيم، يقول: لا تتعرضوا الحجاج بيت الله.
﴿ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ ﴾، يعنى الرزق فى التجارة فى مواسم الحج.
﴿ وَرِضْوَاناً ﴾، يعنى رضوان الله بحجهم، فلا يرضى الله عنهم حتى يسلموا، فنسخت آية السيف هذه الآية كلها. قوله سبحانه: ﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ ﴾ من الإحرام.
﴿ فَٱصْطَادُواْ ﴾، يقول: إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا.
﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ﴾، يقول: ولا يحملنكم عداوة المشركين من أهل مكة.
﴿ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ﴾، يعنى منعوكم من دخول البيت الحرام أن تطوفوا به عام الحديبية.
﴿ أَن تَعْتَدُواْ ﴾، يعنى أن ترتكبوا معاصيه، فتستحلوا أخذ الهدى والقلائد والقتل فى الشهر الحرام من حجاج بكر بن وائل من أهل اليمامة، نزلت فى الخطيم، واسمه شريح بن ضبيعة بن شرحبيل بن عمر بن جرثوم البكرى، من بنى قيس بن ثعلبة، وفى حجاج المشركين، وذلك" أن شريح بن ضبيعة جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، اعرض علىَّ دينك، فعرض عليه وأخبره بما له وبما عليه، فقال له شريح: إن فى دينك هذا غلظاً، فأرجع إلى قومى فأعرض عليهم ما قلت، فإن قبلوه كنت معهم، وإن لم يقبلوه كنت معهم. فخرج من عند النبى صلى الله عليه وسلم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " لقد دخل بقلب كافر، وخرج بوجه غادر، وما أرى الرجل بمسلم "، ثم مر على مسرح المدينة فاستاقها، فطلبوه فسبقهم إلى المدينة، وأنشأ يقول: قد لفها الليل بسواق حطم   ليس براعى إبل ولا غنمولا بجزار على ظهر وضم   خدلج الساق ولا رعش القدمقال أبو محمد عبدالله بن ثابت: سمعت أبى يقول: قال أبو صالح: قتله رجل من قومه على الكفر، وقدم الرجل الذى قتله مسلماً، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً عام الحديبية فى العام الذى صده المشركون، جاء شريح إلى مكة معتمراً، معه تجارة عظيمة فى حجاج بكر بن وائل، فلما سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدوم شريح وأصحابه، وعرفوا بنبئهم، فأراد أهل السرح أن يغيروا عليهكما أغار عليهم من قبل شريح وأصحابه، فقالوا: نستأمر النبى صلى الله عليه وسلم، فاستأمروه، فنزلت الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى أمر المناسك. ولا تستحلوا فى الشهر الحرام أخذ الهدى ولا القلائد، يقول: ولا تخيفوا من قلد بعيره، ولا تستحلوا القتل آمين البيت الحرام، يعنى متوجهين قبل البيت الحرام من حجاج المشركين، يعنى شريح ابن ضبيعة وأصحابه يبتغون بتجاراتهم فضلاً من الله، يعنى الرزق والتجارة ورضوانه بحجهم، فنهى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن قتالهم، ثم لم يرض منهم حتى يسلموا، فنسخت هذه الآية آية السيف، فقال عز وجل:﴿ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ﴾[التوبة: ٥]، ثم قال تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ ﴾ [آية: ٢].
قوله سبحانه: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ ﴾، يعنى أكل الميتة.
﴿ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ ﴾، يعنى الذى ذبح لأصنام المشركين ولغيرهم، هذا حرام البتة إن أدركت ذكاته أو لم تدرك ذكاته، فإنه حرام البتة؛ لأنهم جعلوه لغير الله عز وجل، ثم قال عز وجل: ﴿ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ ﴾، يعنى وحرم المنخنقة، الشاة، والإبل، والبقر التى تنخنق أو غيره حتى تموت.
﴿ وَٱلْمَوْقُوذَةُ ﴾، يعنى التى تضرب بالخشب حتى تموت.
﴿ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ ﴾، يعنى التى تردى من الجبل، فتقع منه أو تقع فى بئر فتموت.
﴿ وَٱلنَّطِيحَةُ ﴾، يعنى الشاة تنطح صاحبتها فتموت.
﴿ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ ﴾ من الأنعام والصيد، يعنى فريسة السبع. ثم استثنى، فقال سبحانه: ﴿ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ ﴾، يعنى إلا ما أدركتم ذكاته من المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع، فما أدركتم ذكاته من المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع مما أدركتم ذكاته، يعنى بطرف، أو بعرق يضرب، أو بذنب بتحرك، ويذكى فهو حلال.
﴿ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ ﴾، يعنى وحرم ما ذبح على النصب، وهى الحجارة التى كانوا ينصبونها فى الجاهلية فيعبدونها، فهو حرام البتة، وكان خزان الكعبة يذبحون لها، وإن شاءوا بدلوا تلك الحجارة بحجارة أخرى، وألقوا الأولى. ثم قال تعالى ذكره: ﴿ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِٱلأَزْلاَمِ ﴾، يعنى وأن تستقسموا الأمور بالأزلام، والأزلام قدحان فى بيت أصنامهم، فإذا أرادوا أن يركبوا أمراً أتوا بيت أصنامهم، فضربوا بالقدحين، فما خرج من شىء عملوا به، وكان كتب على أحدهما: أمرنى ربى، وعلى الآخر: نهانى ربى، فإذا أرادوا سفراً أتوا ذلك البيت، فغطوا عليه ثوباً، ثم يضربون بالقدحين، فإن خرج السهم الذى فيه: أمرنى ربى، خرج فى سفره، وإن خرج السهم الذى فيه: نهانى ربى، لم يسافر، فهذه الأزلام.﴿ ذٰلِكُمْ فِسْقٌ ﴾، يعنى معصية حراماً ﴿ ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ ﴾، يعنى لا تخشوا الكفار.
﴿ وَٱخْشَوْنِ ﴾ فى ترك أمرى، ثم قال سبحانه: ﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ يعنى يوم عرفة، لم ينزل بعدها حلال ولا حرام، ولا حكم، ولا حد، ولا فريضة، غير آيتين من آخر سورة النساء:﴿ يَسْتَفْتُونَكَ... ﴾[النساء: ١٧٦].
﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾، يعنى شرائع دينكم أمر الحلال والحرام، وذلك أن الله جل ذكره كان فرض على المؤمنين شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالبعث، والجنة، والنار، والصلاة ركعتين غدوة وركعتين بالعشى شيئاً غير مؤقت، والكف عن القتال قبل أن يهاجر النبى صلى الله عليه وسلم، وفرضت الصلوات الخمس ليلة المعراج، وهو بعد بمكة، والزاكة المفروضة بالمدينة، ورمضان، والغسل من الجنابة، وحج البيت، وكل فريضة. فلما حج حجة الوداع، نزلت هذه الآية يوم عرفة، فبركت ناقة النبى صلى الله عليه وسلم لنزول الوحى بجمع، وعاش النبى صلى الله عليه وسلم بعدها إحدى وثمانين ليلة، ثم مات يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، وهى آخر آية نزلت فى الحلال والحرام.
﴿ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾، يعنى شرائع دينكم أمر حلالكم وحرامكم ﴿ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾، يعنى الإسلام إذ حججتم وليس معكم مشرك.
﴿ وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأِسْلاَمَ دِيناً ﴾، يعنى واخترت لكم الإسلام ديناً، فليس دين أرضى عند الله عز وجل من الإسلام. قال سبحانه:﴿ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾[آل عمران: ٨٥]، ثم قال عز وجل ﴿ فَمَنِ ٱضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ ﴾، يعنى مجاعة وجهد شديد أصابه من الجوع.
﴿ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ ﴾ غير متعمد لمعصية.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٣]، إذا رخص له فى أكل الميتة، ولحم الخنزير، حين أصابه الجوع الشديد والجهد، وهو على غير المضطر حرام.
﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ ﴾ من الصيد، وذلك أن زيد الخير، وهو من بنى المهلهل، وعدى بن حاتم الطائيان، سألا النبى صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله، كلاب آل درع وآل حورية يصدن الظباء والبقر والحمر، فمنها ما تدرك ذكاته فيموت، وقد حرم الله عز وجل الميتة، فماذ يحل لنا؟ فنزلت: ﴿ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ ﴾ من الصيد ﴿ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ ﴾، يعنى الحلال، وذبح ما أحل الله لهم من الصيد مما أدركت ذكاته. ثم قال: ﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ ﴾، يعنى الكلاب معلمين للصيد.
﴿ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ ﴾، يقول: تؤدبوهن كما أدبكم الله، فيعرفون الخير والشر، وكذا الكاتم أيضاً، فأدبوا كلابكم فى أمر الصيد.
﴿ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ﴾، يقول: فكلوا مما أمسكن، يعنى حبس عليكم الكلاب المعلمة.
﴿ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ ﴾ إذا أرسلتم بعد أن أمسك عليكم.
﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾، فلا تستحلوا أكل الصيد من الميتة، إلا ما ذكى من صيد الكلب المعلم، ثم خوفهم، فقالك ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ ﴾ [آية: ٤] لمن يستحل أكل الميتة من الصيد إلا من اضطر. قوله: ﴿ ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ ﴾، يعنى الحلال، أى الذبائح من الصيد.
﴿ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ﴾، يعنى بالطعام ذبائح الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى، ذبائحهم ونساؤهم حلال للمسلمين.
﴿ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ﴾، يعنى ذبائح المسلمين وذبائح نسائهم حلال لليهود والنصارى، ثم قال عز وجل: ﴿ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَاتِ ﴾، يعنى وأحل لكم تزويج العفائف من المؤمنات.
﴿ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ﴾، يعنى وأحل تزويج العفائف من حرائر نساء اليهود والنصارى، نكاحهن حلال للمسلمين.
﴿ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ﴾، يعنى إذا أعطيتموهن مهورهن.
﴿ مُحْصِنِينَ ﴾ لفروجهن من الزنا.
﴿ غَيْرَ مُسَافِحِينَ ﴾، يعنى غير معلنات بالزنا علانية.
﴿ وَلاَ مُتَّخِذِيۤ أَخْدَانٍ ﴾، يعنى لا تتخذ الخليل فى السر فيأتيها، فلما أحل الله عز وجل نساء أهل الكتاب، قال المسلمون: كيف تتزوجهوهن وهن على غير ديننا، وقالت نساء أهل الكتاب: ما أحل الله تزويجنا للمسلمين إلا وقد رضى أعمالنا، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَانِ ﴾، يعنى من نساء أهل الكتاب بتوحيد الله.
﴿ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾ [آية: ٥]، يعنى من الكافرين.
﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ فٱغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ٱلْمَرَافِقِ وَٱمْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى ٱلْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً ﴾، يعنى إن أصابتكم جنابة.
﴿ فَٱطَّهَّرُواْ ﴾، يعنى فاغتسلوا.
﴿ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىۤ ﴾، نزلت فى عبدالرحمن بن عوف، رضى الله عنه، أو أصابكم جراحة، أو جدرى، أو كان بكم قروح وأنتم مقيمون فى الأهل، فخشيتم الضرر والهلاك، فتيمموا الصعيد ضربة للوجه وضربة للكفين.
﴿ أَوْ ﴾ إن كنتم ﴿ عَلَىٰ سَفَرٍ ﴾، نزلت فى عائشة، رضى الله عنها، حين أسقطت قلادتها، وهو مع النبى صلى الله عليه وسلم فى غزاة بنى أنمار، وهم حى من قيس عيلان.﴿ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ ٱلْغَائِطِ ﴾ فى السفر ﴿ أَوْ لاَمَسْتُمُ ٱلنِّسَآءَ ﴾، يعنى جامعتم النساء فى السفر.
﴿ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَٱمْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ ﴾، يعنى من الصعيد ضربتين، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الكرسوع، ولم يؤمروا بمسح الرأس فى التيمم.
﴿ مَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ ﴾، يعنى ضيق فى أمر دينكم، أذ رخص لكم فى التيمم.
﴿ وَلَـٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ﴾ فى أمر دينكم من الأحداث والجنابة.
﴿ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ﴾، يعنى إذ رخص لكم فى التيمم فى السفر، والجراح فى الحضر.
﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آية: ٦] رب هذه النعم فتوحدونه، فلما نزلت الرخصة، قال أبو بكر الصديق، رضى الله عنه، لعائشة، رضوان الله عليها: والله ما علمتك إلا مباركة. قوله سبحانه: ﴿ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ ٱلَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ ﴾، يعنى بالإسلام يوم أخذ ميثاقكم على المعرفة بالله عز وجل والربوبية.
﴿ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾، ذلك أن الله عز وجل أخذ الميثاق الأول على العباد حين خلقهم من صلب آدم، عليه السلام، فذلك قوله عز وجل:﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِيۤ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ شَهِدْنَآ ﴾[الأعراف: ١٧٢] على أنفسنا، فمن بلغ منهم العمل، وأقر لله عز وجل بالإيمان به، وبآياته، وكتبه، ورسله، والكتاب، والملائكة، والجنة، والنار، والحلال، والحرام، والأمر، والنهى أن يعمل بما أمر، وينتهى عما نهى، فإذا أوفى لله تعالى بهذا، أوفى الله له بالجنة.. فهذان ميثاقان، ميثاق بالإيمان بالله، وميثاق بالعمل، فذلك قوله سبحانه فى البقرة:﴿ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾[البقرة: ٢٨٥]، سمعنا بالقرآن الذى جاء من عند الله، وأطعنا الله عز وجل فيه، وذلك قوله سبحانه فى التغابن:﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ ﴾[التغابن: ١٦]، يقول: اسمعوا القرآن الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله عز وجل، وأطيعوا الله فيما أمركم، فمن بلغ الحلم والعمل ولم يؤمن بالله عز وجل ولا بالرسول والكتاب، فقد نقض الميثاق الأول بالإيمان بالله عز وجل، وبما أخذ الله تعالى عليه حين خلقه وصار من الكافرين، ومن أخذ الله عز وجل عليه الميثاق الأول، ولم يبلغ الحلم، فإن الله عز وجل أعلم به. قال: وسُئل عبدالله بن عباس عن أطفال المشركين، فقال: لقد أخذ الله عز وجل الميثاق الأول عليهم، فلم يدركوا أجلاً، ولم يأخذوا رزقاً، ولم يعملوا سيئة،﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ﴾[الإسراء: ١٥]، وماتوا على الميثاق الأول، فالله أعلم بهم. ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾، ولا تنقضوا ذلك الميثاق.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ ﴾ [آية: ٧]، يعنى بما فى قلوبهم من الإيمان والشك.
قوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلْقِسْطِ ﴾، يعنى قوالين بالعدل، شهداء لله.
﴿ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ﴾، يقول: لا تحملنكم عداوة المشركين، يعنى كفار مكة.
﴿ عَلَىۤ أَلاَّ تَعْدِلُواْ ﴾ على حجاج ربيعة، وتستحلوا منهم محرماً.
﴿ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ فاعدلوا، فإن العدل أقرب للتقوى، يعنى لخوف الله عز وجل.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٨]، يعظهم ويحذرهم. ثم قال سبحانه: ﴿ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾، يعنى وأدوا الفرائض.
﴿ لَهُم مَّغْفِرَةٌ ﴾ لذنوبهم.
﴿ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [آية: ٩]، يعنى جزاء حسناً، وهو الجنة.
﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ من أهل مكة.
﴿ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ ﴾، يعنى القرآن.
﴿ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ ﴾ [آية: ١٠]، يعنى ما عظم من النار.
قوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ... ﴾ الآية، نزلت هذه الآية؛ لأن" رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد بعث المنذر بن عمرو الأنصارى فى أناس من أصحابه إلى بئر معونة، وهو ماء بنى عامر، فساروا حتى أشرفوا على الأرض، فأدركهم الماء فنزلوا، فلما كان المساء، أضل أربعة منهم بعيراً لهم، فاستأذنوا أن يقيموا، فأذن لهم المنذر، ثم سار المنذر بمن معه، وأصبح القوم وقد جمعوا لهم على الماء، وكانت بنو سليم هم الذين آذنوا بنى عامر بهم، فالتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل المنذر بن عمرو ومن معه، وأصاب الأربعة بعيرهم من الغد، فأقبلوا فى طلب أصحابهم، فلقيتهم وليدة لبنى عامر فى غنيمة ترعاها، فقالت لهم: أمن أصحاب محمد أنتم؟ قالوا: نعم، رجاء أن تسلم، فقالت: النجاء، فإن إخوانكم قد قتلوا حول الماء، قتلهم عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر. فقال أحد الأربعة: ما ترون؟ قالوا: نرى أن نرحل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنخبره بالذى كان، قال: لكنى والله لا أرجع حتى أنتقم من أعداء أصحابى اليوم، فامضوا راشدين واقرأوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منى السلام كثيراً، فأشرف على الخيل، فنظر إلى أصحابه مقتلين عند الماء، فأخذ سيفه، فضرب به حتى قُتل، رحمه الله، ورجع الثلاثة إلى المدينة، فأتوها حين أمسوا، فلقوا رجلين من بنى سليم وهما خارجان من المدينة، فقالوا لهما: من أنتما؟ قالا: نحن من بنى عامر، فقالوا: أنتما ممن قتل إخواننا، فأقبلوا عليهما فقتلوهما. ثم دخلوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فأخبروه الخبر، فوجدوا الخبر قد سبق إليه، فقالوا: يا رسول الله، غشينا المدينة ممسين، فوجدنا رجلين من بنى عامر، فقتلناهما وهذا سلبهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " بئس ما صنعتما، فإنهما كانا من بنى سليم "، قال: وكان بين بنى سليم وبين النبى صلى الله عليه وسلم موادعة وعهد، فنزلت: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ يقول: لا تعجلوا بأمر ولا بفعل حتى يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ ولا تخالفوا على نبيكم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ ﴾ لما تقولون.
