تفسير سورة سورة المائدة من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز
المعروف بـتفسير ابن عطية
.
لمؤلفه
ابن عطية
.
المتوفي سنة 542 هـ
بسم الله الرحمان الرحيم
تفسير سورة المائدة
هذه السورة مدنية بإجماع١، وروي أنها نزلت عند منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية قال :( يا علي، أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة، ونعمت الفائدة ).
وهذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم٢.
ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع، ومنها ما نزل عام الفتح، وهو قوله تعالى :﴿ ولا يجرمنكم شنئان قوم ﴾ الآية، وكل ما نزل من القرآن بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدني، سواء ما نزل بالمدينة، أو في سفر من الأسفار، أو بمكة، وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة٣، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب ).
تفسير سورة المائدة
هذه السورة مدنية بإجماع١، وروي أنها نزلت عند منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية قال :( يا علي، أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة، ونعمت الفائدة ).
وهذا عندي لا يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم٢.
ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع، ومنها ما نزل عام الفتح، وهو قوله تعالى :﴿ ولا يجرمنكم شنئان قوم ﴾ الآية، وكل ما نزل من القرآن بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فهو مدني، سواء ما نزل بالمدينة، أو في سفر من الأسفار، أو بمكة، وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة٣، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب ).
١ - أخرج أحمد، والنسائي، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وغيرهم عن جبير ابن نفير قال: حججت فدخلت على عائشة، فقالت لي: يا جبير، تقرأ المائدة؟ فقلت نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرّموه. (الدر المنثور-وفتح القدير)..
٢ - قال القرطبي: "قال ابن العربي، هذا حديث موضوع، لا يحل لمسلم اعتقاده"..
٣ - هذا هو التقسيم الصحيح السليم، لأنه ضابط حاصر ومطرد، وهناك تقسيم ثان لوحظ فيه المكان، وفيه أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة، وهو تقسيم غير حاصر لا يدخل فيه مثلا ما نزل بتبوك كقوله تعالى: ﴿لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك﴾. وهناك أيضا تقسيم ثالث لوحظ فيه المخاطبون، وفيه أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة، وعليه يحمل قول من قال: إن ما صدر في القرآن بلفظ: ﴿يا أيها الناس﴾ فهو مكي، وما صدّر فيه بلفظ: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ فهو مدني... الخ ما قيل- وهذا التقسيم أيضا غير مطرد فإن هناك آيات مدنية صدرت بصيغة: ﴿يا أيها الناس﴾ كقوله تعالى في أول سورة النساء: ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم﴾، وهناك آيات مكية صدرت بصيغة: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ كقوله تعالى في سورة الحج: ﴿يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا﴾..
٢ - قال القرطبي: "قال ابن العربي، هذا حديث موضوع، لا يحل لمسلم اعتقاده"..
٣ - هذا هو التقسيم الصحيح السليم، لأنه ضابط حاصر ومطرد، وهناك تقسيم ثان لوحظ فيه المكان، وفيه أن المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة، والمدني ما نزل بالمدينة، وهو تقسيم غير حاصر لا يدخل فيه مثلا ما نزل بتبوك كقوله تعالى: ﴿لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك﴾. وهناك أيضا تقسيم ثالث لوحظ فيه المخاطبون، وفيه أن المكي ما وقع خطابا لأهل مكة، والمدني ما وقع خطابا لأهل المدينة، وعليه يحمل قول من قال: إن ما صدر في القرآن بلفظ: ﴿يا أيها الناس﴾ فهو مكي، وما صدّر فيه بلفظ: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ فهو مدني... الخ ما قيل- وهذا التقسيم أيضا غير مطرد فإن هناك آيات مدنية صدرت بصيغة: ﴿يا أيها الناس﴾ كقوله تعالى في أول سورة النساء: ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم﴾، وهناك آيات مكية صدرت بصيغة: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ كقوله تعالى في سورة الحج: ﴿يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا﴾..
ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم
سورة المائدة
هذه السورة مدنية بإجماع. وروي أنها نزلت عند منصرف رسول الله ﷺ من الحديبية. وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال: لما رجع رسول الله ﷺ من الحديبية قال: يا عليّ أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة ونعمت الفائدة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا عندي لا يشبه كلام النبي ﷺ ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع. ومنها ما نزل عام الفتح وهو قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [المائدة: ٢] الآية. وكل ما نزل من القرآن بعد هجرة النبي ﷺ فهو مدني سواء ما نزل بالمدينة أو في سفر من الأسفار أو بمكة. وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة. وروي أن النبي ﷺ قال: سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١ الى ٢]
قال علقمة: كل ما في القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهو مدني. وقد تقدم القول في مثل هذا. ويقال:
وفى وأوفى بمعنى واحد، وأمر الله تعالى المؤمنين عامة بالوفاء بالعقود. وهي الربوط في القول كان ذلك في تعاهد على بر أو في عقدة نكاح أو بيع أو غيره. ولفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب. إذ بينهم وبين الله عقد في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد ﷺ ولفظ «العقود» يعم عقود الجاهلية المبنية على بر مثل دفع الظلم ونحوه، وأما في سائر تعاقدهم على الظلم والغارات فقد هدمه الإسلام فإنما معنى الآية أمر جميع المؤمنين بالوفاء على عقد جار على رسم الشريعة وفسر الناس لفظ «العقود» بالعهود.
وذكر بعضهم من العقود أشياء على جهة المثال فمن ذلك قول قتادة (أوفوا بالعقود) معناه بعهد الجاهلية. روي لنا عن رسول الله ﷺ أنه قال: أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام.
قال القاضي أبو محمد: وفقه هذا الحديث أن عقد الجاهلية كان يخص المتعاقدين، إذ كان الجمهور على ظلم وضلال، والإسلام قد ربط الجميع وجعل المؤمنين إخوة فالذي يريد أن يختص به
سورة المائدة
هذه السورة مدنية بإجماع. وروي أنها نزلت عند منصرف رسول الله ﷺ من الحديبية. وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال: لما رجع رسول الله ﷺ من الحديبية قال: يا عليّ أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة ونعمت الفائدة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا عندي لا يشبه كلام النبي ﷺ ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع. ومنها ما نزل عام الفتح وهو قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [المائدة: ٢] الآية. وكل ما نزل من القرآن بعد هجرة النبي ﷺ فهو مدني سواء ما نزل بالمدينة أو في سفر من الأسفار أو بمكة. وإنما يرسم بالمكي ما نزل قبل الهجرة. وروي أن النبي ﷺ قال: سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢)قال علقمة: كل ما في القرآن يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهو مدني. وقد تقدم القول في مثل هذا. ويقال:
وفى وأوفى بمعنى واحد، وأمر الله تعالى المؤمنين عامة بالوفاء بالعقود. وهي الربوط في القول كان ذلك في تعاهد على بر أو في عقدة نكاح أو بيع أو غيره. ولفظ المؤمنين يعم مؤمني أهل الكتاب. إذ بينهم وبين الله عقد في أداء الأمانة فيما في كتابهم من أمر محمد ﷺ ولفظ «العقود» يعم عقود الجاهلية المبنية على بر مثل دفع الظلم ونحوه، وأما في سائر تعاقدهم على الظلم والغارات فقد هدمه الإسلام فإنما معنى الآية أمر جميع المؤمنين بالوفاء على عقد جار على رسم الشريعة وفسر الناس لفظ «العقود» بالعهود.
وذكر بعضهم من العقود أشياء على جهة المثال فمن ذلك قول قتادة (أوفوا بالعقود) معناه بعهد الجاهلية. روي لنا عن رسول الله ﷺ أنه قال: أوفوا بعقد الجاهلية ولا تحدثوا عقدا في الإسلام.
قال القاضي أبو محمد: وفقه هذا الحديث أن عقد الجاهلية كان يخص المتعاقدين، إذ كان الجمهور على ظلم وضلال، والإسلام قد ربط الجميع وجعل المؤمنين إخوة فالذي يريد أن يختص به
143
المتعاقدان قد ربطهما إليه الشرع مع غيرهم من المسلمين اللهم إلا أن يكون التعاهد على دفع نازلة من نوازل الظلامات فيلزم في الإسلام التعاهد على دفع ذلك والوفاء بذلك العهد، وأما عهد خاص لما عسى أن يقع يختص المتعاهدون بالنظر فيه والمنفعة كما كان في الجاهلية فلا يكون ذلك في الإسلام. قال الطبري: وذكر أن فرات بن حيان العجلي سأل رسول الله ﷺ عن حلف الجاهلية، فقال لعلك تسأل عن حلف لجيم وتيم الله، قال نعم يا نبي الله، قال لا يزيده الإسلام إلا شدة. وقال ابن عباس رضي الله عنه أَوْفُوا بِالْعُقُودِ معناه بما أحل الله وبما حرم وبما فرض وبما حد في جميع الأشياء، قاله مجاهد وغيره.
وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما «العقود» في الآية هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع أو نكاح أو غيره.
وقال ابن زيد وعبد الله بن عبيدة: العقود خمس: عقدة الإيمان وعقدة النكاح وعقدة العهد وعقدة البيع وعقدة الحلف.
قال القاضي أبو محمد: وقد تنحصر إلى أقل من خمس، وقال ابن جريج قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قال: هي العقود التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بما جاءهم، وقال ابن شهاب قرأت كتاب رسول الله ﷺ الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره: هذا بيان من الله ورسوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فكتب الآيات منها إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [المائدة: ٤].
قال القاضي أبو محمد: وأصوب ما يقال في تفسير هذه الآية أن تعمم ألفاظها بغاية ما تتناول فيعمم لفظ المؤمنين جملة من مظهر الإيمان إن لم يبطنه وفي المؤمنين حقيقة ويعمم لفظ العقود في كل ربط بقول موافق للحق والشرع. ومن لفظ العقد قول الحطيئة:
وقوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ خطاب لكل من التزم الإيمان على وجهه وكماله وكانت للعرب سنن في «الأنعام» من السائبة والبحيرة والحام وغير ذلك فنزلت هذه الآية رافعة لجميع ذلك، واختلف في معنى بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ فقال السدي والربيع وقتادة والضحاك: هي «الأنعام» كلها.
قال القاضي أبو محمد: كأنه قال أحلت لكم «الأنعام» فأضاف الجنس إلى أخص منه. وقال الحسن: بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ الإبل والبقر والغنم. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ الأجنة التي تخرج عند الذبح للأمهات فهي تؤكل دون ذكاة، وقال ابن عباس: هذه الأجنة من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ، قال الطبري: وقال قوم بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وحشها كالظباء وبقر الوحش والحمر وغير ذلك. وذكره غير الطبري عن الضحاك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول حسن، وذلك أن «الأنعام» هي الثمانية الأزواج وما انضاف إليها من سائر الحيوان يقال له أنعام بمجموعه معها وكان المفترس من الحيوان كالأسد وكل ذي ناب قد خرج عن
وقال محمد بن كعب القرظي وابن زيد وغيرهما «العقود» في الآية هي كل ما ربطه المرء على نفسه من بيع أو نكاح أو غيره.
وقال ابن زيد وعبد الله بن عبيدة: العقود خمس: عقدة الإيمان وعقدة النكاح وعقدة العهد وعقدة البيع وعقدة الحلف.
قال القاضي أبو محمد: وقد تنحصر إلى أقل من خمس، وقال ابن جريج قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قال: هي العقود التي أخذها الله على أهل الكتاب أن يعملوا بما جاءهم، وقال ابن شهاب قرأت كتاب رسول الله ﷺ الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران وفي صدره: هذا بيان من الله ورسوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فكتب الآيات منها إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ [المائدة: ٤].
قال القاضي أبو محمد: وأصوب ما يقال في تفسير هذه الآية أن تعمم ألفاظها بغاية ما تتناول فيعمم لفظ المؤمنين جملة من مظهر الإيمان إن لم يبطنه وفي المؤمنين حقيقة ويعمم لفظ العقود في كل ربط بقول موافق للحق والشرع. ومن لفظ العقد قول الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم | شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا |
قال القاضي أبو محمد: كأنه قال أحلت لكم «الأنعام» فأضاف الجنس إلى أخص منه. وقال الحسن: بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ الإبل والبقر والغنم. وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ الأجنة التي تخرج عند الذبح للأمهات فهي تؤكل دون ذكاة، وقال ابن عباس: هذه الأجنة من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ، قال الطبري: وقال قوم بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ وحشها كالظباء وبقر الوحش والحمر وغير ذلك. وذكره غير الطبري عن الضحاك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول حسن، وذلك أن «الأنعام» هي الثمانية الأزواج وما انضاف إليها من سائر الحيوان يقال له أنعام بمجموعه معها وكان المفترس من الحيوان كالأسد وكل ذي ناب قد خرج عن
144
حد «الأنعام» فصار له نظر ما، ف بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ هي الراعي من ذوات الأربع وهذه على ما قيل إضافة الشيء إلى نفسه كدار الآخرة ومسجد الجامع، وما هي عندي إلا إضافة الشيء إلى جنسه وصرح القرآن بتحليلها.
واتفقت الآية وقول النبي عليه السلام «كل ذي ناب من السباع حرام»، ويؤيد هذا المنزع الاستثناءان بعد إذ أحدهما استثني فيه أشخاص نالتها صفات ما وتلك الصفات واقعات كثيرا في الراعي من الحيوان. والثاني استثني فيه حال للمخاطبين وهي الإحرام والحرم، والصيد لا يكون إلا من غير الثمانية الأزواج، فترتب الاستثناءان في الراعي من ذوات الأربع. والبهيمة في كلام العرب ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم ومنه باب مبهم وحائط مبهم، وليل بهيم، وبهمة، للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له.
وقوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ استثناء ما تلي في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [المائدة: ٣]. وما في موضع نصب على أصل الاستثناء وأجاز بعض الكوفيين أن تكون في موضع رفع على البدل وعلى أن تكون إِلَّا عاطفة وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك جاء الرجال إلا زيد كأنك قلت غير زيد بالرفع وقوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ نصب غَيْرَ على الحال من الكاف والميم في قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ، وقرأ ابن أبي عبلة «غير» بالرفع ووجهها الصفة للضمير في يُتْلى لأن «غير محلي الصيد» هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيدا أو يتخرج على الصفة ل بَهِيمَةُ على مراعاة معنى الكلام كما ذكرت.
قال القاضي أبو محمد: وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب «غير» وقدروا فيها تقديمات وتأخيرات وذلك كله غير مرضيّ لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء وحرم جميع حرام وهو المحرم ومنه قول الشاعر:
أي ملبّ وقرأ الحسن وإبراهيم ويحيى بن وثاب «حرم» بسكون الراء. قال أبو الحسن هذه لغة تميمية يقولون في رسل رسل وفي كتب كتب ونحوه، وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ تقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب أي فأنت أيها السامع لنسخ تلك العهود التي عهدت تنبه فإن الله الذي هو مالك الكل يحكم ما يريد لا معقب لحكمه. وهذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصر بالكلام ولمن عنده أدنى إبصار فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأمر بالوفاء بالعقود وتحليل بهيمة الأنعام واستثناء ما تلي بعد واستثناء حال الإحرام فيما يصاد وما يقتضيه معنى الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم، وحكى النقاش أن أصحاب الكندي قالوا للكندي: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن فقال نعم أعمل مثل بعضه فاحتجب أياما كثيرة ثم خرج فقال: والله ما أقدر عليه ولا يطيق هذا أحد إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد أمر بالوفاء ونهى عن النكث وحلل تحليلا عاما ثم استثنى استثناء بعد استثناء ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ولا يستطيع أن يأتي أحد بهذا إلا في أجلاد..
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ خطاب للمؤمنين حقا أن لا يتعدوا حدود الله
واتفقت الآية وقول النبي عليه السلام «كل ذي ناب من السباع حرام»، ويؤيد هذا المنزع الاستثناءان بعد إذ أحدهما استثني فيه أشخاص نالتها صفات ما وتلك الصفات واقعات كثيرا في الراعي من الحيوان. والثاني استثني فيه حال للمخاطبين وهي الإحرام والحرم، والصيد لا يكون إلا من غير الثمانية الأزواج، فترتب الاستثناءان في الراعي من ذوات الأربع. والبهيمة في كلام العرب ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم ومنه باب مبهم وحائط مبهم، وليل بهيم، وبهمة، للشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى له.
وقوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ استثناء ما تلي في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [المائدة: ٣]. وما في موضع نصب على أصل الاستثناء وأجاز بعض الكوفيين أن تكون في موضع رفع على البدل وعلى أن تكون إِلَّا عاطفة وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك جاء الرجال إلا زيد كأنك قلت غير زيد بالرفع وقوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ نصب غَيْرَ على الحال من الكاف والميم في قوله أُحِلَّتْ لَكُمْ، وقرأ ابن أبي عبلة «غير» بالرفع ووجهها الصفة للضمير في يُتْلى لأن «غير محلي الصيد» هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيدا أو يتخرج على الصفة ل بَهِيمَةُ على مراعاة معنى الكلام كما ذكرت.
قال القاضي أبو محمد: وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب «غير» وقدروا فيها تقديمات وتأخيرات وذلك كله غير مرضيّ لأن الكلام على اطراده متمكن استثناء بعد استثناء وحرم جميع حرام وهو المحرم ومنه قول الشاعر:
فقلت لها فيئي إليك فإنني | حرام وإني بعد ذاك لبيب |
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ خطاب للمؤمنين حقا أن لا يتعدوا حدود الله
145
في أمر من الأمور. والشعائر جمع شعيرة أي قد أشعر الله أنها حده وطاعته فهي بمعنى معالم الله، واختلفت عبارة المفسرين في المقصود من الشعائر الذي بسببه نزل هذا العموم في الشعائر فقال السدي شَعائِرَ اللَّهِ حرم الله، وقال ابن عباس شَعائِرَ اللَّهِ مناسك الحج. وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون وينحرون ويعظمون مشاعر الحج فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فقال الله تعالى: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وقال ابن عباس أيضا شَعائِرَ اللَّهِ ما حد تحريمه في الإحرام. وقال عطاء بن أبي رباح، شَعائِرَ اللَّهِ جميع ما أمر به أو نهى عنه، وهذا هو القول الراجح الذي تقدم. وقال ابن الكلبي كان عامة العرب لا يعدون الصفا والمروة من الشعائر وكانت قريش لا تقف بعرفات فنهوا بهذه الآية، وقوله تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي كما قال النبي عليه السلام ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وإنما أضيف إلى مضر لأنها كانت تختص بتحريمه. وتزيل فيه السلاح، وتنزع الأسنة من الرماح، وتسميه منصل الأسنة وتسميه الأصم من حيث كان لا يسمع فيه صوت سلاح، وكانت العرب مجمعة على ذي القعدة وذي الحجة والمحرم وكانت تطول عليها الحرمة وتمتنع من الغارات ثلاثة أشهر فلذلك اتخذت النسيء وهو أن يحل لها ذلك المتكلم نعيم بن ثعلبة وغيره المحرم يحرم بدله صفرا فنهى الله عن ذلك بهذه الآية وبقوله: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة: ٣٧] وجعل المحرم أول شهور السنة من حيث كان الحج والموسم غاية العام وثمرته فبذلك يكمل ثم يستأنف عام آخر ولذلك والله علم دوّن به عمر بن الخطاب الدواوين فمعنى قوله تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ أي لا تحلوه بقتال ولا غارة ولا تبديل فإن تبديله استحلال لحرمته..
قال القاضي أبو محمد: والأظهر عندي أن الشهر الحرام أريد به رجب ليشتد أمره لأنه إنما كان مختصا بقريش ثم فشا في مضر، ومما يدل على هذا قول عوف بن الأحوص:
قال أبو عبيدة أراد رجبا لأنه شهر كانت مشايخ قريش تعظمه فنسبه إلى بني أمية ذكر هذا الأخفش في المفضليات وقد قال الطبري المراد في هذه الآية رجب مضر..
قال القاضي أبو محمد: فوجه هذا التخصيص هو كما قد ذكرت أن الله تعالى شدد أمر هذا الشهر إذ كانت العرب غير مجمعة عليه، وقال عكرمة: المراد في هذه الآية ذو القعدة من حيث كان أولها، وقولنا فيها «أول» تقريب وتجوز أن الشهور دائرة فالأول إنما يترتب بحسب نازلة أو قرينة ما مختصة بقوم.
وقوله تعالى: وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ أما الهدي فلا خلاف أنه ما أهدي من النعم إلى بيت الله وقصدت به القربة فأمر الله أن لا يستحل ويغار عليه، واختلف الناس في الْقَلائِدَ فحكى الطبري عن ابن عباس أن الْقَلائِدَ هي الْهَدْيَ المقلد وأن الْهَدْيَ إنما يسمى هديا ما لم يقلد فكأنه قال ولا «الهدي» الذي يقلد والمقلد منه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الذي قال الطبري تحامل على ألفاظ ابن عباس وليس يلزم من كلام ابن عباس أن الْهَدْيَ إنما يقال لما لم يقلد وإنما يقتضي أن الله نهى عن استحلال الْهَدْيَ جملة ثم ذكر
قال القاضي أبو محمد: والأظهر عندي أن الشهر الحرام أريد به رجب ليشتد أمره لأنه إنما كان مختصا بقريش ثم فشا في مضر، ومما يدل على هذا قول عوف بن الأحوص:
وشهر بني أمية والهدايا | إذا حبست مضرجها الدماء |
قال القاضي أبو محمد: فوجه هذا التخصيص هو كما قد ذكرت أن الله تعالى شدد أمر هذا الشهر إذ كانت العرب غير مجمعة عليه، وقال عكرمة: المراد في هذه الآية ذو القعدة من حيث كان أولها، وقولنا فيها «أول» تقريب وتجوز أن الشهور دائرة فالأول إنما يترتب بحسب نازلة أو قرينة ما مختصة بقوم.
وقوله تعالى: وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ أما الهدي فلا خلاف أنه ما أهدي من النعم إلى بيت الله وقصدت به القربة فأمر الله أن لا يستحل ويغار عليه، واختلف الناس في الْقَلائِدَ فحكى الطبري عن ابن عباس أن الْقَلائِدَ هي الْهَدْيَ المقلد وأن الْهَدْيَ إنما يسمى هديا ما لم يقلد فكأنه قال ولا «الهدي» الذي يقلد والمقلد منه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الذي قال الطبري تحامل على ألفاظ ابن عباس وليس يلزم من كلام ابن عباس أن الْهَدْيَ إنما يقال لما لم يقلد وإنما يقتضي أن الله نهى عن استحلال الْهَدْيَ جملة ثم ذكر
146
المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد، وقال جمهور الناس: الْهَدْيَ عام في أنواع ما أهدي قربة والْقَلائِدَ ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم، قال قتادة: كان الرجل في الجاهلية إذا خرج يريد الحج تقلد من السمر قلادة فلم يعرض له أحد بسوء إذ كانت تلك علامة إحرامه وحجه وقال عطاء وغيره: بل كان الناس إذا خرجوا من الحرم في حوائج لهم تقلدوا من شجر الحرم ومن لحائه فيدل ذلك على أنهم من أهل الحرم أو من حجاجه فيأمنون بذلك فنهى الله تعالى عن استحلال من تحرم بشيء من هذه المعاني.
وقال مجاهد وعطاء: بل الآية نهي للمؤمنين عن أن يستحلوا أخذ القلائد من شجر الحرم كما كان أهل الجاهلية يفعلون، وقاله الربيع بن أنس عن مطرف بن الشخير وغيره، وقوله تعالى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ معناه ولا تحلوهم فتغيروا عليهم ونهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يعمدوا للكفار القاصدين الْبَيْتَ الْحَرامَ على جهة التعبد والقربة وكل ما في هذه الآية من نهي عن مشرك أو مراعاة حرمة له بقلادة أو أم البيت ونحوه فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥] وروي أن هذه الآية نزلت بسبب الحطم بن هند البكري أخي بني ضبيعة بن ثعلبة وذلك أنه قال رسول الله ﷺ يوما لأصحابه: «يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان» فجاء الحطم فخلف خيله خارجة من المدينة ودخل على رسول الله ﷺ فلما عرض رسول الله عليه السلام ودعاه إلى الله قال: أنظر ولعلي أسلم وأرى في أمرك غلظة ولي من أشاوره.
فخرج فقال النبي عليه السلام «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر»، فمر بسرح من سرح المدينة فساقه وانطلق به وهو يقول:
ثم أقبل الحطم من عام قابل حاجا وساق هديا فأراد رسول الله ﷺ أن يبعث إليه.
وخف إليه ناس من أصحاب النبي عليه السلام، فنزلت هذه الآية، قال ابن جريج: هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم، ونزلت الآية بسبب الحطم فذكر نحوه، وقال ابن زيد: نزلت الآية عام الفتح ورسول الله ﷺ بمكة، جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون، فقال المسلمون يا رسول الله، إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم، فنزل القرآن وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ.
قال القاضي أبو محمد: فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج فهو معكم، وكل ما كان منها في الكفار فهو منسوخ، وقرأ ابن مسعود وأصحابه «ولا آمي البيت» بالإضافة إلى البيت وقوله تعالى: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً قال فيه جمهور المفسرين معناه يبتغون الفضل في الأرباح في التجارة ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم، وقال قوم إنما الفضل والرضوان في الآية في معنى واحد وهو رضا الله وفضله بالرحمة والجزاء، فمن العرب من كان يعتقد جزاء بعد الموت، وأكثرهم إنما كانوا يرجون الجزاء والرضوان في الدنيا والكسب وكثرة الأولاد ويتقربون رجاء الزيادة في هذه المعاني وقرأ الأعمش «ورضوانا» بضم الراء.
وقال مجاهد وعطاء: بل الآية نهي للمؤمنين عن أن يستحلوا أخذ القلائد من شجر الحرم كما كان أهل الجاهلية يفعلون، وقاله الربيع بن أنس عن مطرف بن الشخير وغيره، وقوله تعالى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ معناه ولا تحلوهم فتغيروا عليهم ونهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن أن يعمدوا للكفار القاصدين الْبَيْتَ الْحَرامَ على جهة التعبد والقربة وكل ما في هذه الآية من نهي عن مشرك أو مراعاة حرمة له بقلادة أو أم البيت ونحوه فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: ٥] وروي أن هذه الآية نزلت بسبب الحطم بن هند البكري أخي بني ضبيعة بن ثعلبة وذلك أنه قال رسول الله ﷺ يوما لأصحابه: «يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان» فجاء الحطم فخلف خيله خارجة من المدينة ودخل على رسول الله ﷺ فلما عرض رسول الله عليه السلام ودعاه إلى الله قال: أنظر ولعلي أسلم وأرى في أمرك غلظة ولي من أشاوره.
فخرج فقال النبي عليه السلام «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقب غادر»، فمر بسرح من سرح المدينة فساقه وانطلق به وهو يقول:
قد لفها الليل بسواق حطم | ليس براعي إبل ولا غنم |
ولا بجزار على ظهر وضم | باتوا نياما وابن هند لم ينم |
بات يقاسيها غلام كالزلم | خدلج الساقين خفاق القدم |
وخف إليه ناس من أصحاب النبي عليه السلام، فنزلت هذه الآية، قال ابن جريج: هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم، ونزلت الآية بسبب الحطم فذكر نحوه، وقال ابن زيد: نزلت الآية عام الفتح ورسول الله ﷺ بمكة، جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون، فقال المسلمون يا رسول الله، إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم، فنزل القرآن وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ.
قال القاضي أبو محمد: فكل ما في هذه الآية مما يتصور في مسلم حاج فهو معكم، وكل ما كان منها في الكفار فهو منسوخ، وقرأ ابن مسعود وأصحابه «ولا آمي البيت» بالإضافة إلى البيت وقوله تعالى: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً قال فيه جمهور المفسرين معناه يبتغون الفضل في الأرباح في التجارة ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم، وقال قوم إنما الفضل والرضوان في الآية في معنى واحد وهو رضا الله وفضله بالرحمة والجزاء، فمن العرب من كان يعتقد جزاء بعد الموت، وأكثرهم إنما كانوا يرجون الجزاء والرضوان في الدنيا والكسب وكثرة الأولاد ويتقربون رجاء الزيادة في هذه المعاني وقرأ الأعمش «ورضوانا» بضم الراء.
147
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم لتنبسط النفوس ويتداخل الناس ويردون الموسم فيسمعون القرآن ويدخل الإيمان في قلوبهم وتقوم عندهم الحجة كالذي كان وهذه الآية نزلت عام الفتح ونسخ الله تعالى ذلك كله بعد عام سنة تسع إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة براءة.
قوله تعالى:
وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا...
جاءت إباحة الصيد عقب التشدد في حرم البشر حسنة في فصاحة القول، وقوله تعالى: فَاصْطادُوا صيغة أمر ومعناه الإباحة بإجماع من الناس، واختلف العلماء في صيغة أفعل إذا وردت ولم يقترن بها بيان واضح في أحد المحتملات، فقال الفقهاء: هي على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك، وقال المتكلمون هي على الوقف حتى تطلق القرينة ولن يعرى أمر من قرينة، وقال قوم هي على الإباحة حتى يدل الدليل، وقال قوم: هي على الندب حتى يدل الدليل وقول الفقهاء أحوطها وقول المتكلمين أقيسها وغير ذلك ضعيف. ولفظة أفعل قد تجيء للوجوب كقوله أَقِيمُوا الصَّلاةَ، وقد تجيء للندب كقوله:
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج: ٧٧] وقد تجيء للإباحة كقوله فَاصْطادُوا وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [العنكبوت: ١٧]، ويحتمل الابتغاء من فضل الله أن يكون ندبا، وقد تجيء للوعيد كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] وقد تجيء للتعجيز كقوله كُونُوا حِجارَةً [الإسراء: ٥٠] وقرأ أبو واقد والجراح ونبيح والحسن بن عمران «فاصطادوا» بكسر الفاء وهي قراءة مشكلة ومن توجيهها أن يكون راعى كسر ألف الوصل إذ بدأت فقلت: اصطادوا فكسر الفاء مراعاة وتذكرا لكسرة ألف الوصل، وقوله تعالى:
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ معناه ولا يكسبنكم وجرم الرجل معناه كسب ويتعدى إلى مفعولين كما يتعدى كسب، وفي الحديث: وتكسب المعدوم، قال أبو علي: وأجرم بالألف عرفه الكسب في الخطايا والذنوب، وقال الكسائي جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد أي كسب وقال قوم يَجْرِمَنَّكُمْ معناه يحق لكم كما أن لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ [النحل: ٦٢] معناه حق لهم أن لهم النار وقال ابن عباس يَجْرِمَنَّكُمْ معناه يحملنكم.
قال القاضي أبو محمد: وهذه كلها أقوال تتقارب بالمعنى فالتفسير الذي يخص اللفظة هو معنى الكسب ومنه قول الشاعر: [أبو خراش الهذلي] :
معناه كاسب قوت ناهض، ويقال فلان جريمة قومه إذا كان الكاسب لهم، وقرأ ابن مسعود وغيره
قوله تعالى:
وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا...
جاءت إباحة الصيد عقب التشدد في حرم البشر حسنة في فصاحة القول، وقوله تعالى: فَاصْطادُوا صيغة أمر ومعناه الإباحة بإجماع من الناس، واختلف العلماء في صيغة أفعل إذا وردت ولم يقترن بها بيان واضح في أحد المحتملات، فقال الفقهاء: هي على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك، وقال المتكلمون هي على الوقف حتى تطلق القرينة ولن يعرى أمر من قرينة، وقال قوم هي على الإباحة حتى يدل الدليل، وقال قوم: هي على الندب حتى يدل الدليل وقول الفقهاء أحوطها وقول المتكلمين أقيسها وغير ذلك ضعيف. ولفظة أفعل قد تجيء للوجوب كقوله أَقِيمُوا الصَّلاةَ، وقد تجيء للندب كقوله:
وَافْعَلُوا الْخَيْرَ [الحج: ٧٧] وقد تجيء للإباحة كقوله فَاصْطادُوا وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [العنكبوت: ١٧]، ويحتمل الابتغاء من فضل الله أن يكون ندبا، وقد تجيء للوعيد كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] وقد تجيء للتعجيز كقوله كُونُوا حِجارَةً [الإسراء: ٥٠] وقرأ أبو واقد والجراح ونبيح والحسن بن عمران «فاصطادوا» بكسر الفاء وهي قراءة مشكلة ومن توجيهها أن يكون راعى كسر ألف الوصل إذ بدأت فقلت: اصطادوا فكسر الفاء مراعاة وتذكرا لكسرة ألف الوصل، وقوله تعالى:
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ معناه ولا يكسبنكم وجرم الرجل معناه كسب ويتعدى إلى مفعولين كما يتعدى كسب، وفي الحديث: وتكسب المعدوم، قال أبو علي: وأجرم بالألف عرفه الكسب في الخطايا والذنوب، وقال الكسائي جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد أي كسب وقال قوم يَجْرِمَنَّكُمْ معناه يحق لكم كما أن لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ [النحل: ٦٢] معناه حق لهم أن لهم النار وقال ابن عباس يَجْرِمَنَّكُمْ معناه يحملنكم.
قال القاضي أبو محمد: وهذه كلها أقوال تتقارب بالمعنى فالتفسير الذي يخص اللفظة هو معنى الكسب ومنه قول الشاعر: [أبو خراش الهذلي] :
جريمة ناهض في رأس نيق | ترى لعظام ما جمعت صليبا |
148
«يجرمنكم» بضم الياء والمعنى أيضا لا يكسبنكم وأما قول الشاعر:
فمعناه كسبت فزارة بعدها الغضب وقد فسر بغير هذا مما هو قريب منه وقوله تعالى: شَنَآنُ قَوْمٍ قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي «شنآن» متحركة النون، وقرأ ابن عامر «شنآن» ساكنة النون، واختلف عن عاصم ونافع، يقال شنئت الرجل شنأ بفتح الشين وشنآنا بفتح النون وشنآنا بسكون النون والفتح أكثر كل ذلك إذا أبغضته، قال سيبويه: كل ما كان من المصادر على فعلان بفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن وإنما عدي شنئت من حيث كان أبغضت كما عدي الرفث ب «إلى» من حيث كان بمعنى الإفضاء.
قال القاضي أبو محمد: فأما من قرأ «شنآن» بفتح النون فالأظهر فيه أنه مصدر كأنه قال لا يكسبنكم بغض قوم من أجل أن صدوكم عدوانا عليهم وظلما لهم والمصادر على هذا الوزن كثيرة كالنزوان والغليان والطوفان والجريان وغيره، ويحتمل «الشنان» بفتح النون أن يكون وصفا فيجيء المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدوانا ومما جاء على هذا الوزن صفة قولهم: حمار قطوان إذا لم يكن سهل السير وقولهم عدو وصمان أي ثقيل كعدو الشيخ ونحوه إلى غير هذا مما ليس في الكثرة كالمصادر ومنه ما أنشده أبو زيد:
بفتح الباء وأما من قرأ «شنآن» بسكون النون فيحتمل أن يكون مصدرا وقد جاء المصدر على هذا الوزن في قولهم لويته دينه ليانا، وقول الأحوص:
وإن لام فيه ذو الشنان وفندا إنما هو تخفيف من «شنآن» الذي هو مصدر بسكون النون لأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الساكن هذا هو التخفيف القياسي، قال أبو علي: من زعم أن فعلان إذا أسكنت علينه لم يك مصدرا فقد أخطأ، وتحتمل القراءة بسكون النون أن يكون وصفا فقد حكي: رجل شنآن وامرأة شنآنة وقياس هذا أنه من فعل غير متعد وقد يشتق من لفظ واحد فعل متعد وفعل واقف فيكون المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدوانا وإذا قدرت اللفظة مصدرا فهو مصدر مضاف إلى المفعول، ومما جاء وصفا على فعلان ما حكاه سيبويه من قولهم خمصان ومن ذلك قولهم ندمان.
قال القاضي أبو محمد: ومنه رحمان وهذه الآية نزلت عام الفتح حين أراد المؤمنون أن يستطيلوا على قريش وألفافها من القبائل المتظاهرين على صد رسول الله ﷺ وأصحابه عام الحديبية وذلك سنة ست من الهجرة فحصلت بذلك بغضة في قلوب المؤمنين وحسيكة للكفار فقيل للمؤمنين عام الفتح وهو سنة ثمان لا يحملنكم ذلك البغض أو أولئك البغضاء من أجل أن صدوكم على أن تعتدوا عليهم إذ لله فيهم إرادة خير وفي علمه أن منهم من يؤمن كالذي كان، وحكى المهدوي عن قوم أنها نزلت عام الحديبية لأنه لما صد المسلمون عن البيت مر بهم قوم من أهل نجد يريدون البيت فقالوا نصد هؤلاء كما
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة | جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا |
قال القاضي أبو محمد: فأما من قرأ «شنآن» بفتح النون فالأظهر فيه أنه مصدر كأنه قال لا يكسبنكم بغض قوم من أجل أن صدوكم عدوانا عليهم وظلما لهم والمصادر على هذا الوزن كثيرة كالنزوان والغليان والطوفان والجريان وغيره، ويحتمل «الشنان» بفتح النون أن يكون وصفا فيجيء المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدوانا ومما جاء على هذا الوزن صفة قولهم: حمار قطوان إذا لم يكن سهل السير وقولهم عدو وصمان أي ثقيل كعدو الشيخ ونحوه إلى غير هذا مما ليس في الكثرة كالمصادر ومنه ما أنشده أبو زيد:
وقبلك ما هاب الرجال ظلامتي | وفقأت عين الأشوس الأبيان |
وإن لام فيه ذو الشنان وفندا إنما هو تخفيف من «شنآن» الذي هو مصدر بسكون النون لأنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الساكن هذا هو التخفيف القياسي، قال أبو علي: من زعم أن فعلان إذا أسكنت علينه لم يك مصدرا فقد أخطأ، وتحتمل القراءة بسكون النون أن يكون وصفا فقد حكي: رجل شنآن وامرأة شنآنة وقياس هذا أنه من فعل غير متعد وقد يشتق من لفظ واحد فعل متعد وفعل واقف فيكون المعنى ولا يكسبنكم بغض قوم أو بغضاء قوم عدوانا وإذا قدرت اللفظة مصدرا فهو مصدر مضاف إلى المفعول، ومما جاء وصفا على فعلان ما حكاه سيبويه من قولهم خمصان ومن ذلك قولهم ندمان.
قال القاضي أبو محمد: ومنه رحمان وهذه الآية نزلت عام الفتح حين أراد المؤمنون أن يستطيلوا على قريش وألفافها من القبائل المتظاهرين على صد رسول الله ﷺ وأصحابه عام الحديبية وذلك سنة ست من الهجرة فحصلت بذلك بغضة في قلوب المؤمنين وحسيكة للكفار فقيل للمؤمنين عام الفتح وهو سنة ثمان لا يحملنكم ذلك البغض أو أولئك البغضاء من أجل أن صدوكم على أن تعتدوا عليهم إذ لله فيهم إرادة خير وفي علمه أن منهم من يؤمن كالذي كان، وحكى المهدوي عن قوم أنها نزلت عام الحديبية لأنه لما صد المسلمون عن البيت مر بهم قوم من أهل نجد يريدون البيت فقالوا نصد هؤلاء كما
149
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ
ﰂ
ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ
ﰃ
صددنا فنزلت الآية، وقرأ أبو عمرو وابن كثير «إن صدوكم» بكسر الهمزة وقرأ الباقون «أن صدوكم» بفتح الهمزة إشارة إلى الصد الذي وقع وهذه قراءة الجمهور وهي أمكن في المعنى وكسر الهمزة معناه إن وقع مثل ذلك في المستقبل. وقرأ ابن مسعود «أن يصدوكم» وهذه تؤيد قراءة أبي عمرو وابن كثير.
ثم أمر الله تعالى الجميع بالتعاون عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى قال قوم: هما لفظان بمعنى وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا ومبالغة إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا تسامح ما والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه والتقوى رعاية الواجب فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز ثم نهى تعالى عن التعاون على الإثم وهو الحكم اللاحق عن الجرائم وعن العدوان وهو ظلم الناس، ثم أمر بالتقوى وتوعد توعدا مجملا بشدة العقاب وروي أن هذه الآية نزلت نهيا عن الطلب بذحول الجاهلية إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك، قاله مجاهد. وقد قتل بذلك حليف لأبي سفيان من هذيل..
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣ الى ٤]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)
وقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الآية تعديد لما يتلى على الأمة مما استثني من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ [المائدة: ١] والْمَيْتَةُ كل حيوان له نفس سائلة خرجت نفسه من جسده على غير طريق الذكاة المشروع سوى الحوت والجراد على أن الجراد قد رأى كثير من العلماء أنه لا بد من فعل فيها يجري مجرى الذكاة، وقرأ جمهور الناس «الميتة» بسكون الياء، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الميّتة» بالتشديد في الياء قال الزجاج:
هما بمعنى واحد، وقال قوم من أهل اللسان: الميت بسكون الياء ما قد مات بعد والميّت يقال لما قد مات ولما لم يمت وهو حي بعد ولا يقال له ميت بالتخفيف ورد الزجاج هذا القول واستشهد على رده بقول الشاعر:
قال القاضي أبو محمد: والبيت يحتمل أن يتأول شاهدا عليه لا له وقد تأول قوم استراح في هذا البيت بمعنى اكتسب رائحة إذ قائله جاهلي لا يرى في الموت راحة وقوله تعالى: وَالدَّمُ معناه المسفوح لأنه بهذا تقيد الدم في غير هذه الآية فيرد المطلق إلى المقيد وأجمعت الأمة على تحليل الدم المخالط للحم وعلى تحليل الطحال ونحوه وكانت الجاهلية تستبيح الدم ومنه قولهم لم يحرم من فصد له والعلهز دم ووبر يأكلونه في الأزمات وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ مقتض لشحمه بإجماع، واختلف في استعمال شعره وجلده بعد الدباغ فأجيز ومنع وكل شيء من الخنزير حرام بإجماع جلدا كان أو عظما، وقوله تعالى: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ يعني ما ذبح لغير الله تعالى وقصد به صنم أو بشر من الناس كما كانت العرب تفعل وكذلك النصارى وعادة الذابح أن يسمي مقصوده ويصيح به فذلك إهلاله ومنه استهلال المولود إذا صاح عند الولادة، ومنه إهلال الهلال أي الصياح بأمره عند رؤيته ومن الإهلال قول ابن أحمر:
وقوله تعالى: وَالْمُنْخَنِقَةُ معناه التي تموت خنقا وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو اتفق لها ذلك في حجر أو شجرة أو بحبل أو نحوه وهذا إجماع، وقد ذكر قتادة أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة
ثم أمر الله تعالى الجميع بالتعاون عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى قال قوم: هما لفظان بمعنى وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا ومبالغة إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا تسامح ما والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه والتقوى رعاية الواجب فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز ثم نهى تعالى عن التعاون على الإثم وهو الحكم اللاحق عن الجرائم وعن العدوان وهو ظلم الناس، ثم أمر بالتقوى وتوعد توعدا مجملا بشدة العقاب وروي أن هذه الآية نزلت نهيا عن الطلب بذحول الجاهلية إذ أراد قوم من المؤمنين ذلك، قاله مجاهد. وقد قتل بذلك حليف لأبي سفيان من هذيل..
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣ الى ٤]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣) يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤)
وقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الآية تعديد لما يتلى على الأمة مما استثني من بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ [المائدة: ١] والْمَيْتَةُ كل حيوان له نفس سائلة خرجت نفسه من جسده على غير طريق الذكاة المشروع سوى الحوت والجراد على أن الجراد قد رأى كثير من العلماء أنه لا بد من فعل فيها يجري مجرى الذكاة، وقرأ جمهور الناس «الميتة» بسكون الياء، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الميّتة» بالتشديد في الياء قال الزجاج:
هما بمعنى واحد، وقال قوم من أهل اللسان: الميت بسكون الياء ما قد مات بعد والميّت يقال لما قد مات ولما لم يمت وهو حي بعد ولا يقال له ميت بالتخفيف ورد الزجاج هذا القول واستشهد على رده بقول الشاعر:
ليس من مات فاستراح بميت | إنما الميت ميت الأحياء |
يهل بالفرقد ركبانها | كما يهل الراكب المعتمر |
150
وغيرها فإذا ماتت أكلوها وذكر نحوه ابن عباس وَالْمَوْقُوذَةُ التي ترمى أو تضرب بعصا أو بحجر أو نحوه وكأنها التي تحذف به وقال الفرزدق:
وقال ابن عباس الْمَوْقُوذَةُ التي تضرب بالخشب حتى يوقذها فتموت وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونها.
قال القاضي أبو محمد: ومن اللفظة قول معاوية، وأما ابن عمر فرجل قد وقذه الورع وكفى أمره ونزوته، وقال الضحاك: كانوا يضربون «الأنعام» بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلونها وقال أبو عبد الله الصنابحي ليس الْمَوْقُوذَةُ إلا في مالك وليس في الصيد وقيذ.
قال القاضي أبو محمد: وعند مالك وغيره من الفقهاء في الصيد ما حكمه حكم الوقيذ وهو نص في قول النبي صلى الله عليه وسلم، في المعراض «وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ»، وَالْمُتَرَدِّيَةُ هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه، هي متفعلة من الردى وهو الهلاك وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن العرب تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحو ذلك دون سبب يعرف فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة، فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة وبقيت هذه كلها ميتة، وَالنَّطِيحَةُ فعيلة بمعنى مفعولة وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت وتأول قوم النَّطِيحَةُ بمعنى الناطحة لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان، وقال قوم: لو ذكر الشاة لقيل: والشاة النطيح كما يقال كف خضيب ولحية دهين، فلما لم تذكر ألحقت الهاء لئلا يشكل الأمر أمذكرا يريد أم مؤنثا، قال ابن عباس والسدي وقتادة والضحاك: النطيحة الشاة تناطح الشاة فتموتان أو الشاة تنطحها البقر والغنم..
قال القاضي أبو محمد: وكل ما مات ضغطا فهو نطيح، وقرأ أبو ميسرة «والمنطوحة»، وقوله: وَما أَكَلَ السَّبُعُ يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوه هذه كلها سباع. ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد. وكان العرب إذا أخذ السبع شاة فقتلها ثم خلصت منه أكلوها وكذلك إن أكل بعضها، قاله قتادة وغيره.
وقرأ الحسن والفياض وطلحة بن سليطان وأبو حيوة وما «أكل السبع» بسكون الباء وهي لغة أهل نجد وقرأ بذلك عاصم في رواية أبي بكر عنه. وقرأ عبد الله بن مسعود «وأكيلة السبع» وقرأ عبد الله بن عباس «وأكيل السبع»، واختلف العلماء في قوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ فقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعلي بن أبي طالب وقتادة وإبراهيم النخعي وطاوس وعبيد بن عمير والضحاك وابن زيد وجمهور العلماء الاستثناء هو من هذه المذكورات فما أدرك منها يطرق بعين أو يمصع برجل أو يحرك ذنبا وبالجملة ما يتحقق أنه لم تفض نفسه بل له حياة فإنه يذكى على سنة الذكاة ويؤكل، وما فاضت نفسه فهو في حكم الميتة بالوجع ونحوه على ما كانت الجاهلية تعتقده، وقال مالك رحمه الله مرة بهذا القول، وقال أيضا وهو المشهور عنه وعن أصحابه من أهل المدينة ان قوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ معناه من هذه المذكورات في وقت تصح فيه ذكاتها وهو ما لم تنفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش ومتى صارت في هذا الحد فهي في حكم الميتة.
شغارة تغذ الفصيل برجلها | فطارة لقوادم الأبكار |
قال القاضي أبو محمد: ومن اللفظة قول معاوية، وأما ابن عمر فرجل قد وقذه الورع وكفى أمره ونزوته، وقال الضحاك: كانوا يضربون «الأنعام» بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلونها وقال أبو عبد الله الصنابحي ليس الْمَوْقُوذَةُ إلا في مالك وليس في الصيد وقيذ.
قال القاضي أبو محمد: وعند مالك وغيره من الفقهاء في الصيد ما حكمه حكم الوقيذ وهو نص في قول النبي صلى الله عليه وسلم، في المعراض «وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ»، وَالْمُتَرَدِّيَةُ هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه، هي متفعلة من الردى وهو الهلاك وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن العرب تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحو ذلك دون سبب يعرف فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة، فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة وبقيت هذه كلها ميتة، وَالنَّطِيحَةُ فعيلة بمعنى مفعولة وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت وتأول قوم النَّطِيحَةُ بمعنى الناطحة لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان، وقال قوم: لو ذكر الشاة لقيل: والشاة النطيح كما يقال كف خضيب ولحية دهين، فلما لم تذكر ألحقت الهاء لئلا يشكل الأمر أمذكرا يريد أم مؤنثا، قال ابن عباس والسدي وقتادة والضحاك: النطيحة الشاة تناطح الشاة فتموتان أو الشاة تنطحها البقر والغنم..
قال القاضي أبو محمد: وكل ما مات ضغطا فهو نطيح، وقرأ أبو ميسرة «والمنطوحة»، وقوله: وَما أَكَلَ السَّبُعُ يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوه هذه كلها سباع. ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد. وكان العرب إذا أخذ السبع شاة فقتلها ثم خلصت منه أكلوها وكذلك إن أكل بعضها، قاله قتادة وغيره.
وقرأ الحسن والفياض وطلحة بن سليطان وأبو حيوة وما «أكل السبع» بسكون الباء وهي لغة أهل نجد وقرأ بذلك عاصم في رواية أبي بكر عنه. وقرأ عبد الله بن مسعود «وأكيلة السبع» وقرأ عبد الله بن عباس «وأكيل السبع»، واختلف العلماء في قوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ فقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعلي بن أبي طالب وقتادة وإبراهيم النخعي وطاوس وعبيد بن عمير والضحاك وابن زيد وجمهور العلماء الاستثناء هو من هذه المذكورات فما أدرك منها يطرق بعين أو يمصع برجل أو يحرك ذنبا وبالجملة ما يتحقق أنه لم تفض نفسه بل له حياة فإنه يذكى على سنة الذكاة ويؤكل، وما فاضت نفسه فهو في حكم الميتة بالوجع ونحوه على ما كانت الجاهلية تعتقده، وقال مالك رحمه الله مرة بهذا القول، وقال أيضا وهو المشهور عنه وعن أصحابه من أهل المدينة ان قوله تعالى: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ معناه من هذه المذكورات في وقت تصح فيه ذكاتها وهو ما لم تنفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش ومتى صارت في هذا الحد فهي في حكم الميتة.
151
قال القاضي أبو محمد: فقال بعض المفسرين إن الاستثناء في قول الجمهور متصل وفي قول مالك منقطع لأن المعنى عنده «لكن ما ذكيتم» مما تجوز تذكيته فكلوه حتى قال بعضهم إن المعنى إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ من غير هذه فكلوه، وفي هذا عندي نظر، بل الاستثناء على قول مالك متصل لكنه يخالف في الحال التي تصح ذكاة هذه المذكورات، وقال الطبري: إن الاستثناء عند مالك من التحريم لا من المحرمات.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذه العبارة تجوز كثير وحينئذ يلتئم المعنى، والذكاة في كلام العرب الذبح، قاله ثعلب، قال ابن سيده: والعرب تقول ذكاة الجنين ذكاة أمه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما هو حديث، وذكى الحيوان ذبحه، ومنه قول الشاعر:
يذكيها الأسل
ومما احتج به المالكيون لقول مالك، إن ما تيقن أنه يموت من هذه الحوادث فهو في حكم الميتة أنه لو لم تحرم هذه التي قد تيقن موتها إلا بأن تموت لكان ذكر الميتة أولا يغني عنها فمن حجة المخالف ان قال إنما ذكرت بسبب أن العرب كانت تعتقد أن هذه الحوادث كالذكاة فلو لم يذكر لها غير الميتة لظنت أنها ميتة الوجع حسب ما كانت هي عليه.
قوله تعالى:
وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ...
قوله: وَما ذُبِحَ عطف على المحرمات المذكورات، والنُّصُبِ جمع واحده نصاب، وقيل هو اسم مفرد وجمعه أنصاب وهي حجارة تنصب كل منها حول الكعبة ثلاثمائة وستون، وكان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها لآلهتهم ولها أيضا وتلطخ بالدماء وتوضع عليه اللحوم قطعا قطعا ليأكل الناس، قال مجاهد وقتادة وغيرهما: النُّصُبِ حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها. وقال ابن عباس:
ويهلون عليها، قال ابن جريج: النُّصُبِ ليس بأصنام الصنم يصور وينقش، وهذه حجارة تنصب.
قال القاضي أبو محمد: وقد كانت للعرب في بلادها أنصاب حجارة يعبدونها ويحكون فيها أنصاب مكة، ومنها الحجر المسمى بسعد وغيره، قال ابن جريج: كانت العرب تذبح بمكة وينضحون بالدم ما أقبل من البيت ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة.. فلما جاء الإسلام قال المسلمون لرسول الله ﷺ نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال، فكأن رسول الله ﷺ لم يكره ذلك فأنزل الله تعالى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها [الحج: ٣٧] ونزلت وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذه العبارة تجوز كثير وحينئذ يلتئم المعنى، والذكاة في كلام العرب الذبح، قاله ثعلب، قال ابن سيده: والعرب تقول ذكاة الجنين ذكاة أمه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا إنما هو حديث، وذكى الحيوان ذبحه، ومنه قول الشاعر:
يذكيها الأسل
ومما احتج به المالكيون لقول مالك، إن ما تيقن أنه يموت من هذه الحوادث فهو في حكم الميتة أنه لو لم تحرم هذه التي قد تيقن موتها إلا بأن تموت لكان ذكر الميتة أولا يغني عنها فمن حجة المخالف ان قال إنما ذكرت بسبب أن العرب كانت تعتقد أن هذه الحوادث كالذكاة فلو لم يذكر لها غير الميتة لظنت أنها ميتة الوجع حسب ما كانت هي عليه.
قوله تعالى:
وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ...
قوله: وَما ذُبِحَ عطف على المحرمات المذكورات، والنُّصُبِ جمع واحده نصاب، وقيل هو اسم مفرد وجمعه أنصاب وهي حجارة تنصب كل منها حول الكعبة ثلاثمائة وستون، وكان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها لآلهتهم ولها أيضا وتلطخ بالدماء وتوضع عليه اللحوم قطعا قطعا ليأكل الناس، قال مجاهد وقتادة وغيرهما: النُّصُبِ حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها. وقال ابن عباس:
ويهلون عليها، قال ابن جريج: النُّصُبِ ليس بأصنام الصنم يصور وينقش، وهذه حجارة تنصب.
قال القاضي أبو محمد: وقد كانت للعرب في بلادها أنصاب حجارة يعبدونها ويحكون فيها أنصاب مكة، ومنها الحجر المسمى بسعد وغيره، قال ابن جريج: كانت العرب تذبح بمكة وينضحون بالدم ما أقبل من البيت ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة.. فلما جاء الإسلام قال المسلمون لرسول الله ﷺ نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال، فكأن رسول الله ﷺ لم يكره ذلك فأنزل الله تعالى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها [الحج: ٣٧] ونزلت وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.
152
قال القاضي أبو محمد: المعنى والنية فيها تعظيم النصب، قال مجاهد: وكان أهل مكة يبدلون ما شاؤوا من تلك الحجارة إذا وجدوا أعجب إليهم منها، قال ابن زيد: ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وما أهل به لغير الله شيء واحد.
قال رضي الله عنه: ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ جزء مما أهل به لغير الله لكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له. وقد يقال للصنم أيضا نصب ونصب لأنه ينصب وروي أن الحسن بن أبي الحسن قرأ «وما ذبح على النّصب» بفتح النون وسكون الصاد، وقال على الصنم، وقرأ طلحة ابن مصرف «على النّصب» بضم النون وسكون الصاد، وقرأ عيسى بن عمر «على النّصب» بفتح النون والصاد وروي عنه أنه قرأ بضم النون والصاد كقراءة الجمهور، وقوله تعالى: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ حرم به تعالى طلب القسم وهو النصيب أو القسم بفتح القاف وهو المصدر بِالْأَزْلامِ وهي سهام واحدها زلم بضم الزاي وبفتحها وأزلام العرب ثلاثة أنواع، منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه على أحدها افعل والآخر لا تفعل والثالث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج أحدها وائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له، وإن خرج القدح الذي لا شيء فيه أعاد الضرب، وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبع النبي ﷺ وأبا بكر وقت الهجرة، والنوع الثاني سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة فيها أحكام العرب وما يدور بين الناس من النوازل، في أحدها العقل في أمور الديات، وفي آخر منكم وفي آخر من غيركم وفي آخر ملصق وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك وهي التي ضرب بها على بني عبد المطلب إذ كان نذر هو نحر أحدهم إذا أكملوا عشرة وهو الحديث الطويل الذي في سيرة ابن إسحاق، وهذه السبعة أيضا متخذة عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل. والنوع الثالث هو قداح الميسر وهي عشرة سبعة منها فيها خطوط لها بعددها حظوظ، وثلاثة أغفال وكانوا يضربون بها مقامرة ففيها لهو للبطالين ولعب، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وكلب البرد وتعذر التحرف، وكان من العرب من يستقسم بها لنفسه طلب الكسب والمغامرة وقد شرحت أمرها بأوعب من هذا في سورة البقرة في تفسير الميسر، فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب وهو من أكل المال بالباطل وهو حرام، وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو بشطرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما هو في معنى «الأزلام» حرام كله وقوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ إشارة إلى الاستقسام بِالْأَزْلامِ، والفسق الخروج من مكان محتو جامع يقال فسقت الرطبة خرجت من قشرها والفأرة من جحرها واستعملت اللفظة في الشرع فيمن يخرج من احتواء الأمر الشرعي وجمعه وإحاطته.
وقوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ معناه عند ابن عباس من أن ترجعوا إلى دينهم وقاله السدي وعطاء، وظاهر أمر النبي ﷺ وأصحابه وظهور دينه يقتضي أن يأس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه لأن هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون وظنها هزيمة ألا بطل السحر اليوم، إلى غير هذا من الأمثلة، وهذه الآية نزلت في إثر
قال رضي الله عنه: ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ جزء مما أهل به لغير الله لكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له. وقد يقال للصنم أيضا نصب ونصب لأنه ينصب وروي أن الحسن بن أبي الحسن قرأ «وما ذبح على النّصب» بفتح النون وسكون الصاد، وقال على الصنم، وقرأ طلحة ابن مصرف «على النّصب» بضم النون وسكون الصاد، وقرأ عيسى بن عمر «على النّصب» بفتح النون والصاد وروي عنه أنه قرأ بضم النون والصاد كقراءة الجمهور، وقوله تعالى: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ حرم به تعالى طلب القسم وهو النصيب أو القسم بفتح القاف وهو المصدر بِالْأَزْلامِ وهي سهام واحدها زلم بضم الزاي وبفتحها وأزلام العرب ثلاثة أنواع، منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه على أحدها افعل والآخر لا تفعل والثالث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج أحدها وائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له، وإن خرج القدح الذي لا شيء فيه أعاد الضرب، وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبع النبي ﷺ وأبا بكر وقت الهجرة، والنوع الثاني سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة فيها أحكام العرب وما يدور بين الناس من النوازل، في أحدها العقل في أمور الديات، وفي آخر منكم وفي آخر من غيركم وفي آخر ملصق وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك وهي التي ضرب بها على بني عبد المطلب إذ كان نذر هو نحر أحدهم إذا أكملوا عشرة وهو الحديث الطويل الذي في سيرة ابن إسحاق، وهذه السبعة أيضا متخذة عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل. والنوع الثالث هو قداح الميسر وهي عشرة سبعة منها فيها خطوط لها بعددها حظوظ، وثلاثة أغفال وكانوا يضربون بها مقامرة ففيها لهو للبطالين ولعب، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وكلب البرد وتعذر التحرف، وكان من العرب من يستقسم بها لنفسه طلب الكسب والمغامرة وقد شرحت أمرها بأوعب من هذا في سورة البقرة في تفسير الميسر، فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب وهو من أكل المال بالباطل وهو حرام، وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو بشطرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما هو في معنى «الأزلام» حرام كله وقوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ إشارة إلى الاستقسام بِالْأَزْلامِ، والفسق الخروج من مكان محتو جامع يقال فسقت الرطبة خرجت من قشرها والفأرة من جحرها واستعملت اللفظة في الشرع فيمن يخرج من احتواء الأمر الشرعي وجمعه وإحاطته.
وقوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ معناه عند ابن عباس من أن ترجعوا إلى دينهم وقاله السدي وعطاء، وظاهر أمر النبي ﷺ وأصحابه وظهور دينه يقتضي أن يأس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه لأن هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون وظنها هزيمة ألا بطل السحر اليوم، إلى غير هذا من الأمثلة، وهذه الآية نزلت في إثر
153
حجة الوداع وقيل في يوم عرفة يوم الجمعة، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يكن المشركون حينئذ إلا في حيز القلة ولم يحضر منهم الموسم بشر، وفي ذلك اليوم أمحى أمر الشرك من مشاعر الحج، ويحتمل قوله تعالى: الْيَوْمَ أن يكون إشارة إلى اليوم بعينه لا سيما في قول الجمهور عمر بن الخطاب وغيره، إنها نزلت في عشية عرفة يوم الجمعة ورسول الله ﷺ في الموقف على ناقته وليس في الموسم مشرك. ويحتمل أن يكون إشارة إلى الزمن والوقت أي في هذا الأوان يَئِسَ الكفار من دينكم وقوله تعالى: الَّذِينَ كَفَرُوا يعم مشركي العرب وغيرهم من الروم والفرس وغير ذلك وهذا يقوي أن اليأس من انحلال أمر الإسلام وذهاب شوكته ويقوي أن الإشارة باليوم إنما هي إلى الأوان الذي فاتحته يوم عرفة ولا مشرك بالموسم ويعضد هذا قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ فإنما نهى المؤمنين عن خشية جميع أنواع الكفار وأمر بخشيته تعالى التي هي رأس كل عبادة كما قال ﷺ ومفتاح كل خير، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ «ييس» بغير همزة وهي قراءة أبي جعفر.
وقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ تحتمل الإشارة ب الْيَوْمَ ما قد ذكرناه، وهذا الإكمال عند الجمهور هو الإظهار واستيعاب عظم الفرائض والتحليل والتحريم. قالوا، وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير ونزلت آية الربا ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك، وإنما كمل عظم الدين وأمر الحج أن حجوا وليس معهم مشرك. وقال ابن عباس والسدي هو إكمال تام ولم ينزل على النبي ﷺ بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض، وحكى الطبري عن بعض من قال هذا القول أن رسول الله ﷺ لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: والظاهر أنه عاش عليه السلام أكثر بأيام يسيرة. وروي أن هذه الآية لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله ﷺ بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له رسول الله ﷺ ما يبكيك؟ فقال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص فقال له النبي ﷺ صدقت، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له يهودي: آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، فقال له عمر أية آية هي فقال له: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فقال له عمر قد علمنا ذلك اليوم نزلت على رسول الله وهو واقف بعرفة يوم الجمعة.
قال القاضي أبو محمد: ففي ذلك اليوم عيدان لأهل الإسلام إلى يوم القيامة، وقال داود بن أبي هند للشعبي إن اليهود تقول كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي كمل الله لها دينها فيه فقال الشعبي أو ما حفظته قال داود: فقلت أي يوم هو قال يوم عرفة، وقال عيسى بن جارية الأنصاري كنا جلوسا في الديوان فقال لنا نصراني مثل ما قال اليهودي لعمر بن الخطاب فما أجابه منا أحد فلقيت محمد بن كعب القرظي فأخبرته فقال هلا أجبتموه، قال عمر بن الخطاب أنزلت على النبي ﷺ وهو واقف على الجبل يوم عرفة.
قال القاضي أبو محمد: وذكر عكرمة عن عمر بن الخطاب أنه قال: نزلت سورة المائدة بالمدينة يوم
وقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ تحتمل الإشارة ب الْيَوْمَ ما قد ذكرناه، وهذا الإكمال عند الجمهور هو الإظهار واستيعاب عظم الفرائض والتحليل والتحريم. قالوا، وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير ونزلت آية الربا ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك، وإنما كمل عظم الدين وأمر الحج أن حجوا وليس معهم مشرك. وقال ابن عباس والسدي هو إكمال تام ولم ينزل على النبي ﷺ بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض، وحكى الطبري عن بعض من قال هذا القول أن رسول الله ﷺ لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: والظاهر أنه عاش عليه السلام أكثر بأيام يسيرة. وروي أن هذه الآية لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله ﷺ بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له رسول الله ﷺ ما يبكيك؟ فقال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص فقال له النبي ﷺ صدقت، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له يهودي: آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، فقال له عمر أية آية هي فقال له: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فقال له عمر قد علمنا ذلك اليوم نزلت على رسول الله وهو واقف بعرفة يوم الجمعة.
قال القاضي أبو محمد: ففي ذلك اليوم عيدان لأهل الإسلام إلى يوم القيامة، وقال داود بن أبي هند للشعبي إن اليهود تقول كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي كمل الله لها دينها فيه فقال الشعبي أو ما حفظته قال داود: فقلت أي يوم هو قال يوم عرفة، وقال عيسى بن جارية الأنصاري كنا جلوسا في الديوان فقال لنا نصراني مثل ما قال اليهودي لعمر بن الخطاب فما أجابه منا أحد فلقيت محمد بن كعب القرظي فأخبرته فقال هلا أجبتموه، قال عمر بن الخطاب أنزلت على النبي ﷺ وهو واقف على الجبل يوم عرفة.
قال القاضي أبو محمد: وذكر عكرمة عن عمر بن الخطاب أنه قال: نزلت سورة المائدة بالمدينة يوم
154
الاثنين، وقال الربيع بن أنس نزلت سورة المائدة في مسير رسول الله ﷺ إلى حجة الوداع، وهذا كله يقتضي أن السورة مدنية بعد الهجرة وإتمام النعمة هو في ظهور الإسلام ونور العقائد وإكمال الدين وسعة الأحوال وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة والخلود في رحمة الله هذه كلها نعم الله المتممة قبلنا، وقوله تعالى: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً يحتمل الرضا في هذا الموضع أن يكون بمعنى الإرادة ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار الله إياه لأن الرضى من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال والله تعالى قد أراد لنا الإسلام ورضيه لنا وثم أشياء يريد الله تعالى وقوعها ولا يرضاها، والإسلام في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: ١٩] وهو الذي تفسر في سؤال جبريل النبي ﷺ وهو الإيمان والأعمال والشعب.
وقوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر تلك المحرمات، وسئل رسول الله ﷺ متى تحل الميتة؟ فقال إذا لم يصطبحوا ولم يغتبقوا ولم تحتفئوا بها بقلا.
قال القاضي أبو محمد: فهذا مثال في حال عدم المأكول حتى يؤدي ذلك إلى ذهاب القوى والحياة وقرأ ابن محيصن «فمن اطر» بإدغام الضاد في الطاء وليس بالقياس ولكن العرب استعملته في ألفاظ قليلة استعمالا كثيرا وقد تقدم القول في أحكام الاضطرار في نظير هذه الآية في سورة البقرة، و «المخمصة» المجاعة التي تخمص فيها البطون أي تضمر والخمص ضمور البطن فالخلقة منه حسنة في النساء ومنه يقال خمصانة وبطن خميص ومنه أخمص القدم، ويستعمل ذلك كثيرا في الجوع والغرث، ومنه قول الأعشى:
أي منطويات على الجوع قد أضمر بطونهن، وقوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ هو بمعنى غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [البقرة: ١٧٣] وقد تقدم تفسيره وفقهه في سورة البقرة والجنف الميل، وقرأ أبو عبد الرحمن ويحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «غير متجنف»، دون ألف وهي أبلغ في المعنى من مُتَجانِفٍ، لأن شد العين يقتضي مبالغة وتوغلا في المعنى وثبوتا لحكمه، وتفاعل إنما هي محاكاة الشيء والتقرب منه. ألا ترى إذا قلت تمايل الغصن فإن ذلك يقتضي تأودا، ومقاربة ميل، وإذا قلت تميل فقد ثبت حكم الميل، وكذلك تصاون وتصون وتغافل وتغفل وقوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ نائب مناب فلا حرج عليه إلى ما يتضمن من زيادة الوعد وترجية النفوس وفي الكلام محذوف يدل عليه المذكور تقديره فأكل من هذه المحرمات المذكورات.
وسبب نزول قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ أن جبريل جاء إلى رسول الله ﷺ فوجد في البيت كلبا فلم يدخل فقال له النبي ﷺ ادخل فقال أنا لا أدخل بيتا فيه كلب فأمر رسول الله ﷺ بقتل الكلاب فقتلت حتى بلغت العوالي فجاء عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة فقالوا يا رسول الله، ماذا يحل لنا من هذه الكلاب؟
وقوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر تلك المحرمات، وسئل رسول الله ﷺ متى تحل الميتة؟ فقال إذا لم يصطبحوا ولم يغتبقوا ولم تحتفئوا بها بقلا.
قال القاضي أبو محمد: فهذا مثال في حال عدم المأكول حتى يؤدي ذلك إلى ذهاب القوى والحياة وقرأ ابن محيصن «فمن اطر» بإدغام الضاد في الطاء وليس بالقياس ولكن العرب استعملته في ألفاظ قليلة استعمالا كثيرا وقد تقدم القول في أحكام الاضطرار في نظير هذه الآية في سورة البقرة، و «المخمصة» المجاعة التي تخمص فيها البطون أي تضمر والخمص ضمور البطن فالخلقة منه حسنة في النساء ومنه يقال خمصانة وبطن خميص ومنه أخمص القدم، ويستعمل ذلك كثيرا في الجوع والغرث، ومنه قول الأعشى:
تبيتون في المشتى ملاء بطونكم | وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا |
وسبب نزول قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ أن جبريل جاء إلى رسول الله ﷺ فوجد في البيت كلبا فلم يدخل فقال له النبي ﷺ ادخل فقال أنا لا أدخل بيتا فيه كلب فأمر رسول الله ﷺ بقتل الكلاب فقتلت حتى بلغت العوالي فجاء عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة وعويم بن ساعدة فقالوا يا رسول الله، ماذا يحل لنا من هذه الكلاب؟
155
قال القاضي أبو محمد: وروى هذا السبب أبو رافع مولى النبي ﷺ وهو كان المتولي لقتل الكلاب، وحكاه أيضا عكرمة ومحمد بن كعب القرظي موقوفا عليهما وظاهر الآية أن سائلا سأل عما أحل للناس من المطاعم لأن قوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ليس الجواب على ما يحل لنا من اتخاذ الكلاب اللهم إلا أن يكون هذا من إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه وهذا موجود كثيرا من النبي ﷺ كجوابه في لباس المحرم وغير ذلك وهو ﷺ مبين الشرع فإنما يجاوب مادّا أطناب التعليم لأمته، والطَّيِّباتُ الحلال هذا هو المعنى عند مالك وغيره ولا يراغى مستلذا كان أم لا، وقال الشافعي: الطَّيِّباتُ الحلال المستلذ وكل مستقذر كالوزغ والخنافس وغيرها فهي من الخبائث حرام.