﴿ عَلِيمٌ ﴾ [الحجرات: ١] بما تفعلون. وجاء أهل السليميين، فقالوا: يا محمد، إن صاحبينا أتياك فقتلا عندك: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن صاحبيكما اعتزيا إلى عدونا حتى قتلا، ولكنا سنعقل صاحبيكم "، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أهل عهده، فبدأ ببنى النضير، فقال: " أنتم جيراننا وحلفاؤنا، والأيام دول، وقد رأيتم الذى أصابنا، فاتخذوا عندنا يداً نجزكم بها غداً إن شاء الله "، فقالوا: مرحباً بك وأهلاً، إخواننا بنو قريظة لا نحب أن نسبقهم بأمر، ولكن ائتنا يوم كذا وكذا، وقد جمعنا لك الذى تريد أن نعطيك. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم، فأرسلوا إلى بنى قريظة: أن محمداً مغرور، يأتينا فى الرجل والرجلين، فاجتمعوا له فاقتلوه، فأتاهم الله صلى الله عليه وسلم لميعادهم، ومعه ثلاثة نفر: أبو بكر، وعمر، وعلى، رضى الله عنهم، وهو صلى الله عليه وسلم، رابعهم، فأجلسوه فى صفة لهم، ثم خرجوا يجمعون السلاح له، وكان كعب بن الأشرف عند ذلك بالمدينة، فهم ينتظرونه حتى يأتيهم، فأوحى الله عز وجل إلى نبيه، فأتاه جبريل، عليه السلام، فأخبره بما يراد به وبأصحابه، فقام نبى الله صلى الله عليه وسلم، ولم يؤذن أصحابه مخافة أن يثوروا بهم، فأتى باب الدار، فقام به. فلما أبطأ على أصحابه، خرج على لينظر ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو على الباب، فقال: يا رسول الله، احتبست علينا، حتى خفنا عليك أن يكون قد اغتالك أحد، قال: " فإن أعداء الله قد أرادوا ذلك، فقم مكانك بالباب حتى يخرج إليه بعض أصحابك، فأقمه مكانك وأخبره بالذى أخبرتك، ثم الحقنى "، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام الآخر بالباب، حتى خرج إليه صاحبه، فقال: احتبست أنت ورسول الله، حتى خفنا عليكما، فأخبره الخبر، فمكث مكانه ولحق الآخر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أبطأوا على صاحبهم خرج، فاتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم "، فذلك قوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ ﴾، وهم اليهود.
﴿ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ﴾ بالسوء.
﴿ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ﴾ ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آية: ١١].
قوله سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ ٱثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ﴾، يعنى شاهداً على قومهم، من كل سبط رجلاً ليأخذ هذا الرجل على سبطه الميثاق، وشهداء على قومهم، وكانوا اثنى عشر سبطاً، على كل سبط منهم رجلاً، فأطاع الله عز وجل منهم خمسة، فكان منهم طالوت، ممن أطاع الله عز وجل، وعصى منهم سبعة، فنقبوا على أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً.
﴿ وَقَالَ ٱللَّهُ ﴾ عز وجل للنقباء الاثنى عشر.
﴿ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمْ ٱلزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي ﴾، يعنى الذين بعثتهم إليكم، وفيهم عيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا بعيسى ومحمد، صلى الله عليهما وسلم. قال الله تعالى: ولقد أخذ الله ميثاقكم على أن تعملوا بما فى التوراة، فكان الإيمان بالنبيين من عمل التوراة، ثم قال سبحانه: ﴿ وَعَزَّرْتُمُوهُمْ ﴾، يعنى وأعنتموهم حتى يبلغوا الرسالة.
﴿ وَأَقْرَضْتُمُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ﴾، يعنى طيبة بها أنفسكم، وهو التطوع.
﴿ لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ﴾، يقول: أغفر لكم خطاياكم الذى كان منكم فيما بينكم وبينى.
﴿ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾، يعنى البساتين.
﴿ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ ﴾ [آية: ١٢]، يعنى فقد أخطأ قصد الطريق، طريق الهدى، فنقضوا العهد والميثاق. فذلك قوله سبحانه: ﴿ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ ﴾، فبنقضهم ميثاقهم لعناهم بالمسخ.
﴿ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ﴾، يعنى قست قلوبهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ ﴾، والكلم صفة محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ ﴾، وذلك أن الله عز وجل أخذ ميثاق بنى إسرائيل فى التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويصدقوا به، وهو مكتوب عندهم فى التوراة، فلما بعثه الله عز وجل كفروا به وحسدوه، وقالوا: إن هذا ليس من ولد إسحاق، وهو من ولد إسماعيل، فقال الله عز وجل: ﴿ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ ﴾، وهو الغش للنبى صلى الله عليه وسلم.
﴿ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ ﴾، والقليل مؤمنيهم عبدالله بن سلام وأصحابه. يقول الله عز وجل: ﴿ فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ ﴾، حتى يأتى الله بأمره فى أمر بنى قريظة والنضير، فكان أمر الله فيهم القتل والسبى والجلاء، يقول: فاعف عنهم حتى يأتى، يعنى يجىء ذلك الأمر، فبلغوه فسبوا وأجلوا، فصارت آية العفو والصفح منسوخة، نسختها آية السيف فى براءة، فلما جاء ذلك الأمر قتلهم الله تعالى وسباهم وأجلاهم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ [آية: ١٣].
ثم ذكر أهل الإنجيل، فقال سبحانه: ﴿ وَمِنَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَىٰ ﴾، إنما سموا نصارى؛ لأنهم كانوا من قرية يقال لها: ناصرة، كان نزلها عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم.
﴿ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ ﴾، وذلك أن الله كان أخذ عليهم الميثاق فى الإنجيل بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويتبعوه ويصدقوه، وهو مكتوب عندهم فى الإنجيل، يقول الله تعالى.
﴿ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ ﴾، يعنى فتركوا حظاً مما أمروا به من إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والتصديق به، ولو آمنوا لكان خيراً لهم، وكان لهم حظاً. يقول الله عز وجل: ﴿ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ﴾، يعنى بين النصارى.
﴿ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ النسطورية والماريعقوبية، وعبادة الملك، فهم أعداء بعضهم لبعض إلى يوم القيامة.
﴿ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ ٱللَّهُ ﴾ فى الآخرة.
﴿ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ [آية: ١٤]، يعنى بما يقولون من الجحود والتكذيب، وذلك أن النسطورية، قالوا: إن عيسى ابن الله، وقالت الماريعقوبية: إن الله هو المسيح ابن مريم، وقالت عبادة الملك: إن الله عز وجل ثالث ثلاثة، هو إله، وعيسى إله، ومريم إله، افتراء على الله تبارك وتعالى، وإنما الله إله واحد، وعيسى عبد الله ونبيه صلى الله عليه وسلم، كما وصف الله سبحانه نفسه: أحد، صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
﴿ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى التوراة، أخفوا أمر الرجم، وأمر محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾، يعنى ويتجاوز عن كثير مما كتمتم، فلا يخبركم بكتمانه.
﴿ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ نُورٌ ﴾، يعنى ضياء من الظلمة.
﴿ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴾ [آية: ١٥]، يعنى بين.﴿ يَهْدِي بِهِ ٱللَّهُ ﴾، يعنى بكتاب محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ مَنِ ٱتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ ٱلسَّلاَمِ ﴾، يعنى من اتبع دين محمد صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام، يهديه إلى طريق الجنة.
﴿ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ ﴾، يعنى من الشرك إلى الإيمان.
﴿ بِإِذْنِهِ ﴾، يعنى بعلمه.
﴿ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [آية: ١٦].
قوله سبحانه: ﴿ لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ ﴾، نزلت فى نصارى نجران الماريعقوبيين، منهم السيد والعاقب وغيرهما.
﴿ قُلْ ﴾ لهم يا محمد.
﴿ فَمَن يَمْلِكُ ﴾، فمن يقدر أن يمتنع.
﴿ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً ﴾ من شئ من عذابه.
﴿ إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ﴾ بعذاب أو بموت، فمن الذى يحول بينه وبين ذلك؟! ثم عظم الرب جل جلاله نفسه عن قولهم حين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، فقال سبحانه: ﴿ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾، يقول: إليه سلطان السموات والأرض.
﴿ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ من الخلق.
﴿ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾، يعنى عيسى، شاء أن يخلقه من غير بشر.
﴿ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ١٧] من خلق عيسى من غير بشر وغيره من الخلق قدير، مثلها فى آخر السورة.﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ ﴾ يهود المدينة، منهم: كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وكعب بن أسيد، وبحرى بن عمرو، وشماس بن عمرو، وغيرهم ﴿ وَٱلنَّصَارَىٰ ﴾ من نصارى نجران السيد والعاقب ومن معهما، قالوا جميعاً: ﴿ نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ﴾، وافتخروا على المسلمين، وقالوا: ما أحد من الناس أعظم عند الله منزلة منا، فقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ ﴾ للمسلمين يردوا عليهم.
﴿ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ﴾، حين زعمتم وقلتم: لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة، يعنى عدة ما عبدوا فيها العجل، إن كنتم أبناء الله وأحباؤه، أفتطيب نفس رجل أن يعذب ولده بالنار؟ والله أرحم من جميع خلقه. فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم قل لهم: ﴿ بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ﴾ من العباد، ولستم بأبناء الله وأحبائه.
﴿ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ ﴾، يعنى يتجاوز عمن يشاء فيهديه لدينه.
﴿ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ﴾ فيميته على الكفر، ثم عظم الرب نفسه عز وجل عن قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، فقال سبحانه: ﴿ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ من الخلق يحكم فيهما ما يشاء هم عبيده وفى ملكه.
﴿ وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ ﴾ [آية: ١٨] فى الآخرة فيجزيكم بأعمالكم.
﴿ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى اليهود، منهم: رافع بن أبى حريملة، ووهب بن يهوذا.
﴿ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ يُبَيِّنُ لَكُمْ ﴾ الدين.
﴿ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مَّنَ ٱلرُّسُلِ ﴾ فيها تقديم، وكان بين محمد وعيسى، صلى الله عليهما وسلم، ستمائة سنة.
﴿ أَن تَقُولُواْ ﴾، يعنى لئلا تقولوا: ﴿ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ ﴾ بالجنة.
﴿ وَلاَ نَذِيرٍ ﴾ من النار، يقول: ﴿ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ﴾، يعنى النبى صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ١٩]، إذ بعث محمداً رسولاً.﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ﴾، وهم بنو إسرائيل.
﴿ يَاقَوْمِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ ﴾، يعنى بالنعمة.
﴿ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ ﴾ السبعين الذى جعلهم الله.
﴿ أَنْبِيَآءَ ﴾ بعد موسى وهارون، وبعدما أتاهم الله بالصاعقة.
﴿ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً ﴾، يعنى أغنياء، بعضكم عن بعض، فلا يدخل عليه أحد إلا بإذنه بمنزلة الملوك فى الدنيا، ثم قال: ﴿ وَآتَاكُمْ ﴾، يعنى وأعطاكم.
﴿ مَّا لَمْ يُؤْتِ ﴾، يعنى ما لم يعط ﴿ أَحَداً مِّن ٱلْعَالَمِينَ ﴾ [آية: ٢٠]، يعنى الخير والتوراة، وما أعطاكم الله عز وجل فى التيه من المن والسلوى، وما ظلل عليهم من الغمام وأشباه ذلك مما فضلوا به على غيرهم. فقال موسى: ﴿ يَاقَوْمِ ﴾ بنى إسرائيل.
﴿ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ ﴾، يعنى المطهرة ﴿ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾، يعنى التى أمركم الله عز وجل أن تدخلوها وهى أريحا أرض الأردن وفلسطين، وهما من الأرض المقدسة.
﴿ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ ﴾، يعنى ولا ترجعوا ورائكم بترككم الدخول.
﴿ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ﴾ [آية: ٢١]، يعنى فترجعوا خاسرين. وذلك أن الله عز وجل قال لإبراهيم، عليه السلام، وهو بالأرض المقدسة: إن هذه الأرض التى أنت بها اليوم هى ميراث لولدك من بعدك، فلما أخرج الله عز وجل موسى، عليه السلام، من مصر مع بنى إسرائيل، وقطعوا البحر، وأعطوا التوراة، أمرهم موسى أن يدخلوا الأرض المقدسة، فساروا حتى نزلوا على نهر الأردن فى جبل أريحا، وكان فى أريحا ألف قرية، فى كل قرية ألف بستان، وجبنوا أن يدخلوها، فبعث موسى، عليه السلام، اثنى عشر رجلاً، من كل سبط رجلاً، يأتونه بخبر الجبارين، وأمرهم أن يأتوه منها بالثمرة. فلما أتوها خرج إليهم عوج بن عناق بنت آدم، فاحتملهم ومتاعهم بيده حتى وضعهم بين يدى الملك بانوس بن سشرون، فنظر إليهم، فأمر بقتلهم، فقالت امرأته: أيها الملك، أنعم على هؤلاء المساكين، فدعهم فليرجعوا وليأخذوا طريقاً غير الذى جاءوا فيه، فأرسلهم لها، فأخوا عنقوداً من كرومهم، وحملوه على عمودين بين رجلين، وعجزوا عن حمله، وحملوا رمانتين على بعض دوابهم، فعجزت الدابة عن حملهما حتى أتوا به أصحابهم وهم بواد يقال له: جبلان، فسموا ذلك المنزل وادى العنقود.﴿ قَالُوا يَامُوسَىٰ ﴾ وجدناها أرضاً مباركة تفيض لبناً وعسلاً كما عهد الله عز وجل إليك، ولكن ﴿ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ ﴾، يعنى قتالين أشداء يقتل الرجل منهم العصابة منا، فإن كان الله عز وجل أراد أن يجعلها لنا منزلاً وسكناً، فليسلطك عليهم فتقتلهم وإلا فليس لنا بهم قوة، وحصنهم منيع، فتتابع على ذلك منهم عشرة، فقالوا لموسى: ﴿ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ ﴾، طول كل رجل منهم سبعة أذرع ونصف من بقايا قوم عاد، وكان عوج بن عناق بنت آدم فيهم.
﴿ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُواْ مِنْهَا ﴾، وهى أريحا.
﴿ فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ﴾ [آية: ٢٢].
قال يوشع بن نون، وهو من سبط بنيامين، وكالب بن يوقنا، وهو من سبط يهوذا.
﴿ قَالَ رَجُلاَنِ ﴾، وهما الرجلان من القوم.
﴿ مِنَ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ ﴾ من العدو وقد ﴿ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمَا ﴾ بالإسلام، قالا: ليس كما يقول العشرة، سيروا حتى تحيطوا بالمدينة وبأبوابها، فإن القوم إذا رأوا كثرتكم بالباب وكبرتم رعبوا منكم، فانكسرت قلوبهم وانقطعت ظهورهم، وذهبت قوتهم، فـ ﴿ ٱدْخُلُواْ عَلَيْهِمُ ٱلْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ ﴾، يقول: وبالله فلتتقوا.
﴿ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٢٣] بقتلهم بأيديكم، وينفيهم من أرض هى ميراثهم.﴿ قَالُواْ يَامُوسَىۤ ﴾ أتصدق رجلين وتكذب عشرة يا موسى.
﴿ إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ ﴾ ينصرك عليهم.
﴿ فَقَاتِلاۤ إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴾ [آية: ٢٤]، يعنى مكاننا، فإننا لا نستطيع قتال الجبابرة، فغضب موسى عليهم، و ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي لاۤ أَمْلِكُ ﴾ من الطاعة ﴿ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي ﴾ هارون.
﴿ فَٱفْرُقْ بَيْنَنَا ﴾، يعنى فاقض بيننا ﴿ وَبَيْنَ ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾ [آية: ٢٥]، يعنى العاصين الذين عصوا أن يقاتلوا عدوهم، وهم كلهم مؤمنون. فأوحى الله عز وجل إلى موسى، عليه السلام: أما إذا سميتهم فاسقين، فالحق أقول: لا يدخولنها أبداً، وذلك قوله عز وجل: ﴿ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ﴾ دخولها البتة أبداً.
﴿ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ فيها تقديم.
﴿ يَتِيهُونَ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ فى البرية، فأعمى الله عز وجل عليهم السبيل، فحبسهم بالنهار، وسيرهم بالليل، يسهرون ليلهم، فيصبحون حيث أمسوا، فإذا بلغ أجلهم، وهو أربعون سنة، أرسلت عليهم الموت، فلا يدخلها إلا خلوفهم، إلا يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا، فهما يسوقان بنى إسرائيل إلى تلك الأرض، فتاه القوم فى تسع فراسخ عرض وثلاثين فرسخاً طول، وقالوا أيضاً: ستة فراسخ عرض فى اثنى عشر فرسخاً طول، فقال القوم لموسى، عليه السلام، ما صنعت بنا، دعوت علينا حتى بقينا فى التيه؟ وندم موسى، عليه السلام، على ما دعا عليهم، وشق عليه حين تاهوا، فأوحى الله عز وجل إليه: ﴿ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾ [آية: ٢٦]، يعنى لا تحزن على قوم أنت سميتهم فاسقين أن تاهوا. ثم مات هارون، عليه السلام، فى التيه، ومات موسى من بعده بستة أشهر، فماتا جميعاً فى التيه، ثم إن الله عز وجل أخرج ذرياتهم بعد أربعين سنة وقد هلكت الأمة العصاة كلها، وخرجوا مع يوشع بن نون ابن أخت موسى، وكالب بن يوقنا بعد وفاة موسى، عليه السلام، بشهرين، فأتوا أريحا، فقاتلوا أهلها ففتحوها، وقتلوا مقاتلهم، وسبوا ذراريهم، وقتلوا ثلاثة من الجبارين، وكان قاتلهم يوشع بن نون، فغابت الشمس، فدعا يوشع بن نون، فرد الله عز وجل عليه الشمس، فأطلعت ثانية، وغابت الشمس الثانية، ودار الفلك فاختلط على الحساب حسابهم منذ يومئذ فيما بلغنا، ومات فى التيه كل ابن عشرين سنة فصاعداً، وموضع التيه بين فلسطين وإيلة ومصر، فتاه القوم بعصيانهم ربهم عز وجل، وخلافهم على نبيهم، مع دعاء بلعام بن باعور بن ماث عليهم فيما بين ستة فراسخ إلى اثنى عشر فرسخاً، لا يستطيعون الخروج منها أربعين سنة، ومات هارون حين أتم ثمانية وثمانين سنة، وتوفى موسى بعده بستة أشهر، وساتخلف عليهم يوشع بن نون، وحين ماتوا كلهم أخرج ذراريهم يوشع بن نون. وكالب بن يوقنا.
﴿ وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ آدَمَ ﴾، يقول: اتل يا محمد على أهل مكة نبأ ابنى آدم.
﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾ ليعرفوا نبوتك، يقول: اتل عليهم حديث ابنى آدم هابيل وقابيل، وذلك أن حواء ولدت فى بطن واحد غلاماً وجارية، قابيل وإقليما، ثم ولدت فى البطن الآخر غلاماً وجارية، هابيل وليوذا، وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل، فلما أدركا، قال آدم، عليه السلام، ليتزوج كل واحد منهما أخت الآخر، قال قابيل: لكن يتزوج كل واحد منهما أخته التى ولدت معه، قال آدم، عليه السلام: قربا قرباناً، فأيما تقبل قربانه كان أحق بهذه الجارية. وخرج آدم، عليه السلام، إلى مكة، فعمد قابيل، وكان صاحب زرع، فقرب أخبث زرعه البر المأكول فيه الزوان، وكان هابيل صاحب ماشية، فعمد فقرب خير غنمه مع زبد ولبن، ثم وضعا القربان على البجل، وقاما يدعوان الله عز وجل، فنزلت نار من السماء، فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، فحسده قابيل، فقال لهابيل: لأقتلنك، قال هابيل: يا أخى، لا تلطخ يدك بدم برئ، فترتكب أمراً عظيماً، إنما طلبت رضا والدى ورضاك، فلا تفعل، فإنك إن فعلت أخزاك الله بقتلك إياى بغير ذنب ولا جرم، فتعيش فى الدنيا أيام حياتك فى شقوة ومخافة فى الأرض، حتى تكون من الخوف والحزن أدق من شعر رأسك، ويجعلك إلهى معلوناً. فلم يزل يحاوره حتى انتصف النهار، وكان فى آخر مقالة هابيل لقابيل: إن أنت قتلتنى كنت أول من كتب عليه الشقاء، وأول من يساق إلى النار من ذرية والدى، وكنت أنا أول شهيد يدخل الجنة، فغضب قابيل، فقال: لا عشت فى الدنيا، ويقال: قد تقبل قربانه ولم يتقبل قربانى، فقال له هابيل: فتشقى آخر الأبد، فغضب عند ذلك قابيل، فقتله بحجر دق رأسه، وذلك بأرض الهند عشية، وآدم، عليه السلام، بمكة، فذلك قوله عز وجل: ﴿ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ ﴾ [آية: ٢٧].
﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ [آية: ٢٨].
﴿ إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ٢٩].
﴿ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ﴾، يقول: فزينت له نفسه قتل أخيه.
﴿ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ ﴾ [آية: ٣٠].
قال: وكان هابيل قال لأخيه قابيل: ﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي... ﴾ إلى قوله: ﴿ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ﴾، يعنى أن ترجع بإثمى بقتلك إياى، وإثمك الذى عملته قبل قتلى.
﴿ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلنَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ ﴾، يعنى جزاء من قتل نفساً بغير جرم، فلما قتله عشية من آخر النهار، لم يدر ما يصنع، وندم ولم يكن يومئذ على الأرض بناء ولا قبر، فحمله على عاتقه، فإذا أعيى وضعه بين يديه، ثم ينظر إليه ويبكى ساعة، ثم يحمله، ففعل ذلك ثلاثة أيام. فلما كان فى الليلة الثالثة، بعث الله غرابين يقتتلان، فقتل أحدهما صاحبه وهو ينظر، ثم حفر بمنقاره فى الأرض، فلما فرغ منه، أخذ بمنقاره رجل الغراب الميت، حتى قذفه فى الحفيرة، ثم سوى الحفيرة بالأرض، وقابيل ينظر، فذلك قوله تعالى: ﴿ فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ ﴾ قابيل ﴿ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ ﴾، يقول: أعجزت أن أعلم من العلم مثل ما علم هذا الغراب.
﴿ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ﴾، يقول: فأغطى عورة أخى كما وارى الغراب صاحبه.
﴿ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ ﴾ [آية: ٣١] بقتله أخاه. فعمد عند ذلك قابيل، فحفر فى الأرض بيده، ثم قذف أخاه فى الحفيرة، فسوى عليه تراب الحفيرة كما فعل الغراب بصاحبه، فلما دفنه ألقى الله عز وجل عليه الخوف، يعنى على قابيل؛ لأنه أول من أخاف، فانطلق هارباً، فنودى من السماء: يا قابيل، أين أخوك هابيل؟ قال: أو رقيباً كنت عليه؟ ليذهب حيث شاء، قال المنادى: أما تدرى أين هو؟ قال: لا، قال المنادى: إن لسانك وقلبك ويديك ورجليك وجميع جسدك يشهدون عليك أنك قتلته ظلماً، فلما أنكر شهدت عليه جوارحه، فقال المنادى: أين تنجو من ربك؟ إن إلهى يقول: إنك ملعون بكل أرض، وخائف ممن يستقبلك، ولا خير فيك ولا فى ذريتك. فانطلق جائعاً، حتى أتى ساحل البحر، فجعل يأخذ الطير، فيضرب بها الجبل، فيقتلها ويأكلها، فمن أجل ذلك حرم الله الموقوذة، وكانت الدواب، والطير، والسباع، لا يخاف بعضها من بعض، حتى قتل قابيل هابيل، فلحقت الطير بالسماء، والوحش بالبرية والجبال، ولحقت السباع بالغياض، وكانت قبل ذلك تستأنس إلى آدم، عليه السلام، وتأتيه، وغضبت الأرض على الكفار من يومئذ، فمن ثم يضغط الكافر فى الأرض حتى تختلف أضلاعه، ويتسع على المؤمن قبره حتى ما يرى طرفاه، وتزوج شيت بن آدم ليوذا التى ولدت مع هابيل، وبعث الله عز وجل ملكاً إلى قابيل فعلق رجله، وجعل عليه ثلاث سرادقات من نار، كلما دار دارت السرادقات معه، فمكث بذلك حيناً، ثم حل عنه.﴿ مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ ﴾، يعنى من أجل بنى آدم، تعظيماً للدم.
﴿ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾ فى التوراة ﴿ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾ عمداً.
﴿ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ ﴾، أو عمل فيها بالشرك، وجبت له النار، ولا يعفى عنه حتى يقتل.
﴿ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً ﴾، أى كما يجزى النار لقتله الناس جميعاً لو قتلهم، ثم قال سبحانه: ﴿ وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ﴾، وذلك أنه مكتوب فى التوراة أنه من قتل رجلاً خطأ، فإن يقاد به، إلا أن يشاء ولى المقتول أن يعفو عنه، فإن عفا عنه، وجبت له الجنة، كما تجب له الجنة لو عفا عن الناس جميعاً، فشدد الله عز وجل عليهم القتل؛ ليحجز بذلك بعضهم عن بعض، ثم قال سبحانه: ﴿ وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيِّنَاتِ ﴾، يعنى بالبيان فى أمره ونهيه.
﴿ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ ﴾ البيان ﴿ فِي ٱلأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾ [آية: ٣٢]، يعنى إسرافاً فى سفك الدماء واستحلال المعاصى.
قوله سبحانه: ﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾، يعنى بالمحاربة الشرك، نظيرها فى براءة، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله، وذلك أن تسعة نفر من عرينة وهم من بجيلة، أتوا النبى صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأسلموا، فأصابهم وجع شديد، ووقع الماء الأصفر فى بطونهم، فأمرهم النبى صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى إبل الصدقة ليشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا ذلك، فلما صحوا عمدوا إلى الراعى، فقتلوه وأغاروا على الإبل، فاستاقوها وارتدوا عن الإسلام، فبعث النبى صلى الله عليه وسلم على بن أبى طالب، رضى الله عنه، فى نفر فأخذهم. فلما أتوا بهم النبى صلى الله عليه وسلم، أمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم، فأنزل الله عز وجل فيهم: ﴿ إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾، يعنى الكفر بعد الإسلام.
﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً ﴾ القتل وأخذ الأموال.
﴿ أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ ﴾، يعنى اليد اليمنى والرجل اليسرى، فالإمام فى ذلك بالخيار فى القتل والصلب، وقطع الأيدى والأرجل.
﴿ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ ﴾، يقول: يخرجوا من الأرض، أرض المسلمين، فينفوا بالطرد.
﴿ ذٰلِكَ ﴾ جزاءهم الخزى ﴿ لَهُمْ خِزْيٌ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾ قطع اليد والرجل والقتل والصلب فى الدنيا.
﴿ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آية: ٣٣]، يعنى كثيراً وافراً لا انقطاع له. ثم استثنى، فقال عز وجل: ﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ ﴾ من الشرك ﴿ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ ﴾، فتقيموا عليهم الحد، فلا سبيل لكم عليهم، يقول: من جاء منهم مسلماً قبل أن يؤخذ، فإن الإسلام يهدم ما أصاب فى كفره من قتل أو أخذ مال، فذلك قوله سبحانه: ﴿ فَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾ لما كان منه فى كفره ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٣٤] به حين تاب ورجع إلى الإسلام، فأما من قتل وهو مسلم، فارتد عن الإسلام، ثم رجع مسلماً، فإنه يؤخذ بالقصاص.
وقوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبْتَغُوۤاْ إِلَيهِ ٱلْوَسِيلَةَ ﴾، يعنى فى طاعته بالعمل الصالح.
﴿ وَجَاهِدُواْ ﴾ العدو ﴿ فِي سَبِيلِهِ ﴾، يعنى فى طاعته.
﴿ لَعَلَّكُمْ ﴾، يعنى لكى ﴿ تُفْلِحُونَ ﴾ [آية: ٣٥]، يعنى تسعدون، ويقال: تفوزون. وقوله سبحانه: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ من أهل مكة.
﴿ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ ﴾، أى فقدروا أن يفتدوا به ﴿ مِنْ عَذَابِ ﴾ جهنم ﴿ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ﴾، يقول: لو كان ذلك لهم وفعلوه.
﴿ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ٣٦].
﴿ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ ﴾ بالفداء.
﴿ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا ﴾ أبداً ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ [آية: ٣٧]، يعنى دائم.
وقوله سبحانه: ﴿ وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا ﴾، يعنى أيمانهما من الكرسوع، يقول: القطع ﴿ جَزَآءً بِمَا كَسَبَا ﴾، يعنى سرقا.
﴿ نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى عقوبة من الله قطع اليد.
﴿ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ٣٨].
﴿ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ ﴾، يقول: من تاب من بعد سرقته.
﴿ وَأَصْلَحَ ﴾ العمل فيما بقى.
﴿ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ ﴾ لذنبه.
﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٣٩] به، وأما المال، فلا بد أن يرده إلى صاحبه. وقوله سبحانه: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ ﴾ يا محمد ﴿ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ﴾ يحكم فيهما بما يشاء.
﴿ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ ﴾ من أهل معصيته.
﴿ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ ﴾، يعنى به المؤمنين.
﴿ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ من العذاب والمغفرة ﴿ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ٤٠].
وقوله سبحانه: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾، يعنى صدقنا بألسنتهم.
﴿ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ﴾ فى السر، نزلت فى أبى لبابة، اسمه: مروان بن عبد المنذر الأنصارى، من بنى عمرو بن عوزف، وذلك أنه أشار إلى أهل قريظة إلى حلقه أن محمداً جاء يحكم فيكم بالموت، فلا تنزلوا على حكم سعد بن معاذ، وكان حليفاً لهم، ثم قال سبحانه: ﴿ وَمِنَ ٱلَّذِينَ هِادُواْ ﴾، أى ولا يحزنك الذين هادوا، يعنى يهود المدينة.
﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ﴾، يعنى قوالون للكذب، منهم: كعب ابن الأشرف، وكعب بن أسيد، وأبو لبابة، وسعيد بن مالك، وابن صوريا، وكنانة بن أبى الحقيق، وشاس بن قيس، وأبو رافع بن حريملة، ويوسف بن عازر بن أبى عازب، وسلول بن أبى سلول، والبخام بن عمرو، وهم ﴿ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ ﴾، يعنى يهود خيبر.
﴿ لَمْ يَأْتُوكَ ﴾ يا محمد ﴿ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ ﴾، يعنى أمر الرجم.
﴿ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ ﴾ عن بيانه فى التوراة. وذلك أن رجلاً من اليهود يسمى يهوذا، وامرأة تسمى بسرة من أهل خيبر من أشراف اليهود، زنيا وكانا قد أحصنا، فكرهت اليهود رجمهما من أجل شرفهما وموضعهما، فقالت يهود خيبر، نبعث بهذين إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فإن فى دينه الضرب، وليس فى دينه الرجم، ونوليه الحكم فيهما، فإن أمركم فيهما بالضرب فخذوه، وإن أمركم فيهما بالرجم فاحذروه، فكتب يهود خيبر إلى يهود المدينة، إلى كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، وأبى لبابة، وبعثوا نفراً منهم، فقالوا: سلوا لنا محمداً، عليه السلام، عن الزانيين إذا أحصنا ما عليهما؟ فإن أمركم بالجلد فخذوا به، والجلد الضرب بحبل من ليف مطلى بالقار، وتسود وجوههما ويحملان على حمار، وتجعل وجوههما مما يلى ذنب الحمار، فذلك التجبية.﴿ يَقُولُونَ ﴾، أى اليهود.