وقوله تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ تقديره وصيد ما علمتم أو فاتخاذ ما علمتم وأعلى مراتب التعليم أن يشلى الحيوان فينشلي ويدعى فيجيب ويزجر بعد ظفره بالصيد فينزجر وأن يكون لا يأكل من صيده فإذا كان كلب بهذه الصفات ولم يكن أسود بهيما فأجمعت الأمة على صحة الصيد به بشرط أن يكون تعليم مسلم ويصيد به مسلم، هنا انعقد الإجماع فإذا انخرم شيء مما ذكرنا دخل الخلاف، فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد تعليم فهو جارح أي كاسب يقال: جرح فلان واجترح إذا كسب ومنه قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: ٦٠] أي كسبتم من حسنة وسيئة وكان ابن عمر يقول إنما يصاد بالكلاب فأما ما صيد به من البزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فذكه فهو حلال لك وإلا فلا تطعمه هكذا حكى ابن المنذر قال: وسئل أبو جعفر عن البازي والصقر أيحل صيده قال: لا إلا أن تدرك ذكاته قال واستثنى قوم البزاة فجوزوا صيدها لحديث عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله ﷺ عن صيد البازي فقال إذا أمسك عليك فكل، وقال الضحاك والسدي: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ هي الكلاب خاصة فإن كان الكلب أسود بهيما فكره صيده الحسن بن أبي الحسن وقتادة وإبراهيم النخعي. وقال أحمد بن حنبل ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما وبه قال ابن راهويه، فأما عوام أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم.
وأما أكل الكلب من الصيد فقال ابن عباس وأبو هريرة والشعبي وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وقتادة وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان وأصحابه، لا يؤكل ما بقي لأنه إنما أمسك على نفسه ولم يمسك على ربه ويعضد هذا القول قول النبي ﷺ لعدي بن حاتم في الكلب المعلم وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه، وتأول هؤلاء قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ أي الإمساك التام ومتى أكل فلم يمسك على الصائد، وقال سعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن عمر وأبو هريرة أيضا وسلمان الفارسي رضي الله عنهم: إذا أكل الجارح أكل ما بقي وإن لم تبق إلا بضعة. وهذا قول مالك وجميع أصحابه فيما علمت وتأولوا قوله تعالى: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة: ٤] على عموم الإمساك فمتى حصل إمساك ولو في بضعة حل أكلها وروي عن النخعي وأصحاب الرأي والثوري وحماد بن أبي سليمان أنهم رخصوا فيما أكل البازي منه خاصة في البازي.
قال القاضي أبو محمد: كأنه لا يمكن فيه أكثر من ذلك لأن حد تعليمه أن يدعى فيجيب، وأن يشلى
وقوله تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ تقديره وصيد ما علمتم أو فاتخاذ ما علمتم وأعلى مراتب التعليم أن يشلى الحيوان فينشلي ويدعى فيجيب ويزجر بعد ظفره بالصيد فينزجر وأن يكون لا يأكل من صيده فإذا كان كلب بهذه الصفات ولم يكن أسود بهيما فأجمعت الأمة على صحة الصيد به بشرط أن يكون تعليم مسلم ويصيد به مسلم، هنا انعقد الإجماع فإذا انخرم شيء مما ذكرنا دخل الخلاف، فإن كان الذي يصاد به غير كلب كالفهد وما أشبهه وكالبازي والصقر ونحوهما من الطير فجمهور الأمة على أن كل ما صاد بعد تعليم فهو جارح أي كاسب يقال: جرح فلان واجترح إذا كسب ومنه قوله تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: ٦٠] أي كسبتم من حسنة وسيئة وكان ابن عمر يقول إنما يصاد بالكلاب فأما ما صيد به من البزاة وغيرها من الطير فما أدركت ذكاته فذكه فهو حلال لك وإلا فلا تطعمه هكذا حكى ابن المنذر قال: وسئل أبو جعفر عن البازي والصقر أيحل صيده قال: لا إلا أن تدرك ذكاته قال واستثنى قوم البزاة فجوزوا صيدها لحديث عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله ﷺ عن صيد البازي فقال إذا أمسك عليك فكل، وقال الضحاك والسدي: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ هي الكلاب خاصة فإن كان الكلب أسود بهيما فكره صيده الحسن بن أبي الحسن وقتادة وإبراهيم النخعي. وقال أحمد بن حنبل ما أعرف أحدا يرخص فيه إذا كان بهيما وبه قال ابن راهويه، فأما عوام أهل العلم بالمدينة والكوفة فيرون جواز صيد كل كلب معلم.
وأما أكل الكلب من الصيد فقال ابن عباس وأبو هريرة والشعبي وإبراهيم النخعي وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وقتادة وعكرمة والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والنعمان وأصحابه، لا يؤكل ما بقي لأنه إنما أمسك على نفسه ولم يمسك على ربه ويعضد هذا القول قول النبي ﷺ لعدي بن حاتم في الكلب المعلم وإذا أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه، وتأول هؤلاء قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ أي الإمساك التام ومتى أكل فلم يمسك على الصائد، وقال سعد بن أبي وقاص وعبد الله ابن عمر وأبو هريرة أيضا وسلمان الفارسي رضي الله عنهم: إذا أكل الجارح أكل ما بقي وإن لم تبق إلا بضعة. وهذا قول مالك وجميع أصحابه فيما علمت وتأولوا قوله تعالى: مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة: ٤] على عموم الإمساك فمتى حصل إمساك ولو في بضعة حل أكلها وروي عن النخعي وأصحاب الرأي والثوري وحماد بن أبي سليمان أنهم رخصوا فيما أكل البازي منه خاصة في البازي.
قال القاضي أبو محمد: كأنه لا يمكن فيه أكثر من ذلك لأن حد تعليمه أن يدعى فيجيب، وأن يشلى
156
فينشلي، وإذا كان الجارح يشرب من دم الصيد فجمهور الناس على أن ذلك الصيد يؤكل، وقال عطاء:
ليس شرب الدم بأكل. وكره أكل ذلك الصيد الشعبي وسفيان الثوري.
قال القاضي أبو محمد: وليس في الحيوان شيء يقبل التعليم التام إلا الكلب شاذا وأكثرها يأكل من الصيد ولذلك لم ير مالك ذلك من شروط التعليم. وأما الطير فقال ربيعة: ما أجاب منها إذا دعي فهو المعلم الضاري.
قال القاضي أبو محمد: لأن أكثر الحيوان بطبعه ينشلي، وقال أصحاب أبي حنيفة: إذا صاد الكلب وأمسك ثلاث مرات ولاء فقد حصل منه التعليم، قال ابن المنذر: وكان النعمان لا يحد في ذلك عددا، وقال غيرهم: إذا فعل ذلك مرة واحدة فقد حصل معلما وإذا كان الكلب تعليم يهودي أو نصراني فكره الصيد به الحسن البصري، فأما كلب المجوسي وبازه وصقره فكره الصيد بها جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد وإبراهيم النخعي والثوري وإسحاق بن راهويه، ومالك رحمه الله والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم على إباحة الصيد بكلابهم إذا كان الصائد مسلما قالوا: وذلك مثل شفرته، وأما إن كان الصائد من أهل الكتاب فجمهور الأمة على جواز صيده غير مالك رحمه الله فإنه لم يجوز صيد اليهودي والنصراني وفرق بين ذلك وبين ذبيحته وتلا قول الله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال فلم يذكر الله بهذا اليهود ولا النصارى، وقال ابن وهب وأشهب: صيد اليهودي والنصراني حلال كذبيحته، وفي كتاب محمد لا يجوز صيد الصابىء ولا ذبيحته وهم قوم بين اليهود والنصارى لا دين لهم وأما إن كان الصائد مجوسيا فمنع من أكل صيده مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وعطاء وابن جبير والنخعي والليث بن سعد وجمهور الناس، وقال أبو ثور فيها قولين: أحدهما كقول هؤلاء، والآخر أن المجوس أهل كتاب وأن صيدهم جائز، وقرأ جمهور الناس «وما علمتم» بفتح العين واللام وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية «علّمتم» بضم العين وكسر اللام أي أمر الجوارح والصيد بها، والْجَوارِحِ الكواسر على ما تقدم، وحكى ابن المنذر عن قوم أنهم قالوا الْجَوارِحِ مأخوذ من الجارح أي الحيوان الذي له ناب وظفر أو مخلب يجرح به صيده.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف أهل اللغة على خلافه وقرأ جمهور الناس «مكلّبين» بفتح الكاف وشد اللام والمكلب معلم الكلاب ومضريها ويقال لمن يعلم غير كلب مكلب لأنه يرد ذلك الحيوان كالكلب، وقرأ الحسن وأبو زيد «مكلبين» بسكون الكاف وتخفيف اللام ومعناه أصحاب كلاب يقال: أمشى الرجل كثرت ماشيته وأكلب كثرت كلابه، وقال بعض المفسرين: المكلب بفتح الكاف وشد اللام صاحب الكلاب.
قال القاضي أبو محمد: وليس هذا بمحرر.
قوله عز وجل:
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ....
ليس شرب الدم بأكل. وكره أكل ذلك الصيد الشعبي وسفيان الثوري.
قال القاضي أبو محمد: وليس في الحيوان شيء يقبل التعليم التام إلا الكلب شاذا وأكثرها يأكل من الصيد ولذلك لم ير مالك ذلك من شروط التعليم. وأما الطير فقال ربيعة: ما أجاب منها إذا دعي فهو المعلم الضاري.
قال القاضي أبو محمد: لأن أكثر الحيوان بطبعه ينشلي، وقال أصحاب أبي حنيفة: إذا صاد الكلب وأمسك ثلاث مرات ولاء فقد حصل منه التعليم، قال ابن المنذر: وكان النعمان لا يحد في ذلك عددا، وقال غيرهم: إذا فعل ذلك مرة واحدة فقد حصل معلما وإذا كان الكلب تعليم يهودي أو نصراني فكره الصيد به الحسن البصري، فأما كلب المجوسي وبازه وصقره فكره الصيد بها جابر بن عبد الله والحسن وعطاء ومجاهد وإبراهيم النخعي والثوري وإسحاق بن راهويه، ومالك رحمه الله والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم على إباحة الصيد بكلابهم إذا كان الصائد مسلما قالوا: وذلك مثل شفرته، وأما إن كان الصائد من أهل الكتاب فجمهور الأمة على جواز صيده غير مالك رحمه الله فإنه لم يجوز صيد اليهودي والنصراني وفرق بين ذلك وبين ذبيحته وتلا قول الله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال فلم يذكر الله بهذا اليهود ولا النصارى، وقال ابن وهب وأشهب: صيد اليهودي والنصراني حلال كذبيحته، وفي كتاب محمد لا يجوز صيد الصابىء ولا ذبيحته وهم قوم بين اليهود والنصارى لا دين لهم وأما إن كان الصائد مجوسيا فمنع من أكل صيده مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وعطاء وابن جبير والنخعي والليث بن سعد وجمهور الناس، وقال أبو ثور فيها قولين: أحدهما كقول هؤلاء، والآخر أن المجوس أهل كتاب وأن صيدهم جائز، وقرأ جمهور الناس «وما علمتم» بفتح العين واللام وقرأ ابن عباس ومحمد بن الحنفية «علّمتم» بضم العين وكسر اللام أي أمر الجوارح والصيد بها، والْجَوارِحِ الكواسر على ما تقدم، وحكى ابن المنذر عن قوم أنهم قالوا الْجَوارِحِ مأخوذ من الجارح أي الحيوان الذي له ناب وظفر أو مخلب يجرح به صيده.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف أهل اللغة على خلافه وقرأ جمهور الناس «مكلّبين» بفتح الكاف وشد اللام والمكلب معلم الكلاب ومضريها ويقال لمن يعلم غير كلب مكلب لأنه يرد ذلك الحيوان كالكلب، وقرأ الحسن وأبو زيد «مكلبين» بسكون الكاف وتخفيف اللام ومعناه أصحاب كلاب يقال: أمشى الرجل كثرت ماشيته وأكلب كثرت كلابه، وقال بعض المفسرين: المكلب بفتح الكاف وشد اللام صاحب الكلاب.
قال القاضي أبو محمد: وليس هذا بمحرر.
قوله عز وجل:
فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ....
157
أي يعلمونهن من الحيلة في الاصطياد والتأتي لتحصيل الحيوان وهذا جزء مما علمه الله الإنسان ف «من» للتبعيض، ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية وأنث الضمير في تُعَلِّمُونَهُنَّ مراعاة للفظ الْجَوارِحِ إذ هو جمع جارحة، وقوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ يحتمل أن يريد مما أمسكن فلم يأكلن منه شيئا.
ويحتمل أن يريد مما «أمسكن» وإن أكلن بعض الصيد وبحسب هذا الاحتمال اختلف العلماء في جواز أكل الصيد إذا أكل منه الجارح وقد تقدم ذلك، وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أمر بالتسمية عند الإرسال على الصيد وفقه الصيد والذبح في معنى التسمية واحد فقال بعض العلماء هذا الأمر على الوجوب ومتى ترك المرسل أو الذابح التسمية عمدا أو نسيانا لم تؤكل وممن رويت عنه كراهية ما لم يسم عليه الله نسيانا الشعبي وابن سيرين ونافع وأبو ثور، ورأى بعض العلماء هذا الأمر بالتسمية على الندب وإلى ذلك ينحو أشهب في قوله إن ترك التسمية مستخفا لم تؤكل وإن تركها عامدا لا يدري قدر ذلك لكنه غير متهاون بأمر الشريعة فإنها تؤكل ومذهب مالك وجمهور أهل العلم: أن التسمية واجبة مع الذكر ساقطة مع النسيان فمن تركها عامدا فقد أفسد الذبيحة والصيد ومن تركها ناسيا سمى عند الأكل وكانت الذبيحة جائزة، واستحب أكثر أهل العلم أن لا يذكر في التسمية غير الله تعالى وأن لفظها بسم الله والله كبر، وقال قوم: إن صلى مع ذلك على النبي ﷺ فجائز، ثم أمر تعالى بالتقوى على الجملة والإشارة الغريبة هي إلى ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر وسرعة الحساب هي من أنه تبارك وتعالى قد أحاط بكل شيء علما فلا يحتاج إلى محاولة عد ويحاسب جميع الخلائق دفعة واحدة، وتحتمل الآية أن تكون وعيدا بيوم القيامة كأنه قال إن حساب الله لكم سريع إتيانه إذ يوم القيامة قريب، ويحتمل أن يريد ب الْحِسابِ المجازاة فكأنه توعد في الدنيا بمجازاة سريعة قريبة إن لم يتق الله.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : آية ٥]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)
وقوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ إشارة إلى الزمن والأوان، والخطاب للمؤمنين، وتقدم القول في الطَّيِّباتُ وقوله تعالى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ابتداء وخبر، وحِلٌّ معناه حلال، والطعام في هذه الآية الذبائح كذا قال أهل التفسير، وذلك أن الطعام الذي لا محاولة فيه كالبر والفاكهة ونحوه لا يضر فيه ويحرم عينه تملك أحد، والطعام الذي تقع فيه محاولة على ضربين فمنه ما محاولته صنعة لا تعلق للدين بها كخبز الدقيق وتعصير الزيت ونحوه فهذا إن جنب من الذمي فعلى جهة التقزز، والضرب الثاني هي التزكية التي هي محتاجة إلى الدين والنية فلما كان القياس ألا تجوز ذبائحهم كما تقول: إنهم لا صلاة لهم ولا صوم ولا عبادة مقبولة رخص الله تعالى في ذبائحهم على هذه الأمة وأخرجها بالنص عن القياس، ثم إن العلماء اختلفوا في لفظ طعام فقال الجمهور: وهي الذبيحة كلها وتذكية الذمي عاملة لنا في كل الذبيحة ما حل له منها وما حرم عليه لأنه مذك. وقالت جماعة من أهل العلم إنما أحل لنا طعامهم من الذبيحة أي الحلال لهم لأن ما لا يحل لهم لا تعمل فيه تذكيتهم فمنعت هذه الطائفة الطريف والشحوم المحضة من ذبائح أهل الكتاب، وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك رحمه الله، واختلف
ويحتمل أن يريد مما «أمسكن» وإن أكلن بعض الصيد وبحسب هذا الاحتمال اختلف العلماء في جواز أكل الصيد إذا أكل منه الجارح وقد تقدم ذلك، وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أمر بالتسمية عند الإرسال على الصيد وفقه الصيد والذبح في معنى التسمية واحد فقال بعض العلماء هذا الأمر على الوجوب ومتى ترك المرسل أو الذابح التسمية عمدا أو نسيانا لم تؤكل وممن رويت عنه كراهية ما لم يسم عليه الله نسيانا الشعبي وابن سيرين ونافع وأبو ثور، ورأى بعض العلماء هذا الأمر بالتسمية على الندب وإلى ذلك ينحو أشهب في قوله إن ترك التسمية مستخفا لم تؤكل وإن تركها عامدا لا يدري قدر ذلك لكنه غير متهاون بأمر الشريعة فإنها تؤكل ومذهب مالك وجمهور أهل العلم: أن التسمية واجبة مع الذكر ساقطة مع النسيان فمن تركها عامدا فقد أفسد الذبيحة والصيد ومن تركها ناسيا سمى عند الأكل وكانت الذبيحة جائزة، واستحب أكثر أهل العلم أن لا يذكر في التسمية غير الله تعالى وأن لفظها بسم الله والله كبر، وقال قوم: إن صلى مع ذلك على النبي ﷺ فجائز، ثم أمر تعالى بالتقوى على الجملة والإشارة الغريبة هي إلى ما تضمنته هذه الآيات من الأوامر وسرعة الحساب هي من أنه تبارك وتعالى قد أحاط بكل شيء علما فلا يحتاج إلى محاولة عد ويحاسب جميع الخلائق دفعة واحدة، وتحتمل الآية أن تكون وعيدا بيوم القيامة كأنه قال إن حساب الله لكم سريع إتيانه إذ يوم القيامة قريب، ويحتمل أن يريد ب الْحِسابِ المجازاة فكأنه توعد في الدنيا بمجازاة سريعة قريبة إن لم يتق الله.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : آية ٥]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥)
وقوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ إشارة إلى الزمن والأوان، والخطاب للمؤمنين، وتقدم القول في الطَّيِّباتُ وقوله تعالى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ابتداء وخبر، وحِلٌّ معناه حلال، والطعام في هذه الآية الذبائح كذا قال أهل التفسير، وذلك أن الطعام الذي لا محاولة فيه كالبر والفاكهة ونحوه لا يضر فيه ويحرم عينه تملك أحد، والطعام الذي تقع فيه محاولة على ضربين فمنه ما محاولته صنعة لا تعلق للدين بها كخبز الدقيق وتعصير الزيت ونحوه فهذا إن جنب من الذمي فعلى جهة التقزز، والضرب الثاني هي التزكية التي هي محتاجة إلى الدين والنية فلما كان القياس ألا تجوز ذبائحهم كما تقول: إنهم لا صلاة لهم ولا صوم ولا عبادة مقبولة رخص الله تعالى في ذبائحهم على هذه الأمة وأخرجها بالنص عن القياس، ثم إن العلماء اختلفوا في لفظ طعام فقال الجمهور: وهي الذبيحة كلها وتذكية الذمي عاملة لنا في كل الذبيحة ما حل له منها وما حرم عليه لأنه مذك. وقالت جماعة من أهل العلم إنما أحل لنا طعامهم من الذبيحة أي الحلال لهم لأن ما لا يحل لهم لا تعمل فيه تذكيتهم فمنعت هذه الطائفة الطريف والشحوم المحضة من ذبائح أهل الكتاب، وهذا الخلاف موجود في مذهب مالك رحمه الله، واختلف
158
العلماء في لفظة أُوتُوا فقالت فرقة إنما أحلت لنا ذبائح بني إسرائيل والنصارى الصرحاء الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل، فمنعت هذه الفرقة ذبائح نصارى بني تغلب من العرب وذبائح كل دخيل في هذين الدينين وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ينهى عن ذبائح نصارى بني تغلب ويقول لأنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر.
قال القاضي أبو محمد: فهذا ليس بنهي عن ذبائح النصارى المحققين منهم، وقال جمهور الأمة ابن عباس والحسن وعكرمة وابن المسيب والشعبي وعطاء وابن شهاب والحكم وحماد وقتادة ومالك رحمه الله وغيرهم: إن ذبيحة كل نصراني حلال سواء كان من بني تغلب أو غيرهم، وكذلك اليهود وتأولوا قول الله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: ٥١] وقوله تعالى: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أي ذبائحكم، فهذه رخصة للمسلمين لا لأهل الكتاب لما كان الأمر يقتضي أن شيئا قد تشرعنا فيه بالتذكية ينبغي لنا أن نحميه منهم ورخص الله تعالى في ذلك رفعا للمشقة بحسب التجاوز، وقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ عطف على الطعام المحلل، والإحصان في كلام العرب وفي تصريف الشرع مأخوذ من المنعة ومنه الحصن، وهو مترتب بأربعة أشياء: الإسلام والعفة والنكاح والحرية، فيمتنع في هذا الموضع أن يكون الإسلام لأنه قد نص أنهن من أهل الكتاب ويمتنع أن يكون النكاح لأن ذات الزوج لا تحل، ولم يبق إلا الحرية والعفة فاللفظة تحتملهما، واختلف أهل العلم بحسب هذا الاحتمال فقال مالك رحمه الله ومجاهد وعمر بن الخطاب وجماعة من أهل العلم «المحصنات» في هذه الآية الحرائر فمنعوا نكاح الأمة الكتابية، وقالت جماعة من أهل العلم: «المحصنات» في هذه الآية العفائف، منهم مجاهد أيضا والشعبي وغيرهم فجوزوا نكاح الأمة الكتابية وبه قال سفيان والسدي، وقال الشعبي: إحصان الذمية ألا تزني وأن تغتسل من الجنابة، وقال أبو ميسرة: مملوكات أهل الكتاب بمنزلة حرائرهن العفائف منهن حلال نكاحهن.
قال القاضي أبو محمد: ومنع بعض العلماء زواج غير العفيفة بهذه الآية، وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا اطلع الرجل من امرأته على فاحشة فليفارقها. وفرق ابن عباس بين نساء أهل الحرب ونساء أهل الذمة فقال: من أهل الكتاب من يحل لنا وهم كل من أعطى الجزية، ومنهم من لا يحل لنا وهم أهل الحرب، وكره مالك رحمه الله نكاح نساء أهل الحرب مخافة ضياع الولد أو تغير دينه، والأجور في هذه الآية المهور، وانتزع أهل العلم لفظة آتَيْتُمُوهُنَّ أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل من المهر ما يستحلها به، ومن جوز أن يدخل دون أن يبذل ذلك فرأى أنه بحكم الارتباط والالتزام في حكم الموتى، ومُحْصِنِينَ معناه متزوجين على السنة، والإحصان في هذا الموضع هو بالنكاح، والمسافح المزاني، والسفاح الزنى، والمسافحة هي المرأة التي لا ترد يد لامس وتزني مع كل أحد وهن أصحاب الرايات في الجاهلية، والمخادنة أن يكون الزانيان قد وقف كل واحد نفسه على صاحبه، وقد تقدم نظير هذه الآية وفسر بأوعب من هذا، وقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ يحتمل أن يكون المعنى على أن الكفر هو بنفس الإيمان، وفي هذا مجاز واستعارة لأن الإيمان لا يتصور كفر به إنما الكفر بالأمور التي حقها أن يقع الإيمان بها، وباقي الآية بين.
قال القاضي أبو محمد: فهذا ليس بنهي عن ذبائح النصارى المحققين منهم، وقال جمهور الأمة ابن عباس والحسن وعكرمة وابن المسيب والشعبي وعطاء وابن شهاب والحكم وحماد وقتادة ومالك رحمه الله وغيرهم: إن ذبيحة كل نصراني حلال سواء كان من بني تغلب أو غيرهم، وكذلك اليهود وتأولوا قول الله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: ٥١] وقوله تعالى: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أي ذبائحكم، فهذه رخصة للمسلمين لا لأهل الكتاب لما كان الأمر يقتضي أن شيئا قد تشرعنا فيه بالتذكية ينبغي لنا أن نحميه منهم ورخص الله تعالى في ذلك رفعا للمشقة بحسب التجاوز، وقوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ عطف على الطعام المحلل، والإحصان في كلام العرب وفي تصريف الشرع مأخوذ من المنعة ومنه الحصن، وهو مترتب بأربعة أشياء: الإسلام والعفة والنكاح والحرية، فيمتنع في هذا الموضع أن يكون الإسلام لأنه قد نص أنهن من أهل الكتاب ويمتنع أن يكون النكاح لأن ذات الزوج لا تحل، ولم يبق إلا الحرية والعفة فاللفظة تحتملهما، واختلف أهل العلم بحسب هذا الاحتمال فقال مالك رحمه الله ومجاهد وعمر بن الخطاب وجماعة من أهل العلم «المحصنات» في هذه الآية الحرائر فمنعوا نكاح الأمة الكتابية، وقالت جماعة من أهل العلم: «المحصنات» في هذه الآية العفائف، منهم مجاهد أيضا والشعبي وغيرهم فجوزوا نكاح الأمة الكتابية وبه قال سفيان والسدي، وقال الشعبي: إحصان الذمية ألا تزني وأن تغتسل من الجنابة، وقال أبو ميسرة: مملوكات أهل الكتاب بمنزلة حرائرهن العفائف منهن حلال نكاحهن.
قال القاضي أبو محمد: ومنع بعض العلماء زواج غير العفيفة بهذه الآية، وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا اطلع الرجل من امرأته على فاحشة فليفارقها. وفرق ابن عباس بين نساء أهل الحرب ونساء أهل الذمة فقال: من أهل الكتاب من يحل لنا وهم كل من أعطى الجزية، ومنهم من لا يحل لنا وهم أهل الحرب، وكره مالك رحمه الله نكاح نساء أهل الحرب مخافة ضياع الولد أو تغير دينه، والأجور في هذه الآية المهور، وانتزع أهل العلم لفظة آتَيْتُمُوهُنَّ أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل من المهر ما يستحلها به، ومن جوز أن يدخل دون أن يبذل ذلك فرأى أنه بحكم الارتباط والالتزام في حكم الموتى، ومُحْصِنِينَ معناه متزوجين على السنة، والإحصان في هذا الموضع هو بالنكاح، والمسافح المزاني، والسفاح الزنى، والمسافحة هي المرأة التي لا ترد يد لامس وتزني مع كل أحد وهن أصحاب الرايات في الجاهلية، والمخادنة أن يكون الزانيان قد وقف كل واحد نفسه على صاحبه، وقد تقدم نظير هذه الآية وفسر بأوعب من هذا، وقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ يحتمل أن يكون المعنى على أن الكفر هو بنفس الإيمان، وفي هذا مجاز واستعارة لأن الإيمان لا يتصور كفر به إنما الكفر بالأمور التي حقها أن يقع الإيمان بها، وباقي الآية بين.
159
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : آية ٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
لا يختلف أن هذه الآية هي التي قالت عائشة رضي الله عنها فيها نزلت آية التيمم وهي آية الوضوء، لكن من حيث كان الوضوء متقررا عندهم مستعملا فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم واستدل على حصول الوضوء بقول عائشة فأقام رسول الله بالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، وآية النساء إما نزلت معها أو بعدها بيسير، وكانت قصة التيمم في سفر رسول الله ﷺ في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق. وفيها كان هبوب الريح فيما روي، وفيها كان قول عبد الله بن أبي ابن سلول لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ [المنافقون: ٨] القصة بطولها، وفيها وقع حديث الإفك. ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام جاءت العبارة إِذا قُمْتُمْ، واختلف الناس في القرينة التي أريدت مع قوله إِذا قُمْتُمْ فقالت طائفة: هذا لفظ عام في كل قيام سواء كان المرء على طهور أو محدثا فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ وروي أن علي بن أبي طالب كان يفعل ذلك ويقرأ الآية، وروي نحوه عن عكرمة، وقال ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة، وروي أن عمر بن الخطاب توضأ وضوءا فيه تجوز ثم قال هذا وضوء من لم يحدث وقال عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل: إن النبي ﷺ أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: فكان كثير من الصحابة منهم ابن عمر وغيره يتوضؤون لكل صلاة انتدابا إلى فضيلة وكذلك كان رسول الله ﷺ يفعل ثم جمع بين صلاتين بوضوء واحد في حديث سويد بن النعمان وفي غير موطن إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد إرادة البيان لأمته وروى ابن عمر أن النبي ﷺ قال: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات، وقال: إنما رغبت في هذا، وقالت فرقة: نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان لا يعمل عملا إلا وهو على وضوء ولا يكلم أحدا ولا يرد سلاما إلى غير ذلك فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال، قال ذلك علقمة بن الفغواء وهو من الصحابة، وكان دليل رسول الله ﷺ إلى تبوك، وقال زيد بن أسلم والسدي: معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من المضاجع يعني النوم.
[سورة المائدة (٥) : آية ٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦)
لا يختلف أن هذه الآية هي التي قالت عائشة رضي الله عنها فيها نزلت آية التيمم وهي آية الوضوء، لكن من حيث كان الوضوء متقررا عندهم مستعملا فكأن الآية لم تزدهم فيه إلا تلاوته، وإنما أعطتهم الفائدة والرخصة في التيمم واستدل على حصول الوضوء بقول عائشة فأقام رسول الله بالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء، وآية النساء إما نزلت معها أو بعدها بيسير، وكانت قصة التيمم في سفر رسول الله ﷺ في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق. وفيها كان هبوب الريح فيما روي، وفيها كان قول عبد الله بن أبي ابن سلول لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ [المنافقون: ٨] القصة بطولها، وفيها وقع حديث الإفك. ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام جاءت العبارة إِذا قُمْتُمْ، واختلف الناس في القرينة التي أريدت مع قوله إِذا قُمْتُمْ فقالت طائفة: هذا لفظ عام في كل قيام سواء كان المرء على طهور أو محدثا فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ وروي أن علي بن أبي طالب كان يفعل ذلك ويقرأ الآية، وروي نحوه عن عكرمة، وقال ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضؤون لكل صلاة، وروي أن عمر بن الخطاب توضأ وضوءا فيه تجوز ثم قال هذا وضوء من لم يحدث وقال عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل: إن النبي ﷺ أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلا من حدث.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: فكان كثير من الصحابة منهم ابن عمر وغيره يتوضؤون لكل صلاة انتدابا إلى فضيلة وكذلك كان رسول الله ﷺ يفعل ثم جمع بين صلاتين بوضوء واحد في حديث سويد بن النعمان وفي غير موطن إلى أن جمع يوم الفتح بين الصلوات الخمس بوضوء واحد إرادة البيان لأمته وروى ابن عمر أن النبي ﷺ قال: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات، وقال: إنما رغبت في هذا، وقالت فرقة: نزلت هذه الآية رخصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه كان لا يعمل عملا إلا وهو على وضوء ولا يكلم أحدا ولا يرد سلاما إلى غير ذلك فأعلمه الله بهذه الآية أن الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال، قال ذلك علقمة بن الفغواء وهو من الصحابة، وكان دليل رسول الله ﷺ إلى تبوك، وقال زيد بن أسلم والسدي: معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من المضاجع يعني النوم.
160
قال القاضي أبو محمد: والقصد بهذا التأويل أن تعم الأحداث بالذكر ولا سيما النوم الذي هو مختلف فيه هل هو في نفسه حدث، وفي الآية على هذا التأويل تقديم وتأخير تقديره يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ من النوم أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ يعني الملامسة الصغرى فَاغْسِلُوا فتمت أحكام المحدث حدثا أصغر ثم قال: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا فهذا حكم نوع آخر، ثم قال للنوعين جميعا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً وقال بهذا التأويل محمد بن مسلمة من أصحاب مالك رحمه الله وغيره، وقال جمهور أهل العلم معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة محدثين وليس في الآية على هذا تقديم ولا تأخير بل يترتب في الآية حكم واجد الماء إلى قوله:
فَاطَّهَّرُوا ودخلت الملامسة الصغرى في قوله محدثين، ثم ذكر بعد ذلك بقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى إلى آخر الآية حكم عادم الماء من النوعين جميعا وكانت الملامسة هي الجماع ولا بد ليذكر الجنب العادم للماء كما ذكر الواجد، وهذا هو تأويل الشافعي وغيره وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبي موسى وغيرهم.
وقوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الغسل في اللغة إيجاد الماء في المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد أو ما قام مقامها، وهو يتفاضل بحسب الانغمار في الماء أو التقليل منه، وغسل الوجه في الوضوء هو بنقل الماء إليه وإمرار اليد عليه، والوجه ما راجه الناظر وقابله، وحدّه في الطول منابت الشعر فوق الجبهة إلى آخر الذقن، وعبر بعض الناس إلى تحت الذقن، واختلف في ذي اللحية فقيل: حده من اللحية إلى ما قابل آخر الذقن، وقيل بل حده فيها آخر الشعر، واختلف العلماء في تخليل اللحية على قولين روي تخليلها عن النبي ﷺ من حديث أنس ذكره الطبري، واختلف في حده عرضا فهو في المرأة والأمرد من الأذن إلى الأذن وفي ذي اللحية ثلاثة أقوال فقيل: من الشعر إلى الشعر يعني شعر العارضين وقيل: من الأذن إلى الأذن ويدخل البياض الذي بين العارض والأذن في الوجه وقيل: يغسل ذلك البياض استحبابا، واختلف في الأذنين فقيل هما من الرأس، وقال الزهري من الوجه، وقيل هما عضو قائم بنفسه ليسا من الوجه ولا من الرأس، وقيل: ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر فهو من الرأس، واختلف في المضمضة والاستنشاق فجمهور الأمة يرونها سنة ولا يدخل هذان الباطنان عندهم في الوجه وقال مجاهد:
الاستنشاق شطر الوضوء، وقال حماد بن أبي سليمان وقتادة وعطاء والزهري وابن أبي ليلى وابن راهويه:
من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة، وقال أحمد: يعيد من ترك الاستنشاق ولا يعيد من ترك المضمضة والناس كلهم على أن داخل العينين لا يلزم غسله إلا ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه.
وقوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ اليد في اللغة تقع على العضو الذي هو من المنكب إلى أطراف الأصابع ولذلك كان أبو هريرة يغسل جميعه في الوضوء أحيانا ليطيل الغرة، وحد الله تعالى موضع الغسل منه بقوله: إِلَى الْمَرافِقِ يقال في واحدها مرفق ومرفق، وكسر الميم وفتح الفاء أشهر، واختلف العلماء هل تدخل المرافق في الغسل أم لا فقالت طائفة لا تدخل لأن إلى غاية تحول بين ما قبلها وما بعدها، وقالت طائفة تدخل المرافق في الغسل لأن ما بعد إلى إذا كان من نوع ما قبلها فهو داخل، ومثل أبو
فَاطَّهَّرُوا ودخلت الملامسة الصغرى في قوله محدثين، ثم ذكر بعد ذلك بقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى إلى آخر الآية حكم عادم الماء من النوعين جميعا وكانت الملامسة هي الجماع ولا بد ليذكر الجنب العادم للماء كما ذكر الواجد، وهذا هو تأويل الشافعي وغيره وعليه تجيء أقوال الصحابة كسعد بن أبي وقاص وابن عباس وأبي موسى وغيرهم.
وقوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ الغسل في اللغة إيجاد الماء في المغسول مع إمرار شيء عليه كاليد أو ما قام مقامها، وهو يتفاضل بحسب الانغمار في الماء أو التقليل منه، وغسل الوجه في الوضوء هو بنقل الماء إليه وإمرار اليد عليه، والوجه ما راجه الناظر وقابله، وحدّه في الطول منابت الشعر فوق الجبهة إلى آخر الذقن، وعبر بعض الناس إلى تحت الذقن، واختلف في ذي اللحية فقيل: حده من اللحية إلى ما قابل آخر الذقن، وقيل بل حده فيها آخر الشعر، واختلف العلماء في تخليل اللحية على قولين روي تخليلها عن النبي ﷺ من حديث أنس ذكره الطبري، واختلف في حده عرضا فهو في المرأة والأمرد من الأذن إلى الأذن وفي ذي اللحية ثلاثة أقوال فقيل: من الشعر إلى الشعر يعني شعر العارضين وقيل: من الأذن إلى الأذن ويدخل البياض الذي بين العارض والأذن في الوجه وقيل: يغسل ذلك البياض استحبابا، واختلف في الأذنين فقيل هما من الرأس، وقال الزهري من الوجه، وقيل هما عضو قائم بنفسه ليسا من الوجه ولا من الرأس، وقيل: ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر فهو من الرأس، واختلف في المضمضة والاستنشاق فجمهور الأمة يرونها سنة ولا يدخل هذان الباطنان عندهم في الوجه وقال مجاهد:
الاستنشاق شطر الوضوء، وقال حماد بن أبي سليمان وقتادة وعطاء والزهري وابن أبي ليلى وابن راهويه:
من ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة، وقال أحمد: يعيد من ترك الاستنشاق ولا يعيد من ترك المضمضة والناس كلهم على أن داخل العينين لا يلزم غسله إلا ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه.
وقوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ اليد في اللغة تقع على العضو الذي هو من المنكب إلى أطراف الأصابع ولذلك كان أبو هريرة يغسل جميعه في الوضوء أحيانا ليطيل الغرة، وحد الله تعالى موضع الغسل منه بقوله: إِلَى الْمَرافِقِ يقال في واحدها مرفق ومرفق، وكسر الميم وفتح الفاء أشهر، واختلف العلماء هل تدخل المرافق في الغسل أم لا فقالت طائفة لا تدخل لأن إلى غاية تحول بين ما قبلها وما بعدها، وقالت طائفة تدخل المرافق في الغسل لأن ما بعد إلى إذا كان من نوع ما قبلها فهو داخل، ومثل أبو
161
العباس المبرد في ذلك بأن تقول: اشتريت الفدان إلى حاشيته أو بأن تقول اشتريت الفدان إلى الدار وبقوله: أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: ١٨٧].
قال القاضي أبو محمد: وتحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال: إذا كان ما بعد إِلَى ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها وإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط يعطي أن الحد المذكور بعدها ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل. والروايتان محفوظتان عن مالك بن أنس رضي الله عنه، روى عنه أشهب أن المرفقين غير داخلين في الحد، وروي عنه أنهما داخلان.
وقوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ المسح أن يمر على الشيء بشيء مبلول بالماء وسنة مسح الرأس أن يؤخذ ماء باليدين ثم يرسل ثم يمسح الرأس بما تعلق باليدين، واختلف في مسح الرأس في مواضع منها هيئة المسح فقالت طائفة منها مالك والشافعي وجماعة من الصحابة والتابعين يبدأ بمقدم رأسه ثم يذهب بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى مقدمه، وقالت فرقة يبدأ من مؤخر الرأس حتى يجيء إلى المقدم ثم يرد إلى المؤخر، وقالت فرقة: يبدأ من وسط الرأس فيجيء بيديه نحو الوجه ثم يرد فيصيب باطن الشعر فإذا انتهى إلى وسط الرأس أمرّ يديه كذلك على ظاهر شعر مؤخر الرأس ثم يرد فيصيب باطنه ويقف عند وسط الرأس، وقالت فرقة يمسح رأسه من هنا وهنا على غير نظام ولا مبدأ محدود حتى يعمه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله قول بالعموم، واختلف في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أم سنة بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن فالجمهور على أنه سنة وقيل: هو فرض، ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس قدر ما يمسح فقالت جماعة: الواجب من مسح الرأس عمومه، ثم اختلفوا في الهيئات على ما ذكرناه، وقال محمد بن مسلمة أن مسح ثلثي الرأس وترك الثلث أجزأ وقال أبو الفرج المالكي: وروي عن مالك أنه أن مسح الثلث أجزأ لأنه كثير في أمور من الشرع، وقال أشهب إن مسح الناصية أجزأ.
قال القاضي أبو محمد: وكل من أحفظ عنه إجزاء بعض الرأس فإنه يرى ذلك البعض من مقدم الرأس، وذلك أنه قد روي في ذلك أحاديث في بعضها ذكر الناصية وفي بعضها ذكر مقدم الرأس، إلا ما روي عن إبراهيم والشعبي قالا: أي نواحي رأسك مسحت أجزأك، وكان سلمة بن الأكوع يمسح مقدم رأسه. وروي عن ابن عمر أنه مسح اليافوخ فقط، وقال أصحاب الرأي: إن مسح بثلاث أصابع أجزأه وإن كان الممسوح أقل مما يمر عليه ثلاث أصابع لم يجزىء وقال قوم: يجزىء من مسح الرأس أن يمسح مسحة بأصبع واحدة، وقال الحسن بن أبي الحسن: إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها، وحكى الطبري وغيره عن سفيان الثوري أن الرجل إذا مسح شعرة واحدة أجزأه، ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس ما العضو الذي يمسح به؟ فالإجماع على استحسان المسح باليدين جميعا وعلى الإجزاء إن مسح بواحدة، واختلف فيمن مسح بأصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس فالمشهور أن ذلك يجزىء وقيل لا يجزىء.
قال القاضي أبو محمد: ويترجح أنه لا يجزىء لأنه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب إلا أن يكون
قال القاضي أبو محمد: وتحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال: إذا كان ما بعد إِلَى ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها وإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط يعطي أن الحد المذكور بعدها ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل. والروايتان محفوظتان عن مالك بن أنس رضي الله عنه، روى عنه أشهب أن المرفقين غير داخلين في الحد، وروي عنه أنهما داخلان.
وقوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ المسح أن يمر على الشيء بشيء مبلول بالماء وسنة مسح الرأس أن يؤخذ ماء باليدين ثم يرسل ثم يمسح الرأس بما تعلق باليدين، واختلف في مسح الرأس في مواضع منها هيئة المسح فقالت طائفة منها مالك والشافعي وجماعة من الصحابة والتابعين يبدأ بمقدم رأسه ثم يذهب بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى مقدمه، وقالت فرقة يبدأ من مؤخر الرأس حتى يجيء إلى المقدم ثم يرد إلى المؤخر، وقالت فرقة: يبدأ من وسط الرأس فيجيء بيديه نحو الوجه ثم يرد فيصيب باطن الشعر فإذا انتهى إلى وسط الرأس أمرّ يديه كذلك على ظاهر شعر مؤخر الرأس ثم يرد فيصيب باطنه ويقف عند وسط الرأس، وقالت فرقة يمسح رأسه من هنا وهنا على غير نظام ولا مبدأ محدود حتى يعمه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله قول بالعموم، واختلف في رد اليدين على شعر الرأس هل هو فرض أم سنة بعد الإجماع على أن المسحة الأولى فرض بالقرآن فالجمهور على أنه سنة وقيل: هو فرض، ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس قدر ما يمسح فقالت جماعة: الواجب من مسح الرأس عمومه، ثم اختلفوا في الهيئات على ما ذكرناه، وقال محمد بن مسلمة أن مسح ثلثي الرأس وترك الثلث أجزأ وقال أبو الفرج المالكي: وروي عن مالك أنه أن مسح الثلث أجزأ لأنه كثير في أمور من الشرع، وقال أشهب إن مسح الناصية أجزأ.
قال القاضي أبو محمد: وكل من أحفظ عنه إجزاء بعض الرأس فإنه يرى ذلك البعض من مقدم الرأس، وذلك أنه قد روي في ذلك أحاديث في بعضها ذكر الناصية وفي بعضها ذكر مقدم الرأس، إلا ما روي عن إبراهيم والشعبي قالا: أي نواحي رأسك مسحت أجزأك، وكان سلمة بن الأكوع يمسح مقدم رأسه. وروي عن ابن عمر أنه مسح اليافوخ فقط، وقال أصحاب الرأي: إن مسح بثلاث أصابع أجزأه وإن كان الممسوح أقل مما يمر عليه ثلاث أصابع لم يجزىء وقال قوم: يجزىء من مسح الرأس أن يمسح مسحة بأصبع واحدة، وقال الحسن بن أبي الحسن: إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها، وحكى الطبري وغيره عن سفيان الثوري أن الرجل إذا مسح شعرة واحدة أجزأه، ومن مواضع الخلاف في مسح الرأس ما العضو الذي يمسح به؟ فالإجماع على استحسان المسح باليدين جميعا وعلى الإجزاء إن مسح بواحدة، واختلف فيمن مسح بأصبع واحدة حتى عم ما يرى أنه يجزئه من الرأس فالمشهور أن ذلك يجزىء وقيل لا يجزىء.
قال القاضي أبو محمد: ويترجح أنه لا يجزىء لأنه خروج عن سنة المسح وكأنه لعب إلا أن يكون
162
ذلك عن ضرورة مرض فينبغي أن لا يختلف في الاجزاء، ومن مواضع الخلاف عدد المسحات، فالجمهور على مرة واحدة ويجزىء ذلك عند الشافعي وثلاثا أحب إليه وروي عن ابن سيرين أنه مسح رأسه مرتين، وروي عن أنس أنه قال يمسح الرأس ثلاثا، وقاله سعيد بن جبير وعطاء وميسرة، والباء في قوله بِرُؤُسِكُمْ مؤكدة زائدة عند من يرى عموم الرأس، والمعنى عنده وامسحوا رؤوسكم، وهي للإلزاق المحض عند من يرى إجزاء بعض الرأس كأن المعنى أوجدوا مسحا برؤوسكم فمن مسح شعرة فقد فعل ذلك، ثم اتبعوا في المقادير التي حدوها آثارا وأقيسة بحسب اجتهاد العلماء رحمهم الله.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة «وأرجلكم» خفضا وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأرجلكم نصبا، وروى أبو بكر عن عاصم الخفض، وروى عنه حفص النصب، وقرأ الحسن والأعمش «وأرجلكم» بالرفع المعنى فاغسلوها، ورويت عن نافع، وبحسب هذا اختلاف الصحابة والتابعين، فكل من قرأ بالنصب جعل العامل اغسلوا وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل بالماء دون المسح، وهنا هو الجمهور وعليه علم فعل النبي ﷺ وهو اللازم من قوله ﷺ وقد رأى قوما يتوضؤون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته، «ويل للأعقاب من النار» ومن قرأ بالخفض جعل العامل أقرب العاملين، واختلفوا، فقالت فرقة منهم، الفرض في الرجلين المسح لا الغسل وروي عن ابن عباس أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان، وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه «فاغسلوا» بطونهما وظهورهما وعراقيبهما فسمع ذلك أنس بن مالك فقال صدق الله وكذب الحجاج قال الله تعالى:
وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ قال وكان أنس إذا مسح رجليه بلهما، وروي أيضا عن أنس أنه قال: نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل وكان عكرمة يمسح على رجليه وليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح.
وقال الشعبي: نزل جبريل بالمسح ثم قال: ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلا ويلغى ما كان مسحا وروي عن أبي جعفر أنه قال: امسح على رأسك وقدميك، وقال قتادة: افترض الله غسلتين ومسحتين، وكل من ذكرنا فقراءته «وأرجلكم» بكسر اللام، وبذلك قرأ علقمة والأعمش والضحاك وغيرهم، وذكرهم الطبري تحت ترجمة القول بالمسح، وذهب قوم ممن يقر بكسر اللام إلى أن المسح في «الرجلين» هو الغسل، وروي عن أبي زيد أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحا ويقولون تمسحت للصلاة بمعنى غسلت أعضائي، وقال أبو عبيدة وغيره في تفسير قوله تعالى: فَطَفِقَ مَسْحاً [ص: ٣٣] أنه الضرب، ويقال: مسح علاوته إذا ضربه، قال أبو علي: فهذا يقوي أن المراد بمسح الرجلين الغسل، ومن الدليل على أن مسح الرجلين يراد به الغسل أن الحد قد وقع فيهما ب إِلَى كما وقع في الأيدي وهي مغسولة ولم يقع في الممسوح حد.
قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا التأويل بترك الحد في الوجه فكان الوضوء مغسولين حد أحدهما وممسوحين حد أحدهما، وقال الطبري رحمه الله إن مسح الرجلين هو بإيصال الماء إليهما ثم
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة «وأرجلكم» خفضا وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأرجلكم نصبا، وروى أبو بكر عن عاصم الخفض، وروى عنه حفص النصب، وقرأ الحسن والأعمش «وأرجلكم» بالرفع المعنى فاغسلوها، ورويت عن نافع، وبحسب هذا اختلاف الصحابة والتابعين، فكل من قرأ بالنصب جعل العامل اغسلوا وبنى على أن الفرض في الرجلين الغسل بالماء دون المسح، وهنا هو الجمهور وعليه علم فعل النبي ﷺ وهو اللازم من قوله ﷺ وقد رأى قوما يتوضؤون وأعقابهم تلوح فنادى بأعلى صوته، «ويل للأعقاب من النار» ومن قرأ بالخفض جعل العامل أقرب العاملين، واختلفوا، فقالت فرقة منهم، الفرض في الرجلين المسح لا الغسل وروي عن ابن عباس أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان، وروي أن الحجاج خطب بالأهواز فذكر الوضوء فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه «فاغسلوا» بطونهما وظهورهما وعراقيبهما فسمع ذلك أنس بن مالك فقال صدق الله وكذب الحجاج قال الله تعالى:
وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ قال وكان أنس إذا مسح رجليه بلهما، وروي أيضا عن أنس أنه قال: نزل القرآن بالمسح والسنة بالغسل وكان عكرمة يمسح على رجليه وليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح.
وقال الشعبي: نزل جبريل بالمسح ثم قال: ألا ترى أن التيمم يمسح فيه ما كان غسلا ويلغى ما كان مسحا وروي عن أبي جعفر أنه قال: امسح على رأسك وقدميك، وقال قتادة: افترض الله غسلتين ومسحتين، وكل من ذكرنا فقراءته «وأرجلكم» بكسر اللام، وبذلك قرأ علقمة والأعمش والضحاك وغيرهم، وذكرهم الطبري تحت ترجمة القول بالمسح، وذهب قوم ممن يقر بكسر اللام إلى أن المسح في «الرجلين» هو الغسل، وروي عن أبي زيد أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحا ويقولون تمسحت للصلاة بمعنى غسلت أعضائي، وقال أبو عبيدة وغيره في تفسير قوله تعالى: فَطَفِقَ مَسْحاً [ص: ٣٣] أنه الضرب، ويقال: مسح علاوته إذا ضربه، قال أبو علي: فهذا يقوي أن المراد بمسح الرجلين الغسل، ومن الدليل على أن مسح الرجلين يراد به الغسل أن الحد قد وقع فيهما ب إِلَى كما وقع في الأيدي وهي مغسولة ولم يقع في الممسوح حد.
قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا التأويل بترك الحد في الوجه فكان الوضوء مغسولين حد أحدهما وممسوحين حد أحدهما، وقال الطبري رحمه الله إن مسح الرجلين هو بإيصال الماء إليهما ثم
163
يمسح بيديه بعد ذلك فيكون المرء غاسلا ماسحا، قال: ولذلك كره أكثر العلماء للمتوضىء أن يدخل رجليه في الماء دون أن يمر يديه.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقد جوز ذلك قوم منهم الحسن البصري وبعض فقهاء الأمصار. وجمهور الأمة من الصحابة والتابعين على أن الفرض في الرجلين الغسل وأن المسح لا يجزىء. وروي ذلك عن الضحاك وهو يقرأ بضم اللام، والكلام في قوله إِلَى الْكَعْبَيْنِ كما تقدم في قوله إِلَى الْمَرافِقِ. واختلف اللغويون في الْكَعْبَيْنِ فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي الرجل. وهذان هما حد الوضوء بإجماع فيما علمت، واختلف هل يدخلان في الغسل أم لا كما تقدم في المرفق. وقال قوم الكعب هو العظم الناتئ في وجه القدم حيث يجتمع شراك النعل.
قال القاضي أبو محمد: ولا أعلم أحدا جعل حد الوضوء إلى هذا ولكن عبد الوهاب في التلقين جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإبهام. قال الشافعي رحمه الله لم أعلم مخالفا في أن الْكَعْبَيْنِ هما العظمان في مجمع مفصل الساق، وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال: الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر ذلك من الآية من قوله في الأيدي إِلَى الْمَرافِقِ أي في كل يد مرفق ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب فلما كان في كل رجل كعبان خصا بالذكر، وألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء واختلف العلماء في ذلك فقال ابن أبي سلمة وابن وهب ذلك من فروض الوضوء في الذكر والنسيان، وقال ابن عبد الحكم ليس بفرض مع الذكر، وقال مالك هو فرض مع الذكر ساقط مع النسيان، وكذلك تتضمن ألفاظ الآية الترتيب واختلف فيه فقال الأبهري الترتيب سنة، وظاهر المذهب أن التنكيس للناسي مجزىء، واختلف في العامد فقيل: يجزىء ويرتب في المستقبل، وقال أبو بكر القاضي وغيره: لا يجزىء لأنه عابث.
وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً الجنب مأخوذ من الجنب لأنه يمس جنبه جنب امرأة في الأغلب، ومن المجاورة والقرب قيل وَالْجارِ الْجُنُبِ [النساء: ٣٦]، ويحتمل الجنب أن يكون من البعد إذ البعد جنابة ومنه تجنبت الشيء إذا بعدت عنه، فكأنه جانب الطهارة وعلى هذا يحتمل أن يكون الْجارِ الْجُنُبِ [النساء: ٣٦] هو البعيد الجوار ويكون مقابلا للصاحب بالجنب و «اطهروا» أمر بالاغتسال بالماء، ولذلك رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وغيرهما أن الجنب لا يتيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء، وقال جمهور الناس: بل هذه العبارة هي لواجد الماء، وقد ذكر الجنب أيضا بعد في أحكام عادم الماء بقوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ إذ الملامسة هنا الجماع، والطهور بالماء صفته أن يعم الجسد بالماء وتمر اليد مع ذلك عليه، هذا هو مشهور المذهب، وروى محمد بن مروان الظاهري وغيره عن مالك أنه يجزىء في غسل الجنابة أن ينغمس الرجل في الماء دون تدلك، وقد تقدم في سورة النساء تفسير قوله عز وجل: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى إلى قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ وقراءة من قرأ «من الغيط».
وقوله تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ الإرادة صفة ذات وجاء الفعل مستقبلا مراعاة
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقد جوز ذلك قوم منهم الحسن البصري وبعض فقهاء الأمصار. وجمهور الأمة من الصحابة والتابعين على أن الفرض في الرجلين الغسل وأن المسح لا يجزىء. وروي ذلك عن الضحاك وهو يقرأ بضم اللام، والكلام في قوله إِلَى الْكَعْبَيْنِ كما تقدم في قوله إِلَى الْمَرافِقِ. واختلف اللغويون في الْكَعْبَيْنِ فالجمهور على أنهما العظمان الناتئان في جنبي الرجل. وهذان هما حد الوضوء بإجماع فيما علمت، واختلف هل يدخلان في الغسل أم لا كما تقدم في المرفق. وقال قوم الكعب هو العظم الناتئ في وجه القدم حيث يجتمع شراك النعل.
قال القاضي أبو محمد: ولا أعلم أحدا جعل حد الوضوء إلى هذا ولكن عبد الوهاب في التلقين جاء في ذلك بلفظ فيه تخليط وإبهام. قال الشافعي رحمه الله لم أعلم مخالفا في أن الْكَعْبَيْنِ هما العظمان في مجمع مفصل الساق، وروى الطبري عن يونس عن أشهب عن مالك قال: الكعبان اللذان يجب الوضوء إليهما هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب وليس الكعب بالظاهر في وجه القدم.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر ذلك من الآية من قوله في الأيدي إِلَى الْمَرافِقِ أي في كل يد مرفق ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب فلما كان في كل رجل كعبان خصا بالذكر، وألفاظ الآية تقتضي الموالاة بين الأعضاء واختلف العلماء في ذلك فقال ابن أبي سلمة وابن وهب ذلك من فروض الوضوء في الذكر والنسيان، وقال ابن عبد الحكم ليس بفرض مع الذكر، وقال مالك هو فرض مع الذكر ساقط مع النسيان، وكذلك تتضمن ألفاظ الآية الترتيب واختلف فيه فقال الأبهري الترتيب سنة، وظاهر المذهب أن التنكيس للناسي مجزىء، واختلف في العامد فقيل: يجزىء ويرتب في المستقبل، وقال أبو بكر القاضي وغيره: لا يجزىء لأنه عابث.
وقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً الجنب مأخوذ من الجنب لأنه يمس جنبه جنب امرأة في الأغلب، ومن المجاورة والقرب قيل وَالْجارِ الْجُنُبِ [النساء: ٣٦]، ويحتمل الجنب أن يكون من البعد إذ البعد جنابة ومنه تجنبت الشيء إذا بعدت عنه، فكأنه جانب الطهارة وعلى هذا يحتمل أن يكون الْجارِ الْجُنُبِ [النساء: ٣٦] هو البعيد الجوار ويكون مقابلا للصاحب بالجنب و «اطهروا» أمر بالاغتسال بالماء، ولذلك رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن مسعود وغيرهما أن الجنب لا يتيمم البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء، وقال جمهور الناس: بل هذه العبارة هي لواجد الماء، وقد ذكر الجنب أيضا بعد في أحكام عادم الماء بقوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ إذ الملامسة هنا الجماع، والطهور بالماء صفته أن يعم الجسد بالماء وتمر اليد مع ذلك عليه، هذا هو مشهور المذهب، وروى محمد بن مروان الظاهري وغيره عن مالك أنه يجزىء في غسل الجنابة أن ينغمس الرجل في الماء دون تدلك، وقد تقدم في سورة النساء تفسير قوله عز وجل: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى إلى قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ وقراءة من قرأ «من الغيط».
وقوله تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ الإرادة صفة ذات وجاء الفعل مستقبلا مراعاة
164
للحوادث التي تظهر عن الإرادة فإنها تجيء مؤتنفة من تطهير المؤمنين وإتمام النعم عليهم، وتعدية أراد وما تصرف منه بهذه اللام عرف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر:
قال سيبويه وسألته رحمه الله عن هذا فقال، المعنى إرادتي لأنسى، ومن ذلك قول قيس بن سعد:
ويحتمل أن يكون في الكلام مفعول محذوف تتعلق به اللام وما قال الخليل لسيبويه أخصر وأحسن، ويعترض هذا الاحتمال في المفعول المحذوف بأن من تصير زائدة في الواجب وينفصل بأن قوة النفي الذي في صدر الكلام يشفع لزيادة من وإن لم يكن النفي واقعا على الفعل الواقع على الحرج، ولهذا نظائر، والحرج الضيق، والحرجة الشجر الملتف المتضايق، ومنه قيل يوم بدر في أبي جهل إنه كان في مثل الحرج من الرماح ويجري مع معنى هذه الآية قول النبي ﷺ «دين الله يسر» وقوله «بعثت بالحنيفية السمحة». وجاء لفظ الآية على العموم والشيء المذكور بقرب هو أمر التيمم والرخصة فيه وزوال الحرج في تحمل الماء أبدا ولذلك قال أسيد: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
وقوله تعالى: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ الآية، إعلام بما لا يوازى بشكر من عظيم تفضله تبارك وتعالى، ولَعَلَّكُمْ: ترجّ في حق البشر، وقرأ سعيد بن المسيب «يطهركم» بسكون الطاء وتخفيف الهاء.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧ الى ٨]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨)
الخطاب بقوله: وَاذْكُرُوا إلى آخر الآية هو للمؤمنين بمحمد ﷺ ونِعْمَةَ اللَّهِ اسم جنس يجمع الإسلام وجمع الكلمة وعزة الحياة وغنى المال وحسن المآل، هذه كلها نعم هذه الملة، والميثاق المذكور هو ما وقع للنبي ﷺ في بيعات العقبة وبيعة الرضوان وكل موطن قال الناس فيه سمعنا وأطعنا هذا قول ابن عباس والسدي وجماعة من المفسرين. وقال مجاهد: الميثاق المذكور هو المأخوذ على النسم حين استخرجوا من ظهر آدم، والقول الأول أرجح وأليق بنمط الكلام.
ثم أمر تعالى المؤمنين بالقيام دأبا متكررا بالقسط وهو العدل، وقد تقدم نظير هذا في سورة النساء وتقدم في صدر هذه السورة نظير قوله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [المائدة: ٢] وباقي الآية بيّن متكرر والله المعين.
أريد لأنسى ذكرها فكأنما | تمثل لي ليلى بكل سبيل |
أردت لكيما يعلم الناس أنها | سراويل قيس والوفود شهود |
وقوله تعالى: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ الآية، إعلام بما لا يوازى بشكر من عظيم تفضله تبارك وتعالى، ولَعَلَّكُمْ: ترجّ في حق البشر، وقرأ سعيد بن المسيب «يطهركم» بسكون الطاء وتخفيف الهاء.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧ الى ٨]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨)
الخطاب بقوله: وَاذْكُرُوا إلى آخر الآية هو للمؤمنين بمحمد ﷺ ونِعْمَةَ اللَّهِ اسم جنس يجمع الإسلام وجمع الكلمة وعزة الحياة وغنى المال وحسن المآل، هذه كلها نعم هذه الملة، والميثاق المذكور هو ما وقع للنبي ﷺ في بيعات العقبة وبيعة الرضوان وكل موطن قال الناس فيه سمعنا وأطعنا هذا قول ابن عباس والسدي وجماعة من المفسرين. وقال مجاهد: الميثاق المذكور هو المأخوذ على النسم حين استخرجوا من ظهر آدم، والقول الأول أرجح وأليق بنمط الكلام.
ثم أمر تعالى المؤمنين بالقيام دأبا متكررا بالقسط وهو العدل، وقد تقدم نظير هذا في سورة النساء وتقدم في صدر هذه السورة نظير قوله: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [المائدة: ٢] وباقي الآية بيّن متكرر والله المعين.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩ الى ١١]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
هذه آية وعد للمؤمنين بستر الذنوب عليهم وبالجنة فهي الأجر العظيم، ووَعَدَ يتعدى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما، وكذلك هو في هذه الآية، فالمفعول الثاني مقدر يفسره ويدل عليه قوله تعالى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ثم عقب تعالى بذكر حال الكفار ليبين الفرق.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية خطاب للنبي ﷺ وأمته، والنعمة هي العاملة في إذ وهي نعمة مخصوصة، وهم الرجل بالشيء إذا أراد فعله، ومنه قول الشاعر:
ومنه قول الآخر:
واختلف الناس في سبب هذه الآية وما النازلة التي وقع فيها الهم ببسط اليد والكف من الله تعالى؟
فقال الجمهور: إن سبب هذه الآية أنه لما قتل أهل بئر معونة نجا من القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل آخر معه، فلقيا بقرب المدينة رجلين من سليم قد كانا أخذا عهدا من النبي ﷺ وانصرفا، فسألهما عمرو ممن أنتما؟ فانتسبا إلى بني عامر بن الطفيل وهو كان الجاني على المسلمين في بئر معونة، فقتلهما عمرو وصاحبه وأتيا بسلبهما النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لقد قتلتما قتيلين لأدينهما ثم شرع رسول الله ﷺ في جمع الدية فذهب يوما إلى بني النضير يستعينهم في الدية ومعه أبو بكر وعمر وعلي. فكلمهم فقالوا: نعم يا أبا القاسم انزل حتى نصنع لك طعاما وننظر في معونتك، فنزل رسول الله ﷺ في ظل جدار فتآمروا بينهم في قتله، وقالوا ما ظفرتم بمحمد قط أقرب مراما منه اليوم، فقال بعضهم لبعض من رجل يظهر على الحائط فيصب عليه حجرا يشدخه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش فيما روي، وجاء جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقام رسول الله من المكان وتوجه إلى المدينة ونزلت الآية في ذلك، وفي الخبر زوائد لا تخص الآية وقد ذكره ابن إسحاق وغيره، وهذا القول يترجح بما يأتي بعد من الآيات في وصف غدر بني إسرائيل ونقضهم المواثيق، وقالت جماعة من العلماء: سبب الآية فعل الأعرابي في غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة النبي ﷺ بني محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان، وذلك أنه نزل بواد كثير العضاه، فتفرق الناس في الظلال وتركت للنبي ﷺ شجرة ظليلة، فعلق سيفه بها ونام فجاء رجل
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩ الى ١١]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١)
هذه آية وعد للمؤمنين بستر الذنوب عليهم وبالجنة فهي الأجر العظيم، ووَعَدَ يتعدى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما، وكذلك هو في هذه الآية، فالمفعول الثاني مقدر يفسره ويدل عليه قوله تعالى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ثم عقب تعالى بذكر حال الكفار ليبين الفرق.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية خطاب للنبي ﷺ وأمته، والنعمة هي العاملة في إذ وهي نعمة مخصوصة، وهم الرجل بالشيء إذا أراد فعله، ومنه قول الشاعر:
هل ينفعنك اليوم أن همت بهم | كثرة ما توصي وتعقاد الرتم |
هممت ولم أفعل وكدت وليتني | تركت على عثمان تبكي حلائله |
فقال الجمهور: إن سبب هذه الآية أنه لما قتل أهل بئر معونة نجا من القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل آخر معه، فلقيا بقرب المدينة رجلين من سليم قد كانا أخذا عهدا من النبي ﷺ وانصرفا، فسألهما عمرو ممن أنتما؟ فانتسبا إلى بني عامر بن الطفيل وهو كان الجاني على المسلمين في بئر معونة، فقتلهما عمرو وصاحبه وأتيا بسلبهما النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لقد قتلتما قتيلين لأدينهما ثم شرع رسول الله ﷺ في جمع الدية فذهب يوما إلى بني النضير يستعينهم في الدية ومعه أبو بكر وعمر وعلي. فكلمهم فقالوا: نعم يا أبا القاسم انزل حتى نصنع لك طعاما وننظر في معونتك، فنزل رسول الله ﷺ في ظل جدار فتآمروا بينهم في قتله، وقالوا ما ظفرتم بمحمد قط أقرب مراما منه اليوم، فقال بعضهم لبعض من رجل يظهر على الحائط فيصب عليه حجرا يشدخه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش فيما روي، وجاء جبريل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقام رسول الله من المكان وتوجه إلى المدينة ونزلت الآية في ذلك، وفي الخبر زوائد لا تخص الآية وقد ذكره ابن إسحاق وغيره، وهذا القول يترجح بما يأتي بعد من الآيات في وصف غدر بني إسرائيل ونقضهم المواثيق، وقالت جماعة من العلماء: سبب الآية فعل الأعرابي في غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة النبي ﷺ بني محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان، وذلك أنه نزل بواد كثير العضاه، فتفرق الناس في الظلال وتركت للنبي ﷺ شجرة ظليلة، فعلق سيفه بها ونام فجاء رجل
من محارب فاخترط السيف فانتبه النبي ﷺ والسيف صلت في يده، فقال للنبي ﷺ أتخافني؟ فقال لا، فقال له ومن يمنعك مني، فقال: الله، فشام السيف في غمده وجلس، وفي البخاري أن النبي ﷺ دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي ﷺ ولم يعاقبه، وذكر الواقدي وابن أبي حاتم عن أبيه أنه أسلم، وذكر قوم أنه ضرب برأسه في ساق الشجرة حتى مات، فنزلت الآية بسبب ذلك، وفي البخاري في غزوة ذات الرقاع أن اسم الرجل غورث بن الحارث بالغين منقوطة، وحكى بعض الناس أن اسمه دعثور بن الحارث وحكى الطبري أن الآية نزلت بسبب قوم من اليهود أرادوا قتل النبي ﷺ في طعام، فأشعره الله بذلك، ثم أدخل الطبري تحت هذه الترجمة عن ابن عباس خلاف ما ترجم به من أن قوما من اليهود صنعوا للنبي ﷺ وأصحابه طعاما ليقتلوه إذا أتى الطعام.
قال القاضي أبو محمد: فيشبه أن ابن عباس إنما وصف قصة بني النضير المتقدمة، وقال قتادة: سبب الآية ما همت به محارب وبنو ثعلبة يوم ذات الرقاع من الحمل على المسلمين في صلاة العصر، فأشعره الله تعالى بذلك ونزلت صلاة الخوف، فذلك كف أيديهم عن المسلمين، وحكى ابن فورك عن الحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت بسبب أن قريشا بعثت إلى النبي ﷺ رجلا ليغتاله ويقتله.
فأطلعه الله تعالى على ذلك وكفاه شره.
قال القاضي أبو محمد: والمحفوظ في هذا هو نهوض عمير بن وهب لهذا المعنى بعد اتفاقه على ذلك مع صفوان بن أمية والحديث بكماله في سيرة ابن هشام، وذكر قوم من المفسرين وأشار إليه الزجاج أن الآية نزلت في قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ [المائدة: ٣] فكأنه تعالى عدد على المؤمنين نعمه في أن أظهرهم وكف بذلك أيدي الكفار عنهم التي كانوا هموا ببسطها إلى المؤمنين.
قال القاضي أبو محمد: ويحسن على هذا القول أن تكون الآية نزلت عقب غزوة الخندق وحين هزم الله الأحزاب وكفى الله المؤمنين القتال، وباقي الآية أمر بالتقوى والتوكل.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٢]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢)
هذه الآيات المتضمنة الخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى تقوي أن الآية المتقدمة في كف الأيدي إنما كانت في أمر بني النضير، واختلف المفسرون في كيفية بعثة هؤلاء النقباء بعد الإجماع على أن النقيب كبير القوم القائم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها، والنقاب الرجل العظيم الذي هو في الناس
قال القاضي أبو محمد: فيشبه أن ابن عباس إنما وصف قصة بني النضير المتقدمة، وقال قتادة: سبب الآية ما همت به محارب وبنو ثعلبة يوم ذات الرقاع من الحمل على المسلمين في صلاة العصر، فأشعره الله تعالى بذلك ونزلت صلاة الخوف، فذلك كف أيديهم عن المسلمين، وحكى ابن فورك عن الحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت بسبب أن قريشا بعثت إلى النبي ﷺ رجلا ليغتاله ويقتله.
فأطلعه الله تعالى على ذلك وكفاه شره.
قال القاضي أبو محمد: والمحفوظ في هذا هو نهوض عمير بن وهب لهذا المعنى بعد اتفاقه على ذلك مع صفوان بن أمية والحديث بكماله في سيرة ابن هشام، وذكر قوم من المفسرين وأشار إليه الزجاج أن الآية نزلت في قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ [المائدة: ٣] فكأنه تعالى عدد على المؤمنين نعمه في أن أظهرهم وكف بذلك أيدي الكفار عنهم التي كانوا هموا ببسطها إلى المؤمنين.
قال القاضي أبو محمد: ويحسن على هذا القول أن تكون الآية نزلت عقب غزوة الخندق وحين هزم الله الأحزاب وكفى الله المؤمنين القتال، وباقي الآية أمر بالتقوى والتوكل.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٢]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢)
هذه الآيات المتضمنة الخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى تقوي أن الآية المتقدمة في كف الأيدي إنما كانت في أمر بني النضير، واختلف المفسرون في كيفية بعثة هؤلاء النقباء بعد الإجماع على أن النقيب كبير القوم القائم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها، والنقاب الرجل العظيم الذي هو في الناس
167
كلهم على هذه الطريقة ومنه قيل في عمر: إنه كان لنقابا، فالنقباء قوم كبار من كل سبط تكفل كل واحد بسبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله تعالى.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ونحو هذا كان النقباء ليلة بيعة العقبة مع محمد صلى الله عليه وسلم، وهي العقبة الثالثة بايع فيها سبعون رجلا وامرأتان فاختار رسول الله ﷺ من السبعين اثني عشر رجلا وسماهم النقباء، وقال الربيع والسدي وغيرهما إنما بعث النقباء من بني إسرائيل أمناء على الاطلاع على الجبارين والسبر لقوتهم ومنعتهم فساروا حتى لقيهم رجل من الجبارين فأخذهم جميعا فجعلهم في حجزته.