﴿ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ ﴾، أى إن أمركم بالرجم فاحذروه على ما فى أيديكم أن يسلبكموه، قال:" فجاء كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وكعب بن أسيد، وأبو لبابة، إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أخبرنا عن الزانيين إذا أحصنا ما عليهما، فأتاه جبريل، عليه السلام، فأخبره بالرجم، ثم قال جبريل عليه السلام: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا، وسلهم عنه، فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى أحبارهم فى بيت المدارس، فقال: " يا معشر اليهود، أخرجوا إلىَّ علماءكم "، فأخرجوا إليه عبدالله بن صوريا، وأبا ياسر بن أخطب، ووهب بن يهوذا، فقالوا: هؤلاء علماؤنا، ثم حصر أمرهم، إلى أن قالوا لعبد الله بن صوريا: هذا أعلم من بقى بالتوراة، فجاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ابن صوريا غلاماً شاباً، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن سلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أنشدك بالله الذى لا إله إلا هو إله بنى إسرائيل، الذى أخركم من مصر، وفلق لكم البحر، وأنجاكم وأغرق آل فرعون، وأنزل عليكم كتابه يبين لكم حلاله وحرامه، وظلل عليكم المن والسلوى، هل وجدتم فى كتابكم أن الرجم على من أحصن؟ "، قال ابن صوريا: اللهم نعم، ولولا أنى خفت أن أحترق بالنار، أو أهلك بالعذاب، لكتمتك حين سألتنى، ولم أعترف لك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الله أكبر، فأنا أول من أحيا سُنة من سنن الله عز وجل "، ثم أمر بهما فرجما عند باب مسجده فى بنى غنم بن مالك بن النجار. فقال عبدالله بن صوريا: والله يا محمد، إن اليهود لتعلم أنك نبى حق، ولكنهم يحسدونك، ثم كفر ابن صوريا بعد ذلك، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى ما فى التوراة من أمر الرجم، ونعت محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ﴿ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾، فلا يخبر به، فقال النبى صلى الله عليه وسلم لليهود: " إن شئتم أخبرتكم بالكثير "، قال ابن صوريا: أنشدك بالله أن تخبرنا بالكثير مما أمرت أن تعفو عنه. ثم قال ابن صوريا للنبى صلى الله عليه وسلم: أخبرنى عن ثلاث خصال لا يعلمهن إلا نبى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " هات، سل عما شئت "، قال: أخبرنى عن نومك؟ قال: " تنام عينى وقلبى يقظان "، قال ابن صوريا: صدقت، قال: فأخبرنى عن شبه الولد، من أين يشبه الأب أو الأم؟ قال: " أيهما سبقت الشهوة له كان الشبه له "، قال: صدقت، قال: أخبرنى ما للرجل وما للمرأة من الولد، ومن أيهما يكون؟ قال النبى صلى الله عليه وسلم: " اللحم والدم والظفر والشعر للمرأة، والعظم والعصب والعروق للرجل "، قال: صدقت، قال: فمن وزيرك من الملائكة، ومن يجيئك بالوحى؟ قال: " جبريل عليه السلام "، قال: صدقت يا محمد، وأسلم عند ذلك. "قوله سبحانه: ﴿ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ ﴾، يقول ذلك يهود خيبر ليهود المدينة، كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وكعب بن أسيد، وأبى لبابة: إن أمركم محمد بالجلد فاقبلوه، وإن لم تؤتوه، يعنى الجلد، وإن أمركم بالرجم فاحذروا، فإنه نبى، قال الله عز وجل: ﴿ وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ﴾، يعنى اليهود.
﴿ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ﴾ من الكفر حين كتموا أمر الرجم ونعت محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ ﴾، يعنى به اليهود، وهم أهل قريظة، أما الخزى الذى نزل بهم، فهو القتل والسبى، وأما خزى أهل النضير، فهو الخروج من ديارهم وأموالهم وجناتهم، فأجلوا إلى الشام، إلى أذرعات وأريحا.
﴿ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آية: ٤١]، يعنى ما عظم من النار. ثم قال: ﴿ سَمَّاعُونَ ﴾، يعنى قوالون.
﴿ لِلْكَذِبِ ﴾ للزور، منهم: كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، ووهب بن يهوذا.
﴿ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾، يعنى الرشوة فى الحكم، كانت اليهود قد جعلت لهم جعلاً فى كل سنة، على أن يقضوا لهم بالجور، يقول الله عز وجل: ﴿ فَإِن جَآءُوكَ ﴾ يا محمد فى الرجم.
﴿ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ ﴾، يعنى بالعدل.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ ﴾ [آية: ٤٢]، يعنى الذين يعدلون فى الحكم، ثم نسختها الآية التى جاءت بعد، وهى قوله: ﴿ وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ﴾ إليك فى الكتاب أن الرجم على المحصن والمحصنة، ولا ترد الحكم.
﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾، يعنى كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف. قال تعالى: ﴿ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ ﴾، يعنى الرجم على المحصن والمحصنة، والقصاص فى الدماء سواء.
﴿ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ ﴾، يعنى يعرضون من بعد البيان فى التوراة.
﴿ وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٤٣]، يعنى وما أولئك بمصدقين حين فرحوا ما فى التوراة.
ثم أخبر الله عن التوراة، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ﴾ وضياء من الظلمة.
﴿ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ﴾ من لدن موسى، عليه السلام، إلى عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، ألف نبى.
﴿ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ ﴾ يعنى أنهم مسلمون، أو أسلموا وجوههم لله.
﴿ لِلَّذِينَ هَادُواْ ﴾، يعنى اليهود يحكمون بما لهم وما عليهم.
﴿ وَ ﴾ يحكم بها ﴿ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ ﴾، وهم المتعبدون من أهل التوراة من ولد هارون، يحكمون بالتوراة.
﴿ وَٱلأَحْبَارُ ﴾، يعنى القراء والعلماء منهم.
﴿ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ ﴾ عز وجل من الرجم، وبعث محمد صلى الله عليه وسلم فى كتابهم، ثم قال يهود المدينة، كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك ابن الضيف، وأصحابهم.
﴿ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ ﴾، يقول: لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم، ونعت محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَٱخْشَوْنِ ﴾ إن كتمتموه.
﴿ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ﴾ عرضاً يسيراً مما كانوا يصيبون من سفلة اليهود من الطعام والثمار.
﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ﴾ فى التوراة بالرجم ونعت محمد صلى الله عليه وسلم، ويشهد به.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ ﴾ [آية: ٤٤].
ولما أرادوا القيام،" قالت بنو قريظة، أبو لبابة، وشعبة بن عمرو، ورافع بن حريملة، وشاس بن عمرو، للنبى صلى الله عليه وسلم، إخواننا بنى النضير، كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، وغيرهم، أبونا واحد، وديننا واحد، إذا قتل أهل النضير منا قتيلاً، أعطونا سبعين وسقاً من تمر، وإن قتلنا منهم قتيلاً، أخذوا منا مائة وأربعين وسقاً من تمر، وجراحاتنا على أنصاف جراحاتهم، فاقض بيننا وبينهم يا محمد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن دم القرظى وفاء من دم النضيرى، وليس للنضيرى على القرظى فضل فى الدم ولا فى العقل "، قال كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وكعب بن أسيد، وأصحابهم، لا نرضى بقضائك، ولا نطيع أمرك، ولنأخذن بالأمر الأول، فإنك عدونا، وما تأول أن تضعنا وتضرنا. وفى ذلك يقول الله تعالى: ﴿ أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾، يعنى حكمهم الأولن ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً ﴾، يقول: فلا أحد أحسن من الله حكماً.
﴿ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾، وعد الله عز وجل ووعيده، ثم أخبر عن التوراة، فقال سبحانه: ﴿ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ ﴾، يعنى وفرضنا عليهم فى التوراة، نظيرها فى المجادلة:﴿ كَتَبَ ٱللَّهُ ﴾[المجادلة: ٢١]، يعنى قضى.
﴿ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ وَٱلسِّنَّ بِٱلسِّنِّ وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ﴾، يقول: فمن تصدق بالقتل والجراحات، فهو كفارة لذنبه، يقول: إن عفى الجروح عن الجارح، فهو كفارة للجارح من الجرح، ليس عليه قود ولا دية.
﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ ﴾ فى التوراة من أمر الرجم والقتل والجراحات.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ ﴾ [آية: ٤٥].
ثم أخبر عن أهل الإنجيل، فقال: ﴿ وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم ﴾، يعنى وبعثنا من بعدهم، يعنى من بعد أهل التوراة.
﴿ بِعَيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَوْرَاةِ ﴾، يقول: عيسى يصدق بالتوراة.
﴿ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ ﴾، يعنى أعطينا عيسى الإنجيل.
﴿ فِيهِ هُدىً ﴾ من الضلالة.
﴿ وَنُورٌ ﴾ من الظلمة.
﴿ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ ﴾، يقول: الإنجيل يصدق التوراة.
﴿ وَ ﴾ الإنجيل ﴿ وَهُدىً ﴾ من الضلالة.
﴿ وَمَوْعِظَةً ﴾ من الجهل.
﴿ لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [آية: ٤٦] الشرك. ثم قال عز وجل: ﴿ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ ﴾ من الأحبار والرهبان.
﴿ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ ﴾، يعنى فى الإنجيل من العفو عن القاتل أو الجارح والضارب.
﴿ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ﴾ فى الإنجيل من العفو واقتص من القاتل والجارح والضارب.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ ﴾ [آية: ٤٧]، يعنى العاصين لله عز وجل.
قوله سبحانه: ﴿ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ ﴾ يا محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾، يعنى القرآن بالحق، لم ننزله عبثاً ولا باطلاً لغير شىء.
﴿ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ﴾، يقول: وشاهداً عليه، وذلك أن قرآن محمد صلى الله عليه وسلم شاهد بأن الكتب التى أنزلت قبله أنها من الله عز وجل.
﴿ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ﴾ إليك فى القرآن.
﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾، يعنى أهواء اليهود.
﴿ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ ﴾، وهو القرآن.
﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ﴾، يعنى من المسلمين وأهل الكتاب.
﴿ شِرْعَةً ﴾، يعنى سُنة.
﴿ وَمِنْهَاجاً ﴾، يعنى طريقاً وسبيلاً، فشريعة أهل التوراة فى قتل العمد القصاص ليس لهم عقل ولا دية، والرجم على المحصن والمحصنة إذا زنيا. وشريعة الإنجيل فى القتل العمد العفو، ليس لهم قصاص ولا دية، وشريعتهم فى الزنا الجلد بلا رجم، وشريعة أمة محمد صلى الله عليه وسلم فى قتل العمد القصاص والدية والعفو، وشريعتهم فى الزنا إذا لم يحصن الجلد، فإذا أحصن فالرجم.
﴿ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ ﴾ يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأهل الكتاب.
﴿ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ على دين الإسلام وحدها.
﴿ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ ﴾، يعنى يبتليكم.
﴿ فِي مَآ آتَاكُم ﴾، يعنى فيما أعطاكم من الكتاب والسُنة من يطع الله عز وجل فيما أمر ونهى، ومن يعصه.
﴿ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ ﴾، يقول: سارعوا فى الأعمال الصالحة يا أمة محمد، فيما ذكر من السبيل والسُنة.
﴿ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ﴾ فى الآخرة أنتم وأهل الكتاب.
﴿ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [آية: ٤٨] فى الدين. قوله سبحانه: ﴿ وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ﴾ إليك فى الكتاب، يعنى بين اليهود، وذلك أن قوماً من رءوس اليهود من أهل النصير اختفلوا، فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه ونرده عما هو عليه، فإنما هو بشر إذن فيستمع، فأتوه فقالوا له: هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا أهل قريظة فى أمر الدماء كما كنا عليه من قبل، فإن فعلت، فإنا نبايعك ونطيعك، وإنا إذا بايعناك تابعك أهل الكتاب كلهم؛ لأنا سادتهم وأحبارهم، فنحن نفتنهم ونزلهم عما هم عليه حتى يدخلوا فى دينك. فأنزل الله عز وجل يحذر نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: ﴿ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ فى أمر الدماء.
﴿ وَٱحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ ﴾، يعنى أن يصدوك.
﴿ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ إِلَيْكَ ﴾ من أمر الدماء بالسوية.
﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ ﴾، يقول: فإن أبوا حكمك.
﴿ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُصِيبَهُم ﴾، يعنى أن يعذبهم فى الدنيا بالقتل والجلاء من المدينة إلى الشام.
﴿ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ﴾، يعنى ببعض الدماء التى كانت بينهم من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ ﴾، يعنى رءوس اليهود.
﴿ لَفَاسِقُونَ ﴾ [آية: ٤٩]، يعنى لعاصون حين كرهوا حكم النبى صلى الله عليه وسلم فى أمر الدماء بالحق. فقال كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وكعب بن أسيد، للنبى صلى الله عليه وسلم، لا نرضى بحكمك، فأنزل الله عز وجل: ﴿ أَفَحُكْمَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ﴾، الذى كانوا عليه من الجور من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكْماً ﴾، يقول: فلا أحد أحسن من الله حكماً.
﴿ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [آية: ٥٠] بالله عز وجل.
﴿ يَٰـأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، نزلت فى رجلين من المسلمين.
﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾، قال لما كانت وقعة أحُد، خاف ناس من المسلمين أن يدال الكفار عليهم، فقال رجل منهم: أنا آتى فلاناً اليهودى فأتهود، فإنى أخشى أن يدال الكفار علينا، قال الآخر: أما أنا، فإنى آتى الشام فأنتصر، فنزلت: ﴿ يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ ﴾ ﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ ﴾، يعنى من المؤمنين.
﴿ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾، يعنى يلحق بهم ويكون معهم؛ لأن المؤمنين لا يتولون الكفار.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ٥١].
ثم ذكر أنه إنما يتولاهم المنافقون؛ لأنهم وافقوهم على ما يقولون، قال سبحانه: ﴿ فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾، وهو الشك، فهم المنافقون.
﴿ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ ﴾، يعنى فى ولاية اليهود بالمدينة.
﴿ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ ﴾، يعنى دولة اليهود على المسلمين، وذلك أن نفراً من المنافقين، أربعة وثمانين رجلاً، منهم: عبدالله بن أبى، وأبو نافع، وأبو لبابة، قالوا: نتخذ عند اليهود عهداً ونواليهم فيما بيننا وبينهم، فإنا لا ندرى ما يكون فى غد، ونخشى ألا ينصر محمد صلى الله عليه وسلم، فينقطع الذى بيننا وبينهم، ولا نصيب منهم قرضاً ولا ميرة، فأنزل الله عز وجل: ﴿ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِٱلْفَتْحِ ﴾، يعنى بنصر محمد صلى الله عليه وسلم الذى يئسوا منه.
﴿ أَوْ ﴾ يأتى ﴿ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ ﴾، قتل قريظة، وجلاء النضير إلى أذرعات، فلما رأى المنافقون ما لقى أهل قريظة والنضير، ندموا على قولهم، قال: ﴿ فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ﴾ [آية: ٥٢].
فلما أخبر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن المنافقين، أنزل هذه الآية: ﴿ وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾ بعضهم لبعض: ﴿ أَهُـۤؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ ﴾، يعنى المنافقين.
﴿ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾، إذ حلفوا بالله عز وجل، فهو جهد اليمين.
﴿ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ﴾ على دينكم، يعنى المنافقين.
﴿ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾، يعنى بطلت أعمالهم؛ لأنها كانت فى غير الله عز وجل.
﴿ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ ﴾ [آية: ٥٣] فى الدنيا.
قوله سبحانه: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ ﴾، وذلك حين هزموا يوم أُحُد، شك أناس من المسلمين، فقالوا ما قالوا: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ﴾، فارتد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو تميم، وبنو حنيفة، وبنو أسد، وغطفان، وأُناس من كندة، منهم الأشعث بن قيس، فجاء الله عز وجل بخير من الذين ارتدوا، بوهب بطن من كندة، وبأحمس بجيلة، وحضرموت، وطائفة من حمير وهمذان، أبدلهم مكان الكافرين. ثم نعتهم، فقال سبحانه: ﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ ﴾ بالرحمة واللين.
﴿ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ ﴾، يعنى عليهم بالغلظة والشدة، فسدد الله عز وجل بهم الدين.
﴿ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ العدو، يعنى فى طاعة الله.
﴿ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاۤئِمٍ ﴾، يقول: ولا يبالون غضب من غضب عليهم.
﴿ ذٰلِكَ فَضْلُ ٱللَّهِ ﴾، يعنى دين الإسلام.
﴿ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ ﴾ لذلك الفضل.
﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٥٤] لمن يؤتى الإسلام، وفيهم نزلت وفى الإبدال:﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم ﴾[محمد: ٣٨].
وقوله سبحانه: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ [آية: ٥٥]، وذلك أن عبدالله بن سلام وأصحابه قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم عند صلاة الأولى: إن اليهود أظهروا لنا العداوة من أجل الإسلام، ولا يكلموننا، ولا يخالطوننا فى شئ، ومنازلنا فيهم، ولا نجد متحدثاً دون هذا المسجد، فنزلت هذه الآية، فقرأها النبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أولياء، وجعل الناس يصلون تطوعاً بعد المكتوبة، وذلك فى صلاة الأولى." وخرج النبى صلى الله عليه وسلم إلى باب المسجد، فإذا هو بمسكين قد خرج من المسجد، وهو يحمد الله عز وجل، فدعاه النبى صلى الله عليه وسلم، فقال: " هل أعطاك أحد شيئاً؟ "، قال: نعم يا نبى الله، قال: " من أعطاك؟ "، قال: الرجل القائم أعطانى خاتمه، يعنى على بن أبى طالب، رضوان الله عليه، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " على أى حال أعطاكه؟ "، قال: أعطانى وهو راكع، فكبر النبى صلى الله عليه وسلم، وقال: " الحمد لله الذى خص عليّاً بهذه الكرامة "، فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ ﴿ وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يعنى على بن أبى طالب، رضى الله عنه.
﴿ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ ﴾ [آية: ٥٦]، يعنى شيعة الله ورسوله والذين آمنوا هم الغالبون، فبدأ بعلى بن أبى طالب، رضى الله عنه، قبل المسلمين، ثم جعل المسلمين وأهل الكتاب المؤمنين، فيهم عبدالله بن سلام وغيره هم الغالبون لليهود، حين قتلوهم وأجلوهم من المدينة إلى الشام وأذرعات وأريحا. قوله سبحانه: ﴿ يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يعنى المنافقين الذين أقروا باللسان وليس الإيمان فى قلوبهم.
﴿ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ دِينَكُمْ ﴾ الإسلام ﴿ هُزُواً وَلَعِباً ﴾، يعنى استهزاء وباطلاً، وذلك أن المنافقين كانوا يوالون اليهود فيتخذونهم أولياء، قال: ﴿ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعنى اليهود.
﴿ مِن قَبْلِكُمْ ﴾؛ لأنهم أعطوا التوراة قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يقول: لا تتخذونهم أولياء.
﴿ وَ ﴾ لا تتخذوا ﴿ وَٱلْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ ﴾، يعنى كفار اليهود ومشركى العرب، ثم حذرهم، فقال: ﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ٥٧]، يعنى إن كنتم مصدقين، فلا تتخذونهم أولياء، يعنى كفار العرب، حين قال عبدالله بن أبى، وعبدالله بن نتيل، وأبو لبابة، وغيرهم من اليهود: لئن أُخرجتم لنخرجن معكم، حين كتبوا إليهم.
ثم أخبر عن اليهود، فقال سبحانه: ﴿ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ﴾، يعنى استهزاء وباطلاً، وذلك أن اليهود كانوا إذا سمعوا الأذان، ورأوا المسلمين قاموا إلى صلاتهم، يقولون: قد قاموا لا قاموا، وإذا رأوهم ركعوا، قالوا: لا ركعوا، وإذا رأوهم سجدوا ضحكوا، وقالوا: لا سجدوا، واستهزءوا، يقول الله تعالى: ﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ﴾ [آية: ٥٨]، يقول: لو عقلوا ما قالوا هذه المقالة.﴿ قُلْ يَـۤأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [آية: ٥٩]، قال:" أتى النبى صلى الله عليه وسلم أبو ياسر، وحيى بن أخطب، ونافع بن أبى نافع، وعازر بن أبى عازر، وخالد وزيد ابنا عمرو، وأزر بن أبى أزر، وأشيع، فسألوه عن من يؤمن به من الرسل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نؤمن ﴿ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَٱلأَسْبَاطِ وَمَآ أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ ٱلنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ "[البقرة: ١٣٦]، فلما ذكر عيسى ابن مريم جحدوا نبوته صلى الله عليه وسلم، وقالوا: لا نؤمن بعيسى ولا بمن آمن به، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: ﴿ قُلْ يَـۤأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ ﴾، يعنى صدقنا بالله بأنه واحد لا شريك له.
﴿ وَ ﴾ صدقنا بـ ﴿ مَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا ﴾، يعنى قرآن محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَ ﴾ صدقنا بـ ﴿ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ ﴾ قرآن محمد صلى الله عليه وسلم، الكتب التى أنزلها الله عز وجل على الأنبياء، عليهم السلام.
﴿ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ﴾، يعنى عصاة. قالت اليهود للمؤمنين: ما نعلم أحداً من أهل هذه الأديان أقل حظاً فى الدنيا والآخرة منكم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ ﴾، يعنى المؤمنين.
﴿ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ ﴾، يعنى ثواباً من عند الله، قالت اليهود: من هم يا محمد؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: ﴿ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ ﴾ وهم اليهود.
﴿ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ﴾، فإن لم يقتل أقر بالخراج وغضب عليه.
﴿ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ ﴾، القردة فى شأن الحيتان، والخنازير فى شأن المائدة.
﴿ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ ﴾، فيها تقديم.
﴿ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ ﴾، يعنى ومن عبد الطاغوت، وهو الشيطان.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً ﴾ فى الدنيا، يعنى شر منزلة.
﴿ وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ ﴾ [آية: ٦٠]، يعنى وأخطأ عن قصد الطريق من المؤمنين. فلما نزلت هذه الآية، عيرت اليهود، فقالوا: لهم: يا إخوان القردة والخنازير، فنكسوا رءوسهم وفضحهم الله تعالى، وجاء أبو ياسر بن أخطب، وكعب بن الأشرف، وعزر بن أبى عازر، ونافع بن أبى نافع، ورافع بن أبى حريملة، وهم رؤساء اليهود، حتى دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: قد صدقنا بك يا محمد؛ لأنا نعرفك ونصدقك ونؤمن بك. ثم خرجوا من عنده بالكفر، غير أنهم أظهروا الإيمان، فأنزل الله عز وجل فيهم: ﴿ وَإِذَا جَآءُوكُمْ ﴾ اليهود.
﴿ قَالُوۤاْ آمَنَّا ﴾، يعنى صدقنا بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم دخلوا عليه وهم يسرون الكفر، وخرجوا من عنده بالكفر، فذلك قوله سبحانه ﴿ وَقَدْ دَّخَلُواْ بِٱلْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ ﴾، يعنى بالكفر مقيمين عليه.
﴿ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ ﴾ [آية: ٦١]، يعنى بما يسرون فى قلوبهم من الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، نظيرها فى آل عمران. ثم أخبر عنهم، فقال سبحانه: ﴿ وَتَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلإِثْمِ ﴾، يعنى المعصية.
﴿ وَٱلْعُدْوَانِ ﴾، يعنى الظلم، وهو الشرك.
﴿ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ ﴾، يعنى كعب بن الأشرف؛ لأنه كان يرشى فى الحكم ويقضى بالجور.
﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٦٢]، ثم عاتب الله عز وجل الربانيين والأحبار، فقال: ﴿ لَوْلاَ ﴾، يعنى فهلا ﴿ يَنْهَاهُمُ ٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ ﴾، يعنى بالربانيين المتعبدين والأحبار، يعنى القراء الفقهاء أصحاب القربان من ولد هارون، عليه السلام، وكانوا رءوس اليهود.
﴿ عَن قَوْلِهِمُ ٱلإِثْمَ ﴾، يعنى الشرك.
﴿ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ ﴾، يعنى الرشوة فى الحكم.
﴿ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ [آية: ٦٣]، حين لم ينهوهم، فعاب من أكل السحت: الرشوة فى الحكم، وعاب الربانيين الذين لم ينهوهم عن أكله.
﴿ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ ﴾، يعنى ابن صوريا، وفنحاص اليهوديين، وعازر بن أبى عازر.
﴿ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ ﴾، يعنى ممسكة، أمسك الله يده عنا، فلا تبسطها علينا بخير، وليس بجواد، وذلك أن الله عز وجل بسط عليهم فى الرزق، فلما عصوا واستحلوا ما حرم عليهم، أمسك عنهم الرزق، فقالوا عند ذلك: يد الله محبوسة عن البسط، يقول الله عز وجل: ﴿ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ﴾، يعنى أمسكت أيديهم عن الخير.
﴿ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ بالخير.
﴿ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ ﴾، إن شاء الله وسع فى الرزق، وإن شاء قتر، هم خلقه وعبيده فى قبضته. ثم قال: ﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم ﴾، يعنى اليهود من بنى النضير.
﴿ مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾، يعنى أمر الرجم والدماء، ونعت محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾ بالقرآن، يعنى جحوداً به.
﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ﴾، يعنى اليهود والنصارى، شر ألقاه عز وجل بينهم.
﴿ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ ﴾، يعنى يبغض بعضهم بعضاً، ويشتم بعضاً.
﴿ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ ﴾، فلا يحب اليهودى النصرانى ولا النصرانى اليهودى.
﴿ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ ﴾، يعنى كلما أجمعوا أمرهم على مكر بمحمد صلى الله عليه وسلم فى أمر الحرب، فرقه الله عز وجل، وأطفأ نار مكرهم، فلا يظفرون بشىء أبداً.
﴿ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً ﴾، يعنى يعملون فيها بالمعاصى.
﴿ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ ﴾ [آية: ٦٤]، يعنى العاملين بالمعاصى.
وقوله سبحانه: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى اليهود والنصارى.
﴿ آمَنُواْ ﴾، يعنى صدقوا بتوحيد الله.
﴿ وَٱتَّقَوْاْ ﴾ الشرك.
﴿ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾، يعنى لمحونا عنهم ذنوبهم.
﴿ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ ﴾ [آية: ٦٥].
﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ ﴾، فعملوا بما فيهما من أمر الرجم والزنا وغيره، ولم يحرفوه عن مواضعه فى التوراة التى أنزلها الله عز وجل، فأما فى الإنجيل، فنعت محمد صلى الله عليه وسلم، وأما فى التوراة، فنعت محمد صلى الله عليه وسلم، والرجم والدماء وغيرها، ولم يحرفوها عن مواضعها.
﴿ وَ ﴾ أقاموا بـ ﴿ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ ﴾ فى التوراة والإنجيل من نعت محمد صلى الله عليه وسلم، ومن إيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولم يحرفوا نعته.
﴿ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ ﴾، يعنى المطر.
﴿ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾، يعنى من الأرض: النبات، ثم قال عز وجل: ﴿ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ﴾، يعنى عصبة عادلة فى قولها من مؤمنى أهل التوراة والإنجيل، فأما أهل التوراة، فعبد الله بن سلام وأصحابه، وأما أهل الإنجيل، فالذين كانوا على دين عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، وهم اثنان وثلاثون رجلاً، ثم قال سبحانه: ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ ﴾، يعنى من أهل الكتاب، يعنى كفارهم.
﴿ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٦٦]، يعنى بئس ما كانوا يعملون.
قوله سبحانه: ﴿ يَـۤأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ ﴾، يعنى محمداً صلى الله عليه وسلم.
﴿ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم دعا اليهود إلى الإسلام، فأكثر الدعاء، فجعلوا يستهزئون ويقولون: أتريد يا محمد أن نتخذك حناناً كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم حناناً؟ فلما رأى النبى صلى الله عليه وسلم ذلك، سكت عنهم، فحرض الله، يعنى فحضض الله عز وجل النبى صلى الله عليه وسلم على الدعاء إلى الله عز وجل، وألا يمنعه ذلك تكذيبهم إياه واستهزاؤهم، فقال: ﴿ يَـۤأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ ﴿ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ ﴾، يعنى من اليهود، فلا تقتل.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ٦٧]، يعنى اليهود،" فلما نزلت هذه الآية، أمن النبى صلى الله عليه وسلم من القتل، والخوف، فقال: " لا أبالى من خذلنى ومن نصرنى "، وذلك أنه كان يخشى أن تغتاله اليهود فتقتله. ثم أخبره ماذا يبلغ، فقال تعالى: ﴿ قُلْ يَـۤأَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى اليهود والنصارى.
﴿ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ ﴾ من أمر الدين.
﴿ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ ﴾، يقول: حتى تتلوهما حق تلاوتهما كما أنزلهما الله عز وجل.
﴿ وَ ﴾ تقيموا ﴿ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ من أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تحرفوه عن مواضعه، فهذا الذى أمر الله عز وجل أن يبلغ أهل الكتاب.
﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾، يعنى ما فى القرآن من أمر الرجم والدماء.
﴿ طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾، يعنى وجحوداً بالقرآن.
﴿ فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ﴾، يعنى فلا تحزن يا محمد صلى الله عليه وسلم على القوم ﴿ ٱلْكَافِرِينَ ﴾ [آية: ٦٨]، يعنى أهل الكتاب إذ كذبوك بما تقول.
قوله سبحانه: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾، يعنى الذين صدقوا.
﴿ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ ﴾، يعنى اليهود.
﴿ وَٱلصَّابِئُونَ ﴾، هم قوم من النصارى صبأوا إلى دين نوح وفارقوا هذه الفرق الثلاث، وزعموا أنهم على دين نوح، عليه السلام، وأخطأوا؛ لأن دين نوح، عليه السلام، كان على دين الإسلام.
﴿ وَٱلنَّصَارَىٰ ﴾، إنما سموا نصارى؛ لأنهم ابتدعوا هذا الدين بقرية تسمى ناصرة، قال الله عز وجل: ﴿ مَنْ آمَنَ ﴾ من هؤلاء ﴿ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً ﴾، وأدى الفرائض من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فله الجنة، ومن بقى منهم إلى أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلا إيمان له، إلا أن يصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم فمن صدق بالله عز وجل أنه واحد لا شريك له وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وبالبعث الذى فيه جزاء الأعمال.
﴿ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ﴾ من العذاب.
﴿ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [آية: ٦٩] من الموت. قوله سبحانه: ﴿ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾ فى التوراة على أن يعملوا بما فيها.
﴿ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً ﴾، يعنى وأرسل الله تعالى إليهم رسلاً.
﴿ كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ ﴾، يعنى اليهود.
﴿ فَرِيقاً كَذَّبُواْ ﴾، يعنى اليهود، فريقاً كذبوا عيسى صلى الله عليه وسلم ومحمداً صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ﴾ [آية: ٧٠]، يعنى اليهود، كذبوا بطائفة من الرسل، وقتلوا طائفة من الرسل، يعنى زكريا، ويحيى فى بنى إسرائيل. قوله عز وجل: ﴿ وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾، يعنى اليهود، حسبوا ألا يكون شرك ولا يبتلوا ولا يعاقبوا بتكذيبهم الرسل وبقتلهم الأنبياء، أن لا يبتلوا بالبلاء والشدة من قحط المطر.
﴿ فَعَمُواْ ﴾ عن الحق، فلم يبصره.
﴿ وَصَمُّواْ ﴾ عن الحق، فلم يسمعوه.
﴿ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ﴾، يقول: تجاوز عنهم، فرفع عنهم البلاء، فلم يتوبوا بعد رفع البلاء.
﴿ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٧١] من قتلهم الأنبياء وتكذيبهم الرسل. قوله عز وجل: ﴿ لَقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ ﴾، نزلت فى نصارى نجران الماريعقوبينن، منهم السيد والعاقب وغيرهما، قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم.
﴿ وَقَالَ ٱلْمَسِيحُ يَابَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾، يعنى وحدوا الله ربى وربكم.
﴿ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ ﴾، فيقول: إن الله هو المسيح ابن مريم، فيموت، على الشرك.
﴿ فَقَدْ حَرَّمَ ٱللَّهُ عَلَيهِ ٱلْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ ٱلنَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ ﴾، يعنى وما للمشركين ﴿ مِنْ أَنصَارٍ ﴾ [آية: ٧٢]، يعنى من مانع يمنعهم من النار.﴿ لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ﴾، يعنى المكانيين، قالوا: الله والمسيح ومريم، يقول الله عز وجل تكذيباً لقولهم: ﴿ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلاَّ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ ﴾ من الشرك ﴿ لَيَمَسَّنَّ ﴾، يعنى ليصيبن ﴿ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ٧٣]، يعنى وجيع، والقتل بالسيف، والجزية على من بقى منهم عقوبة. ثم قال سبحانه يعيبهم: ﴿ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَىٰ ٱللَّهِ ﴾، يعنى أفلا يتوبون إلى الله.
﴿ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ﴾ من الشرك، فإن فعلوا غفر لهم.
﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ ﴾ لذنوبهم ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٧٤] بهم.
ثم أخبر عن عيسى صلى الله عليه وسلم، فقال: سبحانه: ﴿ مَّا ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ﴾، يعنى مؤمنة كقوله سبحانه:﴿ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً ﴾[مريم: ٥٦]، يعنى مؤمناً نبياً، وذلك حين قال لها جبريل، عليه السلام:﴿ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ ﴾[مريم: ١٩]، وفى بطنك المسيح، فآمنت بجبريل، عليه السلام، وصدقت بالمسيح ابن مريم، عليه السلام، ثم سميت الصديقة، وهى يومئذ فى محراب بيت المقدس.
﴿ كَانَا يَأْكُلاَنِ ٱلطَّعَامَ ﴾، فلو كانا إلهين ما أكلا الطعام.
﴿ ٱنْظُرْ ﴾ يا محمد ﴿ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ ٱلآيَاتِ ﴾، يعنى العلامات فى أمر عيسى ومريم أنهم كانا يأكلان الطعام والآلهة لا تأكل الطعام.
﴿ ثُمَّ ٱنْظُرْ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴾ [آية: ٧٥]، يعنى من أين يكذبون، فأعلمهم أنى واحد.﴿ قُلْ ﴾ لنصارى نجران.
﴿ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾، يعنى عيسى.
﴿ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً ﴾ فى الدنيا.
﴿ وَلاَ نَفْعاً ﴾ فى الآخرة.
﴿ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ﴾ لقولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم، وثالث ثلاثة.
﴿ ٱلْعَلِيمُ ﴾ [آية: ٧٦] بمقالتهم.﴿ قُلْ يَـۤأَهْلَ ٱلْكِتَابِ ﴾، يعنى نصارى نجران.
﴿ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ ﴾ عن دين الإسلام فتقولوا ﴿ غَيْرَ ٱلْحَقِّ ﴾ فى عيسى ابن مريم.
﴿ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ ﴾ عن الهدى.
﴿ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ ﴾، عن الهدى ﴿ كَثِيراً ﴾ من الناس.
﴿ وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ ﴾ [آية: ٧٧]، يعنى وأخطأوا عن قصد سبل الهدى نزلت فى برصيصا.﴿ لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ اليهود ﴿ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ﴾، يعنى من سبط بنى إسرائيل.
﴿ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ ﴾ ابن أنبشا، وذلك أنهم صادوا الحيتان يوم السبت، وكانوا قد نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت، قال داود: اللهم إن عبادك قد خالفوا أمرك وتركوا أمرك، فاجعلهم آية ومثلاً لخلقك، فمسخهم الله عز وجل قردة، فهذه لعنة داود، عليه السلام.
﴿ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ﴾، وأما لعنة عيسى صلى الله عليه وسلم، فإنهم أكلوا المائدة، ثم كفروا ورفعوا من المائدة، فقال عيسى: اللهم إنك وعدتنى أن من كفر منهم بعدما يأكل من المائدة أن تعذبه عذاباً لا تعذبه أحداً من العالمين، اللهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت، فكانوا خمسة ألاف، فمسخهم الله عز وجل خنازير، ليس فيهم امرأة ولا صبى.
﴿ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا ﴾ فى ترك أمره.
﴿ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ﴾ [آية: ٧٨] فى دينهم.
﴿ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ﴾ [آية: ٧٩] حين لم ينهوهم عن المنكر. ثم قال عز وجل: ﴿ تَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾، يعنى من قريش.
﴿ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ ﴾؛ لأنهم ليسوا بأصحاب كتاب.
﴿ أَن سَخِطَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي ٱلْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ﴾ [آية: ٨٠].
﴿ وَلَوْ كَانُوا ﴾، يعنى اليهود.
﴿ يُؤْمِنُونَ بِالله ﴾، يعنى يصدقون بالله عز وجل بأنه واحد لا شريك له.
﴿ وَ ﴾ بـ ﴿ والنَّبِيِّ ﴾ صلى الله عليه وسلم ﴿ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ ﴾ من القرآن.
﴿ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ ﴾، يقول: ما تخذوا مشركى العرب أولياء.
﴿ وَلَـٰكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ ﴾ من اليهود ﴿ فَاسِقُونَ ﴾ [آية: ٨١]، يعنى عاصين.
﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾، كان اليهود يعاونون مشركى العرب على قتال النبى صلى الله عليه وسلم، ويأمرونهم بالمسير إلى النبى صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ ﴾، يعنى مشركى العرب أيضاً، كانوا شديدى العداوة للنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، رضى الله عنهم.
﴿ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً ﴾، وليس يعنى فى الحب، ولكن يعنى فى سرعة الإجابة للإيمان.
﴿ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ ﴾، وكانوا فى قرية تسمى ناصرة.
﴿ ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً ﴾، يعنى متعبدين أصحاب الصوامع.
﴿ وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [آية: ٨٢]، يعنى لا يتكبرون عن الإيمان. نزلت فى أربعين رجلاً من مؤمنى أهل الإنجيل، منهم اثنان وثلاثون رجلاً قدموا من أرض الحبشة مع جعفر بن أبى طالب، رضى الله عنه، وثمانية نفر قدموا من الشام معهم بحيرى الراهب، وأبرهة، والأشرف، ودريس، وتمام، وقسيم، ودريد، وأيمن، والقسيسون الذين يحلقون أواسط رءوسهم، وذلك أنهم حين سمعوا القرآن من النبى صلى الله عليه وسلم، قالوا: ما أشبه هذا بالذى كنا نتحدث به عن عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، فبكوا وصدقوا بالله عز وجل ورسله، فنزلت فيهم: ﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ ﴾ من القرآن.
﴿ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا ﴾، يعنى صدقنا بالقرآن أنه من الله عز وجل.
﴿ فَٱكْتُبْنَا ﴾، يعنى فاجعلنا ﴿ مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ ﴾ [آية: ٨٣]، يعنى مع المهاجرين، يعنى من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، نظيرها فى المجادلة:﴿ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ ﴾[المجادلة: ٢٢]، يقول: جعل فى قلوبهم الإيمان، وهو التوحيد. وقالوا: ﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ﴾، وذلك أنهم لما أسلموا ورجعوا إلى أرضهم، لا مهم كفار قومهم، فقالوا: أتركتم ملة عيسى صلى الله عليه وسلم ودين آبائكم، قالوا: نعم.
﴿ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ﴾ ﴿ وَمَا جَآءَنَا مِنَ ٱلْحَقِّ ﴾ مع محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ وَنَطْمَعُ ﴾، يعنى ونرجو ﴿ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا ﴾ الجنة ﴿ مَعَ ٱلْقَوْمِ ٱلصَّالِحِينَ ﴾ [آية: ٨٤]، وهم المهاجرين الأول، رضوان الله عليهم.﴿ فَأَثَابَهُمُ ٱللَّهُ بِمَا قَالُواْ ﴾ من التصديق.
﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ لا يموتون.
﴿ وَذٰلِكَ ﴾ الثواب ﴿ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ [آية: ٨٥].
ثم قال سبحانه: ﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ ﴾، يعنى بالقرآن بأنه ليس من الله عز وجل.
﴿ أُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ ﴾ [آية: ٨٦]، يعنى ما عظم من النار، يعنى كفار ا لنصارى الذين لاموهم حين أسلموا وتابعوا النبى صلى الله عليه وسلم.
قوله سبحانه: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ ﴾ من اللباس والنساء،" نزلت فى عشر نفر، منهم: على بن أبى طالب، رضى الله عنه، وعمر، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وعثمان بن مظعون، والمقداد بن الأسود، أبو ذر الغفارى، وسلمان الفارسى، وحذيفة بن اليمان، وسالم مولى أبى حذيفة، ورجل آخر، اجتمعوا فى بيت عثمان بن مظعون، رضى الله عنهم، ثم قالوا: تعالوا حتى نحرم على أنفسنا الطعام واللباس والنساء، وأن يقطع بعضهم مذاكيره، ويلبس المسرح، ويبنوا الصوامع، فيترهبوا فيها، فتفرقوا وهذا رأيهم. فجاء جبريل، عليه السلام، فأخبر النبى صلى الله عليه وسلم بذلك، فأتى منزل عثمان بن مظعون، رضى الله عنه، فلم يجدهم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم لامرأة عثمان: " أحق ما بلغنى عن عثمان وأصحابه؟ "، قالت: وما هو يا رسول الله؟ فأخبرها النبى صلى الله عليه وسلم الذى بلغه، فكرهت أن تكذب النبى صلى الله عليه وسلم، أو تفشى سر زوجها، فقالت: يا رسول الله، إن كان عثمان أخبرك بشئ، فقد صدقك، أو أخبرك الله عز وجل بشئ، فهو كما أخبرك ربك تعالى ذكره، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " قولى لزوجك إذا جاء: إنه ليس منى من لم يستن بسنتى، ويهتد بهدينا، ويأكل من ذبائحنا، فإن من سنتنا اللباس، والطعام، والنساء، فأعلمى زوجك، وقولى له: من رغب عن سنتى فليس منى ". فلما رجع عثمان وأصحابه أخبرته امرأته بقول النبى صلى الله عليه وسلم، فما أعجبه، فذروا الذى ذكره النبى صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ ﴾ ﴿ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ ﴾، فتحرموا حلاله.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ ﴾ [آية: ٨٧] من يحرم حلاله، ويعتدى فى أمره عز وجل.
﴿ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً ﴾، اللباس، والنساء، والطعام.
﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾، ولا تحرموا ما أحل الله لكم، واتقوا الله.
﴿ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ﴾ [آية: ٨٨]، يقول: الذى أنتم به مصدقون.
قوله سبحانه: ﴿ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ ﴾، وهو الرجل يحلف على أمر وهو يرى أنه فيه صادق وهو كاذب، فلا إثم عليه ولا كفارة.
﴿ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَانَ ﴾، يقول: بما عقد عليه قلبك، فتحلف وتعلم أنك كاذب.
﴿ فَكَفَّارَتُهُ ﴾، يعنى كفارة هذا اليمين الذى عقد عليها قلبه وهو كاذب.
﴿ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ﴾، لكل مسكين نصف صاع حنطة.
﴿ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ ﴾، يعنى من أعدل ما تطعمون ﴿ أَهْلِيكُمْ ﴾ من الشبع، نظيرها فى البقرة:﴿ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾[البقرة: ١٤٣]، يعنى عدلاً، قال سبحانه فى ن:﴿ قَالَ أَوْسَطُهُمْ ﴾[القلم: ٢٨]، يعنى أعدلهم، يقول: ليس بأدنى ما تأكلون ولا بأفضله. ثم قال سبحانه: ﴿ أَوْ كِسْوَتُهُمْ ﴾، يعنى كسوة عشرة مساكين، لكل مسكين عباءة أو ثوب.
﴿ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ﴾ ما، سواء أكان المحرر يهودياً، أو نصرانياً، أو مجوسياً، أو صابئياً، فهو جائز، وهو بالخيار فى الرقبة، أو الطعام، أو الكسوة.
﴿ فَمَن لَّمْ يَجِدْ ﴾ من هذه الخصال الثلاث شيئاً.
﴿ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ﴾، وهى فى قراءة ابن مسعود متتابعات.
﴿ ذٰلِكَ ﴾ الذى ذكر الله عز وجل ﴿ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَٱحْفَظُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ ﴾، فلا تتعمدوا اليمين الكاذبة.
﴿ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آية: ٨٩] ربكم فى هذه النعم، إذ جعل لكم مخرجاً فى أيمانكم فيما ذكر فى الكفارة.
قوله سبحانه: ﴿ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ ﴾، نزلت فى سعد بن أبى وقاص، رضى الله عنه، وفى رجل من الأنصار، يقال له: عتبان بن مالك الأنصارى، وذلك أن الأنصارى صنع طعاماً، وشوى رأس بعير، ودعا سعد بن أبى وقاص إلى الطعام، وهذا قبل التحريم، فأكلوا وشربوا حتى انتشوا، وقالوا الشعر، فقام الأنصارى إلى سعد، فأخذ إحدى لحيى البعير، فضرب به وجهه فشجه، فانطلق سعد مستعدياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل تحريم الخمر. فقال سبحانه: ﴿ يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ ﴾، يعنى به القمار كله.
﴿ وَٱلأَنصَابُ ﴾، يعنى الحجارة التى كانوا ينصبونها ويذبحون لها.
﴿ وَٱلأَزْلاَمُ ﴾، يعنى القدحين الذين كانوا يعملون بهما.
﴿ رِجْسٌ ﴾، يعنى إثم.
﴿ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ ﴾، يعنى من تزيين الشيطان، ومثله فى القصص:﴿ هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ ﴾[القصص: ١٥].
﴿ فَٱجْتَنِبُوهُ ﴾، فهذا النهى للتحريم، كما قال سبحانه:﴿ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ ﴾[الحج: ٣٠]، فإنه حرام، كذلك فاجتنبوا الخمر، فإنها حرام.
﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آية: ٩٠]، يعنى لكى.﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ ﴾، يعنى أن يغرى بينكم العداوة.
﴿ وَٱلْبَغْضَآءَ ﴾ الذى كان بين سعد وبين الأنصارى حتى كسر أنف سعد.
﴿ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ ﴾، ورث ذلك العداوة والبغضاء.
﴿ وَ ﴾ يريد الشيطان أن ﴿ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ ﴾، يقول: إذا سكرتم لم تذكروا الله عز وجل.
﴿ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ ﴾، يقول: إذا سكرتم لم تصلوا.
﴿ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ ﴾ [آية: ٩١]، فهذا وعيد بعد النهى والتحريم، قالوا: انتهينا يا ربنا، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:" يا أيها الذين آمنوا، إن الله حرم عليكم الخمر، فمن كان عنده منها شئ، فلا يشربها، ولا يبيعها، ولا يسقيها غيره ". قال: وقال أنس بن مالك: لقد نزل تحريم الخمر وما بالمدينة يومئذ خمر، إنما كانوا يشربون الفصيح، وأما الميسر، فهو القمار، وذلك أن الرجل فى الجاهلية كان يقول: أين أصحاب الجزور، فيقوم نفر، فيشترون بينهم جزوراً، فيجعلون لكل رجل منهم سهم، ثم يقرعون، فمن خرج سهمه برئ من الثمن، وله نصيب فى اللحم، حتى يبقى آخرهم، فيكون عليه الثمن كله، وليس له نصيب فى اللحم، وتقسم الجزور بين البقية بالسوية. وأما الأزلام، فهى القداح التى كانوا يقتسمون الأمور بها، قدحين مكتوب على أحدهما: أمرنى ربى، وعلى الآخر: نهانى ربى، فإذا أرادوا أمراً أتوا بيت الأصنام، فغطوا عليه ثوباً، ثم ضربوا بالقداح، فإن خرج أمرنى ربى، مضى على وجهه الذى يريد، وإن خرج نهانى ربى، لم يخرج فى سفره، وكذلك كانوا يفعلون إذا شكوا فى نسبة رجل، وأما الأنصاب، فهى الحجارة التى كانو ينصبونها حول الكعبة، وكانوا يذبحون لها. ثم قال عز وجل: ﴿ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ ﴾ فى تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، إلى آخر الآية.
﴿ وَٱحْذَرُواْ ﴾ معاصيهما.
﴿ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾، يعنى أعرضتم عن طاعتهما.
﴿ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ ﴾ [آية: ٩٢] فى تحريم ذلك، فلما نزلت هذه الآية فى تحريم الخمر، ، قال حيى بن أخطب، وأبو ياسر، وكعب ابن الأشرف للمسلمين: فما حال من مات منكم، وهم يشربون الخمر؟ فذكروا ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن إخواننا ماتوا وقتلوا، وقد كانوا يشربونها، فأنزل الله عز وجل: ﴿ لَيْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ ﴾، يعنى حرج.
﴿ فِيمَا طَعِمُوۤاْ ﴾، يعنى شربوا من الخمر قبل التحريم.
﴿ إِذَا مَا ٱتَّقَواْ ﴾ المعاصى.
﴿ وَآمَنُواْ ﴾ بالتوحيد.
﴿ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ﴾، يعنى أقاموا الفرائض قبل التحريم.
﴿ ثُمَّ اتَّقَواْ ﴾ المعاصى.
﴿ وَآمَنُواْ ﴾ بما يجىء من الناسخ والمنسوخ.
﴿ ثُمَّ اتَّقَواْ ﴾ المعاصي بعد تحريمها ﴿ وَآمَنُواْ ﴾ يعني صدقوا ﴿ ثُمَّ اتَّقَواْ ﴾ الشرك ﴿ وَّأَحْسَنُواْ ﴾ العمل بعد تحريمها، فمن فعل ذلك، فهو محسن.
﴿ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ [آية: ٩٣]،" فقال النبى صلى الله عليه وسلم للذى سأله: " قيل لى إنك من المحسنين " ".
وقوله سبحانه: ﴿ يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ ﴾، يعنى ببعض الصيد، فخص صيد البر خاصة، ولم يعم الصيد كله؛ لأن للبحر صيداً.
﴿ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ﴾، يقول: تأخذون صغار الصيد بأيديكم أخذاً بغير سلاح، ثم قال سبحانه: ﴿ وَرِمَاحُكُمْ ﴾، يعنى وسلاحكم النبل والرماح، بها يصيبون كبار الصيد، وهو عام حبس النبى صلى الله عليه وسلم عن مكة عام الحديبية، وأقام بالتنعيم، فصالحهم على أن يرجع عامه ذلك، ولا يدخل مكة، فإذا كان العام المقبل، أخلوا له مكة فدخلها فى أصحابه، رضى الله عنهم، وأقام بها ثلاثاً، ورضى النبى صلى الله عليه وسلم بذلك، فنحر البدن مائة بدنة، فجاءت السباع والطير تأكل منها، فنهى الله عز وجل عن قتل الصيد فى الحرم.
﴿ لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ ﴾، لكى يرى الله.
﴿ مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ ﴾، يقول: من يخاف الله عز وجل ولم يره، فلم يتناول الصيد، وهو محرم.
﴿ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ ﴾، يقول: فمن أخذ الصيد عمداً بعد النهى، فقتل الصيد وهو محرم.
﴿ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آية: ٩٤]، يعنى ضرباً وجيعاً، ويسلب ثيابه، ويغرم الجزاء، وحكم ذلك إلى الإمام، فهذا العذاب الأليم. قوله سبحانه: ﴿ يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾، وذلك أن أبا بشر، واسمه: عمرو بن مالك الأنصارى، كان محرماً فى عام الحديبية بعمرة، فقتل حمار وحش، فنزلت فيه: ﴿ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾ ﴿ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً ﴾ لقتله ناسياً لإحرامه.
﴿ فَجَزَآءٌ ﴾، يعنى جزاء الصيد.
﴿ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ ﴾، يعنى من الأزواج الثمانية إن كان قتل عمداً أو خطأ، أو أشار إلى الصيد فأصيب، فعليه الجزاء.
﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾، يعنى يحكم بالكفارة رجلان من المسلمين عدلين فقيهين يحكمان فى قاتل الصيد جزاء مثل ما قتل من النعم، إن قتل حمار وحش، أو نعامة، ففيها بعيراً بنحره بمكة، يطعم المساكين ولا يأكل هو ولا أحد من أصحابه، وإن كان من ذوات القرون الأيل والوعل ونحوهما، فجزاؤه أن يذبح بقرة للمساكين، وفى الطير ونحوها جزاؤه أن يذبح شاة مسنة، وفى الحمام شاة، وفى بيض الحمام إذا كان فيه فرخ درهم، وإن لم يكن فيه فرخ، فنصف درهم، وفى ولد الحمار الوحش ولد بعير مثله، وفى ولد النعامة ولد بعير مثله، وفى ولد الأيل والوعل ونحو ولد بقرة مثله، وفى فرخ الحمام ونحوه ولد شاة مثله، وفى ولد الظبى ولد شاة مثله.﴿ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ ﴾، يعنى ينحر بمكة، كقوله سبحانه فى الحج:﴿ ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ ﴾[الحج: ٣٣]، تذبح بأرض الحرم، فتطعم مساكين مكة.
﴿ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ ﴾، لكل مسكين نصف صاع حنطة.
﴿ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً ﴾، يقول: إن لم يقدر على الهدى ولا على ثمنه، ولا على إطعام المساكين، فليصم مكان كل مسكين يوماً، ينظر ثمن الهدى فيجعله دراهم، ثم ينظر كم يبلغ الطعام بتلك الدراهم بسعر مكة، فيصوم مكان كل مسكين يوماً، وبكل مسكين نصف صاع حنطة.
﴿ لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ﴾، يعنى جزاء ذنبه، يعنى الكفارة عقوبة له بقتله الصيد.
﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف ﴾، يقول: عفا الله عما كان منه قبل التحريم، يقول: تجاوز الله عما صنع فى قتله الصيد متعمداً قبل نزول هذه الآية.
﴿ وَمَنْ عَادَ ﴾ بعد النهى إلى قتل الصيد.
﴿ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ ﴾ بالضرب والفدية وينزع ثيابه.
﴿ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ﴾، يعنى منيع فى ملكه.
﴿ ذُو ٱنْتِقَامٍ ﴾ [آية: ٩٥] من أهل معصيته فيمن قتل الصيد، نزلت هذه الآية قبل الآية الأولى: ﴿ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
ثم قال عز وجل: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ ﴾، يعنى السمك الطرى، وشىء يفرخ فى الماء لا يفرخ فى غيره، فهو للمحرم حلال، ثم قال: ﴿ وَطَعَامُهُ ﴾، يعنى مليح السمك.
﴿ مَتَاعاً لَّكُمْ ﴾، يعنى منافع لكم، يعنى للمقيم.
﴿ وَلِلسَّيَّارَةِ ﴾، يعنى للمسافر.
﴿ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ﴾، يعنى ما دمتم محرمين.
﴿ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾، ولا تستحلوا الصيد فى الإحرام، ثم حذرهم قتل الصيد، فقال سبحانه: ﴿ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [آية: ٩٦] فى الآخرة، فيجزيكم بأعمالكم.
قوله سبحانه: ﴿ جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ ﴾، أنها سمت الكعبة؛ لأنها منفردة من البنيان، وكل منفرد من البنيان فهو فى كلام العرب الكعبة، قال أبو محمد: قال ثعلب: العرب تسمى كل بيت مربع الكعبة.
﴿ قِيَاماً لِّلنَّاسِ ﴾، يعنى أرض الحرم أمناً لهم وحياة لهم فى الجاهلية. قال: كان أحدهم إذا أصاب ذنباً أو أحدث حدثاً يخاف على نفسه، دخل الحرم فأمن فيه.
﴿ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ ﴾، قال: كان الرجل إذا أراد سفراً فى أمره، فإن كان السفر الذى يريده يعلم أنه يذهب ويرجع قبل أن يمضى الشهر الحرام توجه آمناً، ولم يقلد نفسه ولا راحلته، وإن كان يعلم أنه لا يقدر على الرجوع حتى يمضى الشهر الحرام، قلد نفسه وبعيره من لحا شجر الحرم فيأمن به حيث ما توجه من البلاد، فمن ثم قال سبحانه: ﴿ وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ ﴾ كل ذلك كان قواماً لهم وأمناً فى الجاهلية، نظيرها فى أول السورة.
﴿ ذٰلِكَ ﴾، يقول: هذا ﴿ لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾، قبل أن يكونا، ويعلم أنه سيكون من أمركم الذى كان.
﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ من أعمال العباد.
﴿ عَلِيمٌ ﴾ [آية: ٩٧].
ثم خوفهم ألا يستحلوا الغارة فى حجاج اليمامة، يعنى شريحاً وأصحابه، فقال: ﴿ ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ ﴾ إذا عاقب.
﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٩٨] لمن أطاعه بعد النهى، ثم قال عز وجل: ﴿ مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ﴾ فى أمر حجاج اليمامة، شريح بن ضبيعة وأصحابه.
﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ ﴾، يعنى ما تعلنون بألسنتكم.
﴿ وَمَا تَكْتُمُونَ ﴾ [آية: ٩٩] من أمر حجاج اليمامة والغارة عليهم.
﴿ قُل ﴾ لهم يا محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ لاَّ يَسْتَوِي ٱلْخَبِيثُ وَٱلطَّيِّبُ ﴾، يعنى بالخبيث الحرام، والطيب الحلال، نزلت فى حجاج اليمامة حين أراد المؤمنون الغارة عليهم.
﴿ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ ٱلْخَبِيثِ ﴾، يعنى الحرام، ثم حذرهم، فقال سبحانه: ﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾ ولا تستحلوا منهم محرماً.
﴿ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ ﴾، يعنى يا أهل اللب والعقل.
﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آية: ١٠٠].
قوله سبحانه: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾، " نزلت فى عبد الله بن جحش بن رباب الأسدى، من بنى غنم ابن دودان، وفى عبدالله بن حذافة القرشى، ثم السهمى، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا أيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج "، فقال عبدالله بن جحش: أفى كل عام؟ فسكت عنه صلى الله عليه وسلم، ثم أعاد قوله، فسكت النبى صلى الله عليه وسلم، ثم عاد، فغضب النبى صلى الله عليه وسلم ونخسه بقضيب كان معه، ثم قال: " ويحك، لو قلت نعم لوجبت، فاتركونى ما تركتكم، فإذا أمرتكم بأمر فافعلوه، وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا عنه "، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيها الناس، إنه قد رفعت لى الدنيا، فأنا أنظر إلى ما يكون فى أمتى من الأحداث إلى يوم القيامة، ورفعت لى أنساب العرب، فأنا أعرف أنسابهم رجلاً رجلاً ". فقام رجل، فقال: يا رسول الله، أين أنا؟ قال: " أنت فى الجنة "، ثم قام آخر، فقال: أين أنا؟ قال: " فى الجنة "، ثم قال الثالث، فقال: أين أنا؟ فقال: أنت فى النار "، فرجع الرجل حزيناً، وقام عبدالله بن حذافة، وكان يطعن فيه، فقال: يا رسول الله، من أبى؟ قال: " أبوك حذافة "، وقام رجل من بنى عبد الدار، فقال: يا رسول الله، من أبى؟ قال: " سعد "، نسبه إلى غير أبيه، فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله، استر علينا يستر الله عليك، إنا قوم قريبو عهد بالشرك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خيراً "، فأنزل الله عز وجل: ﴿ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾، يعنى إن تبين لكم فلعلكم إن تسألوا عما لم ينزل به قرآناً فينزل به قرآناً مغلظاً لا تطيقوه، قوله سبحانه: ﴿ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ ٱلْقُرْآنُ ﴾، يعنى عن الأشياء حين ينزل بها قرآناً.
﴿ تُبْدَ لَكُمْ ﴾ تبين لكم.
﴿ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا ﴾، يقول: عفا الله عن تلك الأشياء حين لم يوجبها عليكم.
﴿ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [آية: ١٠١]، يعنى ذو تجاوز حين لا يعجل بالعقوبة. ثم قال عز وجل: ﴿ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ ﴾، يقول: قد سأل عن تلك الأشياء.
﴿ مِّن قَبْلِكُمْ ﴾، يعنى من بنى إسرائيل، فبينت لهم.
﴿ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ ﴾ [آية: ١٠٢]، وذلك أن بنى إسرائيل سألوا المائدة قبل أن تنزل، فلما نزلت كفروا بها، فقالوا: ليست المائدة من الله، وكانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أخبروهم بها تركوا قولهم، ولم يصدقوهم، فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين. قوله سبحانه: ﴿ مَا جَعَلَ ٱللَّهُ ﴾ حراماً.
﴿ مِن بَحِيرَةٍ ﴾ لقولهم: إن الله أمرنا بها،" نزلت فى مشركى العرب، منهم: قريش، وكنانة، وعامر بن صعصعة، وبنو مدلج، والحارث وعامر ابنى عبد مناة، وخزاعة، وثقيف، أمرهم بذلك فى الجاهلية عمرو بن ربيعة بن لحى بن قمعة بن خندف الخزاعى، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: " رأيت عمرو بن ربيعة الخزاعى رجلاً قصيراً، أشقر، له وفرة، يجر قصبه فى النار، يعنى أمعاءه، وهو أول من سيب السائبة، واتخذ الوصيلة، وحمى الحامى، ونصب الأوثان حول الكعبة، وغير دين الحنفية، فأشبه الناس به أكثم بن لجون الخزاعى "، فقال أكثم: أيضرنى شبهه يا رسول الله؟ قال: " لا، أنت مؤمن وهو كافر ". والبحيرة الناقة إذا ولدت خمسة أبطن، فإذا كان الخامس سقيا، وهو الذكر، ذبحوه للآلهة، فكان لحمه للرجال دون النساء، وإن كان الخامس ربعة، يعنى أنثى، شقوا أذنيها، فهى البحيرة، وكذلك من البقر، لا يجز لها وبر، ولا يذكر اسم الله عليها إن ركبت، أو حمل عليها، ولبنها للرجال دون النساء، وأما السائبة، فهى الأنثى من الأنعام كلها، كان الرجل يسيب للآلهة ما شاء من إبله وبقره وغنمه، ولا يسيب إلا الأنثى، وظهورها، وأولادها، وأصوافها، وأوبارها، وأشعارها، وألبانها للآلهة، ومنافعها للرجال دون النساء، وأما الوصيلة، فهى الشاة من الغنم إذا ولدت سبعة أبطن عمدوا إلى السابع، فإن كان جدياً ذبحوه للآلهة، وكان لحمه للرجال دون النساء، وإن كانت عتاقاً استحيوها، فكانت من عرض الغنم. قال عبدالله بن ثابت: قال أبى: قال أبو صالح: قال مقاتل: وإن وضعته ميتاً، أشرك فى أكله الرجال والنساء، فذلك قوله عز وجل:﴿ وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ ﴾[الأنعام: ١٣٩]، بأن ولدت البطن السابع جدياً وعتاقاً، قالوا: إن الأخت قد وصلت أخاها، فرحمته علينا، فحرما جميعاً، فكانت المنفعة للرجال دون النساء، وأما الحام، فهو الفحل من الإبل إذا ركب أولاد أولاده، فبلغ ذلك عشرة أو أقل من ذلك، قالوا: قد حمى هذا ظهره، فأحرز نفسه، فيهل للآلهة ولا يحمل عليه، ولا يركب، ولا يمنع من مرعى، ولا ماء، ولا حمى، ولا ينحر أبداً حتى يموت موتاً، فأنزل الله عز وجل: ﴿ مَا جَعَلَ ٱللَّهُ ﴾ حراماً.
﴿ مِن بَحِيرَةٍ ﴾ ﴿ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ من قريش وخزاعة من مشركى العرب.
﴿ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ ﴾؛ لقولهم: إن الله أمرنا بتحريمه حين قالوا فى الأعراف:﴿ وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ﴾[الأعراف: ٢٨]، يعنى بتحريمها، ثم قال: ﴿ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ [آية: ١٠٣] أن الله عز وجل لم يحرمه. قوله سبحانه: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ﴾، يعنى مشركى العرب.
﴿ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ ﴾ فى كتابه من تحليل ما حرم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
﴿ وَإِلَى ٱلرَّسُولِ ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ ﴾ من أمر الدين، فإن أمرنا أن نعبد ما عبدوا، يقول الله عز وجل: ﴿ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ ﴾، يعنى فإن كان آباؤهم.
﴿ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً ﴾ من الدين.
﴿ وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ [آية: ١٠٤] له، أفتتبعونهم؟.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾، وذلك أن النبى صلى الله عليه وسلم كان لا قبل الجزية إلا من أهل الكتاب، فلما أسلم العرب طوعاً وكرهاً قبل الجزية من مجوس هجر، فطعن المنافقون فى ذلك، فنزلت: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾، يقول: اقبلوا على أنفسكم، فانظروا ما ينفعكم من أمر آخرتكم، فاعملوا به.
﴿ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ ﴾ من أهل هجر، نزلت فى رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم.
﴿ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ إِلَى ٱللَّهِ ﴾ عز وجل ﴿ مَرْجِعُكُمْ ﴾ فى الآخرة.
﴿ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ١٠٥].
﴿ يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ ﴾، نزلت فى بديل بن أبى مارية مولى العاص ابن وائل السهمى، كان خرج مسافراً فى البحر إلى أرض النجاشى ومعه رجلان نصرانيان، أحدهما يسمى تميم بن أوس الدارى، وكان من لخم، وعدى بن بندا، فمات بديل وهم فى البحر، فرمى به فى البحر، قال: ﴿ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ﴾، وذلك أنه كتب وصيته، ثم جعلها فى متاعه، ثم دفعه إلى تميم وصاحبه، وقال لهما: أبلغا هذا المتاع إلى أهلى، فجاءا ببعض المتاع وحبسا جاماً من فضة مموهاً بالذهب، فنزلت: ﴿ يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ حِينَ ٱلْوَصِيَّةِ ﴾، يقول: عند الوصية يشهدون وصيته.﴿ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾ من المسلمين فى دينهما.
﴿ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾، يعنى من غير أهل دينكم النصرانيين، تميم الدارى وعدى بن بندا.
﴿ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ يا معشر المسلمين للتجارة.
﴿ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ ﴾، يعنى بديل بن أبى مارية حين انطلق تاجراً فى البحر، وانطلق معه تميم وعدى صاحباه، فحضره الموت، فكتب وصيته، ثم جعلها فى المتاع، فقال: أبلغا هذا المتاع إلى أهلى، فلما مات بديل، قبضا المتاع، فأخاذا منه ما أعجبهما، وكان فيما أخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوش مموه بالذهب، فلما رجعا من تجارتهما دفعا بقية المال إلى ورثته، ففقدوا بعض متاعه، فنظروا إلى الوصية، فوجدوا المال فيه تاماً لم يبع منه، ولم يهب، فكلموا وتميماً وصاحبه، فسألوهما: هل باع صاحبنا شيئاً أو اشترى شيئاً فخسر فيه، أو طال مرضه فأنفق على نفسه؟ فقال: لا، قالوا: فإنا قد فقدنا بعض ما أبدى به صاحبنا، فقالا: ما لنا بما أبدى، ولا بما كان فى وصيته علم، ولكنه دفع إلينا هذا المال، فبلغناكم إياه. فرفعوا أمرهم إلى النبى صلى الله عليه وسلم، فنزلت: ﴿ يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ ﴾، يعنى بديلب بن أبى مارية.
﴿ ٱثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾، يعنى من المسلمين، عبدالله بن عمرو بن العاص، والمطلب بن أبى وداعة السهميان.
﴿ وْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ﴾ من غير أهل دينكم، يعنى النصرانيين.
﴿ إِنْ أَنتُمْ ﴾ معشر المسلمين ﴿ ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ تجاراً ﴿ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ ٱلْمَوْتِ ﴾، يعنى بديل بن أبى مارية مولى العاص بن وائل السهمى.
﴿ تَحْبِسُونَهُمَا ﴾، يعنى النصرانيين تقيمونهما.
﴿ مِن بَعْدِ ٱلصَّلاَةِ ﴾ صلاة العصر.
﴿ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ ﴾، فيحلفان بالله.
﴿ إِنِ ٱرْتَبْتُمْ ﴾، يعنى إن شككتم، نظيرها فى النساء القصرى، أن المال كان أكثر من هذا الذى أتيناكم به.
﴿ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً ﴾، يقول: لا نشترى بأيماننا عرضاً من الدنيا.
﴿ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ﴾، يقول: ولو كان الميت ذا قرابة منا.
﴿ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذَاً ﴾ إن كتمنا شيئاً من المال.