قال القاضي أبو محمد: في قصص طويل ضعيف مقتضاه أنهم اطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة وظنوا أنهم لا قبل لهم بهم فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل وأن يعلموا به موسى عليه السلام ليرى فيه أمر ربه فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم ومن وثقوه على سرهم ففشا الخبر حتى اعوج أمر بني إسرائيل وقالوا اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، وأسند الطبري عن ابن عباس قال: النقباء من بني إسرائيل بعثهم موسى لينظروا إلى مدينة الجبارين فذهبوا ونظروا فجاءوا بحبة من فاكهتهم وقر رجل فقالوا: اقدروا قدر قوة قوم هذه فاكهتهم فكان ذلك سبب فتنة بني إسرائيل ونكولهم، وذكر النقاش أن معنى قوله تعالى: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً أي ملكا وأن الآية تعديد نعمة الله عليهم في أن بعث لإصلاحهم هذا العدد من الملوك قال فما وفى منهم إلا خمسة داود عليه السلام وابنه سليمان وطالوت وحزقيا وابنه وكفر السبعة وبدلوا وقتلوا الأنبياء وخرج خلال الاثني عشر اثنان وثلاثون جبارا كلهم يأخذ الملك بالسيف ويعيث فيهم والضمير في مَعَكُمْ لبني إسرائيل جميعا ولهم كانت هذه المقالة وقال الربيع: بل الضمير للاثني عشر ولهم كانت هذه المقالة.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أرجح ومَعَكُمْ معناه بنصري وحياطتي وتأييدي واللام في قوله لَئِنْ هي المؤذنة بمجيء لام القسم ولام القسم هي قوله لَأُكَفِّرَنَّ والدليل على أن هذه اللام إنما هي مؤذنة أنها قد يستغنى عنها أحيانا ويتم الكلام دونها ولو كانت لام القسم لن يترتب ذلك، وإقامة الصلاة توفية شروطها والزَّكاةَ هنا شيء من المال كان مفروضا فيما قال بعض المفسرين ويحتمل أن يكون المعنى وأعطيتم من أنفسكم كل ما فيه زكاة لكم حسبما ندبتم إليه وقدم هذه على الإيمان تشريفا للصلاة والزكاة وإذ قد علم وتقرر أنه لا ينفع عمل إلا بإيمان، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «برسلي» ساكنة السين في كل القرآن. وَعَزَّرْتُمُوهُمْ معناه وقرتموهم وعظمتموهم ونصرتموهم ومنه قول الشاعر:
وقرأ عاصم الجحدري «وعزرتموهم» خفيفة الزاي حيث وقع وقرأ في سورة الفتح «وتعزوه» بفتح التاء وسكون العين وضم الزاي، وقد تقدم في سورة البقرة تفسير الإقراض، وتكفير السيئات تغطيتها بالمحو والإذهاب فهي استعارة وسَواءَ السَّبِيلِ وسطه ومنه سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٥٥] ومنه قول الأعرابي قد انقطع سوائي، وأوساط الطرق هي المعظم اللاحب منها، وسائر ما في الآية بيّن والله المستعان.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: ونحو هذا كان النقباء ليلة بيعة العقبة مع محمد صلى الله عليه وسلم، وهي العقبة الثالثة بايع فيها سبعون رجلا وامرأتان فاختار رسول الله ﷺ من السبعين اثني عشر رجلا وسماهم النقباء، وقال الربيع والسدي وغيرهما إنما بعث النقباء من بني إسرائيل أمناء على الاطلاع على الجبارين والسبر لقوتهم ومنعتهم فساروا حتى لقيهم رجل من الجبارين فأخذهم جميعا فجعلهم في حجزته.
قال القاضي أبو محمد: في قصص طويل ضعيف مقتضاه أنهم اطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة وظنوا أنهم لا قبل لهم بهم فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل وأن يعلموا به موسى عليه السلام ليرى فيه أمر ربه فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم ومن وثقوه على سرهم ففشا الخبر حتى اعوج أمر بني إسرائيل وقالوا اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون، وأسند الطبري عن ابن عباس قال: النقباء من بني إسرائيل بعثهم موسى لينظروا إلى مدينة الجبارين فذهبوا ونظروا فجاءوا بحبة من فاكهتهم وقر رجل فقالوا: اقدروا قدر قوة قوم هذه فاكهتهم فكان ذلك سبب فتنة بني إسرائيل ونكولهم، وذكر النقاش أن معنى قوله تعالى: وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً أي ملكا وأن الآية تعديد نعمة الله عليهم في أن بعث لإصلاحهم هذا العدد من الملوك قال فما وفى منهم إلا خمسة داود عليه السلام وابنه سليمان وطالوت وحزقيا وابنه وكفر السبعة وبدلوا وقتلوا الأنبياء وخرج خلال الاثني عشر اثنان وثلاثون جبارا كلهم يأخذ الملك بالسيف ويعيث فيهم والضمير في مَعَكُمْ لبني إسرائيل جميعا ولهم كانت هذه المقالة وقال الربيع: بل الضمير للاثني عشر ولهم كانت هذه المقالة.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول أرجح ومَعَكُمْ معناه بنصري وحياطتي وتأييدي واللام في قوله لَئِنْ هي المؤذنة بمجيء لام القسم ولام القسم هي قوله لَأُكَفِّرَنَّ والدليل على أن هذه اللام إنما هي مؤذنة أنها قد يستغنى عنها أحيانا ويتم الكلام دونها ولو كانت لام القسم لن يترتب ذلك، وإقامة الصلاة توفية شروطها والزَّكاةَ هنا شيء من المال كان مفروضا فيما قال بعض المفسرين ويحتمل أن يكون المعنى وأعطيتم من أنفسكم كل ما فيه زكاة لكم حسبما ندبتم إليه وقدم هذه على الإيمان تشريفا للصلاة والزكاة وإذ قد علم وتقرر أنه لا ينفع عمل إلا بإيمان، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «برسلي» ساكنة السين في كل القرآن. وَعَزَّرْتُمُوهُمْ معناه وقرتموهم وعظمتموهم ونصرتموهم ومنه قول الشاعر:
وكم من ماجد لهم كريم | ومن ليث يعزر في الندى |
168
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٣]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
يحتمل أن تكون «ما» زائدة والتقدير «فبنقضهم» ويحتمل أن تكون اسما نكرة أبدل منه النقض على بدل المعرفة من النكرة التقدير فبفعل هو نقضهم للميثاق وهذا هو المعنى في هذا التأويل، وقد تقدم في النساء نظير هذا ولَعَنَّاهُمْ معناه بعدناهم من الخير أجمعه وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «قاسية» بالألف وقرأ حمزة والكسائي «قسية» دون ألف وزنها فعيلة فحجة الأولى قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وقوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ [البقرة: ٧٤] والقسوة غلظ القلب ونبوه عن الرقة والموعظة وصلابته حتى لا ينفعل لخير ومن قرأ قسية فهو من هذا المعنى فعيلة بمعنى فاعلة كشاهد وشهيد وغير ذلك من الأمثلة، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا «قسية» ليست من معنى القسوة وإنما هي كالقسي من الدراهم وهي التي خالطها غش وتدليس فكذا القلوب لم تصف للإيمان بل خالطها الكفر والفساد ومن ذلك قول أبي زبيد:
ومنه قول الآخر:
قال أبو علي: هذه اللفظة معربة وليست بأصل في كلام العرب، واختلف العلماء في معنى قوله:
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ فقال قوم منهم ابن عباس، تحريفهم هو بالتأويل ولا قدرة لهم على تبديل الألفاظ في التوراة ولا يتمكن لهم ذلك ويدل على ذلك بقاء آية الرجم واحتياجهم إلى أن يضع القارئ يده عليها، وقالت فرقة: بل حرفوا الكلام وبدلوه أيضا وفعلوا الأمرين جميعا بحسب ما أمكنهم.
قال القاضي أبو محمد: وألفاظ القرآن تحتمل المعنيين فقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة: ٧٩] يقتضي التبديل. ولا شك أنهم فعلوا الأمرين. وقرأ جمهور الناس «الكلم» بفتح الكاف وكسر اللام وقرأ أبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي «الكلام» بالألف، وقرأ أبو رجاء. «الكلم» بكسر الكاف وسكون اللام، وقوله تعالى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ نص على سوء فعلهم بأنفسهم أي قد كان لهم حظ عظيم فيما ذكروا به فنسوه وتركوه، ثم أخبر تعالى نبيه عليه السلام أنه لا يزال في مؤتنف الزمان يطلع عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ وغائلة وأمور فاسدة، واختلف الناس في معنى خائِنَةٍ في هذا الموضع فقالت فرقة خائِنَةٍ مصدر كالعاقبة وكقوله تعالى: فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة: ٥] فالمعنى على خيانة، وقال آخرون معناه على فرقة خائنة فهي اسم فاعل صفة المؤنث، وقال آخرون المعنى على خائن فزيدت الهاء للمبالغة كعلامة ونسابة ومنه قول الشاعر:
[سورة المائدة (٥) : آية ١٣]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣)
يحتمل أن تكون «ما» زائدة والتقدير «فبنقضهم» ويحتمل أن تكون اسما نكرة أبدل منه النقض على بدل المعرفة من النكرة التقدير فبفعل هو نقضهم للميثاق وهذا هو المعنى في هذا التأويل، وقد تقدم في النساء نظير هذا ولَعَنَّاهُمْ معناه بعدناهم من الخير أجمعه وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو وابن عامر «قاسية» بالألف وقرأ حمزة والكسائي «قسية» دون ألف وزنها فعيلة فحجة الأولى قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وقوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ [البقرة: ٧٤] والقسوة غلظ القلب ونبوه عن الرقة والموعظة وصلابته حتى لا ينفعل لخير ومن قرأ قسية فهو من هذا المعنى فعيلة بمعنى فاعلة كشاهد وشهيد وغير ذلك من الأمثلة، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا «قسية» ليست من معنى القسوة وإنما هي كالقسي من الدراهم وهي التي خالطها غش وتدليس فكذا القلوب لم تصف للإيمان بل خالطها الكفر والفساد ومن ذلك قول أبي زبيد:
لها صواهل في صم السلام كما | صاح القسيات في أيدي الصياريف |
فما زوداني غير سحق عمامة | وخمس مئي منها قسي وزائف |
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ فقال قوم منهم ابن عباس، تحريفهم هو بالتأويل ولا قدرة لهم على تبديل الألفاظ في التوراة ولا يتمكن لهم ذلك ويدل على ذلك بقاء آية الرجم واحتياجهم إلى أن يضع القارئ يده عليها، وقالت فرقة: بل حرفوا الكلام وبدلوه أيضا وفعلوا الأمرين جميعا بحسب ما أمكنهم.
قال القاضي أبو محمد: وألفاظ القرآن تحتمل المعنيين فقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ [البقرة: ٧٩] يقتضي التبديل. ولا شك أنهم فعلوا الأمرين. وقرأ جمهور الناس «الكلم» بفتح الكاف وكسر اللام وقرأ أبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي «الكلام» بالألف، وقرأ أبو رجاء. «الكلم» بكسر الكاف وسكون اللام، وقوله تعالى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ نص على سوء فعلهم بأنفسهم أي قد كان لهم حظ عظيم فيما ذكروا به فنسوه وتركوه، ثم أخبر تعالى نبيه عليه السلام أنه لا يزال في مؤتنف الزمان يطلع عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ وغائلة وأمور فاسدة، واختلف الناس في معنى خائِنَةٍ في هذا الموضع فقالت فرقة خائِنَةٍ مصدر كالعاقبة وكقوله تعالى: فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة: ٥] فالمعنى على خيانة، وقال آخرون معناه على فرقة خائنة فهي اسم فاعل صفة المؤنث، وقال آخرون المعنى على خائن فزيدت الهاء للمبالغة كعلامة ونسابة ومنه قول الشاعر:
حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن | للغدر خائنة مغل الإصبع |
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٤ الى ١٥]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥)
مِنَ متعلقة ب أَخَذْنا التقدير: وأخذنا من الذين قالوا إنّا نصارى ميثاقهم، ويحتمل أن يكون قوله وَمِنَ معطوفا على قوله خائِنَةٍ مِنْهُمْ [المائدة: ١٣]، ويكون قوله أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ ابتداء خبر عنهم. والأول أرجح. وعلق كونهم نصارى بقولهم ودعواهم، من حيث هو اسم شرعي يقتضي نصر دين الله، وسموا به أنفسهم دون استحقاق ولا مشابهة بين فعلهم وقولهم، فجاءت هذه العبارة موبخة لهم مزحزحة عن طريق نصر دين الله وأنبيائه، وقوله تعالى: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ معناه أثبتناها بينهم وألصقناها، والإغراء مأخوذ من الغراء الذي يلصق به، والضمير في بَيْنَهُمُ يحتمل أن يعود على اليهود والنصارى لأن العداوة بينهم، موجودة مستمرة، ويحتمل أن يعود على النصارى فقط لأنها أمة متقاتلة بينها الفتن إلى يوم القيامة، ثم توعدهم الله تعالى بعقاب الآخرة إذ أنباؤهم بصنعهم إنما هو تقرير وتوبيخ للعذاب، إذ صنعهم كفر يوجب الخلود في النار.
وقوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لفظ يعم اليهود والنصارى ولكن نوازل الإخفاء كالرحم وغيره إنما حفظت لليهود، لأنهم كانوا مجاوري رسول الله ﷺ في مهاجره، وقال محمد بن كعب القرظي: أول ما نزل من هذه السورة هاتان الآيتان في شأن اليهود والنصارى، ثم نزل سائر السورة بعرفة في حجة الوداع وقوله: رَسُولُنا يعني محمدا صلى الله عليه وسلم، وفي الآية الدلالة على صحة نبوته. لأن إعلامه بخفيّ ما في كتبهم وهو أمي لا يقرأ ولا يصحب القراءة دليل على أن ذلك إنما يأتيه من عند الله تبارك وتعالى، وأشهر النوازل التي أخفوها فأظهرها الله على لسان نبيه أمر الرجم، وحديثه مشهور. ومن ذلك صفات محمد ﷺ إلى غير ذلك. ومِنَ الْكِتابِ يعني من التوراة وقوله: وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ معناه ويترك كثيرا لا يفضحكم فيه إبقاء عليكم. وهذا المتروك هو في معنى افتخارهم ووصفهم أيام الله قبلهم ونحو ذلك مما لا يتعين في ملة الإسلام فضحهم فيه وتكذيبهم، والفاعل في يَعْفُوَ هو محمد صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يستند الفعل إلى الله تعالى وإذا كان العفو من النبي عليه السلام فبأمر ربه، وإن كان من الله تعالى فعلى لسان نبيه عليه السلام، والاحتمالان قريب بعضهما من بعض.
قوله عز وجل: نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يحتمل أن يريد محمدا ﷺ والقرآن، وهذا هو ظاهر الألفاظ، ويحتمل أن يريد موسى عليه السلام والتوراة، أي ولو اتبعتموها حق الاتباع لآمنتم بمحمد، إذ هي آمرة بذلك مبشرة به قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٦ الى ١٧]
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
وقرأ عبيد بن عمير والزهري وسلام وحميد ومسلم بن جندب «به الله» بضم الهاء حيث وقع مثله، واتَّبَعَ رِضْوانَهُ معناه بالتكسب والنية والإقبال عليه، والسبل الطرق، والقراءة في «رضوان» بضم الراء وبكسرها وهما لغتان، وقد تقدم ذكر ذلك وقرأ ابن شهاب والحسن بن أبي الحسن «سبل» ساكنة الباء. والسَّلامِ في هذه الآية يحتمل أن يكون اسما من أسماء الله تعالى، فالمعنى طرق الله تعالى التي أمر بها عباده وشرعها لهم، ويحتمل أن يكون مصدرا كالسلامة فالمعنى طرق النجاة والسلامة من النار. وقوله تعالى: وَيُخْرِجُهُمْ يعني المتبعين الرضوان، فالضمير على معنى من لا على لفظها، والظُّلُماتِ الكفر، والنُّورِ الإيمان، وقوله تعالى: بِإِذْنِهِ أي يمكنهم من أقوال الإيمان وأفعاله، ويعلم فعلهم لذلك والتزامهم إياه، فهذا هو حد الإذن، العلم بالشيء والتمكين منه، وقد تقدم شرحه في سورة البقرة والصراط المستقيم هو دين الله وتوحيده وما تركب عليه من شرعه.
ثم أخبر تعالى بكفر النصارى القائلين بأن الله هو المسيح، وهذه فرقة من النصارى وكل فرقهم على اختلاف أقوالهم يجعل للمسيح عليه السلام حظا من الألوهية، وقد تقدم القول في لفظ الْمَسِيحُ في سورة آل عمران، ثم رد عليهم تعالى قوله لنبيه: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لا مالك ولا رادّ لإرادة الله تعالى في المسيح ولا في غيره فهذا مما تقضي العقول معه أن من تنفذ الإرادة فيه ليس بإله، ثم قرر تعالى ملكه في السموات والأرض وما بينهما فحصل المسيح عليه السلام أقل أجزاء ملك الله تعالى، وقوله تعالى: يَخْلُقُ ما يَشاءُ إشارة إلى خلقه المسيح في رحم مريم من غير والد. بل اختراعا كآدم عليه السلام، وقد تقدم في آل عمران الفرق بين قوله تعالى في قصة زكرياء يَفْعَلُ ما يَشاءُ [آل عمران: ٤٠] وفي قصة مريم يَخْلُقُ ما يَشاءُ وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عموم معناه الخصوص في ما عدا الذات والصفات والمحالات، والشيء في اللغة هو الموجود.
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٦ الى ١٧]
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧)
وقرأ عبيد بن عمير والزهري وسلام وحميد ومسلم بن جندب «به الله» بضم الهاء حيث وقع مثله، واتَّبَعَ رِضْوانَهُ معناه بالتكسب والنية والإقبال عليه، والسبل الطرق، والقراءة في «رضوان» بضم الراء وبكسرها وهما لغتان، وقد تقدم ذكر ذلك وقرأ ابن شهاب والحسن بن أبي الحسن «سبل» ساكنة الباء. والسَّلامِ في هذه الآية يحتمل أن يكون اسما من أسماء الله تعالى، فالمعنى طرق الله تعالى التي أمر بها عباده وشرعها لهم، ويحتمل أن يكون مصدرا كالسلامة فالمعنى طرق النجاة والسلامة من النار. وقوله تعالى: وَيُخْرِجُهُمْ يعني المتبعين الرضوان، فالضمير على معنى من لا على لفظها، والظُّلُماتِ الكفر، والنُّورِ الإيمان، وقوله تعالى: بِإِذْنِهِ أي يمكنهم من أقوال الإيمان وأفعاله، ويعلم فعلهم لذلك والتزامهم إياه، فهذا هو حد الإذن، العلم بالشيء والتمكين منه، وقد تقدم شرحه في سورة البقرة والصراط المستقيم هو دين الله وتوحيده وما تركب عليه من شرعه.
ثم أخبر تعالى بكفر النصارى القائلين بأن الله هو المسيح، وهذه فرقة من النصارى وكل فرقهم على اختلاف أقوالهم يجعل للمسيح عليه السلام حظا من الألوهية، وقد تقدم القول في لفظ الْمَسِيحُ في سورة آل عمران، ثم رد عليهم تعالى قوله لنبيه: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لا مالك ولا رادّ لإرادة الله تعالى في المسيح ولا في غيره فهذا مما تقضي العقول معه أن من تنفذ الإرادة فيه ليس بإله، ثم قرر تعالى ملكه في السموات والأرض وما بينهما فحصل المسيح عليه السلام أقل أجزاء ملك الله تعالى، وقوله تعالى: يَخْلُقُ ما يَشاءُ إشارة إلى خلقه المسيح في رحم مريم من غير والد. بل اختراعا كآدم عليه السلام، وقد تقدم في آل عمران الفرق بين قوله تعالى في قصة زكرياء يَفْعَلُ ما يَشاءُ [آل عمران: ٤٠] وفي قصة مريم يَخْلُقُ ما يَشاءُ وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عموم معناه الخصوص في ما عدا الذات والصفات والمحالات، والشيء في اللغة هو الموجود.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٨ الى ١٩]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
في الكلام لف وإيجاز يحال المستمع على تفريقه بذهنه وذلك أن ظاهر اللفظ يقتضي أن جميع الْيَهُودُ وَالنَّصارى يقولون عن جميعهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وليس الأمر كذلك بل كل فرقة تقول خاصة نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. والبنوة في قولهم هذا بنوة الحنان والرأفة. وذكروا أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن أول أولادك بكري فضلوا بذلك. وقالوا نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ولو صح ما رووا لكان معناه بكرا في التشريف أو النبوة ونحوه، وأحباء جمع حبيب، وكانت هذه المقالة منهم عند ما دعاهم النبي ﷺ إلى الإيمان به وخوفهم العذاب، فقالوا نحن لا نخاف ما تقول لأننا أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وذكر ذلك ابن عباس، وقد كانوا قالوا للنبي ﷺ في غير ما موطن نحن ندخل النار فنقيم بها أربعين يوما ثم تخلفوننا فيها، فرد الله عليهم بقولهم فقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي لو كانت منزلتكم فوق منازل البشر لما عذبكم وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا على أن التعذيب هو بنار الآخرة، وقد تحتمل الآية أن يكون المراد ما كان الله تعالى «يعذبهم» به في الدنيا. وذلك أن بني إسرائيل كانوا إذا أصاب الرجل منهم خطيئة أصبح مكتوبا على بابه ذكر ذنبه وذكر عقوبته فينفذ ذلك عليه فهذا تعذيب في الدنيا على الذنوب ينافي أنهم أبناء وأحباء. ثم ترك الكلام الأول وأضرب عنه غيره مفسد له ودخل في غيره من تقرير كونهم بشرا كسائر الناس، والخلق أكرمهم أتقاهم، يهدي من يشاء للإيمان فيغفر له ويورط من يشاء في الكفر فيعذبه، وله ملك السماوات والأرض وما بينهما، فله بحق الملك أن يفعل ما شاء لا معقب لحكمه وإليه مصير العالم بالحشر والمعاد.
وقوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ خطاب لليهود والنصارى، والرسول في قوله: رَسُولُنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، أي على انقطاع من مجيئهم مدة ما، والفترة سكون بعد حركة في جرم، ويستعار ذلك في المعاني، وقد قال النبي ﷺ «لكل عمل شدة، ولكل شدة فترة»، وقال الشاعر:
وإني لتعروني لذكراك فترة
معناه سكون بعد اضطراب، واختلف الناس في قدر الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما فقال قتادة خمسمائة عام وستون عاما. وقال الضحاك أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة وفي
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٨ الى ١٩]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
في الكلام لف وإيجاز يحال المستمع على تفريقه بذهنه وذلك أن ظاهر اللفظ يقتضي أن جميع الْيَهُودُ وَالنَّصارى يقولون عن جميعهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وليس الأمر كذلك بل كل فرقة تقول خاصة نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ. والبنوة في قولهم هذا بنوة الحنان والرأفة. وذكروا أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن أول أولادك بكري فضلوا بذلك. وقالوا نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ولو صح ما رووا لكان معناه بكرا في التشريف أو النبوة ونحوه، وأحباء جمع حبيب، وكانت هذه المقالة منهم عند ما دعاهم النبي ﷺ إلى الإيمان به وخوفهم العذاب، فقالوا نحن لا نخاف ما تقول لأننا أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وذكر ذلك ابن عباس، وقد كانوا قالوا للنبي ﷺ في غير ما موطن نحن ندخل النار فنقيم بها أربعين يوما ثم تخلفوننا فيها، فرد الله عليهم بقولهم فقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي لو كانت منزلتكم فوق منازل البشر لما عذبكم وأنتم قد أقررتم أنه يعذبكم.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا على أن التعذيب هو بنار الآخرة، وقد تحتمل الآية أن يكون المراد ما كان الله تعالى «يعذبهم» به في الدنيا. وذلك أن بني إسرائيل كانوا إذا أصاب الرجل منهم خطيئة أصبح مكتوبا على بابه ذكر ذنبه وذكر عقوبته فينفذ ذلك عليه فهذا تعذيب في الدنيا على الذنوب ينافي أنهم أبناء وأحباء. ثم ترك الكلام الأول وأضرب عنه غيره مفسد له ودخل في غيره من تقرير كونهم بشرا كسائر الناس، والخلق أكرمهم أتقاهم، يهدي من يشاء للإيمان فيغفر له ويورط من يشاء في الكفر فيعذبه، وله ملك السماوات والأرض وما بينهما، فله بحق الملك أن يفعل ما شاء لا معقب لحكمه وإليه مصير العالم بالحشر والمعاد.
وقوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ خطاب لليهود والنصارى، والرسول في قوله: رَسُولُنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، أي على انقطاع من مجيئهم مدة ما، والفترة سكون بعد حركة في جرم، ويستعار ذلك في المعاني، وقد قال النبي ﷺ «لكل عمل شدة، ولكل شدة فترة»، وقال الشاعر:
وإني لتعروني لذكراك فترة
معناه سكون بعد اضطراب، واختلف الناس في قدر الفترة التي كانت بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما فقال قتادة خمسمائة عام وستون عاما. وقال الضحاك أربعمائة سنة وبضع وثلاثون سنة وفي
الصحيح أن الفترة بينهما ستمائة سنة. وهذه الآية نزلت بسبب قول اليهود: ما أنزل الله على بشر بعد موسى من شيء، قاله ابن عباس، وقوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا مفعول من أجله، المعنى حذار أن تقولوا محتجين يوم القيامة: ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فقد جاءكم وقامت الحجة عليكم، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو الهادي والمضل والمنعم والمعذب لا رب غيره.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢)
المعنى واذكر لهم يا محمد على جهة إعلامهم بغير كتبهم ليتحققوا نبوتك وينتظم في ذلك نعم الله عليهم وتلقيهم تلك النعم بالكفر وقلة الطاعة والإنابة. وقرأ ابن محيصن «يا قوم» بالرفع وكذلك حيث وقع من القرآن. وروي ذلك عن ابن كثير، ونِعْمَتَ اللَّهِ هنا اسم الجنس، ثم عدد عيون تلك النعم، والأنبياء الذين جعل فيهم أمرهم مشهور من لدن إسرائيل إلى زمان عيسى عليه السلام والأنبياء حاطة ومنقذون من النار وشرف في الدنيا والآخرة. وقوله: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً يحتمل معاني أحدها أن يعدد عليهم ملك من ملك من بني إسرائيل لأن الملوك شرف في الدنيا وحاطة من نوائبها، والمعنى الآخر: أن يريد استنقذكم من القبط الذين كانوا يستخدمونكم فصرتم أحرارا تملكون ولا تملكون، فهم ملوك بهذا الوجه وبنحو هذا فسر السدي وغيره. وقال قتادة إنما قال: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً لأنا كنا نتحدث أنهم أول من خدمه أحد من بني آدم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأن القبط كانوا يستخدمون بني إسرائيل. وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم كان يسخر بعضا مذ تناسلوا وكثروا، وإنما اختلفت الأمم في معنى التملك فقط. وقال عبد الله ابن عمرو بن العاصي والحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم من كان له مسكن وامرأة وخادم فهو ملك، وقيل من له مسكن لا يدخل عليه فيه إلا بإذن فهو ملك، وقوله تعالى: وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قال فيه أبو مالك وسعيد بن جبير: الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ضعيف، وقال جمهور المفسرين الخطاب هو من موسى عليه السلام لقومه، ثم اختلف المفسرون ماذا الذي أوتوا ولم يؤت أحد مثله؟ فقال مجاهد، المن والسلوى والحجر والغمام، وقال غيره: كثرة الأنبياء.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا في كثرة الأنبياء فالعالمون على العموم والإطلاق، وعلى القول بأن المؤتى هو آيات موسى فالعالمون مقيدون بالزمان الذي كانوا فيه، لأن أمة محمد قد أوتيت من آيات محمد عليه السلام أكثر من ذلك، قد ظلل رسول الله ﷺ بغمامة قبل مبعثه، وكلمته الحجارة والبهائم، وأقبلت إليه الشجرة وحن الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه وشبع كثير من الناس من
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢)
المعنى واذكر لهم يا محمد على جهة إعلامهم بغير كتبهم ليتحققوا نبوتك وينتظم في ذلك نعم الله عليهم وتلقيهم تلك النعم بالكفر وقلة الطاعة والإنابة. وقرأ ابن محيصن «يا قوم» بالرفع وكذلك حيث وقع من القرآن. وروي ذلك عن ابن كثير، ونِعْمَتَ اللَّهِ هنا اسم الجنس، ثم عدد عيون تلك النعم، والأنبياء الذين جعل فيهم أمرهم مشهور من لدن إسرائيل إلى زمان عيسى عليه السلام والأنبياء حاطة ومنقذون من النار وشرف في الدنيا والآخرة. وقوله: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً يحتمل معاني أحدها أن يعدد عليهم ملك من ملك من بني إسرائيل لأن الملوك شرف في الدنيا وحاطة من نوائبها، والمعنى الآخر: أن يريد استنقذكم من القبط الذين كانوا يستخدمونكم فصرتم أحرارا تملكون ولا تملكون، فهم ملوك بهذا الوجه وبنحو هذا فسر السدي وغيره. وقال قتادة إنما قال: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً لأنا كنا نتحدث أنهم أول من خدمه أحد من بني آدم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأن القبط كانوا يستخدمون بني إسرائيل. وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم كان يسخر بعضا مذ تناسلوا وكثروا، وإنما اختلفت الأمم في معنى التملك فقط. وقال عبد الله ابن عمرو بن العاصي والحسن بن أبي الحسن وجماعة من أهل العلم من كان له مسكن وامرأة وخادم فهو ملك، وقيل من له مسكن لا يدخل عليه فيه إلا بإذن فهو ملك، وقوله تعالى: وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قال فيه أبو مالك وسعيد بن جبير: الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا ضعيف، وقال جمهور المفسرين الخطاب هو من موسى عليه السلام لقومه، ثم اختلف المفسرون ماذا الذي أوتوا ولم يؤت أحد مثله؟ فقال مجاهد، المن والسلوى والحجر والغمام، وقال غيره: كثرة الأنبياء.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا في كثرة الأنبياء فالعالمون على العموم والإطلاق، وعلى القول بأن المؤتى هو آيات موسى فالعالمون مقيدون بالزمان الذي كانوا فيه، لأن أمة محمد قد أوتيت من آيات محمد عليه السلام أكثر من ذلك، قد ظلل رسول الله ﷺ بغمامة قبل مبعثه، وكلمته الحجارة والبهائم، وأقبلت إليه الشجرة وحن الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه وشبع كثير من الناس من
قليل الطعام ببركته، وانشق له القمر، وعاد العود سيفا، ورجع الحجر المعترض في الخندق رملا مهيلا.
قال القاضي أبو محمد: وهذه المقالة من موسى توطئة لنفوسهم حتى يتعزز ويأخذ الأمر بدخول أرض الجبارين بقوة، وتنفذ في ذلك نفوذ من أعزه الله ورفع شأنه، والْمُقَدَّسَةَ معناه المطهرة، وقال مجاهد: المباركة.
قال القاضي أبو محمد: والبركة تطهير من القحوط والجوع ونحوه. واختلف الناس في تعيينها، فقال ابن عباس ومجاهد هي الطور وما حوله، وقال قتادة: هي الشام، وقال ابن زيد: هي أريحا وقاله السدي وابن عباس أيضا، وقال قوم: هي الغوطة وفلسطين وبعض الأردن، قال الطبري: ولا يختلف أنها بين الفرات وعريش مصر.
قال القاضي أبو محمد: وتظاهرت الروايات أن دمشق هي قاعدة الجبارين، وقوله: «التي كتاب الله لكم» معناه التي «كتب الله» في قضائه وقدره أنها لكم ترثونها وتسكنونها مالكين لها، ولكن فتنتكم في دخولها بفرض قتال من فيها عليكم تمحيصا وتجربة، ثم حذرهم موسى عليه السلام الارتداد على الأدبار، وذلك الرجوع القهقهرى، ويحتمل أن يكون تولية الدبر والرجوع في الطريق الذي جيء منه، والخاسر:
الذي قد نقص حظه.
ثم ذكر عز وجل عن بني إسرائيل أنهم تعنتوا ونكصوا فقالوا إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ. والجبار فعال من الجبر كأنه لقوته وغشمه وبطشه يجبر الناس على إرادته، والنخلة الجبارة العالية التي لا تنال بيد، وكان من خبر الجبارين أنهم كانوا أهل قوة فلما بعث «موسى» الاثني عشر نقيبا مطلعين على أمر الجبارين وأحوالهم رأوا لهم قوة وبطشا وتخيلوا أن لا طاقة لهم بهم فجاؤوا بني إسرائيل ونقضوا العهد في أن أخبروهم بحال ال جَبَّارِينَ حسبما قدمناه في ذكر بعث النقباء، ولم يف منهم إلا يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، ثم إن بني إسرائيل كعوا وجبنوا وقالوا: كوننا عبيدا للقبط أسهل من قتال هؤلاء، وهم كثير منهم أن يقدموا رجلا على أنفسهم ويصير بهتم إلى أرض مصر مرتدين على الأعقاب، ونسوا أن الله تعالى إذا أيد الضعيف غلب القوي وأخبروا «موسى» أنهم لن يدخلوا الأرض ما دام الجبارون فيها، وطلبوا منه أن يخرج الله الجبارين بجند من عنده وحينئذ يدخل بنو إسرائيل.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٣ الى ٢٦]
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد «يخافون» بضم الياء. وقرأ الجمهور «يخافون» بفتح الياء،
قال القاضي أبو محمد: وهذه المقالة من موسى توطئة لنفوسهم حتى يتعزز ويأخذ الأمر بدخول أرض الجبارين بقوة، وتنفذ في ذلك نفوذ من أعزه الله ورفع شأنه، والْمُقَدَّسَةَ معناه المطهرة، وقال مجاهد: المباركة.
قال القاضي أبو محمد: والبركة تطهير من القحوط والجوع ونحوه. واختلف الناس في تعيينها، فقال ابن عباس ومجاهد هي الطور وما حوله، وقال قتادة: هي الشام، وقال ابن زيد: هي أريحا وقاله السدي وابن عباس أيضا، وقال قوم: هي الغوطة وفلسطين وبعض الأردن، قال الطبري: ولا يختلف أنها بين الفرات وعريش مصر.
قال القاضي أبو محمد: وتظاهرت الروايات أن دمشق هي قاعدة الجبارين، وقوله: «التي كتاب الله لكم» معناه التي «كتب الله» في قضائه وقدره أنها لكم ترثونها وتسكنونها مالكين لها، ولكن فتنتكم في دخولها بفرض قتال من فيها عليكم تمحيصا وتجربة، ثم حذرهم موسى عليه السلام الارتداد على الأدبار، وذلك الرجوع القهقهرى، ويحتمل أن يكون تولية الدبر والرجوع في الطريق الذي جيء منه، والخاسر:
الذي قد نقص حظه.
ثم ذكر عز وجل عن بني إسرائيل أنهم تعنتوا ونكصوا فقالوا إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ. والجبار فعال من الجبر كأنه لقوته وغشمه وبطشه يجبر الناس على إرادته، والنخلة الجبارة العالية التي لا تنال بيد، وكان من خبر الجبارين أنهم كانوا أهل قوة فلما بعث «موسى» الاثني عشر نقيبا مطلعين على أمر الجبارين وأحوالهم رأوا لهم قوة وبطشا وتخيلوا أن لا طاقة لهم بهم فجاؤوا بني إسرائيل ونقضوا العهد في أن أخبروهم بحال ال جَبَّارِينَ حسبما قدمناه في ذكر بعث النقباء، ولم يف منهم إلا يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، ثم إن بني إسرائيل كعوا وجبنوا وقالوا: كوننا عبيدا للقبط أسهل من قتال هؤلاء، وهم كثير منهم أن يقدموا رجلا على أنفسهم ويصير بهتم إلى أرض مصر مرتدين على الأعقاب، ونسوا أن الله تعالى إذا أيد الضعيف غلب القوي وأخبروا «موسى» أنهم لن يدخلوا الأرض ما دام الجبارون فيها، وطلبوا منه أن يخرج الله الجبارين بجند من عنده وحينئذ يدخل بنو إسرائيل.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٣ الى ٢٦]
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦)
قرأ ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد «يخافون» بضم الياء. وقرأ الجمهور «يخافون» بفتح الياء،
174
وقال أكثر المفسرين: الرجلان يوشع بن نون وهو ابن أخت موسى وكالب بن يوفنا، ويقال فيه كلاب، ويقال كالوث بثاء مثلثة ويقال في اسم أبيه يوفيا، وهو صهر «موسى» على أخته، قال الطبري: اسم زوجته مريم بنت عمران، ومعنى يَخافُونَ أي الله، وأنعم عليهما بالإيمان الصحيح وربط الجأش والثبوت في الحق، وقال قوم المعنى يخافون العدو لكن أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان والثبوت مع خوفهما، ويقوي التأويل الأول أن في قراءة ابن مسعود: «قال رجلان من الذين يخافون الله أنعم عليهما». وأما من قرأ بضم الياء فلقراءته ثلاثة معان، أحدها ما روي من أن الرجلين كانا من الجبارين آمنا بموسى واتبعاه، فكانا من القوم الذين يخافون لكن أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان بموسى فقالا نحن أعلم بقومنا، والمعنى الثاني أنهما يوشع وكالوث لكنهما من الذين يوقرون ويسمع كلامهم ويهابون لتقواهم وفضلهم. فهم «يخافون» بهذا الوجه.
والمعنى الثالث أن يكون الفعل من أخاف والمعنى من الذين يخافون بأوامر الله ونواهيه ووعيده وزجره، فيكون ذلك مدحا لهم على نحو المدح في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى [الحجرات: ٣] وقوله تعالى: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا صفة للرجلين، والباب هو باب مدينة الجبارين فيما ذكر المفسرون والمعنى اجتهدوا وكافحوا حتى تدخلوا الباب، وقوله: فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ ظن منهما ورجاء وقياس أي إنكم بذلك تفتون في أعضادهم ويقع الرعب في قلوبهم فتغلبونهم، وفي قراءة ابن مسعود «عليهما ويلكم ادخلوا». وقولهما: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يقتضي أنهما استرابا بإيمانهم حين رأياهم يعصون الرسول ويجبنون مع وعد الله تعالى لهم بالنصر.
ثم إن بني إسرائيل لجوا في عصيانهم وسمعوا من العشرة النقباء الجواسيس الذين خوفوهم أمر الجبارين ووصفوا لهم قوة الجبارين وعظم خلقهم فصمموا على خلاف أمر الله تعالى: وقالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ وهذه عبارة تقتضي كفرا، وذهب بعض الناس إلى أن المعنى اذهب أنت وربك يعينك وأن الكلام معصية لا كفر.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقولهم فَقاتِلا يقطع بهذا التأويل، وذكر النقاش عن بعض المفسرين أن المراد بالرب هنا هارون لأنه كان اسنّ من «موسى» وكان معظما في بني إسرائيل محببا لسعة خلقه ورحب صدره، فكأنهم قالوا اذهب أنت وكبيرك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل بعيد، وهارون إنما كان وزيرا لموسى وتابعا له في معنى الرسالة، ولكنه تأويل يخلص بني إسرائيل من الكفر، وذكر الطبري عن قتادة أنه قال: بلغنا أن رسول الله ﷺ لما عزم على قتال قريش في عام الحديبية، جمع العسكر وكلم الناس في ذلك فقال له المقداد بن الأسود: لسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هنا قاعدون».
لكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون. وذكر النقاش أن الأنصار قالت هذه المقالة للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وجميع هذا وهم، غلط قتادة رحمه الله في وقت النازلة، وغلط النقاش في قائل المقالة، والكلام إنما وقع في غزوة بدر حين نزل رسول الله ﷺ ذفران فكلم الناس
والمعنى الثالث أن يكون الفعل من أخاف والمعنى من الذين يخافون بأوامر الله ونواهيه ووعيده وزجره، فيكون ذلك مدحا لهم على نحو المدح في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى [الحجرات: ٣] وقوله تعالى: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا صفة للرجلين، والباب هو باب مدينة الجبارين فيما ذكر المفسرون والمعنى اجتهدوا وكافحوا حتى تدخلوا الباب، وقوله: فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ ظن منهما ورجاء وقياس أي إنكم بذلك تفتون في أعضادهم ويقع الرعب في قلوبهم فتغلبونهم، وفي قراءة ابن مسعود «عليهما ويلكم ادخلوا». وقولهما: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يقتضي أنهما استرابا بإيمانهم حين رأياهم يعصون الرسول ويجبنون مع وعد الله تعالى لهم بالنصر.
ثم إن بني إسرائيل لجوا في عصيانهم وسمعوا من العشرة النقباء الجواسيس الذين خوفوهم أمر الجبارين ووصفوا لهم قوة الجبارين وعظم خلقهم فصمموا على خلاف أمر الله تعالى: وقالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ وهذه عبارة تقتضي كفرا، وذهب بعض الناس إلى أن المعنى اذهب أنت وربك يعينك وأن الكلام معصية لا كفر.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقولهم فَقاتِلا يقطع بهذا التأويل، وذكر النقاش عن بعض المفسرين أن المراد بالرب هنا هارون لأنه كان اسنّ من «موسى» وكان معظما في بني إسرائيل محببا لسعة خلقه ورحب صدره، فكأنهم قالوا اذهب أنت وكبيرك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل بعيد، وهارون إنما كان وزيرا لموسى وتابعا له في معنى الرسالة، ولكنه تأويل يخلص بني إسرائيل من الكفر، وذكر الطبري عن قتادة أنه قال: بلغنا أن رسول الله ﷺ لما عزم على قتال قريش في عام الحديبية، جمع العسكر وكلم الناس في ذلك فقال له المقداد بن الأسود: لسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل «اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هنا قاعدون».
لكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون. وذكر النقاش أن الأنصار قالت هذه المقالة للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وجميع هذا وهم، غلط قتادة رحمه الله في وقت النازلة، وغلط النقاش في قائل المقالة، والكلام إنما وقع في غزوة بدر حين نزل رسول الله ﷺ ذفران فكلم الناس
175
وقال لهم: أشيروا عليّ أيها الناس، فقال له المقداد هذه المقالة في كلام طويل، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره، ثم تكلم من الأنصار سعد بن معاذ بنحو هذا المعنى ولكن سبقه المقداد إلى التمثيل بالآية.
قال القاضي أبو محمد: وتمثل المقداد بها وتقرير النبي ﷺ لذلك يقتضي أن الرب إنما أريد به الله تعالى، ويونس أيضا في إيمان بني إسرائيل، لأن المقداد قد قال: اذهب أنت وربك فقاتلا، وليس لكلامه معنى إلا أن الله تعالى يعينك ويقاتل معك ملائكته ونصره فعسى أن بني إسرائيل أرادت ذلك، أي اذهب أنت ويخرجهم الله بنصره وقدرته من المدينة وحينئذ ندخلها، لكن قبحت عبارتهم لاقتران النكول بها، وحسنت عبارة المقداد لاقتران الطاعة والإقدام بها.
ولما سمع موسى عليه السلام قولهم ورأى عصيانهم تبرأ إلى الله تعالى منهم، وقال داعيا عليهم:
رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي يعني هارون، وقوله: وَأَخِي يحتمل أن يكون إعرابه رفعا إما على الابتداء والتقدير وأخي لا يملك إلا نفسه، وإما على العطف على الضمير الذي في أَمْلِكُ تقديره لا أملك أنا، ويحتمل أن يكون إعرابه نصبا على العطف على نَفْسِي، وذلك لأن هارون كان يطيع «موسى» فلذلك أخبر أنه يملكه، وقرأ الحسن «إلا نفسي وأخي» بفتح الياء فيهما، وقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنا دعاء حرج، قال السدي، هي عجلة عجلها موسى عليه السلام، وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما: المعنى افصل بيننا وبينهم بحكم وافتح، فالمعنى احكم بحكم يفرق هذا الاختلاف ويلم الشعث.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا التأويل فليس في الدعاء عجلة، وقال قوم: المعنى «فافرق بيننا وبينهم» في الآخرة حتى تكون منزلة المطيع مفارقة لمنزلة العاصي الفاسق، ويحتمل الدعاء أن يكون معناه: «فرق بيننا وبينهم» بمعنى أن يقول فقدنا وجوههم «وفرق بيننا وبينهم» حتى لا نشقى بفسقهم، وبهذا الوجه تجيء العجلة في الدعاء، وقرأ عبيد بن عمير «فافرق» بكسر الراء.
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ المعنى قال الله، وأضمر الفاعل في هذه الأفعال كلها إيجازا لدلالة معنى الكلام على المراد، وحرم الله تعالى على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة أَرْبَعِينَ سَنَةً وتركهم خلالها يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي في أرض تلك النازلة، وهو فحص التيه وهو على ما يحكى طول ثمانين ميلا في عرض ستة فراسخ، وهو ما بين مصر والشام، ويروى أنه اتفق أنه مات كل من كان قال إنّا لن ندخلها أبدا، ولم يدخل المدينة أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالوث، ويروى أن هارون عليه السلام مات في فحص التيه في خلال هذه المدة ولم يختلف فيها، وروي أن «موسى» عليه السلام مات فيه بعد هارون بثمانية أعوام، وقيل بستة أشهر ونصف، وأن يوشع نبىء بعد كمال «الأربعين سنة». وخرج ببني إسرائيل وقاتل الجبارين وفتح المدينة، وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين، وروي أن «موسى» عليه السلام عاش حتى كملت الأربعون وخرج بالناس وحارب الجبارين ويوشع وكالب على مقدمته، وأنه فتح المدينة وقتل بيده عوج بن عناق، يقال كان في طول «موسى» عشرة أذرع وفي طول عصاه عشرة أذرع، ونزل من الأرض في السماء عشرة أذرع. وحينئذ لحق كعب عوج فضربه بعصاه في كعبه فخر صريعا، ويروى أن عوجا اقتلع صخرة ليطرحها على عسكر بني إسرائيل فبعث الله هدهدا بحجر الماس
قال القاضي أبو محمد: وتمثل المقداد بها وتقرير النبي ﷺ لذلك يقتضي أن الرب إنما أريد به الله تعالى، ويونس أيضا في إيمان بني إسرائيل، لأن المقداد قد قال: اذهب أنت وربك فقاتلا، وليس لكلامه معنى إلا أن الله تعالى يعينك ويقاتل معك ملائكته ونصره فعسى أن بني إسرائيل أرادت ذلك، أي اذهب أنت ويخرجهم الله بنصره وقدرته من المدينة وحينئذ ندخلها، لكن قبحت عبارتهم لاقتران النكول بها، وحسنت عبارة المقداد لاقتران الطاعة والإقدام بها.
ولما سمع موسى عليه السلام قولهم ورأى عصيانهم تبرأ إلى الله تعالى منهم، وقال داعيا عليهم:
رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي يعني هارون، وقوله: وَأَخِي يحتمل أن يكون إعرابه رفعا إما على الابتداء والتقدير وأخي لا يملك إلا نفسه، وإما على العطف على الضمير الذي في أَمْلِكُ تقديره لا أملك أنا، ويحتمل أن يكون إعرابه نصبا على العطف على نَفْسِي، وذلك لأن هارون كان يطيع «موسى» فلذلك أخبر أنه يملكه، وقرأ الحسن «إلا نفسي وأخي» بفتح الياء فيهما، وقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنا دعاء حرج، قال السدي، هي عجلة عجلها موسى عليه السلام، وقال ابن عباس والضحاك وغيرهما: المعنى افصل بيننا وبينهم بحكم وافتح، فالمعنى احكم بحكم يفرق هذا الاختلاف ويلم الشعث.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا التأويل فليس في الدعاء عجلة، وقال قوم: المعنى «فافرق بيننا وبينهم» في الآخرة حتى تكون منزلة المطيع مفارقة لمنزلة العاصي الفاسق، ويحتمل الدعاء أن يكون معناه: «فرق بيننا وبينهم» بمعنى أن يقول فقدنا وجوههم «وفرق بيننا وبينهم» حتى لا نشقى بفسقهم، وبهذا الوجه تجيء العجلة في الدعاء، وقرأ عبيد بن عمير «فافرق» بكسر الراء.
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ المعنى قال الله، وأضمر الفاعل في هذه الأفعال كلها إيجازا لدلالة معنى الكلام على المراد، وحرم الله تعالى على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة أَرْبَعِينَ سَنَةً وتركهم خلالها يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي في أرض تلك النازلة، وهو فحص التيه وهو على ما يحكى طول ثمانين ميلا في عرض ستة فراسخ، وهو ما بين مصر والشام، ويروى أنه اتفق أنه مات كل من كان قال إنّا لن ندخلها أبدا، ولم يدخل المدينة أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالوث، ويروى أن هارون عليه السلام مات في فحص التيه في خلال هذه المدة ولم يختلف فيها، وروي أن «موسى» عليه السلام مات فيه بعد هارون بثمانية أعوام، وقيل بستة أشهر ونصف، وأن يوشع نبىء بعد كمال «الأربعين سنة». وخرج ببني إسرائيل وقاتل الجبارين وفتح المدينة، وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين، وروي أن «موسى» عليه السلام عاش حتى كملت الأربعون وخرج بالناس وحارب الجبارين ويوشع وكالب على مقدمته، وأنه فتح المدينة وقتل بيده عوج بن عناق، يقال كان في طول «موسى» عشرة أذرع وفي طول عصاه عشرة أذرع، ونزل من الأرض في السماء عشرة أذرع. وحينئذ لحق كعب عوج فضربه بعصاه في كعبه فخر صريعا، ويروى أن عوجا اقتلع صخرة ليطرحها على عسكر بني إسرائيل فبعث الله هدهدا بحجر الماس
176
فأداره على الصخرة فتقورت ودخلت في عنق عوج، وضربه «موسى» فمات، وحكى الطبري أن طول عوج ثمانمائة ذراع، وحكي عن ابن عباس أنه قال لما خر كان جسرا على النيل سنة.
قال القاضي أبو محمد: والنيل ليس في تلك الأقطار وهذا كله ضعيف والله أعلم، وحكى الزجاج عن قوم أن «موسى» وهارون لم يكونا في التيه، والعامل في أَرْبَعِينَ يحتمل أن يكون مُحَرَّمَةٌ، أي حرمت عليهم أَرْبَعِينَ سَنَةً ويَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ هذه المدة ثم تفتح عليهم، أدرك ذلك من أدركه ومات قبله من مات. وخطأ أبو إسحاق أن يكون العامل مُحَرَّمَةٌ، وذلك منه تحامل، ويحتمل أن يكون العامل يَتِيهُونَ مضمرا يدل عليه يَتِيهُونَ المتأخر، ويكون قوله إنها محرمة إخبار مستمر تلقوا منه أن المخاطبين لا يدخلونها أبدا، وأنهم مع ذلك «يتيهون في الأرض أربعين سنة» يموت فيها من مات.
قال القاضي أبو محمد: والخطاب على هذا التأويل أصعب موقفا وأحضر يأسا. وروي أن من كان قد جاوز عشرين سنة لم يعش إلى الخروج من التيه، وأن من كان دون العشرين عاشوا.
قال القاضي أبو محمد: كأنه لم يعش المكلفون أشار إلى ذلك الزجاج، والتيه الذهاب في الأرض إلى غير مقصد معلوم، ويروى أن بني إسرائيل كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع في تحليق ونحوه من التردد وقلة استقامة السير، حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي كانوا فيه أول الليل، قال مجاهد وغيره كانوا يسيرون النهار أحيانا والليل أحيانا فيمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا، وذلك في مقدار ستة فراسخ.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة وقلة اجتماع الرأي، وإن الله تعالى رماهم بالاختلاف وعلموا أنها قد حرمت عليهم «أربعين سنة». فتفرقت منازلهم في ذلك الفحص وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع، حتى كملت هذه المدة وأذن الله بخروجهم وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر. والآخر الذي ذكر مجاهد إنما هو خرق عادة وعجب من قدرة الله تعالى، وفي ذلك التيه ظلل عليهم الغمام ورزقوا المن والسلوى إلى غير ذلك مما روي من ملابسهم، وقد مضى ذلك في سورة البقرة، وقوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ معناه فلا تحزن يقال أسي: الرجل يأسى أسى إذا حزن ومنه قول امرئ القيس:
ومنه قول متمم بن نويرة:
والخطاب بهذه الآية لموسى عليه السلام، قال ابن عباس ندم «موسى» على دعائه على قومه وحزن عليهم، فقال له الله: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ. وقال قوم من المفسرين الخطاب بهذه الألفاظ لمحمد ﷺ ويراد ب الْفاسِقِينَ معاصروه، أي هذه أفعال أسلافهم فلا تحزن أنت بسبب أفعالهم الخبيثة معك وردهم عليك، فإنها سجية خبيثة موروثة عندهم.
قال القاضي أبو محمد: والنيل ليس في تلك الأقطار وهذا كله ضعيف والله أعلم، وحكى الزجاج عن قوم أن «موسى» وهارون لم يكونا في التيه، والعامل في أَرْبَعِينَ يحتمل أن يكون مُحَرَّمَةٌ، أي حرمت عليهم أَرْبَعِينَ سَنَةً ويَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ هذه المدة ثم تفتح عليهم، أدرك ذلك من أدركه ومات قبله من مات. وخطأ أبو إسحاق أن يكون العامل مُحَرَّمَةٌ، وذلك منه تحامل، ويحتمل أن يكون العامل يَتِيهُونَ مضمرا يدل عليه يَتِيهُونَ المتأخر، ويكون قوله إنها محرمة إخبار مستمر تلقوا منه أن المخاطبين لا يدخلونها أبدا، وأنهم مع ذلك «يتيهون في الأرض أربعين سنة» يموت فيها من مات.
قال القاضي أبو محمد: والخطاب على هذا التأويل أصعب موقفا وأحضر يأسا. وروي أن من كان قد جاوز عشرين سنة لم يعش إلى الخروج من التيه، وأن من كان دون العشرين عاشوا.
قال القاضي أبو محمد: كأنه لم يعش المكلفون أشار إلى ذلك الزجاج، والتيه الذهاب في الأرض إلى غير مقصد معلوم، ويروى أن بني إسرائيل كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع في تحليق ونحوه من التردد وقلة استقامة السير، حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي كانوا فيه أول الليل، قال مجاهد وغيره كانوا يسيرون النهار أحيانا والليل أحيانا فيمسون حيث أصبحوا ويصبحون حيث أمسوا، وذلك في مقدار ستة فراسخ.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يكون تيههم بافتراق الكلمة وقلة اجتماع الرأي، وإن الله تعالى رماهم بالاختلاف وعلموا أنها قد حرمت عليهم «أربعين سنة». فتفرقت منازلهم في ذلك الفحص وأقاموا ينتقلون من موضع إلى موضع على غير نظام واجتماع، حتى كملت هذه المدة وأذن الله بخروجهم وهذا تيه ممكن محتمل على عرف البشر. والآخر الذي ذكر مجاهد إنما هو خرق عادة وعجب من قدرة الله تعالى، وفي ذلك التيه ظلل عليهم الغمام ورزقوا المن والسلوى إلى غير ذلك مما روي من ملابسهم، وقد مضى ذلك في سورة البقرة، وقوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ معناه فلا تحزن يقال أسي: الرجل يأسى أسى إذا حزن ومنه قول امرئ القيس:
وقوفا بها صحبي عليّ مطيهم | يقولون لا تهلك أسىّ وتجمل |
فقلت لهم إن الأسى يبعث الأسى | دعوني فهذا كله قبر مالك |
177
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)
اتْلُ معناه اسرد وأسمعهم إياه، وهذه من علوم الكتب الأول التي لا تعلق لمحمد ﷺ بها إلا من طريق الوحي، فهو من دلائل نبوته، والضمير في عَلَيْهِمْ ظاهر أمره أنه يراد به بنو إسرائيل لوجهين: أحدهما أن المحاورة فيما تقدم إنما هي في شأنهم وإقامة الحجج عليهم بسبب همهم ببسط اليد إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني أن علم نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ إنما هو عندهم وفي غامض كتبهم، وعليهم تقوم الحجة في إيراده والنبأ الخبر. و «ابنا آدم» هما في قول جمهور المفسرين لصلبه. وهما قابيل وهابيل، وقال الحسن بن أبي الحسن البصري «ابنا آدم» ليسا لصلبه ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وهم، وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب، والصحيح قول الجمهور وروي أن تقريبهما للقربان إنما كان تحنثا وتطوعا. وكان قابيل صاحب زرع فعمد إلى أرذل ما عنده وأدناه فقربه، وكان هابيل صاحب غنم، فعمد إلى أفضل كباشه فقربه، وكانت العادة حينئذ أن يقرب المقرب قربانه ويقوم يصلي ويسجد، فإن نزلت نار وأكلت القربان فذلك دليل للقبول وإلا كان تركه دليل عدم القبول، فلما قرب هذان كما ذكرت فنزلت النار وأخذت كبش هابيل فرفعته وسترته عن العيون وتركت زرع قابيل، قال سعيد بن جبير وغيره: فكان ذلك الكبش يرتع في الجنة حتى أهبط إلى إبراهيم في فداء ابنه، قال سائقو هذا القصص، فحسد قابيل هابيل وقال له: أتمشي على الأرض يراك الناس أفضل مني؟ وكان قابيل أسن ولد «آدم». وروي أن «آدم» سافر إلى مكة ليرى الكعبة وترك قابيل وصيا على بنيه فجرت هذه القصة في غيابه، وروت جماعة من المفسرين منهم ابن مسعود: أن سبب هذا التقريب أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى فكان الذكر يزوج أنثى البطن الآخر، ولا تحل له أخته توأمته، فولدت مع قابيل أخت جميلة، ومع هابيل أخت ليست كذلك فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل: أنا أحق بأختي، فأمره «آدم» فلم يأتمر، فاتفقوا على التقريب، وروي أن آدم حضر ذلك فتقبل قربان هابيل ووجب أن يأخذ أخت قابيل، فحينئذ قال له لَأَقْتُلَنَّكَ وقول هابيل: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ كلام قبله محذوف تقديره ولم تقتلني وأنا لم أجن شيئا ولا ذنب لي في قبول الله قرباني؟ أما إني اتقيته وكنت على لا حب الحق. وإِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وإجماع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ أنها اتقاء الشرك، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة، وأما المتقي للشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩)
اتْلُ معناه اسرد وأسمعهم إياه، وهذه من علوم الكتب الأول التي لا تعلق لمحمد ﷺ بها إلا من طريق الوحي، فهو من دلائل نبوته، والضمير في عَلَيْهِمْ ظاهر أمره أنه يراد به بنو إسرائيل لوجهين: أحدهما أن المحاورة فيما تقدم إنما هي في شأنهم وإقامة الحجج عليهم بسبب همهم ببسط اليد إلى محمد صلى الله عليه وسلم، والثاني أن علم نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ إنما هو عندهم وفي غامض كتبهم، وعليهم تقوم الحجة في إيراده والنبأ الخبر. و «ابنا آدم» هما في قول جمهور المفسرين لصلبه. وهما قابيل وهابيل، وقال الحسن بن أبي الحسن البصري «ابنا آدم» ليسا لصلبه ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا وهم، وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب، والصحيح قول الجمهور وروي أن تقريبهما للقربان إنما كان تحنثا وتطوعا. وكان قابيل صاحب زرع فعمد إلى أرذل ما عنده وأدناه فقربه، وكان هابيل صاحب غنم، فعمد إلى أفضل كباشه فقربه، وكانت العادة حينئذ أن يقرب المقرب قربانه ويقوم يصلي ويسجد، فإن نزلت نار وأكلت القربان فذلك دليل للقبول وإلا كان تركه دليل عدم القبول، فلما قرب هذان كما ذكرت فنزلت النار وأخذت كبش هابيل فرفعته وسترته عن العيون وتركت زرع قابيل، قال سعيد بن جبير وغيره: فكان ذلك الكبش يرتع في الجنة حتى أهبط إلى إبراهيم في فداء ابنه، قال سائقو هذا القصص، فحسد قابيل هابيل وقال له: أتمشي على الأرض يراك الناس أفضل مني؟ وكان قابيل أسن ولد «آدم». وروي أن «آدم» سافر إلى مكة ليرى الكعبة وترك قابيل وصيا على بنيه فجرت هذه القصة في غيابه، وروت جماعة من المفسرين منهم ابن مسعود: أن سبب هذا التقريب أن حواء كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى فكان الذكر يزوج أنثى البطن الآخر، ولا تحل له أخته توأمته، فولدت مع قابيل أخت جميلة، ومع هابيل أخت ليست كذلك فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل: أنا أحق بأختي، فأمره «آدم» فلم يأتمر، فاتفقوا على التقريب، وروي أن آدم حضر ذلك فتقبل قربان هابيل ووجب أن يأخذ أخت قابيل، فحينئذ قال له لَأَقْتُلَنَّكَ وقول هابيل: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ كلام قبله محذوف تقديره ولم تقتلني وأنا لم أجن شيئا ولا ذنب لي في قبول الله قرباني؟ أما إني اتقيته وكنت على لا حب الحق. وإِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق: وإجماع أهل السنة في معنى هذه الألفاظ أنها اتقاء الشرك، فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة، وأما المتقي للشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من
القبول والحتم بالرحمة، علم ذلك بأخبار الله تعالى، لا أن ذلك يجب على الله تعالى عقلا، وقال عدي بن ثابت وغيره: قربان متقي هذه الأمة الصلاة.
واختلف الناس لم قال هابيل: ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ؟ فقال مجاهد: كان الفرض عليهم حينئذ أن لا يسل أحد سيفا وأن لا يمتنع من أريد قتله.. وقال عبد الله بن عمرو وجمهور الناس: كان هابيل أشد قوة من قابيل، ولكنه تحرج.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا هو الأظهر. ومن هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص لا كافر، لأنه لو كان كافرا لم يكن للتحرج وجه، وإنما وجه التحرج في هذا أن المتحرج يأبى أن يقاتل موحدا ويرضى بأن يظلم ليجازى في الآخرة، ونحو هذا فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وقوله: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ الآية، ليست هذه بإرادة محبة وشهوة، وإنما هو تخير في شرين، كما تقول العرب في الشر خيار، فالمعنى إن قتلتني وسبق بذلك قدر فاختياري أن أكون مظلوما سيستنصر الله لي في الآخرة، وتبوء معناه تمضي متحملا. وقوله: بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ قيل معناه: بإثم قتلي وسائر آثامك التي أوجبت أن لا يتقبل منك، وقيل المعنى: بإثم قتلي وإثمك في العداء علي إذ هو في العداء وإرادة القتل آثم ولو لم ينفذ القتل، وقيل المعنى: بإثمي إن لو قاتلتك وقتلتك وإثم نفسك في قتالي وقتلي.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الإثم الذي يقتضيه قول النبي ﷺ «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه، فكأن هابيل أراد: أني لست بحريص على قتلك، فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصا على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي، وقيل المعنى: بإثمي الذي يختص لي فيما فرط لي أي يؤخذ من سيئاتي فيطرح عليك بسبب ظلمك لي «تبوء بإثمك» في قتلي وهذا تأويل يعضده قول النبي ﷺ يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه، وقوله تعالى: وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ يحتمل أن يكون من قول هابيل لأخيه، ويحتمل أن يكون إخبارا من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
قراءة الجمهور فَطَوَّعَتْ والمعنى أن القتل في ذاته مستصعب عظيم على النفوس، فرد؟ هـ هذه
واختلف الناس لم قال هابيل: ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ؟ فقال مجاهد: كان الفرض عليهم حينئذ أن لا يسل أحد سيفا وأن لا يمتنع من أريد قتله.. وقال عبد الله بن عمرو وجمهور الناس: كان هابيل أشد قوة من قابيل، ولكنه تحرج.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وهذا هو الأظهر. ومن هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص لا كافر، لأنه لو كان كافرا لم يكن للتحرج وجه، وإنما وجه التحرج في هذا أن المتحرج يأبى أن يقاتل موحدا ويرضى بأن يظلم ليجازى في الآخرة، ونحو هذا فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وقوله: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ الآية، ليست هذه بإرادة محبة وشهوة، وإنما هو تخير في شرين، كما تقول العرب في الشر خيار، فالمعنى إن قتلتني وسبق بذلك قدر فاختياري أن أكون مظلوما سيستنصر الله لي في الآخرة، وتبوء معناه تمضي متحملا. وقوله: بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ قيل معناه: بإثم قتلي وسائر آثامك التي أوجبت أن لا يتقبل منك، وقيل المعنى: بإثم قتلي وإثمك في العداء علي إذ هو في العداء وإرادة القتل آثم ولو لم ينفذ القتل، وقيل المعنى: بإثمي إن لو قاتلتك وقتلتك وإثم نفسك في قتالي وقتلي.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو الإثم الذي يقتضيه قول النبي ﷺ «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه، فكأن هابيل أراد: أني لست بحريص على قتلك، فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصا على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي، وقيل المعنى: بإثمي الذي يختص لي فيما فرط لي أي يؤخذ من سيئاتي فيطرح عليك بسبب ظلمك لي «تبوء بإثمك» في قتلي وهذا تأويل يعضده قول النبي ﷺ يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه، وقوله تعالى: وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ يحتمل أن يكون من قول هابيل لأخيه، ويحتمل أن يكون إخبارا من الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١)
قراءة الجمهور فَطَوَّعَتْ والمعنى أن القتل في ذاته مستصعب عظيم على النفوس، فرد؟ هـ هذه
179
النفس اللجوجة الأمارة بالسوء طائعا منقادا حتى واقعه صاحب هذه النفس، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والجراح والحسن بن عمران وأبو واقد «فطاوعت» والمعنى كأن القتل يدعو إلى نفسه بسبب الحقد والحسد الذي أصاب قابيل، وكأن النفس تأبى لذلك ويصعب عليها، وكل جهة تريد أن تطيعها الأخرى، إلى أن تفاقم الأمر وطاوعت النفس القتل فواقعته، وروي أنه التمس الغرة في قتله حتى وجده نائما في غنمه فشدخ رأسه بحجر، وروي أنه جهل كيف يقتله فجاء إبليس بطائر أو حيوان غيره فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل وروي أنه لما انصرف قابيل إلى آدم قال له أين هابيل قال لا أدري كأنك وكلتني بحفظه فقال له آدم أفعلتها والله إن دمه ليناديني من الأرض، اللهم العن أرضا شربت دم هابيل، فروي أنه من حينئذ ما شربت أرض دما، ثم ان آدم ﷺ بقي مائة عام لم يتبسم حتى جاء ملك فقال له حياك الله يا آدم وبياك فقال آدم: ما بياك؟ قال أضحكك. ويروى أن آدم عليه السلام قال حينئذ:
وكذا هو الشعر بنصب بشاشة وكف التنوين، وروي عن مجاهد أنه قال علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ووجهه إلى الشمس حيث ما دارت عليه حظيرة من نار وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج.
قال القاضي أبو محمد: فإن صح هذا فهو من خسرانه الذي تضمنه قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ: ومن خسرانه ما روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال إنّا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم، ومن خسرانه ما ثبت وصح عن النبي ﷺ أنه قال: «ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها، وذلك أنه أول من سن القتل» وقوله:
فَأَصْبَحَ عبارة عن جميع أوقاته أقيم بعض الزمن مقام كله، وخصّ الصباح بذلك لأنه بدء النهار والانبعاث إلى الأمور ومطية النشاط، ومنه قول الربيع بن ضبع:
أصبحت لا أحمل السلاح البيت، ومنه قول سعد بن أبي وقاص، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام، إلى غير ذلك من استعمال العرب لما ذكرناه.
وقوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ روي في معناه أن قابيل جعل أخاه في جراب ومشى به يحمله في عنقه مائة عام. وقيل سنة واحدة، وقيل بل أصبح في ثاني يوم قتله يطلب إخفاء أمر أخيه فلم يدر ما يصنع به، فبعث الله غرابا حيا إلى غراب ميت فجعل يبحث في الأرض ويلقي التراب على الغراب الميت. وروي أن الله تعالى بعث غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر، ثم جعل القاتل يبحث ويواري الميت، وروي أن الله تعالى «إنما بعث غرابا» واحدا فجعل يبحث ويلقي التراب على هابيل، وظاهر هذه الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم، ولذلك جهلت سنة المواراة، وكذلك حكى الطبري عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بما في الكتب الأول، ويَبْحَثُ
تغيرت البلاد ومن عليها | فوجه الأرض مغبرّ قبيح |
تغير كل ذي طعم ولون | وقل بشاشة الوجه المليح |
قال القاضي أبو محمد: فإن صح هذا فهو من خسرانه الذي تضمنه قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ: ومن خسرانه ما روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال إنّا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم، ومن خسرانه ما ثبت وصح عن النبي ﷺ أنه قال: «ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها، وذلك أنه أول من سن القتل» وقوله:
فَأَصْبَحَ عبارة عن جميع أوقاته أقيم بعض الزمن مقام كله، وخصّ الصباح بذلك لأنه بدء النهار والانبعاث إلى الأمور ومطية النشاط، ومنه قول الربيع بن ضبع:
أصبحت لا أحمل السلاح البيت، ومنه قول سعد بن أبي وقاص، ثم أصبحت بنو أسد تعزرني على الإسلام، إلى غير ذلك من استعمال العرب لما ذكرناه.
وقوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ روي في معناه أن قابيل جعل أخاه في جراب ومشى به يحمله في عنقه مائة عام. وقيل سنة واحدة، وقيل بل أصبح في ثاني يوم قتله يطلب إخفاء أمر أخيه فلم يدر ما يصنع به، فبعث الله غرابا حيا إلى غراب ميت فجعل يبحث في الأرض ويلقي التراب على الغراب الميت. وروي أن الله تعالى بعث غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر، ثم جعل القاتل يبحث ويواري الميت، وروي أن الله تعالى «إنما بعث غرابا» واحدا فجعل يبحث ويلقي التراب على هابيل، وظاهر هذه الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم، ولذلك جهلت سنة المواراة، وكذلك حكى الطبري عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بما في الكتب الأول، ويَبْحَثُ
180
معناه يفتش التراب بمنقاره ويثيره، ومن هذا سميت سورة براءة البحوث لأنها فتشت عن المنافقين ومن ذلك قول الشاعر:
وفي مثل: لا تكن كالباحث عن الشفرة، والضمير في قوله: سَوْأَةَ أَخِيهِ يحتمل أن يعود على قابيل ويراد بالأخ هابيل، ويحتمل أن يعود على الغراب الباحث ويراد بالأخ الغراب الميت، والأول أشهر في التأويل، والسوأة العورة، وخصت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها، ولأن سترها أوكد، ويحتمل أن يراد «بالسوأة» هذه الحالة التي تسوء الناظر بمجموعها، وأضيفت إلى المقتول من حيث نزلت به النازلة لا على جهة الغض منه بل الغض حق للقاتل وهو الذي أتى «بالسوأة»، وقرأ الجمهور «فأواري» بنصب الياء.
وقرأ طلحة بن مصرف والفياض بن غزوان «فأواري» بسكون الياء، وهي لغة لتوالي الحركات، ولما رأى قابيل فعل الغراب تنبه على ما يجب أن يصنع بأخيه، ورأى قصور نفسه وجهل البشر بالأمور، فقال يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ الآية واحتقر نفسه ولذلك ندم، وقرأ الجمهور «يا ويلتى» والأصل «يا ويلتي» لكن من العرب من يبدل من الياء ألفا ويفتح الياء لذلك فيقولون «يا ويلتى» ويا غلاما ويقف بعضهم على هاء السكت فيقول يا ويلتاه. وقرأ الحسن بن أبي الحسن «يا ويلتى» ونداء الويلة هو على معنى احضري فهذا أوانك، وهذا هو الباب في قوله يا حَسْرَةً [يس: ٣٠] وفي قوله: يا عجبا وما جرى مجراه من نداء هذه الأمور التي لا تعقل وهي معان، وقرأ الجمهور «أعجزت» بفتح الجيم. وقرأ ابن مسعود والحسن والفياض وطلحة بن سليمان «أعجزت» بكسر الجيم، وهي لغة، ثم إن قابيل وارى أخاه وندم على ما كان منه من معصية الله في قتله حيث لا ينفعه الندم، واختلف العلماء في قابيل هل هو من الكفار أو من العصاة، والظاهر أنه من العصاة، وروي عن النبي ﷺ أنه قال «إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهما ودعوا الشر».
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٢]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
جمهور الناس على أن قوله: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ متعلق بقوله كَتَبْنا أي بسبب هذه النازلة ومن جراها كتبنا، وقال قوم: بل هو متعلق بقوله مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة: ٣١] أي ندم من «أجل» ما وقع، والوقف على هذا على ذلك، والناس على أن الوقف مِنَ النَّادِمِينَ، ويقال أجل الأمر أجلا وأجلا إذا جناه وجره، ومنه قول خوات:
اختلف القراء في هذه الآية فقرأ ابن كثير وابن عامر ونافع «يقول» بغير واو عطف وبرفع اللام.
وكذلك ثبت في مصاحف المدينة ومكة. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «ويقول» بإثبات الواو. وكذلك ثبت في مصاحف الكوفيين. وقال الطبري كذلك هي في مصاحف أهل الشرق. وقرأ أبو عمرو وحده «ويقول» بإثبات الواو وبنصب اللام. قال أبو علي وروى علي بن نصر عن أبي عمرو النصب والرفع في اللام. فأما قراءة ابن كثير ونافع فمتعاضدة مع قراءة حمزة والكسائي. لأن الواو ليست عاطفة مفرد على مفرد مشركة في العامل وإنما هي عاطفة جملة على جملة وواصلة بينهما والجملتان متصلتان بغير واو. إذ في الجملة الثانية ذكر من الجملة المعطوف عليها. إذ الذين يسارعون وقالوا نخشى ويصبحون نادمين هم الذين قيل فيهم.
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فلما كانت الجملتان هكذا حسن العطف بالواو وبغير الواو. كما أن قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: ٢٢] لما كان في كل واحدة من الجملتين ذكر مما تقدم اكتفى بذلك عن الواو، وعلى هذا قوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة: ٣٩ الأعراف: ٣٦ يونس: ٢٧] ولو دخلت الواو فقيل «وهم فيها خالدون» كان حسنا.
قال القاضي أبو محمد: ولكن براعة الفصاحة في الإيجاز، ويدل على حسن دخول الواو قوله تعالى: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: ٢٢] فحذف الواو من قوله وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا كحذفها من هذه الآية، وإلحاقها في قوله ثامِنُهُمْ.
قال القاضي أبو محمد: وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا القول من المؤمنين إنما هو إذا جاء الفتح حصلت ندامة المنافقين وفضحهم الله تعالى، فحينئذ يقول المؤمنون أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا [المائدة:
٥٣] الآية. وتحتمل الآية أن تكون حكاية لقول المؤمنين في وقت قول الذين في قلوبهم مرض نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ [المائدة: ٥٢] وعند أفعالهم ما فعلوا في حكاية بني قينقاع. فظهر فيها سرهم وفهم منهم أن تمسكهم بهم إنما هو إرصاد لله ولرسوله. فمقتهم النبي والمؤمنون، وترك النبي ﷺ بني قينقاع لعبد الله بن أبيّ رغبة في المصلحة والألفة، وبحكم إظهار عبد الله أن ذلك هو الرأي من نفسه وأن الدوائر التي يخاف إنما هي ما يخرب المدينة وعلم المؤمنون وكل فطن أن عبد الله في ذلك بخلاف ما أبدى. فصار ذلك موطنا يحسن أن يقول فيه المؤمنون أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا الآية، وأما قراءة أبي عمرو ويقول بنصب اللام فلا يتجه معها أن يكون قول المؤمنين إلا عند الفتح وظهور ندامة المنافقين وفضيحتهم، لأن الواو عاطفة فعل على فعل مشركة في العامل، وتوجه عطف وَيَقُولُ مطرد على ثلاثة أوجه، أحدها على المعنى، وذلك أن قوله فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة: ٥٢] إنما المعنى فيه فعسى الله أن يأتي بالفتح فعطف قوله تعالى: وَيَقُولُ على يَأْتِيَ اعتمادا على المعنى، وإلا فلا
وسماه النبي عليه السلام شهر الله، أي شهر آل الله، وكان يقال لأهل الحرم آل الله، ويحتمل أن يسمى شهر الله لأن الله سنه وشدده إذ كان كثير من العرب لا يراه، وأما الْهَدْيَ فكان أمانا لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادة لم يأت لحرب وأما الْقَلائِدَ فكذلك كان الرجل إذا خرج يريد الحج تقلد من لحاء السمر أو غيره شيئا فكان ذلك أمانا له، وكان الأمر في نفوسهم عظيما مكنه الله حتى كانوا لا يقدم من ليس بمحرم أن يتقلد شيئا خوفا من الله، وكذلك إذا انصرفوا تقلدوا من شجر الحرم، وقوله تعالى: لِلنَّاسِ لفظ عام، وقال بعض المفسرين أراد العرب.
قال القاضي أبو محمد: ولا وجه لهذا التخصيص، وقال سعيد بن جبير جعل الله هذه الأمور للناس وهم لا يرجون جنة ولا يخافون نارا، ثم شدد ذلك بالإسلام، وقوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى أن جعل هذه الأمور قياما، والمعنى فعل ذلك لتعلموا أن الله تعالى يعلم تفاصيل أمور السماوات والأرض ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم، وقوله تعالى: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ عام عموما تاما في الجزئيات ودقائق الموجودات، كما قال عز وجل وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها [الأنعام: ٥٩]، والقول بغير هذا إلحاد في الدين وكفر، ثم خوف تعالى عباده ورجاهم بقوله اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ الآية، وهكذا هو الأمر في نفسه حري أن يكون العبد خائفا عاملا بحسب الخوف متقيا متأنسا بحسب الرجاء.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٩ الى ١٠٢]
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)
قوله تعالى: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ إخبار للمؤمنين فلا يتصور أن يقال هي آية موادعة منسوخة بآيات القتال، بل هذه حال من آمن وشهد شهادة الحق. فإنه إذ قد عصم من الرسول ماله ودمه، فليس على الرسول في جهته أكثر من التبليغ والله تعالى بعد ذلك يعلم ما ينطوي عليه صدره، وهو المجازي بحسب ذلك ثوابا أو عقابا، والْبَلاغُ مصدر من بلغ يبلغ، والآية معناها الوعيد للمؤمنين إن انحرفوا ولم يمتثلوا ما بلغ إليهم وقوله قُلْ لا يَسْتَوِي الآية لفظ عام في جميع الأمور يتصور في المكاسب وعدد الناس والمعارف من العلوم ونحوها، ف الْخَبِيثُ من هذا كله لا يفلح ولا ينجب ولا تحسن له عاقبة، وَالطَّيِّبُ ولو قل نافع جميل العاقبة وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: ٥٨] والخبث هو الفساد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح والطيب وهي بخلاف ذلك، وهكذا هو الخبث في الإنسان، وقد يراد بلفظة خبيث في الإنسان
إن الناس غطوني تغطيت عنهم | وإن بحثوني كان فيهم مباحث |
وقرأ طلحة بن مصرف والفياض بن غزوان «فأواري» بسكون الياء، وهي لغة لتوالي الحركات، ولما رأى قابيل فعل الغراب تنبه على ما يجب أن يصنع بأخيه، ورأى قصور نفسه وجهل البشر بالأمور، فقال يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ الآية واحتقر نفسه ولذلك ندم، وقرأ الجمهور «يا ويلتى» والأصل «يا ويلتي» لكن من العرب من يبدل من الياء ألفا ويفتح الياء لذلك فيقولون «يا ويلتى» ويا غلاما ويقف بعضهم على هاء السكت فيقول يا ويلتاه. وقرأ الحسن بن أبي الحسن «يا ويلتى» ونداء الويلة هو على معنى احضري فهذا أوانك، وهذا هو الباب في قوله يا حَسْرَةً [يس: ٣٠] وفي قوله: يا عجبا وما جرى مجراه من نداء هذه الأمور التي لا تعقل وهي معان، وقرأ الجمهور «أعجزت» بفتح الجيم. وقرأ ابن مسعود والحسن والفياض وطلحة بن سليمان «أعجزت» بكسر الجيم، وهي لغة، ثم إن قابيل وارى أخاه وندم على ما كان منه من معصية الله في قتله حيث لا ينفعه الندم، واختلف العلماء في قابيل هل هو من الكفار أو من العصاة، والظاهر أنه من العصاة، وروي عن النبي ﷺ أنه قال «إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهما ودعوا الشر».
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٢]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (٣٢)
جمهور الناس على أن قوله: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ متعلق بقوله كَتَبْنا أي بسبب هذه النازلة ومن جراها كتبنا، وقال قوم: بل هو متعلق بقوله مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة: ٣١] أي ندم من «أجل» ما وقع، والوقف على هذا على ذلك، والناس على أن الوقف مِنَ النَّادِمِينَ، ويقال أجل الأمر أجلا وأجلا إذا جناه وجره، ومنه قول خوات:
وأهل خباء صالح ذات بينهم | قد احتربوا في عاجل أنا آجله |
إن الرجال لهم إليك وسيلة | أن يأخذوك تكحلي وتخضبي |
والفضيلة إنما هو أن يؤتاهما في الدنيا ويتصف بهما ويكون ثمرة ذلك في الآخرة التشفيع في المقام المحمود، ومن هذه اللفظة قول الشاعر:
أنشده الطبري، وقوله تعالى: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ خص الجهاد بالذكر لوجهين، أحدهما نباهته في أعمال البر وأنه قاعدة الإسلام، وقد دخل بالمعنى في قوله: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ولكن خصه تشريفا، والوجه الآخر أنها العبادة التي تصلح لكل منهي عن المحاربة وهو معدلها من حاله وسنه وقوته وشره نفسه، فليس بينه وبين أن ينقلب إلى الجهاد إلا توفيق الله تعالى.
واللام في قوله: لِيَفْتَدُوا لام كي، وقرأ جمهور الناس «تقبل» بضم التاء والقاف على ما لم يسم فاعله، وقرأ يزيد بن قطيب «تقبل» بفتحها على معنى ما قبل الله.
وقوله تعالى: يُرِيدُونَ إخبار عن أنهم يتمنون هذا في قلوبهم، وفي غير ما آية أنهم ينطقون عن هذه الإرادة، وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا فارت بهم النار قربوا من حاشيتها فحينئذ يريدون الخروج ويطمعون به وذلك قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقد تأول قوم هذه الإرادة أنها بمعنى يكادون على هذا القصص الذي حكى الحسن، وهذا لا ينبغي أن يتأول إلا فيما لا تتأتى منه الإرادة الحقيقة كقوله تعالى:
يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: ٧٧] وأما في إرادة بني آدم فلا إلا على تجوز كثير، وقرأ جمهور الناس «يخرجوا» بفتح الياء وضم الراء وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «يخرجوا» بضم الياء وفتح الراء، وأخبر تعالى عن هؤلاء الكفار أنهم ليسوا بخارجين من النار بل عذابهم فيها مقيم متأبد، وحكى الطبري عن نافع بن الأزرق الخارجي أنه قال لابن عباس يا أعمى البصر أعمى القلب تزعم أن قوما «يخرجون من النار» وقد قال الله تعالى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها فقال له ابن عباس: ويحك اقرأ ما فوقها، هذه الآية في الكفار.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٨]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)
قرأ جمهور القراء «والسارق والسارقة» بالرفع، وقرأ عيسى بن عمر وإبراهيم بن أبي عبلة «والسارق والسارقة» بالنصب، قال سيبويه رحمه الله الوجه في كلام العرب النصب كما تقول زيدا اضربه، ولكن أبت العامة إلا الرفع يعني عامة القراء وجلهم، قال سيبويه الرفع في هذا وفي قوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور: ٢] وفي قول الله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ [النساء: ١٦] هو على معنى فيما فرض عليكم. والفاء في قوله تعالى: فَاقْطَعُوا ردت المستقل غير مستقل، لأن قوله فيما فرض عليكم السارق جملة حقها وظاهرها الاستقلال، لكن المعنى المقصود ليس إلا في قوله: فَاقْطَعُوا فهذه الفاء هي التي ربطت الكلام الثاني بالأول وأظهرت الأول هنا غير مستقل، وقال أبو العباس المبرد وهو قول جماعة من البصريين، اختار
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا | وعاد التصافي بيننا والوسائل |
واللام في قوله: لِيَفْتَدُوا لام كي، وقرأ جمهور الناس «تقبل» بضم التاء والقاف على ما لم يسم فاعله، وقرأ يزيد بن قطيب «تقبل» بفتحها على معنى ما قبل الله.
وقوله تعالى: يُرِيدُونَ إخبار عن أنهم يتمنون هذا في قلوبهم، وفي غير ما آية أنهم ينطقون عن هذه الإرادة، وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا فارت بهم النار قربوا من حاشيتها فحينئذ يريدون الخروج ويطمعون به وذلك قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقد تأول قوم هذه الإرادة أنها بمعنى يكادون على هذا القصص الذي حكى الحسن، وهذا لا ينبغي أن يتأول إلا فيما لا تتأتى منه الإرادة الحقيقة كقوله تعالى:
يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [الكهف: ٧٧] وأما في إرادة بني آدم فلا إلا على تجوز كثير، وقرأ جمهور الناس «يخرجوا» بفتح الياء وضم الراء وقرأ يحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «يخرجوا» بضم الياء وفتح الراء، وأخبر تعالى عن هؤلاء الكفار أنهم ليسوا بخارجين من النار بل عذابهم فيها مقيم متأبد، وحكى الطبري عن نافع بن الأزرق الخارجي أنه قال لابن عباس يا أعمى البصر أعمى القلب تزعم أن قوما «يخرجون من النار» وقد قال الله تعالى: وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها فقال له ابن عباس: ويحك اقرأ ما فوقها، هذه الآية في الكفار.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : آية ٣٨]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)
قرأ جمهور القراء «والسارق والسارقة» بالرفع، وقرأ عيسى بن عمر وإبراهيم بن أبي عبلة «والسارق والسارقة» بالنصب، قال سيبويه رحمه الله الوجه في كلام العرب النصب كما تقول زيدا اضربه، ولكن أبت العامة إلا الرفع يعني عامة القراء وجلهم، قال سيبويه الرفع في هذا وفي قوله: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور: ٢] وفي قول الله: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ [النساء: ١٦] هو على معنى فيما فرض عليكم. والفاء في قوله تعالى: فَاقْطَعُوا ردت المستقل غير مستقل، لأن قوله فيما فرض عليكم السارق جملة حقها وظاهرها الاستقلال، لكن المعنى المقصود ليس إلا في قوله: فَاقْطَعُوا فهذه الفاء هي التي ربطت الكلام الثاني بالأول وأظهرت الأول هنا غير مستقل، وقال أبو العباس المبرد وهو قول جماعة من البصريين، اختار
187
أن يكون «والسارق والسارقة» رفعا بالابتداء لأن القصد ليس إلى واحد بعينه فليس هو مثل قولك زيدا فاضربه إنما هو كقولك من سرق فاقطع يده، قال الزجاج وهذا القول هو المختار.
قال القاضي أبو محمد: أنزل سيبويه النوع السارق منزلة الشخص المعين، وقرأ عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم»، وقال الخفاف: وجدت في مصحف أبي بن كعب «والسّرّق والسّرّقة» هكذا ضبطا بضم السين المشددة وفتح الراء المشددة فيهما هكذا ضبطهما أبو عمرو.
قال القاضي أبو محمد: ويشبه أن يكون هذا تصحيفا من الضابط لأن قراءة الجماعة إذا كتب «السارق» بغير ألف وافقت في الخط هذه، وأخذ ملك الغير يتنوع بحسب قرائنه، فمنه الغصب وقرينته علم المغصوب منه وقت الغصب أو علم مشاهد غيره، ومنه الخيانة وقرينتها أن الخائن قد طرق له إلى المال بتصرف ما ومنه السرقة وقرائنها أن يؤخذ مال لم يطرق إليه على غير علم من المسروق ماله وفي خفاء من جميع الناس فيما يرى السارق، وهذا هو الذي يجب عليه القطع وحده من بين أخذة الأموال لخبث هذا المنزع وقلة العذر فيه، وحاط الله تعالى البشر على لسان نبيه بأن القطع لا يكون إلا بقرائن، منها الإخراج من حرز، ومنها القدر المسروق على اختلاف أهل العلم فيه، ومنها أن يعلم السارق بتحريم السرقة، وأن تكون السرقة فيما يحل ملكه، فلفظ السَّارِقُ في الآية عموم معناه الخصوص، فأما القدر المسروق فقالت طائفة لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا، قال به عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي وعائشة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور، وفيه حديث عن النبي ﷺ أنه قال:
القطع في ربع دينار فصاعدا وقال مالك رحمه الله: تقطع اليد في ربع دينار أو في ثلاثة دراهم، فإن سرق درهمين وهي ربع دينار لانحطاط الصرف لم يقطع وكذلك العروض لا يقطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم قل الصرف أو كثر، وقال إسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل: إن كانت قيمة السلعة ربع دينار أو ثلاثة دراهم قطع فيها قل الصرف أو كثر، وفي القطع قول رابع وهو أن لا قطع إلا في خمسة دراهم أو قيمتها، روي هذا عن عمر، وبه قال سليمان بن يسار وابن أبي ليلى وابن شبرمة، ومنه قول أنس بن مالك: قطع أبو بكر في مجنّ قيمته خمسة دراهم.
قال القاضي أبو محمد: ولا حجة في هذا على أن الخمسة حد وقال أبو حنيفة وأصحابه وعطاء: لا قطع في أقل من عشرة دراهم، وقال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري: لا تقطع اليد في أقل من أربعة دراهم، وقال عثمان البتي: تقطع اليد في درهمين فما فوقه، وحكى الطبري أن عبد الله بن الزبير قطع في درهم، وروي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال: تقطع اليد في كل ما له قيمة قل أو كثر على ظاهر الآية. وقد حكى الطبري نحوه عن ابن عباس، وهو قول أهل الظاهر وقول الخوارج، وروي عن الحسن أيضا أنه قال: تذاكرنا القطع في كم يكون على عهد زياد فاتفق رأينا على درهمين وأكثر العلماء على أن التوبة لا تسقط عن السارق القطع، وروي عن الشافعي أنه إذا تاب قبل أن يقدر عليه وتمتد إليه يد الأحكام فإن القطع يسقط عنه قياسا على المحارب، وجمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حرز، وقال الحسن بن أبي الحسن إذا جمع الثياب في البيت قطع وإن لم يخرجها، وقوله تعالى:
قال القاضي أبو محمد: أنزل سيبويه النوع السارق منزلة الشخص المعين، وقرأ عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم»، وقال الخفاف: وجدت في مصحف أبي بن كعب «والسّرّق والسّرّقة» هكذا ضبطا بضم السين المشددة وفتح الراء المشددة فيهما هكذا ضبطهما أبو عمرو.
قال القاضي أبو محمد: ويشبه أن يكون هذا تصحيفا من الضابط لأن قراءة الجماعة إذا كتب «السارق» بغير ألف وافقت في الخط هذه، وأخذ ملك الغير يتنوع بحسب قرائنه، فمنه الغصب وقرينته علم المغصوب منه وقت الغصب أو علم مشاهد غيره، ومنه الخيانة وقرينتها أن الخائن قد طرق له إلى المال بتصرف ما ومنه السرقة وقرائنها أن يؤخذ مال لم يطرق إليه على غير علم من المسروق ماله وفي خفاء من جميع الناس فيما يرى السارق، وهذا هو الذي يجب عليه القطع وحده من بين أخذة الأموال لخبث هذا المنزع وقلة العذر فيه، وحاط الله تعالى البشر على لسان نبيه بأن القطع لا يكون إلا بقرائن، منها الإخراج من حرز، ومنها القدر المسروق على اختلاف أهل العلم فيه، ومنها أن يعلم السارق بتحريم السرقة، وأن تكون السرقة فيما يحل ملكه، فلفظ السَّارِقُ في الآية عموم معناه الخصوص، فأما القدر المسروق فقالت طائفة لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا، قال به عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي وعائشة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور، وفيه حديث عن النبي ﷺ أنه قال:
القطع في ربع دينار فصاعدا وقال مالك رحمه الله: تقطع اليد في ربع دينار أو في ثلاثة دراهم، فإن سرق درهمين وهي ربع دينار لانحطاط الصرف لم يقطع وكذلك العروض لا يقطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم قل الصرف أو كثر، وقال إسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل: إن كانت قيمة السلعة ربع دينار أو ثلاثة دراهم قطع فيها قل الصرف أو كثر، وفي القطع قول رابع وهو أن لا قطع إلا في خمسة دراهم أو قيمتها، روي هذا عن عمر، وبه قال سليمان بن يسار وابن أبي ليلى وابن شبرمة، ومنه قول أنس بن مالك: قطع أبو بكر في مجنّ قيمته خمسة دراهم.
قال القاضي أبو محمد: ولا حجة في هذا على أن الخمسة حد وقال أبو حنيفة وأصحابه وعطاء: لا قطع في أقل من عشرة دراهم، وقال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري: لا تقطع اليد في أقل من أربعة دراهم، وقال عثمان البتي: تقطع اليد في درهمين فما فوقه، وحكى الطبري أن عبد الله بن الزبير قطع في درهم، وروي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال: تقطع اليد في كل ما له قيمة قل أو كثر على ظاهر الآية. وقد حكى الطبري نحوه عن ابن عباس، وهو قول أهل الظاهر وقول الخوارج، وروي عن الحسن أيضا أنه قال: تذاكرنا القطع في كم يكون على عهد زياد فاتفق رأينا على درهمين وأكثر العلماء على أن التوبة لا تسقط عن السارق القطع، وروي عن الشافعي أنه إذا تاب قبل أن يقدر عليه وتمتد إليه يد الأحكام فإن القطع يسقط عنه قياسا على المحارب، وجمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حرز، وقال الحسن بن أبي الحسن إذا جمع الثياب في البيت قطع وإن لم يخرجها، وقوله تعالى:
188
ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼ
ﰦ
ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ
ﰧ
ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ
ﰨ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جمع الأيدي من حيث كان لكل سارق يمين واحدة وهي المعرضة للقطع في السرقة أولا فجاءت للسراق أيد وللسارقات أيد، فكأنه قال اقطعوا أيمان النوعين فالتثنية في الضمير إنما هي للنوعين. قال الزجاج عن بعض النحويين، إنما جعلت تثنية ما في الإنسان منه واحد جمعا كقوله: صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: ٤] لأن أكثر أعضائه فيه منه اثنان فحمل ما كان فيه الواحد على مثال ذلك. قال أبو إسحاق: وحقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه واحد لم يثن ولفظ به على لفظ الجمع لأن الإضافة تبينه. فإذا قلت أشبعت بطونهما علم أن للاثنين بطنين.
قال القاضي أبو محمد: كأنهم كرهوا اجتماع تثنيتين في كلمة.
واختلف العلماء في ترتيب القطع، فمذهب مالك رحمه الله وجمهور الناس أن تقطع اليمنى من يد السارق ثم إن عاد قطعت رجله اليسرى ثم إن عاد قطعت يده اليسرى ثم إن عاد قطعت رجله اليمنى، ثم إن سرق عزر وحبس، وقال علي بن أبي طالب والزهري وحماد بن أبي سليمان وأحمد بن حنبل: تقطع يده اليمنى ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى ثم إن سرق عزر وحبس. وروي عن عطاء بن أبي رباح: لا تقطع في السرقة إلا اليد اليمنى فقط ثم إن سرق عزر وحبس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تمسك بظاهر الآية، والقول شاذ فيلزم على ظاهر الآية أن تقطع اليد ثم اليد. ومذهب جمهور الفقهاء أن القطع في اليد من الرسغ وفي الرجل من المفصل، وروي عن علي بن أبي طالب أن القطع في اليد من الأصابع وفي الرجل من نصف القدم. وقوله تعالى: جَزاءً بِما كَسَبا نصبه على المصدر، وقال الزجاج مفعول من أجله. وكذلك: نَكالًا مِنَ اللَّهِ والنكال العذاب، والنكل القيد، وسائر معنى الآية بيّن وفيه بعض الإعراب حكاية.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)
المعنى عند جمهور أهل العلم أن من تابَ من السرقة فندم على ما مضى وأقلع في المستأنف وأصلح برد الظلامة إن أمكنه ذلك وإلا فبإنفاقها في سبيل الله وَأَصْلَحَ أيضا في سائر أعماله وارتفع إلى فوق فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ويذهب عنه حكم السرقة فيما بينه وبين الله تعالى، وهو في المشيئة مرجو له الوعد وليس تسقط عنه التوبة حكم الدنيا من القطع إن اعترف أو شهد عليه، وقال مجاهد: التوبة والإصلاح هي أن يقام عليه الحد.
قال القاضي أبو محمد: كأنهم كرهوا اجتماع تثنيتين في كلمة.
واختلف العلماء في ترتيب القطع، فمذهب مالك رحمه الله وجمهور الناس أن تقطع اليمنى من يد السارق ثم إن عاد قطعت رجله اليسرى ثم إن عاد قطعت يده اليسرى ثم إن عاد قطعت رجله اليمنى، ثم إن سرق عزر وحبس، وقال علي بن أبي طالب والزهري وحماد بن أبي سليمان وأحمد بن حنبل: تقطع يده اليمنى ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى ثم إن سرق عزر وحبس. وروي عن عطاء بن أبي رباح: لا تقطع في السرقة إلا اليد اليمنى فقط ثم إن سرق عزر وحبس.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تمسك بظاهر الآية، والقول شاذ فيلزم على ظاهر الآية أن تقطع اليد ثم اليد. ومذهب جمهور الفقهاء أن القطع في اليد من الرسغ وفي الرجل من المفصل، وروي عن علي بن أبي طالب أن القطع في اليد من الأصابع وفي الرجل من نصف القدم. وقوله تعالى: جَزاءً بِما كَسَبا نصبه على المصدر، وقال الزجاج مفعول من أجله. وكذلك: نَكالًا مِنَ اللَّهِ والنكال العذاب، والنكل القيد، وسائر معنى الآية بيّن وفيه بعض الإعراب حكاية.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١)
المعنى عند جمهور أهل العلم أن من تابَ من السرقة فندم على ما مضى وأقلع في المستأنف وأصلح برد الظلامة إن أمكنه ذلك وإلا فبإنفاقها في سبيل الله وَأَصْلَحَ أيضا في سائر أعماله وارتفع إلى فوق فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ويذهب عنه حكم السرقة فيما بينه وبين الله تعالى، وهو في المشيئة مرجو له الوعد وليس تسقط عنه التوبة حكم الدنيا من القطع إن اعترف أو شهد عليه، وقال مجاهد: التوبة والإصلاح هي أن يقام عليه الحد.
189
قال القاضي أبو محمد: وهذا تشديد وقد جعل الله للخروج من الذنوب بابين أحدهما الحد والآخر التوبة، وقال الشافعي: إذا تاب السارق قبل أن يتلبس الحاكم بأخذه فتوبته ترفع عنه حكم القطع قياسا على توبة المحارب.
وقوله: أَلَمْ تَعْلَمْ الآية توقيف وتنبيه على العلة الموجبة لإنفاذ هذه الأوامر في المحاربين والسرقة والإخبار بهذا التعذيب لقوم والتوبة على آخرين وهي ملكه تعالى لجميع الأشياء، فهو بحق الملك لا معقب لحكمه ولا معترض عليه.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ الآية تسلية للنبي ﷺ وتقوية لنفسه بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين وبني إسرائيل، والمعنى قد وعدناك النصر والظهور عليهم ف لا يَحْزُنْكَ ما يقع منهم خلال بقائهم، وقرأ بعض القراء «يحزنك» بفتح الياء وضم الزاي تقول العرب حزن الرجل بكسر الزاي وحزنته بفتحها وقرأ بعض القراء «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي لأن من العرب من يقول أحزنت الرجل بمعنى حزنته وجعلته ذا حزن، وقرأ الناس يسارعون. وقرأ الحر النحوي «يسرعون» دون ألف ومعنى المسارعة في الكفر البدار إلى نصره وإقامة حججه والسعي في إطفاء الإسلام به واختلف المفسرون في ترتيب معنى الآية وفيمن المراد بقوله بِأَفْواهِهِمْ وفي سبب نزول الآية فأما سببها فروي عن أبي هريرة رضي الله عنه وابن عباس وجماعة أنهم قالوا: نزلت هذه الآية بسبب الرجم.
قال القاضي أبو محمد: وذلك أن يهوديا زنى بيهودية وكان في التوراة رجم الزناة، وكان بنو إسرائيل قد غيروا ذلك وردوه جلدا وتحميم وجوه، لأنهم لم يقيموا الرجم على أشرافهم وأقاموه على صغارهم في القدر فاستقبحوا ذلك وأحدثوا حكما سووا فيه بين الشريف والمشروف، فلما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة زنى رجل من اليهود بامرأة فروي أن ذلك كان بالمدينة. وروي أنه كان في غير المدينة في يهود الحجاز. وبعثوا إلى يهود المدينة وإلى حلفائهم من المنافقين أن يسألوا رسول الله ﷺ عن النازلة وطمعوا بذلك أن يوافقهم على الجلد والتحميم فيشتد أمرهم بذلك. فلما سئل رسول الله ﷺ عن ذلك نهض في جملة من أصحابه إلى بيت المدارس فجمع الأحبار هنالك وسألهم عما في التوراة فقالوا إنا لا نجد فيها الرجم فقال رسول الله ﷺ إن فيها الرجم فانشروها فنشرت ووضع أحدهم يده على آية الرجم. فقال عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم فحكم رسول الله ﷺ فيها بالرجم وأنفذه.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وفي هذا الحديث اختلاف ألفاظ وروايات كثيرة، منها أنه روي أن رسول الله ﷺ مر عليه يهودي ويهودية زنيا وقد جلدا وحمما. فقال هكذا شرعكم يا معشر يهود؟ فقالوا نعم، فقال لا، ثم مشى إلى بيت المدارس وفضحهم وحكم في ذينك بالرجم، وقال:
لأكونن أول من أحيا حكم التوراة حين أماتوه. وروي أن الزانيين لم يكونا بالمدينة، وأن يهود فدك هم الذين قالوا ليهود المدينة استفتوا محمدا فإن أفتاكم بما نحن عليه من الجلد والتجبية فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا الرجم، قاله الشعبي وغيره، وقال قتادة بن دعامة وغيره سبب الآية وذكر اليهود أن بني
وقوله: أَلَمْ تَعْلَمْ الآية توقيف وتنبيه على العلة الموجبة لإنفاذ هذه الأوامر في المحاربين والسرقة والإخبار بهذا التعذيب لقوم والتوبة على آخرين وهي ملكه تعالى لجميع الأشياء، فهو بحق الملك لا معقب لحكمه ولا معترض عليه.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ الآية تسلية للنبي ﷺ وتقوية لنفسه بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين وبني إسرائيل، والمعنى قد وعدناك النصر والظهور عليهم ف لا يَحْزُنْكَ ما يقع منهم خلال بقائهم، وقرأ بعض القراء «يحزنك» بفتح الياء وضم الزاي تقول العرب حزن الرجل بكسر الزاي وحزنته بفتحها وقرأ بعض القراء «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي لأن من العرب من يقول أحزنت الرجل بمعنى حزنته وجعلته ذا حزن، وقرأ الناس يسارعون. وقرأ الحر النحوي «يسرعون» دون ألف ومعنى المسارعة في الكفر البدار إلى نصره وإقامة حججه والسعي في إطفاء الإسلام به واختلف المفسرون في ترتيب معنى الآية وفيمن المراد بقوله بِأَفْواهِهِمْ وفي سبب نزول الآية فأما سببها فروي عن أبي هريرة رضي الله عنه وابن عباس وجماعة أنهم قالوا: نزلت هذه الآية بسبب الرجم.
قال القاضي أبو محمد: وذلك أن يهوديا زنى بيهودية وكان في التوراة رجم الزناة، وكان بنو إسرائيل قد غيروا ذلك وردوه جلدا وتحميم وجوه، لأنهم لم يقيموا الرجم على أشرافهم وأقاموه على صغارهم في القدر فاستقبحوا ذلك وأحدثوا حكما سووا فيه بين الشريف والمشروف، فلما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة زنى رجل من اليهود بامرأة فروي أن ذلك كان بالمدينة. وروي أنه كان في غير المدينة في يهود الحجاز. وبعثوا إلى يهود المدينة وإلى حلفائهم من المنافقين أن يسألوا رسول الله ﷺ عن النازلة وطمعوا بذلك أن يوافقهم على الجلد والتحميم فيشتد أمرهم بذلك. فلما سئل رسول الله ﷺ عن ذلك نهض في جملة من أصحابه إلى بيت المدارس فجمع الأحبار هنالك وسألهم عما في التوراة فقالوا إنا لا نجد فيها الرجم فقال رسول الله ﷺ إن فيها الرجم فانشروها فنشرت ووضع أحدهم يده على آية الرجم. فقال عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع يده فإذا آية الرجم فحكم رسول الله ﷺ فيها بالرجم وأنفذه.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وفي هذا الحديث اختلاف ألفاظ وروايات كثيرة، منها أنه روي أن رسول الله ﷺ مر عليه يهودي ويهودية زنيا وقد جلدا وحمما. فقال هكذا شرعكم يا معشر يهود؟ فقالوا نعم، فقال لا، ثم مشى إلى بيت المدارس وفضحهم وحكم في ذينك بالرجم، وقال:
لأكونن أول من أحيا حكم التوراة حين أماتوه. وروي أن الزانيين لم يكونا بالمدينة، وأن يهود فدك هم الذين قالوا ليهود المدينة استفتوا محمدا فإن أفتاكم بما نحن عليه من الجلد والتجبية فخذوه وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا الرجم، قاله الشعبي وغيره، وقال قتادة بن دعامة وغيره سبب الآية وذكر اليهود أن بني
190
النضير كانوا غزوا بني قريظة فكان النضري إذا قتله قرظي قتل به وإذا قتل نضري قرظيا أعطي الدية، وقيل كانت دية القرظي على نصف دية النضري، فلما جاء رسول الله ﷺ المدينة طلبت قريظة الاستواء إذ هم أبناء عم يرجعان إلى جد، وطلبت الحكومة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت النضير بعضها لبعض إن حكم بما كنا عليه فخذوه وإلا فاحذروا.
قال القاضي أبو محمد: وهذه النوازل كلها وقعت ووقع غيرها مما يضارعها، ويحسن أن يكون سببها لفضيحة اليهود في تحريفهم الكلم وتمرسهم بالدين، والروايات في هذا كثيرة ومختلفة، وقد وقع في بعض الطرق في حديث أبي هريرة أنه قال في قصة الرجم، فقام رسول الله ﷺ إلى بيت مدراسهم وقمنا معه وهذا يقتضي أن الأمر كان في آخر مدة النبي ﷺ لأن أبا هريرة أسلم عام خيبر في آخر سنة ست من الهجرة، وقد كانت النضير أجليت وقريظة وقريش قتلت، واليهود بالمدينة لا شيء، فكيف كان لهم بيت مدارس في ذلك الوقت أو إن كان لهم بيت على حال ذلة فهل كان النبي ﷺ يحتاج مع ظهور دينه إلى محاجتهم تلك المحاجة؟ وظاهر حديث بيت المدارس أنه كان في صدر الهجرة اللهم إلا أن يكون ذلك من النبي ﷺ مع عزة كلمته من حيث أراد أن يخرج حكمهم من أيدي أحبارهم بالحجة عليهم من كتابهم فلذلك مشى إلى بيت مدراسهم مع قدرته عليهم، وهذا عندي يبعد لأنهم لم يكونوا ذلك الوقت يحزنونه ولا كانت لهم حال يسلى عنها صلى الله عليه وسلم، وهذا عندي يبعد لأنهم لم يكونوا ذلك الوقت يحزنونه ولا كانت لهم حال يسلى عنها صلى الله عليه وسلم، وأما اختلاف الناس فيمن المراد بقوله: الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ فقال السدي: نزلت في رجل من الأنصار زعموا أنه أبو لبابة بن عبد المنذر أشارت إليه قريظة يوم حصرهم ما الأمر؟ وعلى من نزل من الحكم؟ فأشار إلى حلقه أنه بمعنى الذبح.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف وأبو لبابة من فضلاء الصحابة وهو وإن كان أشار بتلك الإشارة فإنه قال فو الله ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله ثم جاء إلى مسجد النبي ﷺ في المدينة فربط نفسه بسارية من سواري المسجد، وأقسم أن لا يبرح كذلك حتى يتوب الله عليه ويرضى رسول الله ﷺ عنه، فإنما كانت تلك الإشارة منه زلة حمله عليها إشفاق ما على قوم كانت بينه وبينهم مودة ومشاركة قديمة رضي الله عنه وعن جميع الصحابة، وقال الشعبي وغيره: نزلت الآية في قوم من اليهود أرادوا سؤال النبي ﷺ في أمر رجل منهم قتل آخر فكلفوا السؤال رجلا من المسلمين وقالوا: إن أفتى بالدية قبلنا قوله وإن أفتى بالقتل لم نقبل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نحو ما تقدم عن قتادة في أمر قتل النضير وقريظة، وقال عبد الله بن كثير ومجاهد وغيرهما قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ يراد به المنافقون.
وقوله بعد ذلك سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ يراد به اليهود، وأما ترتيب معنى الآية بحسب هذه الأقوال. فيحتمل أن يكون المعنى يا أيها الرسول لا يحزنك المسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود، ويكون قوله: سَمَّاعُونَ خبر ابتداء مضمر، ويحتمل أن يكون المعنى لا يحزنك المسارعون في الكفر
قال القاضي أبو محمد: وهذه النوازل كلها وقعت ووقع غيرها مما يضارعها، ويحسن أن يكون سببها لفضيحة اليهود في تحريفهم الكلم وتمرسهم بالدين، والروايات في هذا كثيرة ومختلفة، وقد وقع في بعض الطرق في حديث أبي هريرة أنه قال في قصة الرجم، فقام رسول الله ﷺ إلى بيت مدراسهم وقمنا معه وهذا يقتضي أن الأمر كان في آخر مدة النبي ﷺ لأن أبا هريرة أسلم عام خيبر في آخر سنة ست من الهجرة، وقد كانت النضير أجليت وقريظة وقريش قتلت، واليهود بالمدينة لا شيء، فكيف كان لهم بيت مدارس في ذلك الوقت أو إن كان لهم بيت على حال ذلة فهل كان النبي ﷺ يحتاج مع ظهور دينه إلى محاجتهم تلك المحاجة؟ وظاهر حديث بيت المدارس أنه كان في صدر الهجرة اللهم إلا أن يكون ذلك من النبي ﷺ مع عزة كلمته من حيث أراد أن يخرج حكمهم من أيدي أحبارهم بالحجة عليهم من كتابهم فلذلك مشى إلى بيت مدراسهم مع قدرته عليهم، وهذا عندي يبعد لأنهم لم يكونوا ذلك الوقت يحزنونه ولا كانت لهم حال يسلى عنها صلى الله عليه وسلم، وهذا عندي يبعد لأنهم لم يكونوا ذلك الوقت يحزنونه ولا كانت لهم حال يسلى عنها صلى الله عليه وسلم، وأما اختلاف الناس فيمن المراد بقوله: الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ فقال السدي: نزلت في رجل من الأنصار زعموا أنه أبو لبابة بن عبد المنذر أشارت إليه قريظة يوم حصرهم ما الأمر؟ وعلى من نزل من الحكم؟ فأشار إلى حلقه أنه بمعنى الذبح.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف وأبو لبابة من فضلاء الصحابة وهو وإن كان أشار بتلك الإشارة فإنه قال فو الله ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله ثم جاء إلى مسجد النبي ﷺ في المدينة فربط نفسه بسارية من سواري المسجد، وأقسم أن لا يبرح كذلك حتى يتوب الله عليه ويرضى رسول الله ﷺ عنه، فإنما كانت تلك الإشارة منه زلة حمله عليها إشفاق ما على قوم كانت بينه وبينهم مودة ومشاركة قديمة رضي الله عنه وعن جميع الصحابة، وقال الشعبي وغيره: نزلت الآية في قوم من اليهود أرادوا سؤال النبي ﷺ في أمر رجل منهم قتل آخر فكلفوا السؤال رجلا من المسلمين وقالوا: إن أفتى بالدية قبلنا قوله وإن أفتى بالقتل لم نقبل.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نحو ما تقدم عن قتادة في أمر قتل النضير وقريظة، وقال عبد الله بن كثير ومجاهد وغيرهما قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ يراد به المنافقون.
وقوله بعد ذلك سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ يراد به اليهود، وأما ترتيب معنى الآية بحسب هذه الأقوال. فيحتمل أن يكون المعنى يا أيها الرسول لا يحزنك المسارعون في الكفر من المنافقين ومن اليهود، ويكون قوله: سَمَّاعُونَ خبر ابتداء مضمر، ويحتمل أن يكون المعنى لا يحزنك المسارعون في الكفر
191
من اليهود ووصفهم بأنهم قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ إلزاما منه ذلك لهم من حيث حرفوا توراتهم وبدلوا أحكامها، فهم يقولون بأفواههم نحن مؤمنون بالتوراة وبموسى، وقلوبهم غير مؤمنة من حيث بدلوها وجحدوا ما فيها من نبوة محمد ﷺ وغير ذلك مما كفر بهم، ويؤيد هذا التأويل قوله بعد هذا، وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة: ٤٢]، ويجيء على هذا التأويل قوله: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا كأنه قال ومنهم لكن صرح بذكر اليهود من حيث الطائفة السماعة غير الطائفة التي تبدل التوراة على علم منها. وقرأ جمهور الناس «سماعون»، وقرأ الضحاك «سماعين»، ووجهها عندي نصب على الذم على ترتيب من يقول لا يحزنك المسارعون من هؤلاء «سماعين»، وأما المعنى في قوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ فيحتمل أن يكون صفة للمنافقين ولبني إسرائيل لأن جميعهم يسمع الكذب بعضهم من بعض ويقبلونه، ولذلك جاءت عبارة سماعهم في صيغة المبالغة، وإذ المراد أنهم يقبلون ويستزيدون من ذلك المسموع، وقوله تعالى:
لِلْكَذِبِ يحتمل أن يريد سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ويحتمل أن يريد «سماعون منك أقوالك» من أجل أن يكونوا عليك وينقلوا حديثك ويزيدوا مع الكلمة أضعافها كذبا، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر «للكذب» بكسر الكاف وسكون الذل، وقوله تعالى: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ يحتمل أن يريد يسمعون منهم، وذكر الطبري عن جابر أن المراد بالقوم الآخرين يهود فدك، وقيل يهود خيبر، وقيل أهل الزانيين، وقيل أهل الخصام في القتل والدية، وهؤلاء القوم الآخرون هم الموصوفون بأنهم لم يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون معنى سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ بمعنى جواسيس مسترقين للكلام لينقلوه لقوم آخرين، وهذا مما يمكن أن يتصف به المنافقون ويهود المدينة، وقيل لسفيان بن عيينة هل جرى للجاسوس ذكر في كتاب الله عز وجل، فقالوا نعم، وتلا هذه الآية: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ.
قوله عز وجل:
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ....
قرأ جمهور الناس «الكلم» بفتح الكاف وكسر اللام، وقرأ بعض الناس «الكلم» بكسر الكاف وسكون اللام وهي لغة ضعيفة في كلمة، وقوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ صفة لليهود فيما حرفوا من التوراة إذ ذاك أخطر أمر حرفوا فيه. ويحتمل أن يكون صفة لهم وللمنافقين فيما يحرفون من الأقوال عند كذبهم، لأن مبادئ كذبهم لا بد أن تكون من أشياء قيلت أو فعلت، وهذا هو الكذب المزين الذي يقرب قبوله، وأما الكذب الذي لا يرفد بمبدأ فقليل الأثر في النفس، وقوله: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي من بعد أن وضع مواضعه وقصدت به وجوهه القويمة، والإشارة بهذا قيل هي إلى التحميم والجلد في الزنا، وقيل: هي إلى قبول الدية في أمر القتل، وقيل إلى إبقاء عزة النضير على قريظة، وهذا بحسب الخلاف المتقدم في الآية،
لِلْكَذِبِ يحتمل أن يريد سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ويحتمل أن يريد «سماعون منك أقوالك» من أجل أن يكونوا عليك وينقلوا حديثك ويزيدوا مع الكلمة أضعافها كذبا، وقرأ الحسن وعيسى بن عمر «للكذب» بكسر الكاف وسكون الذل، وقوله تعالى: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ يحتمل أن يريد يسمعون منهم، وذكر الطبري عن جابر أن المراد بالقوم الآخرين يهود فدك، وقيل يهود خيبر، وقيل أهل الزانيين، وقيل أهل الخصام في القتل والدية، وهؤلاء القوم الآخرون هم الموصوفون بأنهم لم يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون معنى سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ بمعنى جواسيس مسترقين للكلام لينقلوه لقوم آخرين، وهذا مما يمكن أن يتصف به المنافقون ويهود المدينة، وقيل لسفيان بن عيينة هل جرى للجاسوس ذكر في كتاب الله عز وجل، فقالوا نعم، وتلا هذه الآية: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ.
قوله عز وجل:
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ....
قرأ جمهور الناس «الكلم» بفتح الكاف وكسر اللام، وقرأ بعض الناس «الكلم» بكسر الكاف وسكون اللام وهي لغة ضعيفة في كلمة، وقوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ صفة لليهود فيما حرفوا من التوراة إذ ذاك أخطر أمر حرفوا فيه. ويحتمل أن يكون صفة لهم وللمنافقين فيما يحرفون من الأقوال عند كذبهم، لأن مبادئ كذبهم لا بد أن تكون من أشياء قيلت أو فعلت، وهذا هو الكذب المزين الذي يقرب قبوله، وأما الكذب الذي لا يرفد بمبدأ فقليل الأثر في النفس، وقوله: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي من بعد أن وضع مواضعه وقصدت به وجوهه القويمة، والإشارة بهذا قيل هي إلى التحميم والجلد في الزنا، وقيل: هي إلى قبول الدية في أمر القتل، وقيل إلى إبقاء عزة النضير على قريظة، وهذا بحسب الخلاف المتقدم في الآية،
192
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ
ﰩ
ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ
ﰪ
ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ
ﰫ
ثم قال تعالى لنبيه على جهة قطع الرجاء فيهم وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لا تتبع نفسك أمرهم، والفتنة هنا المحنة بالكفر والتعذيب في الآخرة، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الذين سبق لهم في علم الله ألا «يطهر قلوبكم» وأن يكونوا مدنسين بالكفر، ثم قرر تعالى لهم «الخزي في الدنيا». والمعنى بالذلة والمسكنة التي انضربت عليهم في أقطار الأرض وفي كل أمة، وقرر لهم العذاب في الآخرة بكفرهم.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤)
وقوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ إن كان الأول في بني إسرائيل فهذا تكرار تأكيد ومبالغة، وإن كان الأول في المنافقين فهذا خبر أيضا عن بني إسرائيل وقوله تعالى: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فعالون مبالغة بناء أي يتكرر أكلهم له ويكثر. و «السحت» كل ما لا يحل كسبه من المال. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة «السحت» ساكنة الحاء خفيفة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «السحت» مضمومة الحاء مثقلة. وروي عن خارجة بن مصعب عن نافع «السّحت» بكسر السين وسكون الحاء واللفظة مأخوذة من قولهم سحت وأسحت إذا استأصل وأذهب فمن الثلاثي قوله تعالى: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [طه: ٦١] ومن الرباعي قول الفرزدق:
إلا مسحتا أو مجلف
والسّحت والسّحت بضم السين وتخفيف الحاء وتثقيلها لغتان في اسم الشيء المسحوت، والسحت بفتح السين وسكون الحاء المصدر، سمي به المسحوت كما سمي المصيد صيدا في قوله عز وجل لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: ٩٥] وكما سمي المرهون رهنا، وهذا كثير.
قال القاضي أبو محمد: فسمي المال الحرام سحتا لأنه يذهب وتستأصله النوب، كما قال عليه السلام «من جمع مالا من تهاوش أذهبه الله في نهابير»، وقال مكي سمي المال الحرام سحتا لأنه يذهب من حيث يسحت الطاعات أي يذهب بها قليل قليلا، وقال المهدوي من حيث يسحت أديانهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مردود لأن السيئات لا تحبط الحسنات اللهم إلا أن يقدر أنه يشغل عن الطاعات فهو سحتها من حيث لا تعمل، وأما طاعة حاصلة فلا يقال هذا فيها، وقال المهدوي سمي أجر الحجام سحتا لأنه يسحت مروءة آخذه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أشبه، أصل السحت كلب الجوع، يقال فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يلفى أبدا إلا جائعا يذهب ما في معدته، فكان الذي يرتشي به من الشره ما بالجائع أبدا لا يشبع.
قال القاضي أبو محمد: وذلك بأن الرشوة تنسحت، فالمعنى هو كما قدمناه، وفي عبارة الطبري بعض اضطراب لأن مسحوت المعدة هو مأخوذ من الاستئصال والذهاب، وليس كلب الغرث أصلا للسحت، والسحت الذي عني أن اليهود يأكلونه هو الرشا في الأحكام والأوقاف التي تؤكل ويرفد أكلها بقول الأباطيل وخدع العامة ونحو هذا، وقال أبو هريرة وعلي بن أبي طالب: مهر البغي سحت وعسب الفحل سحت وكسب الحجام سحت وثمن الكلب والخمر سحت، وقال ابن مسعود السحت أن يهدي لك من قد أعنته في حاجته أو حقه فتقبل، قيل لعبد الله ما كنا نعد السحت إلا الرشوة في الحكم قال: ذلك الكفر،
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤)
وقوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ إن كان الأول في بني إسرائيل فهذا تكرار تأكيد ومبالغة، وإن كان الأول في المنافقين فهذا خبر أيضا عن بني إسرائيل وقوله تعالى: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فعالون مبالغة بناء أي يتكرر أكلهم له ويكثر. و «السحت» كل ما لا يحل كسبه من المال. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة «السحت» ساكنة الحاء خفيفة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي «السحت» مضمومة الحاء مثقلة. وروي عن خارجة بن مصعب عن نافع «السّحت» بكسر السين وسكون الحاء واللفظة مأخوذة من قولهم سحت وأسحت إذا استأصل وأذهب فمن الثلاثي قوله تعالى: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [طه: ٦١] ومن الرباعي قول الفرزدق:
إلا مسحتا أو مجلف
والسّحت والسّحت بضم السين وتخفيف الحاء وتثقيلها لغتان في اسم الشيء المسحوت، والسحت بفتح السين وسكون الحاء المصدر، سمي به المسحوت كما سمي المصيد صيدا في قوله عز وجل لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: ٩٥] وكما سمي المرهون رهنا، وهذا كثير.
قال القاضي أبو محمد: فسمي المال الحرام سحتا لأنه يذهب وتستأصله النوب، كما قال عليه السلام «من جمع مالا من تهاوش أذهبه الله في نهابير»، وقال مكي سمي المال الحرام سحتا لأنه يذهب من حيث يسحت الطاعات أي يذهب بها قليل قليلا، وقال المهدوي من حيث يسحت أديانهم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مردود لأن السيئات لا تحبط الحسنات اللهم إلا أن يقدر أنه يشغل عن الطاعات فهو سحتها من حيث لا تعمل، وأما طاعة حاصلة فلا يقال هذا فيها، وقال المهدوي سمي أجر الحجام سحتا لأنه يسحت مروءة آخذه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا أشبه، أصل السحت كلب الجوع، يقال فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يلفى أبدا إلا جائعا يذهب ما في معدته، فكان الذي يرتشي به من الشره ما بالجائع أبدا لا يشبع.
قال القاضي أبو محمد: وذلك بأن الرشوة تنسحت، فالمعنى هو كما قدمناه، وفي عبارة الطبري بعض اضطراب لأن مسحوت المعدة هو مأخوذ من الاستئصال والذهاب، وليس كلب الغرث أصلا للسحت، والسحت الذي عني أن اليهود يأكلونه هو الرشا في الأحكام والأوقاف التي تؤكل ويرفد أكلها بقول الأباطيل وخدع العامة ونحو هذا، وقال أبو هريرة وعلي بن أبي طالب: مهر البغي سحت وعسب الفحل سحت وكسب الحجام سحت وثمن الكلب والخمر سحت، وقال ابن مسعود السحت أن يهدي لك من قد أعنته في حاجته أو حقه فتقبل، قيل لعبد الله ما كنا نعد السحت إلا الرشوة في الحكم قال: ذلك الكفر،
193
وقد روي عن ابن مسعود وجماعة كثيرة أن السحت هو الرشوة في الحكم، وروي عن النبي ﷺ أنه قال: كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، قيل يا رسول الله وما السحت؟ قال: الرشوة في الحكم.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وكل ما ذكر في معنى السحت فهو أمثلة، ومن أعظمها الرشوة في الحكم والأجرة على قتل النفس، وهو لفظ يعم كل كسب لا يحل، وقوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ تخيير للنبي ﷺ ولحكام أمته بعده في أن يحكم بينهم إذا تراضوا في نوازلهم، وقال عكرمة والحسن: هذا التخيير منسوخ بقوله وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ [المائدة: ٤٩] وقال ابن عباس ومجاهد: نسخ من المائدة آيتان، قوله تعالى: وَلَا الْقَلائِدَ [المائدة: ٢] نسختها آية السيف وقوله: أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ نسختها وأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: ٤٩].
قال القاضي أبو محمد: وقال كثير من العلماء هي محكمة وتخيير الحكام باق، وهذا هو الأظهر إن شاء الله، وفقه هذه الآية أن الأمة فيما علمت مجمعة على أن حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم ويتسلط عليهم في تغييره وينفر عن صورته كيف وقع فيغير ذلك، ومن التظالم حبس السلع المبيعة وغصب المال وغير ذلك، فأما نوازل الأحكام التي لا ظلم فيها من أحدهم للآخر وإنما هي دعاوى محتملة وطلب ما يحل ولا يحل وطلب المخرج من الإثم في الآخرة فهي التي هو الحاكم فيها مخير، وإذا رضي به الخصمان فلا بد مع ذلك من رضى الأساقفة أو الأحبار، قاله ابن القاسم في العتبية، قال وأما إن رضي الأساقفة دون الخصمين أو الخصمان دون الأساقفة فليس له أن يحكم.
قال القاضي أبو محمد: وانظر إن رضي الأساقفة لأشكال النازلة عندهم دون أن يرضى الخصمان فإنها تحتمل الخلاف وانظر إذا رضي الخصمان ولم يقع من الأحبار نكير فحكم الحاكم ثم أراد الأحبار رد ذلك الحكم وهل تستوي النوازل في هذا كالرجم في زانيين والقضاء في مال يصير من أحدهما إلى الآخر؟
وانظر إذا رضي الخصمان هل على الحاكم أن يستعلم ما عند الأحبار أو يقنع بأن لم تقع منهم معارضته؟
ومالك رحمه الله يستحب لحاكم المسلمين الإعراض عنهم وتركهم إلى دينهم وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ يعني أهل نازلة الزانيين.
قال القاضي أبو محمد: ثم الآية بعد تتناول سائر النوازل والله علم.
قوله عز وجل:
وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ....
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وكل ما ذكر في معنى السحت فهو أمثلة، ومن أعظمها الرشوة في الحكم والأجرة على قتل النفس، وهو لفظ يعم كل كسب لا يحل، وقوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ تخيير للنبي ﷺ ولحكام أمته بعده في أن يحكم بينهم إذا تراضوا في نوازلهم، وقال عكرمة والحسن: هذا التخيير منسوخ بقوله وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ [المائدة: ٤٩] وقال ابن عباس ومجاهد: نسخ من المائدة آيتان، قوله تعالى: وَلَا الْقَلائِدَ [المائدة: ٢] نسختها آية السيف وقوله: أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ نسختها وأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: ٤٩].
قال القاضي أبو محمد: وقال كثير من العلماء هي محكمة وتخيير الحكام باق، وهذا هو الأظهر إن شاء الله، وفقه هذه الآية أن الأمة فيما علمت مجمعة على أن حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم ويتسلط عليهم في تغييره وينفر عن صورته كيف وقع فيغير ذلك، ومن التظالم حبس السلع المبيعة وغصب المال وغير ذلك، فأما نوازل الأحكام التي لا ظلم فيها من أحدهم للآخر وإنما هي دعاوى محتملة وطلب ما يحل ولا يحل وطلب المخرج من الإثم في الآخرة فهي التي هو الحاكم فيها مخير، وإذا رضي به الخصمان فلا بد مع ذلك من رضى الأساقفة أو الأحبار، قاله ابن القاسم في العتبية، قال وأما إن رضي الأساقفة دون الخصمين أو الخصمان دون الأساقفة فليس له أن يحكم.
قال القاضي أبو محمد: وانظر إن رضي الأساقفة لأشكال النازلة عندهم دون أن يرضى الخصمان فإنها تحتمل الخلاف وانظر إذا رضي الخصمان ولم يقع من الأحبار نكير فحكم الحاكم ثم أراد الأحبار رد ذلك الحكم وهل تستوي النوازل في هذا كالرجم في زانيين والقضاء في مال يصير من أحدهما إلى الآخر؟
وانظر إذا رضي الخصمان هل على الحاكم أن يستعلم ما عند الأحبار أو يقنع بأن لم تقع منهم معارضته؟
ومالك رحمه الله يستحب لحاكم المسلمين الإعراض عنهم وتركهم إلى دينهم وقال ابن عباس ومجاهد وغيرهما قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ يعني أهل نازلة الزانيين.
قال القاضي أبو محمد: ثم الآية بعد تتناول سائر النوازل والله علم.
قوله عز وجل:
وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ....
194
أمن الله تعالى نبيه ﷺ من ضررهم إذ أعرض عنهم وحقر في ذلك شأنهم، والمعنى أنك منصور ظاهر الأمر على كل حال، وهذا نحو من قوله تعالى للمؤمنين لَنْ يَضُرُّوكُمْ [آل عمران: ١١١] ثم قال تعالى: وَإِنْ حَكَمْتَ أي اخترت أن تحكم بينهم في نازلة ما فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل، يقال أقسط الرجل إذا عدل وحكم بالحق وقسط إذا جار، ومنه قوله: أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الجن: ١٥] ومحبة الله للمقسطين ما يظهر عليهم من نعمه.
ثم ذكر الله تعالى بعد تحكيمهم للنبي ﷺ بالإخلاص منهم ويبين بالقياس الصحيح أنهم لا يحكمونه إلا رغبة في ميله في هواهم وانحطاطه في شهواتهم، وذلك أنه قال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ بنية صادقة وهم قد خالفوا حكم الكتاب الذي يصدقون به وبنبوة الآتي به وتولوا عن حكم الله فيها؟ فأنت الذي لا يؤمنون بك ولا يصدقونك أحرى بأن يخالفوا حكمك، وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد حكم الله في التوراة في الرجم وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمر الله تعالى، وقوله تعالى: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ يعني بالتوراة وبموسى، وهذا إلزام لهم لأن من خالف حكم كتاب الله فدعواه الإيمان به قلقة. وهذه الآية تقوي أن قوله في صدر الآية مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة: ٤١] أنه يراد به اليهود.
وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ الآية، قال قتادة ذكر لنا أن رسول الله ﷺ كان يقول لما أنزلت هذه الآية، نحن اليوم نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان. و «الهدى» :
الإرشاد في المعتقد والشرائع، و «النور» : ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها، والنَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا هم من بعث من لدن موسى بن عمران إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم، هذان طرفا هذه الجماعة المذكورة في هذه الآية وأَسْلَمُوا معناه أخلصوا وجوههم ومقاصدهم لله تعالى. وقوله تعالى: لِلَّذِينَ هادُوا متعلق ب يَحْكُمُ أي يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم. وقوله تعالى:
الرَّبَّانِيُّونَ عطف على «النبيين» أي ويحكم بها الربانيون وهم العلماء، وفي البخاري قال «الرباني» الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وقيل «الرباني» منسوب إلى الرب أي عنده العلم به وبدينه، وزيدت النون في «رباني» مبالغة كما قالوا منظراني ومخبراني وفي عظيم الرقبة رقباني، والأحبار أيضا العلماء واحدهم حبر بكسر الحاء، ويقال بفتحها وكثر استعمال الفتح فيه للفرق بينه وبين الحبر الذي يكتب به. وقال السدي المراد هنا «بالربانيين والأحبار» الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهم ربانيا والآخر حبرا. وكانوا قد أعطوا النبي ﷺ عهدا أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به، فسألهما عن آية الرجم فأخبراه به على وجهه فنزلت الآية مشيرة إليهما.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، والرواية الصحيحة أن ابني صوريا وغيرهم جحدوا أمر الرجم
[الجن: ١٥] ومحبة الله للمقسطين ما يظهر عليهم من نعمه.
ثم ذكر الله تعالى بعد تحكيمهم للنبي ﷺ بالإخلاص منهم ويبين بالقياس الصحيح أنهم لا يحكمونه إلا رغبة في ميله في هواهم وانحطاطه في شهواتهم، وذلك أنه قال: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ بنية صادقة وهم قد خالفوا حكم الكتاب الذي يصدقون به وبنبوة الآتي به وتولوا عن حكم الله فيها؟ فأنت الذي لا يؤمنون بك ولا يصدقونك أحرى بأن يخالفوا حكمك، وقوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي من بعد حكم الله في التوراة في الرجم وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمر الله تعالى، وقوله تعالى: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ يعني بالتوراة وبموسى، وهذا إلزام لهم لأن من خالف حكم كتاب الله فدعواه الإيمان به قلقة. وهذه الآية تقوي أن قوله في صدر الآية مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ [المائدة: ٤١] أنه يراد به اليهود.
وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ الآية، قال قتادة ذكر لنا أن رسول الله ﷺ كان يقول لما أنزلت هذه الآية، نحن اليوم نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان. و «الهدى» :
الإرشاد في المعتقد والشرائع، و «النور» : ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها، والنَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا هم من بعث من لدن موسى بن عمران إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم، هذان طرفا هذه الجماعة المذكورة في هذه الآية وأَسْلَمُوا معناه أخلصوا وجوههم ومقاصدهم لله تعالى. وقوله تعالى: لِلَّذِينَ هادُوا متعلق ب يَحْكُمُ أي يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم. وقوله تعالى:
الرَّبَّانِيُّونَ عطف على «النبيين» أي ويحكم بها الربانيون وهم العلماء، وفي البخاري قال «الرباني» الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وقيل «الرباني» منسوب إلى الرب أي عنده العلم به وبدينه، وزيدت النون في «رباني» مبالغة كما قالوا منظراني ومخبراني وفي عظيم الرقبة رقباني، والأحبار أيضا العلماء واحدهم حبر بكسر الحاء، ويقال بفتحها وكثر استعمال الفتح فيه للفرق بينه وبين الحبر الذي يكتب به. وقال السدي المراد هنا «بالربانيين والأحبار» الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهم ربانيا والآخر حبرا. وكانوا قد أعطوا النبي ﷺ عهدا أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به، فسألهما عن آية الرجم فأخبراه به على وجهه فنزلت الآية مشيرة إليهما.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، والرواية الصحيحة أن ابني صوريا وغيرهم جحدوا أمر الرجم
195
وفضحهم فيه عبد الله بن سلام، وإنما اللفظ عام في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان، وأما في مدة محمد ﷺ فلو وجد لأسلم فلم يسم حبرا ولا ربانيا. وقوله تعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا أي بسبب استحفاظ الله تعالى إياهم أمر التوراة وأخذه العهد عليهم في العمل والقول بها وعرفهم ما فيها فصاروا شهداء عليه، وهؤلاء ضيعوا لما استحفظوا حتى تبدلت التوراة، والقرآن بخلاف هذا لقوله تعالى:
وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: ٩] والحمد لله. وقوله تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ حكاية ما قيل لعلماء بني إسرائيل. وقوله: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين. وهذا المعنى بعينه يتناول علماء هذه الأمة وحكامها ويحتمل أن يكون قوله فلا تخشوا الناس إلى آخر الآية خطابا لأمة محمد ﷺ واختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ فقالت جماعة: المراد اليهود بالكافرين والظالمين والفاسقين، وروي في هذا حديث عن النبي ﷺ من طريق البراء بن عازب. وقالت جماعة عظيمة من أهل العلم الآية متناولة كل من لم يحكم بما أنزل الله. ولكنه في أمراء هذه الأمة كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان. وقيل لحذيفة بن اليمان أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل؟ فقال نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ان كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة لتسلكن طريقهم قد الشراك. وقال الشعبي: نزلت الْكافِرُونَ في المسلمين والظَّالِمُونَ في اليهود والْفاسِقُونَ في النصارى.
قال القاضي أبو محمد: ولا أعلم بهذا التخصيص وجها إلا إن صح فيه حديث عن النبي ﷺ إلا أنه راعى من ذكر مع كل خبر من هذه الثلاثة فلا يترتب له ما ذكر في المسلمين إلا على أنهم خوطبوا بقوله: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وقال إبراهيم النخعي: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ثم رضي لهذه الأمة بها.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٥]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)
«الكتب» في هذه الآية هو حقيقة كتب في الألواح، وهو بالمعنى كتب فرض وإلزام، والضمير في عَلَيْهِمْ لبني إسرائيل وفي فِيها للتوراة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ بنصب النفس على اسم أَنَّ وعطف ما بعد ذلك منصوبا على النَّفْسَ. ويرفعون «والجروح قصاص» على أنها جملة مقطوعة. وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب ذلك كله. وقِصاصٌ خبر أَنَّ. وروى الواقدي عن نافع أنه رفع «والجروح». وقرأ الكسائي «أن النفس بالنفس» نصبا ورفع ما بعد ذلك، فمن نصب «والعين» جعل عطف الواو مشركا في عمل «أن» ولم يقطع الكلام مما قبله. ومن رفع «والعين» فيتمثل ذلك من الأعراب أن يكون قطع مما قبل، وصار عطف الواو عطف جملة كلام لا عطف تشريك في
وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: ٩] والحمد لله. وقوله تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ حكاية ما قيل لعلماء بني إسرائيل. وقوله: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين. وهذا المعنى بعينه يتناول علماء هذه الأمة وحكامها ويحتمل أن يكون قوله فلا تخشوا الناس إلى آخر الآية خطابا لأمة محمد ﷺ واختلف العلماء في المراد بقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ فقالت جماعة: المراد اليهود بالكافرين والظالمين والفاسقين، وروي في هذا حديث عن النبي ﷺ من طريق البراء بن عازب. وقالت جماعة عظيمة من أهل العلم الآية متناولة كل من لم يحكم بما أنزل الله. ولكنه في أمراء هذه الأمة كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان. وقيل لحذيفة بن اليمان أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل؟ فقال نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ان كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة لتسلكن طريقهم قد الشراك. وقال الشعبي: نزلت الْكافِرُونَ في المسلمين والظَّالِمُونَ في اليهود والْفاسِقُونَ في النصارى.
قال القاضي أبو محمد: ولا أعلم بهذا التخصيص وجها إلا إن صح فيه حديث عن النبي ﷺ إلا أنه راعى من ذكر مع كل خبر من هذه الثلاثة فلا يترتب له ما ذكر في المسلمين إلا على أنهم خوطبوا بقوله: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وقال إبراهيم النخعي: نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ثم رضي لهذه الأمة بها.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : آية ٤٥]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)
«الكتب» في هذه الآية هو حقيقة كتب في الألواح، وهو بالمعنى كتب فرض وإلزام، والضمير في عَلَيْهِمْ لبني إسرائيل وفي فِيها للتوراة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ بنصب النفس على اسم أَنَّ وعطف ما بعد ذلك منصوبا على النَّفْسَ. ويرفعون «والجروح قصاص» على أنها جملة مقطوعة. وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب ذلك كله. وقِصاصٌ خبر أَنَّ. وروى الواقدي عن نافع أنه رفع «والجروح». وقرأ الكسائي «أن النفس بالنفس» نصبا ورفع ما بعد ذلك، فمن نصب «والعين» جعل عطف الواو مشركا في عمل «أن» ولم يقطع الكلام مما قبله. ومن رفع «والعين» فيتمثل ذلك من الأعراب أن يكون قطع مما قبل، وصار عطف الواو عطف جملة كلام لا عطف تشريك في
196
عامل، ويحتمل أن تكون الواو عاطفة على المعنى لأن معنى قوله: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ قلنا لهم النفس بالنفس، ومثله لما كان المعنى في قوله تعالى: يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ
[الصافات: ٤٥] يمنحون كأسا من معين عطف وحورا عينا على ذلك، ويحتمل أن يعطف قوله وَالْعَيْنَ على الذكر المستتر في الطرق الذي هو الخبر وإن لم يؤكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل كما أكد في قوله تعالى: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف: ٢٧] وقد جاء مثله غير مؤكد في قوله تعالى: ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الأنعام: ١٤٨].
قال القاضي أبو محمد: ولسيبويه رحمه الله في هذه الآية أن العطف ساغ دون توكيد بضمير منفصل لأن الكلام طال ب لا في قوله: وَلا آباؤُنا فكانت لا عوضا من التوكيد كما طال الكلام في قولهم حضر القاضي اليوم امرأة، قال أبو علي: وهذا إنما يستقيم أن يكون عوضا إذا وقع قبل حرف العطف فهناك يكون عوضا من الضمير الواقع قبل حرف العطف، فأما إذا وقع بعد حرف العطف فلا يسد مسد الضمير، ألا ترى أنك قلت حضر امرأة القاضي اليوم لم يغن طول الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه.
قال القاضي أبو محمد: وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي وإن كان الطول قبل حرف العطف أتم فإنه بعد حرف العطف مؤثر لا سيما في هذه الآية، لأن لا ربطت المعنى إذ قد تقدمها نفي ونفت هي أيضا عن الآباء فتمكن العطف، قال أبو علي ومن رفع «والجروح قصاص» فقطعه مما قبله فإن ذلك يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي احتملها رفع والعين، ويجوز أن يستأنف والجروح ليس على أنه مما كتب عليهم في التوراة، لكن على استئناف إيجاب وابتداء شريعة. ويقوي أنه من المكتوب عليهم نصب من نصبه. وروى أنس بن مالك عن النبي ﷺ أنه قرأ «أن النفس بالنفس» بتخفيف «أن» ورفع «النفس» ثم رفع ما بعدها إلى آخر الآية. وقرأ أبيّ بن كعب بنصب «النفس» وما بعدها ثم قرأ: «وأن الجروح قصاص» بزيادة «أن» الخفيفة ورفع «الجروح».
ومعنى هذه الآية الخبر بأن الله تعالى كتب فرضا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا فيجب في ذلك أخذ نفسه ثم هذه الأعضاء المذكورة كذلك ثم استمر هذا الحكم في هذه الأمة بما علم من شرع النبي ﷺ وأحكامه. ومضى عليه إجماع الناس، وذهب قوم من العلماء إلى تعميم قوله:
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ فقتلوا الحر بالعبد والمسلم بالذمي، والجمهور على أنه عموم يراد به الخصوص في المتماثلين. وهذا مذهب مالك وفيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل مسلم بكافر» وقال ابن عباس رضي الله عنه: رخص الله لهذه الأمة ووسع عليها بالدية ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذه الآية بيان لفساد فعل بني إسرائيل في تعزر بعضهم على بعض وكون بني النضير على الضعف في الدية من بني قريظة أو على أن لا يقاد بينهم بل يقنع بالدية، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية وأعلم أنهم خالفوا كتابهم، وحكى الطبري عن ابن عباس: كان بين حيين من الأنصار قتال فصارت بينهم قتلى وكان لأحدهما طول على الآخر فجاء النبي ﷺ فجعل الحر بالحر والعبد بالعبد. قال الثوري: وبلغني عن ابن عباس أنه قال ثم نسختها النَّفْسَ بِالنَّفْسِ.