﴿ لَّمِنَ ٱلآَثِمِينَ ﴾ [آية: ١٠٦] بالله عز وجل. فحلفهما النبى صلى الله عليه وسلم عند المنبر بعد صلاة العصر، فحلفا أنهما لم يخونا شيئاً من المال، فخلى سبيلهما، فلما كان بعد ذلك، وجدوا الإناء الذى فقدوه عند تميم الدارى، قالوا: هذا من آنية صاحبنا الذى كان أبدى بها، وقد زعمتما أنه لم يبع ولم يشتر ولم ينفق على نفسه، فقالا: قد كنا اشتريناه منه، فنسينا أن نخبركم به، فرفعوهما إلى النبى صلى الله عليه وسلم الثانية، فقالوا: يا رسول الله، إنا وجدنا مع هذين إناء من فضة من متاع صاحبنا، فأنزل الله عز وجل: ﴿ فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً ﴾، يقول: فإن اطلع على أنهما، يعنى النصرانيين كتما شيئاً من المال أو خانا.
﴿ فَآخَرَانِ ﴾ من أولياء الميت، يعنى عبدالله بن عمرو بن العاص، والمطلب بن أبى وداعة السهميان.
﴿ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا ﴾، يعنى مقام النصرانيين.
﴿ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ ﴾ الإثم.
﴿ عَلَيْهِمُ ٱلأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ ﴾، يعنى فيحلفان بالله فى دبر صلاة العصر أن الذى فى وصية صاحبنا حق، وأن المال كان أكثر مما أتيتمانا به، وأن هذا الإناء لمن متاع صاحبنا الذى خرج به معه، وكتبه فى وصيته، وأنكما خنتما، فذلك قوله سبحانه: ﴿ لَشَهَادَتُنَا ﴾، يعنى عبدالله بن عمرو بن العاص، والمطلب.
﴿ أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا ﴾، يعنى النصرانيين.
﴿ وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ ﴾ بشهادة المسلمين من أولياء الميت.
﴿ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ [آية: ١٠٧].
﴿ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ ﴾، يعنى أجدر، نظيرها فى النساء.
﴿ أَن يَأْتُواْ ﴾، يعنى النصرانيين.
﴿ بِٱلشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَآ ﴾، كما كانت ولا يكتمان شيئاً.
﴿ أَوْ يَخَافُوۤاْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾، يقول: أو يخافوا أن يطلع على خيانتهم فيرد شهادتهما بشهادة الرجلين المسلمين من أولياء الميت، فحلف عبدالله والمطلب كلاهما أن الذى فى وصية الميت حق، وأن هذا الإناء من متاع صاحبنا، فأخذوا تميم بن أوس الدارى، وعدى بن بندا النصرانيين بتمام ما وجدوا فى وصية الميت حين اطلع الله عز وجل على خيانتهما فى الإناء، ثم وعظ الله عز وجل المؤمنين ألا يفعلوا مثل هذا، وألا يشهدوا بما لم يعاينوا ويروا، فقال سبحانه يحذرهم نقمته.
﴿ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱسْمَعُواْ ﴾ مواعظه.
﴿ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ ﴾ [آية: ١٠٨]،" وأن تميم بن أوس الدارى اعترف بالخيانة، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: " ويحك يا تميم، أسلم يتجاوز الله عنك ما كان فى شركك "، فأسلم تميم الدارى وحسن إسلامه، ومات عدى بن بندا نصرانياً.
قوله سبحانه: ﴿ يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ ﴾، يعنى الأنبياء، عليهم السلام.
﴿ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ ﴾ فى التوحيد.
﴿ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ ﴾، وذلك أول ما بعثوا عند زفرة جهنم؛ لأن الناس إذا خرجوا من قبورهم تاهت عقولهم، فجالوا فى الدنيا ثلاثين سنة، ويقال: أربعين سنة، ثم ينادى مناد عند صخرة بيت المقدس: يا أهل الدنيا، ها هنا موضع الحساب، فيسمع النداء جميع الناس، فيقبلون نحو الصوت، فإذا اجتمعوا ببيت المقدس، زفرت جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبى مرسل إلا ظن أنه لو جاء بعمل سبعين نبياً ما نجا، فعند ذلك تاهت عقولهم، فيقول لهم عند ذلك، يعنى المرسلين: ﴿ مَاذَآ أُجِبْتُمْ ﴾ فى التوحيد.
﴿ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ ﴾ ﴿ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ ﴾ [آية: ١٠٩]، ثم رجعت عقولهم بعد ذلك إليهم، فشهدوا على قومهم أنهم قد بلغوا الرسالة عن ربهم، فذلك قوله سبحانه:﴿ وَيَقُولُ ٱلأَشْهَادُ ﴾يعنى الأنبياء،﴿ هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىٰ رَبِّهِمْ ﴾[هود: ١٨].
قوله سبحانه: ﴿ إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ﴾ فى الآخرة.
﴿ ٱذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ ﴾، يعنى مريم، عليهما السلام.
﴿ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ ﴾، فالنعمة على عيسى حين أيده بروح القدس، يعنى جبريل، عليه السلام.
﴿ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ ﴾ صبياً ﴿ وَ ﴾ تكلمهم ﴿ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعنى خط الكتاب بيده.
﴿ وَٱلْحِكْمَةَ ﴾، يعنى الفهم والعلم.
﴿ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ ﴾، يعنى علم التوراة والإنجيل، وجعله نبياً ورسولاً إلى بنى إسرائيل.
﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ ﴾، يعنى الخفاش.
﴿ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا ﴾، يعنى فى الهيئة.
﴿ فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ ﴾، يعنى الأعمى الذى يخرج من بطن أمه أعمى.
﴿ وَ ﴾ يبرئ ﴿ وَٱلأَبْرَصَ ﴾، يمسحها بيده فيبرئها ﴿ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ ٱلْمَوتَىٰ بِإِذْنِيِ ﴾ أحياء.
﴿ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ ﴾، أى عن قتلك.
﴿ إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾، وهى إحياء سام بن نوح بإذن الله. فيقوم عيسى صلى الله عليه وسلم يوم القيامة بهؤلاء الكلمات خطيباً على رءوس الخلائق، ويخطب إبليس، لعنه الله، على أهل النار بهذه الآية:﴿ إِنَّ ٱللَّهَ وَعَدَكُمْ... ﴾إلى قوله:﴿ بِمُصْرِخِكُمْ ﴾يعنى بمانعكم من العذاب،﴿ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ﴾يعنى بمانعى من العذاب،﴿ إِنِّي كَفَرْتُ ﴾يعنى تبرأت﴿ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ﴾[إبراهيم: ٢٢]، أى فى الدار الدنيا، وأما النعمة على مريم، عليها السلام، فهى أنه اصطفاها، يعنى اختارها، وطهرها من الإثم، واختارها على نساء العالمين، وجعلها زوجة محمد صل الله عليه وسلم فى الجنة. قوله سبحانه: ﴿ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ ﴾، يعنى تكلم بنى إسرائيل صبياً فى المهد حين جاءت به أمه تحمله، ويكلمهم كهلاً حين اجتمع واستوت لحيته.
﴿ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ ﴾، يعنى خط الكتاب بيده.
﴿ وَٱلْحِكْمَةَ ﴾، يعنى الفهم والعلم، وإذ علمتك التوراة والإنجيل.
﴿ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ ﴾، يعنى الخفاش.
﴿ فَتَنفُخُ فِيهَا ﴾، يعنى فى الهيئة.
﴿ فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ ﴾ الذى يخرج من بطن أمه أعمى، فكان عيسى، عليه السلام، يرد إليه بصره بإذن الله تعالى، فيمسح بيده عليه، فإذا هو صحيح بإذن الله، وأحيا سام بن نوح بإذن الله، حيث كلمه الناس، ثم مات فعاد كما كان.
﴿ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ عَنكَ ﴾، يعنى عن قتلك حين رفعه الله عز وجل إليه، وقتل شبيهه، وهو الرقيب الذى كان عليه.
﴿ إِذْ جِئْتَهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ ﴾، يعنى بالعجائب التى كان يصنعها من إبراء الأكمه والأبرص والموتى والطير ونحوه.﴿ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ ﴾، يعنى من اليهود من بنى إسرائيل.
﴿ إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ [آية: ١١٠]، يعنى ما هذا الذى يصنع عيسى من الأعاجيب إلا سحر مبين، يعنى بين، نظيرها فى الصف.
﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ ﴾، وهم القصارون مبيضو الثياب، وكانوا اثنى عشر رجلاً، والوحى إليهم من الله عز وجل هو إلهام قذف فى قلوبهم التصديق بالله عز وجل، بأنه واحد لا شريك له، فذلك قوله عز وجل: ﴿ أَنْ آمِنُواْ بِي ﴾ أن صدقوا بأنى واحد ليس معى شريك.
﴿ وَبِرَسُولِي ﴾، عيسى ابن مريم أنه نبى رسول.
﴿ قَالُوۤاْ آمَنَّا ﴾، يعنى صدقنا بما جاء به من عند الله، ونشهد أن الله عز وجل واحد لا شريك له، وأنك رسوله.
﴿ وَٱشْهَدْ ﴾ يا عيسى ﴿ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴾ [آية: ١١١]، يعنى مخلصون بالتوحيد.﴿ إِذْ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ﴾، يقول: هل يقدر على أن يعطيك ربك إن سألته ﴿ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ قَالَ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ﴾، فلا تسألوه البلاء.
﴿ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [آية: ١١٢]، فإنها إن نزلت ثم كذبتم عوقبتم.
﴿ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا ﴾، فقد جعنا.
﴿ وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا ﴾، يعنى وتسكن قلوبنا إلى ما تدعونا إليه.
﴿ وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا ﴾ بأنك نبى رسول.
﴿ وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ ٱلشَّاهِدِينَ ﴾ [آية: ١١٣]، يعنى على المائدة عند بنى إسرائيل، إذا رجعنا إليهم، وكان القوم الذين خرجوا وسألوا المائدة خمسة ألاف بطريق، وهم الذين سألوا المائدة مع الحواريين.﴿ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ ﴾ صلى الله عليه وسلم عند ذلك.
﴿ ٱللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا ﴾، يقول: تكون عيداً لمن كان فى زماننا عند نزول المائدة، وتكون عيداً لمن بعدنا.
﴿ وَ ﴾ تكون المائدة ﴿ وَآيَةً مِّنْكَ وَٱرْزُقْنَا ﴾، يعنى المائدة.
﴿ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ ﴾ [آية: ١١٤] من غيرك، يقول: فإنك خير من يرزق.﴿ قَالَ ٱللَّهُ ﴾ عز وجل.
﴿ إِنِّي مُنَزِّلُهَا ﴾، يعنى المائدة.
﴿ عَلَيْكُمْ ﴾، فنزلها يوم الأحد.
﴿ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ ﴾ نزول المائدة.
﴿ مِنكُمْ فَإِنِّيۤ أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ ﴾ [آية: ١١٥]، فنزلت من السماء عليها سمك طرى، وخبز رقاق، وتمر، وذكروا أن عيسى صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه وهم جلوس فى روضة: هل مع أحد منكم شئ؟ فجاء شمعون بسمكتين صغيرتين، وخمسة أرغفة، وجاء آخر بشئ من سويق، فعمد عيسى صلى الله عليه وسلم فقطعهما صغاراً وكسر الخبز، فوضعها فلقاً فلقاً، ووضع السويق فتوضأ، ثم صلى ركعتين، ودعا ربه عز وجل، فألقى الله عز وجل على أصحابه شبه السبات، ففتح القوم أعينهم، فزاد الطعام حتى بلغ الركب، فقال عيسى صلى الله عليه وسلم للقوم: كلوا وسموا الله عز وجل، ولا ترفعوا، وأمرهم أن يجلسوا حلقاً حلقاً، فأكلوا حتى شبعوا، وهم خمسة ألاف رجل، وهذا ليلة الأحد ويوم الأحد. فنادى عيسى صلى الله عليه وسلم، فقال: أكلتم؟ قالوا: نعم، قال: لا ترفعوا، قالوا: لا نرفع، فرفعوا، فبلغ ما رفعوا من الفضل أربعة وعشرين مكتلاً، فآمنوا عند ذلك بعيسى صلى الله عليه وسلم، وصدقوا به، ثم رجعوا إلى قومهم اليهود من بنى إسرائيل، ومعهم فضل المائدة، فلم يزالوا بهم حتى ارتدوا عن الإسلام، فكفروا بالله، وجحدوا بنزول المائدة، فمسخهم الله عز وجل وهم نيام خنازير، وليس غيهم صبى ولا امرأة.﴿ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ﴾، يعنى بنى إسرائيل فى الدنيا.
﴿ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ ﴾ مريم ﴿ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ ﴾، فنزه الرب عز وجل، أن يكون أمرهم بذلك، فقال: ﴿ مَا يَكُونُ لِيۤ ﴾، يعنى ما ينبغى لى ﴿ أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ ﴾، يعنى بعدل أن يعبدوا غيرك.
﴿ إِن كُنتُ قُلْتُهُ ﴾ لهم ﴿ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي ﴾، يعنى ما كان منى وما يكون.
﴿ وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ ﴾، يقول: ولا أطلع على غيبك، وقال أيضاً: ولا أعلم ما فى علمك، ما كان منك وما يكون.
﴿ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ ﴾ [آية: ١١٦]، يعنى غيب ما كان وغيب ما يكون.﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ ﴾ وأنت تعلم.
﴿ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ ﴾ فى الدنيا.
﴿ أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ ﴾، يعنى وحدوا الله.
﴿ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ﴾، قال لهم عيسى صلى الله عليه وسلم فى هذه السورة، وفى كهيعص، وفى الزخرف.
﴿ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ﴾، يعنى على بنى إسرائيل بأن قد بلغتهم الرسالة.
﴿ مَّا دُمْتُ فِيهِمْ ﴾، يقول: ما كنت بين أظهرهم.
﴿ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي ﴾، يقول: فلما بلغ بى أجل الموت فمت.
﴿ كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ﴾، يعنى الحفيظ.
﴿ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [آية: ١١٧]، يعنى شاهداً بما أمرتهم من التوحيد، وشهيد عليهم بما قالوا من البهتان، وإنما قال الله عز وجل: ﴿ وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ﴾، ولم يقل: وإذ يقول: يا عيسى ابن مريم؛ لأنه قال سبحانه قبل ذكر عيسى يوم يجمع الله الرسل، فيقول: ماذا أجبتم؟ قالوا: يومئذ، وهو يوم القيامة، حين يفرغ من مخاصمة الرسل، فينادى: أين عيسى ابن مريم، فيقوم عيسى صلى الله عليه وسلم شفق، فرق، يرعد رعدة حتى يقف بين يدى الله عز وجل، يا عيسى ﴿ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾.
وكما قال سبحانه:﴿ وَنُودُوۤاْ أَن تِلْكُمُ ٱلْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾[الأعراف: ٤٣]، فلما دخلوا الجنة قال:﴿ وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ ﴾[الأعراف: ٥٠]، فنسق بالماضى على الماضى، والمعنى مستقبل، ولو لم يذكر الجنة قبل بدئهم بالكلام الاول لقال فى الكلام الأول:﴿ وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ ﴾[الأعراف: ٤٤]، وكل شئ فى القرآن على هذا النحو. ثم قال عيسى صلى الله عليه وسلم لربه عز وجل فى الآخرة: يا رب، غبت عنهم وتركتهم على الحق الذى أمرتنى به، فلم أدر ما أحدثوا بعدى، فـ ﴿ إِن تُعَذِّبْهُمْ ﴾ فتميتهم على ما قالوا من البهتان والكفر.
﴿ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ﴾، وانت خلقتهم.
﴿ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ ﴾، فتتوب عليهم وتهديهم إلى الإيمان والمغفرة بعد الهداية إلى الإيمان.
﴿ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾ [آية: ١١٨] فى ملكك، الحكيم فى أمرك، وفى قراءة ابن مسعود: " فإنك أنت الغفور الرحيم "، نظيرها فى سورة إبراهيم، عليه السلام، فى مخاطبة إبراهيم:﴿ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾[إبراهيم: ٣٦]، وهى كذلك أيضاً فى قراءة عبدالله بن مسعود.
﴿ قَالَ ٱللَّهُ هَـٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ ٱلصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ﴾، يعنى النبيين بما قالوا فى الدنيا، فكان عيسى صادقاً فيما قال لربه فى الآخرة.
﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ ﴾، فصدقه الله بقوله فى الدنيا، وصدقه فى الآخرة حين خطب على الناس، ثم قال: ﴿ لَهُمْ ﴾، يعنى للصادقين.
﴿ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ﴾، لا يموتون.
﴿ رَّضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ ﴾ بالطاعة.
﴿ وَرَضُواْ عَنْهُ ﴾ بالثواب.
﴿ ذٰلِكَ ﴾ الثواب ﴿ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ ﴾ [آية: ١١٩]، يعنى النجاء العظيم. ثم عظم الرب جل جلاله نفسه عما قالت النصارى من البهتان والزور أنه ليس كما زعمت، وأنه واحد لا شريك له، فقال سبحانه: ﴿ للَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ﴾ من الخلق، عيسى ابن مريم وغيره من الملائكة والخلق عباده وفى ملكه.
﴿ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ من خلق عيسى من غير أب وغيره.
﴿ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ١٢٠].
Icon