[الصافات: ٤٥] يمنحون كأسا من معين عطف وحورا عينا على ذلك، ويحتمل أن يعطف قوله وَالْعَيْنَ على الذكر المستتر في الطرق الذي هو الخبر وإن لم يؤكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل كما أكد في قوله تعالى: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف: ٢٧] وقد جاء مثله غير مؤكد في قوله تعالى: ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا [الأنعام: ١٤٨].
قال القاضي أبو محمد: ولسيبويه رحمه الله في هذه الآية أن العطف ساغ دون توكيد بضمير منفصل لأن الكلام طال ب لا في قوله: وَلا آباؤُنا فكانت لا عوضا من التوكيد كما طال الكلام في قولهم حضر القاضي اليوم امرأة، قال أبو علي: وهذا إنما يستقيم أن يكون عوضا إذا وقع قبل حرف العطف فهناك يكون عوضا من الضمير الواقع قبل حرف العطف، فأما إذا وقع بعد حرف العطف فلا يسد مسد الضمير، ألا ترى أنك قلت حضر امرأة القاضي اليوم لم يغن طول الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه.
قال القاضي أبو محمد: وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي وإن كان الطول قبل حرف العطف أتم فإنه بعد حرف العطف مؤثر لا سيما في هذه الآية، لأن لا ربطت المعنى إذ قد تقدمها نفي ونفت هي أيضا عن الآباء فتمكن العطف، قال أبو علي ومن رفع «والجروح قصاص» فقطعه مما قبله فإن ذلك يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي احتملها رفع والعين، ويجوز أن يستأنف والجروح ليس على أنه مما كتب عليهم في التوراة، لكن على استئناف إيجاب وابتداء شريعة. ويقوي أنه من المكتوب عليهم نصب من نصبه. وروى أنس بن مالك عن النبي ﷺ أنه قرأ «أن النفس بالنفس» بتخفيف «أن» ورفع «النفس» ثم رفع ما بعدها إلى آخر الآية. وقرأ أبيّ بن كعب بنصب «النفس» وما بعدها ثم قرأ: «وأن الجروح قصاص» بزيادة «أن» الخفيفة ورفع «الجروح».
ومعنى هذه الآية الخبر بأن الله تعالى كتب فرضا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا فيجب في ذلك أخذ نفسه ثم هذه الأعضاء المذكورة كذلك ثم استمر هذا الحكم في هذه الأمة بما علم من شرع النبي ﷺ وأحكامه. ومضى عليه إجماع الناس، وذهب قوم من العلماء إلى تعميم قوله:
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ فقتلوا الحر بالعبد والمسلم بالذمي، والجمهور على أنه عموم يراد به الخصوص في المتماثلين. وهذا مذهب مالك وفيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل مسلم بكافر» وقال ابن عباس رضي الله عنه: رخص الله لهذه الأمة ووسع عليها بالدية ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذه الآية بيان لفساد فعل بني إسرائيل في تعزر بعضهم على بعض وكون بني النضير على الضعف في الدية من بني قريظة أو على أن لا يقاد بينهم بل يقنع بالدية، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية وأعلم أنهم خالفوا كتابهم، وحكى الطبري عن ابن عباس: كان بين حيين من الأنصار قتال فصارت بينهم قتلى وكان لأحدهما طول على الآخر فجاء النبي ﷺ فجعل الحر بالحر والعبد بالعبد. قال الثوري: وبلغني عن ابن عباس أنه قال ثم نسختها النَّفْسَ بِالنَّفْسِ.
197
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ
ﰭ
ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ
ﰮ
ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ
ﰯ
قال القاضي أبو محمد: وكذلك قوله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ هو عموم يراد به الخصوص في جراح القود، وهي التي لا يخاف منها على النفس، فأما ما خيف منه كالمأمومة وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها. و «القصاص» مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه. فكأن الجاني يقتص أثره ويتبع فيما سنه فيقتل كما قتل، وقوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ يحتمل ثلاثة معان، أحدها أن تكون «من» للجروح أو ولي القتيل. ويعود الضمير في قوله: لَهُ عليه أيضا، ويكون المعنى أن من تصدق بجرحه أو دم وليه فعفا عن حقه في ذلك فإن ذلك العفو كفارة له عن ذنوبه ويعظم الله أجره بذلك ويكفر عنه، وقال بهذا التأويل عبد الله بن عمر وجابر بن زيد وأبو الدرداء وذكر أنه سمع النبي ﷺ يقول: ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله بذلك درجة وحط عنه خطيئة، وذكر مكي حديثا من طريق الشعبي أنه يحط من ذنوبه بقدر ما عفا من الدية والله أعلم. وقال به أيضا قتادة والحسن، والمعنى الثاني أن تكون «من» للجروح أو ولي القتيل، والضمير في لَهُ يعود على الجارح أو القاتل إذا تصدق المجروح أو على الجارح بجرحه وصح عنه: فذلك العفو كفارة للجارح عن ذلك الذنب، فكما أن القصاص كفارة فكذلك العفو كفارة، وأما أجر العافي فعلى الله تعالى، وعاد الضمير على من لم يتقدم له ذكر لأن المعنى يقتضيه، قال بهذا التأويل ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي ومجاهد وإبراهيم وعامر الشعبي وزيد بن أسلم، والمعنى الثالث أن تكون للجارح أو القاتل والضمير في لَهُ يعود عليه أيضا، والمعنى إذا جنى جان فجهل وخفي أمره فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكن الحق من نفسه فذلك الفعل كفارة لذنبه، وذهب القائلون بهذا التأويل إلى الاحتجاج بأن مجاهدا قال إذا أصاب رجل رجلا ولم يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب فهو كفارة للمصيب، وروي أن عروة بن الزبير أصاب عين إنسان عند الركن وهم يستلمون فلم يدر المصاب من أصابه فقال له عروة أنا أصبتك وأنا عروة بن الزبير. فإن كان بعينك بأس فإنها بها.
قال القاضي أبو محمد: وانظر أن تَصَدَّقَ على هذا التأويل يحتمل أن يكون من الصدقة ومن الصدق، وذكر مكي بن أبي طالب وغيره أن قوما تأولوا الآية أن المعنى وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فمن أعطى دية الجرح وتصدق بذلك فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل قلق. وقد تقدم القول على قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ الآية. وفي مصحف أبيّ بن كعب «ومن يتصدق به فإنه كفارة له».
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٦ الى ٤٨]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)
قَفَّيْنا تشبيه كأن مجيء عيسى كان في قفاء مجيء النبيين وذهابهم، والضمير في آثارِهِمْ
قال القاضي أبو محمد: وانظر أن تَصَدَّقَ على هذا التأويل يحتمل أن يكون من الصدقة ومن الصدق، وذكر مكي بن أبي طالب وغيره أن قوما تأولوا الآية أن المعنى وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فمن أعطى دية الجرح وتصدق بذلك فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل قلق. وقد تقدم القول على قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ الآية. وفي مصحف أبيّ بن كعب «ومن يتصدق به فإنه كفارة له».
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٦ الى ٤٨]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨)
قَفَّيْنا تشبيه كأن مجيء عيسى كان في قفاء مجيء النبيين وذهابهم، والضمير في آثارِهِمْ
198
للنبيين المذكورين في قوله: يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ [المائدة: ٤٤] ومُصَدِّقاً حال مؤكده.
والتَّوْراةِ بين يدي عيسى لأنها جاءت قبله كما أن رسول الله ﷺ بين يدي الساعة، وقد تقدم القول في هذا المعنى في غير موضع، والْإِنْجِيلَ اسم أعجمي ذهب به مذهب الاشتقاق من نجل إذا استخرج وأظهر، والناس على قراءته بكسر الهمزة إلا الحسن بن أبي الحسن فإنه قرأ «الإنجيل» بفتح الهمزة، وقد تقدم القول على ذلك في أول سورة آل عمران. و «الهدى» الإرشاد والدعاء إلى توحيد الله وإحياء أحكامه. و «النور» ما فيه مما يستضاء به. ومُصَدِّقاً حال مؤكدة معطوفة على موضع الجملة التي هي فيه هدى فإنها جملة في موضع الحال. وقال مكي وغيره: مُصَدِّقاً معطوف على الأول.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا قلق من جهة اتساق المعاني. وقرأ الناس «وهدى وموعظة» بالنصب. وذلك عطف على مُصَدِّقاً، وقرأ الضحاك «وهدى وموعظة» بالرفع وذلك متجه. وخص «المتقين» بالذكر لأنهم المقصود به في علم الله وإن كان الجميع يدعى ويوعظ ولكن ذلك على غير المتقين عمى وحيرة.
وقرأ أبيّ بن كعب «وأن ليحكم» بزيادة أن. وقرأ حمزة وحده «وليحكم» بكسر اللام وفتح الميم على لام كي ونصب الفعل بها، والمعنى وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق ليحكم أهله بما أنزل الله فيه، وقرأ باقي السبعة «وليحكم» بسكون اللام التي هي لام الأمر وجزم الفعل. ومعنى أمره لهم بالحكم أي هكذا يجب عليهم. وحسن عقب ذلك التوقيف على وعيد من خالف ما أنزل الله. ومن القراء من يكسر لام الأمر ويجزم الفعل وقد تقدم نظير هذه الآية، وتقريره هذه الصفات لمن لم يحكم بما أنزل الله هو على جهة التأكيد وأصوب ما يقال فيها أنها تعم كل مؤمن وكل كافر، فيجيء كل ذلك في الكافر على أتم وجوهه، وفي المؤمن على معنى كفر المعصية وظلمها وفسقها.
وأخبر تعالى بعد بنزول هذا القرآن، وقوله: بِالْحَقِّ يحتمل أن يريد مضمنا الحقائق من الأمور فكأنه نزل بها، ويحتمل أن يريد أنه أنزله بأن حق ذلك لا أنه وجب على الله ولكن حق في نفسه وأنزله الله تعالى صلاحا لعباده، وقوله: مِنَ الْكِتابِ يريد من الكتب المنزلة. فهو اسم جنس، واختلفت عبارة المفسرين في معنى «مهيمن». فقال ابن عباس: مُهَيْمِناً شاهدا. وقال أيضا مؤتمنا. وقال ابن زيد:
معناه مصدقا، وقال الحسن بن أبي الحسن أمينا، وحكى الزجاج رقيبا ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ، لأن المهيمن على الشيء هو المعنيّ بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحاصله ولأن يدخل فيه ما ليس منه والله تبارك وتعالى هو المهيمن على مخلوقاته وعباده، والوصي مهيمن على محجوريه وأموالهم، والرئيس مهيمن على رعيته وأحوالهم، والقرآن جعله الله مهيمنا على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرفون إليها فيصحح الحقائق ويبطل التحريف، وهذا هو شاهد ومصدق ومؤتمن وأمين، و «مهيمن» بناء اسم فاعل، قال أبو عبيدة: ولم يجىء في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعة أحرف.
وهي مسيطر ومبيطر ومهيمن ومجيمر. وذكر أبو القاسم الزجّاج في شرحه لصدر أدب الكتاب ومبيقر. يقال بيقر الرجل إذا سار من الحجاز إلى الشام ومن أفق إلى أفق، وبيقر أيضا لعب البيقرا وهي لعب يلعب بها
والتَّوْراةِ بين يدي عيسى لأنها جاءت قبله كما أن رسول الله ﷺ بين يدي الساعة، وقد تقدم القول في هذا المعنى في غير موضع، والْإِنْجِيلَ اسم أعجمي ذهب به مذهب الاشتقاق من نجل إذا استخرج وأظهر، والناس على قراءته بكسر الهمزة إلا الحسن بن أبي الحسن فإنه قرأ «الإنجيل» بفتح الهمزة، وقد تقدم القول على ذلك في أول سورة آل عمران. و «الهدى» الإرشاد والدعاء إلى توحيد الله وإحياء أحكامه. و «النور» ما فيه مما يستضاء به. ومُصَدِّقاً حال مؤكدة معطوفة على موضع الجملة التي هي فيه هدى فإنها جملة في موضع الحال. وقال مكي وغيره: مُصَدِّقاً معطوف على الأول.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا قلق من جهة اتساق المعاني. وقرأ الناس «وهدى وموعظة» بالنصب. وذلك عطف على مُصَدِّقاً، وقرأ الضحاك «وهدى وموعظة» بالرفع وذلك متجه. وخص «المتقين» بالذكر لأنهم المقصود به في علم الله وإن كان الجميع يدعى ويوعظ ولكن ذلك على غير المتقين عمى وحيرة.
وقرأ أبيّ بن كعب «وأن ليحكم» بزيادة أن. وقرأ حمزة وحده «وليحكم» بكسر اللام وفتح الميم على لام كي ونصب الفعل بها، والمعنى وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق ليحكم أهله بما أنزل الله فيه، وقرأ باقي السبعة «وليحكم» بسكون اللام التي هي لام الأمر وجزم الفعل. ومعنى أمره لهم بالحكم أي هكذا يجب عليهم. وحسن عقب ذلك التوقيف على وعيد من خالف ما أنزل الله. ومن القراء من يكسر لام الأمر ويجزم الفعل وقد تقدم نظير هذه الآية، وتقريره هذه الصفات لمن لم يحكم بما أنزل الله هو على جهة التأكيد وأصوب ما يقال فيها أنها تعم كل مؤمن وكل كافر، فيجيء كل ذلك في الكافر على أتم وجوهه، وفي المؤمن على معنى كفر المعصية وظلمها وفسقها.
وأخبر تعالى بعد بنزول هذا القرآن، وقوله: بِالْحَقِّ يحتمل أن يريد مضمنا الحقائق من الأمور فكأنه نزل بها، ويحتمل أن يريد أنه أنزله بأن حق ذلك لا أنه وجب على الله ولكن حق في نفسه وأنزله الله تعالى صلاحا لعباده، وقوله: مِنَ الْكِتابِ يريد من الكتب المنزلة. فهو اسم جنس، واختلفت عبارة المفسرين في معنى «مهيمن». فقال ابن عباس: مُهَيْمِناً شاهدا. وقال أيضا مؤتمنا. وقال ابن زيد:
معناه مصدقا، وقال الحسن بن أبي الحسن أمينا، وحكى الزجاج رقيبا ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ، لأن المهيمن على الشيء هو المعنيّ بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحاصله ولأن يدخل فيه ما ليس منه والله تبارك وتعالى هو المهيمن على مخلوقاته وعباده، والوصي مهيمن على محجوريه وأموالهم، والرئيس مهيمن على رعيته وأحوالهم، والقرآن جعله الله مهيمنا على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرفون إليها فيصحح الحقائق ويبطل التحريف، وهذا هو شاهد ومصدق ومؤتمن وأمين، و «مهيمن» بناء اسم فاعل، قال أبو عبيدة: ولم يجىء في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعة أحرف.
وهي مسيطر ومبيطر ومهيمن ومجيمر. وذكر أبو القاسم الزجّاج في شرحه لصدر أدب الكتاب ومبيقر. يقال بيقر الرجل إذا سار من الحجاز إلى الشام ومن أفق إلى أفق، وبيقر أيضا لعب البيقرا وهي لعب يلعب بها
199
الصبيان، وقال مجاهد قوله تعالى: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ يعني محمدا ﷺ هو مؤتمن على القرآن.
قال القاضي أبو محمد: وغلط الطبري رحمه الله في هذه اللفظة على مجاهد فإنه فسر تأويله على قراءة الناس «مهيمنا» بكسر الميم الثانية فبعد التأويل ومجاهد رحمه الله إنما يقرأ هو وابن محيصن «ومهيمنا» عليه بفتح الميم الثانية فهو بناء اسم المفعول. وهو حال من الكتاب معطوفة على قوله:
مُصَدِّقاً وعلى هذا يتجه أن المؤتمن عليه هو محمد ﷺ وعَلَيْهِ في موضع رفع على تقدير أنها مفعول لم يسم فاعله. هذا على قراءة مجاهد وكذلك مشى مكي رحمه الله، وتوغل في طريق الطبري في هذا الموضع قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد رحمه الله: «مهيمن» أصله «مويمن» بني من أمين، أبدلت همزته هاء كما قالوا أرقت الماء وهرقته، قال الزجاج: وهذا حسن على طريق العربية، وهو موافق لما جاء في التفسير من أن معنى «مهيمن» مؤتمن، وحكى ابن قتيبة هذا الذي قال المبرد في بعض كتبه، فحكى النقاش أن ذلك بلغ ثعلبا فقال: إن ما قال ابن قتيبة رديء، وقال هذا باطل، والوثوب على القرآن شديد وهو ما سمع الحديث من قوي ولا ضعيف وإنما جمع الكتب، انتهى كلام ثعلب.
قال القاضي أبو محمد: ويقال من مهيمن هيمن الرجل على الشيء إذا حفظه وحاطه وصار قائما عليه أمينا، ويحتمل أن يكون مُصَدِّقاً ومُهَيْمِناً حالين من الكاف في إِلَيْكَ. ولا يخص ذلك قراءة مجاهد وحده كما زعم مكي.
قوله عز وجل:
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ....
قال بعض العلماء هذه ناسخة لقوله: أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة: ٤٢] وقد تقدم ذكر ذلك. وقال الجمهور: إنه ليس بنسخ، وإن المعنى فإن اخترت أن تحكم فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ثم حذر تعالى نبيه من اتباع أهوائهم أي شهواتهم وإرادتهم التي هي هوى وسول للنفس، والنفس أمّارة بالسوء فهواها مرد لا محالة، وحسن هنا دخول عن في قوله: عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لما كان الكلام بمعنى لا تنصرف أو لا تزحزح بحسب أهوائهم عما جاءك. واختلف المتأولون في معنى قوله عز وجل لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة وجمهور المتكلمين: المعنى «لكل أمة منكم جعلنا شرعة ومنهاجا» أي لليهود شرعت ومنهاج وللنصارى كذلك وللمسلمين كذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندهم في الأحكام، وأما في المعتقد فالدين واحد لجميع العالم توحيد وإيمان بالبعث وتصديق للرسل، وقد ذكر الله تعالى في كتابه عددا من الأنبياء شرائعهم مختلفة، ثم قال لنبيه ﷺ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: ٩٠] فهذا عند العلماء في
قال القاضي أبو محمد: وغلط الطبري رحمه الله في هذه اللفظة على مجاهد فإنه فسر تأويله على قراءة الناس «مهيمنا» بكسر الميم الثانية فبعد التأويل ومجاهد رحمه الله إنما يقرأ هو وابن محيصن «ومهيمنا» عليه بفتح الميم الثانية فهو بناء اسم المفعول. وهو حال من الكتاب معطوفة على قوله:
مُصَدِّقاً وعلى هذا يتجه أن المؤتمن عليه هو محمد ﷺ وعَلَيْهِ في موضع رفع على تقدير أنها مفعول لم يسم فاعله. هذا على قراءة مجاهد وكذلك مشى مكي رحمه الله، وتوغل في طريق الطبري في هذا الموضع قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد رحمه الله: «مهيمن» أصله «مويمن» بني من أمين، أبدلت همزته هاء كما قالوا أرقت الماء وهرقته، قال الزجاج: وهذا حسن على طريق العربية، وهو موافق لما جاء في التفسير من أن معنى «مهيمن» مؤتمن، وحكى ابن قتيبة هذا الذي قال المبرد في بعض كتبه، فحكى النقاش أن ذلك بلغ ثعلبا فقال: إن ما قال ابن قتيبة رديء، وقال هذا باطل، والوثوب على القرآن شديد وهو ما سمع الحديث من قوي ولا ضعيف وإنما جمع الكتب، انتهى كلام ثعلب.
قال القاضي أبو محمد: ويقال من مهيمن هيمن الرجل على الشيء إذا حفظه وحاطه وصار قائما عليه أمينا، ويحتمل أن يكون مُصَدِّقاً ومُهَيْمِناً حالين من الكاف في إِلَيْكَ. ولا يخص ذلك قراءة مجاهد وحده كما زعم مكي.
قوله عز وجل:
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ....
قال بعض العلماء هذه ناسخة لقوله: أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة: ٤٢] وقد تقدم ذكر ذلك. وقال الجمهور: إنه ليس بنسخ، وإن المعنى فإن اخترت أن تحكم فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ثم حذر تعالى نبيه من اتباع أهوائهم أي شهواتهم وإرادتهم التي هي هوى وسول للنفس، والنفس أمّارة بالسوء فهواها مرد لا محالة، وحسن هنا دخول عن في قوله: عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لما كان الكلام بمعنى لا تنصرف أو لا تزحزح بحسب أهوائهم عما جاءك. واختلف المتأولون في معنى قوله عز وجل لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً
فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة وجمهور المتكلمين: المعنى «لكل أمة منكم جعلنا شرعة ومنهاجا» أي لليهود شرعت ومنهاج وللنصارى كذلك وللمسلمين كذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندهم في الأحكام، وأما في المعتقد فالدين واحد لجميع العالم توحيد وإيمان بالبعث وتصديق للرسل، وقد ذكر الله تعالى في كتابه عددا من الأنبياء شرائعهم مختلفة، ثم قال لنبيه ﷺ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: ٩٠] فهذا عند العلماء في
200
المعتقدات فقط، وأما أحكام الشرائع فهذه الآية هي القاضية فيها لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً.
قال القاضي أبو محمد: والتأويل الأول عليه الناس. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ الأمم كما قدمنا. ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال في الأنبياء تنبيها لمحمد ﷺ أي فاحفظ شرعتك ومنهاجك لئلا يستزلك اليهود وغيرهم في شيء منه، والمتأولون على أن الشرعة والمنهاج في هذه الآية لفظان بمعنى واحد، وذلك أن الشرعة والشريعة هي الطريق إلى الماء وغيره مما يورد كثيرا فمن ذلك قول الشاعر:
وفي الشرائع من جلان مقتنص... بالي الثياب خفيّ الصوت مندوب
أراد في الطرق إلى المياه، ومنه الشارع وهي سكك المدن، ومنه قول الناس وفيها يشرع الباب، والمنهاج أيضا الطريق، ومنه قول الشاعر:
من يك في شك فهذا نهج... ماء رواء وطريق نهج
أراد واضحا والمنهاج بناء مبالغة في ذلك، وقال ابن عباس وغيره: شِرْعَةً وَمِنْهاجاً معناه سبيلا وسنة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: ويحتمل لفظ الآية أن يريد بالشرعة الأحكام، وبالمنهاج المعتقد أي وهو واحد في جميعكم، وفي هذا الاحتمال بعد، والقراء على «شرعة» بكسر الشين وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «شرعة» بفتح الشين، ثم أخبر تعالى بأنه لو شاء لجعل العالم أمة واحدة ولكنه لم يشأ لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع، كذا قال ابن جريج وغيره، فليس لهم إلا أن يجدّوا في امتثال الأوامر وهو استباق الخيرات، فلذلك أمرهم بأحسن الأشياء عاقبة لهم، ثم حثهم تعالى بالموعظة والتذكير بالمعاد في قوله إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً والمعنى فالبدار البدار، وقوله تعالى: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ معناه يظهر الثواب والعقاب فتخبرون به إخبار إيقاع، وإلا فقد نبأ الله في الدنيا بالحق فيما اختلفت الأمم فيه.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية بارعة الفصاحة جمعت المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة، وكل كتاب الله كذلك، إلا أنا بقصور أفهامنا يبين في بعض لنا أكثر مما يبين في بعض.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
وَأَنِ احْكُمْ معطوف على الْكِتابَ في قوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ [المائدة: ٤٨]، وقال مكي: هو معطوف على «الحق» في قوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [المائدة: ٤٨]، والوجهان حسنان، ويقرأ
قال القاضي أبو محمد: والتأويل الأول عليه الناس. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ الأمم كما قدمنا. ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال في الأنبياء تنبيها لمحمد ﷺ أي فاحفظ شرعتك ومنهاجك لئلا يستزلك اليهود وغيرهم في شيء منه، والمتأولون على أن الشرعة والمنهاج في هذه الآية لفظان بمعنى واحد، وذلك أن الشرعة والشريعة هي الطريق إلى الماء وغيره مما يورد كثيرا فمن ذلك قول الشاعر:
وفي الشرائع من جلان مقتنص... بالي الثياب خفيّ الصوت مندوب
أراد في الطرق إلى المياه، ومنه الشارع وهي سكك المدن، ومنه قول الناس وفيها يشرع الباب، والمنهاج أيضا الطريق، ومنه قول الشاعر:
من يك في شك فهذا نهج... ماء رواء وطريق نهج
أراد واضحا والمنهاج بناء مبالغة في ذلك، وقال ابن عباس وغيره: شِرْعَةً وَمِنْهاجاً معناه سبيلا وسنة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: ويحتمل لفظ الآية أن يريد بالشرعة الأحكام، وبالمنهاج المعتقد أي وهو واحد في جميعكم، وفي هذا الاحتمال بعد، والقراء على «شرعة» بكسر الشين وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «شرعة» بفتح الشين، ثم أخبر تعالى بأنه لو شاء لجعل العالم أمة واحدة ولكنه لم يشأ لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع، كذا قال ابن جريج وغيره، فليس لهم إلا أن يجدّوا في امتثال الأوامر وهو استباق الخيرات، فلذلك أمرهم بأحسن الأشياء عاقبة لهم، ثم حثهم تعالى بالموعظة والتذكير بالمعاد في قوله إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً والمعنى فالبدار البدار، وقوله تعالى: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ معناه يظهر الثواب والعقاب فتخبرون به إخبار إيقاع، وإلا فقد نبأ الله في الدنيا بالحق فيما اختلفت الأمم فيه.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية بارعة الفصاحة جمعت المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة، وكل كتاب الله كذلك، إلا أنا بقصور أفهامنا يبين في بعض لنا أكثر مما يبين في بعض.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (٤٩) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
وَأَنِ احْكُمْ معطوف على الْكِتابَ في قوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ [المائدة: ٤٨]، وقال مكي: هو معطوف على «الحق» في قوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ [المائدة: ٤٨]، والوجهان حسنان، ويقرأ
201
بضم النون من «أن احكم» مراعاة للضمة في عين الفعل المضارع، ويقرأ بكسرها على القانون في التقاء الساكنين، وهذه الآية ناسخة عند قوم للتخيير الذي في قوله أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة: ٤٢] وقد تقدم ذكر ذلك، ثم نهاه تعالى عن اتباع أهواء بني إسرائيل إذ هي مضلة، والهوى في الأغلب إنما يجيء عبارة عما لا خير فيه، وقد يجيء أحيانا مقيدا بما فيه خير، من ذلك قول عمر بن الخطاب في قصة رأيه ورأي أبي بكر في أسرى بدر: فهوى رسول الله رأي أبي بكر، ومنه قول عمر بن عبد العزيز وقد قيل له ما ألذ الأشياء عندك؟ قال: حق وافق هوى، والهوى مقصور ووزنه فعل، ويجمع على أهواء، والهواء ممدود ويجمع على أهوية، ثم حذر تبارك وتعالى من جهتهم «أن يفتنوه» أي يصرفوه بامتحانهم وابتلائهم عن شيء مما أنزل الله عليه من الأحكام، لأنهم كانوا يريدون أن يخدعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له مرارا احكم لنا في نازلة كذا بكذا ونتبعك على دينك، وقوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا قبله محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر، تقديره لا تتبع واحذر، فإن حكموك مع ذلك واستقاموا فنعما ذلك وإن تولوا فاعلم، ويحسن أن يقدر هذا المحذوف المعادل بعد قوله لَفاسِقُونَ، وقوله تعالى: فَاعْلَمْ الآية وعد للنبي ﷺ فيهم، وقد أنجزه بقصة بني قينقاع وقصة قريظة والنضير وإجلاء عمر أهل خيبر وفدك وغيرهم، وخصص تعالى إصابتهم ببعض الذنوب دون كلها لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا وذنوبهم فيها نوعان:
نوع يخصهم كشرب الخمر ورباهم ورشاهم ونحو ذلك، ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كمعاملاتهم للكفار وأقوالهم في الدين، فهذا النوع هو الذي يوجد إليهم السبيل وبه هلكوا وبه توعدهم الله في الدنيا، فلذلك خصص البعض دون الكل، وإنما يعذبون بالكل في الآخرة، وقوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ إشارة إليهم لكن جاءت العبارة تعمهم وغيرهم ليتنبه سواهم ممن كان على فسق ونفاق وتولّ عن النبي عليه السلام فيرى أنه تحت الوعيد.
واختلف القراء في قوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ فقرأ الجمهور بنصب الميم على إعمال فعل ما يلي ألف الاستفهام بينه هذا الظاهر بعد، وقرأ يحيى بن وثاب والسلمي وأبو رجاء والأعرج «أفحكم» برفع الميم، قال ابن مجاهد: وهي خطأ، قال أبو الفتح: ليس كذلك ولكنه وجه غيره أقوى منه.
وقد جاء في الشعر، قال أبو النجم:
برفع كلّ.
قال القاضي أبو محمد: وهكذا الرواية، وبها يتم المعنى الصحيح لأنه أراد التبرؤ من جميع الذنب، ولو نصب «كل» لكان ظاهر قوله إنه صنع بعضه، وهذا هو حذف الضمير من الخبر وهو قبيح، التقدير يبغونه ولم أصنعه، وإنما يحذف الضمير كثيرا من الصلة كقوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: ٤١]، وكما تقول مررت بالذي أكرمت، ويحذف أقل من ذلك من الصفة، وحذفه من الخبر قبيح كما جاء في بيت أبي النجم، ويتجه بيته بوجهين: أحدهما أنه ليس في صدر قوله ألف استفهام يطلب الفعل كما هي في قوله تعالى: أَفَحُكْمَ والثاني أن في البيت عوضا من الهاء المحذوفة، وذلك حرف
نوع يخصهم كشرب الخمر ورباهم ورشاهم ونحو ذلك، ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كمعاملاتهم للكفار وأقوالهم في الدين، فهذا النوع هو الذي يوجد إليهم السبيل وبه هلكوا وبه توعدهم الله في الدنيا، فلذلك خصص البعض دون الكل، وإنما يعذبون بالكل في الآخرة، وقوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ إشارة إليهم لكن جاءت العبارة تعمهم وغيرهم ليتنبه سواهم ممن كان على فسق ونفاق وتولّ عن النبي عليه السلام فيرى أنه تحت الوعيد.
واختلف القراء في قوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ فقرأ الجمهور بنصب الميم على إعمال فعل ما يلي ألف الاستفهام بينه هذا الظاهر بعد، وقرأ يحيى بن وثاب والسلمي وأبو رجاء والأعرج «أفحكم» برفع الميم، قال ابن مجاهد: وهي خطأ، قال أبو الفتح: ليس كذلك ولكنه وجه غيره أقوى منه.
وقد جاء في الشعر، قال أبو النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدعي | عليّ ذنبا كلّه لم أصنع |
قال القاضي أبو محمد: وهكذا الرواية، وبها يتم المعنى الصحيح لأنه أراد التبرؤ من جميع الذنب، ولو نصب «كل» لكان ظاهر قوله إنه صنع بعضه، وهذا هو حذف الضمير من الخبر وهو قبيح، التقدير يبغونه ولم أصنعه، وإنما يحذف الضمير كثيرا من الصلة كقوله تعالى: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [الفرقان: ٤١]، وكما تقول مررت بالذي أكرمت، ويحذف أقل من ذلك من الصفة، وحذفه من الخبر قبيح كما جاء في بيت أبي النجم، ويتجه بيته بوجهين: أحدهما أنه ليس في صدر قوله ألف استفهام يطلب الفعل كما هي في قوله تعالى: أَفَحُكْمَ والثاني أن في البيت عوضا من الهاء المحذوفة، وذلك حرف
202
الإطلاق أعني الياء في اصنعي فتضعف قراءة من قرأ «أفحكم» بالرفع لأن الفعل بعده لا ضمير فيه ولا عوض من الضمير، وألف الاستفهام التي تطلب الفعل ويختار معها النصب وإن لفظ بالضمير حاضرة، وإنما تتجه القراءة على أن يكون التقدير أفحكم الجاهلية حكم يبغون فلا تجعل يبغون خبرا بل تجعله صفة خبر موصوف محذوف، ونظيره قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ [النساء: ٤٦] تقديره قوم يحرفون فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، ومثله قول الشاعر:
وقرأ سليمان بن مهران «أفحكم» بفتح الحاء والكاف والميم وهو اسم جنس، وجاز إضافة اسم الجنس على نحو قولهم منعت العراق قفيزها ودرهمها ومصر أردبها، وله نظائر.
قال القاضي أبو محمد: فكأنه قال أفحكام الجاهلية يبغون؟ إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان ويحكمون بحسبه وبحسب الشهوات، ثم ترجع هذه القراءة بالمعنى إلى الأولى لأن التقدير أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ، وقرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء على الخطاب لهم أي قل لهم. وباقي السبعة «يبغون» بالياء من تحت، ويَبْغُونَ معناه يطلبون ويريدون، وقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً تقرير أي لا أحد أحسن منه حكما تبارك وتعالى وحسن دخول اللام في قوله: لِقَوْمٍ من حيث المعنى يبين ذلك ويظهر لقوم يوقنون.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢)
نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة. وحكم هذه الآية باق. وكل من أكثر مخالطة هذين الصنفين فله حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وأما معاملة اليهودي والنصراني من غير مخالطة ولا ملابسة فلا تدخل في النهي، وقد عامل رسول الله ﷺ يهوديا ورهنه درعه، واختلف المفسرون في سبب هذه الآية، فقال عطية بن سعد والزهري وابن إسحاق وغيرهم: سببها أنه لما انقضت بدر وشجر أمر بني قينقاع أراد رسول الله ﷺ قتلهم فقام دونهم عبد الله بن أبي ابن سلول وكان حليفا لهم، وكان لعبادة بن الصامت من حلفهم مثل ما لعبد الله، فلما رأى عبادة منزع رسول الله ﷺ وما سلكته يهود من المشاقة لله ورسوله جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إني أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم ولا والي إلا الله ورسوله، وقال عبد الله بن أبي: أما أنا فلا أبرأ من ولاء يهود، فإني لا بد لي منهم إني رجل أخاف الدوائر، وحكى ابن إسحاق في السير أنه قام إلى رسول الله ﷺ فأدخل يده في جيب درعه، وقال: يا محمد أحسن في مواليّ، فقال له رسول الله:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما | أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح |
قال القاضي أبو محمد: فكأنه قال أفحكام الجاهلية يبغون؟ إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان ويحكمون بحسبه وبحسب الشهوات، ثم ترجع هذه القراءة بالمعنى إلى الأولى لأن التقدير أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ، وقرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء على الخطاب لهم أي قل لهم. وباقي السبعة «يبغون» بالياء من تحت، ويَبْغُونَ معناه يطلبون ويريدون، وقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً تقرير أي لا أحد أحسن منه حكما تبارك وتعالى وحسن دخول اللام في قوله: لِقَوْمٍ من حيث المعنى يبين ذلك ويظهر لقوم يوقنون.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢)
نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء في النصرة والخلطة المؤدية إلى الامتزاج والمعاضدة. وحكم هذه الآية باق. وكل من أكثر مخالطة هذين الصنفين فله حظه من هذا المقت الذي تضمنه قوله تعالى: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وأما معاملة اليهودي والنصراني من غير مخالطة ولا ملابسة فلا تدخل في النهي، وقد عامل رسول الله ﷺ يهوديا ورهنه درعه، واختلف المفسرون في سبب هذه الآية، فقال عطية بن سعد والزهري وابن إسحاق وغيرهم: سببها أنه لما انقضت بدر وشجر أمر بني قينقاع أراد رسول الله ﷺ قتلهم فقام دونهم عبد الله بن أبي ابن سلول وكان حليفا لهم، وكان لعبادة بن الصامت من حلفهم مثل ما لعبد الله، فلما رأى عبادة منزع رسول الله ﷺ وما سلكته يهود من المشاقة لله ورسوله جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إني أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم ولا والي إلا الله ورسوله، وقال عبد الله بن أبي: أما أنا فلا أبرأ من ولاء يهود، فإني لا بد لي منهم إني رجل أخاف الدوائر، وحكى ابن إسحاق في السير أنه قام إلى رسول الله ﷺ فأدخل يده في جيب درعه، وقال: يا محمد أحسن في مواليّ، فقال له رسول الله:
203
أرسل الدرع من يدك، فقال لا والله حتى تهبهم لي لأنهم ثلاثمائة دارع وأربعمائة حاسر أفأدعك تحصدهم في غداة واحدة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد وهبتهم لك، ونزلت الآية في ذلك، وقال السدي: سبب هذه الآية أنه لما نزل بالمسلمين أمر أحد فزع منهم قوم وقال بعضهم لبعض نأخذ من اليهود عصما ليعاضدونا إن ألمّت بنا قاصمة من قريش وسائر العرب، فنزلت الآية في ذلك، وقال عكرمة: سبب الآية أمر أبي لبابة بن عبد المنذر وإشارته إلى قريظة أنه الذبح حين استفهموه عن رأيه في نزولهم على حكم سعد بن معاذ.
قال القاضي أبو محمد: وكل هذه الأقوال محتمل، وأوقات هذه النوازل مختلفة، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «لا تتخذوا اليهود والنصارى أربابا بعضهم»، وقوله تعالى: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ جماعة مقطوعة من النهي يتضمن التفرقة بينهم وبين المؤمنين، وقوله تعالى: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ جماعة مقطوعة من النهي يتضمن التفرقة بينهم وبين المؤمنين، وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنحاء على عبد الله بن أبيّ وكل من اتصف بهذه الصفة من موالاتهم، ومن تولاهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر واستحقاق النقمة والخلود في النار، ومن تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقد ولا إخلال بإيمان فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم وعليه، وبهذه الآية جوز ابن عباس وغيره ذبائح النصارى من العرب وقال: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فقال من دخل في دين قوم فهو منهم، وسئل ابن سيرين رحمه الله عن رجل أراد بيع داره من نصارى يتخذونها كنيسة فتلا هذه الآية، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ عموم فإما أن يراد به الخصوص فيمن سبق في علم الله أن لا يؤمن ولا يهتدي وإما أن يراد به تخصيص مدة الظلم والتلبس بفعله، فإن الظلم لا هدى فيه، والظالم من حيث هو ظالم فليس بمهديّ في ظلمه.
وقوله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الآية، مخاطبة محمد ﷺ والإشارة إلى عبد الله بن أبيّ ابن سلول ومن تبعه من المنافقين على مذهبه في حماية بني قينقاع، ويدخل في الآية من كان من مؤمني الخزرج يتابعه جهالة وعصبية، فهذا الصنف له حظه من مرض القلب، وقراءة جمهور الناس «ترى» بالتاء من فوق، فإن جعلت رؤية عين ف يُسارِعُونَ حال وفيها الفائدة المقصودة، وإن جعلت رؤية قلب ف يُسارِعُونَ في موضع المفعول الثاني، ويقولون حال، وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «فيرى» بالياء من تحت والفاعل على هذه القراءة محذوف ولك أن تقدر فيرى الله أو فيرى الرأي والَّذِينَ مفعول، ويحتمل أن يكون الَّذِينَ فاعل والمعنى أن يسارعوا فحذفت «أن» إيجازا يُسارِعُونَ فِيهِمْ معناه في نصرتهم وتأنيسهم وتجميل ذكرهم، وقوله تعالى: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ لفظ محفوظ عن عبد الله بن أبيّ، ولا محالة أنه قال بقوله منافقون كثير، والآية تعطي ذلك، ودائِرَةٌ معناه نازلة من الزمان وحادثة من الحوادث تحوجنا إلى موالينا من اليهود، وتسمى هذه الأمور دوائر على قديم الزمان من حيث الليل والنهار في دوران، فكأن الحادث يدور بدورانها حتى ينزل فيمن نزل، ومنه قول الله تعالى: دائِرَةُ السَّوْءِ [التوبة: ٩٨، الفتح: ٦] ويَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ [التوبة: ٩٨] ومنه قول الشاعر:
والدهر بالإنسان دواريّ
قال القاضي أبو محمد: وكل هذه الأقوال محتمل، وأوقات هذه النوازل مختلفة، وقرأ أبي بن كعب وابن عباس «لا تتخذوا اليهود والنصارى أربابا بعضهم»، وقوله تعالى: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ جماعة مقطوعة من النهي يتضمن التفرقة بينهم وبين المؤمنين، وقوله تعالى: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ جماعة مقطوعة من النهي يتضمن التفرقة بينهم وبين المؤمنين، وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إنحاء على عبد الله بن أبيّ وكل من اتصف بهذه الصفة من موالاتهم، ومن تولاهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر واستحقاق النقمة والخلود في النار، ومن تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقد ولا إخلال بإيمان فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم وعليه، وبهذه الآية جوز ابن عباس وغيره ذبائح النصارى من العرب وقال: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فقال من دخل في دين قوم فهو منهم، وسئل ابن سيرين رحمه الله عن رجل أراد بيع داره من نصارى يتخذونها كنيسة فتلا هذه الآية، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ عموم فإما أن يراد به الخصوص فيمن سبق في علم الله أن لا يؤمن ولا يهتدي وإما أن يراد به تخصيص مدة الظلم والتلبس بفعله، فإن الظلم لا هدى فيه، والظالم من حيث هو ظالم فليس بمهديّ في ظلمه.
وقوله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ الآية، مخاطبة محمد ﷺ والإشارة إلى عبد الله بن أبيّ ابن سلول ومن تبعه من المنافقين على مذهبه في حماية بني قينقاع، ويدخل في الآية من كان من مؤمني الخزرج يتابعه جهالة وعصبية، فهذا الصنف له حظه من مرض القلب، وقراءة جمهور الناس «ترى» بالتاء من فوق، فإن جعلت رؤية عين ف يُسارِعُونَ حال وفيها الفائدة المقصودة، وإن جعلت رؤية قلب ف يُسارِعُونَ في موضع المفعول الثاني، ويقولون حال، وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «فيرى» بالياء من تحت والفاعل على هذه القراءة محذوف ولك أن تقدر فيرى الله أو فيرى الرأي والَّذِينَ مفعول، ويحتمل أن يكون الَّذِينَ فاعل والمعنى أن يسارعوا فحذفت «أن» إيجازا يُسارِعُونَ فِيهِمْ معناه في نصرتهم وتأنيسهم وتجميل ذكرهم، وقوله تعالى: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ لفظ محفوظ عن عبد الله بن أبيّ، ولا محالة أنه قال بقوله منافقون كثير، والآية تعطي ذلك، ودائِرَةٌ معناه نازلة من الزمان وحادثة من الحوادث تحوجنا إلى موالينا من اليهود، وتسمى هذه الأمور دوائر على قديم الزمان من حيث الليل والنهار في دوران، فكأن الحادث يدور بدورانها حتى ينزل فيمن نزل، ومنه قول الله تعالى: دائِرَةُ السَّوْءِ [التوبة: ٩٨، الفتح: ٦] ويَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ [التوبة: ٩٨] ومنه قول الشاعر:
والدهر بالإنسان دواريّ
204
وقول الآخر:
ويعلم أن النائبات تدور
وقول الآخر:
ويعضده قول النبي ﷺ «إن الزمان قد استدار».
قال القاضي أبو محمد: وفعل عبد الله بن أبيّ في هذه النازلة لم يكن ظاهره مغالبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو فعل ذلك لحاربه رسول الله، وإنما كان يظهر للنبي ﷺ أن يستبقيهم لنصرة محمد ولأن ذلك هو الرأي، وقوله إني امرؤ أخشى الدوائر أي من العرب وممن يحارب المدينة وأهلها، وكان يبطن في ذلك كله التحرز من النبي والمؤمنين وآلفت في أعضادهم، وذلك هو الذي أسر هو في نفسه ومن معه على نفاقه ممن يفتضح بعضهم إلى بعض، وقوله تبارك وتعالى: فَعَسَى اللَّهُ مخاطبة للنبي ﷺ وللمؤمنين ووعد لهم، و «عسى» من الله واجبة، واختلف المتأولون في معنى بِالْفَتْحِ في هذه الآية فقال قتادة: يعني به القضاء في هذه النوازل، والفتاح القاضي، فكان هذا الوعد هو مما نزل ببني قينقاع بعد ذلك ويقريظة والنضير، وقال السدي يعني به فتح مكة.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر الفتح في هذه الآية ظهور رسول الله ﷺ وعلو كلمته، أي فيبدو الاستغناء عن اليهود ويرى المنافق أن الله لم يوجد سبيلا إلى ما كان يؤمل فيهم من المعونة على أمر محمد ﷺ والدفع في صدر نبوته فيندم حينئذ على ما حصل فيه من محادة الشرع، وتجلل ثوب المقت من الله تعالى ومن رسوله عليه السلام والمؤمنين كالذي وقع وظهر بعد، وقوله تعالى: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ قال السدي المراد ضرب الجزية.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر أن هذا التقسيم إنما هو لأن الفتح الموعود به هو ما يتركب على سعي النبي وأصحابه ويسببه جدهم وعملهم، فوعد الله تعالى إما بفتح بمقتضى تلك الأفعال وإما بأمر من عنده يهلك أعداء الشرع هو أيضا فتح لا يقع للبشر فيه تسبيب، وقوله تعالى: فَيُصْبِحُوا معناه يكونون كذلك طول دهرهم، وخص الإصباح بالذكر لأن الإنسان في ليله مفكر متستر، فعند الصباح يرى بالحالة التي اقتضتها فكره أو أمراضه ونحو ذلك ومنه قول الشاعر:
أصبحت لا أحمل السلاح
إلى غير هذا من الأمثلة، والذي أسروه هو ما ذكرناه من التمرس بالنبي ﷺ وإعداد اليهود للثورة عليه يوما ما، وقرأ ابن الزهري «فيصبح الفساق على ما أسروا في أنفسهم نادمين».
قوله عز وجل.
ويعلم أن النائبات تدور
وقول الآخر:
يرد عنك القدر المقدورا | ودائرات الدهر أن تدورا |
قال القاضي أبو محمد: وفعل عبد الله بن أبيّ في هذه النازلة لم يكن ظاهره مغالبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو فعل ذلك لحاربه رسول الله، وإنما كان يظهر للنبي ﷺ أن يستبقيهم لنصرة محمد ولأن ذلك هو الرأي، وقوله إني امرؤ أخشى الدوائر أي من العرب وممن يحارب المدينة وأهلها، وكان يبطن في ذلك كله التحرز من النبي والمؤمنين وآلفت في أعضادهم، وذلك هو الذي أسر هو في نفسه ومن معه على نفاقه ممن يفتضح بعضهم إلى بعض، وقوله تبارك وتعالى: فَعَسَى اللَّهُ مخاطبة للنبي ﷺ وللمؤمنين ووعد لهم، و «عسى» من الله واجبة، واختلف المتأولون في معنى بِالْفَتْحِ في هذه الآية فقال قتادة: يعني به القضاء في هذه النوازل، والفتاح القاضي، فكان هذا الوعد هو مما نزل ببني قينقاع بعد ذلك ويقريظة والنضير، وقال السدي يعني به فتح مكة.
قال القاضي أبو محمد: وظاهر الفتح في هذه الآية ظهور رسول الله ﷺ وعلو كلمته، أي فيبدو الاستغناء عن اليهود ويرى المنافق أن الله لم يوجد سبيلا إلى ما كان يؤمل فيهم من المعونة على أمر محمد ﷺ والدفع في صدر نبوته فيندم حينئذ على ما حصل فيه من محادة الشرع، وتجلل ثوب المقت من الله تعالى ومن رسوله عليه السلام والمؤمنين كالذي وقع وظهر بعد، وقوله تعالى: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ قال السدي المراد ضرب الجزية.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر أن هذا التقسيم إنما هو لأن الفتح الموعود به هو ما يتركب على سعي النبي وأصحابه ويسببه جدهم وعملهم، فوعد الله تعالى إما بفتح بمقتضى تلك الأفعال وإما بأمر من عنده يهلك أعداء الشرع هو أيضا فتح لا يقع للبشر فيه تسبيب، وقوله تعالى: فَيُصْبِحُوا معناه يكونون كذلك طول دهرهم، وخص الإصباح بالذكر لأن الإنسان في ليله مفكر متستر، فعند الصباح يرى بالحالة التي اقتضتها فكره أو أمراضه ونحو ذلك ومنه قول الشاعر:
أصبحت لا أحمل السلاح
إلى غير هذا من الأمثلة، والذي أسروه هو ما ذكرناه من التمرس بالنبي ﷺ وإعداد اليهود للثورة عليه يوما ما، وقرأ ابن الزهري «فيصبح الفساق على ما أسروا في أنفسهم نادمين».
قوله عز وجل.
205
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤)اختلف القراء في هذه الآية فقرأ ابن كثير وابن عامر ونافع «يقول» بغير واو عطف وبرفع اللام.
وكذلك ثبت في مصاحف المدينة ومكة. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «ويقول» بإثبات الواو. وكذلك ثبت في مصاحف الكوفيين. وقال الطبري كذلك هي في مصاحف أهل الشرق. وقرأ أبو عمرو وحده «ويقول» بإثبات الواو وبنصب اللام. قال أبو علي وروى علي بن نصر عن أبي عمرو النصب والرفع في اللام. فأما قراءة ابن كثير ونافع فمتعاضدة مع قراءة حمزة والكسائي. لأن الواو ليست عاطفة مفرد على مفرد مشركة في العامل وإنما هي عاطفة جملة على جملة وواصلة بينهما والجملتان متصلتان بغير واو. إذ في الجملة الثانية ذكر من الجملة المعطوف عليها. إذ الذين يسارعون وقالوا نخشى ويصبحون نادمين هم الذين قيل فيهم.
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فلما كانت الجملتان هكذا حسن العطف بالواو وبغير الواو. كما أن قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: ٢٢] لما كان في كل واحدة من الجملتين ذكر مما تقدم اكتفى بذلك عن الواو، وعلى هذا قوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [البقرة: ٣٩ الأعراف: ٣٦ يونس: ٢٧] ولو دخلت الواو فقيل «وهم فيها خالدون» كان حسنا.
قال القاضي أبو محمد: ولكن براعة الفصاحة في الإيجاز، ويدل على حسن دخول الواو قوله تعالى: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الكهف: ٢٢] فحذف الواو من قوله وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا كحذفها من هذه الآية، وإلحاقها في قوله ثامِنُهُمْ.
قال القاضي أبو محمد: وذهب كثير من المفسرين إلى أن هذا القول من المؤمنين إنما هو إذا جاء الفتح حصلت ندامة المنافقين وفضحهم الله تعالى، فحينئذ يقول المؤمنون أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا [المائدة:
٥٣] الآية. وتحتمل الآية أن تكون حكاية لقول المؤمنين في وقت قول الذين في قلوبهم مرض نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ [المائدة: ٥٢] وعند أفعالهم ما فعلوا في حكاية بني قينقاع. فظهر فيها سرهم وفهم منهم أن تمسكهم بهم إنما هو إرصاد لله ولرسوله. فمقتهم النبي والمؤمنون، وترك النبي ﷺ بني قينقاع لعبد الله بن أبيّ رغبة في المصلحة والألفة، وبحكم إظهار عبد الله أن ذلك هو الرأي من نفسه وأن الدوائر التي يخاف إنما هي ما يخرب المدينة وعلم المؤمنون وكل فطن أن عبد الله في ذلك بخلاف ما أبدى. فصار ذلك موطنا يحسن أن يقول فيه المؤمنون أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا الآية، وأما قراءة أبي عمرو ويقول بنصب اللام فلا يتجه معها أن يكون قول المؤمنين إلا عند الفتح وظهور ندامة المنافقين وفضيحتهم، لأن الواو عاطفة فعل على فعل مشركة في العامل، وتوجه عطف وَيَقُولُ مطرد على ثلاثة أوجه، أحدها على المعنى، وذلك أن قوله فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة: ٥٢] إنما المعنى فيه فعسى الله أن يأتي بالفتح فعطف قوله تعالى: وَيَقُولُ على يَأْتِيَ اعتمادا على المعنى، وإلا فلا
206
يجوز أن يقال عسى الله أن يقول المؤمنون. وهكذا قوله تعالى: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقون: ١٠] لما كان المعنى «أخرني إلى أجل قريب» أصدق وحمل أَكُنْ على الجزم الذي يقتضيه المعنى في قوله فَأَصَّدَّقَ، والوجه الثاني أن يكون قوله أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ [المائدة: ٥٢] بدلا من اسم الله عز وجل كما أبدل من الضمير في قوله تعالى: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف: ٦٣] ثم يعطف وَيَقُولُ على أن يأتي لأنه حينئذ كأنك قلت عسى أن يأتي، والوجه الثالث أن يعطف قوله وَيَقُولُ على فَيُصْبِحُوا [المائدة: ٥٢] إذ هو فعل منصوب بالفاء في جواب التمني، إذ قوله عسى الله تمن وترج في حق البشر، وفي هذا الوجه نظر وكذلك عندي في منعهم جواز عسى الله أن يقول المؤمنون نظر، إذ الله تعالى يصيرهم يقولون بنصره وإظهار دينه، فينبغي أن يجوز ذلك اعتمادا على المعنى وقوله تعالى: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ نصب جهد على المصدر المؤكد والمعنى أهؤلاء هم المقسمون باجتهاد منهم في الأيمان إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ثم قد ظهر الآن منهم من موالاة اليهود وخذل الشريعة ما يكذب إيمانهم، ويحتمل قوله تعالى: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أن يكون إخبارا من الله تعالى، ويحتمل أن يكون من قول المؤمنين على جهة الإخبار بما حصل في اعتقادهم إذ رأوا المنافقين في هذه الأحوال، ويحتمل أن يكون قوله حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ على جهة الدعاء إما من الله تعالى عليهم وإما من المؤمنين، وحبط العمل إذا بطل بعد أن كان حاصلا، وقد يقال حبط في عمل الكفار وإن كان لم يتحصل على جهة التشبيه، وقرأ جمهور الناس «حبطت بكسر الباء وقرأ أبو واقد والجراح «حبطت» بفتح الباء وهي لغة.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الآية قال فيها الحسن بن أبي الحسن ومحمد بن كعب القرظي والضحاك وقتادة نزلت الآية خطابا للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة، والإشارة بالقوم الذين يأتي الله بهم إلى أبي بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة، وقال هذا القول ابن جريج وغيره.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى الآية عندي أن الله وعد هذه الأمة من ارتد منها فإنه يجيء بقوم ينصرون الدين ويغنون عن المرتدين فكان أبو بكر وأصحابه ممن صدق فيهم الخبر في ذلك العصر، وكذلك هو عندي أمر عليّ مع الخوارج، وروى أبو موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية قرأها النبي ﷺ وقال: هم قوم هذا يعني أبا موسى الأشعري وقال هذا القول عياض، وقال شريح بن عبيد: لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنا وقومي هم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ولكنهم قوم هذا، وأشار إلى أبي موسى، وقال مجاهد ومحمد بن كعب أيضا: الإشارة إلى أهل اليمن، وقاله شهر بن حوشب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله عندي قول واحد، لأن أهل اليمن هم قوم أبي موسى، ومعنى الآية على هذا القول مخاطبة جميع من حضر عصر النبي ﷺ على معنى التنبيه لهم والعتاب والتوعد، وقال السدي الإشارة بالقوم إلى الأنصار.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الآية قال فيها الحسن بن أبي الحسن ومحمد بن كعب القرظي والضحاك وقتادة نزلت الآية خطابا للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة، والإشارة بالقوم الذين يأتي الله بهم إلى أبي بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة، وقال هذا القول ابن جريج وغيره.
قال القاضي أبو محمد: ومعنى الآية عندي أن الله وعد هذه الأمة من ارتد منها فإنه يجيء بقوم ينصرون الدين ويغنون عن المرتدين فكان أبو بكر وأصحابه ممن صدق فيهم الخبر في ذلك العصر، وكذلك هو عندي أمر عليّ مع الخوارج، وروى أبو موسى الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية قرأها النبي ﷺ وقال: هم قوم هذا يعني أبا موسى الأشعري وقال هذا القول عياض، وقال شريح بن عبيد: لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنا وقومي هم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ولكنهم قوم هذا، وأشار إلى أبي موسى، وقال مجاهد ومحمد بن كعب أيضا: الإشارة إلى أهل اليمن، وقاله شهر بن حوشب.
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله عندي قول واحد، لأن أهل اليمن هم قوم أبي موسى، ومعنى الآية على هذا القول مخاطبة جميع من حضر عصر النبي ﷺ على معنى التنبيه لهم والعتاب والتوعد، وقال السدي الإشارة بالقوم إلى الأنصار.
207
قال القاضي أبو محمد: وهذا على أن يكون قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطابا للمؤمنين الحاضرين يعم مؤمنهم ومنافقهم. لأن المنافقين كانوا يظهرون الإيمان، والإشارة بالارتداد إلى المنافقين، والمعنى أن من نافق وارتد فإن المحققين من الأنصار يحمون الشريعة ويسد الله بهم كل ثلم، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وحمزة والكسائي وعاصم «يرتد» بإدغام الدال في الدال، وقرأ نافع وابن عامر «يرتدد» بترك الإدغام، وهذه لغة الحجاز، مكة وما جاورها، والإدغام لغة تميم، وقوله تعالى أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ معناه متذللين من قبل أنفسهم غير متكبرين، وهذا كقوله تعالى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: ٢٩]. وكقوله عليه السلام «المؤمن هين لين»، وفي قراءة ابن مسعود «أذلة على المؤمنين غلظاء على الكافرين»، وقوله تعالى: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ إشارة إلى الرد على المنافقين في أنهم كانوا يعتذرون بملامة الأخلاق والمعارف من الكفار ويراعون أمرهم، وقوله تعالى: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ الإشارة بذلك إلى كون القوم يحبون الله ويحبهم، وقد تقدم القول غير مرة في معنى محبة الله للعبد وأنها إظهار النعم المنبئة عن رضاه عنه وإلباسه إياها. وواسِعٌ معناه ذو سعة فيما يملك ويعطي وينعم.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧)
الخطاب بقوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ الآية للقوم الذين قيل لهم لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة:
٥١]، وإِنَّما في هذه الآية حاصرة يعطي ذلك المعنى، وولي اسم جنس، وقرأ ابن مسعود «إنما موليكم الله» وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أي ومن آمن من الناس حقيقة لا نفاقا وهم الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ المفروضة بجميع شروطها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وهي هنا لفظ عام للزكاة المفروضة وللتطوع بالصدقة ولكل أفعال البر، إذ هي تنمية للحسنات مطهرة للمرء من دنس الذنوب، فالمؤمنون يؤتون من ذلك كل بقدر استطاعته، وقرأ ابن مسعود «آمنوا والذين يقيمون» بواو، وقوله تعالى: وَهُمْ راكِعُونَ جملة معطوفة على جملة، ومعناه وصفهم بتكثير الصلاة وخص الركوع بالذكر لكونه من أعظم أركان الصلاة، وهو هيئة تواضع فعبر به عن جميع الصلاة، كما قال وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة: ١٢٥] وهي عبارة عن المصلين، وهذا قول جمهور المفسرين، ولكن اتفق أن عليا بن أبي طالب أعطى صدقة وهو راكع، قال السدي: هذه الآية في جمع المؤمنين ولكن عليا بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه، وروي في ذلك أن النبي ﷺ خرج من بيته وقد نزلت عليه الآية فوجد مسكينا فقال له هل أعطاك أحد شيئا فقال نعم، أعطاني ذلك الرجل الذي يصلي خاتما من فضة، وأعطانيه وهو راكع، فنظر النبي ﷺ فإذا الرجل الذي أشار إليه علي بن أبي طالب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، الله أكبر وتلا الآية على الناس.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٥ الى ٥٧]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧)
الخطاب بقوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ الآية للقوم الذين قيل لهم لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة:
٥١]، وإِنَّما في هذه الآية حاصرة يعطي ذلك المعنى، وولي اسم جنس، وقرأ ابن مسعود «إنما موليكم الله» وقوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أي ومن آمن من الناس حقيقة لا نفاقا وهم الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ المفروضة بجميع شروطها وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، وهي هنا لفظ عام للزكاة المفروضة وللتطوع بالصدقة ولكل أفعال البر، إذ هي تنمية للحسنات مطهرة للمرء من دنس الذنوب، فالمؤمنون يؤتون من ذلك كل بقدر استطاعته، وقرأ ابن مسعود «آمنوا والذين يقيمون» بواو، وقوله تعالى: وَهُمْ راكِعُونَ جملة معطوفة على جملة، ومعناه وصفهم بتكثير الصلاة وخص الركوع بالذكر لكونه من أعظم أركان الصلاة، وهو هيئة تواضع فعبر به عن جميع الصلاة، كما قال وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [البقرة: ١٢٥] وهي عبارة عن المصلين، وهذا قول جمهور المفسرين، ولكن اتفق أن عليا بن أبي طالب أعطى صدقة وهو راكع، قال السدي: هذه الآية في جمع المؤمنين ولكن عليا بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه، وروي في ذلك أن النبي ﷺ خرج من بيته وقد نزلت عليه الآية فوجد مسكينا فقال له هل أعطاك أحد شيئا فقال نعم، أعطاني ذلك الرجل الذي يصلي خاتما من فضة، وأعطانيه وهو راكع، فنظر النبي ﷺ فإذا الرجل الذي أشار إليه علي بن أبي طالب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، الله أكبر وتلا الآية على الناس.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقال مجاهد: نزلت الآية في علي بن أبي طالب تصدق وهو راكع، وفي هذا القول نظر، والصحيح ما قدمناه من تأويل الجمهور، وقد قيل لأبي جعفر نزلت هذه الآية في علي، فقال علي من المؤمنين، والواو على هذا القول في قوله وَهُمْ واوا الحال، وقال قوم نزلت الآية من أولها بسبب عبادة بن الصامت وتبريه من بني قينقاع، وقال ابن الكلبي نزلت بسبب قوم أسلموا من أهل الكتاب فجاؤوا فقالوا يا رسول الله بيوتنا بعيدة ولا متحدث لنا إلا مسجدك وقد أقسم قومنا أن لا يخالطونا ولا يوالونا، فنزلت الآية مؤنسة لهم.
ثم أخبر تعالى أن من يتول الله ورسوله والمؤمنين فإنه غالب كل من ناوأه، وجاءت العبارة عامة فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ اختصارا لأن المتولي هو من حزب الله، وحزب الله غالب، فهذا الذي تولى الله ورسوله والمؤمنين غالب، ومَنْ يراد بها الجنس لا مفرد بعينه، و «الحزب» الصاغية والمنتمون إلى صاحب الحزب والمعاونون فيما يحزب، ومنه قول عائشة في حمنة: وكانت تحارب في أمر الإفك فهلكت فيمن هلك، ثم نهى الله تعالى المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، فوسمهم بوسم يحمل النفوس على تجنبهم، وذلك اتخاذهم دين المؤمنين هُزُواً وَلَعِباً والهزء السخرية والازدراء ويقرأ «هزؤا» بضم الزاي والهمز، و «هزؤا» بسكون الزاي والهمز ويوقف عليه هزا بتشديد الزاي المفتوحة، و «هزوا» بضم الزاي وتنوين الواو، و «هزا» بزاي مفتوحة منونة، ثم بين تعالى جنس هؤلاء أنهم من أهل الكتاب اليهود والنصارى، واختلف القراء في إعراب الْكُفَّارَ فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة: «والكفار» نصبا، وقرأ أبو عمرو والكسائي «والكفار» خفضا، وروى حسين الجعفي عن أبي عمرو النصب، قال أبو علي: حجة من قرأ بالخفض حمل الكلام على أقرب العاملين وهي لغة التنزيل.
قال القاضي أبو محمد: ويدخل «الكفار» على قراءة الخفض فيمن اتخذ دين المؤمنين هزؤا، وقد ثبت استهزاء الكفار في قوله: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: ٩٥] وثبت استهزاء أهل الكتاب في لفظ هذه الآية، وثبت استهزاء المنافقين في قولهم لشياطينهم إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: ١٤]، ومن قرأ «الكفار» بالنصب حمل على الفعل الذي هو لا تَتَّخِذُوا، ويخرج الكفار من أن يتضمن لفظ هذه الآية استهزاءهم، وقرأ أبيّ بن كعب «ومن الكفار» بزيادة «من» فهذه تؤيد قراءة الخفض، وكذلك في قراءة ابن مسعود «من قبلكم من الذي أشركوا»، وفرقت الآية بين الكفار وبين الذين أوتوا الكتاب من حيث الغلب في اسم الكفار أن يقع على المشركين بالله إشراك عبادة أوثان، لأنهم أبعد شأوا في الكفر، وقد قال تعالى:
جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة: ٧٣] ففرق بينهم إرادة البيان والجمع كفار وكان هذا لأن عباد الأوثان هم كفار من كل جهة، وهذه الفرق تلحق بهم في حكم الكفر وتخالفهم في رتب، فأهل الكتاب يؤمنون بالله وببعض الأنبياء، والمنافقون بألسنتهم، ثم أمر تعالى بتقواه ونبه النفوس بقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي حق مؤمنين.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠)
ثم أخبر تعالى أن من يتول الله ورسوله والمؤمنين فإنه غالب كل من ناوأه، وجاءت العبارة عامة فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ اختصارا لأن المتولي هو من حزب الله، وحزب الله غالب، فهذا الذي تولى الله ورسوله والمؤمنين غالب، ومَنْ يراد بها الجنس لا مفرد بعينه، و «الحزب» الصاغية والمنتمون إلى صاحب الحزب والمعاونون فيما يحزب، ومنه قول عائشة في حمنة: وكانت تحارب في أمر الإفك فهلكت فيمن هلك، ثم نهى الله تعالى المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، فوسمهم بوسم يحمل النفوس على تجنبهم، وذلك اتخاذهم دين المؤمنين هُزُواً وَلَعِباً والهزء السخرية والازدراء ويقرأ «هزؤا» بضم الزاي والهمز، و «هزؤا» بسكون الزاي والهمز ويوقف عليه هزا بتشديد الزاي المفتوحة، و «هزوا» بضم الزاي وتنوين الواو، و «هزا» بزاي مفتوحة منونة، ثم بين تعالى جنس هؤلاء أنهم من أهل الكتاب اليهود والنصارى، واختلف القراء في إعراب الْكُفَّارَ فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم وحمزة: «والكفار» نصبا، وقرأ أبو عمرو والكسائي «والكفار» خفضا، وروى حسين الجعفي عن أبي عمرو النصب، قال أبو علي: حجة من قرأ بالخفض حمل الكلام على أقرب العاملين وهي لغة التنزيل.
قال القاضي أبو محمد: ويدخل «الكفار» على قراءة الخفض فيمن اتخذ دين المؤمنين هزؤا، وقد ثبت استهزاء الكفار في قوله: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: ٩٥] وثبت استهزاء أهل الكتاب في لفظ هذه الآية، وثبت استهزاء المنافقين في قولهم لشياطينهم إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: ١٤]، ومن قرأ «الكفار» بالنصب حمل على الفعل الذي هو لا تَتَّخِذُوا، ويخرج الكفار من أن يتضمن لفظ هذه الآية استهزاءهم، وقرأ أبيّ بن كعب «ومن الكفار» بزيادة «من» فهذه تؤيد قراءة الخفض، وكذلك في قراءة ابن مسعود «من قبلكم من الذي أشركوا»، وفرقت الآية بين الكفار وبين الذين أوتوا الكتاب من حيث الغلب في اسم الكفار أن يقع على المشركين بالله إشراك عبادة أوثان، لأنهم أبعد شأوا في الكفر، وقد قال تعالى:
جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التوبة: ٧٣] ففرق بينهم إرادة البيان والجمع كفار وكان هذا لأن عباد الأوثان هم كفار من كل جهة، وهذه الفرق تلحق بهم في حكم الكفر وتخالفهم في رتب، فأهل الكتاب يؤمنون بالله وببعض الأنبياء، والمنافقون بألسنتهم، ثم أمر تعالى بتقواه ونبه النفوس بقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي حق مؤمنين.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠)
209
قوله تعالى: وَإِذا نادَيْتُمْ الآية إنحاء على اليهود وتبيين لسوء فعلهم فإنهم كانوا إذا سمعوا قيام المؤمنين إلى الصلاة قال بعضهم لبعض، قد قاموا لا قاموا، إلى غير هذا من الألفاظ التي يستخفون بها في وقت الأذان وغيره، وكل ما ذكر من ذلك فهو مثال، وقد ذكر السدي أنه كان رجل من النصارى بالمدينة فكان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول الله، قال حرق الله الكاذب، فما زال كذلك حتى سقط مصباح في بيته ليلة فأحرقه واحترق النصراني لعنه الله، ثم ذكر تعالى أن فعلهم هذا إنما هو لعدم عقولهم، وإنما عدموها إذ لم تتصرف كما ينبغي بها، فكأنها لم توجد.
ثم أمر تعالى نبيه ﷺ أن يقول لأهل الكتاب هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا ومعناه هل تعدون علينا ذنبا أو نقيصة، يقال «نقم» بفتح القاف ينقم بكسرها، وعلى هذه اللغة قراءة الجمهور، ويقال «نقم» بكسر القاف ينقم بفتحها وعلى هذه اللغة قرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو البرهسم والنخعي، وهذه الآية من المحاورة البليغة الوجيزة، ومثلها قوله تعالى: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ، إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ [البروج: ٨] ونظير هذا الغرض في الاستثناء قول النابغة:
وقرأ الجمهور «أنزل» بضم الهمزة، وكذلك في الثاني، وقرأ أبو نهيك «أنزل» بفتح الهمزة والزاي فيهما، وقوله تعالى: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ هو عند أكثر المتأولين معطوف على قوله: أَنْ آمَنَّا فيدخل كونهم فاسقين فيما نقموه، وهذا لا يتجه معناه، وروي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال في ذلك بفسقهم نقموا علينا الإيمان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الكلام صحيح في نفسه لكنه غير مغن في تقويم معنى الألفاظ، وإنما يتجه على أن يكون معنى المحاورة هل تنقمون منا إلا عموم هذه الحال من إنا مؤمنون وأنتم فاسقون، ويكون وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ مما قرره المخاطب لهم، وهذا كما تقول لمن تخاصمه هل تنقم مني إلا أن صدقت أنا وكذبت أنت، وهو لا يقر بأنه كاذب ولا ينقم ذلك، لكن معنى كلامك: هل تنقم إلا مجموع هذه الحال، وقال بعض المتأولين قوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ معطوف على ما، كأنه قال إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وبكتبه وبأن أكثركم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مستقيم المعنى، لأن إيمان المؤمنين بأن أهل الكتاب المستمرين على الكفر بمحمد فسقة هو مما ينقمونه، وذكر تعالى الأكثر منهم من حيث فيهم من آمن واهتدى.
وقوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ قرأ الجمهور بفتح النون وشد الباء، وقرأ ابن وثاب والنخعي «أنبئكم» بسكون النون وتخفيف الباء من أنبأ وقرأ أكثر الناس: «مثوبة» بضم الثاء وسكون الواو، وقرأ ابن
ثم أمر تعالى نبيه ﷺ أن يقول لأهل الكتاب هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا ومعناه هل تعدون علينا ذنبا أو نقيصة، يقال «نقم» بفتح القاف ينقم بكسرها، وعلى هذه اللغة قراءة الجمهور، ويقال «نقم» بكسر القاف ينقم بفتحها وعلى هذه اللغة قرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو البرهسم والنخعي، وهذه الآية من المحاورة البليغة الوجيزة، ومثلها قوله تعالى: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ، إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ [البروج: ٨] ونظير هذا الغرض في الاستثناء قول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
قال القاضي أبو محمد: وهذا الكلام صحيح في نفسه لكنه غير مغن في تقويم معنى الألفاظ، وإنما يتجه على أن يكون معنى المحاورة هل تنقمون منا إلا عموم هذه الحال من إنا مؤمنون وأنتم فاسقون، ويكون وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ مما قرره المخاطب لهم، وهذا كما تقول لمن تخاصمه هل تنقم مني إلا أن صدقت أنا وكذبت أنت، وهو لا يقر بأنه كاذب ولا ينقم ذلك، لكن معنى كلامك: هل تنقم إلا مجموع هذه الحال، وقال بعض المتأولين قوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ معطوف على ما، كأنه قال إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وبكتبه وبأن أكثركم.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مستقيم المعنى، لأن إيمان المؤمنين بأن أهل الكتاب المستمرين على الكفر بمحمد فسقة هو مما ينقمونه، وذكر تعالى الأكثر منهم من حيث فيهم من آمن واهتدى.
وقوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ قرأ الجمهور بفتح النون وشد الباء، وقرأ ابن وثاب والنخعي «أنبئكم» بسكون النون وتخفيف الباء من أنبأ وقرأ أكثر الناس: «مثوبة» بضم الثاء وسكون الواو، وقرأ ابن
210
بريدة والأعرج ونبيح وابن عمران «مثوبة» بسكون الثاء وفتح الواو، وقال أبو الفتح هذا مما خرج عن أصله شاذا عن نظائره، ومثله قول العرب: الفاكهة مقودة إلى الأذى، بسكون القاف وفتح الواو، والقياس مثابة ومقادة، وأما مثوبة بضم الثاء فأصلها مثوبة وزنها مفعلة بضم العين نقلت حركة الواو إلى الثاء وكانت قبل مثوبة مثل مقولة، والمعنى في القراءتين مرجعا عند الله أي في الحشر يوم القيامة، تقول العرب: ثاب يثوب إذا رجع، منه قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة: ١٢٥] ومشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أمر أن يقول لهم هَلْ أُنَبِّئُكُمْ هم اليهود والكفار المتخذون ديننا هزؤا ولعبا، قال ذلك الطبري وتوبع عليه ولم يسند في ذلك إلى متقدم شيئا، والآية تحتمل أن يكون القول للمؤمنين، أي قل يا محمد للمؤمنين هل أنبئكم بشرّ من حال هؤلاء الفاسقين في وقت الرجوع إلى الله، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله وغضب عليهم، فتكون الإشارة بذلك إلى حالهم من كون أكثرهم فاسقين، وتحتمل الآية أن يكون القول للحاضرين من بني إسرائيل وتكون الإشارة بذلك إلى حال الحاضرين من كون أكثرهم فاسقين ويكون قوله شَرٌّ وأَضَلُّ صفتي تفضيل بين شيئين لهما اشتراك في الشر والضلال، وتحتمل الآية أن يكون القول للحاضرين من بني إسرائيل والإشارة بذلك إلى إيمان المؤمنين وجميع حالهم ويوجه التفضيل ب شَرٌّ وأَضَلُّ على أن الاشتراك في الشر والضلال هو في معتقد اليهود فأما في الحقيقة فلا شر ولا ضلال عند المؤمنين، ولا شركة لهم في ذلك مع اليهود والكفار، ويكون على هذا الاحتمال قوله: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ الآية يراد به جميع بني إسرائيل الأسلاف والأخلاف، لأن الخلف يذم ويعير بمذمات السلف إذا كان الخلف غير مراجع ولا ذام لما كان عليه سلفه، فهو في حكمه، وفي قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود «من غضب الله عليهم وجعلهم قردة وخنازير»، واللعنة الإبعاد عن الخير، وقوله تعالى: وَجَعَلَ هي بمعنى صير، وقال أبو علي في كتاب الحجة هي بمعنى خلق.
قال القاضي أبو محمد: وهذه منه رحمه الله نزعة اعتزالية، لأن قوله: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ تقديره ومن عبد الطاغوت، والمعتزلة لا ترى أن الله يصير أحدا عابد الطاغوت، وقد تقدم قصص مسخهم قردة في سورة البقرة، وأما مسخهم خنازير، فروي أن ذلك بسبب امرأة كانت مؤمنة من بني إسرائيل وكفر ملك منهم في مدينة من مدنهم وكفر معه أهل مملكته، فدعت المرأة قوما إلى نصرة الدين فأجابوها فخرجت بهم فهزموا ثم فعلت ذلك ثانية وثالثة في كل مرة يهزم جمعها، فيئست وباتت مهمومة، فلما أصبح رأت أهل تلك المدينة ينفقون في نواحيها خنازير فقالت: الآن أعلم أن الله أعز دينه وآثر دينه، قال عمرو بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ما كان مسخ بني إسرائيل إلا على يدي تلك المرأة، وقوله تعالى: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ تقديره ومن عبد الطاغوت، وذلك عطف على قوله: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ أو معمول ل جَعَلَ وفي هذا يقول أبو علي: إن جَعَلَ بمعنى خلق، واختلفت القراءة في هذا الحرف فقرأ حمزة وحده «وعبد الطاغوت» بفتح العين وضم الباء وكسر التاء من الطاغوت وذلك أن «عبد» لفظ مبالغة كيقظ وندس فهو لفظ مفرد يراد به الجنس وبني بناء الصفات، لأن «عبدا» في الأصل صفة وإن كان استعمل استعمال الأسماء، وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة فلذلك لم يمتنع أن يبنى منه بناء الصفات، وقرأ بهذه القراءة الأعمش ويحيى بن وثاب، ومنه قول الشاعر: [أوس بن حجر].
قال القاضي أبو محمد: وهذه منه رحمه الله نزعة اعتزالية، لأن قوله: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ تقديره ومن عبد الطاغوت، والمعتزلة لا ترى أن الله يصير أحدا عابد الطاغوت، وقد تقدم قصص مسخهم قردة في سورة البقرة، وأما مسخهم خنازير، فروي أن ذلك بسبب امرأة كانت مؤمنة من بني إسرائيل وكفر ملك منهم في مدينة من مدنهم وكفر معه أهل مملكته، فدعت المرأة قوما إلى نصرة الدين فأجابوها فخرجت بهم فهزموا ثم فعلت ذلك ثانية وثالثة في كل مرة يهزم جمعها، فيئست وباتت مهمومة، فلما أصبح رأت أهل تلك المدينة ينفقون في نواحيها خنازير فقالت: الآن أعلم أن الله أعز دينه وآثر دينه، قال عمرو بن كثير بن أفلح مولى أبي أيوب الأنصاري ما كان مسخ بني إسرائيل إلا على يدي تلك المرأة، وقوله تعالى: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ تقديره ومن عبد الطاغوت، وذلك عطف على قوله: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ أو معمول ل جَعَلَ وفي هذا يقول أبو علي: إن جَعَلَ بمعنى خلق، واختلفت القراءة في هذا الحرف فقرأ حمزة وحده «وعبد الطاغوت» بفتح العين وضم الباء وكسر التاء من الطاغوت وذلك أن «عبد» لفظ مبالغة كيقظ وندس فهو لفظ مفرد يراد به الجنس وبني بناء الصفات، لأن «عبدا» في الأصل صفة وإن كان استعمل استعمال الأسماء، وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة فلذلك لم يمتنع أن يبنى منه بناء الصفات، وقرأ بهذه القراءة الأعمش ويحيى بن وثاب، ومنه قول الشاعر: [أوس بن حجر].
211
أبني لبينى إن أمكم... أمة وإن أباكم عبد
ذكره الطبري وغيره بضم الباء وقرأ الباقون «وعبد الطاغوت» بفتح العين والباء على الفعل الماضي وإعماله في الطاغوت وقد تقدم ذكره، وقرأ أبي بن كعب «عبدوا الطاغوت»، على إسناد الفعل الماضي إلى ضمير جمع، وقرأ ابن مسعود فيما روى عبد الغفار عن علقمة عنه «وعبد الطاغوت» بفتح العين وضم الباء ورفع التاء من الطاغوت، وذلك على أن يصير له أن «عبد» كالخلق والأمر المعتاد المعروف، فهي في معنى فقه وشرف وظرف، وقرأ ابن عباس وإبراهيم بن أبي عبلة «وعبد الطاغوت» بفتح العين والباء وكسر التاء من الطاغوت، وذلك على أن المراد عبدة الطاغوت وحذفت الهاء تخفيفا ومثله قول الراجز:
قام ولاها فسقوها صرخدا أراد ولاتها فحذف تخفيفا، وقرأ الحسن بن أبي الحسن في رواية عباد عنه «وعبد الطاغوت» بفتح العين وسكون الباء وكسر التاء من الطاغوت وهذا على أنه اسم جنس مفرد يراد به جميع، وروي عن الحسن من غير طريق عباد أنه قرأ بفتح العين والدال وسكون الباء ونصب التاء من الطاغوت، وهذه تتجه على وجهين أحدهما أنه أراد و «عبدا الطاغوت» فحذف التنوين كما حذف في قول الشاعر:
ولا ذاكر الله إلا قليلا والوجه الآخر أن يريد «عبد» الذي هو فعل ماض وسكن الباء على نحو ما هي عين الفعل مسكنة في قول الشاعر:
وما كل مغبون ولو سلف صفقة فإن اللام من سلف مسكنة ونحو هذا قول أبي السمال «ولعنوا بما قالوا» بسكون العين، فهذه قراءات العين فيها مفتوحة، وقرأ أبو واقد الأعرابي في رواية العباس بن الفضل عنه «وعبّاد الطاغوت» بضم العين وشد الباء المفتوحة وألف بعدها وفتح الدال وكسر التاء من الطاغوت وذلك جمع عابد، وقرأ عون العقيلي فيما روى عنه العباس بن الفضل أيضا «وعابد الطاغوت» على وزن فاعل، والدال مرفوعة، قال أبو عمرو تقديره وهم عابد الطاغوت.
قال القاضي أبو محمد: فهو اسم جنس، وروى عكرمة عن ابن عباس «وعابدو الطاغوت» بضمير جمع، وقد قال بعض الرواة في هذه الأخيرة إنها تجويز لا قراءة، وقرأ ابن بريدة «وعابد الطاغوت» بفتح العين والدال وكسر الباء والتاء، وقرأ بعض البصريين و «عباد الطاغوت» بكسر العين وفتح الباء والدال وألف بينهما وكسر التاء، قال أبو الفتح فيحتمل أن يكون ذلك جمع عابد كقائم وقيام وصائم وصيام، وقد يجوز أن يكون جمع عبد، وقل ما يأتي عباد مضافا إلى غير الله، وأنشد سيبويه:
أتوعدني بقومك يا ابن حجل... أشابات يخالون العبادا
قال أبو الفتح يريد عباد آدم عليه السلام، ولو أراد عباد الله فليس ذلك شيء يسب به أحد، وجميع الخلق عباد الله.
ذكره الطبري وغيره بضم الباء وقرأ الباقون «وعبد الطاغوت» بفتح العين والباء على الفعل الماضي وإعماله في الطاغوت وقد تقدم ذكره، وقرأ أبي بن كعب «عبدوا الطاغوت»، على إسناد الفعل الماضي إلى ضمير جمع، وقرأ ابن مسعود فيما روى عبد الغفار عن علقمة عنه «وعبد الطاغوت» بفتح العين وضم الباء ورفع التاء من الطاغوت، وذلك على أن يصير له أن «عبد» كالخلق والأمر المعتاد المعروف، فهي في معنى فقه وشرف وظرف، وقرأ ابن عباس وإبراهيم بن أبي عبلة «وعبد الطاغوت» بفتح العين والباء وكسر التاء من الطاغوت، وذلك على أن المراد عبدة الطاغوت وحذفت الهاء تخفيفا ومثله قول الراجز:
قام ولاها فسقوها صرخدا أراد ولاتها فحذف تخفيفا، وقرأ الحسن بن أبي الحسن في رواية عباد عنه «وعبد الطاغوت» بفتح العين وسكون الباء وكسر التاء من الطاغوت وهذا على أنه اسم جنس مفرد يراد به جميع، وروي عن الحسن من غير طريق عباد أنه قرأ بفتح العين والدال وسكون الباء ونصب التاء من الطاغوت، وهذه تتجه على وجهين أحدهما أنه أراد و «عبدا الطاغوت» فحذف التنوين كما حذف في قول الشاعر:
ولا ذاكر الله إلا قليلا والوجه الآخر أن يريد «عبد» الذي هو فعل ماض وسكن الباء على نحو ما هي عين الفعل مسكنة في قول الشاعر:
وما كل مغبون ولو سلف صفقة فإن اللام من سلف مسكنة ونحو هذا قول أبي السمال «ولعنوا بما قالوا» بسكون العين، فهذه قراءات العين فيها مفتوحة، وقرأ أبو واقد الأعرابي في رواية العباس بن الفضل عنه «وعبّاد الطاغوت» بضم العين وشد الباء المفتوحة وألف بعدها وفتح الدال وكسر التاء من الطاغوت وذلك جمع عابد، وقرأ عون العقيلي فيما روى عنه العباس بن الفضل أيضا «وعابد الطاغوت» على وزن فاعل، والدال مرفوعة، قال أبو عمرو تقديره وهم عابد الطاغوت.
قال القاضي أبو محمد: فهو اسم جنس، وروى عكرمة عن ابن عباس «وعابدو الطاغوت» بضمير جمع، وقد قال بعض الرواة في هذه الأخيرة إنها تجويز لا قراءة، وقرأ ابن بريدة «وعابد الطاغوت» بفتح العين والدال وكسر الباء والتاء، وقرأ بعض البصريين و «عباد الطاغوت» بكسر العين وفتح الباء والدال وألف بينهما وكسر التاء، قال أبو الفتح فيحتمل أن يكون ذلك جمع عابد كقائم وقيام وصائم وصيام، وقد يجوز أن يكون جمع عبد، وقل ما يأتي عباد مضافا إلى غير الله، وأنشد سيبويه:
أتوعدني بقومك يا ابن حجل... أشابات يخالون العبادا
قال أبو الفتح يريد عباد آدم عليه السلام، ولو أراد عباد الله فليس ذلك شيء يسب به أحد، وجميع الخلق عباد الله.
212
ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ
ﰼ
ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ
ﰽ
ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ
ﰾ
ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘ
ﰿ
قال القاضي أبو محمد: وهذا التعليق بآدم ﷺ شاذ بعيد والاعتراض فيه باق، وليس هذا مما يتخيل أن الشاعر قصده، وإنما أراد العبيد فساقته القافية إلى العباد، إذ يقال ذلك لمن تملك ملكة ما وقد ذكر أن عرب الحيرة من العراق إنما سمّوا العباد لأنهم دخلوا في طاعة كسرى فدانتهم مملكة، وذكر الطبري عن بريدة الأسلمي أنه كان يقرأ «وعابد الشيطان» بفتح العين والدال وكسر الباء وألف قبلها وذكر الشيطان بدل الطاغوت فهذه قراءات فيها ألف، وقرأ ابن عباس فيما روى عن عكرمة وقرأها مجاهد ويحيى ابن وثاب «وعبد الطاغوت» بضم العين والباء وفتح الدال وكسر التاء، وذلك جمع عبد كرهن ورهن وسقف وسقف، وقال أحمد بن يحيى ثعلب هو جمع عابد كشارف وشرف، ومنه قول القينة:
ألا يا حمز للشرف النواء... وهن معلقات بالفناء
وقال أبو الحسن الأخفش: هو جمع عبيد وأنشد:
أنسب العبد إلى آبائه... أسود الجلدة من قوم عبد
وقرأ الأعمش وغيره «وعبّد الطاغوت» بضم العين وشد الباء المفتوحة وفتح الدال وكسر التاء وذلك على جمع عابد كضارب وضرب. وقرأ إبراهيم النخعي وأبو جعفر بن القعقاع والأعمش في رواية هارون «وعبد الطاغوت» بضم العين وكسر الباء وفتح الدال وضم التاء كما تقول ضرب زيد، وضعّف الطبري هذه القراءة وهي متجهة، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ «وعبدت الطاغوت» كما تقول ضربت المرأة، وروى علقمة عن عبد الله بن مسعود «وعبد الطاغوت» بضم العين وفتح الباء والدال وكسر التاء، وهذا أيضا بناء مبالغة اسم مفرد يراد به هنا الجمع بني كحطم ولبد، وروى عكرمة عن ابن عباس: «وعبّد الطاغوت» على وزن فعل بضم الفاء وشد العين المفتوحة وفتح اللام ونصب التاء وهذه تتخرج على أنه أراد وعبدا منونا ثم حذف التنوين كما قال، ولا ذاكر الله، وقد تقدم نظيره والطَّاغُوتَ كل ما عبد من دون الله من وثن أو آدمي يرضى ذلك أو شيطان، وقد استوعبت تفسيره في سورة البقرة، و «مكان» يحتمل أن يريد في الآخرة، فالمكان على وجهه أي المحل إذ محلهم جهنم، وأن يريد في الدنيا فهي استعارة للمكانة والحالة، وسَواءِ السَّبِيلِ وسطه ومنه قول العرب قمت حتى انقطع سوائي، ومنه قوله تعالى: فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٥٥] وخط الاستقامة في السبل إنما هو متمكن غاية التمكن في الأوساط فلذلك خص السواء بالذكر، ومن لفظ السواء قيل خط الاستواء.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦١ الى ٦٤]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)
ألا يا حمز للشرف النواء... وهن معلقات بالفناء
وقال أبو الحسن الأخفش: هو جمع عبيد وأنشد:
أنسب العبد إلى آبائه... أسود الجلدة من قوم عبد
وقرأ الأعمش وغيره «وعبّد الطاغوت» بضم العين وشد الباء المفتوحة وفتح الدال وكسر التاء وذلك على جمع عابد كضارب وضرب. وقرأ إبراهيم النخعي وأبو جعفر بن القعقاع والأعمش في رواية هارون «وعبد الطاغوت» بضم العين وكسر الباء وفتح الدال وضم التاء كما تقول ضرب زيد، وضعّف الطبري هذه القراءة وهي متجهة، وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ «وعبدت الطاغوت» كما تقول ضربت المرأة، وروى علقمة عن عبد الله بن مسعود «وعبد الطاغوت» بضم العين وفتح الباء والدال وكسر التاء، وهذا أيضا بناء مبالغة اسم مفرد يراد به هنا الجمع بني كحطم ولبد، وروى عكرمة عن ابن عباس: «وعبّد الطاغوت» على وزن فعل بضم الفاء وشد العين المفتوحة وفتح اللام ونصب التاء وهذه تتخرج على أنه أراد وعبدا منونا ثم حذف التنوين كما قال، ولا ذاكر الله، وقد تقدم نظيره والطَّاغُوتَ كل ما عبد من دون الله من وثن أو آدمي يرضى ذلك أو شيطان، وقد استوعبت تفسيره في سورة البقرة، و «مكان» يحتمل أن يريد في الآخرة، فالمكان على وجهه أي المحل إذ محلهم جهنم، وأن يريد في الدنيا فهي استعارة للمكانة والحالة، وسَواءِ السَّبِيلِ وسطه ومنه قول العرب قمت حتى انقطع سوائي، ومنه قوله تعالى: فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات: ٥٥] وخط الاستقامة في السبل إنما هو متمكن غاية التمكن في الأوساط فلذلك خص السواء بالذكر، ومن لفظ السواء قيل خط الاستواء.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦١ الى ٦٤]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (٦١) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤)
213
الضمير في جاؤُكُمْ لليهود المعاصرين لمحمد ﷺ وخاصة للمنافقين. نص على ذلك ابن عباس وقتادة والسدي، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم دخلوا وهم كفار وخرجوا كذلك لم تنفعهم الموعظة ولا نفع فيهم التذكير، وقوله: وَهُمْ تخليص من احتمال العبارة أن يدخل قوم بالكفر ثم يؤمنوا ويخرج قوم وهم كفرة فكان ينطبق على الجميع وقد دخلوا بالكفر وقد خرجوا به، فأزال الاحتمال قوله تعالى: وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أي هم بأعيانهم ثم فضحهم تعالى بقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ أي من الكفر.
وقوله تعالى لنبيه: وَتَرى يحتمل أن يكون من رؤية البصر ويحتمل من رؤية القلب ويكون المفعول الثاني يُسارِعُونَ، وعلى الاحتمال الأول يُسارِعُونَ حال، وفِي الْإِثْمِ معناه في موجبات الإثم إذ الإثم إنما هو الحكم المعلق بصاحب المعصية والنسبة التي يصير إليها إذا وقع الذنب وهو من هؤلاء كفرهم وَالْعُدْوانِ مصدر من عدا الرجل إذا ظلم وتجاوز الحد، والسُّحْتَ هو الرشا وسائر مكسبهم الخبيث، واللام في لَبِئْسَ لام قسم، وقرأ أبو حيوة «والعدوان» بكسر العين.
وقوله تعالى: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ تخصيص في ضمنه توبيخ لهم إذ تركوا اللازم، قال الطبري: كل العلماء يقولون ما في القرآن آية هي أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها، وقال الضحاك بن مزاحم: ما في القرآن آية أخوف عندي منها إنا لا ننهى، وقال نحو هذا ابن عباس، وقرأ الجراح وأبو واقد «الربانيون» بكسر الراء واحدهم ربي إما منسوب إلى علم الرب وإما من تربية الناس بصغار العلم قبل كباره، وزيدت النون في نسبته مبالغة كشعراني ومنظراني ومخبراني، وقال الحسن: الرباني عالم الإنجيل والحبر عالم التوراة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقوله في الرباني شاذ بعيد. والْأَحْبارُ واحدهم حبر بكسر الحاء وفتحها وهم العلماء الذين لا يعنون لإصلاح الناس ولا يكلفون ذلك، والرباني هو العالم المدبر المصلح، وقوله تعالى: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ظاهر أن الْإِثْمَ هنا يراد به الكفر، ويحتمل أن يراد به سائر أقوالهم المنكرة في النبي ﷺ والمؤمنين، وقرأ عباس «بئس ما كانوا يصنعون» بغير لام قسم.
وقوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ إلى قوله لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ هذه الآية تعديد كبيرة من أقوالهم وكفرهم أي فمن يقول هذه العظيمة فلا يستنكر عليه أن ينافق عليك يا محمد ويسعى في رد أمر الله الذي أوحاه إليك، وقال ابن عباس وجماعة من المتأولين معنى قولهم التبخيل، وذلك أنهم لحقتهم سنة وجهد فقالوا هذه العبارة يعنون بها أن الله بخل عليهم بالرزق والتوسعة، وهذا المعنى يشبه ما في قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الإسراء: ٢٩] فإنما المراد لا تبخل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
وقوله تعالى لنبيه: وَتَرى يحتمل أن يكون من رؤية البصر ويحتمل من رؤية القلب ويكون المفعول الثاني يُسارِعُونَ، وعلى الاحتمال الأول يُسارِعُونَ حال، وفِي الْإِثْمِ معناه في موجبات الإثم إذ الإثم إنما هو الحكم المعلق بصاحب المعصية والنسبة التي يصير إليها إذا وقع الذنب وهو من هؤلاء كفرهم وَالْعُدْوانِ مصدر من عدا الرجل إذا ظلم وتجاوز الحد، والسُّحْتَ هو الرشا وسائر مكسبهم الخبيث، واللام في لَبِئْسَ لام قسم، وقرأ أبو حيوة «والعدوان» بكسر العين.
وقوله تعالى: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ تخصيص في ضمنه توبيخ لهم إذ تركوا اللازم، قال الطبري: كل العلماء يقولون ما في القرآن آية هي أشد توبيخا للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم منها، وقال الضحاك بن مزاحم: ما في القرآن آية أخوف عندي منها إنا لا ننهى، وقال نحو هذا ابن عباس، وقرأ الجراح وأبو واقد «الربانيون» بكسر الراء واحدهم ربي إما منسوب إلى علم الرب وإما من تربية الناس بصغار العلم قبل كباره، وزيدت النون في نسبته مبالغة كشعراني ومنظراني ومخبراني، وقال الحسن: الرباني عالم الإنجيل والحبر عالم التوراة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وقوله في الرباني شاذ بعيد. والْأَحْبارُ واحدهم حبر بكسر الحاء وفتحها وهم العلماء الذين لا يعنون لإصلاح الناس ولا يكلفون ذلك، والرباني هو العالم المدبر المصلح، وقوله تعالى: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ظاهر أن الْإِثْمَ هنا يراد به الكفر، ويحتمل أن يراد به سائر أقوالهم المنكرة في النبي ﷺ والمؤمنين، وقرأ عباس «بئس ما كانوا يصنعون» بغير لام قسم.
وقوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ إلى قوله لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ هذه الآية تعديد كبيرة من أقوالهم وكفرهم أي فمن يقول هذه العظيمة فلا يستنكر عليه أن ينافق عليك يا محمد ويسعى في رد أمر الله الذي أوحاه إليك، وقال ابن عباس وجماعة من المتأولين معنى قولهم التبخيل، وذلك أنهم لحقتهم سنة وجهد فقالوا هذه العبارة يعنون بها أن الله بخل عليهم بالرزق والتوسعة، وهذا المعنى يشبه ما في قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الإسراء: ٢٩] فإنما المراد لا تبخل، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
214
مثل البخيل والمتصدق، الحديث وذكر الطبري والنقاش أن هذه الآية نزلت في فنحاص اليهودي وأنه قالها، وقال الحسن بن أبي الحسن قولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ إنما يريدون عن عذابهم فهي على هذا في معنى قولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: ١٨] وقال السدي أرادوا بذلك أن يده مغلولة حتى يرد علينا ملكنا.
قال القاضي أبو محمد: فكأنهم عنوا أن قوته تعالى نقصت حتى غلبوا ملكهم، وظاهر مذهب اليهود لعنهم الله في هذه المقالة التجسيم، وكذلك يعطي كثير من أقوالهم، وقوله تعالى: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم، ويحتمل أن يكون خبرا، ويصح على كلا الاحتمالين أن يكون ذلك في الدنيا وأن يراد به الآخرة، وإذا كان خبرا عن الدنيا فالمعنى غلت أيديهم عن الخير والإنفاق في سبيل الله ونحوه وإذا كان خبرا عن الآخرة فالمعنى غلت في نار جهنم أي حتم هذا عليهم ونفذ به القضاء كما حتمت عليهم اللعنة بقولهم هذا وبما جرى مجراه، وقرأ أبو السمال «ولعنوا» بسكون العين، وذلك قصد للتخفيف لا سيما هنا الهبوط من ضمة إلى كسرة، وقوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ العقيدة في هذه المعنى نفي التشبيه عن الله تعالى وأنه ليس بجسم ولا له جارحة ولا يشبه ولا يكيف ولا يتحيز في جهة كالجواهر ولا تحله الحوادث تعالى عما يقول المبطلون.
ثم اختلف العلماء فيما ينبغي أن يعتقد في قوله تعالى: بَلْ يَداهُ وفي قوله: بِيَدَيَّ [ص: ٧٥] وعَمِلَتْ أَيْدِينا [يس: ٧١] ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: ١٠] ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: ٣٩] وتَجْرِي بِأَعْيُنِنا [القمر: ١٤] واصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: ٤٨] وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: ٨٨] ونحو هذا، فقال فريق من العلماء منهم الشعبي وابن المسيب وسفيان يؤمن بهذه الأشياء وتقرأ كما نصها الله ولا يعن لتفسيرها ولا يشقق النظر فيها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول يضطرب لأن القائلين به يجمعون على أنها ليست على ظاهرها في كلام العرب فإذا فعلوا هذا فقد نظروا وصار السكوت عن الأمر بعد هذا مما يوهم العوام ويتيه الجهلة.
وقال جمهور الأمة: بل تفسر هذه الأمور على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين كلام العرب. فقالوا في العين والأعين إنها عبارة عن العلم والإدراك، كما يقال فلان من فلان بمرأى ومسمع، إذا كان يعنى بأموره وإن كان غائبا عنه، وقالوا في الوجه إنه عبارة عن الذات وصفاتها، وقالوا في اليد واليدين والأيدي إنها تأتي مرة بمعنى القدرة كما تقول العرب لا يد لي بكذا، ومرة بمعنى النعمة كما يقال لفلان عند فلان يد، وتكون بمعنى الملك كما يقال يد فلان على أرضه، وهذه المعاني إذا وردت عن الله تبارك وتعالى عبر عنها باليد أو الأيدي أو اليدين استعمالا لفصاحة العرب ولما في ذلك من الإيجاز، وهذا مذهب أبي المعالي والحداق، وقال قوم من العلماء منهم القاضي ابن الطيب: هذه كلها صفات زائدة على الذات ثابتة لله دون أن يكون في ذلك تشبيه ولا تحديد، وذكر هذا الطبري وغيره، وقال ابن عباس في هذه الآية، يَداهُ نعمتاه، ثم اختلفت عبارة الناس في تعيين النعمتين فقيل نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، وقيل النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة، وقيل نعمة المطر ونعمة النبات.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عبارة عن إنعامه على الجملة
قال القاضي أبو محمد: فكأنهم عنوا أن قوته تعالى نقصت حتى غلبوا ملكهم، وظاهر مذهب اليهود لعنهم الله في هذه المقالة التجسيم، وكذلك يعطي كثير من أقوالهم، وقوله تعالى: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم، ويحتمل أن يكون خبرا، ويصح على كلا الاحتمالين أن يكون ذلك في الدنيا وأن يراد به الآخرة، وإذا كان خبرا عن الدنيا فالمعنى غلت أيديهم عن الخير والإنفاق في سبيل الله ونحوه وإذا كان خبرا عن الآخرة فالمعنى غلت في نار جهنم أي حتم هذا عليهم ونفذ به القضاء كما حتمت عليهم اللعنة بقولهم هذا وبما جرى مجراه، وقرأ أبو السمال «ولعنوا» بسكون العين، وذلك قصد للتخفيف لا سيما هنا الهبوط من ضمة إلى كسرة، وقوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ العقيدة في هذه المعنى نفي التشبيه عن الله تعالى وأنه ليس بجسم ولا له جارحة ولا يشبه ولا يكيف ولا يتحيز في جهة كالجواهر ولا تحله الحوادث تعالى عما يقول المبطلون.
ثم اختلف العلماء فيما ينبغي أن يعتقد في قوله تعالى: بَلْ يَداهُ وفي قوله: بِيَدَيَّ [ص: ٧٥] وعَمِلَتْ أَيْدِينا [يس: ٧١] ويَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: ١٠] ولِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: ٣٩] وتَجْرِي بِأَعْيُنِنا [القمر: ١٤] واصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا [الطور: ٤٨] وكُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: ٨٨] ونحو هذا، فقال فريق من العلماء منهم الشعبي وابن المسيب وسفيان يؤمن بهذه الأشياء وتقرأ كما نصها الله ولا يعن لتفسيرها ولا يشقق النظر فيها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول يضطرب لأن القائلين به يجمعون على أنها ليست على ظاهرها في كلام العرب فإذا فعلوا هذا فقد نظروا وصار السكوت عن الأمر بعد هذا مما يوهم العوام ويتيه الجهلة.
وقال جمهور الأمة: بل تفسر هذه الأمور على قوانين اللغة ومجاز الاستعارة وغير ذلك من أفانين كلام العرب. فقالوا في العين والأعين إنها عبارة عن العلم والإدراك، كما يقال فلان من فلان بمرأى ومسمع، إذا كان يعنى بأموره وإن كان غائبا عنه، وقالوا في الوجه إنه عبارة عن الذات وصفاتها، وقالوا في اليد واليدين والأيدي إنها تأتي مرة بمعنى القدرة كما تقول العرب لا يد لي بكذا، ومرة بمعنى النعمة كما يقال لفلان عند فلان يد، وتكون بمعنى الملك كما يقال يد فلان على أرضه، وهذه المعاني إذا وردت عن الله تبارك وتعالى عبر عنها باليد أو الأيدي أو اليدين استعمالا لفصاحة العرب ولما في ذلك من الإيجاز، وهذا مذهب أبي المعالي والحداق، وقال قوم من العلماء منهم القاضي ابن الطيب: هذه كلها صفات زائدة على الذات ثابتة لله دون أن يكون في ذلك تشبيه ولا تحديد، وذكر هذا الطبري وغيره، وقال ابن عباس في هذه الآية، يَداهُ نعمتاه، ثم اختلفت عبارة الناس في تعيين النعمتين فقيل نعمة الدنيا ونعمة الآخرة، وقيل النعمة الظاهرة والنعمة الباطنة، وقيل نعمة المطر ونعمة النبات.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عبارة عن إنعامه على الجملة
215
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ
ﱀ
ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ
ﱁ
ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ
ﱂ
ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ
ﱃ
وعبر عنه بيدين جريا على طريقة العرب في قولهم فلان ينفق بكلتا يديه ومنه قول الشاعر وهو الأعشى:
ويؤيد أن اليدين هنا بمعنى الإنعام قرينة الإنفاق، قال أبو عمرو الداني: وقرأ أبو عبد الله «بل يداه بسطتان»، يقال يد بسطة أي مطلقة، وروي عنه «بسطان»، وقوله تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً إعلام لمحمد ﷺ بأن هؤلاء اليهود من العتو والبعد عن الحق بحيث إذا سمعوا هذه الأسرار التي لهم والأقوال التي لا يعلمها غيرهم تنزل عليك، طغوا وكفروا، وكان عليهم أن يؤمنوا إذ يعلمون أنك لا تعرفها إلا من قبل الله، لكنهم من العتو بحيث يزيدهم ذلك طغيانا، وخص تعالى ذكر الكثير إذ فيهم من آمن بالله ومن لا يطغى كل الطغيان.
وقوله تعالى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ معطوف على قوله وَقالَتِ الْيَهُودُ فهي قصص يعطف بعضها على بعض، والْعَداوَةَ أخص من الْبَغْضاءَ لأن كل عدو فهو يبغض وقد يبغض من ليس بعدو، وكأن العداوة شيء مشتهر يكون عنه عمل وحرب، والبغضاء قد لا تجاوز النفوس، وقد ألقى الله الأمرين على بني إسرائيل، وقوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ استعارة بليغة تنبىء عن فض جموعهم وتشتيت آرائهم وتفريق كلمتهم، والآية تحتمل أن تكون إخبارا عن حال أسلافهم أي منذ عصوا وعتوا وهد الله ملكهم رماهم بهذه الأمور، فهم لا ترتفع لهم راية إلى يوم القيامة ولا يقاتلون جميعا إلا في قرى محصنة، هذا قول الربيع والسدي وغيرهما. وقال مجاهد: معنى الآية كلما أوقدوا نارا لحرب محمد أطفأها الله، فالآية على هذا تبشير لمحمد ﷺ والمؤمنين وإشارة إلى حاضريه من اليهود، وقوله تعالى: وَيَسْعَوْنَ معنى السعي في هذه الآية العمل والفعل، وقد يجيء السعي بمعنى الانتقال على القدم، وذلك كقوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: ٩] وإن كان مالك رحمه الله قد قال في الموطأ: إن السعي في قوله: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ إنه العمل والفعل، ولكن غيره من أهل العلم جعله على الأقدام وهو الظاهر بقرينة ضيق الوقت وبالتعدية ب «إلى»، ويؤيده قراءة عمر بن الخطاب «فامضوا إلى ذكر الله» وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أي لا يظهر عليهم من أفعاله في الدنيا والآخرة ما يقتضي المحبة.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٥ الى ٦٨]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨)
يداك يدا مجد فكفّ مفيدة | وكفّ إذا ما ضنّ بالمال تنفق |
وقوله تعالى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ معطوف على قوله وَقالَتِ الْيَهُودُ فهي قصص يعطف بعضها على بعض، والْعَداوَةَ أخص من الْبَغْضاءَ لأن كل عدو فهو يبغض وقد يبغض من ليس بعدو، وكأن العداوة شيء مشتهر يكون عنه عمل وحرب، والبغضاء قد لا تجاوز النفوس، وقد ألقى الله الأمرين على بني إسرائيل، وقوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ استعارة بليغة تنبىء عن فض جموعهم وتشتيت آرائهم وتفريق كلمتهم، والآية تحتمل أن تكون إخبارا عن حال أسلافهم أي منذ عصوا وعتوا وهد الله ملكهم رماهم بهذه الأمور، فهم لا ترتفع لهم راية إلى يوم القيامة ولا يقاتلون جميعا إلا في قرى محصنة، هذا قول الربيع والسدي وغيرهما. وقال مجاهد: معنى الآية كلما أوقدوا نارا لحرب محمد أطفأها الله، فالآية على هذا تبشير لمحمد ﷺ والمؤمنين وإشارة إلى حاضريه من اليهود، وقوله تعالى: وَيَسْعَوْنَ معنى السعي في هذه الآية العمل والفعل، وقد يجيء السعي بمعنى الانتقال على القدم، وذلك كقوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة: ٩] وإن كان مالك رحمه الله قد قال في الموطأ: إن السعي في قوله: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ إنه العمل والفعل، ولكن غيره من أهل العلم جعله على الأقدام وهو الظاهر بقرينة ضيق الوقت وبالتعدية ب «إلى»، ويؤيده قراءة عمر بن الخطاب «فامضوا إلى ذكر الله» وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ أي لا يظهر عليهم من أفعاله في الدنيا والآخرة ما يقتضي المحبة.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٥ الى ٦٨]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨)
216
هذه الآية تحتمل أن يراد بها معاصر ومحمد صلى الله عليه وسلم، والأظهر أنه يراد بها الأسلاف والمعاصرون داخلون في هذه الأحوال بالمعنى، والغرض الإخبار عن أولئك الذين أطفأ الله نيرانهم وأذلهم بمعاصيهم لو آمنوا بالله وكتابه واتقوا في امتثال أوامره ونواهيه لكفرت سيئاتهم أي سترت وأذهبت ولأدخلوا الجنة.
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ أي أظهروا أحكامها فهي كإقامة السوق وإقامة الصلاة، وذلك كله تشبيه بالقائم من الناس، إذ هي أظهر هيئات المرء، وقوله تعالى: وَالْإِنْجِيلَ يقتضي دخول النصارى في لفظ أَهْلَ الْكِتابِ في هذه الآية، وقوله تعالى: وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ معناه من وحي وسنن على ألسنة الأنبياء، واختلف المفسرون في معنى مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي: المعنى لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها بفضل الله تعالى. وحكى الطبري والزجّاج وغيرهما أن الكلام استعارة ومبالغة في التوسعة كما يقال فلان قد عمه الخير من قرنه إلى قدمه، وذكر النقاش أن المعنى: لأكلوا من فوقهم أي من رزق الجنة ومن تحت أرجلهم من رزق الدنيا، إذ هو من نبات الأرض. قوله تعالى مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ معناه: معتدلة، والقصد والاقتصاد: الاعتدال والرفق والتوسط الحسن في الأقوال والأفعال، قال الطبري: معنى الآية أن من بني إسرائيل من هو مقتصد في عيسى عليه السلام يقولون هو عبد الله ورسول وروح منه، والأكثر منهم غلا فيه فقال بعضهم هو إله وعلى هذا مشى الروم ومن دخل بأخرة في ملة عيسى عليه السلام، وقال بعضهم وهم الأكثر من بني إسرائيل: هو آدمي لغير رشدة، فكفر الطرفان، وقال مجاهد: المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديما وحديثا.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا يتخرج قول الطبري: ولا يقول في عيسى إنه عبد رسول إلا مسلم، وقال ابن زيد: هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب، وهذا هو المترجح، وقد ذكر الزجّاج أنه يعني بالمقتصدة الطوائف التي لم تناصب الأنبياء مناصبة المتهتكين المجاهرين.
قال القاضي أبو محمد: وإنما يتوجه أن توصف بالاقتصاد بالإضافة إلى المتمردة كما يقال في أبي البختري بن هشام إنه مقتصد بالإضافة إلى أبي جهل بن هشام لعنه الله، ثم وصف تعالى الكثير منهم بسوء العمل عموما، وذهب الطبري إلى أن ذلك في تكذيبهم الأنبياء، وكفر اليهود بعيسى والجميع من أهل الكتابين بمحمد ﷺ وساءَ في هذه الآية هي المتصرفة كما تقول ساء الأمر يسوء، وقد تستعمل ساءَ استعمال نعم وبئس، كقوله عز وجل: ساءَ مَثَلًا [الأعراف: ١٧٧] فتلك غير هذه، يحتاج في هذه التي في قوله ساءَ مَثَلًا من الإضمار والتقدير إلى ما يحتاج في نعم وبئس، وفي هذا نظر.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إلى قوله الْقَوْمَ الْكافِرِينَ هذه الآية أمر من الله ورسوله بالتبليغ على الاستيفاء والكمال. لأنه قد كان بلغ، فإنما أمر في هذه الآية بأن لا يتوقف عن شيء مخافة أحد، وذلك أن رسالته ﷺ تضمنت الطعن على أنواع الكفرة وبيان فساد
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ أي أظهروا أحكامها فهي كإقامة السوق وإقامة الصلاة، وذلك كله تشبيه بالقائم من الناس، إذ هي أظهر هيئات المرء، وقوله تعالى: وَالْإِنْجِيلَ يقتضي دخول النصارى في لفظ أَهْلَ الْكِتابِ في هذه الآية، وقوله تعالى: وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ معناه من وحي وسنن على ألسنة الأنبياء، واختلف المفسرون في معنى مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فقال ابن عباس وقتادة ومجاهد والسدي: المعنى لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها بفضل الله تعالى. وحكى الطبري والزجّاج وغيرهما أن الكلام استعارة ومبالغة في التوسعة كما يقال فلان قد عمه الخير من قرنه إلى قدمه، وذكر النقاش أن المعنى: لأكلوا من فوقهم أي من رزق الجنة ومن تحت أرجلهم من رزق الدنيا، إذ هو من نبات الأرض. قوله تعالى مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ معناه: معتدلة، والقصد والاقتصاد: الاعتدال والرفق والتوسط الحسن في الأقوال والأفعال، قال الطبري: معنى الآية أن من بني إسرائيل من هو مقتصد في عيسى عليه السلام يقولون هو عبد الله ورسول وروح منه، والأكثر منهم غلا فيه فقال بعضهم هو إله وعلى هذا مشى الروم ومن دخل بأخرة في ملة عيسى عليه السلام، وقال بعضهم وهم الأكثر من بني إسرائيل: هو آدمي لغير رشدة، فكفر الطرفان، وقال مجاهد: المقتصدة مسلمة أهل الكتاب قديما وحديثا.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا يتخرج قول الطبري: ولا يقول في عيسى إنه عبد رسول إلا مسلم، وقال ابن زيد: هم أهل طاعة الله من أهل الكتاب، وهذا هو المترجح، وقد ذكر الزجّاج أنه يعني بالمقتصدة الطوائف التي لم تناصب الأنبياء مناصبة المتهتكين المجاهرين.
قال القاضي أبو محمد: وإنما يتوجه أن توصف بالاقتصاد بالإضافة إلى المتمردة كما يقال في أبي البختري بن هشام إنه مقتصد بالإضافة إلى أبي جهل بن هشام لعنه الله، ثم وصف تعالى الكثير منهم بسوء العمل عموما، وذهب الطبري إلى أن ذلك في تكذيبهم الأنبياء، وكفر اليهود بعيسى والجميع من أهل الكتابين بمحمد ﷺ وساءَ في هذه الآية هي المتصرفة كما تقول ساء الأمر يسوء، وقد تستعمل ساءَ استعمال نعم وبئس، كقوله عز وجل: ساءَ مَثَلًا [الأعراف: ١٧٧] فتلك غير هذه، يحتاج في هذه التي في قوله ساءَ مَثَلًا من الإضمار والتقدير إلى ما يحتاج في نعم وبئس، وفي هذا نظر.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إلى قوله الْقَوْمَ الْكافِرِينَ هذه الآية أمر من الله ورسوله بالتبليغ على الاستيفاء والكمال. لأنه قد كان بلغ، فإنما أمر في هذه الآية بأن لا يتوقف عن شيء مخافة أحد، وذلك أن رسالته ﷺ تضمنت الطعن على أنواع الكفرة وبيان فساد
217
حالهم فكان يلقى منهم عنتا وربما خافهم أحيانا قبل نزول هذه الآية، فقال الله له بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي كاملا متمما، ثم توعده تعالى بقوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ
، أي إنك إن تركت شيئا فكأنما قد تركت الكل، وصار ما بلغت غير معتدّ به، فقوله تعالى: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ معناه وإن لم تستوف، ونحو هذا قول الشاعر:
أي ولم تعط ما يعد نائلا وإلا فيتكاذب البيت، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «فما بلغت رسالته» على الإفراد. وقرؤوا في الأنعام حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: ١٢٤] على الجمع، وكذلك في الأعراف بِرِسالاتِي [الأعراف: ١٤٤]، وقرأ ابن كثير في المواضع الثلاثة بإفراد الرسالة، وقرأ نافع «رسالاته» بالجمع، وكذلك في الأنعام، وأفرد في الأعراف، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر بجمع الرسالة في المواضع الثلاثة، وروى حفص عن عاصم الإفراد في العقود والأنعام، والجمع في الأعراف، فمن أفرد الرسالة فلأن الشرع كله شيء واحد وجملة بعضها من بعض، ومن جمع فمن حيث الشرع معان كثيرة وورد دفعا في أزمان مختلفة، وقالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: من زعم أن محمدا كتم شيئا من الوحي فقد أعظم الفرية، والله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ الآية، وقال عبد الله بن شقيق: كان رسول الله ﷺ يتعقبه أصحابه يحرسونه، فلما نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ خرج فقال: يا أيها الناس الحقوا بملاحقكم فإن الله قد عصمني، وقال محمد بن كعب القرظي: نزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ بسبب الأعرابي الذي اخترط سيف النبي ﷺ ليقتله به.
قال القاضي أبو محمد: هو غورث بن الحارث، والقصة في غزوة ذات الرقاع، وقال ابن جريج كان رسول الله ﷺ يهاب قريشا فلما نزلت هذه الآية إلى قوله وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ استلقى وقال: من شاء فليخذلني، مرتين أو ثلاثا، ويَعْصِمُكَ معناه يحفظك ويجعل عليك وقاية، ومنه قوله تعالى: يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ [هود: ٤٣] ومنه قول الشاعر:
وهذه العصمة التي في الآية هي من المخاوف التي يمكن أن توقف عن شيء من التبليغ كالقتل والأسر والأذى في الجسم ونحوه، وأما أقوال الكفار ونحوها فليست في الآية، وقوله تعالى: لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إما على الخصوص فيمن سبق في علم أنه لا يؤمن، وإما على العموم على أن لا هداية في الكفر، ولا يهدي الله الكافر في سبل كفره.
ثم أمر تعالى نبيه محمدا عليه السلام أن يقول لأهل الكتاب الحاضرين معه لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي على شيء مستقيم حتى تقيموا التوراة والإنجيل، وفي إقامة هذين الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يعني به القرآن، قاله ابن عباس وغيره ثم أخبر تعالى نبيه أنه سيطغى كثير منهم بسبب نبوة محمد ﷺ ويزيده نزول القرآن والشرع كفرا وحسدا، ثم سلاه عنهم وحقرهم بقوله فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي لا تحزن إذ لم يؤمنوا ولا تبال عنهم،
، أي إنك إن تركت شيئا فكأنما قد تركت الكل، وصار ما بلغت غير معتدّ به، فقوله تعالى: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ معناه وإن لم تستوف، ونحو هذا قول الشاعر:
سئلت فلم تمنع ولم تعط نائلا | فسيان لا ذم عليك ولا حمد |
قال القاضي أبو محمد: هو غورث بن الحارث، والقصة في غزوة ذات الرقاع، وقال ابن جريج كان رسول الله ﷺ يهاب قريشا فلما نزلت هذه الآية إلى قوله وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ استلقى وقال: من شاء فليخذلني، مرتين أو ثلاثا، ويَعْصِمُكَ معناه يحفظك ويجعل عليك وقاية، ومنه قوله تعالى: يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ [هود: ٤٣] ومنه قول الشاعر:
فقلت عليكم مالكا إن مالكا | سيعصمكم إن كان في الناس عاصم |
ثم أمر تعالى نبيه محمدا عليه السلام أن يقول لأهل الكتاب الحاضرين معه لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي على شيء مستقيم حتى تقيموا التوراة والإنجيل، وفي إقامة هذين الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يعني به القرآن، قاله ابن عباس وغيره ثم أخبر تعالى نبيه أنه سيطغى كثير منهم بسبب نبوة محمد ﷺ ويزيده نزول القرآن والشرع كفرا وحسدا، ثم سلاه عنهم وحقرهم بقوله فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ أي لا تحزن إذ لم يؤمنوا ولا تبال عنهم،
218
والأسى الحزن يقال أسي الرجل يأسى أسى إذا حزن، ومنه قول الراجز:
وانحلبت عيناه من فرط الأسى.
وأسند الطبري إلى ابن عباس قال: جاء رسول الله ﷺ رافع بن جارية وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم وأنك تؤمن بالتوراة وبنبوة موسى وأن جميع ذلك حق؟ قال: بلى، ولكنكم أحدثتم وغيرتم وكتمتم، فقالوا: إنّا نأخذ بما في أيدينا فإنه الحق ولا نصدقك ولا نتبعك، فنزلت الآية بسبب ذلك قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ الآية.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠)
الَّذِينَ لفظ عام لكل مؤمن من ملة محمد ومن غيرها من الملل، فكأن ألفاظ الآية حصر بها الناس كلهم وبينت الطوائف على اختلافها، وهذا تأويل جمهور المفسرين، وقال الزجاج المراد بقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا المنافقون، فالمعنى ان الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.
قال القاضي أبو محمد: فكأن ألفاظ الآية عدت الطوائف التي يمكن أن تنتقل إلى الإيمان، ثم نفى عنهم الخوف والحزن بشرط انتقالهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وعلى التأويل الأول يكون قوله مَنْ آمَنَ في حيز المؤمنين بمعنى ثبت واستمر، وقد تقدم تفسير هادُوا وتفسير «الصابئين» وتفسير النَّصارى في سورة البقرة، واختلف القراء في إعراب الصابئين في هذه الآية فقرأ الجمهور و «الصابئون» بالرفع وعليه مصاحف الأمصار والقراء السبعة، وقرأ عثمان بن عفان وعائشة وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والجحدري «والصابين» وهذه قراءة بينة الإعراب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والزهري «والصابيون» بكسر الباء وضم الياء دون همز، وقد تقدم في سورة البقرة، وأما قراءة الجمهور «والصابئون» فمذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة أنه من المقدم الذي معناه التأخير وهو المراد به، كأنه قال «إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون والنصارى» كذلك، وأنشد الزجاج نظيرا في ذلك:
فقوله وأنتم مقدم في اللفظ مؤخر في المعنى أي وأنتم كذلك، وحكى الزجّاج عن الكسائي والفراء أنهما قالا: والصَّابِئُونَ عطف على الَّذِينَ، إذ الأصل في الَّذِينَ الرفع وإذ نصب إِنَّ ضعيف وخطأ الزجّاج هذا القول وقال: إِنَّ أقوى النواصب، وحكي أيضا عن الكسائي أنه قال والصَّابِئُونَ عطف على الضمير في هادُوا والتقدير هادوا هم والصابئون، وهذا قول يرده المعنى لأنه يقتضي أن الصابئين هادوا، وقيل إن معنى نعم، وما بعدها مرفوع بالابتداء، وروي عن بعضهم أنه قرأ «والصابئون» بالهمز، واتصال هذه
وانحلبت عيناه من فرط الأسى.
وأسند الطبري إلى ابن عباس قال: جاء رسول الله ﷺ رافع بن جارية وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة فقالوا: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم وأنك تؤمن بالتوراة وبنبوة موسى وأن جميع ذلك حق؟ قال: بلى، ولكنكم أحدثتم وغيرتم وكتمتم، فقالوا: إنّا نأخذ بما في أيدينا فإنه الحق ولا نصدقك ولا نتبعك، فنزلت الآية بسبب ذلك قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ الآية.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (٧٠)
الَّذِينَ لفظ عام لكل مؤمن من ملة محمد ومن غيرها من الملل، فكأن ألفاظ الآية حصر بها الناس كلهم وبينت الطوائف على اختلافها، وهذا تأويل جمهور المفسرين، وقال الزجاج المراد بقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا المنافقون، فالمعنى ان الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.
قال القاضي أبو محمد: فكأن ألفاظ الآية عدت الطوائف التي يمكن أن تنتقل إلى الإيمان، ثم نفى عنهم الخوف والحزن بشرط انتقالهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وعلى التأويل الأول يكون قوله مَنْ آمَنَ في حيز المؤمنين بمعنى ثبت واستمر، وقد تقدم تفسير هادُوا وتفسير «الصابئين» وتفسير النَّصارى في سورة البقرة، واختلف القراء في إعراب الصابئين في هذه الآية فقرأ الجمهور و «الصابئون» بالرفع وعليه مصاحف الأمصار والقراء السبعة، وقرأ عثمان بن عفان وعائشة وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والجحدري «والصابين» وهذه قراءة بينة الإعراب، وقرأ الحسن بن أبي الحسن والزهري «والصابيون» بكسر الباء وضم الياء دون همز، وقد تقدم في سورة البقرة، وأما قراءة الجمهور «والصابئون» فمذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة أنه من المقدم الذي معناه التأخير وهو المراد به، كأنه قال «إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والصابئون والنصارى» كذلك، وأنشد الزجاج نظيرا في ذلك:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم | بغاة ما بقينا في شقاق |
الآية بالتي قبلها هو أن قيل لهم ليس الحق في نفسه على ما تزعمون من أنكم أبناء الله وأحباؤه، بل لستم على شيء مستقيم حتى تؤمنوا وتقيموا الكتب المنزلة، ثم استأنف الإخبار عن الحق في نفسه بأنه من آمن في كل العالم فهو الفائز الذي لا خوف عليه.
قوله عز وجل: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ الآية، استئناف خبر بفعل أوائلهم وما نقضوا من العهود واجترحوا من الجرائم، أي إن العصا من العصية، وهؤلاء يا محمد من أولئك فليس قبيح فعلهم ببدع، وكُلَّما ظرف والعالم فيه كذبوا ويقتلون.. وقوله تعالى: بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ يقتضي أن هواهم كان غير الحق وهو ظاهر هوى النفس متى أطلق، فمتى قيد بالخير ساغ ذلك، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسارى بدر: فهوى رسول الله ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت أنا، وقوله تعالى:
فَرِيقاً كَذَّبُوا معناه كذبوه فقط، يريد الفريق من الرسل ولم يقتلوه، وفريقا من الرسل كذبوه وقتلوه، فاكتفى بذكر القتل إذ هو يستغرق التكذيب.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢)
المعنى في هذه الآية وظن هؤلاء الكفرة والعصاة من بني إسرائيل أن لا يكون من الله ابتلاء لهم وأخذ في الدنيا وتمحيص فلجوا في شهواتهم وعموا فيها إذ لم يبصروا الحق شبهوا بالصم، ونحو هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حبك الشيء يعمي ويصم» وقوله تعالى: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قالت جماعة من المفسرين: هذه التوبة هي ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول ورد ملكهم وحالهم، ثم عموا وصموا بعد ذلك حتى أخرجوا الخرجة الثانية ولم ينجبروا أبدا وقالت جماعة ثم تاب الله عليهم ببعث عيسى عليه السلام إليهم، وقالت جماعة: توبته تعالى عليهم بعث محمد عليه السلام وخص بهذا المعنى كثيرا منهم لأن منهم قليلا آمن، ثم توعدهم بقوله تعالى: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «ألا تكون» بنصب النون، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أن لا تكون» برفع النون، ولم يختلفوا في رفع فِتْنَةٌ لأن «كان» هنا هي التامة، فوجه قراءة النصب أن تكون «أن» هي الخفيفة الناصبة، ووجه قراءة الرفع أن تكون المخففة من الثقيلة، وحسن دخولها لأن «لا» قد وطأت أن يليها الفعل وقامت مقام الضمير المحذوف عوضا منه، ولا بد في مثل هذا من عوض، مثل قولك علمت أن قد يقوم زيد، وقوله عز وجل عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى [المزمل: ٢٠] وقولك علمت أن سوف يقوم زيد وأن لا تكون فتنة، وقوله تعالى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم: ٣٩] حسن فيه أن لا يكون عوض لأن ليس بفعل حقيقي والأفعال ثلاثة ضروب ضرب يجري مجرى تيقنت نحو علمت ودريت فهذا الضرب تليه «أن» الثقيلة
قوله عز وجل: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ الآية، استئناف خبر بفعل أوائلهم وما نقضوا من العهود واجترحوا من الجرائم، أي إن العصا من العصية، وهؤلاء يا محمد من أولئك فليس قبيح فعلهم ببدع، وكُلَّما ظرف والعالم فيه كذبوا ويقتلون.. وقوله تعالى: بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ يقتضي أن هواهم كان غير الحق وهو ظاهر هوى النفس متى أطلق، فمتى قيد بالخير ساغ ذلك، ومنه قول عمر رضي الله عنه في قصة أسارى بدر: فهوى رسول الله ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت أنا، وقوله تعالى:
فَرِيقاً كَذَّبُوا معناه كذبوه فقط، يريد الفريق من الرسل ولم يقتلوه، وفريقا من الرسل كذبوه وقتلوه، فاكتفى بذكر القتل إذ هو يستغرق التكذيب.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢)
المعنى في هذه الآية وظن هؤلاء الكفرة والعصاة من بني إسرائيل أن لا يكون من الله ابتلاء لهم وأخذ في الدنيا وتمحيص فلجوا في شهواتهم وعموا فيها إذ لم يبصروا الحق شبهوا بالصم، ونحو هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «حبك الشيء يعمي ويصم» وقوله تعالى: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قالت جماعة من المفسرين: هذه التوبة هي ردهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول ورد ملكهم وحالهم، ثم عموا وصموا بعد ذلك حتى أخرجوا الخرجة الثانية ولم ينجبروا أبدا وقالت جماعة ثم تاب الله عليهم ببعث عيسى عليه السلام إليهم، وقالت جماعة: توبته تعالى عليهم بعث محمد عليه السلام وخص بهذا المعنى كثيرا منهم لأن منهم قليلا آمن، ثم توعدهم بقوله تعالى: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر «ألا تكون» بنصب النون، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي «أن لا تكون» برفع النون، ولم يختلفوا في رفع فِتْنَةٌ لأن «كان» هنا هي التامة، فوجه قراءة النصب أن تكون «أن» هي الخفيفة الناصبة، ووجه قراءة الرفع أن تكون المخففة من الثقيلة، وحسن دخولها لأن «لا» قد وطأت أن يليها الفعل وقامت مقام الضمير المحذوف عوضا منه، ولا بد في مثل هذا من عوض، مثل قولك علمت أن قد يقوم زيد، وقوله عز وجل عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى [المزمل: ٢٠] وقولك علمت أن سوف يقوم زيد وأن لا تكون فتنة، وقوله تعالى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى [النجم: ٣٩] حسن فيه أن لا يكون عوض لأن ليس بفعل حقيقي والأفعال ثلاثة ضروب ضرب يجري مجرى تيقنت نحو علمت ودريت فهذا الضرب تليه «أن» الثقيلة
التي تناسبه في الثبوت وحصول الوقوع، وضرب في الضد من ذلك نحو طمعت ورجوت وخفت هو مصرح بأن لم يقع، فهذا الضرب تليه «أن» الخفيفة إذ هي تناسبه، كقوله تعالى، وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي [الشعراء: ٨٢] وتَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ [الأنفال: ٢٦] فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [البقرة: ٢٢٩] وفَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً [الكهف: ٨٠] أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا [المجادلة: ١٣] ونحو هذا، وضرب ثالث ينجذب إلى الأول مرة وإلى الثاني أحيانا نحو ظننت وحسبت وزعمت فيجري مجرى أرجو وأطمع، من حيث الظن والزعم والمحسبة أمور غير ثابتة ولا مستقرة، وقد تنزل منزلة العلم من حيث تستعمل استعماله، كقوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة: ٤٦] وقوله إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ [الحاقة: ٢٠] وقرأ جمهور الناس «عموا وصموا» بفتح العين والصاد، وقرأ ابن وثاب والنخعي «عموا وصموا» بضم العين والميم مخففة وبضم الصاد وهذا هو على أن تجرى مجرى زكم الرجل وأزكمه الله وحم الرجل وأحمه الله، ولا يقال زكمه الله ولا حمه الله، فكذلك يجيء هذا عمى الرجل وأعماه غيره، وصم وأصمه غيره، ولا يقال عميته ولا صممته، وقوله تعالى: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي رجع بهم إلى الطاعة والحق، ومن فصاحة اللفظ استناد هذا الفعل الشريف إلى الله تعالى، واستناد العمى والصمم اللذين هما عبارة عن الضلال إليهم، وقوله تعالى كَثِيرٌ يرتفع من إحدى ثلاث جهات، إما على البدل من الواو في قوله: عَمُوا وَصَمُّوا وإما على جمع الفعل وإن تقدم على لغة من قال: أكلوني البراغيث، وإما على أن يكون كَثِيرٌ خبر ابتداء مضمر.
ثم أخبر تعالى إخبارا مؤكدا بلام القسم عن كفر القائلين: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وهذا قول اليعقوبية من النصارى، ثم أخبر تعالى عن قول المسيح لهم وتبليغه كيف كان؟ فقال: وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ الآية، وهذه المعاني قول المسيح بألفاظ لغته، وهي بعينها موجودة في تبليغ محمد ﷺ في قوله إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: ٤٨- ١١٦] إلى غير ذلك من الآيات، وأخبرهم عيسى عليه السلام أن الله تعالى هو ربه وربهم فضلوا هم وكفروا بسبب ما رأوا على يديه من الآيات، و «المأوى» هو المحل الذي يسكنه المرء ويرجع إليه، وقوله تعالى وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يحتمل أن يكون من قول عيسى عليه السلام لبني إسرائيل، ويحتمل أن يكون إخبارا مستأنفا لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم القول في تفسير لفظة المسيح في سورة آل عمران.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٣ الى ٧٥]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)
هذه الآية إخبار مؤكد كالذي قبله، وهو عن هذه الفرقة الناطقة بالتثليث وهي فيما يقال الملكية وهم
ثم أخبر تعالى إخبارا مؤكدا بلام القسم عن كفر القائلين: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وهذا قول اليعقوبية من النصارى، ثم أخبر تعالى عن قول المسيح لهم وتبليغه كيف كان؟ فقال: وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ الآية، وهذه المعاني قول المسيح بألفاظ لغته، وهي بعينها موجودة في تبليغ محمد ﷺ في قوله إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: ٤٨- ١١٦] إلى غير ذلك من الآيات، وأخبرهم عيسى عليه السلام أن الله تعالى هو ربه وربهم فضلوا هم وكفروا بسبب ما رأوا على يديه من الآيات، و «المأوى» هو المحل الذي يسكنه المرء ويرجع إليه، وقوله تعالى وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ يحتمل أن يكون من قول عيسى عليه السلام لبني إسرائيل، ويحتمل أن يكون إخبارا مستأنفا لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم القول في تفسير لفظة المسيح في سورة آل عمران.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٣ الى ٧٥]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٤) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥)
هذه الآية إخبار مؤكد كالذي قبله، وهو عن هذه الفرقة الناطقة بالتثليث وهي فيما يقال الملكية وهم
فرق منهم النسطورية وغيرهم، ولا معنى لذكر أقوالهم في كتاب تفسير، إنما الحق أنهم على اختلاف أحوالهم كفار من حيث جعلوا في الألوهية عددا ومن حيث جعلوا لعيسى عليه السلام حكما إلهيا، وقوله تعالى: ثالِثُ ثَلاثَةٍ لا يجوز فيه إلا الإضافة وخفض ثَلاثَةٍ لأن المعنى أحد ثلاثة فإن قلت زيد ثالث اثنين أو رابع ثلاثة جاز لك أن تضيف كما تقدم وجاز أن لا تضيف وتنصب ثلاثة على معنى زيد يربع ثلاثة، وقوله تعالى وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ خبر صادع بالحق، وهو الخالق المبتدع المتصف بالصفات العلى تعالى عما يقول المبطلون، ثم توعد تبارك وتعالى هؤلاء القائلين هذه العظيمة بمس العذاب، وذلك وعيد بعذاب الدنيا من القتل والسبي وبعذاب الآخرة بعد لا يفلت منه أحد منهم.
ثم رفق جل وعلا بهم بتحضيضه إياهم على التوبة وطلب المغفرة، ثم وصف نفسه بالغفران والرحمة استجلابا للتائبين وتأنيسا لهم ليكونوا على ثقة من الانتفاع بتوبتهم.
ثم أخبر تعالى عن حقيقة أمر المسيح وأنه رسول بشر كالرسل المتقدمة قبله، وخَلَتْ معناه مضت وتقدمت في الخلاء من الأرض، وقرأ حطان بن عبد الله الرقاشي «قد خلت من قبله رسل» بتنكير الرسل، وكذلك قرأ وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: ١٤٤]، وقد مضى القول على وجه هذه القراءة هناك، وقوله تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ صفة ببناء مبالغة من الصدق، ويحتمل أن يكون من التصديق وبه سمي أبو بكر رضي الله عنه لتصديقه، وهذه الصفة لمريم تدفع قول من قال هي نبية، وقد يوجد في صحيح الحديث قصص قوم كلمتهم ملائكة في غير ما فن كقصة الثلاثة الأقرع والأعمى والأبرص وغيرهم، ولا تكون هنالك نبوة، فكذلك أمر مريم، وقوله تعالى: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ تنبيه على نقص البشرية وعلى حال من الاحتياج إلى الغذاء تنتفي معها الألوهية، وذكر مكي والمهدي وغيرهما أنها عبارة عن الاحتياج إلى الغائط وهذا قول بشع ولا ضرورة تدفع إليه حتى يقصد هذا المعنى بالذكر، وإنما هي عبارة عن الاحتياج إلى التغذي ولا محالة أن الناظر إذا تأمل بذهنه لواحق التغذي وجد ذلك وغيره، ثم أمر تعالى محمدا ﷺ وفي الضمن أمته بالنظر في ضلال هؤلاء القوم وبعدهم عن سنن الحق، وأن الآيات تبين لهم وتبرز في غاية الوضوح، ثم هم بعد ذلك يصرفون أي تصرفهم دواعيهم ويزيلهم تكسلهم عن الحق، وكَيْفَ في هذه الآية ليست سؤالا عن حال لكنها عبارة عن حال شأنها أن يسأل عنها بكيف، وهذا كقولك: كن كيف شئت فأنت صديق، وأَنَّى معناها من أي جهة، قال سيبويه معناها كيف ومن أين، ويُؤْفَكُونَ معناه: يصرفون، ومنه قوله عز وجل: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: ٩] والأرض المأفوكة التي صرفت عن أن ينالها المطر، والمطر في الحقيقة هو المصروف، ولكن قيل أرض مأفوكة لما كانت مأفوكة عنها.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٦ الى ٧٨]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨)
ثم رفق جل وعلا بهم بتحضيضه إياهم على التوبة وطلب المغفرة، ثم وصف نفسه بالغفران والرحمة استجلابا للتائبين وتأنيسا لهم ليكونوا على ثقة من الانتفاع بتوبتهم.
ثم أخبر تعالى عن حقيقة أمر المسيح وأنه رسول بشر كالرسل المتقدمة قبله، وخَلَتْ معناه مضت وتقدمت في الخلاء من الأرض، وقرأ حطان بن عبد الله الرقاشي «قد خلت من قبله رسل» بتنكير الرسل، وكذلك قرأ وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: ١٤٤]، وقد مضى القول على وجه هذه القراءة هناك، وقوله تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ صفة ببناء مبالغة من الصدق، ويحتمل أن يكون من التصديق وبه سمي أبو بكر رضي الله عنه لتصديقه، وهذه الصفة لمريم تدفع قول من قال هي نبية، وقد يوجد في صحيح الحديث قصص قوم كلمتهم ملائكة في غير ما فن كقصة الثلاثة الأقرع والأعمى والأبرص وغيرهم، ولا تكون هنالك نبوة، فكذلك أمر مريم، وقوله تعالى: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ تنبيه على نقص البشرية وعلى حال من الاحتياج إلى الغذاء تنتفي معها الألوهية، وذكر مكي والمهدي وغيرهما أنها عبارة عن الاحتياج إلى الغائط وهذا قول بشع ولا ضرورة تدفع إليه حتى يقصد هذا المعنى بالذكر، وإنما هي عبارة عن الاحتياج إلى التغذي ولا محالة أن الناظر إذا تأمل بذهنه لواحق التغذي وجد ذلك وغيره، ثم أمر تعالى محمدا ﷺ وفي الضمن أمته بالنظر في ضلال هؤلاء القوم وبعدهم عن سنن الحق، وأن الآيات تبين لهم وتبرز في غاية الوضوح، ثم هم بعد ذلك يصرفون أي تصرفهم دواعيهم ويزيلهم تكسلهم عن الحق، وكَيْفَ في هذه الآية ليست سؤالا عن حال لكنها عبارة عن حال شأنها أن يسأل عنها بكيف، وهذا كقولك: كن كيف شئت فأنت صديق، وأَنَّى معناها من أي جهة، قال سيبويه معناها كيف ومن أين، ويُؤْفَكُونَ معناه: يصرفون، ومنه قوله عز وجل: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: ٩] والأرض المأفوكة التي صرفت عن أن ينالها المطر، والمطر في الحقيقة هو المصروف، ولكن قيل أرض مأفوكة لما كانت مأفوكة عنها.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٦ الى ٧٨]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨)
222
أمر الله تعالى نبيه أن يوقفهم على عبادتهم شخصا من البشر لا يملك أن يضرهم ولا أن ينفعهم، ومِنْ دُونِ ودون فلان وما جاء من هذه اللفظة فإنما تضاف إلى من ليس في النازلة التي فيها القول، وتفسيرها بغير أمر غير مطرد، و «الضّر» بفتح الضاد المصدر، و «الضّر» بضمها الاسم وهو عدم الخير، والسَّمِيعُ هنا إشارة إلى تحصيل أقوالهم والعليم بنياتهم، وقال بعض المفسرين: هاتان الصفتان منبهتان على قصور البشر، أي والله تعالى هو السميع العليم بالإطلاق لا عيسى ولا غيره، وهم مقرون أن عيسى قد كان مدة لا يسمع ولا يعلم، وقال نحوه مكي.
ثم أمر تعالى نبيه محمدا أن ينهاهم عن الغلو في دينهم، والغلو تجاوز الحد، غلا السهم إذا تجاوز الغرض المقصود واستوفى سومه من الاطراد، وتلك المسافة هي غلوته، وكما كان قوله لا تَغْلُوا بمعنى لا تقولوا ولا تلتزموا نصب غَيْرَ وليس معنى هذه الآية جنبوا من دينكم الذي أنتم عليه الغلو، وإنما معناه في دينكم الذي ينبغي أن يكون دينكم، لأن كل إنسان فهو مطلوب بالدين الحق وحري أن يتبعه ويلتزمه، وهذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى، والقوم الذين نهي النصارى عن اتباع أهوائهم بنو إسرائيل، ومعنى الآية لا تتبعوا أنتم أهواءكم كما اتبع أولئك أهواءهم، فالمعنى لا تتبعوا طرائقهم، والذي دعا إلى هذا التأويل أن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل هم بالضد في الأقوال وإنما اجتمعوا في اتباع نوع الهوى، فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج، هذه طريقة فلان، تمثله بآخر قد اعوج نوعا آخر من الاعوجاج وإن اختلفت نوازله، ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديما وأضلوا كثيرا من أتباعهم، ثم أكد الأمر بتكرار قوله تعالى: وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ وذهب بعض المتأولين إلى أن المعنى يا أهل الكتاب من النصارى لا تتبعوا أهواء هؤلاء اليهود الذين ضلوا من قبل، أي ضل أسلافهم وهم قبل مجيء محمد، وأضلوا كثيرا من المنافقين وضلوا عن سواء السبيل الآن بعد وضوح الحق.
وقوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الآية. قد تقرر في غير موضع من القرآن ما جرى في مدة موسى من كفر بعضهم وعتوهم، وكذلك أمرهم مع محمد عليه السلام كان مشاهدا في وقت نزول القرآن، فخصت هذه الآية داود وعيسى إعلاما بأنهم لعنوا في الكتب الأربعة وأنهم قد لعنوا على لسان غير موسى ومحمد عليهما السلام، وقال ابن عباس رحمه الله: لعنوا بكل لسان لعنوا على عهد موسى في التوراة وعلى عهد داود في الزبور وعلى عهد عيسى في الإنجيل وعلى عهد محمد في القرآن، وروى ابن جريج أنه اقترن بلعنتهم على لسان داود أن مسخوا خنازير، وذلك أن داود عليه السلام مر على نفر وهم في بيت فقال من في البيت؟ قالوا: خنازير على معنى الانحجاب، قال: اللهم اجعلهم خنازير، فكانوا خنازير، ثم دعا عيسى على من افترى عليه على أن يكونوا قردة فكانوا قردة، وقال مجاهد وقتادة: بل مسخوا في زمن داود قردة وفي زمن عيسى خنازير، وحكى الزجّاج نحوه.
ثم أمر تعالى نبيه محمدا أن ينهاهم عن الغلو في دينهم، والغلو تجاوز الحد، غلا السهم إذا تجاوز الغرض المقصود واستوفى سومه من الاطراد، وتلك المسافة هي غلوته، وكما كان قوله لا تَغْلُوا بمعنى لا تقولوا ولا تلتزموا نصب غَيْرَ وليس معنى هذه الآية جنبوا من دينكم الذي أنتم عليه الغلو، وإنما معناه في دينكم الذي ينبغي أن يكون دينكم، لأن كل إنسان فهو مطلوب بالدين الحق وحري أن يتبعه ويلتزمه، وهذه المخاطبة هي للنصارى الذين غلوا في عيسى، والقوم الذين نهي النصارى عن اتباع أهوائهم بنو إسرائيل، ومعنى الآية لا تتبعوا أنتم أهواءكم كما اتبع أولئك أهواءهم، فالمعنى لا تتبعوا طرائقهم، والذي دعا إلى هذا التأويل أن النصارى في غلوهم ليسوا على هوى بني إسرائيل هم بالضد في الأقوال وإنما اجتمعوا في اتباع نوع الهوى، فالآية بمنزلة قولك لمن تلومه على عوج، هذه طريقة فلان، تمثله بآخر قد اعوج نوعا آخر من الاعوجاج وإن اختلفت نوازله، ووصف تعالى اليهود بأنهم ضلوا قديما وأضلوا كثيرا من أتباعهم، ثم أكد الأمر بتكرار قوله تعالى: وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ وذهب بعض المتأولين إلى أن المعنى يا أهل الكتاب من النصارى لا تتبعوا أهواء هؤلاء اليهود الذين ضلوا من قبل، أي ضل أسلافهم وهم قبل مجيء محمد، وأضلوا كثيرا من المنافقين وضلوا عن سواء السبيل الآن بعد وضوح الحق.
وقوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الآية. قد تقرر في غير موضع من القرآن ما جرى في مدة موسى من كفر بعضهم وعتوهم، وكذلك أمرهم مع محمد عليه السلام كان مشاهدا في وقت نزول القرآن، فخصت هذه الآية داود وعيسى إعلاما بأنهم لعنوا في الكتب الأربعة وأنهم قد لعنوا على لسان غير موسى ومحمد عليهما السلام، وقال ابن عباس رحمه الله: لعنوا بكل لسان لعنوا على عهد موسى في التوراة وعلى عهد داود في الزبور وعلى عهد عيسى في الإنجيل وعلى عهد محمد في القرآن، وروى ابن جريج أنه اقترن بلعنتهم على لسان داود أن مسخوا خنازير، وذلك أن داود عليه السلام مر على نفر وهم في بيت فقال من في البيت؟ قالوا: خنازير على معنى الانحجاب، قال: اللهم اجعلهم خنازير، فكانوا خنازير، ثم دعا عيسى على من افترى عليه على أن يكونوا قردة فكانوا قردة، وقال مجاهد وقتادة: بل مسخوا في زمن داود قردة وفي زمن عيسى خنازير، وحكى الزجّاج نحوه.
223
قال القاضي أبو محمد: وذكر المسخ ليس مما تعطيه ألفاظ الآية، وإنما تعطي ألفاظ الآية أنهم لعنهم الله وأبعدهم من رحمته وأعلم بذلك العباد المؤمنون على لسان داود النبي في زمنه وعلى لسان عيسى في زمنه، وروي عن ابن عباس أنه قال: لعن على لسان داود أصحاب السبت، وعلى لسان عيسى الذين كفروا بالمائدة، وقوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى لعنتهم وباقي الآية بيّن.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٩ الى ٨١]
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)
ذم الله تعالى هذه الفرقة الملعونة بأنهم كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ أي إنهم كانوا يتجاهرون بالمعاصي وإن نهى منهم ناه فعن غير جد، بل كانوا لا يمتنع الممسك منهم عن مواصلة العاصي ومؤاكلته وخلطته، وروى ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على ذنب نهاه عنه تعزيرا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون خليطه وأكيله، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى، قال ابن مسعود:
وكان رسول الله متكئا فجلس، وقال: لا والله حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا.
قال القاضي أبو محمد: والإجماع على أن النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه ونهى بمعروف وأمن الضرر عليه وعلى المسلمين، فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه ففرض عليه الإنكار بقلبه وأن لا يخالط ذا المنكر، وقال حذاق أهل العلم: ليس من شروط الناهي أن يكون سليما من المعصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضا، وقال بعض الأصوليين فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضا. واستدل قائل هذه المقالة بهذه الآية، لأن قوله يَتَناهَوْنَ وفَعَلُوهُ يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي. وقوله تعالى: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ اللام لام قسم، وجعل الزجاج ما مصدرية وقال: التقدير لبئس شيئا فعلهم.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، وقال غيره ما نكرة موصوفة، التقدير: لبئس الشيء الذي كانوا يفعلون فعلا.
وقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: تَرى كَثِيراً يحتمل أن يكون رؤية قلب وعلى هذا فيحتمل أن يريد من الأسلاف المذكورين، أي ترى الآن إذا خبرناك، ويحتمل أن يريد من معاصري محمد ﷺ لأنه كان يرى ذلك من أمورهم ودلائل حالهم، ويحتمل أن تكون الرؤية رؤية عين فلا يريد إلا معاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي قدمته
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٧٩ الى ٨١]
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١)
ذم الله تعالى هذه الفرقة الملعونة بأنهم كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ أي إنهم كانوا يتجاهرون بالمعاصي وإن نهى منهم ناه فعن غير جد، بل كانوا لا يمتنع الممسك منهم عن مواصلة العاصي ومؤاكلته وخلطته، وروى ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على ذنب نهاه عنه تعزيرا، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون خليطه وأكيله، فلما رأى الله ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى، قال ابن مسعود:
وكان رسول الله متكئا فجلس، وقال: لا والله حتى تأخذوا على يدي الظالم فتأطروه على الحق أطرا.
قال القاضي أبو محمد: والإجماع على أن النهي عن المنكر واجب لمن أطاقه ونهى بمعروف وأمن الضرر عليه وعلى المسلمين، فإن تعذر على أحد النهي لشيء من هذه الوجوه ففرض عليه الإنكار بقلبه وأن لا يخالط ذا المنكر، وقال حذاق أهل العلم: ليس من شروط الناهي أن يكون سليما من المعصية، بل ينهى العصاة بعضهم بعضا، وقال بعض الأصوليين فرض على الذين يتعاطون الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضا. واستدل قائل هذه المقالة بهذه الآية، لأن قوله يَتَناهَوْنَ وفَعَلُوهُ يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمهم على ترك التناهي. وقوله تعالى: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ اللام لام قسم، وجعل الزجاج ما مصدرية وقال: التقدير لبئس شيئا فعلهم.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، وقال غيره ما نكرة موصوفة، التقدير: لبئس الشيء الذي كانوا يفعلون فعلا.
وقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: تَرى كَثِيراً يحتمل أن يكون رؤية قلب وعلى هذا فيحتمل أن يريد من الأسلاف المذكورين، أي ترى الآن إذا خبرناك، ويحتمل أن يريد من معاصري محمد ﷺ لأنه كان يرى ذلك من أمورهم ودلائل حالهم، ويحتمل أن تكون الرؤية رؤية عين فلا يريد إلا معاصري محمد صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي قدمته
للآخرة واجترحته، ثم فسر ذلك قوله تعالى: أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ف أَنْ سَخِطَ في موضع رفع بدل من ما، ويحتمل أن يكون التقدير هو أن سخط الله عليهم، وقال الزجاج: «أن» في موضع نصب ب أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
وقوله تعالى: والنَّبِيِّ إن كان المراد الأسلاف فالنبي داود وعيسى، وإن كان المراد معاصري محمد فالنبي محمد عليه السلام، والذين كفروا هم عبدة الأوثان، وخص الكثير منهم بالفسق إذ فيهم قليل قد آمن.
وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ كلام منقطع من ذكر بني إسرائيل وأنه يعني به المنافقين، وقال مجاهد رحمه الله: وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ آية يعني بها المنافقين.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣)
اللام في قوله لَتَجِدَنَّ لام الابتداء، وقال الزجّاج هي لام قسم، ودخلت هذه النون الثقيلة لتفصل بين الحال والاستقبال.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله وهكذا هو الأمر حتى الآن، وذلك أن اليهود مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم ودربوا العتو والمعاصي ومردوا على استشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة، فهم قد لجت عداواتهم وكثر حسدهم، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين وكذلك المشركون عبدة الأوثان من العرب والنيران من المجوس لأن الإيمان إياهم كفر وعروشهم ثل، وبين أنهم ليسوا على شيء من أول أمرهم فلم يبق لهم بقية فعداوتهم شديدة، والنصارى أهل الكتاب يقضي لهم شرعنا بأن أول أمرهم صحيح لولا أنهم ضلوا، فهم يعتقدون أنهم لم يضلوا وأن هذه الآية لم تنسخ شرعهم، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه صحة دين، ويستهينون من فهموا منه الفسق، فهم إذا حاربوا فإنما حربهم أنفة وكسب لا أن شرعهم يأخذهم بذلك، وإذا سالموا فسلمهم صاف، ويعين على هذا أنهم أمة شريفة الخلق، لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكر عمرو بن العاصي في صحيح مسلم وتأمل أن النبي ﷺ سر حين غلبت الروم فارس، وذلك لكونهم أهل كتاب، ولم يرد عليه السلام أن يستمر ظهور الروم وإنما سر بغلبة أهل كتاب لأهل عبادة النار، وانضاف إلى ذلك أن غلب العدو الأصغر وانكسرت شوكة العدو الأكبر المخوف على الإسلام، واليهود لعنهم الله ليسوا على شيء من هذه الخلق بل شأنهم الخبث والليّ بالألسنة، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يبغيك هو
وقوله تعالى: والنَّبِيِّ إن كان المراد الأسلاف فالنبي داود وعيسى، وإن كان المراد معاصري محمد فالنبي محمد عليه السلام، والذين كفروا هم عبدة الأوثان، وخص الكثير منهم بالفسق إذ فيهم قليل قد آمن.
وذهب بعض المفسرين إلى أن قوله تعالى: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ كلام منقطع من ذكر بني إسرائيل وأنه يعني به المنافقين، وقال مجاهد رحمه الله: وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ آية يعني بها المنافقين.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٢ الى ٨٣]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣)
اللام في قوله لَتَجِدَنَّ لام الابتداء، وقال الزجّاج هي لام قسم، ودخلت هذه النون الثقيلة لتفصل بين الحال والاستقبال.
قال القاضي أبو محمد: وهذا خبر مطلق منسحب على الزمن كله وهكذا هو الأمر حتى الآن، وذلك أن اليهود مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم ودربوا العتو والمعاصي ومردوا على استشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة، فهم قد لجت عداواتهم وكثر حسدهم، فهم أشد الناس عداوة للمؤمنين وكذلك المشركون عبدة الأوثان من العرب والنيران من المجوس لأن الإيمان إياهم كفر وعروشهم ثل، وبين أنهم ليسوا على شيء من أول أمرهم فلم يبق لهم بقية فعداوتهم شديدة، والنصارى أهل الكتاب يقضي لهم شرعنا بأن أول أمرهم صحيح لولا أنهم ضلوا، فهم يعتقدون أنهم لم يضلوا وأن هذه الآية لم تنسخ شرعهم، ويعظمون من أهل الإسلام من استشعروا منه صحة دين، ويستهينون من فهموا منه الفسق، فهم إذا حاربوا فإنما حربهم أنفة وكسب لا أن شرعهم يأخذهم بذلك، وإذا سالموا فسلمهم صاف، ويعين على هذا أنهم أمة شريفة الخلق، لهم الوفاء والخلال الأربع التي ذكر عمرو بن العاصي في صحيح مسلم وتأمل أن النبي ﷺ سر حين غلبت الروم فارس، وذلك لكونهم أهل كتاب، ولم يرد عليه السلام أن يستمر ظهور الروم وإنما سر بغلبة أهل كتاب لأهل عبادة النار، وانضاف إلى ذلك أن غلب العدو الأصغر وانكسرت شوكة العدو الأكبر المخوف على الإسلام، واليهود لعنهم الله ليسوا على شيء من هذه الخلق بل شأنهم الخبث والليّ بالألسنة، وفي خلال إحسانك إلى اليهودي يبغيك هو
225
الغوائل إلا الشاذ القليل منهم ممن عسى أن تخصص بأدب وأمور غير ما علم أولا. ولم يصف الله تعالى النصارى بأنهم أهل ود وإنما وصفهم بأنهم أقرب من اليهود والمشركين، فهو قرب مودة بالنسبة إلى متباعدين، وفي قوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى إشارة إلى أن المعاصرين لمحمد ﷺ من النصارى ليسوا على حقيقة النصرانية بل كونهم نصارى قول منهم وزعم، وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً معناه ذلك بأن منهم أهل خشية وانقطاع إلى الله وعبادة وإن لم يكونوا على هذي، فهم يميلون إلى أهل العبادة والخشية وليس عند اليهود ولا كان قط أهل ديارات وصوامع وانقطاع عن الدنيا، بل هم معظمون لها متطاولون في البنيان وأمور الدنيا حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة، فلذلك لا يرى فيهم زاهد، ويقال «قس» بفتح القاف وبكسرها وقسيس وهو اسم أعجمي عرّب، والقس في كلام العرب النميمة وليس من هذا، وأما الرهبان فجمع راهب. وهذه تسمية عربية والرهب الخوف، ومن الشواهد على أن الرهبان جمع قول الشاعر جرير:
وقد قيل الرهبان اسم مفرد والدليل عليه قول الشاعر:
قال القاضي أبو محمد: ويروى و «يزل» بالياء من الزلل، وهذا الرواية أبلغ في معنى غلبة هذه المرأة على ذهن هذا الراهب، ووصف الله تعالى النصارى بأنهم لا يستكبرون وهذا بين موجود فيهم حتى الآن، واليهودي متى وجد غرورا طغى وتكبر وإنما أذلهم الله وأضرعتهم الحمى وداسهم كلكل الشريعة ودين الإسلام أعلاه الله، وذكر سعيد بن جبير ومجاهد وابن عباس أن هذه الآية نزلت بسبب وفد بعثهم النجاشي إلى رسول الله ﷺ ليروه ويعرفوا حاله، فقرأ النبي ﷺ عليهم القرآن وآمنوا ورجعوا إلى النجاشي فآمن، ولم يزل مؤمنا حتى مات فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد: وروي أن نعش النجاشي كشف للنبي ﷺ فكان يراه من موضعه بالمدينة وجاء الخبر بعد مدة أن النجاشي دفن في اليوم الذي صلى فيه النبي ﷺ عليه، وذكر السدي: أنهم كانوا اثني عشر سبعة قسيسين وخمسة رهبان. وقال أبو صالح: كانوا سبعة وستين رجلا، وقال سعيد بن جبير: كانوا سبعين عليهم ثياب الصوف وكلهم صاحب صومعة اختارهم النجاشي الخير بالخير، وذكر السدي: أن النجاشي خرج مهاجرا فمات في الطريق.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لم يذكره أحد من العلماء بالسيرة، وقال قتادة: نزلت هذه الآيات في قوم كانوا مؤمنين ثم آمنوا بمحمد عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد: وفرق الطبري بين هذين القولين وهما واحد، وروى سلمان الفارسي عن النبي ﷺ ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا.
وقوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ الآية الضمير في سَمِعُوا ظاهره العموم
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا | والعصم من شغف العقول الفادر |
لو عاينت رهبان دير في القلل | تحدّر الرهبان يمشي ونزل |
قال القاضي أبو محمد: وروي أن نعش النجاشي كشف للنبي ﷺ فكان يراه من موضعه بالمدينة وجاء الخبر بعد مدة أن النجاشي دفن في اليوم الذي صلى فيه النبي ﷺ عليه، وذكر السدي: أنهم كانوا اثني عشر سبعة قسيسين وخمسة رهبان. وقال أبو صالح: كانوا سبعة وستين رجلا، وقال سعيد بن جبير: كانوا سبعين عليهم ثياب الصوف وكلهم صاحب صومعة اختارهم النجاشي الخير بالخير، وذكر السدي: أن النجاشي خرج مهاجرا فمات في الطريق.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لم يذكره أحد من العلماء بالسيرة، وقال قتادة: نزلت هذه الآيات في قوم كانوا مؤمنين ثم آمنوا بمحمد عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد: وفرق الطبري بين هذين القولين وهما واحد، وروى سلمان الفارسي عن النبي ﷺ ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا.
وقوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ الآية الضمير في سَمِعُوا ظاهره العموم
226
ومعناه الخصوص فيمن آمن من هؤلاء القادمين من أرض الحبشة، إذ هم عرفوا الحق وقالوا آمنا، وليس كل النصارى يفعل ذلك، وصدر الآية في قرب المودة عام فيها ولا يتوجه أن يكون صدر الآية خاصا فيمن آمن لأن من آمن فهو من الذين آمنوا وليس يقال فيه قالوا إنا نصارى ولا يقال في مؤمنين: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ ولا يقال إنهم أقرب مودة، بل من آمن فهو أهل مودة محضة، فإنما وقع التخصيص من قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا وجاء الضمير عاما إذ قد تحمد الجماعة بفعل واحد منها، وفي هذا استدعاء للنصارى ولطف من الله تعالى بهم، ولقد يوجد فيض الدموع غالبا فيهم وإن لم يؤمنوا، وروي أن وفدا من نجران قدم على أبي بكر الصديق في شيء من أمورهم فأمر من يقرأ القرآن بحضرتهم فبكوا بكاء شديدا فقال أبو بكر: هكذا كنا ولكن قست القلوب، وروي أن راهبا من رهبان ديارات الشام نظر إلى أصحاب النبي ﷺ ورأى عبادتهم وجدهم في قتال عدوهم فعجب من حالهم، وبكى، وقال: ما كان الذين نشروا بالمناشير على دين عيسى بأصبر من هؤلاء ولا أجدّ في دينهم.
قال القاضي أبو محمد: فالقوم الذين وصفوا بأنهم عرفوا الحق هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي ﷺ ويسمعوا ما عنده، فلما رأوه قرأ عليهم القرآن وهو المراد بقوله تعالى: ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ فاضت أعينهم بالدمع من خشية الله ورقت القلوب. والرؤية رؤية العين، وتَفِيضُ حال من الأعين، ويَقُولُونَ حال أيضا وآمَنَّا معناه صدقنا أن هذا رسولك والمسموع كتابك والشاهدون محمد وأمته، قاله ابن عباس وابن جريج وغيرهما، وقال الطبري: لو قال قائل معنى ذلك مع الشاهدين بتوحيدك من جميع العالم من تقدم ومن تأخر لكان ذلك صوابا.
قال القاضي أبو محمد: هذا معنى قول الطبري وهو كلام صحيح، وكان ابن عباس رضي الله عنه خصص أمة محمد عليه السلام لقول الله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: ١٤٣].
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٤ الى ٨٧]
وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧)
قولهم وَما لَنا توقيف لأنفسهم أو محاجة لمن عارضهم من الكفار بأن قال لهم آمنتم وعجلتم.
فقالوا وأي شيء يصدنا عن الإيمان وقد لاح الصواب وجاء الحق المنير وَما لَنا ابتداء وخبر، ولا نُؤْمِنُ في موضع الحال، ولكنها حال هي المقصد وفيها الفائدة: كما تقول جاء زيد راكبا وأنت قد سئلت هل جاء ماشيا أو راكبا. وفي مصحف ابن مسعود «وما لنا لا نؤمن بالله وما أنزل إلينا ربنا». وَنَطْمَعُ تقديره ونحن نطمع. فالواو عاطفة جملة على الجملة لا عاطفة فعل على فعل و «القوم الصالحون» محمد وأصحابه، قاله ابن زيد وغيره من المفسرين.
قال القاضي أبو محمد: فالقوم الذين وصفوا بأنهم عرفوا الحق هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي ﷺ ويسمعوا ما عنده، فلما رأوه قرأ عليهم القرآن وهو المراد بقوله تعالى: ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ فاضت أعينهم بالدمع من خشية الله ورقت القلوب. والرؤية رؤية العين، وتَفِيضُ حال من الأعين، ويَقُولُونَ حال أيضا وآمَنَّا معناه صدقنا أن هذا رسولك والمسموع كتابك والشاهدون محمد وأمته، قاله ابن عباس وابن جريج وغيرهما، وقال الطبري: لو قال قائل معنى ذلك مع الشاهدين بتوحيدك من جميع العالم من تقدم ومن تأخر لكان ذلك صوابا.
قال القاضي أبو محمد: هذا معنى قول الطبري وهو كلام صحيح، وكان ابن عباس رضي الله عنه خصص أمة محمد عليه السلام لقول الله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: ١٤٣].
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٤ الى ٨٧]
وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧)
قولهم وَما لَنا توقيف لأنفسهم أو محاجة لمن عارضهم من الكفار بأن قال لهم آمنتم وعجلتم.
فقالوا وأي شيء يصدنا عن الإيمان وقد لاح الصواب وجاء الحق المنير وَما لَنا ابتداء وخبر، ولا نُؤْمِنُ في موضع الحال، ولكنها حال هي المقصد وفيها الفائدة: كما تقول جاء زيد راكبا وأنت قد سئلت هل جاء ماشيا أو راكبا. وفي مصحف ابن مسعود «وما لنا لا نؤمن بالله وما أنزل إلينا ربنا». وَنَطْمَعُ تقديره ونحن نطمع. فالواو عاطفة جملة على الجملة لا عاطفة فعل على فعل و «القوم الصالحون» محمد وأصحابه، قاله ابن زيد وغيره من المفسرين.
ثم ذكر الله تعالى ما أثابهم به من النعيم على إيمانهم وإحسانهم.
ثم ذكر حال الكافرين المكذبين وأنهم قرناء الجحيم، والمعنى قد علم من غير ما آية من كتاب الله أنه اقتران لازم دائم أبدي.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الآية قال أبو مالك وعكرمة وإبراهيم النخعي وأبو قلابة وقتادة والسدي وعبد الله بن عباس رضي الله عنه وغيرهم: إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب النبي ﷺ بلغت منهم المواعظ وخوف الله إلى أن حرم بعضهم النساء وبعضهم النوم بالليل والطيب وهمّ بعضهم بالاختصاء وكان منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون، قال عكرمة: ومنهم ابن مسعود والمقداد وسالم مولى أبي حذيفة، وقال قتادة رفضوا النساء واللحم وأرادوا أن يتخذوا الصوامع، وقال ابن عباس أخذوا الشفار ليقطعوا مذاكرهم، وطول السدي في قصة الحولاء امرأة عثمان بن مظعون مع أزواج النبي ﷺ وإخبارها بأنه لم يلم بها، فلما أعلم رسول الله ﷺ بحالهم قال: «أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء وأنال الطيب، فمن رغب عن سنتي فليس مني» قال الطبري: وكان فيما يتلى من رغب عن سنتك فليس من أمتك، وقد ضل سواء السبيل، وقال ابن زيد: سبب هذه الآية أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف فانقلب ابن رواحة وضيفه لم يعشّ فقال لزوجه ما عشيته؟ قالت: كان الطعام قليلا فانتظرتك، فقال: حبست ضيفي من أجلي، طعامك علي حرام إن ذقته، فقالت هي: وهو علي حرام إن ذقته وإن لم تذقه، وقال الضيف وهو عليّ حرام إن ذقته إن لم تذوقوه، فلما رأى ذلك ابن رواحة قال: قربي طعامك كلوا باسم الله فأكلوا جميعا. ثم غدا إلى رسول الله ﷺ فأخبره فقال له رسول الله أحسنت ونزلت هذه الآية وأسند الطبري إلى ابن عباس أن الآية نزلت بسبب رجل أتى النبي ﷺ فقال يا رسول الله إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي فحرمت اللحم فأنزل الله هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: و «الطيبات» في هذه الآية المستلذات بدليل إضافتها إلى ما أحل وبقرينة ما ذكر من سبب الآية، واختلف المتأولون في معنى قوله وَلا تَعْتَدُوا فقال السدي وعكرمة وغيرهما. وهو نهي عن هذه الأمور المذكورة من تحريم ما أحل الله وشرع ما لم يأذن به، فقوله وَلا تَعْتَدُوا تأكيد لقوله لا تُحَرِّمُوا وقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى ولا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله، فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين كأنه لا تشددوا فتحرموا حلالا ولا تترخصوا فتحلوا حراما وقد تقدم القول في معنى لا يحب المعتدين غير مرة.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)
ثم ذكر حال الكافرين المكذبين وأنهم قرناء الجحيم، والمعنى قد علم من غير ما آية من كتاب الله أنه اقتران لازم دائم أبدي.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ الآية قال أبو مالك وعكرمة وإبراهيم النخعي وأبو قلابة وقتادة والسدي وعبد الله بن عباس رضي الله عنه وغيرهم: إنها نزلت بسبب جماعة من أصحاب النبي ﷺ بلغت منهم المواعظ وخوف الله إلى أن حرم بعضهم النساء وبعضهم النوم بالليل والطيب وهمّ بعضهم بالاختصاء وكان منهم علي بن أبي طالب وعثمان بن مظعون، قال عكرمة: ومنهم ابن مسعود والمقداد وسالم مولى أبي حذيفة، وقال قتادة رفضوا النساء واللحم وأرادوا أن يتخذوا الصوامع، وقال ابن عباس أخذوا الشفار ليقطعوا مذاكرهم، وطول السدي في قصة الحولاء امرأة عثمان بن مظعون مع أزواج النبي ﷺ وإخبارها بأنه لم يلم بها، فلما أعلم رسول الله ﷺ بحالهم قال: «أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وآتي النساء وأنال الطيب، فمن رغب عن سنتي فليس مني» قال الطبري: وكان فيما يتلى من رغب عن سنتك فليس من أمتك، وقد ضل سواء السبيل، وقال ابن زيد: سبب هذه الآية أن عبد الله بن رواحة ضافه ضيف فانقلب ابن رواحة وضيفه لم يعشّ فقال لزوجه ما عشيته؟ قالت: كان الطعام قليلا فانتظرتك، فقال: حبست ضيفي من أجلي، طعامك علي حرام إن ذقته، فقالت هي: وهو علي حرام إن ذقته وإن لم تذقه، وقال الضيف وهو عليّ حرام إن ذقته إن لم تذوقوه، فلما رأى ذلك ابن رواحة قال: قربي طعامك كلوا باسم الله فأكلوا جميعا. ثم غدا إلى رسول الله ﷺ فأخبره فقال له رسول الله أحسنت ونزلت هذه الآية وأسند الطبري إلى ابن عباس أن الآية نزلت بسبب رجل أتى النبي ﷺ فقال يا رسول الله إني إذا أصبت من اللحم انتشرت وأخذتني شهوتي فحرمت اللحم فأنزل الله هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: و «الطيبات» في هذه الآية المستلذات بدليل إضافتها إلى ما أحل وبقرينة ما ذكر من سبب الآية، واختلف المتأولون في معنى قوله وَلا تَعْتَدُوا فقال السدي وعكرمة وغيرهما. وهو نهي عن هذه الأمور المذكورة من تحريم ما أحل الله وشرع ما لم يأذن به، فقوله وَلا تَعْتَدُوا تأكيد لقوله لا تُحَرِّمُوا وقال الحسن بن أبي الحسن: المعنى ولا تعتدوا فتحلوا ما حرم الله، فالنهيان على هذا تضمنا الطرفين كأنه لا تشددوا فتحرموا حلالا ولا تترخصوا فتحلوا حراما وقد تقدم القول في معنى لا يحب المعتدين غير مرة.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩)
228
كُلُوا في هذه الآية عبارة عن تمتعوا بالأكل والشرب واللباس والركوب. ونحو ذلك، وخص الأكل بالذكر لأنه عظم المقصود وأخص الانتفاعات بالإنسان، والرزق عند أهل السنة ما صح الانتفاع به، وقالت المعتزلة: الرزق كل ما صح تملكه والحرام ليس برزق لأنه لا يصح تملكه. ويرد عليهم بأنه يلزمهم أن آكل الحرام ليس بمرزوق من الله تعالى وقد خرج بعض النبلاء أن الحرام رزق من قوله تعالى كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ [سبأ: ١٥] قال فذكر المغفرة مشيرا إلى أن الرزق قد يكون فيه حرام ورد أبو المعالي في الإرشاد على المعتزلة مشيرا إلى أن الرزق ما تملك يلزمهم أن ما ملك فهو الرزق، وملك الله تعالى الأشياء لا يصح أن يقال فيه إنه رزق له.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الذي ألزم غير لازم، فتأمله، وباقي الآية بين.
وقد تقدم القول في سورة البقرة في نظير قوله تعالى لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وقوله تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ معناه شددتم، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «عقّدتم» مشددة القاف، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «عقدتم» خفيفة القاف، وقرأ ابن عامر «عاقدتم» بألف على وزن فاعلتم، قال أبو علي من شدد القاف احتمل أمرين أحدهما أن يكون لتكثير الفعل لأنه خاطب جماعة والآخر يكون عقد مثل ضعف لا يراد به التكثير كما أن ضاعف لا يراد به فعل من اثنين. ومن قرأ «عقدتم» فخفف القاف جاز أن يراد به الكثير من الفعل والقليل، وعقد اليمين كعقد الحبل والعهد، وقال الحطيئة:
ومن قرأ «عاقدتم» فيحتمل ضربين أحدهما أن يكون كطارقت النعل وعاقبت اللص، والآخر أن يراد به فاعلت الذي يقتضي فاعلين كأن المعنى يؤاخذكم بما عاقدتم عليه الإيمان، ويعدى عاقد ب «على» لما هو في معنى عاهد، قال الله تعالى: وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ [الفتح: ١٠] وهذا كما عديت نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: ٥٨] ب «إلى» وبابها أن تقول ناديت زيدا ونادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ [مريم: ٥٢] لكن لما كانت بمعنى دعوت إلى كذا كقوله تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ [فصلت: ٣٣] عديت نادى ب «إلى»، ثم يتسع في قوله تعالى «عاقدتم» عليه الإيمان فيحذف الجار، ويصل الفعل إلى المفعول، ثم يحذف من الصلة الضمير الذي يعود على الموصول، وتقديره يؤاخذكم بما عقدتموه الأيمان. كما حذف من قوله تعالى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ [الحجر: ٩٤] والْأَيْمانَ جمع يمين وهي الألية سميت يمينا لما كان عرفهم أن يصفقوا بأيمان بعضهم على بعض عند الألية. وقوله تعالى:
فَكَفَّارَتُهُ معناه فالشيء الساتر على إثم الحنث في اليمين إطعام، والضمير على الصناعة النحوية عائد على ما، ويحتمل ما في هذا الموضع أن تكون بمعنى الذي، وتحتمل أن تكون مصدرية وهو عائد مع المعنى الذي ذكرناه على إثم الحنث، ولم يجر له ذكر صحيح لكن المعنى يقتضيه وإِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ معناه إشباعهم مرة، قال الحسن بن أبي الحسن إن جمعهم أشبعهم إشباعة واحدة، وإن أعطاهم أعطاهم مكوكا مكوكا، وحكم هؤلاء أن لا يتكرر واحد منهم في كفارة يمين واحدة، وسواء أطعموا أفرادا أو جماعة
قال القاضي أبو محمد: وهذا الذي ألزم غير لازم، فتأمله، وباقي الآية بين.
وقد تقدم القول في سورة البقرة في نظير قوله تعالى لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وقوله تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ معناه شددتم، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «عقّدتم» مشددة القاف، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي «عقدتم» خفيفة القاف، وقرأ ابن عامر «عاقدتم» بألف على وزن فاعلتم، قال أبو علي من شدد القاف احتمل أمرين أحدهما أن يكون لتكثير الفعل لأنه خاطب جماعة والآخر يكون عقد مثل ضعف لا يراد به التكثير كما أن ضاعف لا يراد به فعل من اثنين. ومن قرأ «عقدتم» فخفف القاف جاز أن يراد به الكثير من الفعل والقليل، وعقد اليمين كعقد الحبل والعهد، وقال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم | شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا |
فَكَفَّارَتُهُ معناه فالشيء الساتر على إثم الحنث في اليمين إطعام، والضمير على الصناعة النحوية عائد على ما، ويحتمل ما في هذا الموضع أن تكون بمعنى الذي، وتحتمل أن تكون مصدرية وهو عائد مع المعنى الذي ذكرناه على إثم الحنث، ولم يجر له ذكر صحيح لكن المعنى يقتضيه وإِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ معناه إشباعهم مرة، قال الحسن بن أبي الحسن إن جمعهم أشبعهم إشباعة واحدة، وإن أعطاهم أعطاهم مكوكا مكوكا، وحكم هؤلاء أن لا يتكرر واحد منهم في كفارة يمين واحدة، وسواء أطعموا أفرادا أو جماعة
229
في حين واحد ولا يجزىء في شيء من ذلك ذمي وإن أطعم صبي فيعطى حظ كبير، ولا يجوز أن يطعم عبد ولا ذو رحم تلزم نفقته، فإن كان ممن لا تلزم المكفر نفقته فقد قال مالك لا يعجبني أن يطعمه، ولكن إن فعل وكان فقيرا أجزأه، ولا يجوز أن يطعم منها غني، وإن أطعم جهلا بغناه ففي المدونة وغير كتاب أنه لا يجزىء وفي الأسدية أنه يجزىء واختلف الناس في معنى قوله مِنْ أَوْسَطِ فرأى مالك رحمه الله وجماعة معه هذا التوسط في القدر، ورأى ذلك جماعة في الصنف، والوجه أن يعم بلفظ الوسط القدر والصنف.
فرأى مالك أن يطعم المسكين بالمدينة مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك رطل وثلث من دقيق، وهذا لضيق المعيشة بالمدينة، ورأى في غيرها أن يتوسع ولذلك استحسن الغداء والعشاء. وأفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف وأشهب بمد وثلث، قال ابن المواز: ومد وثلث وسط من عيش أهل الأمصار في الغداء والعشاء، قال ابن حبيب: ولا يجزىء الخبز قفارا ولكن بأدام زيت أو لبن أو لحم أو نحوه، وفي شرح ابن مزين أن الخبز القفار يجزىء، ورأى من يقول إن التوسط إنما هو في الصنف أن يكون الرجل المكفر يتجنب أدنى ما يأكل الناس في البلد وينحط عن الأعلى ويكفر بالوسط من ذلك، ومذهب المدونة أن يراعي المكفر عيش البلد، وفي كتاب ابن المواز أن المراعى عيشه في أهله الخاص به، وكأن الآية على التأويل الأول معناها من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم في الجملة من مدينة أو صقع، وعلى التأويل الثاني معناها من أوسط ما يطعم شخص أهله. وقرأ الجمهور «أهليكم» وهو جمع أهل على السلامة وقرأ جعفر بن محمد «من أوسط ما تطعمون أهاليكم»، وهذا جمع مكسر قال أبو الفتح «أهال» بمنزلة ليال، كأن واحدها أهلاة وليلاة، والعرب تقول أهل وأهلة ومنه قول الشاعر:
وأهلة ود قد تبريت ودهم
ويقال ليلة وليلاة وأنشد ابن الأعرابي:
يا ويحه من جمل ما أشقاه
وقرأ الجمهور «أو كسوتهم» بكسر الكاف يراد به كسوة الثياب وقرأ سعيد بن المسيب وأبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي «أو كسوتهم» بضم الكاف، وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السميفع اليماني «أو كأسوتهم» من الأسوة قال أبو الفتح كأنه قال أو بما يكفي مثلهم فهو على حذف المضاف بتقدير أو ككفاية أسوتهم، قال وإن شئت جعلت الأسوة هي الكفاية فلم تحتج إلى حذف مضاف.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، والقراءة مخالفة لخط المصحف، ومعناها على خلاف ما تأول أهل العلم من أن الحانث في اليمين بالله مخير في الإطعام أو الكسوة أو العتق، والعلماء على أن العتق أفضل ذلك ثم الكسوة ثم الإطعام وبدأ الله تعالى عباده بالأيسر فالأيسر، ورب مدة ومسغبة يكون فيها الإطعام أفضل من العتق لكن ذلك شاذ وغير معهود والحكم للأغلب، واختلف العلماء في حد الكسوة فراعى على قوم نفس اللفظ فإذا كان الحانث المكفر كاسيا والمسكين مكسوا حصل الإجزاء، وهذه رتبة
فرأى مالك أن يطعم المسكين بالمدينة مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك رطل وثلث من دقيق، وهذا لضيق المعيشة بالمدينة، ورأى في غيرها أن يتوسع ولذلك استحسن الغداء والعشاء. وأفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف وأشهب بمد وثلث، قال ابن المواز: ومد وثلث وسط من عيش أهل الأمصار في الغداء والعشاء، قال ابن حبيب: ولا يجزىء الخبز قفارا ولكن بأدام زيت أو لبن أو لحم أو نحوه، وفي شرح ابن مزين أن الخبز القفار يجزىء، ورأى من يقول إن التوسط إنما هو في الصنف أن يكون الرجل المكفر يتجنب أدنى ما يأكل الناس في البلد وينحط عن الأعلى ويكفر بالوسط من ذلك، ومذهب المدونة أن يراعي المكفر عيش البلد، وفي كتاب ابن المواز أن المراعى عيشه في أهله الخاص به، وكأن الآية على التأويل الأول معناها من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم في الجملة من مدينة أو صقع، وعلى التأويل الثاني معناها من أوسط ما يطعم شخص أهله. وقرأ الجمهور «أهليكم» وهو جمع أهل على السلامة وقرأ جعفر بن محمد «من أوسط ما تطعمون أهاليكم»، وهذا جمع مكسر قال أبو الفتح «أهال» بمنزلة ليال، كأن واحدها أهلاة وليلاة، والعرب تقول أهل وأهلة ومنه قول الشاعر:
وأهلة ود قد تبريت ودهم
ويقال ليلة وليلاة وأنشد ابن الأعرابي:
في كل ما يوم وكل ليلاه | حتى يقول من رآه إذ رآه |
وقرأ الجمهور «أو كسوتهم» بكسر الكاف يراد به كسوة الثياب وقرأ سعيد بن المسيب وأبو عبد الرحمن وإبراهيم النخعي «أو كسوتهم» بضم الكاف، وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السميفع اليماني «أو كأسوتهم» من الأسوة قال أبو الفتح كأنه قال أو بما يكفي مثلهم فهو على حذف المضاف بتقدير أو ككفاية أسوتهم، قال وإن شئت جعلت الأسوة هي الكفاية فلم تحتج إلى حذف مضاف.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، والقراءة مخالفة لخط المصحف، ومعناها على خلاف ما تأول أهل العلم من أن الحانث في اليمين بالله مخير في الإطعام أو الكسوة أو العتق، والعلماء على أن العتق أفضل ذلك ثم الكسوة ثم الإطعام وبدأ الله تعالى عباده بالأيسر فالأيسر، ورب مدة ومسغبة يكون فيها الإطعام أفضل من العتق لكن ذلك شاذ وغير معهود والحكم للأغلب، واختلف العلماء في حد الكسوة فراعى على قوم نفس اللفظ فإذا كان الحانث المكفر كاسيا والمسكين مكسوا حصل الإجزاء، وهذه رتبة
230
تتحصل بثوب واحد أي ثوب كان بعد إجماع الناس أن القلنسوة بانفرادها لا تجزىء في كفارة اليمين، قال مجاهد:
يجزىء في كفارة اليمين ثوب واحد فما زاد، وقال الحسن: الكسوة ثوب لكل مسكين وقاله طاوس، وقال منصور: الكسوة ثوب قميص أو رداء أو إزار قاله أبو جعفر وعطاء وابن عباس، وقال قد تجزىء العباءة في الكفارة وكذلك الشملة، وقال الحسن بن أبي الحسن: تجزىء العمامة في كفارة اليمين، وقال مجاهد:
يجزىء كل شيء إلا التبان، وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: نعم الثوب التبان، أسنده الطبري وقال الحكم بن عتيبة: تجزىء عمامة يلف بها رأسه وراعى قوم معهود الزي والكسوة المتعارفة، فقال بعضهم لا يجزىء الثوب الواحد إلا إذا كان جامعا مما قد يتزيى به كالكساء والملحفة، قال إبراهيم النخعي: يجزىء الثوب الجامع وليس القميص والدرع والخمار ثوبا جامعا.
قال القاضي أبو محمد: قد يكون القميص الكامل جامعا وزيا، وقال بعضهم: الكسوة في الكفارة إزار وقميص ورداء قاله ابن عمر رضي الله عنه، وروي عن الحسن وابن سيرين وأبي موسى الأشعري أن الكسوة في الكفارة ثوبان لكل مسكين، وعلق مالك رحمه الله الحكم بما يجزىء في الصلاة، وهذا أحسن نظر، فقال: يجزىء في الرجل ثوب واحد، وقال ابن حبيب يكسى قميصا أو إزارا يبلغ أن يلتف به مشتملا، وكلام ابن حبيب تفسير، قال مالك: تكسى المرأة درعا وخمارا، وقال ابن القاسم في العتبية: وإن كسا صغير الإناث فدرع وخمار كالكبيرة، والكفارة واحدة لا ينقص منها لصغير، قال عنه ابن المواز ولا تعجبني كسوة المراضع بحال، فأما من أمر بالصلاة فيكسوه قميصا ويجزئه، قال ابن المواز من رأيه: بل كسوة رجل كبير وإلا لم يجزىء، قال أشهب، تعطى الأنثى إذا لم تبلغ الصلاة ثوب رجل ويجزىء وقاله ابن الماجشون، وقوله أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ التحرير الإخراج من الرق، ويستعمل في الأسر والمشقات وتعب الدنيا ونحوها، فمنه قوله تعالى عن أم مريم: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً [آل عمران: ٣٥] أي من شغوب الدنيا، ومن ذلك قول الفرزدق:
أي حررتكم من الهجاء، وخص الرقبة من الإنسان إذ هو العضو الذي فيه يكون الغل والتوثق غالبا من الحيوان، فهو موضع الملك فأضيف التحرير إليها، واختلف الناس في صفة المعتق في الكفارة كيف ينبغي أن يكون، فقالت جماعة من العلماء: هذه رقبة مطلقة لم تقيد بأيمان فيجوز في كفارة اليمين عتق الكافر، وهذا مذهب الطبري وجماعة من العلماء، وقالت فرقة كل مطلق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيد في عتق الرقبة في القتل الخطأ فلا يجزىء في شيء من الكفارات كافر، وهذا قول مالك رحمه الله وجماعة معه، وقال مالك رحمه الله: لا يجزي أعمى ولا أبرص ولا مجنون، وقال ابن شهاب وجماعة، وفي الأعور قولان في المذهب، وكذلك في الأصم وفي الخصي، وفي العلماء من رأى أن جميع هذا يجزىء وفرق النخعي فجوز عتق من يعمل أشغاله وخدمته ومنع عتق من لا يعمل كالأعمى والمقعد والأشل اليدين، قال مالك رحمه الله: والأعجمي عندي يجزىء من قصر النفقة وغيره أحب إليّ، قال سحنون يريد بعد أن يجيب إلى الإسلام، فإن كان الأعجمي لم يجب إلا أنه ممن يجبر على الإسلام كالكبير من المجوس والصغير من الحربيين الكتابيين فقال ابن القاسم يجزىء عتقه وإن لم يسلم وقال أشهب لا
يجزىء في كفارة اليمين ثوب واحد فما زاد، وقال الحسن: الكسوة ثوب لكل مسكين وقاله طاوس، وقال منصور: الكسوة ثوب قميص أو رداء أو إزار قاله أبو جعفر وعطاء وابن عباس، وقال قد تجزىء العباءة في الكفارة وكذلك الشملة، وقال الحسن بن أبي الحسن: تجزىء العمامة في كفارة اليمين، وقال مجاهد:
يجزىء كل شيء إلا التبان، وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال: نعم الثوب التبان، أسنده الطبري وقال الحكم بن عتيبة: تجزىء عمامة يلف بها رأسه وراعى قوم معهود الزي والكسوة المتعارفة، فقال بعضهم لا يجزىء الثوب الواحد إلا إذا كان جامعا مما قد يتزيى به كالكساء والملحفة، قال إبراهيم النخعي: يجزىء الثوب الجامع وليس القميص والدرع والخمار ثوبا جامعا.
قال القاضي أبو محمد: قد يكون القميص الكامل جامعا وزيا، وقال بعضهم: الكسوة في الكفارة إزار وقميص ورداء قاله ابن عمر رضي الله عنه، وروي عن الحسن وابن سيرين وأبي موسى الأشعري أن الكسوة في الكفارة ثوبان لكل مسكين، وعلق مالك رحمه الله الحكم بما يجزىء في الصلاة، وهذا أحسن نظر، فقال: يجزىء في الرجل ثوب واحد، وقال ابن حبيب يكسى قميصا أو إزارا يبلغ أن يلتف به مشتملا، وكلام ابن حبيب تفسير، قال مالك: تكسى المرأة درعا وخمارا، وقال ابن القاسم في العتبية: وإن كسا صغير الإناث فدرع وخمار كالكبيرة، والكفارة واحدة لا ينقص منها لصغير، قال عنه ابن المواز ولا تعجبني كسوة المراضع بحال، فأما من أمر بالصلاة فيكسوه قميصا ويجزئه، قال ابن المواز من رأيه: بل كسوة رجل كبير وإلا لم يجزىء، قال أشهب، تعطى الأنثى إذا لم تبلغ الصلاة ثوب رجل ويجزىء وقاله ابن الماجشون، وقوله أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ التحرير الإخراج من الرق، ويستعمل في الأسر والمشقات وتعب الدنيا ونحوها، فمنه قوله تعالى عن أم مريم: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً [آل عمران: ٣٥] أي من شغوب الدنيا، ومن ذلك قول الفرزدق:
ابني غدانة إنني حررتكم | فوهبتكم لعطية بن جعال |
231
يجزىء حتى يسلم، ولا يجزىء عند مالك من فيه شعبة حرية كالمدبر وأم الولد ونحوه.
وقوله تعالى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ معناه لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة من الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة واختلف العلماء في حد هذا العادم الوجد حتى يصح له الصيام، فقال الشافعي رحمه الله وجماعة من العلماء إذا كان المكفر لا يملك إلا قوته وقوت عياله يومه وليلته فله أن يصوم، فإن كان عنده زائدا على ذلك ما يطعم عشرة مساكين لزمه الإطعام، وهذا أيضا هو مذهب مالك وأصحابه قال مالك في المدونة: لا يجزئه سيام وهو يقدر على أحد الوجوه الثلاثة، وروي عن ابن القاسم أن من تفضل له نفقة يوم فإنه لا يصوم، وقال ابن المواز: ولا يصوم الحانث حتى لا يجد إلا قوته أو يكون في البلد لا يعطف عليه فيه، وقال ابن القاسم في كتاب ابن مزين: إن كان لحانث فضل عن قوت يومه أطعم إلا أن يخاف الجوع أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه، وقال سعيد بن جبير: إن لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم وقال قتادة: إذا لم يكن له إلا قدر ما يكفر به صام، وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا كان له درهمان أطعم، قال الطبري: وقال آخرون: جائز لمن لم تكن عنده مائتا درهم أن يصوم وهو ممن لا يجد، وقال آخرون:
جائز لمن لم يكن عنده فضل على رأس ماله الذي يتصرف به في معاشه أن يصوم، وقرأ أبي بن كعب فصيام ثلاثة أيام متتابعات، وكذلك عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي، وقال بذلك جماعة من العلماء منهم مجاهد وغيره، وقال مالك رحمه الله وغيره: إن تابع فحسن وإن فرق أجزأ، وقوله تعالى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إشارة إلى ما ذكر من الأشياء الثلاثة وقوله إِذا حَلَفْتُمْ معناه ثم أردتم الحنث أو وقعتم فيه وباقي الآية وصاة وتوقيف على النعمة والإيمان.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢)
الخطاب للمؤمنين جميعا، لأن هذه الأشياء شهوات وعادات قد تلبس بها في الجاهلية وغلبت على النفوس فكان بقي منها في نفوس كثير من المؤمنين، فأما الْخَمْرُ فكانت لم تحرم بعد، وأما الْمَيْسِرُ ففيه قمار ولذة للفارغ من النفوس ونفع أيضا بوجه ما، وأما الْأَنْصابُ وهي حجارة يذكون عندها لفضل يعتقدونه فيها، وقيل هي الأصنام المعبودة كانوا يذبحون لها وعندها في الجاهلية. فإن كانت المرادة في هذه الآية الحجارة التي يذبح عندها فقط فذلك لأنه كان في نفس ضعفة المؤمنين شيء من تعظيم تلك الحجارة، وهذا كما قالت امرأة الطفيل بن عمرو الدوسي لزوجها: أتخاف على الصبية من ذي الشرى شيئا؟
وذو الشرى صنم لدوس، وإن كانت المرادة في هذه الآية الأصنام فإنما قرنت بهذه الأمور ليبين النقص في هذه إذ تقرن بالأصنام، ولا يتأول أنه بقي في نفس مؤمن شيء من تعظيم الأصنام والتلبس بها حتى يقال له
وقوله تعالى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ معناه لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة من الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة واختلف العلماء في حد هذا العادم الوجد حتى يصح له الصيام، فقال الشافعي رحمه الله وجماعة من العلماء إذا كان المكفر لا يملك إلا قوته وقوت عياله يومه وليلته فله أن يصوم، فإن كان عنده زائدا على ذلك ما يطعم عشرة مساكين لزمه الإطعام، وهذا أيضا هو مذهب مالك وأصحابه قال مالك في المدونة: لا يجزئه سيام وهو يقدر على أحد الوجوه الثلاثة، وروي عن ابن القاسم أن من تفضل له نفقة يوم فإنه لا يصوم، وقال ابن المواز: ولا يصوم الحانث حتى لا يجد إلا قوته أو يكون في البلد لا يعطف عليه فيه، وقال ابن القاسم في كتاب ابن مزين: إن كان لحانث فضل عن قوت يومه أطعم إلا أن يخاف الجوع أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه، وقال سعيد بن جبير: إن لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم وقال قتادة: إذا لم يكن له إلا قدر ما يكفر به صام، وقال الحسن بن أبي الحسن: إذا كان له درهمان أطعم، قال الطبري: وقال آخرون: جائز لمن لم تكن عنده مائتا درهم أن يصوم وهو ممن لا يجد، وقال آخرون:
جائز لمن لم يكن عنده فضل على رأس ماله الذي يتصرف به في معاشه أن يصوم، وقرأ أبي بن كعب فصيام ثلاثة أيام متتابعات، وكذلك عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي، وقال بذلك جماعة من العلماء منهم مجاهد وغيره، وقال مالك رحمه الله وغيره: إن تابع فحسن وإن فرق أجزأ، وقوله تعالى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إشارة إلى ما ذكر من الأشياء الثلاثة وقوله إِذا حَلَفْتُمْ معناه ثم أردتم الحنث أو وقعتم فيه وباقي الآية وصاة وتوقيف على النعمة والإيمان.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٠ الى ٩٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢)
الخطاب للمؤمنين جميعا، لأن هذه الأشياء شهوات وعادات قد تلبس بها في الجاهلية وغلبت على النفوس فكان بقي منها في نفوس كثير من المؤمنين، فأما الْخَمْرُ فكانت لم تحرم بعد، وأما الْمَيْسِرُ ففيه قمار ولذة للفارغ من النفوس ونفع أيضا بوجه ما، وأما الْأَنْصابُ وهي حجارة يذكون عندها لفضل يعتقدونه فيها، وقيل هي الأصنام المعبودة كانوا يذبحون لها وعندها في الجاهلية. فإن كانت المرادة في هذه الآية الحجارة التي يذبح عندها فقط فذلك لأنه كان في نفس ضعفة المؤمنين شيء من تعظيم تلك الحجارة، وهذا كما قالت امرأة الطفيل بن عمرو الدوسي لزوجها: أتخاف على الصبية من ذي الشرى شيئا؟
وذو الشرى صنم لدوس، وإن كانت المرادة في هذه الآية الأصنام فإنما قرنت بهذه الأمور ليبين النقص في هذه إذ تقرن بالأصنام، ولا يتأول أنه بقي في نفس مؤمن شيء من تعظيم الأصنام والتلبس بها حتى يقال له
232
اجتنبه، وأما الْأَزْلامُ فهي الثلاثة التي كان أكثر الناس يتخذونها. في أحدها «لا» وفي الآخر «نعم»، والآخر «غفل»، وهي التي حبسها سراقة بن جعشم حين اتبع النبي ﷺ في وقت الهجرة، فكانوا يعظمونها، وبقي منها في بعض النفوس شيء ومن هذا القبيل هو الزجر بالطير وأخذ الفأل منها في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم، وقد يقال لسهام الميسر أزلام، والزلم السهم وكان من الأزلام أيضا ما يكون عند الكهان وكان منها سهام عند الأصنام وهي التي ضرب بها على عبد الله بن عبد المطلب أبي النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عند قريش في الكعبة أزلام فيها أحكام ذكرها ابن إسحاق وغيره، فأخبر الله تعالى أن هذه الأشياء رِجْسٌ، قال ابن زيد: الرجس الشر.
قال القاضي أبو محمد: كل مكروه ذميم، وقد يقال للعذاب، وقال ابن عباس في هذه الآية رِجْسٌ سخط، وقد يقال للنتن وللعذرة والأقذار رجس، والرجز العذاب لا غير، والركس العذرة لا غير، والرجس يقال للأمرين، وأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور واقترنت بصيغة الأمر في قوله فَاجْتَنِبُوهُ نصوص الأحاديث وإجماع الأمة، فحصل الاجتناب في رتبة التحريم، فبهذا حرمت الخمر بظاهر القرآن ونص الحديث وإجماع الأمة، وقد تقدم تفسير لفظة الْخَمْرُ ومعناها. وتفسير الْمَيْسِرُ في سورة البقرة، وتقدم تفسير الْأَنْصابُ والاستقسام بالأزلام في صدر هذه السورة، واختلف الناس في سبب نزول هذه الآيات، فقال أبو ميسرة: نزلت بسبب عمر بن الخطاب فإنه ذكر للنبي ﷺ عيوب الخمر وما ينزل بالناس من أجلها ودعا إلى الله في تحريمها، وقال: اللهم بين لنا فيها بيانا شافيا، فنزلت هذه الآيات، فقال عمر انتهينا، انتهينا وقال مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد قال: صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فشربنا الخمر حتى انتشينا فتفاخرت الأنصار وقريش فقال كل فريق: نحن خير منكم، فأخذ رجل من الأنصار لحي جمل فضرب به أنف سعد ففزره، فكان سعد أفزر الأنف، قال سعد ففيّ نزلت الآية إلى آخرها، وقال ابن عباس: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا حتى إذا ثملوا عربدوا فلما صحوا جعل كل واحد منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته وجسده، فيقول هذا فعل فلان بي، فحدث بينهم في ذلك ضغائن، فنزلت هذه الآيات في ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وأمر الخمر إنما كان بتدريج ونوازل كثيرة، منها قصة حمزة حين جبّ الأسنمة، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: وهل أنتم إلا عبيد لأبي، ومنها قراءة علي بن أبي طالب في صلاة المغرب «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون» فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: ٤٣] الآية، ثم لم تزل النوازل تحزب الناس بسببها حتى نزلت هذه الآية، فحرمت بالمدينة وخمر العنب فيها قليل، إنما كانت خمرهم من خمسة أشياء من العسل ومن التمر ومن الزبيب ومن الحنطة ومن الشعير، والأمة مجمعة على تحريم القليل والكثير من خمر العنب التي لم تمسها نار ولا خالطها شيء، وأكثر الأمة على أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، ولأبي حنيفة وبعض فقهاء الكوفة إباحة ما لا يسكر مما يسكر كثيره من غير خمر العنب، وهو مذهب مردود، وقد خرج قوم تحريم الخمر من وصفها برجس، وقد وصف تعالى في آية أخرى الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير بأنها رجس، فيجيء من ذلك أن كل رجس حرام.
قال القاضي أبو محمد: كل مكروه ذميم، وقد يقال للعذاب، وقال ابن عباس في هذه الآية رِجْسٌ سخط، وقد يقال للنتن وللعذرة والأقذار رجس، والرجز العذاب لا غير، والركس العذرة لا غير، والرجس يقال للأمرين، وأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور واقترنت بصيغة الأمر في قوله فَاجْتَنِبُوهُ نصوص الأحاديث وإجماع الأمة، فحصل الاجتناب في رتبة التحريم، فبهذا حرمت الخمر بظاهر القرآن ونص الحديث وإجماع الأمة، وقد تقدم تفسير لفظة الْخَمْرُ ومعناها. وتفسير الْمَيْسِرُ في سورة البقرة، وتقدم تفسير الْأَنْصابُ والاستقسام بالأزلام في صدر هذه السورة، واختلف الناس في سبب نزول هذه الآيات، فقال أبو ميسرة: نزلت بسبب عمر بن الخطاب فإنه ذكر للنبي ﷺ عيوب الخمر وما ينزل بالناس من أجلها ودعا إلى الله في تحريمها، وقال: اللهم بين لنا فيها بيانا شافيا، فنزلت هذه الآيات، فقال عمر انتهينا، انتهينا وقال مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه سعد قال: صنع رجل من الأنصار طعاما فدعانا فشربنا الخمر حتى انتشينا فتفاخرت الأنصار وقريش فقال كل فريق: نحن خير منكم، فأخذ رجل من الأنصار لحي جمل فضرب به أنف سعد ففزره، فكان سعد أفزر الأنف، قال سعد ففيّ نزلت الآية إلى آخرها، وقال ابن عباس: نزل تحريم الخمر في قبيلتين من الأنصار شربوا حتى إذا ثملوا عربدوا فلما صحوا جعل كل واحد منهم يرى الأثر بوجهه ولحيته وجسده، فيقول هذا فعل فلان بي، فحدث بينهم في ذلك ضغائن، فنزلت هذه الآيات في ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وأمر الخمر إنما كان بتدريج ونوازل كثيرة، منها قصة حمزة حين جبّ الأسنمة، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: وهل أنتم إلا عبيد لأبي، ومنها قراءة علي بن أبي طالب في صلاة المغرب «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون» فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [النساء: ٤٣] الآية، ثم لم تزل النوازل تحزب الناس بسببها حتى نزلت هذه الآية، فحرمت بالمدينة وخمر العنب فيها قليل، إنما كانت خمرهم من خمسة أشياء من العسل ومن التمر ومن الزبيب ومن الحنطة ومن الشعير، والأمة مجمعة على تحريم القليل والكثير من خمر العنب التي لم تمسها نار ولا خالطها شيء، وأكثر الأمة على أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، ولأبي حنيفة وبعض فقهاء الكوفة إباحة ما لا يسكر مما يسكر كثيره من غير خمر العنب، وهو مذهب مردود، وقد خرج قوم تحريم الخمر من وصفها برجس، وقد وصف تعالى في آية أخرى الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير بأنها رجس، فيجيء من ذلك أن كل رجس حرام.
233
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا نظر، والاجتناب أن يجعل الشيء جانبا أو ناحية.
ثم أعلم تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن تقع العداوة بسبب الخمر، وما كان يغري عليها بين المؤمنين وبسبب الميسر إذ كانوا يتقامرون على الأموال والأهل، حتى ربما بقي المقمور حزينا فقيرا فتحدث من ذلك ضغائن وعداوة، فإن لم يصل الأمر إلى حد العداوة كانت بغضاء، ولا تحسن عاقبة قوم متباغضين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا»، وباجتماع النفوس والكلمة يحمى الدين ويجاهد العدو، والْبَغْضاءَ تنقض عرى الدين وتهدم عماد الحماية، وكذلك أيضا يريد الشيطان أن يصد المؤمنين عن ذكر الله وعن الصلاة ويشغلهم عنها بشهوات، فالخمر والميسر والقمار كله من أعظم آلاته في ذلك، وفي قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وعيد في ضمن التوقيف زائد على معنى انتهوا.
ولما كان في الكلام معنى انتهوا حسن أن يعطف عليه وَأَطِيعُوا وكرر أَطِيعُوا في ذكر الرسول تأكيدا، ثم حذر تعالى من مخالفة الأمر وتوعد من تولى بعذاب الآخرة أي إنما على الرسول أن يبلغ وعلى المرسل أن يعاقب أو يثيب بحسب ما يعصى أو يطاع.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٣ الى ٩٤]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤)
سبب هذه الآية فيما قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك: أنه لما نزل تحريم الخمر، قال قوم من الصحابة: يا رسول الله، كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر ونحو هذا من القول؟ فنزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نظير سؤالهم عمن مات على القبلة الأولى، ونزلت وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: ١٤٣] ولما كان أمر القبلة خطيرا ومعلما من معالم الدين تخيل قوم نقص من فاته، وكذلك لما حصلت الخمر والميسر في هذا الحد العظيم من الذم، أشفق قوم وتخيلوا نقص من مات على هذه المذمات، فأعلم تعالى عباده أن الذم والجناح إنما يلحق من جهة المعاصي، وأولئك الذين ماتوا قبل التحريم لم يعصوا في ارتكاب محرم بعد بل كانت هذه الأشياء مكروهة لم ينص عليها بتحريم، والشرع هو الذي قبحها وحسن تجنبها، و «الجناح» الإثم والحرج، وهو كله الحكم الذي يتصف به فاعل المعصية والنسبة التي تترتب للعاصي وطَعِمُوا معناه ذاقوا فصاعدا في رتب الأكل والشرب، وقد يستعار للنوم وغيره وحقيقته في حاسة الذوق، والتكرار في قوله اتَّقَوْا يقتضي في كل واحدة زيادة على التي قبلها وفي ذلك مبالغة في هذه الصفات لهم، وذهب بعض المفسرين إلى أن يعين المراد بهذا التكرار فقال
ثم أعلم تعالى عباده أن الشيطان إنما يريد أن تقع العداوة بسبب الخمر، وما كان يغري عليها بين المؤمنين وبسبب الميسر إذ كانوا يتقامرون على الأموال والأهل، حتى ربما بقي المقمور حزينا فقيرا فتحدث من ذلك ضغائن وعداوة، فإن لم يصل الأمر إلى حد العداوة كانت بغضاء، ولا تحسن عاقبة قوم متباغضين، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا»، وباجتماع النفوس والكلمة يحمى الدين ويجاهد العدو، والْبَغْضاءَ تنقض عرى الدين وتهدم عماد الحماية، وكذلك أيضا يريد الشيطان أن يصد المؤمنين عن ذكر الله وعن الصلاة ويشغلهم عنها بشهوات، فالخمر والميسر والقمار كله من أعظم آلاته في ذلك، وفي قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وعيد في ضمن التوقيف زائد على معنى انتهوا.
ولما كان في الكلام معنى انتهوا حسن أن يعطف عليه وَأَطِيعُوا وكرر أَطِيعُوا في ذكر الرسول تأكيدا، ثم حذر تعالى من مخالفة الأمر وتوعد من تولى بعذاب الآخرة أي إنما على الرسول أن يبلغ وعلى المرسل أن يعاقب أو يثيب بحسب ما يعصى أو يطاع.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٣ الى ٩٤]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤)
سبب هذه الآية فيما قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس بن مالك: أنه لما نزل تحريم الخمر، قال قوم من الصحابة: يا رسول الله، كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر ونحو هذا من القول؟ فنزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: وهذا نظير سؤالهم عمن مات على القبلة الأولى، ونزلت وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: ١٤٣] ولما كان أمر القبلة خطيرا ومعلما من معالم الدين تخيل قوم نقص من فاته، وكذلك لما حصلت الخمر والميسر في هذا الحد العظيم من الذم، أشفق قوم وتخيلوا نقص من مات على هذه المذمات، فأعلم تعالى عباده أن الذم والجناح إنما يلحق من جهة المعاصي، وأولئك الذين ماتوا قبل التحريم لم يعصوا في ارتكاب محرم بعد بل كانت هذه الأشياء مكروهة لم ينص عليها بتحريم، والشرع هو الذي قبحها وحسن تجنبها، و «الجناح» الإثم والحرج، وهو كله الحكم الذي يتصف به فاعل المعصية والنسبة التي تترتب للعاصي وطَعِمُوا معناه ذاقوا فصاعدا في رتب الأكل والشرب، وقد يستعار للنوم وغيره وحقيقته في حاسة الذوق، والتكرار في قوله اتَّقَوْا يقتضي في كل واحدة زيادة على التي قبلها وفي ذلك مبالغة في هذه الصفات لهم، وذهب بعض المفسرين إلى أن يعين المراد بهذا التكرار فقال
234
قوم: الرتبة الأولى هي اتقاء الشرك والكبائر والإيمان على كماله وعمل الصالحات، والرتبة الثانية هي الثبوت والدوام على الحالة المذكورة، والرتبة الثالثة هي الانتهاء في التقوى إلى امتثال ما ليس بفرض من النوافل في الصلاة والصدقة وغير ذلك، وهو الإحسان، وقال قوم الرتبة الأولى لماضي الزمن، والثانية للحال، والثالثة للاستقبال، وقال قوم: الاتقاء الأول هو في الشرك والتزام الشرع، والثاني في الكبائر، والثالث في الصغائر.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وليست هذه الآية وقفا على من عمل الصالحات كلها، واتقى كل التقوى. بل هو لكل مؤمن وإن كان عاصيا أحيانا إذا كان قد عمل من هذه الخصال الممدوحة ما استحق به أن يوصف بأنه مؤمن عامل للصالحات متق في غالب أمره محسن، فليس على هذا الصنف جناح فيما طعم مما لم يحرم عليه، وقد تأول هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي من الصحابة رضي الله عنه، وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبد الله، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وعمرّ، وكان ختن عمر بن الخطاب خال عبد الله وحفصة، ولاه عمر بن الخطاب على البحرين ثم عزله لأن الجارود سيد عبد القيس قدم على عمر بن الخطاب فشهد عليه بشرب الخمر، فقال له عمر: ومن يشهد معك؟ فقال:
أبو هريرة، فجاء أبو هريرة فقال له عمر بم تشهد؟ قال لم أره يشرب ولكن رأيته سكران يقيء، فقال له عمر: لقد تنطعت في الشهادة، ثم كتب عمر إلى قدامة أن يقدم عليه، فقدم، فقال الجارود لعمر: أقم على هذا كتاب الله، فقال له عمر: أخصم أنت أم شهيد، قال: بل شهيد: قال: قد أديت شهادتك، فصمت الجارود ثم غدا على عمر، فقال أقم على قدامة كتاب الله، فقال له عمر: ما أراك إلا خصما وما شهد معك إلا رجل واحد، قال الجارود: إني أنشدك الله، قال عمر: لتمسكن لسانك أو لأسوأنك، فقال الجارود: ما هذا والله يا عمر بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوءني، فقال أبو هريرة: إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فسلها، وهي امرأة قدامة، فبعث عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها الله، فأقامت الشهادة على زوجها، فقال عمر لقدامة إني حادك، فقال: لو شربت كما يقولون لم يكن لك أن تحدني، قال عمر لم؟ قال: لأن الله تعالى يقول لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ الآية، فقال له عمر: أخطأت التأويل، إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك، ثم حده عمر وكان مريضا فقال له قوم من الصحابة لا نرى أن تجلده ما دام مريضا، فأصبح يوما وقد عزم على جلده، فقال لأصحابه: ما ترون في جلد قدامة؟ قالوا: لا نرى ذلك ما دام وجعا، فقال له عمر لأن يلقى الله وهو تحت السياط أحب إليّ من أن ألقاه وهو في عنقي، وأمر بقدامة فجلد، فغاضب قدامة عمر وهجره إلى أن حج عمر وحج معه قدامة مغاضبا له، فلما كان عمر بالسقيا نام ثم استيقظ فقال: عجلوا عليّ بقدامة، فقد أتاني آت في النوم فقال:
سالم قدامة فإنه أخوك، فبعث في قدامة فأبى أن يأتي فقال عمر جروه إن أبى فلما جاء كلمه عمر واستغفر له فاصطلحا، قال أيوب بن أبي تميمة لم يحد أحد من أهل بدر في الخمر غيره.
وقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ أي ليختبركم ليرى طاعتكم من معصيتكم وصبركم من عجزكم عن الصيد، وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة، وشائعا عند الجميع منهم مستعما جدا، فابتلاهم الله فيه مع الإحرام أو الحرم كما ابتلى بني إسرائيل في أن لا يعتدوا في
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وليست هذه الآية وقفا على من عمل الصالحات كلها، واتقى كل التقوى. بل هو لكل مؤمن وإن كان عاصيا أحيانا إذا كان قد عمل من هذه الخصال الممدوحة ما استحق به أن يوصف بأنه مؤمن عامل للصالحات متق في غالب أمره محسن، فليس على هذا الصنف جناح فيما طعم مما لم يحرم عليه، وقد تأول هذه الآية قدامة بن مظعون الجمحي من الصحابة رضي الله عنه، وهو ممن هاجر إلى أرض الحبشة مع أخويه عثمان وعبد الله، ثم هاجر إلى المدينة وشهد بدرا وعمرّ، وكان ختن عمر بن الخطاب خال عبد الله وحفصة، ولاه عمر بن الخطاب على البحرين ثم عزله لأن الجارود سيد عبد القيس قدم على عمر بن الخطاب فشهد عليه بشرب الخمر، فقال له عمر: ومن يشهد معك؟ فقال:
أبو هريرة، فجاء أبو هريرة فقال له عمر بم تشهد؟ قال لم أره يشرب ولكن رأيته سكران يقيء، فقال له عمر: لقد تنطعت في الشهادة، ثم كتب عمر إلى قدامة أن يقدم عليه، فقدم، فقال الجارود لعمر: أقم على هذا كتاب الله، فقال له عمر: أخصم أنت أم شهيد، قال: بل شهيد: قال: قد أديت شهادتك، فصمت الجارود ثم غدا على عمر، فقال أقم على قدامة كتاب الله، فقال له عمر: ما أراك إلا خصما وما شهد معك إلا رجل واحد، قال الجارود: إني أنشدك الله، قال عمر: لتمسكن لسانك أو لأسوأنك، فقال الجارود: ما هذا والله يا عمر بالحق أن يشرب ابن عمك الخمر وتسوءني، فقال أبو هريرة: إن كنت تشك في شهادتنا فأرسل إلى ابنة الوليد فسلها، وهي امرأة قدامة، فبعث عمر إلى هند بنت الوليد ينشدها الله، فأقامت الشهادة على زوجها، فقال عمر لقدامة إني حادك، فقال: لو شربت كما يقولون لم يكن لك أن تحدني، قال عمر لم؟ قال: لأن الله تعالى يقول لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ الآية، فقال له عمر: أخطأت التأويل، إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك، ثم حده عمر وكان مريضا فقال له قوم من الصحابة لا نرى أن تجلده ما دام مريضا، فأصبح يوما وقد عزم على جلده، فقال لأصحابه: ما ترون في جلد قدامة؟ قالوا: لا نرى ذلك ما دام وجعا، فقال له عمر لأن يلقى الله وهو تحت السياط أحب إليّ من أن ألقاه وهو في عنقي، وأمر بقدامة فجلد، فغاضب قدامة عمر وهجره إلى أن حج عمر وحج معه قدامة مغاضبا له، فلما كان عمر بالسقيا نام ثم استيقظ فقال: عجلوا عليّ بقدامة، فقد أتاني آت في النوم فقال:
سالم قدامة فإنه أخوك، فبعث في قدامة فأبى أن يأتي فقال عمر جروه إن أبى فلما جاء كلمه عمر واستغفر له فاصطلحا، قال أيوب بن أبي تميمة لم يحد أحد من أهل بدر في الخمر غيره.
وقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ أي ليختبركم ليرى طاعتكم من معصيتكم وصبركم من عجزكم عن الصيد، وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة، وشائعا عند الجميع منهم مستعما جدا، فابتلاهم الله فيه مع الإحرام أو الحرم كما ابتلى بني إسرائيل في أن لا يعتدوا في
235
السبت، ومِنَ تحتمل أن تكون للتبعيض، فالمعنى من صيد البر دون البحر، ذهب إليه الطبري وغيره، ويحتمل أن يكون التبعيض في حالة الحرمة إذ قد يزول الإحرام ويفارق الحرم، فصيد بعض هذه الأحوال بعض الصيد على العموم، ويجوز أن تكون لبيان الجنس، قال الزجّاج وهذا كما تقول لأمتحننك بشيء من الورق، وكما قال تعالى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: ٣٠] وقوله بِشَيْءٍ يقتضي تبعيضا ما وقد قال كثير من الفقهاء إن الباء في قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [المائدة: ٦] أعطت تبعيضا ما، وقرأ ابن وثاب والنخعي «يناله» بالياء منقوطة من تحت، وقال مجاهد الأيدي تنال الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر، والرماح تنال كبار الصيد.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن الله تعالى خص الأيدي بالذكر لأنها عظم المتصرف في الاصطياد، وهي آلة الآلات وفيها تدخل الجوارح والحبالات، وما عمل باليد من فخاخ وشباك، وخص الرماح بالذكر لأنها عظم ما يجرح به الصيد وفيها يدخل السهم ونحوه، واحتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية، لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئا، وقوله تعالى لِيَعْلَمَ معناه ليستمر علمه عليه وهو موجود إذ علم تعالى ذلك في الأزل. وقرأ الزهري «ليعلم الله» بضم الياء وكسر اللام أي ليعلم عباده، وبِالْغَيْبِ قال الطبري معناه في الدنيا حيث لا يرى العبد ربه فهو غائب عنه، والظاهر أن المعنى بالغيب من الناس أي في الخلوة فمن خاف الله انتهى عن الصيد من ذات نفسه، وقد خفي له لو صاد، ثم توعد تعالى من اعتدى بعد هذا النهي الذي يأتي وهو الذي أراد بقوله لَيَبْلُوَنَّكُمُ وأشار إليه قوله ذلِكَ والعذاب الأليم هو عذاب الآخرة.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥)
الخطاب لجميع المؤمنين، وهذا النهي هو الابتلاء الذي أعلم به قوله قبل لَيَبْلُوَنَّكُمُ [المائدة: ٩٤] والصَّيْدَ مصدر عومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصيد، ولفظ الصيد هنا عام ومعناه الخصوص فيما عدا الحيوان الذي أباح رسول الله ﷺ قتله في الحرم، ثبت عنه ﷺ أنه قال: «خمس فواسق يقتلن في الحرم الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور» ووقف مع ظاهر هذا الحديث سفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه فلم يبيحوا للمحرم قتل شيء سوى ما ذكر، وقاس مالك رحمه الله على الكلب العقور كل ما كلب على الناس وعقرهم ورآه داخلا في اللفظ فقال للمحرم أن يقتل الأسد والنمر والفهد والذئب وكل السباع العادية مبتدئا بها، فأما الهر والثعلب والضبع فلا يقتلها المحرم وإن قتلها فدى، وقال أصحاب الرأي إن بدأ السبع المحرم فله أن يقتله، وإن ابتدأه المحرم فعليه قيمته، وقال مجاهد والنخعي لا يقتل المحرم من السباع إلا ما عدا
قال القاضي أبو محمد: والظاهر أن الله تعالى خص الأيدي بالذكر لأنها عظم المتصرف في الاصطياد، وهي آلة الآلات وفيها تدخل الجوارح والحبالات، وما عمل باليد من فخاخ وشباك، وخص الرماح بالذكر لأنها عظم ما يجرح به الصيد وفيها يدخل السهم ونحوه، واحتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية، لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئا، وقوله تعالى لِيَعْلَمَ معناه ليستمر علمه عليه وهو موجود إذ علم تعالى ذلك في الأزل. وقرأ الزهري «ليعلم الله» بضم الياء وكسر اللام أي ليعلم عباده، وبِالْغَيْبِ قال الطبري معناه في الدنيا حيث لا يرى العبد ربه فهو غائب عنه، والظاهر أن المعنى بالغيب من الناس أي في الخلوة فمن خاف الله انتهى عن الصيد من ذات نفسه، وقد خفي له لو صاد، ثم توعد تعالى من اعتدى بعد هذا النهي الذي يأتي وهو الذي أراد بقوله لَيَبْلُوَنَّكُمُ وأشار إليه قوله ذلِكَ والعذاب الأليم هو عذاب الآخرة.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : آية ٩٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٩٥)
الخطاب لجميع المؤمنين، وهذا النهي هو الابتلاء الذي أعلم به قوله قبل لَيَبْلُوَنَّكُمُ [المائدة: ٩٤] والصَّيْدَ مصدر عومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصيد، ولفظ الصيد هنا عام ومعناه الخصوص فيما عدا الحيوان الذي أباح رسول الله ﷺ قتله في الحرم، ثبت عنه ﷺ أنه قال: «خمس فواسق يقتلن في الحرم الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور» ووقف مع ظاهر هذا الحديث سفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه فلم يبيحوا للمحرم قتل شيء سوى ما ذكر، وقاس مالك رحمه الله على الكلب العقور كل ما كلب على الناس وعقرهم ورآه داخلا في اللفظ فقال للمحرم أن يقتل الأسد والنمر والفهد والذئب وكل السباع العادية مبتدئا بها، فأما الهر والثعلب والضبع فلا يقتلها المحرم وإن قتلها فدى، وقال أصحاب الرأي إن بدأ السبع المحرم فله أن يقتله، وإن ابتدأه المحرم فعليه قيمته، وقال مجاهد والنخعي لا يقتل المحرم من السباع إلا ما عدا
236
عليه، وقال ابن عمر ما حل بك من السباع فحلّ به، وأما فراخ السبع الصغار قبل أن تفرس فقال مالك في المدونة لا ينبغي للمحرم قتلها، قال أشهب في كتاب محمد: فإن فعل فعليه الجزاء، وقال أيضا أشهب وابن القاسم لا جزاء عليه، وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر المحرمين بقتل الحيات، وأجمع الناس على إباحة قتلها، وثبت عن عمر رضي الله عنه إباحة قتل الزنبور لأنه في حكم العقرب، وقال مالك: يطعم قاتله شيئا، وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوه، وقال أصحاب الرأي لا شيء على قاتل هذه كلها، وأما سباع الطير فقال مالك لا يقتلها المحرم وإن فعل فدى، وقال ابن القاسم في كتاب محمد: وأحب إليّ أن لا يقتل الغراب والحدأة حتى يؤذياه، ولكن إن فعل فلا شيء عليه.
قال القاضي أبو محمد: وذوات السموم كلها في حكم الحية كالأفعى والرتيلاء وما عدا ما ذكرناه فهو مما نهى الله عن قتله في الحرمة بالبلد أو الحال، وفرض الجزاء على من قتله وحُرُمٌ جمع حرام وهو الذي يدخل في الحرام أو في الإحرام، وحرام، يقال للذكر والأنثى والاثنين والجميع، واختلف العلماء في معنى قوله مُتَعَمِّداً فقال مجاهد وابن جريج والحسن وابن زيد: معناه متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه، فهذا هو الذي يكفر وكذلك الخطأ المحض يكفر وأما إن قتله متعمدا ذاكرا لإحرامه فهذا أجلّ وأعظم من أن يكفر. قال مجاهد: قد حل ولا رخصة له، وقاله ابن جريج، وحكى المهدوي وغيره أنه بطل حجه، وقال ابن زيد: هذا يوكل إلى نقمة الله، وقال جماعة من أهل العلم منهم ابن عباس ومالك وعطاء وسعيد ابن جبير والزهري وطاوس وغيرهم، المتعمد هو القاصد للقتل الذاكر لإحرامه، وهو يكفر وكذلك الناسي والقاتل خطأ يكفران.
قال الزهري: نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في قتله خطأ أنهما يكفران، وقال بعض الناس لا يلزم القاتل خطأ كفارة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «فجزاء مثل ما» بإضافة الجزاء إلى مثل وخفض مثل، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «فجزاء» بالرفع «مثل» بالرفع أيضا فأما القراءة الأولى ومعناها فعليه جزاء مثل ما قتل أي قضاؤه وغرمه، ودخلت لفظة «مثل» هنا كما تقول أنا أكرم مثلك وأنت تقصد بقولك أنا أكرمك، ونظير هذا قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الأنعام: ١٢٢] التقدير كمن هو في الظلمات.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل قوله تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ أن يكون المعنى فعليه أن يجزي مثل ما، ثم وقعت الإضافة إلى المثل الذي يجزي به اتساعا، وأما القراءة الثانية فمعناها فالواجب عليه أو فاللازم له جزاء مثل ما و «مثل» على هذه القراءة صفة لجزاء، أي فجزاء مماثل، وقوله تعالى: مِنَ النَّعَمِ صفة لجزاء على القراءتين كلتيهما، وقرأ عبد الله بن مسعود «فجزاؤه مثل ما» بإظهار هاء يحتمل أن تعود على الصيد أو على الصائد القاتل، وقرأ أبو عبد الرحمن «فجزاء» بالرفع والتنوين «مثل ما» بالنصب، وقال أبو الفتح «مثل» منصوبة بنفس الجزاء أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل، واختلف العلماء في هذه المماثلة كيف تكون؟! فذهب الجمهور إلى أن الحكمين ينظران إلى مثل الحيوان المقتول في الخلقة وعظم المرأى فيجعلون ذلك من النعم جزاءه، قال الضحاك بن مزاحم والسدي وجماعة من الفقهاء: في النعامة
قال القاضي أبو محمد: وذوات السموم كلها في حكم الحية كالأفعى والرتيلاء وما عدا ما ذكرناه فهو مما نهى الله عن قتله في الحرمة بالبلد أو الحال، وفرض الجزاء على من قتله وحُرُمٌ جمع حرام وهو الذي يدخل في الحرام أو في الإحرام، وحرام، يقال للذكر والأنثى والاثنين والجميع، واختلف العلماء في معنى قوله مُتَعَمِّداً فقال مجاهد وابن جريج والحسن وابن زيد: معناه متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه، فهذا هو الذي يكفر وكذلك الخطأ المحض يكفر وأما إن قتله متعمدا ذاكرا لإحرامه فهذا أجلّ وأعظم من أن يكفر. قال مجاهد: قد حل ولا رخصة له، وقاله ابن جريج، وحكى المهدوي وغيره أنه بطل حجه، وقال ابن زيد: هذا يوكل إلى نقمة الله، وقال جماعة من أهل العلم منهم ابن عباس ومالك وعطاء وسعيد ابن جبير والزهري وطاوس وغيرهم، المتعمد هو القاصد للقتل الذاكر لإحرامه، وهو يكفر وكذلك الناسي والقاتل خطأ يكفران.
قال الزهري: نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في قتله خطأ أنهما يكفران، وقال بعض الناس لا يلزم القاتل خطأ كفارة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «فجزاء مثل ما» بإضافة الجزاء إلى مثل وخفض مثل، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «فجزاء» بالرفع «مثل» بالرفع أيضا فأما القراءة الأولى ومعناها فعليه جزاء مثل ما قتل أي قضاؤه وغرمه، ودخلت لفظة «مثل» هنا كما تقول أنا أكرم مثلك وأنت تقصد بقولك أنا أكرمك، ونظير هذا قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الأنعام: ١٢٢] التقدير كمن هو في الظلمات.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل قوله تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ أن يكون المعنى فعليه أن يجزي مثل ما، ثم وقعت الإضافة إلى المثل الذي يجزي به اتساعا، وأما القراءة الثانية فمعناها فالواجب عليه أو فاللازم له جزاء مثل ما و «مثل» على هذه القراءة صفة لجزاء، أي فجزاء مماثل، وقوله تعالى: مِنَ النَّعَمِ صفة لجزاء على القراءتين كلتيهما، وقرأ عبد الله بن مسعود «فجزاؤه مثل ما» بإظهار هاء يحتمل أن تعود على الصيد أو على الصائد القاتل، وقرأ أبو عبد الرحمن «فجزاء» بالرفع والتنوين «مثل ما» بالنصب، وقال أبو الفتح «مثل» منصوبة بنفس الجزاء أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل، واختلف العلماء في هذه المماثلة كيف تكون؟! فذهب الجمهور إلى أن الحكمين ينظران إلى مثل الحيوان المقتول في الخلقة وعظم المرأى فيجعلون ذلك من النعم جزاءه، قال الضحاك بن مزاحم والسدي وجماعة من الفقهاء: في النعامة
237
وحمار الوحش ونحوه بدنة، وفي الوعل والإبل ونحوه بقرة، وفي الظبي ونحوه كبش، وفي الأرنب ونحوه ثنية من الغنم، وفي اليربوع حمل صغير، وما كان من جرادة ونحوها ففيها قبضة طعام، وما كان من طير فيقوم ثمنها طعاما فإن شاء تصدق به وإن شاء صام لكل صاع يوما، وإن أصاب بيض نعام فإنه يحمل الفحل على عدد ما أصاب من بكارة الإبل فما نتج منها أهداه إلى البيت وما فسد منها فلا شيء عليه فيه.
قال القاضي أبو محمد: حكم عمر على قبيصة بن جابر في الظبي بشاة، وحكم هو وعبد الرحمن بن عوف، قال قبيصة: فقلت يا أمير المؤمنين إن أمره أهون من أن تدعو من يحكم معك، قال: فضربني بالدرة حتى سابقته عدوا. ثم قال: أقتلت الصيد وأنت محرم ثم تغمض الفتوى؟ وهذه القصة في الموطأ بغير هذه الألفاظ. وكذلك روي أنها نزلت بصاحب لقبيصة، وقبيصة هو راويها والله أعلم. وأما الأرنب واليربوع ونحوها فالحكم فيه عند مالك أن يقوم طعاما، فإن شاء تصدق به وإن شاء صام بدل كلّ مدّ يوما، وكذلك عنده الصيام في كفارة الجزاء إنما هو كله يوم بدل مد، وعند قوم صاع، وعند قوم بدل مدين، وفي حمام الحرم عند مالك شاة في الحمامة، وفي الحمام غيره حكومة وليس كحمام الحرم، وأما بيض النعام وسائر الطير ففي البيضة عند مالك عشر ثمن أمه، قال ابن القاسم: وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ صارخا بعد الكسر فإن استهل ففيه الجزاء كاملا كجزاء كبير ذلك الطير. قال ابن المواز: بحكومة عدلين، وقال ابن وهب: إن كان في بيضة النعامة فما دونها فرخ فعشر ثمن أمه، وإن لم يكن فصيام يوم أو مد لكل مسكين، وذهبت فرقة من أهل العلم منهم النخعي وغيره إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة، يقوّم الصيد المقتول ثم يشترى بقيمته من النعم ثم يهدى، ورد الطبري وغيره على هذا القول، والنَّعَمِ لفظ يقع على الإبل والبقر والغنم إذا اجتمع هذه الأصناف، فإذا انفرد كل صنف لم يقل «نعم» إلا للإبل وحدها، وقرأ الحسن «من النعم» بسكون العين وهي لغة، والجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه بحكم لفظ الآية، وذلك في المدونة ظاهر من مسألة الذي اصطاد طائرا فنتف ريشه ثم حبسه حتى نسل ريشه فطار، قال لا جزاء عليه، وقصر القرآن هذه النازلة على حكمين عدلين عالمين بحكم النازلة وبالتقدير فيها، وحكم عمر وعبد الرحمن بن عوف وأمر أبا جرير البجلي أن يأتي رجلين من العدول ليحكما عليه في عنز من الظباء أصابها قال:
فأتيت عبد الرحمن وسعدا فحكما عليّ تيسا أعفر، ودعا ابن عمر ابن صفوان ليحكم معه في جزاء، وعلى هذا جمهور الناس وفقهاء الأمصار، وقال ابن وهب رحمه الله في العتبية: من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد كما خيره الله في أن يخرج هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما. فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك شاة لأنها أدنى الهدي. فما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام، ثم خير في أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يوما.
وكذلك قال مالك في المدونة: إذا أراد المصيب أن يطعم أو يصوم وإن كان لما أصاب نظير من النعم فإنه يقوم صيده طعاما لا دراهم، قال: وإن قوموه دراهم واشتري بها طعام لرجوت أن يكون واسعا، والأول أصوب، فإن شاء أطعمه وإلا صام مكانه لكل مد يوما، وإن زاد ذلك على شهرين أو ثلاثة، وقال يحيى بن عمر من أصحابنا إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد ثم يقال كم من الطعام يشبع هذا
قال القاضي أبو محمد: حكم عمر على قبيصة بن جابر في الظبي بشاة، وحكم هو وعبد الرحمن بن عوف، قال قبيصة: فقلت يا أمير المؤمنين إن أمره أهون من أن تدعو من يحكم معك، قال: فضربني بالدرة حتى سابقته عدوا. ثم قال: أقتلت الصيد وأنت محرم ثم تغمض الفتوى؟ وهذه القصة في الموطأ بغير هذه الألفاظ. وكذلك روي أنها نزلت بصاحب لقبيصة، وقبيصة هو راويها والله أعلم. وأما الأرنب واليربوع ونحوها فالحكم فيه عند مالك أن يقوم طعاما، فإن شاء تصدق به وإن شاء صام بدل كلّ مدّ يوما، وكذلك عنده الصيام في كفارة الجزاء إنما هو كله يوم بدل مد، وعند قوم صاع، وعند قوم بدل مدين، وفي حمام الحرم عند مالك شاة في الحمامة، وفي الحمام غيره حكومة وليس كحمام الحرم، وأما بيض النعام وسائر الطير ففي البيضة عند مالك عشر ثمن أمه، قال ابن القاسم: وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ صارخا بعد الكسر فإن استهل ففيه الجزاء كاملا كجزاء كبير ذلك الطير. قال ابن المواز: بحكومة عدلين، وقال ابن وهب: إن كان في بيضة النعامة فما دونها فرخ فعشر ثمن أمه، وإن لم يكن فصيام يوم أو مد لكل مسكين، وذهبت فرقة من أهل العلم منهم النخعي وغيره إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة، يقوّم الصيد المقتول ثم يشترى بقيمته من النعم ثم يهدى، ورد الطبري وغيره على هذا القول، والنَّعَمِ لفظ يقع على الإبل والبقر والغنم إذا اجتمع هذه الأصناف، فإذا انفرد كل صنف لم يقل «نعم» إلا للإبل وحدها، وقرأ الحسن «من النعم» بسكون العين وهي لغة، والجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه بحكم لفظ الآية، وذلك في المدونة ظاهر من مسألة الذي اصطاد طائرا فنتف ريشه ثم حبسه حتى نسل ريشه فطار، قال لا جزاء عليه، وقصر القرآن هذه النازلة على حكمين عدلين عالمين بحكم النازلة وبالتقدير فيها، وحكم عمر وعبد الرحمن بن عوف وأمر أبا جرير البجلي أن يأتي رجلين من العدول ليحكما عليه في عنز من الظباء أصابها قال:
فأتيت عبد الرحمن وسعدا فحكما عليّ تيسا أعفر، ودعا ابن عمر ابن صفوان ليحكم معه في جزاء، وعلى هذا جمهور الناس وفقهاء الأمصار، وقال ابن وهب رحمه الله في العتبية: من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد كما خيره الله في أن يخرج هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما. فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك شاة لأنها أدنى الهدي. فما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام، ثم خير في أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يوما.
وكذلك قال مالك في المدونة: إذا أراد المصيب أن يطعم أو يصوم وإن كان لما أصاب نظير من النعم فإنه يقوم صيده طعاما لا دراهم، قال: وإن قوموه دراهم واشتري بها طعام لرجوت أن يكون واسعا، والأول أصوب، فإن شاء أطعمه وإلا صام مكانه لكل مد يوما، وإن زاد ذلك على شهرين أو ثلاثة، وقال يحيى بن عمر من أصحابنا إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد ثم يقال كم من الطعام يشبع هذا
238
العدد، فإن شاء أخرج ذلك الطعام، وإن شاء صام عدد أمداده.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول حسن أحتاط فيه لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة فبهذا النظر يكثر الطعام، ومن أهل العلم من يرى أن لا يتجاوز في صيام الجزاء شهران، قالوا: لأنها أعلى الكفارات بالصيام، وقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ يقتضي هذا اللفظ أن يشخص بهذا الهدي حتى يبلغ، وذكرت الْكَعْبَةِ لأنها أم الحرم ورأس الحرمة، والحرم كله منحر لهذا الهدي فما وقف به بعرفة من هذا الجزاء فينحر بمنى، وما لم يوقف به فينحر بمكة وفي سائر بقاع الحرم، بشرط أن يدخل من الحل لا بد أن يجمع فيه بين حل وحرم حتى يكون بالغا الكعبة، وقرأ عبد الرحمن الأعرج «هديّا بالغ الكعبة» بكسر الدال وتشديد الياء، وهَدْياً نصب على الحال من الضمير في بِهِ، وقيل على المصدر، وبالِغَ نكرة في الحقيقة لم تزل الإضافة عنه الشياع، فتقديره بالغا الكعبة حذف تنويه تخفيفا، وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي «أو كفارة» منونا «طعام مساكين» برفع طعام وإضافته إلى جمع المساكين، وقرأ نافع وابن عامر برفع الكفارة دون تنوين وخفض الطعام على الإضافة ومساكين بالجمع، قال أبو علي: إعراب طعام في قراءة من رفعه أنه عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة، ولم يضف الكفارة لأنها ليست للطعام إنما هي لقتل الصيد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الكلام كله مبني على أن الكفارة هي الطعام وفي هذا نظر، لأن الكفارة هي تغطية الذنب بإعطاء الطعام، فالكفارة غير الطعام لكنها به، فيتجه في رفع الطعام البدل المحض، ويتجه قراءة من أضاف الكفارة إلى الطعام على أنها إضافة تخصيص، إذ كفارة هذا القتل قد تكون كفارة هدي أو كفارة طعام أو كفارة صيام، وقرأ الأعرج وعيسى بن عمر «أو كفارة» بالرفع والتنوين «طعام» بالرفع دون تنوين «مسكين» على الإفراد وهو اسم الجنس، وقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء: القاتل مخير في الرتب الثلاثة وإن كان غنيا، وهذا عندهم مقتضى أَوْ، وقال ابن عباس وجماعة لا ينتقل المكفر من الهدي إلى الطعام إلا إذا لم يجد هديا، وكذلك لا يصوم إلا إذا لم يجد ما يطعم، وقاله إبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان، قالوا: والمعنى أو كفارة طعام إن لم يجد الهدي. ومالك رحمه الله وجماعة معه يرى أن المقوم إنما هو الصيد المقتول بالطعام كما تقدم، وقال العراقيون إنما يقوم الجزاء طعاما، فمن قتل ظبيا قوم الظبي عند مالك وقوم عدله من الكباش أو غير ذلك عند أبي حنيفة وغيره، وحكى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم، فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدق به، وإن لم يجد قوم الجزاء دراهم ثم قومت الدراهم حنطة ثم صام مكان كل نصف صاع يوما قال: وإنما أريد بذكر الطعام تبيين أمر الصوم، ومن يجد طعاما فإنما يجد جزاء، وأسنده أيضا عن السدي.
قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا القول بظاهر لفظ الآية فإنه ينافره، والهدي لا يكون إلا في الحرم كما ذكرنا قبل.
واختلف الناس في الطعام فقال جماعة من العلماء: الإطعام والصيام حيث شاء المكفر من البلاد،
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول حسن أحتاط فيه لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة فبهذا النظر يكثر الطعام، ومن أهل العلم من يرى أن لا يتجاوز في صيام الجزاء شهران، قالوا: لأنها أعلى الكفارات بالصيام، وقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ يقتضي هذا اللفظ أن يشخص بهذا الهدي حتى يبلغ، وذكرت الْكَعْبَةِ لأنها أم الحرم ورأس الحرمة، والحرم كله منحر لهذا الهدي فما وقف به بعرفة من هذا الجزاء فينحر بمنى، وما لم يوقف به فينحر بمكة وفي سائر بقاع الحرم، بشرط أن يدخل من الحل لا بد أن يجمع فيه بين حل وحرم حتى يكون بالغا الكعبة، وقرأ عبد الرحمن الأعرج «هديّا بالغ الكعبة» بكسر الدال وتشديد الياء، وهَدْياً نصب على الحال من الضمير في بِهِ، وقيل على المصدر، وبالِغَ نكرة في الحقيقة لم تزل الإضافة عنه الشياع، فتقديره بالغا الكعبة حذف تنويه تخفيفا، وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي «أو كفارة» منونا «طعام مساكين» برفع طعام وإضافته إلى جمع المساكين، وقرأ نافع وابن عامر برفع الكفارة دون تنوين وخفض الطعام على الإضافة ومساكين بالجمع، قال أبو علي: إعراب طعام في قراءة من رفعه أنه عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة، ولم يضف الكفارة لأنها ليست للطعام إنما هي لقتل الصيد.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الكلام كله مبني على أن الكفارة هي الطعام وفي هذا نظر، لأن الكفارة هي تغطية الذنب بإعطاء الطعام، فالكفارة غير الطعام لكنها به، فيتجه في رفع الطعام البدل المحض، ويتجه قراءة من أضاف الكفارة إلى الطعام على أنها إضافة تخصيص، إذ كفارة هذا القتل قد تكون كفارة هدي أو كفارة طعام أو كفارة صيام، وقرأ الأعرج وعيسى بن عمر «أو كفارة» بالرفع والتنوين «طعام» بالرفع دون تنوين «مسكين» على الإفراد وهو اسم الجنس، وقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء: القاتل مخير في الرتب الثلاثة وإن كان غنيا، وهذا عندهم مقتضى أَوْ، وقال ابن عباس وجماعة لا ينتقل المكفر من الهدي إلى الطعام إلا إذا لم يجد هديا، وكذلك لا يصوم إلا إذا لم يجد ما يطعم، وقاله إبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان، قالوا: والمعنى أو كفارة طعام إن لم يجد الهدي. ومالك رحمه الله وجماعة معه يرى أن المقوم إنما هو الصيد المقتول بالطعام كما تقدم، وقال العراقيون إنما يقوم الجزاء طعاما، فمن قتل ظبيا قوم الظبي عند مالك وقوم عدله من الكباش أو غير ذلك عند أبي حنيفة وغيره، وحكى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم، فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدق به، وإن لم يجد قوم الجزاء دراهم ثم قومت الدراهم حنطة ثم صام مكان كل نصف صاع يوما قال: وإنما أريد بذكر الطعام تبيين أمر الصوم، ومن يجد طعاما فإنما يجد جزاء، وأسنده أيضا عن السدي.
قال القاضي أبو محمد: ويعترض هذا القول بظاهر لفظ الآية فإنه ينافره، والهدي لا يكون إلا في الحرم كما ذكرنا قبل.
واختلف الناس في الطعام فقال جماعة من العلماء: الإطعام والصيام حيث شاء المكفر من البلاد،
239
وقال عطاء بن أبي رباح وغيره «الهدي والإطعام بمكة والصوم حيث شئت» وقوله تعالى: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً قرأ الجمهور بفتح العين ومعناه: نظير الشيء بالموازنة والمقدار المعنوي، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري: «أو عدل» بكسر العين، قال أبو عمرو الداني ورواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعض الناس «العدل» بالفتح قدر الشيء من غير جنسه، وعدله بالكسر قدره من جنسه، نسبها مكي إلى الكسائي وهو وهم والصحيح عن الكسائي: أنهما لغتان في المثل، وهذه المنسوبة عبارة معترضة وإنما مقصد قائلها أن «العدل» بالكسر قدر الشيء موازنة على الحقيقة كعدلي البعير، وعدله قدره من شيء آخر موازنة معنوية، كما يقال في ثمن فرس هذا عدله من الذهب، ولا يتجه هنا كسر العين فيما حفظت، والإشارة بذلك في قوله عَدْلُ ذلِكَ يحتمل أن تكون إلى الطعام، وعلى هذا انبنى قول من قال من الفقهاء الأيام التي تصام هي على عدد الأمداد أو الأصوع أو أنصافها حسب الخلاف الذي قد ذكرته في ذلك. ويحتم أن تكون الإشارة ب ذلِكَ إلى الصيد المقتول، وعلى هذا انبنى قول من قال من العلماء:
الصوم في قتل الصيد إنما هو على قدر المقتول، وقال ابن عباس رضي الله عنه إن قتل المحرم ظبيا فعليه شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، وإن قتل أيلا فعليه بقرة، فإن لم يجد فإطعام عشرين مسكينا، فإن لم يجد صام عشرين يوما، وإن قتل نعامة أو حمار وحش فعليه بدنة، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا، فإن لم يجد صام ثلاثين يوما.
قال القاضي أبو محمد: وقد تقدم لابن عباس رضي الله عنه قول غير هذا آنفا حكاهما عنه الطبري مسندين، ولا ينكر أن يكون له في هيئة التكفير قولان، وقال سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً قال يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة.
وقوله تعالى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ الذوق هنا مستعار كما قال تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: ٤٩] وكما قال فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ [النحل: ١١٢] وكما قال أبو سفيان: ذق عقق وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة السان، وهي في هذا كله مستعارة فيما بوشر بالنفس، والوبال سوء العاقبة، والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله، وعبر بأمره عن جميع حاله من قتل وتكفير وحكم عليه ومضي ماله أو تعبه بالصيام، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ فقال عطاء بن أبي رباح وجماعة معه: معناه عفا الله عما سلف في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرمة ومن عاد الآن في الإسلام فإن كان مستحيلا فينتقم الله منه في الآخرة ويكفر في ظاهر الحكم، وإن كان عاصيا فالنقمة هي في إلزام الكفارة فقط، قالوا وكلما عاد المحرم فهو مكفر.
قال القاضي أبو محمد: ويخاف المتورعون أن تبقى النقمة مع التكفير، وهذا هو قول الفقهاء مالك ونظائره وأصحابه رحمهم الله، وقال ابن عباس رضي الله عنه: المحرم إذا قتل مرارا ناسيا لإحرامه فإنه يكفر في كل مرة، فأما المتعمد العالم بإحرامه فإنه يكفر أول مرة، وعفا الله عن ذنبه مع التكفير، فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه، ويقال له: ينتقم الله منك، كما قال الله، وقال بهذا القول شريح القاضي وإبراهيم النخعي ومجاهد، وقال سعيد بن جبير: رخص في قتل الصيد مرة فمن عاد لم يدعه الله حتى ينتقم منه.
الصوم في قتل الصيد إنما هو على قدر المقتول، وقال ابن عباس رضي الله عنه إن قتل المحرم ظبيا فعليه شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، وإن قتل أيلا فعليه بقرة، فإن لم يجد فإطعام عشرين مسكينا، فإن لم يجد صام عشرين يوما، وإن قتل نعامة أو حمار وحش فعليه بدنة، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينا، فإن لم يجد صام ثلاثين يوما.
قال القاضي أبو محمد: وقد تقدم لابن عباس رضي الله عنه قول غير هذا آنفا حكاهما عنه الطبري مسندين، ولا ينكر أن يكون له في هيئة التكفير قولان، وقال سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً قال يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة.
وقوله تعالى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ الذوق هنا مستعار كما قال تعالى: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: ٤٩] وكما قال فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ [النحل: ١١٢] وكما قال أبو سفيان: ذق عقق وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة السان، وهي في هذا كله مستعارة فيما بوشر بالنفس، والوبال سوء العاقبة، والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله، وعبر بأمره عن جميع حاله من قتل وتكفير وحكم عليه ومضي ماله أو تعبه بالصيام، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ فقال عطاء بن أبي رباح وجماعة معه: معناه عفا الله عما سلف في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرمة ومن عاد الآن في الإسلام فإن كان مستحيلا فينتقم الله منه في الآخرة ويكفر في ظاهر الحكم، وإن كان عاصيا فالنقمة هي في إلزام الكفارة فقط، قالوا وكلما عاد المحرم فهو مكفر.
قال القاضي أبو محمد: ويخاف المتورعون أن تبقى النقمة مع التكفير، وهذا هو قول الفقهاء مالك ونظائره وأصحابه رحمهم الله، وقال ابن عباس رضي الله عنه: المحرم إذا قتل مرارا ناسيا لإحرامه فإنه يكفر في كل مرة، فأما المتعمد العالم بإحرامه فإنه يكفر أول مرة، وعفا الله عن ذنبه مع التكفير، فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه، ويقال له: ينتقم الله منك، كما قال الله، وقال بهذا القول شريح القاضي وإبراهيم النخعي ومجاهد، وقال سعيد بن جبير: رخص في قتل الصيد مرة فمن عاد لم يدعه الله حتى ينتقم منه.
240
قال القاضي أبو محمد: وهذا القول منه رضي الله عنه وعظ بالآية، وهو مع ذلك يرى أن يحكم عليه في العودة ويكفر لكنه خشي مع ذلك بقاء النقمة، وقال ابن زيد: معنى الآية عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم، قال وأما من عاد فقتل الصيد وهو عالم بالحرمة متعمد للقتل فهذا لا يحكم عليه، وهو موكول إلى نقمة الله، ومعنى قوله مُتَعَمِّداً في صدر الآية أي متعمدا للقتل ناسيا للحرمة.
قال القاضي أبو محمد: وقد تقدم ذكر هذا الفصل، قال الطبري: وقال قوم: هذه الآية مخصوصة في شخص بعينه وأسند إلى زيد بن المعلى أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم فتجوز له عنه ثم عاد فأرسل الله عليه نارا فأحرقته، فذلك قوله تعالى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ تنبيه على صفتين تقتضي خوف من له بصيرة، ومن خاف ازدجر، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٦ الى ٩٨]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨)
هذا حكم بتحليل صيد البحر وهو كل ما صيد من حيتانه، وهذا التحليل هو للمحرم وللحلال، والصيد هنا أيضا يراد به الصيد، وأضيف إلى البحر لما كان منه بسبب، والْبَحْرِ الماء الكثير ملحا كان أو عذبا، وكل نهر كبير بحر، واختلف الناس في معنى قوله وَطَعامُهُ قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وجماعة كثيرة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم هو ما قذف به وما طفا عليه لأن ذلك طعام لا صيد، وسأل رجل ابن عمر عن حيتان طرحها البحر فنهاه عنها ثم قرأ المصحف فقال لنافع الحقه فمره بأكلها فإنها طعام البحر، وهذا التأويل ينظر إلى قول النبي ﷺ «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وجماعة: «طعامه» كل ما ملح منه وبقي، وتلك صنائع تدخله فترده طعاما، وإنما الصيد الغريض، وقال قوم طَعامُهُ ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات ونحوه. وكره قوم خنزير الماء، وقال مالك رحمه الله: أنتم تقولون خنزير، ومذهبه إباحته، وقول أبي بكر وعمر هو أرجح الأقوال، وهو مذهب مالك، وقرأ ابن عباس وعبد الله بن الحارث و «طعمه» بضم الطاء وسكون العين دون ألف ومَتاعاً نصب على المصدر والمعنى متعكم به متاعا تنتفعون به وتأتدمون، ولَكُمْ يريد حاضري البحر ومدنه، وَلِلسَّيَّارَةِ المسافرين، وقال مجاهد أهل القرى هم المخاطبون، والسيارة أهل الأمصار.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: كأنه يريد أهل قرى البحر وأن السيارة من أهل الأمصار غير تلك القرى يجلبونه إلى الأمصار.
قال القاضي أبو محمد: وقد تقدم ذكر هذا الفصل، قال الطبري: وقال قوم: هذه الآية مخصوصة في شخص بعينه وأسند إلى زيد بن المعلى أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم فتجوز له عنه ثم عاد فأرسل الله عليه نارا فأحرقته، فذلك قوله تعالى: وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ تنبيه على صفتين تقتضي خوف من له بصيرة، ومن خاف ازدجر، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٦ الى ٩٨]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨)
هذا حكم بتحليل صيد البحر وهو كل ما صيد من حيتانه، وهذا التحليل هو للمحرم وللحلال، والصيد هنا أيضا يراد به الصيد، وأضيف إلى البحر لما كان منه بسبب، والْبَحْرِ الماء الكثير ملحا كان أو عذبا، وكل نهر كبير بحر، واختلف الناس في معنى قوله وَطَعامُهُ قال أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وجماعة كثيرة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم هو ما قذف به وما طفا عليه لأن ذلك طعام لا صيد، وسأل رجل ابن عمر عن حيتان طرحها البحر فنهاه عنها ثم قرأ المصحف فقال لنافع الحقه فمره بأكلها فإنها طعام البحر، وهذا التأويل ينظر إلى قول النبي ﷺ «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وجماعة: «طعامه» كل ما ملح منه وبقي، وتلك صنائع تدخله فترده طعاما، وإنما الصيد الغريض، وقال قوم طَعامُهُ ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات ونحوه. وكره قوم خنزير الماء، وقال مالك رحمه الله: أنتم تقولون خنزير، ومذهبه إباحته، وقول أبي بكر وعمر هو أرجح الأقوال، وهو مذهب مالك، وقرأ ابن عباس وعبد الله بن الحارث و «طعمه» بضم الطاء وسكون العين دون ألف ومَتاعاً نصب على المصدر والمعنى متعكم به متاعا تنتفعون به وتأتدمون، ولَكُمْ يريد حاضري البحر ومدنه، وَلِلسَّيَّارَةِ المسافرين، وقال مجاهد أهل القرى هم المخاطبون، والسيارة أهل الأمصار.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: كأنه يريد أهل قرى البحر وأن السيارة من أهل الأمصار غير تلك القرى يجلبونه إلى الأمصار.
241
واختلف العلماء في مقتضى قوله وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً فتلقاه بعضهم على العموم من جميع جهاته، فقالوا إن المحرم لا يحل له أن يصيد ولا أن يأمر بصيد ولا أن يأكل صيدا صيد من أجله ولا من غير أجله، ولحم الصيد بأي وجه كان حرام على المحرم، وروي أن عثمان حج وحج معه علي بن أبي طالب فأتي عثمان بلحم صيد صاده حلال فأكل منه ولم يأكل علي، فقال عثمان: والله ما صدنا ولا أمرنا ولا أشرنا، فقال علي: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً، وروي أن عثمان استعمل على العروض أبا سفيان بن الحارث فصاد يعاقيب فجعلها في حظيرة فمر به عثمان بن عفان فطبخهن وقدمهن إليه، وجاء علي بن أبي طالب فنهاهم عن الأكل، وذكر نحو ما تقدم قال: ثم لما كانوا بمكة أتي عثمان فقيل له هل لك في علي؟ أهدي له تصفيف حمار فهو يأكل منه، فأرسل إليه عثمان فسأله عن أكله التصفيف وقال له: أما أنت فتأكل وأما نحن فتنهانا فقال له علي: إنه صيد عام أول، وأنا حلال، فليس علي بأكله بأس، وصيد ذلك، يعني اليعاقيب وأنا محرم وذبحن وأنا حرام، وروي مثل قول علي عن ابن عباس وابن عمر وطاوس وسعيد بن جبير، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يرى بأسا للمحرم أن يأكل لحم الصيد الذي صاده الحلال لحلال مثله ولنفسه، وسئل أبو هريرة عن هذه النازلة فأفتى بالإباحة، ثم أخبر عمر بن الخطاب فقال له لو أفتيت بغير هذا لأوجعت رأسك بهذه الدرة، وسأل أبو الشعثاء ابن عمر عن هذه المسألة فقال له، كان عمر يأكله، قال: قلت فأنت؟ قال كان عمر خيرا مني، روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ما صيد أو ذبح وأنت حلال فهو لك حلال، وما صيد أو ذبح وأنت حرام فهو عليك حرام.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مثل قول علي بن أبي طالب، وروى عطاء عن كعب قال أقبلت في ناس محرمين فوجدنا لحم حمار وحشي فسألوني عن أكله فأفتيتهم بأكله، فقدمنا على عمر فأخبروه بذلك، فقال، قد أمرته عليكم حتى ترجعوا، وقال بمثل قول عمر بن الخطاب عثمان بن عفان رضي الله عنهما والزبير بن العوام وهو الصحيح لأن النبي ﷺ أكل من الحمار الذي صاده أبو قتادة وهو حلال والنبي محرم، قال الطبري وقال آخرون:
إنما حرم على المحرم أن يصيد، فأما أن يشتري الصيد من مالك له فيذبحه فيأكله فذلك غير محرم ثم ذكر أن أبا سلمة بن عبد الرحمن، اشترى قطا وهو بالعرج فأكله فعاب ذلك عليه الناس، ومالك رحمه الله يجيز للمحرم أن يأكل ما صاده الحلال وذبحه إذا كان لم يصده من أجل المحرم، فإن صيد من أجله فلا يأكله، وكذلك قال الشافعي، ثم اختلفا إن أكل، فقال مالك: عليه الجزاء وقال الشافعي لا جزاء عليه، وقرأ ابن عباس و «حرّم» بفتح الحاء والراء مشددة «صيد» بنصب الدال «ما دمتم حرما» بفتح الحاء، المعنى وحرم الله عليكم، وحُرُماً يقع للجميع والواحد كرضى وما أشبهه، والمعنى ما دمتم محرمين، فهي بالمعنى كقراءة الجماعة بضم الحاء والراء، ولا يختلف في أن ما لا زوال له من الماء أنه صيد بحر، وفيما لا زوال له من البر أنه صيد بر، واختلف فيما يكون في أحدهما وقد يعيش ويحيا في الآخر فقال مالك رحمه الله وأبو مجلز وعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم كل ما يعيش في البر وله فيه حياة فهو من صيد البر إن قتله المحرم وداه: وذكر أبو مجلز في ذلك الضفادع والسلاحف والسرطان.
قال القاضي أبو محمد: وهذا مثل قول علي بن أبي طالب، وروى عطاء عن كعب قال أقبلت في ناس محرمين فوجدنا لحم حمار وحشي فسألوني عن أكله فأفتيتهم بأكله، فقدمنا على عمر فأخبروه بذلك، فقال، قد أمرته عليكم حتى ترجعوا، وقال بمثل قول عمر بن الخطاب عثمان بن عفان رضي الله عنهما والزبير بن العوام وهو الصحيح لأن النبي ﷺ أكل من الحمار الذي صاده أبو قتادة وهو حلال والنبي محرم، قال الطبري وقال آخرون:
إنما حرم على المحرم أن يصيد، فأما أن يشتري الصيد من مالك له فيذبحه فيأكله فذلك غير محرم ثم ذكر أن أبا سلمة بن عبد الرحمن، اشترى قطا وهو بالعرج فأكله فعاب ذلك عليه الناس، ومالك رحمه الله يجيز للمحرم أن يأكل ما صاده الحلال وذبحه إذا كان لم يصده من أجل المحرم، فإن صيد من أجله فلا يأكله، وكذلك قال الشافعي، ثم اختلفا إن أكل، فقال مالك: عليه الجزاء وقال الشافعي لا جزاء عليه، وقرأ ابن عباس و «حرّم» بفتح الحاء والراء مشددة «صيد» بنصب الدال «ما دمتم حرما» بفتح الحاء، المعنى وحرم الله عليكم، وحُرُماً يقع للجميع والواحد كرضى وما أشبهه، والمعنى ما دمتم محرمين، فهي بالمعنى كقراءة الجماعة بضم الحاء والراء، ولا يختلف في أن ما لا زوال له من الماء أنه صيد بحر، وفيما لا زوال له من البر أنه صيد بر، واختلف فيما يكون في أحدهما وقد يعيش ويحيا في الآخر فقال مالك رحمه الله وأبو مجلز وعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم كل ما يعيش في البر وله فيه حياة فهو من صيد البر إن قتله المحرم وداه: وذكر أبو مجلز في ذلك الضفادع والسلاحف والسرطان.
242
قال القاضي أبو محمد: ومن هذه أنواع لا زوال لها من الماء فهي لا محالة من صيد البحر، وعلى هذا خرج جواب مالك في الضفادع في المدونة، فإنه قال الضفادع من صيد البحر، وروي عن عطاء بن أبي رباح خلاف ما ذكرناه، وهو أنه راعى أكثر عيش الحيوان، سئل عن ابن الماء أصيد بر أم صيد بحر؟
فقال: حيث يكون أكثر فهو منه، وحيث يفرخ فهو منه.
قال القاضي أبو محمد: والصواب في ابن ماء أنه صيد بر طائر يرعى ويأكل الحب، وقوله تعالى:
وَاتَّقُوا اللَّهَ تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم.
ثم ذكر تعالى بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير، ولما بان في هذه الآيات تعظيم الحرم والحرمة بالإحرام من أجل الكعبة وأنها بيت الله وعنصر هذه الفضائل، ذكر تعالى في قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الآية ما سنه في الناس وهداهم إليه وحمل عليه الجاهلية الجهلاء من التزامهم أن الكعبة قوام و «الهدي» قوام و «القلائد» قوام أي أمر يقوم للناس بالتأمين وحل الحرب كما يفعل الملوك الذين هم قوام العالم، فلما كانت تلك الأمة لا ملك لها جعل الله هذه الأشياء كالملك لها، وأعلم تعالى أن التزام الناس لذلك هو مما شرعه وارتضاه، ويدل على مقدار هذه الأمور في نفوسهم أن النبي عليه السلام لما بعثت إليه قريش زمن الحديبية الحليس، فرآه النبي، قال: هذا رجل يعظم الحرمة فالقوه بالبدن مشعرة، فلما رآها الحليس عظم ذلك عليه، وقال: ما ينبغي أن يصد هؤلاء ورجع عن رسالتهم، وجعل في هذه الآية بمعنى صير، والكعبة بيت مكة، وسمي كعبة لتربيعه، قال أهل اللغة كل بيت مربع فهو مكعب وكعبة، ومنه قول الأسود بن يعفر:
قالوا كانت فيه بيوت مربعة وفي كتاب سير ابن إسحاق أنه كان في خثعم بيت يسمونه كعبة اليمانية، وقال قوم: سميت كعبة لنتوئها ونشوزها على الأرض، ومنه كعب ثدي الجارية، ومنه كعب القدم ومنه كعوب القناة، وقِياماً معناه أمر يقوم للناس بالأمنة والمنافع كما الملك قوام الرعية وقيامهم، يقال ذلك بالياء كالصيام ونحوه وذلك لخفة الياء فتستعمل أشياء من ذوات الواو بها، وقد يستعمل القوام على الأصل، قال الراجز:
قوام دنيا وقوام دين
وذهب بعض المتأولين إلى أن معنى قوله تعالى قِياماً لِلنَّاسِ أي موضع وجوب قيام بالمناسك والتعبدات وضبط النفوس في الشهر الحرام، ومع الهدي والقلائد، وقرأ ابن عامر وحده «قيما» دون ألف، وهذا إما على أنه مصدر كالشبع ونحوه، وأعلّ فلم يجر مجرى عوض وحول من حيث أعلّ فعله، وقد تعل الجموع لاعتلال الآحاد، فأحرى أن تعلّ المصادر لاعتلال أفعالها، ويحتمل «قيما» أن تحذف الألف وهي مرادة، وحكم هذا أن يجيء في شعر وغير سعة، وقرأ الجحدري «قيّما» بفتح القاف وشد الياء المكسورة وَالشَّهْرَ هنا اسم جنس والمراد الأشهر الثلاثة بإجماع من العرب، وشهر مضر وهو رجب الأصم، سمي بذلك لأنه كان لا يسمع فيه صوت الحديد، وسموه منصل الأسنة لأنهم كانوا ينزعون فيه أسنة الرماح، وهو شهر قريش، وله يقول عوف بن الأحوص:
فقال: حيث يكون أكثر فهو منه، وحيث يفرخ فهو منه.
قال القاضي أبو محمد: والصواب في ابن ماء أنه صيد بر طائر يرعى ويأكل الحب، وقوله تعالى:
وَاتَّقُوا اللَّهَ تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم.
ثم ذكر تعالى بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير، ولما بان في هذه الآيات تعظيم الحرم والحرمة بالإحرام من أجل الكعبة وأنها بيت الله وعنصر هذه الفضائل، ذكر تعالى في قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الآية ما سنه في الناس وهداهم إليه وحمل عليه الجاهلية الجهلاء من التزامهم أن الكعبة قوام و «الهدي» قوام و «القلائد» قوام أي أمر يقوم للناس بالتأمين وحل الحرب كما يفعل الملوك الذين هم قوام العالم، فلما كانت تلك الأمة لا ملك لها جعل الله هذه الأشياء كالملك لها، وأعلم تعالى أن التزام الناس لذلك هو مما شرعه وارتضاه، ويدل على مقدار هذه الأمور في نفوسهم أن النبي عليه السلام لما بعثت إليه قريش زمن الحديبية الحليس، فرآه النبي، قال: هذا رجل يعظم الحرمة فالقوه بالبدن مشعرة، فلما رآها الحليس عظم ذلك عليه، وقال: ما ينبغي أن يصد هؤلاء ورجع عن رسالتهم، وجعل في هذه الآية بمعنى صير، والكعبة بيت مكة، وسمي كعبة لتربيعه، قال أهل اللغة كل بيت مربع فهو مكعب وكعبة، ومنه قول الأسود بن يعفر:
أهل الخورنق والسدير وبارق | والبيت ذي الكعبات من سنداد |
قوام دنيا وقوام دين
وذهب بعض المتأولين إلى أن معنى قوله تعالى قِياماً لِلنَّاسِ أي موضع وجوب قيام بالمناسك والتعبدات وضبط النفوس في الشهر الحرام، ومع الهدي والقلائد، وقرأ ابن عامر وحده «قيما» دون ألف، وهذا إما على أنه مصدر كالشبع ونحوه، وأعلّ فلم يجر مجرى عوض وحول من حيث أعلّ فعله، وقد تعل الجموع لاعتلال الآحاد، فأحرى أن تعلّ المصادر لاعتلال أفعالها، ويحتمل «قيما» أن تحذف الألف وهي مرادة، وحكم هذا أن يجيء في شعر وغير سعة، وقرأ الجحدري «قيّما» بفتح القاف وشد الياء المكسورة وَالشَّهْرَ هنا اسم جنس والمراد الأشهر الثلاثة بإجماع من العرب، وشهر مضر وهو رجب الأصم، سمي بذلك لأنه كان لا يسمع فيه صوت الحديد، وسموه منصل الأسنة لأنهم كانوا ينزعون فيه أسنة الرماح، وهو شهر قريش، وله يقول عوف بن الأحوص:
243
وشهر بني أمية والهدايا | إذا سيقت مدرجها الدماء |
قال القاضي أبو محمد: ولا وجه لهذا التخصيص، وقال سعيد بن جبير جعل الله هذه الأمور للناس وهم لا يرجون جنة ولا يخافون نارا، ثم شدد ذلك بالإسلام، وقوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى أن جعل هذه الأمور قياما، والمعنى فعل ذلك لتعلموا أن الله تعالى يعلم تفاصيل أمور السماوات والأرض ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم، وقوله تعالى: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ عام عموما تاما في الجزئيات ودقائق الموجودات، كما قال عز وجل وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها [الأنعام: ٥٩]، والقول بغير هذا إلحاد في الدين وكفر، ثم خوف تعالى عباده ورجاهم بقوله اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ الآية، وهكذا هو الأمر في نفسه حري أن يكون العبد خائفا عاملا بحسب الخوف متقيا متأنسا بحسب الرجاء.
قوله عز وجل:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ٩٩ الى ١٠٢]
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢)
قوله تعالى: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ إخبار للمؤمنين فلا يتصور أن يقال هي آية موادعة منسوخة بآيات القتال، بل هذه حال من آمن وشهد شهادة الحق. فإنه إذ قد عصم من الرسول ماله ودمه، فليس على الرسول في جهته أكثر من التبليغ والله تعالى بعد ذلك يعلم ما ينطوي عليه صدره، وهو المجازي بحسب ذلك ثوابا أو عقابا، والْبَلاغُ مصدر من بلغ يبلغ، والآية معناها الوعيد للمؤمنين إن انحرفوا ولم يمتثلوا ما بلغ إليهم وقوله قُلْ لا يَسْتَوِي الآية لفظ عام في جميع الأمور يتصور في المكاسب وعدد الناس والمعارف من العلوم ونحوها، ف الْخَبِيثُ من هذا كله لا يفلح ولا ينجب ولا تحسن له عاقبة، وَالطَّيِّبُ ولو قل نافع جميل العاقبة وينظر إلى هذه الآية قوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: ٥٨] والخبث هو الفساد الباطن في الأشياء حتى يظن بها الصلاح والطيب وهي بخلاف ذلك، وهكذا هو الخبث في الإنسان، وقد يراد بلفظة خبيث في الإنسان
244
فساد نسبه، فهذا لفظ يلزم قائله على هذا القصد الحد، وقوله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ تنبيه على لزوم الطيب في المعتقد والعمل، وخص أُولِي الْأَلْبابِ بالذكر لأنهم المتقدمون في ميز هذه الأمور والذي لا ينبغي لهم إهمالها مع البهائم وإدراكهم وكأن الإشارة بهذه الْأَلْبابِ إلى لب التجربة الذي يزيد على لب التكليف بالحنكة والفطنة المستنبطة والنظر البعيد.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ الآية، اختلف الرواة في سببها فقالت فرقة منهم أنس بن مالك وغيره: نزلت بسبب سؤال عبد الله بن حذافة السهمي، وذلك أن رسول الله ﷺ صعد المنبر مغضبا، فقال: لا تسألوني اليوم عن شيء إلا أخبرتكم به، فقام رجل فقال أين أنا؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في النار فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه، فقال من أبي؟ فقال: أبوك حذافة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وفي الحديث مما لم يذكر الطبري فقام آخر فقال من أبي؟
فقال أبوك سالم مولى أبي شيبة، فقام عمر بن الخطاب فجثا على ركبتيه وقال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا ومحمد نبيا نعوذ بالله من الفتن، وبكى الناس من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت هذه الآية بسبب هذه الأسئلة.
قال القاضي أبو محمد: وصعود رسول الله ﷺ المنبر مغضبا إنما كان بسبب سؤالات الاعراب والجهال والمنافقين، فكان منهم من يقول أين ناقتي؟ وآخر يقول ما الذي ألقى في سفري هذا؟ ونحو هذا مما هو جهالة أو استخفاف وتعنيت، وقال علي بن أبي طالب وأبو هريرة وأبو أمامة الباهلي وابن عباس، في لفظهم اختلاف، والمعنى واحد. خطب رسول الله ﷺ الناس فقال: أيها الناس كتب عليكم الحج وقرأ عليهم وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: ٩٧] قال علي:
فقالوا يا رسول الله: أفي كل عام؟ فسكت، فأعادوا، قال: لا ولو قلت نعم، لوجبت، وقال أبو هريرة: فقال عكاشة بن محصن وقال مرة فقال محصن الأسدي، وقال غيره فقام رجل من بني أسد، وقال بعضهم فقام أعرابي فقال يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من السائل؟
فقيل فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لم تطيقوه، ولو تركتموه، لهلكتم» فنزلت هذه الآية بسبب ذلك، ويقوي هذا حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي عليه السلام قال:
«إن أعظم المسلمين على المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته» وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت الآية بسبب قوم سألوا عن البحيرة والسائبة والوصيلة ونحو هذا من أحكام الجاهلية، وقاله سعيد بن جبير.
قال القاضي أبو محمد: وروي أنه لما بين الله تعالى في هذه الآيات أمر الكعبة والهدي والقلائد، وأعلم أن حرمتها هو الذي جعلها إذ هي أمور نافعة قديمة من لدن عهد إبراهيم عليه السلام، ذهب ناس من العرب إلى السؤال عن سائر أحكام الجاهلية ليروا هل تلحق بتلك أم لا، إذ كانوا قد اعتقدوا الجميع سنة لا يفرقون بين ما هو من عند الله وما هو من تلقاء الشيطان والمغيرين لدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ الآية، اختلف الرواة في سببها فقالت فرقة منهم أنس بن مالك وغيره: نزلت بسبب سؤال عبد الله بن حذافة السهمي، وذلك أن رسول الله ﷺ صعد المنبر مغضبا، فقال: لا تسألوني اليوم عن شيء إلا أخبرتكم به، فقام رجل فقال أين أنا؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في النار فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه، فقال من أبي؟ فقال: أبوك حذافة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: وفي الحديث مما لم يذكر الطبري فقام آخر فقال من أبي؟
فقال أبوك سالم مولى أبي شيبة، فقام عمر بن الخطاب فجثا على ركبتيه وقال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا ومحمد نبيا نعوذ بالله من الفتن، وبكى الناس من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت هذه الآية بسبب هذه الأسئلة.
قال القاضي أبو محمد: وصعود رسول الله ﷺ المنبر مغضبا إنما كان بسبب سؤالات الاعراب والجهال والمنافقين، فكان منهم من يقول أين ناقتي؟ وآخر يقول ما الذي ألقى في سفري هذا؟ ونحو هذا مما هو جهالة أو استخفاف وتعنيت، وقال علي بن أبي طالب وأبو هريرة وأبو أمامة الباهلي وابن عباس، في لفظهم اختلاف، والمعنى واحد. خطب رسول الله ﷺ الناس فقال: أيها الناس كتب عليكم الحج وقرأ عليهم وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: ٩٧] قال علي:
فقالوا يا رسول الله: أفي كل عام؟ فسكت، فأعادوا، قال: لا ولو قلت نعم، لوجبت، وقال أبو هريرة: فقال عكاشة بن محصن وقال مرة فقال محصن الأسدي، وقال غيره فقام رجل من بني أسد، وقال بعضهم فقام أعرابي فقال يا رسول الله، أفي كل عام؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: من السائل؟
فقيل فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، «لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت لم تطيقوه، ولو تركتموه، لهلكتم» فنزلت هذه الآية بسبب ذلك، ويقوي هذا حديث سعد بن أبي وقاص أن النبي عليه السلام قال:
«إن أعظم المسلمين على المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته» وروي عن ابن عباس أنه قال: نزلت الآية بسبب قوم سألوا عن البحيرة والسائبة والوصيلة ونحو هذا من أحكام الجاهلية، وقاله سعيد بن جبير.
قال القاضي أبو محمد: وروي أنه لما بين الله تعالى في هذه الآيات أمر الكعبة والهدي والقلائد، وأعلم أن حرمتها هو الذي جعلها إذ هي أمور نافعة قديمة من لدن عهد إبراهيم عليه السلام، ذهب ناس من العرب إلى السؤال عن سائر أحكام الجاهلية ليروا هل تلحق بتلك أم لا، إذ كانوا قد اعتقدوا الجميع سنة لا يفرقون بين ما هو من عند الله وما هو من تلقاء الشيطان والمغيرين لدين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام
245
كعمرو بن لحي وغيره، وفي عمرو بن لحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب.
قال القاضي أبو محمد: والظاهر من الروايات أن رسول الله ﷺ ألحت عليه الأعراب والجهال بأنواع من السؤالات حسبما ذكرناه، فزجر الله تعالى عن ذلك بهذه الآية وأَشْياءَ اسم جمع لشيء أصله عند الخليل وسيبويه شيئا مثل فعال قلبت إلى لفعاء لثقل اجتماع الهمزتين، وقال أبو حاتم أَشْياءَ وزنها أفعال وهو جمع شيء وترك الصرف فيه سماع، وقال الكسائي: لم ينصرف أَشْياءَ لشبه آخرها بآخر حمراء، ولكثرة استعمالها، والعرب تقول أشياوات كما تقول حمراوات، ويلزم على هذا أن لا ينصرف أسماء لأنهم يقولون أسماوات، وقال الأخفش: أَشْياءَ أصلها أشياء على وزن أفعلاء، استثقلت اجتماع الهمزتين فأبدلت الأولى ياء لانكسار ما قبلها ثم حذفت الياء استخفافا، ويلزم على هذا أن يكون واحد الأشياء شيئا مثل هين وأهوناء، وقرأ جمهور الناس «إن تبد» بضم التاء وفتح الدال وبناء الفعل للمفعول، وقرأ مجاهد «إن تبد» بفتح التاء وضم الدال على بناء الفعل للفاعل، وقرأ الشعبي «إن يبد لكم» بالياء من أسفل مفتوحة والدال مضمومة «يسؤكم» بالياء من أسفل، أي يبده الله لكم.
وقوله تعالى وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ قال ابن عباس: معناه لا تسألوا عن أشياء في ضمن الإخبار عنها مساءة لكم إما لتكليف شرعي يلزمكم وإما لخبر يسوء. كما قيل للذي قال أين أنا؟ ولكن إذا نزل القرآن بشيء وابتدأكم ربكم بأمر فحينئذ إن سألتم عن تفصيله وبيانه بين لكم وأبدى؟.
قال القاضي أبو محمد: فالضمير في قوله عَنْها عائد على نوعها لا على الأولى التي نهى عن السؤال عنها، وقال أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا من غير نسيان عن أشياء فلا تبحثوا عنها، وكان عبيد بن عمير يقول:
إن الله أحل وحرم فما أحل فاستحلوا وما حرم فاجتنبوا وترك بين ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها، فذلك عفو من الله عفاه، ثم يتلو هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل قوله تعالى: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ أن يكون في معنى الوعيد كأنه قال لا تسألوا وإن سألتم لقيتم عبء ذلك وصعوبته لأنكم تكلفون وتستعجلون علم ما يسوءكم كالذي قيل له إنه في النار، وقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْها تركها ولم يعرف بها، وهذه اللفظة التي هي عَفَا، تؤيد أن الأشياء التي هي في تكليفات الشرع، وينظر إلى ذلك قول النبي عليه السلام إن الله قد عفا لكم عن صدقة الخيل، وغَفُورٌ حَلِيمٌ صفتان تناسب العفو وترك المباحثة والسماحة في الأمور.
وقرأ عامة الناس «قد سألها» بفتح السين. وقرأ إبراهيم النخعي «قد سألها» بكسر السين، والمراد بهذه القراءة الإمالة، وذلك على لغة من قال سلت تسأل، وحكي عن العرب هما يتساولان، فهذا يعطي هذه اللغة هي من الواو لا من الهمزة فالإمالة إنما أريدت وساغ ذلك لانكسار ما قبل اللام في سلت كما جاءت الإمالة في خاف لمجيء الكسرة في خاء خفت، ومعنى الآية أن هذه السؤالات التي هي تعنيتات
قال القاضي أبو محمد: والظاهر من الروايات أن رسول الله ﷺ ألحت عليه الأعراب والجهال بأنواع من السؤالات حسبما ذكرناه، فزجر الله تعالى عن ذلك بهذه الآية وأَشْياءَ اسم جمع لشيء أصله عند الخليل وسيبويه شيئا مثل فعال قلبت إلى لفعاء لثقل اجتماع الهمزتين، وقال أبو حاتم أَشْياءَ وزنها أفعال وهو جمع شيء وترك الصرف فيه سماع، وقال الكسائي: لم ينصرف أَشْياءَ لشبه آخرها بآخر حمراء، ولكثرة استعمالها، والعرب تقول أشياوات كما تقول حمراوات، ويلزم على هذا أن لا ينصرف أسماء لأنهم يقولون أسماوات، وقال الأخفش: أَشْياءَ أصلها أشياء على وزن أفعلاء، استثقلت اجتماع الهمزتين فأبدلت الأولى ياء لانكسار ما قبلها ثم حذفت الياء استخفافا، ويلزم على هذا أن يكون واحد الأشياء شيئا مثل هين وأهوناء، وقرأ جمهور الناس «إن تبد» بضم التاء وفتح الدال وبناء الفعل للمفعول، وقرأ مجاهد «إن تبد» بفتح التاء وضم الدال على بناء الفعل للفاعل، وقرأ الشعبي «إن يبد لكم» بالياء من أسفل مفتوحة والدال مضمومة «يسؤكم» بالياء من أسفل، أي يبده الله لكم.
وقوله تعالى وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ قال ابن عباس: معناه لا تسألوا عن أشياء في ضمن الإخبار عنها مساءة لكم إما لتكليف شرعي يلزمكم وإما لخبر يسوء. كما قيل للذي قال أين أنا؟ ولكن إذا نزل القرآن بشيء وابتدأكم ربكم بأمر فحينئذ إن سألتم عن تفصيله وبيانه بين لكم وأبدى؟.
قال القاضي أبو محمد: فالضمير في قوله عَنْها عائد على نوعها لا على الأولى التي نهى عن السؤال عنها، وقال أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه: إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحد حدودا فلا تعتدوها وعفا من غير نسيان عن أشياء فلا تبحثوا عنها، وكان عبيد بن عمير يقول:
إن الله أحل وحرم فما أحل فاستحلوا وما حرم فاجتنبوا وترك بين ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها، فذلك عفو من الله عفاه، ثم يتلو هذه الآية.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل قوله تعالى: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ أن يكون في معنى الوعيد كأنه قال لا تسألوا وإن سألتم لقيتم عبء ذلك وصعوبته لأنكم تكلفون وتستعجلون علم ما يسوءكم كالذي قيل له إنه في النار، وقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْها تركها ولم يعرف بها، وهذه اللفظة التي هي عَفَا، تؤيد أن الأشياء التي هي في تكليفات الشرع، وينظر إلى ذلك قول النبي عليه السلام إن الله قد عفا لكم عن صدقة الخيل، وغَفُورٌ حَلِيمٌ صفتان تناسب العفو وترك المباحثة والسماحة في الأمور.
وقرأ عامة الناس «قد سألها» بفتح السين. وقرأ إبراهيم النخعي «قد سألها» بكسر السين، والمراد بهذه القراءة الإمالة، وذلك على لغة من قال سلت تسأل، وحكي عن العرب هما يتساولان، فهذا يعطي هذه اللغة هي من الواو لا من الهمزة فالإمالة إنما أريدت وساغ ذلك لانكسار ما قبل اللام في سلت كما جاءت الإمالة في خاف لمجيء الكسرة في خاء خفت، ومعنى الآية أن هذه السؤالات التي هي تعنيتات
246
وطلب شطط واقتراحات ومباحثات قد سألتها قبلكم الأمم ثم كفروا بها قال الطبري كقوم صالح في سؤالهم الناقة وكبني إسرائيل في سؤالهم المائدة. قال السدي: كسؤال قريش أن يجعل الله لهم الصفا ذهبا.
قال القاضي أبو محمد: وإنما يتجه في قريش مثالا سؤالهم آية، فلما شق لهم القمر كفروا، وهذا المعنى إنما يقال لمن سأل النبي عليه السلام أين ناقتي؟ وكما قال له الأعرابي ما في بطن ناقتي هذه؟ فأما من سأله عن الحج أفي كل عام هو؟ فلا يفسر قوله قد سألها قوم الآية بهذه الأمثلة بل بأن الأمم قديما طلبت التعمق في الدين من أنبيائها ثم لم تف بما كلفت.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٥]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
لما سأل قوم عن هذه الأحكام التي كانت في الجاهلية هل تلحق بحكم الله في تعظيم الكعبة والحرم. أخبر تعالى في هذه الآية أنه لم يجعل شيئا منها ولا سنه لعباده. المعنى ولكن الكفار فعلوا ذلك إذ أكابرهم ورؤساؤهم كعمرو بن لحي وغيره يفترون على الله الكذب ويقولون هذه قربة إلى الله وأمر يرضيه، وَأَكْثَرُهُمْ يعني الأتباع لا يَعْقِلُونَ بل يتبعون هذه الأمور تقليدا وضلالا بغير حجة وجَعَلَ في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق الله. لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها. ولا هي بمعنى صير لعدم المفعول الثاني، وإنما هي بمعنى ما سنّ ولا شرع فتعدت تعدي هذه التي بمعناه إلى مفعول واحد و «البحيرة» فعيلة بمعنى مفعولة. وبحر شق، كانوا إذا أنتجت الناقة عشرة بطون شقوا أذنها بنصفين طولا فهي مبحورة وتركت ترعى وترد الماء ولا ينتفع منها بشيء ويحرم لحمها إذا ماتت على النساء ويحل للرجال، وقال ابن عباس كانوا يفعلون ذلك بها إذا أنتجت خمسة بطون، وقال مسروق إذا ولدت خمسا أو سبعا شقوا أذنها.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر مما يروى في هذا أن العرب كانت تختلف في المبلغ الذي تبحر عنده آذان النوق، فلكل سنة، وهي كلها ضلال، قال ابن سيده ويقال «البحيرة» هي التي خليت بلا راع، ويقال للناقة الغزيرة بحيرة.
قال القاضي أبو محمد: أرى أن البحيرة تصلح وتسمن ويغزر لبنها فتشبه الغزيرات بالبحر، وعلى هذا يجيء قول ابن مقبل:
قال القاضي أبو محمد: وإنما يتجه في قريش مثالا سؤالهم آية، فلما شق لهم القمر كفروا، وهذا المعنى إنما يقال لمن سأل النبي عليه السلام أين ناقتي؟ وكما قال له الأعرابي ما في بطن ناقتي هذه؟ فأما من سأله عن الحج أفي كل عام هو؟ فلا يفسر قوله قد سألها قوم الآية بهذه الأمثلة بل بأن الأمم قديما طلبت التعمق في الدين من أنبيائها ثم لم تف بما كلفت.
قوله تعالى:
[سورة المائدة (٥) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٥]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥)
لما سأل قوم عن هذه الأحكام التي كانت في الجاهلية هل تلحق بحكم الله في تعظيم الكعبة والحرم. أخبر تعالى في هذه الآية أنه لم يجعل شيئا منها ولا سنه لعباده. المعنى ولكن الكفار فعلوا ذلك إذ أكابرهم ورؤساؤهم كعمرو بن لحي وغيره يفترون على الله الكذب ويقولون هذه قربة إلى الله وأمر يرضيه، وَأَكْثَرُهُمْ يعني الأتباع لا يَعْقِلُونَ بل يتبعون هذه الأمور تقليدا وضلالا بغير حجة وجَعَلَ في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق الله. لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها. ولا هي بمعنى صير لعدم المفعول الثاني، وإنما هي بمعنى ما سنّ ولا شرع فتعدت تعدي هذه التي بمعناه إلى مفعول واحد و «البحيرة» فعيلة بمعنى مفعولة. وبحر شق، كانوا إذا أنتجت الناقة عشرة بطون شقوا أذنها بنصفين طولا فهي مبحورة وتركت ترعى وترد الماء ولا ينتفع منها بشيء ويحرم لحمها إذا ماتت على النساء ويحل للرجال، وقال ابن عباس كانوا يفعلون ذلك بها إذا أنتجت خمسة بطون، وقال مسروق إذا ولدت خمسا أو سبعا شقوا أذنها.
قال القاضي أبو محمد: ويظهر مما يروى في هذا أن العرب كانت تختلف في المبلغ الذي تبحر عنده آذان النوق، فلكل سنة، وهي كلها ضلال، قال ابن سيده ويقال «البحيرة» هي التي خليت بلا راع، ويقال للناقة الغزيرة بحيرة.
قال القاضي أبو محمد: أرى أن البحيرة تصلح وتسمن ويغزر لبنها فتشبه الغزيرات بالبحر، وعلى هذا يجيء قول ابن مقبل: